تفسير سورة النّور

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل

تفسير سورة سورة النور من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾ ؛ أي هذهِ سورةٌ أنزَلْنَا جبريلَ عليه السلام بها، وقرأ طلحةُ بن مُصَرِّف (سُورَةً) بالنصب على معنى : أنْزَلْنَا سورةً كما يقالُ : زيداً ضربتهُ، ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الإغراءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :(فَرَضْنَاهَا) أي أوْحَيْنَا فيها أحْكَاماً وفرائضَ مختلفة عليكمُ وعلى مَن بعدَكم إلى يوم القيامةِ، وجَحَدَ من قرأ بالتخفيفِ، قولهُ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ﴾[القصص : ٨٥] أي أحكامَ القُرْآنِ، والتشديدُ في (فَرَّضْنَاهَا) لكثرةِ ما فيها من الفرائضِ. قال مجاهدُ :(يَعْنِي الأَمْرَ بالْحَلاَلِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْحَرَامِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي دلاَلاتٍ واضحاتٍ على وحدانيَّتنا وأحكامِنا لكي تتَّعِظُوا فتعمَلُوا بما فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ ؛ قال سِيْبَوَيْهِ :(مَعْنَاهُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَيْكُمْ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ؛ لأنَّهُ لَوْلاَ ذلِكَ لِنُصِبَ بالأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ :﴿ فَاجْلِدُواْ ﴾ ). والْجَلْدُ في اللُّغة : ضَرْبُ الْجِلْدِ، يقالُ : جَلَدَهُ ؛ إذا ضَرَبَ جِلدَهُ ورأسَهُ، إذا ضَرَبَ رَأسَهُ وَبَطْنَهُ، إذا ضَرَبَ بَطْنَهُ.
ومعنى الآيةِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حُرَّيْنِ بالِغَين عاقلَين بكْرَين غيرِ مُحصنين، فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. فأمَّا إذا كانا مَملُوكَين، فيُحَدُّ كلُّ واحدٍ منهما خمسونَ جلدةً في الزِّنا لقولهِ تعالى في الإمَاءِ :﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾[النساء : ٢٥] يعني إذا عَقِلْنَ فعليهنَّ نصفُ حدِّ الحرائرِ.
وإذا كان الزَّانِي مُحصِناً فحدُّهُ الرجمُ ؛ لأنَّ رسولَ الله ﷺ رَجَمَ مَاعِزَ بنَ مالك الأسلمِيِّ بزِنَاهُ، وكان قد أحْصَنَ. وكانَ عمرُ عليه السلام يقولُ :(إنِّي لأَخْشَى إنْ طَالَ الزَّمَانُ أنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى، فَيَضِلُّواْ بتَرْكِ الْفَرِيْضَةِ أنْزَلَهَا اللهُ، وَقَدْ قَرَأنَا :[الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ] وَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَلَوْلاَ أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : زَادَ عُمَرُ فِي كِتَاب اللهِ لَكَتَبْتُ ذلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ الْكِتَاب). واجتمعتِ الأمةُ على رجمِ الْمُحْصَنَيْنِ إذا زَنَيَا إلاّ الخوارجَ.
وأما الإحصانُ في هذا فهو أن يكونَ حُرّاً بالِغاً عاقلاً مُسلماً قد تزوَّجَ قبلَ ذلك نِكاحاً صحيحاً، ودخلَ بزوجتهِ في وقتٍ كانا جميعاً فيه على صفةِ الإحصانِ، وهذا قولُ أبي حنيفةَ ومحمَّد، فإنَّهما يشرُطانِ هذه الشَّرائطَ السبعةَ في إحصانِ الزَّانِي.
وأما أبو يوسُفَ فلا يجعلُ الإسلامَ من شرائطِ الإحصانِ، ولا يشترطُ كونُهما على صفةِ الإحصانِ وقتَ الدُّخولِ في النكاحِ الصحيح، فجعلَ الرجلَ البالغَ العاقل المسلمَ مُحْصَناً بالدخولِ بزوجتهِ الأَمَةِ والصبيَّة والكتابيَّة، ويجعلُ الزوجينِ الرَّقيقين محصَنين بالدخولِ في النكاحِ الذي بينَهم إذا أُعْتِقَا بعدَ ذلك، فإن لَم يوجد الدخولُ في ذلك النكاحِ بعد العِتْقِ إلى أن زَنَى واحدٌ منهما، فهُمَا غيرُ محصَنين عندَهُ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه :" أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَاب جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ : أنْشُدُكَ اللهُ إلاَّ قَضَيْتَ لِي بكِتَاب اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَاب اللهِ، فَقَالَ :ﷺ :" قُلْ " قَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيْفاً عَلَى هَذا، فَزَنَى بامْرَأتِهِ، وَإنِّي أُخْبرْتُ أنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُهُ بمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيْدَةٍ، فَسَأَلْتُ أهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيْبَ عَامٍ، وَأنَّ عَلَى امْرَأةِ هَذا الرَّجْمَ، فَقَالَ ﷺ :" وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَاب اللهِ، الْوَلِيْدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أنَسُ إلَى امْرَأةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " قَالَ : فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ ؛ فَأَمَرَ بهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَرُجِمَتْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ، دَخَلُواْ الْمَدِيْنَةَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ وَلا مَالٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَلاَ أهْلٌ يَأْوُونَ إلَيْهِمْ، وَفِي الْمَدِيْنَةِ بَاغِيَاتٌ سَافِحَاتٌ يَكْرِيْنَ أنْفُسَهُمَّ وَيَضْرِبْنَ الرَّايَاتِ عَلَى أبْوَابهِنَّ يَكْتَسِبْنَ بذلِكَ، وَكَانَ أُوْلَئِكَ الْمُهَاجِرِيْنَ الْفُقَرَاءَ يَطْلُبُونَ مَعَايشَهُمْ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ باللَّيْلِ، فَقَالُواْ : لَوْ تَزَوَّجْنَا مِنْهُنَّ فَعِشْنَا مَعَهُمْ إلَى يَوْمِ يُغْنِيْنَا اللهُ عَنْهُنَّ، وَقَصَدُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ وَيَنْزِلُواْ مَنَازِلَهُنَّ، وَيَأْكُلُواْ مِنْ كَسْبِهنَّ، فَشَاوَرُواْ النَّبيَّ ﷺ فِي ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَنُهُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى أنْ يُحِلُّوهُنَّ وَالزِّنَا).
والمعنى : لا يرغبُ في نكاحِ الزانية إلاّ زَانٍ مثلُها، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾[النور : ٢٦] مَيْلُ الخبيثِ وميلُ الطيِّب إلى الطيب، وقد يقعُ الطيبُ مع الخبيثِ، لكن الأعمَّ والأغلبَ ما ذكرنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي حُرِّمَ على المؤمنينَ تزويجُ تلك الباغياتِ المعلِنات بالزِّنا، وفيه بيانُ أن مَن يتزوجُ بامرأةٍ منهنَّ فهو زَانٍ، فالتحريمُ كان خاصَّة على أولئكَ دون الناسِ.
ومذهبُ سعيدِ بن المسيَّب : أنَّ التحريمَ كان عامّاً عليهم وعلى غيرِهم، ثُم نُسِخَ التحريمُ بقولهِ تعالى﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾[النور : ٣٢]، فإن تزوجَ الرجلُ امرأةً وعاينَ منها الفجُورَ لَم يكن ذلك تَحريْماً بينَهما ولا طَلاقاً، ولكنه يُؤْمَرُ بطلاقِها تَنَزُّهاً عنها، ويخافُ عليه الإثمَ في إمساكِها ؛ لأن اللهَ تعالى شَرَطَ على المؤمنين نكاحَ الْمُحصَناتِ من المؤمناتِ.
