تفسير سورة المسد

الماوردي

تفسير سورة سورة المسد من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي.
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ تبّتْ يدا أبي لهب ﴾ اختلف في سبب نزولها في أبي لهب على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي ﷺ فقال : ماذا أُعطَى إن آمنتُ بك يا محمد؟ قال : ما يعطَى المسلمون، قال : ما عليهم فضل؟ قال : وأي شيء تبتغي؟ قال : تبَّا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنزل الله فيه :﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾.
الثاني : ما رواه ابن عباس أنه لما نزل ﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ أتى رسول الله ﷺ الصفا فصعد عليها، ثم نادى يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه، فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟ قالوا : نعم، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟! فأنزل الله تعالى هذه السورة.
الثالث : ما حكاه عبد الرحمن بن كيسان أنه كان إذا وفد على النبي ﷺ وفْدٌ انطلق إليهم أبو لهب، فيسألونه عن رسول الله ويقولون : أنت أعلم به، فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر، فيرجعون عنه ولا يلقونه، فأتاه وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه، فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبّاً له وتعساً، فأخبر بذلك النبي ﷺ فاكتأب له، فأنزل الله تعالى « تَبّتْ » السورة، وفي « تبّتْ » خمسة أوجه :
أحدها : خابت، قاله ابن عباس.
الثاني : ضلّت، وهو قول عطاء.
الثالث : هلكت، قاله ابن جبير.
الرابع : صفِرت من كل خير، قاله يمان بن رئاب.
حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان بن عفان سمع الناس هاتفاً يقول :
لقد خلّوْك وانصدعوا... فما آبوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرِهمُ... فيا تبَّا لما صَعنوا
والخامس : خسرت، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر :
تواعَدَني قوْمي ليَسْعوْا بمهجتي... بجارية لهم تَبّا لهم تبّاً
وفي قوله ﴿ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ وجهان :
أحدهما : يعني نفس أبي لهب، وقد يعبر عن النفس باليد كما قال تعالى ﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾ أي نفسك.
الثاني : أي عمل أبي لهب، وإنما نسب العمل إلى اليد لأنه في الأكثر يكون بها.
وقيل إنه كني أبا لهب لحُسنه وتلهّب وجنته، وفي ذكر الله له بكنيته دون اسمه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه.
الثاني : لأنه كان مسمى بعبد هشم، وقيل إنه عبد العزى فلذلك عدل عنه.
467
الثالث : لأن الاسم أشرف من الكنية، لأن الكنية إشارة إليه باسم غيره، ولذلك دعا الله أنبياءه بأسمائهم.
وفي قوله ﴿ وتَبَّ ﴾ أربعة أوجه :
أحدها : أنه تأكيد للأول من قوله ﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾ فقال بعده « وتب » تأكيداً. الثاني : يعني تبت يدا أبي لهب بما منعه الله تعالى من أذى لرسوله، وتب بما له عند الله من أليم عقابه.
الثالث : يعني قد تبّ، قاله ابن عباس.
الرابع : يعني وتبّ ولد أبي لهب، قاله مجاهد.
وفي قراءة ابن مسعود : تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب، جعله خبراً، وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول.
وفيما تبت عنه يدا أبي لهب وجهان :
أحدهما : عن التوحيد، قاله ابن عباس.
الثاني : عن الخيرات، قاله مجاهد.
﴿ ما أَغْنَى عَنْه مالُه وما كَسَب ﴾ في قوله « ما أغنى عنه » وجهان :
أحدهما : ما دفع عنه.
الثاني : ما نفعه، قاله الضحاك.
وفي ﴿ مالُه ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه أراد أغنامه، لأنه كان صاحب سائمة، قاله أبو العالية.
الثاني : أنه أراد تليده وطارفه، والتليد : الموروث، والطارف : المكتسب.
وفي قوله ﴿ وما كَسَبَ ﴾ وجهان :
أحدهما : عمله الخبيث، قاله الضحاك.
الثاني : ولده، قاله ابن عباس.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال :« أولادكم من كسبكم »
وكان ولده عتبة بن أبي لهب مبالغاً في عداوة النبي ﷺ كأبيه، فقال حين نزلت ﴿ والنجم إذا هوى ﴾ كفرت بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، وتفل في وجه رسول الله ﷺ إلى الشام، فقال رسول الله ﷺ :« اللهم سلط عليه كلباً من كلابك » فأكله الأسد.
وفيما لم يغن عنه ماله وما كسب وجهان :
أحدهما : في عداوته النبي ﷺ.
الثاني : في دفع النار عنه يوم القيامة.
﴿ سَيَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ﴾ في سين سيصلى وجهان :
أحدهما : أنه سين سوف.
الثاني : سين الوعيد، كقوله تعالى ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ﴾ و ﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا ﴾ وفي ﴿ يَصْلًى ﴾ وجهان :
أحدهما : صلي النار، أي حطباً ووقوداً، قاله ابن كيسان.
الثاني : يعني تُصليه النار، أي تنضجه، وهو معنى قول ابن عباس، فيكون على الوجه الأول صفة له في النار، وعلى الوجه الثاني صفة للنار.
وفي ﴿ ناراً ذاتَ لَهَبٍ ﴾ وجهان :
أحدهما : ذات ارتفاع وقوة واشتعال، فوصف ناره ذات اللهب بقوتها، لأن قوة النار تكون مع بقاء لهبها.
الثاني : ما في هذه الصفة من مضارعة كنيته التي كانت من نذره ووعيده.
وهذه الآية تشتمل على امرين :
أحدهما : وعيد من الله حق عليه بكفره.
الثاني : إخبار منه تعالى بأنه سيموت على كفره، وكان خبره صدقاً، ووعيده حقاً.
468
﴿ وامرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ ﴾ وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.
وفي ﴿ حمالة الحطب ﴾ أربعة أوجه : أحدها : أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي ﷺ ليلاً، قاله ابن عباس.
الثاني : أنها كانت تعيِّر رسول الله ﷺ بالفقر، فكان يحتطب فعيرت بأنها كانت تحتطب، قاله قتادة.
الثالث : أنها كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة، قاله الحسن والسدي فسمي الماشي بالنميمة حمال الحطب لأنه يشعل العداوة كما تشعل النار الحطب، قال الشاعر :
إنّ بني الأَدْرَمِ حَمّالو الحَطَبْ... هم الوُشاةُ في الرِّضا وفي الغَضَبْ.
عليهمُ اللعْنةُ تَتْرى والحرَبْ.... وقال آخر :
مِنَ البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظهر لأمةٍ... ولم تمشِ بَيْن الحيّ بالحَطَب والرطْبِ.
الرابع : أنه أراد ما حملته من الآثام في عداوة رسول الله ﷺ لأنه كالحطب في مصيره إلى النار.
﴿ في جِيدِها حَبْل مِنْ مَسَدِ ﴾ جيدها : عنقها.
وفي ﴿ حبل من مسد ﴾ سبعة أقاويل :
أحدها : أنه سلسلة من حديد، قاله عروة بن الزبير، وهي التي قال الله تعالى فيها :﴿ ذرعها سبعون ذراعاً ﴾ قال الحسن : سميت السلسلة مسداً لأنها ممسودة، أي مفتولة.
الثاني : أنه حبل من ليف النخل، قاله الشعبي، ومن قول الشاعر :
أعوذ بالله مِن لَيْل يُقرّبني... إلى مُضاجعةٍ كالدَّلْكِ بالمسَدِ.
الثالث : أنها قلادة من ودع، على وجه التعيير لها، قاله قتادة.
الرابع : أنه حبل ذو ألوان من أحمر وأصفر تتزين به في جيدها، قاله الحسن، ذكرت به على وجه التعيير أيضاً.
الخامس : أنها قلادة من جوهر فاخر، قالت لأنفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة.
السادس : أنه إشارة إلى الخذلان، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوطة في جيدها بحبل من مسد.
السابع : أنه لما حملت أوزار كفرها صارت كالحاملة لحطب نارها التي تصلى بها.
روى الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر أنه لما نزلت « تبت يدا » في أبي لهب وامرأته أم جميل أقبلت ولها ولولة وفي يدها قهر وهي تقول :
مُذَمَّماً عَصَيْنَا... وأَمْرَهُ أَبَيْنا
ودِينَه قَلَيْنا.... ورسول الله ﷺ في المسجد، ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وإني أخاف أن تراك، فقال : إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به، كما قال تعالى :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ﴾ فأقبلت على أبي بكر، ولم تر رسول الله، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال : لا ورب هذا البيت، ما هجاك، فولت فعثرت في مرطها، فقالت : تعس مذمم، وانصرفت.
469
سورة المسد
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المَسَدِ) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الفاتحة)، وقد افتُتحت بوعيدِ أبي لَهَبٍ عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاءِ عليه؛ بسبب مقالته للنبي صلى الله عليه وسلم: «تبًّا لك! ألهذا جمَعْتَنا؟!»، وفي ذلك بيانُ خسران الكافرين، ولو كان أقرَبَ قريب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ولذا خُتمت بوعيد زوجه؛ لأنها وافقت زوجَها، وأبغَضت النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
111
نوعها
مكية
ألفاظها
23
ترتيب نزولها
6
العد المدني الأول
5
العد المدني الأخير
5
العد البصري
5
العد الكوفي
5
العد الشامي
5

* قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} [المسد: 1]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا نزَلتْ: {وَأَنذِرْ ‌عَشِيرَتَكَ ‌اْلْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، ورَهْطَك منهم المُخلَصِينَ؛ خرَجَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى صَعِدَ الصَّفَا، فهتَفَ: «يا صَبَاحَاهْ»، فقالوا: مَن هذا؟ فاجتمَعوا إليه، فقال: «أرأَيْتم إن أخبَرْتُكم أنَّ خيلًا تخرُجُ مِن سَفْحِ هذا الجبَلِ، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟»، قالوا: ما جرَّبْنا عليك كَذِبًا، قال: «فإنِّي نذيرٌ لكم بَيْنَ يَدَيْ عذابٍ شديدٍ»، قال أبو لَهَبٍ: تبًّا لك! ما جمَعْتَنا إلا لهذا؟! ثم قامَ؛ فنزَلتْ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} [المسد: 1]، وقد تَبَّ»؛ هكذا قرَأَها الأعمَشُ يومَئذٍ. أخرجه البخاري (٤٩٧١).

* سورةُ (المَسَدِ):

سُمِّيت سورةُ (المَسَدِ) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (المَسَد) في خاتمتها.

* وتُسمَّى سورة {تَبَّتْ}؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

وعيدٌ لأبي لَهَبٍ وزوجته، ومصيرُهما (١-٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /437).

الحُكْمُ بخسران الكافرين، وزجرُ أبي لَهَبٍ على قوله للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تبًّا لك! ألهذا جمَعْتَنا؟!»، ووعيدُ امرأته على انتصارها لزوجها، وبُغْضِها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ينظر: "مصاعد النظر إلى مقاصد السور" للبقاعي (3 /277)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /600).