تفسير سورة المنافقون

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ إلى قوله :﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ﴾.
قال أبو بكر : هذا يدل على أن قوله :" أشهدُ " يمينٌ ؛ لأن القوم قالوا :" نشهد " فجعله الله يميناً بقوله :﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي :" أَشْهَدُ وأُقْسِمُ وأَعْزِمُ وأَحْلِفُ كلّها أيمانٌ ".
وقال زفر :" إذا قال أقسم لأفعلنّ فهو يمين ولو قال أشهد لأفعلنّ لم يكن يميناً ".
وقال مالك :" إن أراد بقوله أقسم أي أقسم بالله فهو يمين وإلا فلا شيء وكذلك أحلف " قال :" ولو قال أعزم لم يكن يميناً إلا أن يقول أعزم بالله، ولو قال علي نذر أو قال نذر لله فهو على ما نوى، وإن لم تكن له نية فكفارته كفارة يمين ".
وقال الشافعي :" أقسم ليس بيمين وأقسم بالله يمين إن أرادها، وإن أراد الموعد فليست بيمين، وأشهد بالله إن نوى اليمين فيمين وإن لم يَنْوِ يميناً فليست بيمين، وأعزم بالله إن أراد يميناً فهو يمين ".
وذكر الربيع عن الشافعي :" إذا قال أقسم أو أشهد أو أعزم ولم يقل بالله فهو كقوله والله، وإن قال أحلف بالله فلا شيء عليه إلا أن ينوي اليمين ".
قال أبو بكر : لا يختلفون أن " أشهد بالله " يمينٌ فكذلك " أشهد " من وجهين، أحدهما : أن الله حكى عن المنافقين أنهم قالوا :" نشهد إنك لرسول الله " ثم جعل هذا الإطلاق يميناً من غير أن يقرنه باسم الله، وقال تعالى :﴿ فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ﴾ [ النور : ٦ ] فعبّر عن اليمين بالشهادة على الإطلاق. والثاني : أنه لما أخرج ذلك مخرج القسم وجب أن لايختلف حكمه في حذف اسم الله تعالى وفي إظهاره، وقد ذكر الله تعالى القَسَم في كتابه فأظهر تارة الاسم وحذفه أخرى والمفهوم باللفظ في الحالين واحد بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ]، وقال في موضع آخر :﴿ إذْ أَقسموا ليصرمنّها مصبحين ﴾ [ القلم : ١٧ ]، فحذفه تارةً اكتفاءً بعلم المخاطبين بإضماره وأظهره أخرى.
وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس أن أبا بكر عَبَرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أَصَبْتَ بَعْضاً وَأَخْطَأْتَ بَعْضاً " فقال أبو بكر : أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تُقْسِمْ ! " ورُوي أنه قال : والله لتخبرنّي ! فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله :" أقسمتُ عليك " يميناً ؛ فمن الناس من يكره القسم لقوله :" لا تقسم " ومنهم من لا يرى به بأساً وأنه إنما قال :" لا تقسم " لأن عبارة الرؤيا ظنٌّ قد يقع فيها الخطأ، وهذا يدل أيضاً على أنه ليس على من أقسم عليه غيره أن يبرَّ قسمه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخبره لما أقسم عليه ليخبره.
ويدل أيضاً على أن من علم تأويل رؤيا فليس عليه الإخبار بها ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بتأويل هذه الرؤيا. وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : كان أبو بكر قد استعمل عمر على الشام، فلقد رأيتني وأنا أشدّ الإبل بأقتابها، فلما أراد أن يرتحل قال له الناس : تَدَعُ عمر ينطلق إلى الشام ؟ والله إن عمر ليكفيك الشام وهو ههنا ! قال : أقسمتُ عليك لما أقمتَ.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال للعباس فيما خاصم فيه عليّاً من أشياء تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيثاره : أقسمت عليك لما سلمته لعليّ. وقد روى البراء قال :" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار القَسَم "، وهذا يدل على إباحة القسم وأنه يمين، وهذا على وجْه النَّدْبِ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبرَّ قسم أبي بكر لما قال :" أقسمت عليك ". وعن ابن مسعود وابن عباس وعلقمة وإبراهيم وأبي العالية والحسن :" القسم يمين ".
وقال الحسن وأبو العالية :" أقسمت وأقسمت بالله سواء ".