" ورويَ أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ امْرَأتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ! فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ :" طَلِّقْهَا " فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا، وَأخَافُ إنْ طَلَّقْتُهَا أنْ أُصِيْبَها حَرَاماً، فَقَالَ لَهُ :" أمْسِكْهَا إذاً ". إلاّ أنَّ هذا الحديثَ فيه خلافُ الكتاب ؛ لأن اللهَ تعالى أذِنَ في نكاحِ الْمُحصَناتِ، ثُم أنزلَ اللهُ في القاذفِ لامرأته آيةَ اللِّعانِ، وسَنَّ رسولُ الله ﷺ التفريقَ بينهما، ولا يجتمعان أبداً، فكيفَ يأمرهُ بالوقفِ على عاهرةٍ لا تَمتنعُ عمَّن أرادَها، والحديثُ الذي ذُكِرَ لَم يصِحَّ عن رسولِ الله ﷺ، ثُم إنْ صَحَّ فتأويلهُ أنَّها امرأةٌ ضعيفةُ الرَّأيِ في تضييعِ مال زوجِها، فهي لا تَمْنعهُ مِن طالبٍ ولا تحفظهُ من سارقٍ، وهذا التأويلُ أشبهُ بالنبيِّ ﷺ وأحرَى لحديثهِ. ويحتملُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ إشارةً إلى الزِّنا.
وعن عمرٍو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَرْثَدَ الْغَنَوِيِّ، كَانَ قَدْ أمَرَهُ النَّبيُّ ﷺ وَكَانَ يَحْمِلُ ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، وَمِنَ الْمَدِيْنَةِ إلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدِيْقَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا : عِنَاقٌ، فَلَقِيَتْهُ بمَكَّةَ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَأَبَى وَقَالَ : إنَّ الإسْلاَمَ قَدْ حَالَ دُونَ ذلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ : فَانْكَحْنِي، فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَسَعَتْ بهِ إلَى الْمُشْرِكِيْنَ، فَهَرَبَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأخْبَرَ النِّبيَّ ﷺ وَشَاوَرَهُ فِي تَزَوُّجِهَا، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾ ؛ أي يرمُونَهم بالزنا، ﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾ ؛ على صحَّة قَذْفِهم إياهُنَّ بالزنا، ﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾. والْمُحْصَنَاتُ : الحرائرُ الْمُسلِماتُ البالغاتُ العاقلات العفيفاتُ عن فعلِ الزِّنا. وفي ذكرِ عدد الأربعةِ من الشُّهود دليلٌ على أن المرادَ القذفُ بصريحِ الزنا ؛ لأن هذا العددَ لا يُشترط إلاّ في الزِّنا، ولا يقبلُ في ذلكَ شهادةُ النساءِ. وفي الآيةِ دليلٌ على أن مَن قَذفَ جماعةً من الْمُحصَناتِ لَم يُضرب إلاّ حدّاً واحداً، وإذا كان القاذفُ عبداً فحدُّهُ النِّصفُ كما بَيَّنَّا في حدِّ الزنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ ؛ يعني المحدودين في القذفِ لا تقبلُ شهادتُهم أبداً، ﴿ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي الخارجونَ عن طاعةِ الله برَمْيهِمْ إياهُنَّ زُوراً وكَذِباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ ﴾ ؛ أي نَدِمُوا على قَذْفِهم وعَزَمُوا على تركِ الْمُعَاوَدَةِ ﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ ؛ أعمالَهم فيما بينَهم وبين ربهم، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَن تابَ منهم، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ.
قال ابنُ عبَّاس :(هَذا الاسْتِثْنَاءُ لاَ يَرْجِعُ إلَى الشَّهَادَةِ، وَإنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْفِسْقِ). وَقِيْلَ : إنَّ توبتَهُ فيما بينه وبينَ اللهِ مقبولةٌ، وأما شهادتهُ فلا تقبلُ أبداً، وهو قولُ شُريحٍ والحسن وإبراهيمَ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ.
وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الاستثناءَ راجعٌ إلى الفسقِ وإلى ردِّ الشهادةِ، ويكون معنى قولهِ تعالى (أبَدَاً) ما دامَ على القذفِ ولَم يَتُبْ عنهُ. وأجْمَعُوا جميعاً أنَّ هذا الاستثناءَ لا يرجعُ إلى الْجَلْدِ، وذلك يقتضي أن يكونَ مَقْصُوراً على ما يَلِيْهِ وهو الفسقُ.
وأجْمَعُوا أن المقذوفةَ إذا ماتت ولَم تُطالِبْ بحدِّ القذفِ ولَم يُحَدَّ القاذفُ ثُم تابَ، فإنهُ يجوز قَبولُ شهادتهِ ؛ لأن على أصْلِنا أنَّ الحاكمَ إذا أقامَ الحدَّ على القاذفِ فكذبَهُ وأبطلَ حينئذٍ شهادتَهُ، ولو جُعِلَ بطلانُ الشهادةِ حُكماً معلقاً بتسمية الفسق ولم يجعل حكماً على حالهِ مرتَّباً على الجلدِ لبطُلَتْ فائدةُ قولهِ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾[النور : ٤] من كتاب الله ؛ لأن كلَّ فاسقٍ لا تقبلُ شهادتهُ إلاّ بعد توبتهِ عن الفسقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ؛ الآيةُ، " وذلكَ أنَّ اللهَ سُبحانه لَمَّا أنزلَ الآيةَ التي قبلَ هذه الآيةِ في قذفِ الْمُحصَنات وشَرَطَ فيها الإتيانَ بأربعةِ شهداءَ وإلاّ جُلِدَ ثَمانين جلدةً، قَرَأهَا النبيُّ ﷺ على الْمِنْبَرِ.
فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ : يَا رَسُولَ اللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، أرَأيْتَ إنْ رَأى رَجُلٌ مِنَّا مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلاً عَلَى بَطْنِهَا، فَأَرَادَ أنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ فَيَجِيْءَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ، وَإنْ هُوَ عَجَّلَ فَقَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ، وَإنْ تَكَلَّمَ بذلِكَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإنْ سَكَتَ ؛ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ شَدِيْدٍ ؟
فَقَالَ ﷺ :" كَفَى بالسَّيْفِ " أرَادَ أنْ يَقُولَ شَاهِداً، فَأُرْسِلَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ بالسُّكُوتِ، فَأَمْسَكَ لِئَلاَّ يَتَسَارَعَ أحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إلَى قَتْلِ أزْوَاجِهِمْ. "
وقال ابنُ عبَّاس :[ " لَمَّا نَزَلَتْ :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [النور : ٤]، قَرَأهَا النَّبيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ مَقَالَتَهُ الَّتِي ذكَرْنَاهَا - وَقَالَ : يَا رَسُولَ الله! كَيْفَ لَنَا بالشُّهَدَاءِ وَنَحْنُ إذا الْتَمَسْنَاهُمْ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ. وَكَانَ لِعَاصِمٍ هَذا ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرَ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بنْتُ قَيْسِي، فَأَتَى عُوَيْمِرُ عَاصِماً فَقَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُ شُرَيْكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأتِي خَوْلَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أسْرَعَ مَا ابْتُلِيْتُ بالسُّؤَالِ الذَِّي سَأَلْتُ فِي الْجُمُعَةِ الْمَاضِيَةِ فِي أهْلِ بَيْتِي ؟ فَقَالَ ﷺ :" وَمَا ذاكَ ؟ " قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أخْبَرَنِي عُوَيْمِرُ أنَّهُ رَأى شُرَيْكَ بْنَ سَحْمَاء عَلَى بَطْنِ امْرَأتهِ خَوْلَةَ.
