تفسير سورة المنافقون

تفسير أبي السعود

تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود.
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة المنافقين مدنية، وآيها إحدى عشرة.

﴿إِذَا جَاءكَ المنافقون﴾ أي حضرُوا مجلسكَ ﴿قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾ مؤكدينَ كلامَهُم بأنَّ واللامُ للإيذانِ بأن شهادتهم هذه صاردة عن صميمِ قلوبِهِم وخلوصِ اعتقادِهِم ووفورِ رغبتِهِم ونشاطِهِم وقولُهُ تعالى ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ اعتراضٌ مقررٌ لمنطوقِ كلامِهِم وُسِّطَ بينه وبينَ قولِهِ تعالى ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون﴾ تحقيقا وتعييناً لِما نيطَ به التكذيبُ من أنَّهُم قالُوه عن اعتقادٍ كما أُشيرِ إليهِ وإماطةً من أولِ الأمرِ لما عسى يتوهمُ من توجه التكذيبِ إلى منطوقِ كلامِهِم أيْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبُونَ فيما ضمَّنُوا مقالتَهُم من أنَّها صادرةٌ عن اعتقادٍ وطمأنينة قلب وا لإظهار في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ
﴿اتخذوا أيمانهم﴾ الفاجرةَ التي من جملتها ما حكي عنْهُم ﴿جَنَّةُ﴾ أيْ وقايةً عمَّا يتوجَّهُ إليهِمْ منَ مؤاخذة بالقتلِ والسبي أو غيرِ ذلكَ واتخاذُها جنةً عبارةٌ عن إعدادِهِم وتهيئتِهِم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بهَا ويتخلصُوا عنِ المؤاخذةِ لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يُفصح عنهُ الفاءُ في قولِهِ تعالى ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي فصدوا منْ أرادَ الدخولَ في الإسلامِ بأنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليسَ برسولٍ ومن أرادَ الإنفاقَ في سبيلِ الله بالنَّهيِ عنهُ كما سيُحْكَى عنهُم ولا ريبَ في أنَّ هذا الصدَّ منهم متقدمٌ على حلفِهِم بالفعلِ وقُرِىءَ إيمانَهُم أي ما ظهوره على ألسنتِهِم فاتخاذُهُ جنةً عبارةٌ عنِ استعمالهِ بالفعلِ فإنه وقايةٌ دونَ دمائهِم وأموالِهِم فمَعْنَى قولِهِ تعالى فصدُّوا حينئذٍ فاستمرُّوا على ما كانوا عليه من الصدِّ والإعراضِ عن سبيلِهِ تعالَى ﴿إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من النفاقِ والصدِّ وفي ساءَ مَعْنَى التعجبِ وتعظيمُ أمرِهِم عندَ السامعين
﴿ذلك﴾ ذلك إشارة إلى ما تقدمَ من القولِ
251
٥ ٤
النَّاعِي عليهِمْ إنَّهم أسوأُ الناسِ أعمالاً أو إلى ما وصف حالِهِم في النفاقِ والكذبِ والاستتارِ بالإيمانِ الصوريِّ وما فيه من معنى البعد مع قُربِ العهدِ المشارِ إليه لما مرَّ مرارا من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الشرِّ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي بسبب أنهم ﴿آمنوا﴾ أي نطقُوا بكلمة الشهادةِ كسائرِ منْ يدخُل في الإسلامِ ﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ أي ظهرَ كفرُهُم بما شُوهدَ منهم من شَواهدِ الكُفْرِ ودلائِلِه أو نطقُوا بالإيمانِ عندَ المؤمنينَ ثم نطقُوا بالكفرِ عند شياطينهم ﴿فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ﴾ حتى تمرنُوا على الكفرِ واطمأنُّوا بهِ وقرىء على البناء للفاعل وقُرِىءَ فطبعَ الله ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ حقيقةَ الإيمانِ ولا يعرفون حقيقته أصلاً
252