باب من فرّط في زكاة ماله


قال الله تعالى :﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ ﴾ الآية.
رَوَى عبدالرزاق قال : حدثنا سفيان عن أبي حباب عن أبي الضحى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فيه الزّكَاةُ ومَالٌ يُبْلِغُهُ بَيْتَ الله ثُمَّ لم يَحُجَّ ولم يُزَكِّ سَأَلَ الرّجْعَةَ "، وتلا قوله تعالى :﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ الآية ؛ وقد رُوي ذلك موقوفاً على ابن عباس. إلا أن دلالة الآية ظاهرة على حصول التفريط بالموت ؛ لأنه لو لم يكن مفرّطاً ووجب أداؤها من ماله بعد موته لكانت قد تحوّلت إلى المال فلزم الورثة إخراجها، فلما سأل الرجعة علمنا أن الأداء فائتٌ وأنه لا يتحول إلى المال ولا يؤخذ من تركته بعد موته إلا أن يتبرع به الورثة.
سورة المنافقون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المنافقون) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الحجِّ)، وقد تناولت موضوعًا يمسُّ صُلْبَ الإيمان؛ وهو موافقةُ الظاهر للباطن، وحذَّرت من النفاق والمنافقين؛ لأنهم أضرُّ على الإسلام من غيرهم، وجاءت بتوجيهاتٍ جليلة للتَّحصين من النفاق.

ترتيبها المصحفي
63
نوعها
مدنية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
104
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* جاء في سبب نزول سورة (المنافقون):

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «كنتُ في غزاةٍ، فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفضُّوا مِن حولِه، ولَئِنْ رجَعْنا مِن عندِه لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرْتُ ذلك لِعَمِّي أو لِعُمَرَ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعَاني، فحدَّثْتُه، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فكذَّبَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه، فأصابني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه قطُّ، فجلَسْتُ في البيتِ، فقال لي عَمِّي: ما أرَدتَّ إلى أنْ كذَّبَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومقَتَك؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، فبعَثَ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ، فقال: «إنَّ اللهَ قد صدَّقَك يا زيدُ»». أخرجه البخاري (4900).

ورواه التِّرْمِذيُّ مطولًا، ولفظه:

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أُناسٌ مِن الأعرابِ، فكنَّا نبتدِرُ الماءَ، وكان الأعرابُ يَسبِقونا إليه، فسبَقَ أعرابيٌّ أصحابَه، فيَسبِقُ الأعرابيُّ فيَملأُ الحوضَ، ويَجعَلُ حَوْلَه حجارةً، ويَجعَلُ النِّطْعَ عليه حتى يَجيءَ أصحابُه، قال: فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ أعرابيًّا، فأرخى زِمامَ ناقتِه لتَشرَبَ، فأبى أن يدَعَه، فانتزَعَ قِباضَ الماءِ، فرفَعَ الأعرابيُّ خشَبةً فضرَبَ بها رأسَ الأنصاريِّ فشَجَّه، فأتى عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رأسَ المنافقين فأخبَرَه، وكان مِن أصحابِه، فغَضِبَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، ثم قال: {لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اْللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ} [المنافقون: 7]؛ يَعني: الأعرابَ، وكانوا يحضُرون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عند الطَّعامِ، فقال عبدُ اللهِ: إذا انفَضُّوا مِن عندِ مُحمَّدٍ فَأْتُوا مُحمَّدًا بالطَّعامِ، فليأكُلْ هو ومَن عندَه، ثم قال لأصحابِه: لَئِنْ رجَعْتم إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، قال زيدٌ: وأنا رِدْفُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فأخبَرْتُ عَمِّي، فانطلَقَ فأخبَرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحلَفَ وجحَدَ، قال: فصدَّقَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبني، قال: فجاءَ عَمِّي إليَّ، فقال: ما أرَدتَّ إلا أنْ مقَتَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَك والمسلمون، قال: فوقَعَ عليَّ مِن الهمِّ ما لم يقَعْ على أحدٍ، قال: فبَيْنما أنا أسيرُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ قد خفَقْتُ برأسي مِن الهمِّ، إذ أتاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فما كان يسُرُّني أنَّ لي بها الخُلْدَ في الدُّنيا، ثم إنَّ أبا بكرٍ لَحِقَني فقال: ما قال لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: ما قال لي شيئًا، إلا أنَّه عرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فقال: أبشِرْ، ثم لَحِقَني عُمَرُ، فقلتُ له مثلَ قولي لأبي بكرٍ، فلمَّا أصبَحْنا قرَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ المنافقين». "سنن الترمذي" (3313).

* سورة (المنافقون):

سُمِّيت سورة (المنافقون) بهذا الاسم؛ لأنَّها تناولت مواقفَ المنافقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت صفاتِهم.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (المنافقون) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (877).

1. النفاق والمنافقون (١-٨).

2. توجيهاتٌ للتحصين من النفاق (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /171).

مقصدُ هذه السورة عظيم جدًّا؛ وهو التحذيرُ من النفاق وأهله، ومطالبة المؤمنين بصدقِ الأقوال والأفعال، والحرص على مطابقة الظاهر للباطن.

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: كمالُ التحذير مما يَثلِمُ الإيمانَ من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يَقدَح في الإسلام من الأحوال الظاهرة؛ بمخالفة الفعلِ للقول؛ فإنه نفاقٌ في الجملة، فيوشك أن يجُرَّ إلى كمال النفاق، فيُخرِج من الدِّين، ويُدخِل الهاوية.

وتسميتها بالمنافقين واضحةٌ في ذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /87).