وكَانَ عُوَيْمِرُ وَخَوْلَةُ وَشُرَيْكٌ كُلُّهُمْ بَنِي عَمِّ عَاصِمٍ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بهِمْ جَمِيْعاً، وَقَالَ لِعُوَيْمِر :" اتَّقِ اللهَ ؛ اتَّقِ الله فِي زَوْجَتِكَ وَخَلِيْلَتِكَ وَابْنَةِ عَمِّكَ فَلاَ تُعَذِّبْهَا بالْبُهْتَانِ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أُقْسِمُ باللهِ أنِّي رَأيْتُ شُرَيْكاً عَلَى بَطْنِهَا. فَقَالَ ﷺ :" اتَّقِ اللهَ وَأخْبريْنِي بمَا صَنَعْتِ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ عُوَيْمِراً رَجُلٌ غَيُورٌ، وَإنَّهُ رَآنِي وَشُرَيْكاً نَتَحَدَّثُ، فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى مَا قَالَ "
وروى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس :" لَمَّا نَزَل قَوْلُهُ :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [النور : ٤] قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : وَاللهِ لَوْ أتَيْتُ لُكَاعَ وَقَدْ تَفَخَّذهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أنْ أقْتُلَهُ وَلاَ أُهَيِّجَهُ وَلاَ أُخْرِجَهُ حَتَّى آتِيَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَلَمْ يَأْتِ بهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ وَيَذْهَبَ! فَإنْ قُلْتُ بمَا رَأيْتُ ضَرَبْتُمْ ظَهْرِي ثَمَانِيْنَ جَلْدَةَ!
فَقَالَ ﷺ :" يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار ألاَ تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ! ؟ " قَالُوا : لاَ تَلُمْهُ فَإنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، مَا تَزَوَّجَ امْرَأةً قَطُّ إلاَّ بكْراً، وَلاَ طَلَّقَ امْرَأةً فَاجْتَرَأ أحَدٌ مِنَّا أنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ! بأَبي وَأُمي أنْتَ، وَاللهِ إنِّي لأَعْرِفُ أنَّهَا مِنَ اللهِ وَأنَّهَا لَحَقٌّ، وَلَكِنَّنِي عَجِبْتُ مِنْ ذلِكَ. فَقَالَ ﷺ :" واللهُ يَأْبَى إلاَّ ذلِكَ ؟ " فَقَالَ : صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَلَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ يَسِيْراً حَتَّى جَاءَ هِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةً إلَى رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أصْحَابهِ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي جِئْتُ أهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي يَزْنِي بهَا، رَأيْتُ بعَيْنِي وَسَمِعْتُ بأُذُنِي. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا أتَى بهِ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ ذلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ هِلاَلُ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي لأَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِكَ لِمَا أتَيْتُكَ بهِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أنِّي لَصَادِقٌ وَمَا قُلْتُهُ إلاَّ حَقّاً، وإنِّي لأَرْجُو أنْ يَجْعَلَ اللهُ لِي فَرَجاً، فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَضْرِبَهُ الْحَدَّ.
وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ وَقَالُواْ : ابْتُلِيْنَا بمَا قَالَ سَعْدُ عُبَادَةَ إلاَّ أنْ يَجْلِدَ هِلاَلاً. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُرْيْدُ أنْ يَأْمُرَ بضَرْبهِ، إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأَمْسَكُواْ عَنِ الْكَلاَمِ حِيْنَ عَرَفُواْ أنَّ الْوَحْيَ قَدْ نَزَلَ. فَلَمَّا فَرَغَ تَلاَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ... ﴾ إلَى آخِرِ الآيَاتِ، فَقَالَ ﷺ :" أبْشِرْ يَا هِلاَلُ ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرَجاً " فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أرْجُو ذلِكَ مِنَ اللهِ.
فَقَالَ ﷺ :" أرْسِلُواْ إلَيْهَا " فَجَاءَتْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَتْ : كَذبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ هِلاَلُ : يَا رَسُولَ اللهِ! مَا قُلْتُ إلاَّ حَقّاً وَإنِّي لَصَادِقٌ، فَقَالَ ﷺ :" اللهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ " فَقَالَ هِلاَلُ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَذبْتُ. فَقَالَ ﷺ :" لاَعِنُواْ بَيْنَهُمَا ".
فَقِيْلَ لِهِلاَلِ : اشْهَدْ باللهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ إنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ، فَقَالَ هِلاَلُ : أشْهَدُ باللهِ إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَيْتُهَا بهِ، قَالَ ذلِكَ أرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ :" اتَّقِ اللهَ يَا هِلاَلُ، فَإنَّ عَذابَ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِنْ عَذاب الآخِرَةِ، وَإنَّ عَذابَ اللهِ أشَدُّ مِنْ عَذاب النَّاسِ، وَإنَّ هَذِهِ الْخَامِسَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكُمَا الْعَذابَ ". فَقَالَ هِلاَلُ : وَاللهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنَ الزِّنَا.
ثُمَّ قِيْلَ لِلْمَرْأةِ : اشْهَدِي أنْتِ، فَقَالَتْ أرْبَعَ مَرَّاتٍ : أشْهَدُ باللهِ إنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَانِي بهِ مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ لَهَا النَّبيُّ ﷺ عِنْدَ الْخَامِسَةِ :" اتَّقِ اللهَ فَإنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَإنَّ عَذابَ اللهِ أشَدُّ مِنْ عَذاب النَّاسِ " فَسَكَتَتْ سَاعَةً وَهَمَّتْ بالاعْتِرَافِ، ثُمَّ قَالَتْ : وَاللهِ لاَ أفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنَ الزِّنَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أنَّ الْوَلَدَ لَهَا وَلاَ يُدْعَى لأَبٍ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : وَإنْ جَاءَتْ بهِ كَذا وَكَذا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإنْ جَاءَتْ بهِ كَذا وَكَذا فَهُوَ لِلَّذِي قِيْلَ فِيْهِ ". فَجَاءَتْ بهِ غُلاَماً أحْمَرَ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أوْرَقُ عَلَى الشَّبَهِ الْمَكْرُوهِ، وَكَانَ بَعْدَ ذلِكَ أمِيْراً عَلَى مِصْرَ لاَ يَدْرِي مَنْ أبُوهُ ".
قَوْلُهُ :﴿ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾ ؛ أي يدفعُ عنها الحدَّ :﴿ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ ؛ وقرأ حفصٌ :(وَالْخَامِسَةَ) بالنصب، كأنهُ قال : وَشَهِدَ الْخَامِسَةَ. وقُرِئ (فَشَهَادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهَادَاتٍ) بالرفع في قوله (أرْبَعُ) على أنَّها خبرُ المبتدأ، ويقرأُ بالنصب على معنى : فَشَهَادَةُ أحَدِهِمْ أنَّ يَشْهَدَ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ ؛ محذوفُ الجواب ؛ تقديرهُ : لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَفَضَحَكُمْ بما تركبونَ من الفواحشِ، ولعجَّلَكم بالعقوبةِ من غيرِ إمهالٍ، ولَبَيَّنَ الصادقَ من الكاذب، فيقامُ الحدُّ على الكاذب ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي تَوَّابٌ على من رجعَ عن معاصي الله، حَكِيْمٌ فيما فرضَ من الحدودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ وذلكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إذا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ إلَى سَفَرٍ أقرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطلِقِ، فَخَرَجَ فِيْهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَذلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ كُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُحْمَلُ فِيْهِ حَتَّى إذا فَصَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ غَزْوَتِهِ وَرَجَعَ وَدُرْنَا إلَى الْمَدِيْنَةِ.
