تفسير سورة التغابن

تفسير مقاتل بن سليمان

تفسير سورة سورة التغابن من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة التغابن
مدنية، وفيها مكي، عددها ثماني عشرة آية كوفي

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ﴾ يعني يذكر الله ﴿ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ من الملائكة ﴿ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من شىء من الخلق غير كفار الجن والإنس ﴿ لَهُ ٱلْمُلْكُ ﴾ لا يملك أحد غيره ﴿ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ ﴾ في سلطانه عند خلقه ﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أراده ﴿ قَدِيرٌ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ من آدم وحواء وكان بدء خلقهما من تراب ﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ يعني مصدق بتوحيد الله تعالى.﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ﴾ يقول: لم يخلقهما باطلاً خلقهما لأمر هو كائن ﴿ وَصَوَّرَكُمْ ﴾ يعني خلقكم في الأرحام ﴿ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ ولم يخلقكم على صورة الدواب، والطير، فأحسن صوركم يعني فأحسن خلقكم ﴿ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٣] في الآخرة ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ ﴾ في قلوبكم من أعمالكم ﴿ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ منها بألسنتكم ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ٤] يعني القلوب من الخير والشر.
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ ﴾ يا أهل مكة ﴿ نَبَأُ ﴾ يعني حديث ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أهل مكة حديث الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم رسلهم ﴿ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾ يقول: ذاقوا العذاب جزاء ثواب أعمالهم في الدنيا ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ ﴾ يعني ذلك بأن العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ﴿ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ يعني البيان ﴿ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ ﴾ عن الإيمان ﴿ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ ﴾ عن عبادتهم ﴿ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ عن عبادة خلقه ﴿ حَمِيدٌ ﴾ [آية: ٦] في سلطانه عند خلقه.
﴿ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾ بعد الموت فأكذبهم الله تعالى، فقال: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لأهل مكة: ﴿ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ﴾ في الآخرة ﴿ بِمَا عَمِلْتُمْ ﴾ في الدنيا ﴿ وَذَلِكَ ﴾ يعني البعث والحساب ﴿ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ فَآمِنُواْ ﴾ يعني صدقوا ﴿ بِٱللَّهِ ﴾ أنه واحد لا شريك له ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَٱلنّورِ ﴾ يعني القرآن ﴿ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا ﴾ على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ من خير أو شر ﴿ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ٨].
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ﴾ يعني جمع أهل السموات وجمع أهل الأرض ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ ﴾ يعني أهل الهدى تغبن أهل الضلالة، فلا غبن أعظم منه فريق في الجنة، وفريق في السعير.
﴿ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ ﴾ أنه واحد لا شريك له ﴿ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ لا يموتون و ﴿ ذَلِكَ ﴾ الثواب الذي ذكر الله تعالى هو ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ٩].
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾ يعني القرآن ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ١٠].
﴿ مَآ أَصَابَ ﴾ ابن آدم ﴿ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ يعني ومن يصدق بالله في المصيبة، ويعلم أن المصيبة من الله ويسلم لأمر الله يهده الله تعالى للاسترجاع، فذلك قوله: ﴿ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ للاسترجاع، يقول:﴿ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾[البقرة: ١٥٦]، وفى سورة البقرة يقول:﴿ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ ﴾[البقرة: ١٥٧] للاسترجاع ﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من هذا ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١١].
﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ ﴾ يعني أعرضتم عن طاعتهما ﴿ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ [آية: ١٢] ﴿ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١٣] يقول: به فليثق الواثقون.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ نزلت في الأشجع ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ ﴾ يعني إذا أمروكم بالإثم، وذلك أن الرجل كان إذا أراد الهجرة، قال له أهله وولده: ننشدك الله أن لا تذهب وتدع أهلك وولدك، ومالك، نضيع بعدك، ونصير عيالاً بالمدينة، لا معاش لنا فيثبطونه، فمنهم من يقيم، ومنهم من يهاجر، ولا يطيع أهله، فيقول: تثبطونا عن الهجرة، لئن جمعنا الله وإياكم لنعاقبنكم، ولا نصلكم، ولا تصيبون منا خيراً. يقول الله: ﴿ فَٱحْذَرُوهُمْ ﴾ أن تطيعوهم في ترك الهجرة، ثم أمرهم بالعفو والصفح والتجاوز، فقال: ﴿ وَإِن تَعْفُواْ ﴾ عنهم يعني وإن تتركوهم، وتعرضوا، وتتجاوزا عنهم ﴿ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ ﴾ خير لكم ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لذنوب المؤمنين ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٤] بخلقه، ثم وعظهم.
فقال: ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ يعني بلاء وشغل عن الآخرة ﴿ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ ﴾ يعني جزاء ﴿ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١٥] يعني الجنة ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ في أمره ونهيه ﴿ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾ يعني ما أطعتم ﴿ وَٱسْمَعُواْ ﴾ له مواعظه ﴿ وَأَطِيعُواْ ﴾ أمره ﴿ وَأَنْفِقُواْ ﴾ من أموالكم في حق الله ﴿ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ ﴾.
ثم رغبهم في النفقة، فقال: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ١٦] أي يعطي حق الله من ماله.
ثم قال: ﴿ إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ ﴾ يعني التطوع ﴿ قَرْضاً حَسَناً ﴾ يعني طيبة بها أنفسكم تحتسبها ﴿ يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ﴾ يعني القرض ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ بالصدقة ﴿ وَٱللَّهُ شَكُورٌ ﴾ لصدقاتكم حين يضاعفها لكم ﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٧] عن عقوبة ذنوبكم حين غفرها لكم، وعن من يمن بصدقته، ولم يحتسبها.
﴿ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ﴾ يعني عالم كل غيب، يعني غيب ما في قلبه من المن، وقلة الخشية، وشاهد كل نجوى ﴿ ٱلْعَزِيزُ ﴾ يعني المنيع في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ١٨] في أمره.
سورة التغابن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التغابُنِ) من السُّوَر المدنية، وقد افتُتحت بتعظيم الله عزَّ وجلَّ، وجاءت مُحذِّرةً الناسَ من يوم القيامة وهولِه؛ للعودة إلى طريق النجاح؛ وهو صراط الله المستقيمُ الذي بيَّنه صلى الله عليه وسلم، و(التغابُنُ): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
64
نوعها
مدنية
ألفاظها
242
ترتيب نزولها
108
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14]:

