تفسير سورة التغابن

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة التغابن من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة التغابن
هذه السورة مدنية في قول الأكثرين. وقال ابن عباس وغيره : مكية إلا آيات من آخرها :﴿ الْمُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوجِكُمْ ﴾ الخ، نزلت بالمدينة. وقال الكلبي : مدينة ومكية.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها : أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين، وفي آخرها خطاب المؤمنين، فأتبعه بما يناسبه من قوله :﴿ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾.

سورة التغابن
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
186
التَّغَابُنُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَبَنِ وَلَيْسَ مِنَ اثْنَيْنِ، بَلْ هُوَ مِنْ وَاحِدٍ، كَتَوَاضُعٍ وَتَحَامُلٍ.
وَالْغَبَنُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بِدُونِ قِيمَتِهِ، أَوْ بَيْعُهُ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: الْغَبَنُ: الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ غَبَنُ الْبَيْعِ لِاسْتِخْفَائِهِ، وَيُقَالُ: غَبَنْتُ الثَّوْبَ وَخَبَنْتُهُ، إِذَا أَخَذْتَ مَا طَالَ مِنْهُ عَنْ مِقْدَارِكَ، فَمَعْنَاهُ النَّقْصُ.
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيات من آخرها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَخْ، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَدَنِيَّةٌ وَمَكِّيَّةٌ.
187
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ مَا قَبْلَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَفِي آخِرِهَا خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَتْبَعَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، هَذَا تَقْسِيمٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِالنَّظَرِ إِلَى الِاكْتِسَابِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ
لِقَوْلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ
، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها «١».
وَقِيلَ: ذَانِكَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، بِدَلِيلِ مَا فِي حَدِيثِ النُّطْفَةِ مِنْ قَوْلِ الْمَلَكِ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ وَالْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا. وَمَا
رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ فِي الْبَطْنِ كَافِرًا». وَحَكَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا: فِي الْبَطْنِ مُؤْمِنًا.
وَعَنْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالله، مُؤْمِنٌ بالكواكب وَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَقَدَّمَ الْكَافِرَ لِكَثْرَتِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «٢» ؟ وَحِينَ ذَكَرَ الصَّالِحِينَ قَالَ: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ «٣». وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمِنْكُمْ آتٍ بِالْكُفْرِ وَفَاعِلٌ لَهُ، وَمِنْكُمْ آتٍ بِالْإِيمَانِ وَفَاعِلٌ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «٤»، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: أَيْ عَالِمٌ بِكُفْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمُ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ قِبَلِكُمْ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِأَصْلِ النِّعَمِ الَّذِي هُوَ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ عَنِ الْعَدَمِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَنْظُرُوا النَّظَرَ الصَّحِيحَ، وَتَكُونُوا بِأَجْمَعِكُمْ عِبَادًا شَاكِرِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ بِالْخَلْقِ: هُمُ الدَّهْرِيَّةُ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِهِ. وَعَنِ الْحَسَنُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: وَمِنْكُمْ فَاسِقٌ، وَكَأَنَّهُ مِنْ كَذِبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْحَسَنِ. وَتَقَدَّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَدُلَّ بِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى مَعْنَى اخْتِصَاصِ الْمُلْكِ وَالْحَمْدِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُلْكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُ، لِأَنَّهُ مبدىء كُلِّ شَيْءٍ وَمُبْدِعُهُ، وَالْقَائِمُ بِهِ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ، لِأَنَّ أُصُولُ النِّعَمِ وَفُرُوعُهَا مِنْهُ. وَأَمَّا مُلْكُ غَيْرِهِ فَتَسْلِيطٌ مِنْهُ، وَحَمْدُهُ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ جَرَتْ عَلَى يَدِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صَوَّرَكُمْ بِضَمِّ الصَّادِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَزِينٍ. بِكَسْرِهَا، وَالْقِيَاسُ الضَّمُّ، وَهَذَا تَعْدِيدٌ لِلنِّعْمَةِ فِي حُسْنِ الْخِلْقَةِ، لِأَنَّ أَعْضَاءَ بَنِي آدَمَ مُتَصَرِّفَةٌ بِجَمِيعِ مَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ أَعْضَاءُ الْحَيَوَانِ، وَبِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ فُضِّلَ بِهَا. ثُمَّ هُوَ مُفَضَّلٌ بحسن الوجه وجمال