فَلَمَّا كَانَ ذاتَ لَيْلَةٍ قُمْتُ حِيْنَ آذنُوا بالرَّحِيْلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أقْبَلْتُ إلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْري فَإذا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ، وَكَانَ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ، فَرَجَعْتُ ألْتَمِسُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ.
فَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَحَمَلُواْ هَوْدَجِي عَلَى بَعِيْرِي الَّذِي كُنْتُ أرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنِّي فِيْهِ، وَكُنَّ نِسَاءً إذْ ذاكَ خِفَافاً لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثُقْلَ الْهَوْدَجِ حِيْنَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَاريَةٌ حَدِيْثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُواْ الْجَمَلَ وَسَارُواْ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيْبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ، وظَنَنْتُ أنَّ الْقَوْمَ يَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ.
فَبَيْنَمَا أنَا جَالِسَةٌ فِي مَجْلِسِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَى إلَيَّ فَعَرَفَنِي حِيْنَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ رَآنِي قَبْلَ أنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إلاَّ باسْتِرْجَاعِهِ حِيْنَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بجِلْبَابي، فَوَاللهِ مَا كَلَّمَنِي بكَلِمَةٍ غَيْرِ اسْتِرْجَاعِهِ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطَأْتُ عَلَى يَدِهَا وَرَكِبْتُهَا، وَانْطَلَقَ يَقُودُ فِي الرَّاحِلَةِ حَتَّى أتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُواْ وَقْتَ الظَّهِيْرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلْكَ فِي شَأْنِي، وخَاضَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ وَمُسْطَحُ بْنُ أثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنْتُ جَحْشٍ الأَسْدِيَّةُ فِي ذلِكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
فَقَدِمْتُ الْمَدِيْنَةَ، فَأَصَابَنِي مَرَضٌ حِيْنَ قَدِمْتُهَا شَهْراً، وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، وَلاَ أشْعُرُ بشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَزُورُنِي فِي وَجْهِي لاَ أرَى مِنْهُ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أرَى مِنْهُ إذا مَرِضْتُ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ، إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فَيَقُولُ :" كَيْفَ تِيْكُمْ ؟ " فَذلِكَ يُحْزِنُنِي وَلاَ أشْعُرُ بالسِّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقْهْتُ.
فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مْسطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهِيَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلاَ نَخْرُجُ إلاَّ مِنْ لَيْلٍ إلَى لَيْلٍ، وَذلِكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذ الْكْنُفَ، وَأمْرُنَا أمْرُ الْعَرَب الأَوَّلِ فِي التَّبَرُّزِ. فَانْطَلَقْتُ أنَا وَأُمُّ مُسْطَحٍ - وَهِيَ عَاتِكَةُ بنْتُ رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بنْتُ صَخْرٍ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ، وَابْنُهَا مِسْطَحْ بْنُ أثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب - فَأَقْبَلْنَا حَتَّى فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الطَّرِيْقِ عَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مُرْطِهَا فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٍ! فَقُلْتُ لَهَا : بئْسَ مَا قُلْتُ! أتَسُبيْنَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً ؟ قَالَتْ : أي هَنَتَاهُ، أي أوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : وَمَاذا قالَ ؟ فَأْخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضاً إلَى مَرَضِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ﴾ ؛ أي هَلاَّ إذْ سَمِعْتُمُوهُ أنَّها العُصبة الكاذبةُ ؛ أي هَلاَّ إْ سَمعتُم قذفَ عائشةَ بصفوان، ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ من العُصبةِ الكاذبةِ يعني حَمْنَةَ بنْتَ جَحْشٍ وحَسَّانَ ومُسْطَحٍ بأنفُسِهم خَيراً. قال الحسنُ :(بأَهْلِ دِيْنِهِمْ لأَنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ). ألا ترَى ظنَّ المؤمنونَ الذي هُم كنفسٍ واحدة فيما جرَى عليها من الأمور بأنفسهم خيراً، ﴿ وَقَالُواْ هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي كَذِبٌ ظاهرٌ بَيِّنٌ.
ورُوي : أن المرادَ بهذه الآيةِ أبو أيُّوب الأنصاريُّ وامرأتهُ أُمُّ أيوب، قَالَتْ : أمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ : بَلْ وَذلِكَ الْكَذِبُ الْبَيِّنُ، أرَأيْتِ يَا أُمَّ أيُّوبَ كُنْتِ تَفْعَلِيْنَ ذلِكَ ؟ قَالَتْ : لاَ ؛ وَاللهِ مَا كُنْتُ أفْعَلُهُ، قَالَ : فَعَائِشَةُ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ، سُبْحَانَ اللهِ! هَذا بُهْتَانٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. والمعنى : هلاَّ إذا سَمعتموهُ ظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتُ بأنفسِهم خيراً كما فعلَ أبو أيُّوب وامرأتهُ قالاَ فيها خيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾ ؛ أي هَلاَّ جاءَ العُصبة الكاذبةُ على قذفِهم عائشةَ بأربعةِ شُهَداءَ يشهدون بأنَّهم عايَنُوا منها ذلكَ، ﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ ؛ أخبرَ اللهُ تعالى أنَّهم كاذبونَ في قذفِها، يعني : إنَّهم كاذبونَ في الظاهرِ والباطن، وكفَى بهذا براءةً لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فمَن جَوَّزَ صِدْقُ أولئكَ في أمرِ عائشة صارَ كافراً باللهِ لا محالةَ ؛ لأنه رَدَّ شهادةَ اللهِ لَها بالبراءةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ معناه : لولاَ مِنَّةُ اللهِ وإنعامه عليكم فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ بتأخيرِ العذاب عنكم، وقَبُولِ التوبةِ لِمَنْ تابَ لَمَسَّكُمْ فيما خُضْتُمْ فيه من الإفْكِ عذابٌ عظيم هائلٌ في الدنيا والآخرة لا انقطاعَ له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ ؛ قال الكلبيُّ :(وَذلِكَ أنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ : بَلَغَنِي كَذا وَكَذا، وَيَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّياً)، قال الزجَّاج :(يُلْقِيَهُ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ)، ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ؛ ولا بيانٌ ولا حجَّة، ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً ﴾ ؛ أي تظنُون أن ذلك القذفَ سهلٌ لا إثمَ فيه ﴿ وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ ؛ في الوِزْر والعقوبةِ. قرأ أُبَيُّ :(إذْ تَتَلَقَّوْنَهُ) بتاءَين، وقرأت عائشةُ (إذْ تَلِقُونَهُ) بكسرِ اللام وتخفيفِ القاف مِن الْوَلِق، والوَلَقُ الكَذِبُ، يقالُ : وَلَقَ فلانٌ إذا استمرَّ على الكذب، ووَلَقَ فلانٌ السِّرَّ إذا استمرَّ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا ﴾ ؛ معناه : هَلاَّ قُلْتُمْ حينَ سَمعتُم ذلكَ : لا يحلُّ لنا أن نتكلَّمَ بهذا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ ؛ أي تَنْزِيْهاً للهِ تعالى أن تكون امرأةُ نَبيِّهِ زانيةً، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أي كَذِبٌ، يقالُ : بَهَتَهُ يَبْهَتُهُ بَهْتاً وبُهْتَاناً ؛ إذا أخبرَهُ بالكذب عليه.