سأل رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ، فقال رضي الله عنه: «هؤلاء رجالٌ أسلَموا مِن أهلِ مكَّةَ، وأرادوا أن يأتُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجُهم وأولادُهم أن يَدَعوهم أن يأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَوْا أصحابَهم قد فَقِهوا في الدِّينِ، هَمُّوا أن يُعاقِبوهم؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14] الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٣١٧).

* سورة (التغابُنِ):

سُمِّيت سورة (التغابن) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (التغابن) فيها؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اْلْجَمْعِۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ اْلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِاْللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحٗا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ اْلْفَوْزُ اْلْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

يقول القُرْطُبيُّ: «وسُمِّي يومُ القيامة يومَ التغابن؛ لأنه غبَنَ فيه أهلُ الجنَّةِ أهلَ النار؛ أي: إن أهلَ الجنَّة أخذوا الجنَّةَ، وأخذ أهلُ النارِ النارَ، على طريقِ المبادَلة؛ فوقَع الغَبْنُ لأجلِ مبادَلتِهم الخيرَ بالشرِّ، والجيِّدَ بالرديءِ، والنعيمَ بالعذاب.

يقال: غبَنْتُ فلانًا: إذا بايَعْتَه أو شارَيْتَه، فكان النقصُ عليه، والغلَبةُ لك، وكذا أهلُ الجنَّة وأهلُ النار». "تفسير القرطبي" (18 /136).

1. الإيمان بالله تعالى (١-٤).

2. المَغْبُونون (٥-٧).

3. التغابُنُ (٨-١٠).

4. على طريق النجاح (١١-١٣).

5. فتنة الأهل والمال (١٤-١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /191).

اشتملت سورةُ (التغابُنِ) على تنزيهِ الله عز وجل من النقائص، واتصافِه بالعدل والكمال المطلق، وأتت السورة بالمبالغة في تحذيرِ الناس من يوم القيامة الذي يَفصِل اللهُ فيه بين الخلائق؛ لإحقاق الحق؛ ففيه يُقتصُّ لكل مخلوق، وتُرَدُّ كلُّ الحقوق، و(التغابن): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /90)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /259).