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٣٠.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣.
(٣) سورة ص: ٣٨/ ٢٤.
(٤) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٦.
188
الْجَوَارِحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «١». وَقِيلَ: النِّعْمَةُ هُنَا إِنَّمَا هِيَ صُورَةُ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ مُدْرِكٌ عَاقِلٌ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي حُسِّنَ لَهُ حَتَّى لَحِقَتْهُ كِمَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَتَكَادُ الْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ الصُّورَةَ إِلَّا الشَّكْلَ، لَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالصُّورَةِ.
وَنَبَّهَ تَعَالَى بِعِلْمِهِ بِمَا فِي السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ بِمَا يُسِرُّ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ، ثُمَّ بِعِلْمِهِ بِمَا أَكَنَّتْهُ الصُّدُورُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، لَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَابْتَدَأَ بِالْعِلْمِ الشَّامِلِ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ، ثُمَّ بِخَاصِّ الْعِبَادِ مِنْ سِرِّهِمْ وَإِعْلَانِهِمْ، ثُمَّ مَا خَصَّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنْ خَفِيِّ الْأَشْيَاءِ وَكَامِنِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى الْمُجَازِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بِتَاءِ الخطاب وَعُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وأبان عَنْ عَاصِمٍ: بِالْيَاءِ.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ: الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ، ذُكِّرُوا بِمَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ عاد وثمود وقوم إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَرَّحَ بِذِكْرِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ سَمِعَتْ قُرَيْشٌ أَخْبَارَهُمْ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ: أَيْ مَكْرُوهِهِمْ وَمَا يَسُوؤُهُمْ مِنْهُ. ذلِكَ: أَيِ الْوَبَالُ، بِأَنَّهُ:
أَيْ بِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْحَدِيثَ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا، كَمَا اسْتَبْعَدَتْ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَابِ: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَسَاوُونَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَأَنَّى يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ تَمْيِيزٌ عَلَيْنَا بِحَيْثُ يَصِيرُونَ هُدَاةً لَنَا؟ وَارْتَفَعَ أَبَشَرٌ عِنْدَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ يَهْدُونَنا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ تَطْلُبُ الْفِعْلَ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ.
فَكَفَرُوا: الْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَعَقُّبِ كُفْرِهِمْ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ لَمْ يَنْظُرُوا فِي تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا تَأَمَّلُوهَا، بَلْ عَقَّبُوا مَجِيئَهَا بِالْكُفْرِ، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ: اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَغِنَاهُ تَعَالَى أَزَلِيٌّ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ ظَهَرَ تَعَالَى غِنَاهُ عَنْهُمْ إِذْ أَهْلَكَهُمْ، وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ: وَظَهَرَ اسْتِغْنَاءُ اللَّهِ حَيْثُ لَمْ يُلْجِئْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَالزَّعْمُ:
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَالَّذِينَ كفروا: أهل مكة، وبلى: إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: أَيْ لَا يَصْرِفُهُ عنه صارف.
(١) سورة التين: ٩٥/ ٤.
189
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا: هُوَ الْقُرْآنُ، وَانْتَصَبَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ بِقَوْلِهِ: لَتُنَبَّؤُنَّ، أَوْ بِخَبِيرَ، بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْجَزَاءِ، أَوْ باذكر مُضْمَرَةً، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْأَوَّلُ عَنِ النَّحَّاسِ، وَالثَّانِي عَنِ الْحَوْفِيِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَجْمَعُكُمْ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَرُوِيَ عَنْهُ سُكُونُهَا وَإِشْمَامُهَا الضَّمَّ وسلام وَيَعْقُوبُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيُّ: بِالنُّونِ. لِيَوْمِ الْجَمْعِ: يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُبْعَثُ طَامِعًا فِي الْخَلَاصِ وَرَفْعِ الْمَنْزِلَةِ. ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ: مُسْتَعَارٌ مِنْ تَغَابَنَ الْقَوْمُ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ أَنْ يَغِبْنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لِأَنَّ السُّعَدَاءَ نَزَلُوا مَنَازِلَ الْأَشْقِيَاءِ لَوْ كَانُوا سُعَدَاءَ، وَنَزَلَ الْأَشْقِيَاءُ مَنَازِلَ السُّعَدَاءِ لَوْ كَانُوا أَشْقِيَاءَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا أُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَزْدَادَ حَسْرَةً»