وقولهُ تعالى :﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً ﴾ ؛ أي يَنْهَاكُمُ اللهُ ويخوِّفُكم ويحرِّمُ عليكم أن تعودُوا لِمثل هذا القذفِ، ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ؛ لأن قذفَ الْمُحصَنات لا يكونُ من صفاتِ المؤمنين، وقولهُ تعالى ﴿ لِمِثْلِهِ ﴾ أي إلَى مِثْلِهِ. قولهُ تعالى :﴿ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ﴾ ؛ أي الأمرَ والنهيَ، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بمقالة الكاذِبين في أمرِ عائشةَ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ في ما شَرَّعَ من الأحكامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ فيه بيانٌ على أن العزمَ على الفسقِ فسقٌ، وأنَّ على الإنسانِ أن يحبَّ للناسِ ما يحبُّ لنفسهِ، وأن يكونَ في قلبهِ سلامةٌ للمؤمنين، كما يكونُ مأموراً بكفِّ اللسان والجوارحِ. ومعنى الآيةِ : إن الذين يُحِبُّونَ أن يَفْشُو ويظهرَ الزِّنا في الذينَ آمَنوا بأن يَنْسِبُوهُ إليهم ويقذِفُوهم به، ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا ﴾ ؛ يعني الجلدَ، ﴿ وَالآخِرَةِ ﴾ ؛ يعني عذابَ النار، يريدُ بذلك المنافقينَ، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ ؛ ما خُضْتُمْ فيه من الإفكِ، وما فيه من سَخَطِ اللهِ، ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ ذلكَ، فَحَذرَ رسولُ الله ﷺ جميعَ قاذِفِي عائشةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ محذوفُ الجواب تقديرهُ :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ لَعَجَّلَ لكمُ العذابَ وعاقَبَكم في ما قُلْتُمْ في أمرِ عائشةَ ومحبَّتكم إشاعةَ الفاحشةِ فيها، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ فلَمْ يُعاقِبْكم في ذلك. قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ مُسْطَحَ وَحَسَّانَ وَحَمْنَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ ؛ أي لا تَسْلُكُوا طُرُقَ الشَّيطانِ، ولا تعمَلُوا بتزْيينه ووَسْوَسَتِهِ في قذفِ عائشةَ، ﴿ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ ؛ يأمرُ بعصيانِ الله وكلِّ ما يكرهُ اللهُ مما لا يُعْرَفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ. وَقِيْلَ : الفحشاءُ : القَبيْحُ من القولِ والعمل، والمنكرُ : الفسادُ الذي يُنْكِرُ العقلُ صحَّتَهُ ويزجرُ عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ أي ما صَلُحَ منكم من أحدٍ أبداً. وَقِيْلَ : معناهُ : ما طَهُرَ منك أحدٌ يُذْنِبُ ولا صَلُحَ أمرهُ بعد الذي قالَ في عائشةَ ما قالَ، ولا قَبلَ توبةَ أحدٍ منكم، ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يُطَهِّرُ مَن يشاءُ من الإثمِ بالرحمةِ والمغفرة، فيوفِّقهُ للتوبةِ، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ ؛ أي سَمِيْعٌ لِمقالَتِكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بما في نُفوسِكم من النَّدامةِ والتوبة. وَقِيْلَ : معناهُ : سَمِيْعٌ لِمقالة الخائضِين في أمرِ عائشةَ وصفوان، عَلِيْمٌ ببَراءتِهمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي لا يَخْلِفُ ذوُو الغِنَى والسَّعَةِ منكم أن يُعطوا ذوي القُربَى والمساكين والمهاجرينَ من مكَّة إلى المدينةِ. نَزَلَ ذلكَ في أبي بَكْرٍ رضي الله عنه حين بَلَغَهُ مقالةُ مُسْطَحٍ وأصحابه في خَوْضِهِمْ في أمر عائشةَ، حَلَفَ باللهِ لاَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.
قِيْلَ : إنَّهُ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ :(أغْدُوكَ يَا مِسْطَحُ بمَالِي وَتُؤْذِيْنِي فِي وَلَدِي ؟ وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْكَ). وكان مِسْطَحُ ابنَ أبي بكرٍ رضي الله عنه، وكان مِسْطَحُ مِن المهاجرين البدريِّين. فلمَّا نزلت هذه الآيَةُ تَلاَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ :(بَلَى ؛ أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، أُطِيْعُ رَبي وَأُرْغِمُ أنْفِي وَأرُدُّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ).
وقولهُ تعالى ﴿ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى ﴾ معناهُ : أن لا يؤتُوا فحذفَ (لا). قال ابنُ عباس :(قَالَ اللهُ لأَبي بَكْرٍ رضي الله عنه : قَدْ جَعَلْتُ فِيْكَ يَا أبَا بَكْرٍ الْفَضْلَ وَالْمَعْرِفَةَ باللهِ وَصِلَةَ الرَّحِمِ، وَجَعَلْتُ عِنْدَكَ السَّعَةَ فَأُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ، فَلَهُ قَرَابَةٌ وَلَهُ هِجْرَةٌ وَلَهُ مَسْكَنَةٌ). وقولهُ تعالى :﴿ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ قال مقاتلُ :" قَالَ النَّبيُّ ﷺ لأَبي بَكْرٍ :" أمَا تُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكَ ؟ " قَالَ : بَلَى، قَالَ :" فَاعْفُ وَاصْفَحْ " قَالَ : قَدْ عَفَوْتُ وَصَفَحْتُ، لاَ أمْنَعُهُ مَعْرُوفِي بَعْدَ الْيَوْمِ أبَداً، وَقَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ ﴾ ؛ معناهُ : إن الذينَ يقذِفُون العفائفَ الغافلاتِ عمَّا قُذِفْنَ بهِ كغَفْلَةِ عائشةَ عن ما قيلَ فيها، ﴿ الْمُؤْمِناتِ ﴾، باللهِ ورسوله، ﴿ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾ ؛ أي عُذِّبُوا في الدُّنيا بالحدِّ، وفي الآخرةِ بعذاب النار. وسُمِّيت عائشةُ غافلةً ؛ لأنَّها قُذِفَتْ بأمرٍ لَم يخطُرْ ببالِها، فأصابَ كلُّ واحدٍ مِن قاذفيها ذاهبةً في الدُّنيا. أمَّا ابنُ أُبَيِّ فقد ماتَ كافراً ونَهى النبيُّ ﷺ عن الصَّلاةِ عليهِ، وأما حَسَّانُ فقد دخلَ على عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا بعد ما ذهبَ بصرهُ في آخرِ عمره، وأنشدَها في بيتِها : حَصَانٌ رزَانٌ مَا تُزَنَّ برِيْبَةٍ وَتَصْبحُ غَرْثى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِقَالَتْ : إنَّكَ لَسْتَ كَذلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، قِيْلَ لِعَائِشَةَ : إنَّ اللهَ وَعَدَهُمْ بعَذابٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ؟ فَقَالَتْ : أوَلَيْسْ : هَذا عَذابٌ ؟ َيَعْنِي ذهابَ بصرهِ.
واختلفَ المفسِّرون في هذه الآية ﴿ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾ ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ فقال مقاتلُ :(هَذِهِ الآيَةُ خَاصَّةٌ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ وَرَمْيهِ عَائِشَةَ)، وقال ابنُ جبير :(هَذا الْحُكْمُ خَاصَّةً فِيْمَنْ فَذفَ عَائِشَةَ، فَمَنْ قَذفَهَا فَهُوَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ)، وقال الضحَّاك والكلبيُّ :(هَذا فِي عَائِشَةَ وَفِي جَمِْيْعِ أزْوَاجِ النَّبيِّ ﷺ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِيْنَ)، قال ابنُ عبَّاس :(هَذِهِ الآيَةُ فِي شَأْنِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ خَاصَّةً لَيْسَ فِيْهَا تَوْبَةٌ، وَأمَّا مَنْ قَذفَ امْرَأةً مُؤْمِنَةً مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ تَوْبَةً). ثُمَّ قَرَأ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾[النور : ٤] إلى قولهِ :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾[النور : ٥]، قَالَ :(فَجَعَلَ اللهُ لِهَوُلاَءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لأُوْلَئِكَ).