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم﴾ لضخامتها ويروقكَ منظرُهُم لصباحةِ وجوهِهِم ﴿وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ لفصاحتهِم وذلاقةِ ألسنتِهِم وحلاوةِ كلامِهِم وكان ابنُ أُبيَ جسيماً فصيحاً يحضرُ مجلس رسول الله ﷺ في نفرٍ منْ أمثالِهِ وهُم رؤساءُ المدينةِ وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومنْ معه يعجبون بها كلهم ويسمعونَ إلى كلامِهم وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ ويؤيدُه قراءةُ يُسمعْ على البناءِ للمفعولِ وقولُه تعالَى ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ في حيزِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ أو كلامٌ مستأنفٌ لا محلَّ له شُبهوا في جلوسِهِم في مجالِس رسول الله ﷺ مستندينَ فيها بخشبٍ منصوبةٍ مُسندةٍ إلى الحائطِ في كونِهِم أشباحاً خاليةً عن العلمِ والخيرِ وقُرِىءَ خُشْبٌ على أنه جمعُ خشبةٍ كبُدْنٍ جمعُ بَدَنةٍ وقيل هو جمعُ خشباءَ وهيَ الخشبةُ التي دُعِرَ جوفُها أي فسدَ شُبهوا بها في نفاقِهِم وفسادِ بواطِنِهم وقُرِىءَ خَشَبٌ كمَدَرةٍ ومدَرٍ ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ أي واقعةً عليهم ضارةً لهم لجبنِهِم واستقرارِ الرعبِ في قلوبِهِم وقيلَ كانُوا على وجلٍ من أنْ يُنزلَ الله فيهم ما يهتكُ أستارَهُم ويبيحُ دماءَهُم وأموالَهُم ﴿هُمُ العدو﴾ أي هُم الكاملونَ في العداوةِ والراسخونَ فيها فإنَّ أعْدَى الأعادِي العدوُّ المُكاشرُ الذي يُكاشِرُكَ وتحتَ ضُلوعِهِ الداءُ الدَّوِيُ والجملةُ مستأنفةٌ وجعلُها مفعولاً ثانياً للحسبانِ ممَّا لا يساعده النظمُ الكريم أصلاً فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالَى ﴿فاحذرهم﴾ لترتيبِ الأمرِ بالحذرِ على كونِهِم أعْدَى الأعداءِ ﴿قاتلهم الله﴾ دعاءٌ عليهمْ وطلبٌ من ذاتِهِ تعالَى أنْ يلعنَهُم ويُخزيَهم أو تعليمٌ للمؤمنينَ أن يدعُوا عليهِم بذلكَ وقوله تعلى ﴿أنى يُؤْفَكُونَ﴾ تعجيبٌ من حالِهِم أي كيفَ يُصرفون عن الحقِّ إلى ما هم عليه من الكفر الضلال
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ عندَ ظهورِ جنايتِهِم بطريقِ النصيحةِ ﴿تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ﴾ أي عطفُوها استكباراً ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ يُعرضونَ عن القائلِ أو عن الاستغفارِ ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾
252
٨ ٦
عن ذلكَ
253
﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ﴾ كما إذا جاءوكَ معتذرينَ من جناياتهم وقُرِىءَ استغفرتَ بحذفِ حرفِ الاستفام ثقةً بدلالةٍ أمْ عليهِ وقُرِىءَ آستغفرتَ بإشباعِ همزةِ الاستفهامِ لا بقلبِ همزةِ الوصلِ ألفاً ﴿أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ كما إذا أصرُّوا عَلى قبائِحهم واستكبرُوا عن الاعتذارِ والاستغفارِ ﴿لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ أبداً لإصرارِهِم على الفسقِ ورسوخِهِم في الكفرِ ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين﴾ الكاملينَ في الفسقِ الخارجينَ عن دائرةِ الاستصلاحِ المنهمكينَ في الكفرِ والنفاقِ والمرادُ إما هُم بأعيانِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لبيانِ غُلوهم في الفسقِ أو الجنسُ وهم داخلونَ في زمرتهم دخولاأوليا وقولُه تعالَى
﴿هُمُ الذين يَقُولُونَ﴾ أيْ للأنصارِ ﴿لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله﴾﴿حتى يَنفَضُّواْ﴾ يعنونَ فقراءَ المهاجرينَ استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لفسقِهِم أو لعدمِ مغفرتِهِ تعالَى لَهُم وقُرِىءَ حتى يَنْفِضُوا من أنفضَ القومُ إذا فنيتْ أزوادُهُم وحقيقتُه حانَ لهم أن ينفضوا مزادوهم وقولُه تعالى ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض﴾ ردُّ وإبطالٌ لما زعمُوا من أن عدمَ إنفاقهِم يؤدي إلى انفضاضِ الفقراء من حوله ﷺ ببيان ان خزائن الأرزان بيدِ الله تعالَى خاصَّة يعطة منْ يشاءُ ويمنعُ من يشاءُ ﴿ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ﴾ ذلكَ لجهلِهم بالله تعالى وبشئونه ولذلكَ يقولونَ مِنْ مقالاتِ الكفرِ ما يقولونَ
﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ رُوِيَ أن جَهْجَاهَ بنَ سعيدٍ أَجيرَ عمرَ رضيَ الله عنهُ نازعَ سِناناً الجُهْنَيَّ حليفَ ابنِ أبيى واقتتلا فصرخ جهجاه ياللمهاجرين وسنان بالأنصار فاعان جهجاها جعال من فقراءِ المهاجرينَ ولطمَ سنان فاشتكى الى اين أُبيَ فقالَ للأنصارِ لا تُنفقُوا الخ والله لئِن رجدعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل عَنَى بالأعزِّ نفسَهُ وبالأذلِّ جانبَ المؤمنينَ وإسنادُ القولِ المذكورِ إلى المنافقينِ لرضاهُم بهِ فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه تعالَى ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي ولله الغالبة والقوةُ ولمنْ أعزَّهُ من رسولِهِ والمؤمنينَ لا لغيرِهِم ﴿ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ من فرطِ جهلِهِم وغرورِهِم فيهذُونَ ما يهذُون رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بنِ أُبيَ لما أرادَ أن يدخلَ المدينةَ اعترضَهُ ابنُهُ عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان مخلصاً وقالَ لئِن لم تُقِرَّ لله ولرسولِه بالعزِّ لأضربهم عنقَكَ فلمَّا
253
} ١ ٩
رَأى منه الجِدَّ قال أشهدُ أنَّ العزةَ لله ولرسولِه وللمؤمنينَ فقالَ النبيُّ ﷺ لابنهِ جزاكَ الله عن رسولِهِ وعن المؤمنينَ خيراً
254
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذكرِ الله﴾ أي لا يشغَلْكُم الاهتمامُ بتدبيرِ أمورِهَا والاعتناءُ بمصالحِهَا والتمتعُ بها عن الاشتغالِ بذكرِهِ عزَّ وجلَّ من الصلاة وسائر العبادات المذكورة للمعبودِ والمرادُ نهيهُم عنِ التَّلهّي بهَا وتوجيهُ النهيِ إليهَا للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالَى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الخ ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ أي التَّلهي بالدُّنيا منَ الدينِ ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾ أي الكاملونَ في الخسرانِ حيثُ باعُوا العظيم الباقي بالحقير الفانئ
﴿وأنفقوا من ما رزقناكم﴾ أي بعضَ ما أعطينَاكُم تفضلاً منْ غيرِ أنْ يكونَ حصولُهُ من جهتِكُم ادخاراً للآخرةِ ﴿مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ بأنْ يشاهدَ دلائلَهُ ويعاينَ أماراتِهِ ومخايلَهُ وتقديمُ المفعولِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بما قدم والتشويق إلى ما أُخِّر ﴿فَيَقُولُ﴾ عند تيقنِه بحلولِهِ ﴿رَبّ لَوْلا أخرتني﴾ اأمهلتني ﴿إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أي أمدٍ قصيرٍ ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ بالنصبِ على جوابِ التمنِي وقُرِىءَ فأتصدقَ ﴿وَأَكُن مّنَ الصالحين﴾ بالجزمِ عطفاً على محلِّ فأصدقَ كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصدقْ وأكنْ وقُرِىءَ وأكونَ بالنصبِ عطفاً على لظفه وقُرِىءَ وأكونُ بالرفعِ أي وأنَا أكونَ عِدة منه بالصلاحِ
﴿وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً﴾ أي ولَنْ يُمهلَهَا ﴿إِذَا جَاء أَجَلُهَا﴾ أي آخرُ عُمرِهَا أو انتهى إنْ أُريدَ بالأجلِ الزمانُ الممتدُ من أولِ العمرِ إلى آخرِهِ ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فمجاز لكم عليهِ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فسارَعُوا في الخيراتِ واستعدُّوا لما هُو آتٍ وقُرِىءَ يعملُونَ بالياءِ التحتانيةِ عن النبيِّ ﷺ مَنْ قَرأ سورةَ المنافقينَ برى من النفاق
254
التغابن ٤ ﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
255
سورة المنافقون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المنافقون) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الحجِّ)، وقد تناولت موضوعًا يمسُّ صُلْبَ الإيمان؛ وهو موافقةُ الظاهر للباطن، وحذَّرت من النفاق والمنافقين؛ لأنهم أضرُّ على الإسلام من غيرهم، وجاءت بتوجيهاتٍ جليلة للتَّحصين من النفاق.