، وَذَلِكَ مَعْنَى يَوْمِ التَّغَابُنِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: إِذَا وَقَعَ الْجَزَاءُ، غَبَنَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يَجُوزُونَ الْجَنَّةَ وَتَحَصَّلَ الْكُفَّارُ فِي النَّارِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَطَلْحَةُ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ: نَكْفُرُ وَنَدْخُلُهُ بِالنُّونِ فِيهِمَا وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى وَالْحَسَنُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
الظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الْمُصِيبَةِ عَلَى الرَّزِيَّةِ وَمَا يَسُوءُ الْعَبْدَ، أَيْ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَخُصِّتْ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْحَوَادِثُ لَا تُصِيبُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقِيلَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُصِيبَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِذِ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَمَا نَافِيَةٌ، وَمَفْعُولُ أَصَابَ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَصَابَ أَحَدًا، وَالْفَاعِلُ من مصيبة، ومن زَائِدَةٌ، وَلَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ أَصَابَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثْا، وَهُوَ فَصِيحٌ، وَالتَّأْنِيثُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ
190
أَجَلَها
«١»، وقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «٢»، أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَمْكِينِهِ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ: أَيْ يُصَدِّقُ بِوُجُودِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، يَهْدِ قَلْبَهُ عَلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالْهِدَايَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَهْدِ بِالْيَاءِ، مُضَارِعًا لِهَدَى، مَجْزُومًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَزْرَقُ عن حمزة: بالنون والسلمي وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُهْدَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، قَلْبُهُ: رُفِعَ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَهْدَأْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، قَلْبُهُ بِالرَّفْعِ: يَطَمْئِنُّ قَلْبُهُ وَيَسْكُنُ بِإِيمَانِهِ وَلَا يكون فيه اضطراب.
وعمرو بْنُ فَايِدٍ: يَهْدَا بِأَلِفٍ بَدَلًا مِنَ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ أَيْضًا: يَهْدَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ إِبْدَالِهَا مِنَ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا فِي مِثْلِ يَهْدَأُ وَيَقْرَأُ، لَيْسَ بِقِيَاسٍ خِلَافًا لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ قِيَاسًا، وَبَنَى عَلَيْهِ جَوَازَ حَذْفِ تِلْكَ الْأَلِفِ لِلْجَازِمِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
جَزَى مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ سَرِيعًا وَإِنْ لَا يُبْدَ بِالظُّلْمِ يُظْلَمِ
أَصْلُهُ: يَبْدَأُ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، ثُمَّ حَذَفَهَا لِلْجَازِمِ تَشْبِيهًا بِأَلِفِ يَخْشَى إِذَا دَخَلَ الْجَازِمُ.
وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَحَذَّرَ مِمَّا يَلْحَقُ الرَّجُلَ مِنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ بِسَبَبِ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَلَا أَعْدَى عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إِذَا كَانَا عَدُوَّيْنِ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِإِذْهَابِ مَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِمَا يَسْعَى فِي اكْتِسَابِهِ مِنَ الْحَرَامِ لَهُمَا، وَبِمَا يَكْسِبَانِهِ مِنْهُ بِسَبَبِ جَاهِهِ. وَكَمْ مِنَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ زَوْجَهَا وَجَذَمَتْ وَأَفْسَدَتْ عَقْلَهُ، وَكَمْ مِنْ وَلَدٍ قَتَلَ أَبَاهُ. وَفِي التَّوَارِيخِ وَفِيمَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَعَنْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ أَرَادَ الْغَزْوَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَثَبَّطُوهُ وَشَكَوْا إِلَيْهِ فِرَاقَهُ، فَرَقَّ وَلَمْ يَغْزُ ثم إنه ندم وهمّ بمعاقبتهم، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ.
وَقِيلَ: آمَنَ قَوْمٌ بِاللَّهِ، وَثَبَّطَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، فَوَجَدُوا غَيْرَهُمْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، فَنَدِمُوا وَأَسِفُوا وَهَمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم،
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٥، وسورة المؤمنون: ٢٣/ ٤٣.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ٣٨، وسورة غافر: ٤٠/ ٧٨.
191
فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالُوا لَهُمْ: أَيْنَ تَذْهَبُونَ وَتَدَعُونَ بَلَدَكُمْ وَعَشِيرَتَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ؟ فَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: لَئِنْ جَمَعَنَا اللَّهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ نُصِبْكُمْ بِخَيْرٍ. فَلَمَّا هَاجَرُوا، مَنَعُوهُمُ الْخَيْرَ، فَحَبُّوا أَنْ يَعْفُوا عَنْهُمْ وَيَرُدُّوا إِلَيْهِمُ البر والصلة. ومن فِي مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَدْ تُوجَدُ زَوْجَةٌ تَسُرُّ زَوْجَهَا وَتُعِينُهُ عَلَى مَقَاصِدِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وكذلك الولد.
وقال الشعب الْعَبْسِيُّ يَمْدَحُ وَلَدَهُ رِبَاطًا:
إِذَا كَانَ أَوْلَادُ الرِّجَالِ حَزَازَةً فَأَنْتَ الْحَلَالُ الْحُلْوُ وَالْبَارِدُ الْعَذْبُ
لَنَا جَانِبٌ مِنْهُ دَمِيثٌ وَجَانِبٌ إِذَا رَامَهُ الْأَعْدَاءُ مَرْكَبُهُ صَعْبُ
وَتَأْخُذُهُ عِنْدَ الْمَكَارِمِ هِزَّةٌ كَمَا اهْتَزَّ تَحْتَ الْبَارِحِ الْغُصْنُ الرَّطْبُ
وَقَالَ قَرْمَانُ بْنُ الْأَعْرَفِ فِي ابْنِهِ مُنَازِلٍ، وَكَانَ عَاقًّا لَهُ، قَصِيدَةً فِيهَا بَعْضُ طُولٍ مِنْهَا:
وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا مَا تَرَكْتُهُ أَخَا الْقَوْمِ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَسْحِ شَارِبُهُ
فَلَمَّا رَآنِي أَحْسَبُ الشَّخْصَ أَشْخُصًا بَعِيدًا وَذَا الشَّخْصَ الْبَعِيدَ أُقَارِبُهُ
تَعَمَّدَ حَقِّي ظَالِمًا وَلَوَى يَدِي لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذِي هُوَ غالبه
نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
: أَيْ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ، لِأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلَا بَلَاءَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا. وَفِي بَابِ الْعَدَاوَةِ جَاءَ بِمَنِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، وَفِي الْفِتْنَةِ حَكَمَ بِهَا عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضِهَا، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْفِتْنَةِ بِهِمَا، وَكَفَى بِالْمَالِ فِتْنَةً قِصَّةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ، أَحَدُ مَنْ نَزَلَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ «١» الْآيَاتِ. وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ ذُكِرَ أَنَّهُ يَشْغَلُهُ الْكَسْبُ وَالتِّجَارَةُ فِي أَمْوَالِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ كَثِيرًا مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَائِتَةً. وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا عِنْدَ النَّاسِ بِالدِّيَانَةِ وَالْوَرَعِ، فَحِينَ لَاحَ لَهُ مَنْصِبٌ وَتَوَلَّاهُ، اسْتَنَابَ مَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنِ اسْتَنَابَهُ صَغِيرَ السِّنِّ قليل العلم سيىء الطَّرِيقَةِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. وَقُدِّمَتِ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِتْنَةً، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «٢»، شَغَلَتْنَا أموالنا وأهلونا.
اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
: تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: جُهْدَكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَاسْمَعُوا مَا تُوعَظُونَ بِهِ، وَأَطِيعُوا فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ، وَأَنْفِقُوا فِيمَا وَجَبَ عليكم. وخَيْراً مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَأْتُوا خَيْرًا، أَوْ عَلَى إضمار
(١) سورة التوبة: ٩/ ٧٥.
(٢) سورة العلق: ٩٦/ ٦- ٧. [.....]
192
يَكُنْ فَيَكُونُ خَبَرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِنْفَاقًا خَيِّرًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِ: وَأَنْفِقُوا خَيْرًا، أَيْ مَالًا، أَقْوَالٌ، الْأَوَّلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ، أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَضْعِيفَ الْقَرْضِ وَغُفْرَانَ الذُّنُوبِ. وَفِي لَفْظِ الْقَرْضِ تَلَطُّفٌ فِي الِاسْتِدْعَاءِ، وَفِي لَفْظِ الْمُضَاعَفَةِ تَأْكِيدٌ لِلْبَذْلِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ أَتْبَعَ جَوَابَيِ الشَّرْطِ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَائِدٌ إِلَى الْمُضَاعَفَةِ، إِذْ شُكْرُهُ تَعَالَى مُقَابِلٌ لِلْمُضَاعَفَةِ، وَحِلْمُهُ مُقَابِلٌ لِلْغُفْرَانِ. قِيلَ: وَهَذَا الْحَضُّ هُوَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقِيلَ، هُوَ فِي الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي يُوقَ وَفِي شُحَّ وَفِي يُضاعِفْهُ.
193
سورة التغابن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التغابُنِ) من السُّوَر المدنية، وقد افتُتحت بتعظيم الله عزَّ وجلَّ، وجاءت مُحذِّرةً الناسَ من يوم القيامة وهولِه؛ للعودة إلى طريق النجاح؛ وهو صراط الله المستقيمُ الذي بيَّنه صلى الله عليه وسلم، و(التغابُنُ): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
64
نوعها
مدنية
ألفاظها
242
ترتيب نزولها
108
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14]:

سأل رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ، فقال رضي الله عنه: «هؤلاء رجالٌ أسلَموا مِن أهلِ مكَّةَ، وأرادوا أن يأتُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجُهم وأولادُهم أن يَدَعوهم أن يأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَوْا أصحابَهم قد فَقِهوا في الدِّينِ، هَمُّوا أن يُعاقِبوهم؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14] الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٣١٧).

* سورة (التغابُنِ):

سُمِّيت سورة (التغابن) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (التغابن) فيها؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اْلْجَمْعِۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ اْلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِاْللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحٗا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ اْلْفَوْزُ اْلْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

يقول القُرْطُبيُّ: «وسُمِّي يومُ القيامة يومَ التغابن؛ لأنه غبَنَ فيه أهلُ الجنَّةِ أهلَ النار؛ أي: إن أهلَ الجنَّة أخذوا الجنَّةَ، وأخذ أهلُ النارِ النارَ، على طريقِ المبادَلة؛ فوقَع الغَبْنُ لأجلِ مبادَلتِهم الخيرَ بالشرِّ، والجيِّدَ بالرديءِ، والنعيمَ بالعذاب.

يقال: غبَنْتُ فلانًا: إذا بايَعْتَه أو شارَيْتَه، فكان النقصُ عليه، والغلَبةُ لك، وكذا أهلُ الجنَّة وأهلُ النار». "تفسير القرطبي" (18 /136).

1. الإيمان بالله تعالى (١-٤).

2. المَغْبُونون (٥-٧).

3. التغابُنُ (٨-١٠).

4. على طريق النجاح (١١-١٣).

5. فتنة الأهل والمال (١٤-١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /191).

اشتملت سورةُ (التغابُنِ) على تنزيهِ الله عز وجل من النقائص، واتصافِه بالعدل والكمال المطلق، وأتت السورة بالمبالغة في تحذيرِ الناس من يوم القيامة الذي يَفصِل اللهُ فيه بين الخلائق؛ لإحقاق الحق؛ ففيه يُقتصُّ لكل مخلوق، وتُرَدُّ كلُّ الحقوق، و(التغابن): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /90)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /259).