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قال :" مَنْ أشَاعَ عَلَى رَجُلٍ كَلِمَةً فَاحِشَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يُرِيْدُ أنْ يَسُبَّهُ بهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يَدُسَّهُ بهَا فِي النَّارِ. وَإيَّمَا رَجُلٍ جَاءَ فِي شَفَاعَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ لَعنَةُ اللهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ﴾ ؛ قال الكلبيُّ :(تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ألْسِنَتُهُمْ بمَا تَكَلَّمُواْ بهِ مِنَ الْفِرْيَةِ فِي قَذْفِ عَائِشَةَ) ﴿ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، قال ابنُ عبَّاس :(تَنْطِقُ بمَا عَمِلَتْ فِي الدُّنْيَا)، وهذه عامَّةٌ في القاذفِين وغيرِهم. قرأ حمزةُ والكسائيُّ :(يَوْمَ يَشْهَدُ) بالياء لتقدُّمِ الفعلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ﴾ ؛ أي يُوَفِّيهنَّ جزاءَهم الواجبَ على قدرِ أعمالِهم، ﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ ؛ أي ويعلمون يومئذٍ أنَّ الله تعالى هو الحقُّ الْمُبيْنُ، يقضِي بحقٍّ ويأخذُ بحقٍّ ويعطي بحقٍّ.
قال ابنُ عباس :(وَذلِكَ أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيَّ بْنَ سَلُولٍ كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّيْنِ، وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبيْنُ). قرأ مجاهدُ :(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهَمُ الْحَقُّ) برفعِ القاف على أنه نعتاً للهِ، وتصديقهُ قراءةُ أُبَيٍّ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الْحَقُّ دِيْنَهُمْ). وقولهُ تعالى ﴿ الْمُبِينُ ﴾ أي يُبَيِّنُ لَهم حقيقةَ ما كان بعدَهم في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ ﴾ ؛ معناه : الكلماتُ الخبيثات للخبيثينَ من الرِّجال ؛ أي لا يتكلمُ بالكلماتِ الخبيثات إلاّ الخبيثُ من الرجالِ والنساء. وَقِيْلَ : معناهُ : إن الخبيثَ مِن القولِ لا يليقُ إلاّ بالخبيثِ من الناس، وكلُّ كلامٍ إنَّما يحسنُ في أهلهِ، فيضافُ سَيِّءُ القولِ إلى مَن يليقُ به ذلك، وكذلك الطيَّبُ من القولِ، وعائشةُ لا يليقُ بها الخبيثاتُ ؛ لأنَّها طَيِّبَةٌ فيضافُ إليها طيِّباتُ الكلامِ من الثَّناءِ الحسنِ وما يليقُ بها.
وقال بعضُهم : معنى الآيةِ : الخبيثاتُ من النساءِ للخبيثينَ من الرِّجالِ، والخبيثونَ من الرجالِ للخبيثاتِ من النساء للمشاكَلَةِ التي بينَهما، والطيِّباتُ من النساءِ للطيِّبينَ من الرجالِ، والطيِّبُونَ للطيِّبات من النساءِ. وفي هذا تَبْرِئَةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ كان مِن أطيب الطيِّبين، فلا يكونُ له إلاَّ امرأةٌ طيِّبةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ ؛ يعني أن الطيِّبين والطيبات مُبْرَّؤُنَ مما يقولُ الخبيثونَ، والْمُبَرَّأُ هو الْمَنْفِيُّ عن صفةِ الْخُبْثِ، والمرادُ به عائشةُ وصفوان، فذكَرَهما بلفظِ الجماعة كما في قول تعالى﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ﴾[النساء : ١١] والمراد أخَوَانِ. وقولهُ تعالى ﴿ مُبَرَّءُونَ ﴾ أي مُنَزَّهُونَ. وقولهُ تعالى :﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ ؛ أي لَهم مغفرةٌ لذنوبهم وثوابٌ حَسَنٌ بإلْحَاقِهِمْ في الجنَّة من الأذِيَّةِ.
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت :(لَقَدْ أُعْطِيْتُ تِسْعاَ لَمْ يُعْطَهُنَّ امْرَأةٌ : نَزَلَ جِبْرِيْلُ بصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِيْنَ أمَرَ النِّبيَّ ﷺ أنْ يَتَزَوَّجَنِي، وَلَقَدْ تَزَوَّجَنِي بكْراً وَمَا تَزَوَّجَ بكْراً غَيْرِي، وَلَقَدْ قُبضَ وَرَأسُهُ فِي جِحْرِي، وَلَقَدْ قُبرَ فِي بَيْتِي، وَلَقَدْ حَفَّتِ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتِي، وَلَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ تَفَرَّقْنَ عَنْهُ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَأنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ، وَإنِّي لابْنَةُ خَلِيْفَتِهِ وَصَدِيقهِ، وَلَقَدْ نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً لِعَبْدٍ طَيِّبٍ، وَلَقَدْ وُعِدْتُ مَغْفِرَةً وَرِزْقاً كَرِيْماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ﴾ ؛ في الآيةِ أمرٌ بالتَّحَفُّظِ عن الهجومِ عن ما لا يُؤْمَنُ من العوراتِ، وإلى هذا " أشارَ النبيُّ ﷺ حيث قالَ للرَّجُلِ الذي قالَ لهُ : أسْتَأْذِنُ عَلَى أخَوَاتِي ؟ قَالَ :" إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنُ رَأيْتَ مِنْهَا مَا تَكْرَهُ " أيْ ربَّما تدخلُ عليها وهي منكشفَةٌ فترى ما تكرهُ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ أي حتى تَسْتَأْذِنُّوا، والاسْتِئْنَاسُ هو الاسْتِعْلاَمُ ليعلمَ مَن في الدارِ، وذلك يكون بقَرْعِ الباب والتَّنَحْنُحِ وخَفْقِ النَّعْلِ.
وكان أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابن عباس والأعمشُ يقرأونَها (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أهْلِهَا). وَقِيْلَ : إن في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ تقديرهُ : حتى تُسَلِّمُوا على أهلِها وتَسْتَأْذِنُوا، وهو أنْ يقولَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ أدْخُلُ؟.
ورُوي أنَّ " أعرابياً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : ألِجُ ؟ فَقَالَ ﷺ لِخَادِمَةٍ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةٌ :" قُومِي إلَى هَذا فَعَلِّمِيْهِ، فَإنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ، قُولِي لَهُ : تَقُولُ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ أدْخُلُ ؟ ".
وعن زينبَ امرأةِ ابن مسعود قالت :(كَانَ عَبْدُاللهِ إذا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إلَى الْبَاب تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ ؛ كَرَاهَةَ أنْ يَهْجُمَ عَلَيْنَا وَيَرَى أمْراً يَكْرَهُهُ). وعن أبي أيُّوب قالَ :(يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بالتَّكْبيْرَةِ وَالتَّسْبيْحَةِ وَالتَّحْمِيْدَةِ، وَيَتَنَحْنَحُ يُؤْذِنُ أهْلَ الْبَيْتِ).
ويُروى أنَّ أبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه أتَى إلَى مَنْزِلِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ هَذا عَبْدُاللهِ بْنُ قَيْسٍ ؛ هَلْ أدْخُلُ ؟ فَلَمْ يُؤْذنْ لَهُ، ثُمَّ قَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ هَذا أبُو مُوسَى. فَلَمْ يُؤْذنَ لَهُ، فَذهَبَ فَوَجَّهَ عُمَرُ بَعْدَهُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَسَأَلَهُ عَمَّا مَنَعَهُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فَارْجِعْ ". فَقَالَ : عُمَرُ رضي الله عنه : لَتَأْتِيَنِّي بالْبَيِّنَةِ وَإلاَّ عَاقَبْتُكَ! فَانْطَلَقَ أبُو مُوسَى وَأتَى بأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأبي سَعِيْدٍ الْخُدْريِّ فَشَهدَا بذلِكَ، وَقَالَ لَهُ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ ذلِكَ ؛ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذاباً عَلَى أصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ : وَمَا فَعَلْتُ؟! إنَّمَا أنَا سَمِعْتُ بشَيْءٍ فَأَحْبَبْتُ أنْ أتَثَبَّتَ.