ترتيبها المصحفي
63
نوعها
مدنية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
104
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* جاء في سبب نزول سورة (المنافقون):

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «كنتُ في غزاةٍ، فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفضُّوا مِن حولِه، ولَئِنْ رجَعْنا مِن عندِه لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرْتُ ذلك لِعَمِّي أو لِعُمَرَ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعَاني، فحدَّثْتُه، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فكذَّبَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه، فأصابني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه قطُّ، فجلَسْتُ في البيتِ، فقال لي عَمِّي: ما أرَدتَّ إلى أنْ كذَّبَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومقَتَك؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، فبعَثَ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ، فقال: «إنَّ اللهَ قد صدَّقَك يا زيدُ»». أخرجه البخاري (4900).

ورواه التِّرْمِذيُّ مطولًا، ولفظه:

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أُناسٌ مِن الأعرابِ، فكنَّا نبتدِرُ الماءَ، وكان الأعرابُ يَسبِقونا إليه، فسبَقَ أعرابيٌّ أصحابَه، فيَسبِقُ الأعرابيُّ فيَملأُ الحوضَ، ويَجعَلُ حَوْلَه حجارةً، ويَجعَلُ النِّطْعَ عليه حتى يَجيءَ أصحابُه، قال: فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ أعرابيًّا، فأرخى زِمامَ ناقتِه لتَشرَبَ، فأبى أن يدَعَه، فانتزَعَ قِباضَ الماءِ، فرفَعَ الأعرابيُّ خشَبةً فضرَبَ بها رأسَ الأنصاريِّ فشَجَّه، فأتى عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رأسَ المنافقين فأخبَرَه، وكان مِن أصحابِه، فغَضِبَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، ثم قال: {لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اْللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ} [المنافقون: 7]؛ يَعني: الأعرابَ، وكانوا يحضُرون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عند الطَّعامِ، فقال عبدُ اللهِ: إذا انفَضُّوا مِن عندِ مُحمَّدٍ فَأْتُوا مُحمَّدًا بالطَّعامِ، فليأكُلْ هو ومَن عندَه، ثم قال لأصحابِه: لَئِنْ رجَعْتم إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، قال زيدٌ: وأنا رِدْفُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فأخبَرْتُ عَمِّي، فانطلَقَ فأخبَرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحلَفَ وجحَدَ، قال: فصدَّقَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبني، قال: فجاءَ عَمِّي إليَّ، فقال: ما أرَدتَّ إلا أنْ مقَتَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَك والمسلمون، قال: فوقَعَ عليَّ مِن الهمِّ ما لم يقَعْ على أحدٍ، قال: فبَيْنما أنا أسيرُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ قد خفَقْتُ برأسي مِن الهمِّ، إذ أتاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فما كان يسُرُّني أنَّ لي بها الخُلْدَ في الدُّنيا، ثم إنَّ أبا بكرٍ لَحِقَني فقال: ما قال لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: ما قال لي شيئًا، إلا أنَّه عرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فقال: أبشِرْ، ثم لَحِقَني عُمَرُ، فقلتُ له مثلَ قولي لأبي بكرٍ، فلمَّا أصبَحْنا قرَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ المنافقين». "سنن الترمذي" (3313).

* سورة (المنافقون):

سُمِّيت سورة (المنافقون) بهذا الاسم؛ لأنَّها تناولت مواقفَ المنافقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت صفاتِهم.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (المنافقون) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (877).

1. النفاق والمنافقون (١-٨).

2. توجيهاتٌ للتحصين من النفاق (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /171).

مقصدُ هذه السورة عظيم جدًّا؛ وهو التحذيرُ من النفاق وأهله، ومطالبة المؤمنين بصدقِ الأقوال والأفعال، والحرص على مطابقة الظاهر للباطن.

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: كمالُ التحذير مما يَثلِمُ الإيمانَ من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يَقدَح في الإسلام من الأحوال الظاهرة؛ بمخالفة الفعلِ للقول؛ فإنه نفاقٌ في الجملة، فيوشك أن يجُرَّ إلى كمال النفاق، فيُخرِج من الدِّين، ويُدخِل الهاوية.

وتسميتها بالمنافقين واضحةٌ في ذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /87).