ورُوي " أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ ﷺ : أأسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ :" نَعَمْ " قَالَ : لَيْسَ لَهَا خَادِمٌ غَيْرِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ ؟ قَالَ :" أتُحِبُّ أنْ تَرَاهَا وَهِيَ عَرْيَانَةٌ ؟ " قَالَ : لاَ، قَالَ :" فَاسْتَأْذِنْ ".
وَعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بغَيْرِ إذْنِهِمْ ؛ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَأُواْ عَيْنَهُ ". وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ ؛ أي قُلْ لَهُمْ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهِمْ عن النظرِ إلى ما لا يحلُّ لَهم. واختلفوا في قولهِ تعالى ﴿ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ فقال بعضُهم : هي صِلَةُ يغضُّوا أبصارَهم. وقال بعضُهم : هي ثابتةٌ في الحكمِ ؛ لأن المؤمنين غيرُ مأمورين بغضِّ البصرِ أصلاً وإنَّما أُمِرُوا بالغضِّ عمَّا لا يحلُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ﴾ ؛ يعني عن الحرامِ، قال ﷺ :" اضْمَنُوا لِي شَيْئاً مِنْ أنْفُسِكُمْ أضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ : اصْدُقُوا إذا حَدَّثْتُمْ، وَأوْفُوا إذا وَعَدْتُمْ، وَأدُّواْ إذا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُواْ فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّواْ أبْصَارَكُمْ، وَكُفُّواْ أيْدِيَكُمْ ".
وقال ﷺ :" النَّظَرُ إلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيْسَ، فَمَنْ رَدَّ بَصَرَهُ ابْتِغَاءَ ثَوَاب اللهِ أبْدَلَهُ اللهُ بذلِكَ مَا يَسُرُّهُ ". وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ ؛ أي أطهرُ وأصلحُ عندَ الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ ؛ في الفُروجِ والأبصارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ ؛ أي قُلْ لَهُنَّ يَكْفُفْنَ أبصارَهن عن ما لا يجوزُ، ﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ ؛ عن الحرامِ. وَقِيْلَ :﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ أي يَسْتَتِرْنَ حتى لا يرَى فروجهن أحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ ؛ أي لا يُبدينَ مواضعَ زينتِهنَّ إلاّ ما ظهرَ من موضعِ الزِّينة. والزِّيْنَةُ زينَتَانِ : ظَاهِرَةٌ وباطنةٌ، فالباطنةُ : الْمَخَانِقُ وَالْمَعَاضِدُ وَالْقِلاَدَةُ وَالْخِلْخَالُ وَالسِّوارُ وَالْقِرْطُ وَالْمَعَاصِمُ. وأما الزينةُ الظاهرةُ : الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْخِضَابُ، فليس على المرأةِ بحُكْمٍ إلاّ هذا بهِ سَتْرُ وجهِها وكفَّيها في الصلاة.
وفي غيرِ الصلاة يجوزُ للأجانب من الرِّجال النظرُ إلى وجهِها لغيرِ الشَّهوةِ. فأما النظرُ مع الشهوةِ فلا يجوزُ إلاّ في أربعةِ مواضع : إذا أرادَ أن يتزوَّج امرأةً، أو يشتريَ جاريةً، أو يتحمَّلَ الشهادةَ لَها أو عليها، أو القاضي يقضي لَها أو عليها.
وعن ابنِ مسعودٍ :(أنَّ الزِّيْنَةَ الظَّاهِرَةَ : هِيَ الْجِلْبَابُ وَالْمِلاَءَةِ) يَعْنِي الثِّيَابَ لقولهِ﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾[الأعراف : ٣١] أي ثيابَكم. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إذا عَرَكَتْ أنْ تُظْهِرَ إلاَّ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا وَإلَى هَا هُنَا وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ ؛ الْخُمُرُ : جَمْعُ خِمَارٍ ؛ وهُوَ مَا تُغَطِّي بهِ المرأةُ رأسَها، والمعنى : وَلْيُلْقِيْنَ مَقَانِعَهُنَّ على جيوبهنَّ وصُدورِهن ليَسْتُرْنَ بذلك شُعورَهن ومُرُوطَهن وأعناقَهن ونحورَهن، كما قال ابنُ عباس :(تُغَطِّي الْمَرْأةُ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا وَتِرَابَهَا وَسَوَالِفَهَا) لأن المرأةَ اذا أسْدَلَتْ خِمارَها انكشفَ ما قدَّامها وما خلفها فوقعَ الاطلاعُ عليها. والجيوبُ : جمعُ جَيْبٍ وهو جيبُ القميصِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ ؛ أرادَ به موضعَ الزينةِ الباطنة التي لا يجوزُ كشفُها في الصَّلاةِ، والمعنى : لا يُظْهِرْنَ موضعَ الزينة التي تكون تحتَ خُمُرِهِنَّ إلاّ لأزواجهِنَّ، ﴿ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾ أي لأزواجِهنَّ، ﴿ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ ﴾ ؛ في النَّسب أو الرَّضاعِ ﴿ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ ؛ وكلِّ ذِي رحمٍ مَحْرَمٍ منهُنَّ، ﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ ؛ يعني نساء أهلِ دِينهنَّ وهُنَّ المسلماتُ، ولا يحلُّ لِمسلمةٍ أن تنكشفَ بين يدَي يهوديَّة أو نصرانيةٍ أو مجوسية أو مشركة. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك العفائفُ مِن النساءِ اللائي يكن اشكالاً لهن.
ولا ينبغِي للمرأة الصالحةِ أن تنظرَ إلى المرأةِ الفاجرة ؛ لأنَّها تَصِفُها عند الرجلِ، ولا تضعَ جلبَابَها ولا خِمارَها عندها، ولا يحلُّ لامراة مؤمنةٍ أن تنكشفَ أيضاً عند مُشركةٍ أو كتابية إلاّ أن تكون أمَةً لَها، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ ؛ ورُوي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أبي عُبَيْدَةَ :(أمَّا بَعْدُ : فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ نِسَاءَكُمْ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَ نِسَاءُ أهْلِ الْكِتَاب، فَامْنَعْ مِنْ ذلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ ؛ أي تزوَّجُوهم، والأيْمُ اسمُ المرأةِ التي لا زوجَ لَها، والرجلُ الذي لا امرأةَ له، يقال : رجلٌ أيْمٌ وامرأة أيْمٌ، كما يقالُ : رجل بكْرٌ وامرأة بكْرٌ، وقال الشاعرُ : فَإنْ تَنْكِحِي أنْكَحْ وَإنْ تَتَأَيَّمِي أكُنْ مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكَحِي أتَأيَّمِويقالُ : الأيْمُ في النِّساء كالعُزْب في الرِّجال، وجمعُ الأيْمِ الأيَامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ﴾ ؛ أي وزوِّجُوا عبيدَكم وإمائَكم، وهذا أمرُ ترغيبٍ واستحباب. وفائدةُ ذِكر الصالحين : أن المقصودَ من النكاحِ العفافُ، والصالِحُ هو الذي يتعفَّفُ. وَقِيْلَ : الصلاحُ ها هنا الإيْمانُ، ثُم رجعَ إلى الأحرار فقالَ :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ فيه حثٌّ على النكاحِ ؛ لئلا يَمتنِعُوا منه بسبب الفقر، فإن اللهَ هو الغنيُّ والْمُغْنِي، إن يكونوا فقراءَ لا سَعَةَ لَهم في التزويجِ ﴿ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي يَوَسِّعُ عليهم عند التزوُّجِ.
واختلَفُوا في الآيةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ الآيةُ ؛ فقال بعضُهم : هذا الأمرُ على الْحَتْمِ والإيجاب، أوجبَ اللهُ النكاحَ على مَن استطاعَهُ، وتأوَّلَهُ الباقونَ على أنه أمرُ استحبابٍ ونَدْبٍ، وهو المشهورُ الذي عليه الجمهور.
وَقِيْلَ : يجبُ على المرأةِ والرجل أن يتزوَّجَا إذا تاقت أنفسُهما إليه ؛ لأن اللهَ تعالى أمَرَ به ورَضِيَهُ وندبَ إليه، وبَلَغْنَا أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ :" تَنَاكَحُواْ ؛ فَإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ حَتَّى السَّقْطَ ". وقالَ ﷺ :" مَنْ أحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بسُنَّتِي " وهو النكاحُ ؛ لأنه ينتفعُ بدعاءِ ولده بعدَهُ، ومن لَم تَتُقْ نفسهُ إليه فأحبُّ إلينا أن يتخَلَّى لعبادةِ الله.
وعن أبي نَجِيْحٍ السلميِّ ؛ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ " مَنْ كَانَ لَهُ مَا يَتَزَوَّجُ بهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ فَلَيْسَ مِنَّا " وقال ﷺ :" مَنْ أدْرَكَ وَلَداً وَعِنْدَهُ مَا يُزَوِّجُهُ فَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَحْدَثَ إثْماً فَالإثْمُ بَيْنَهُمَا " وقال ﷺ :" إذا تَزَوَّجَ أحَدُكُمْ عَجَّ الشَّيْطَانُ " تأويلهُ : غَنِمَ ابنُ آدمَ مني ثُلثي دينه. وقال ﷺ :" مِسْكِيْنٌ مِسْكِيْنٌ رَجُلٌ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ، مِسْكِيْنَةٌ مِسْكِيْنَةٌ امْرَأةٌ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ! وَإنْ كَانَتْ غَنِيَّةً مِنَ الْمَالِ ؟ قَالَ :" وَإنْ كَانَتْ غَنِيَّةً مِنَ الْمَالِ " وَقَالَ :" شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ ".
وقال ﷺ :" أرْبَعَةٌ يَلْعَنُهُمُ اللهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ : رَجُلٌ يَخْصِي نَفْسَهُ عَنِ النِّسَاءِ فَلا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذلِكَ، وَلاَ يَتَسَرَّى خِشْيَةَ أنْ يُولَدَ لَهُ، وَرَجُلٌ تَشَبَّهَ بالنِّسَاءِ، وَامْرَأةٌ تَشَبَّهَتْ بالرِّجَالِ، وَرَجُلٌ يَتَهَزَّأُ بالْمَسَاكِيْنَ يَقُولُ لَهُمْ : تَعَالَواْ حَتَّى أُعْطِيَكُمْ، فَإذا جَاءُواْ قَالَ لَهُمْ : لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ، وَيَقُولُ لِلأَعْمَى : احْذر الْحَجَرَ قِبَلَكَ، وَاحْذرِ الدَّابَّةَ، وَلَيْسَ قِبَلَهُ شَيءٌ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ أي ليطلبَ الذين لا يجدونَ نكاحاً العِفَّةَ عن الزنا والحرام، والمعنى : مَن لَم يجد سَعَةً للنكاحِ من مهرٍ ونفقة، ولا يجدُ شيئاً يشتري به أمَةً فَلْيَسْتَعْفِفْ عن الزِّنا حتى يجدَ ما يكفيهِ، كذلك وفي هذا بيانٌ أنه لا عُذْرَ لأحدٍ في السِّفاحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ ؛ معناهُ الذين يطلبون الْمَكَاتَبَةَ من عبيدِكم وإمائكم، ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ ؛ رُشداً وصَالاحاً وصِدقاً ووفاءً وأمانةً وقدرة على الْمَكْسَب، وهذا أمرُ استحبابٍ في العبدِ الذي يقدرُ على الاكتساب وترغيبٍ في الكتابةِ. فأما الذي لا يقدرُ على الكسب ولا يرغبُ في الكتابة، فلا يكون في كتابتهِ إلاّ قطعُ حقِّ المولَى عنه من غيرِ نفع يرجعُ إليه. ومعنى الكتابةِ : أن يُكَتِبَ مملوكَهُ على مالٍ سَلَّمَهُ إليه نُجوماً فيُعْتَقُ بأدائهِ، وإن كانت الكتابةُ حالَّةً جازت عند أبي حنيفةَ وأصحابهِ، والشافعي لا يُجَوِّزُ إلاّ مُنجَّماً، وأقلُّهُ نَجمان فصاعداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ ؛ اختلَفُوا في معنى ذلكَ، فرُويَ عن عليٍّ رضي الله عنهُ أنهُ قالَ :(يُحَطُّ عَنِ الْمُكَاتَب رُبُعُ مَالِ الْكِتَابةِ). وعن ابن عباس :(يُحَطُّ عَنْهُ شَيْءٌ)، وعن عبدِالله بن يزيدِ الأنصاريِّ أنه قالَ :(هَذا خِطَابٌ لِلأئِمَّةِ أنْ يُسَلِّمُوا إلَى الْمُكَاتَبيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾[البقرة : ١٧٧] وهذا أقربُ إلى ظاهرِ الآية، لأن الإتْيَانَ في اللغة هو الإعْطَاءُ دونَ الْحَطِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بنِ أُبَيِّ سَلُولَ، كَانَتْ لَهُ جَوَارٍ حِسَانٌ : مِسْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَمَقَارَةُ، كَانَ يُكْرِهُهنَّ عَلَى الزِّنَا لِيَكْتَسِبْنَ لَهُ بالْفُجُورِ، وَكَذلِكَ كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ، فَأَتَتِ الْجَوَارِي إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَشْكُونَ إلَيْهِ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قال مقاتلُ :(نَزَلَتْ فِي سِتِّ جَوَارٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيِّ سلول : مَعاذةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَقُتَيْلَةُ وَأرْوَى، فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُنَّ ذاتَ يَوْمٍ بدِيْنَارٍ، وَجَاءَتْ أُخْرَى ببُرْدَةٍ، فَقَالَ لَهُمَا : ارْجِعَا فَازْنِيَا، وَكَانَ يُؤَجِّرُهُنَّ عَلَى الزِّنَا، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَتْ مَعَاذةُ لِمُسَيْكَةَ : إنَّ هَذا الأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيْهِ قَدْ آنَ لَنَا أنْ نَدَعَهُ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ : إمْضَيَا فَازْنِيَا. فَقَالَتَا : وَاللهِ مَا نَفْعَلُ ذلِكَ قَدْ جَاءَ اللهُ بالإسْلاَمِ وَحَرَّمَ الزِّنا. ثم مَضَيَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَشَكَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : ولا تُكْرِهُوا إمَاءَكم على البغَاءِ ؛ أي على الزِّنا، ﴿ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ؛ مِن كَسْبهِنَّ وبيعِ أولادِهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ يعني إذا أرَدْنَ تَحَصُّناً، خرجَ الكلامُ على وجهِ الحال لا على وجه الشَّرطِ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ﴾ ؛ أي أنزَلْنَا إليكم القُرْآنَ آياتٍ ظاهرات واضحات لتعملوا بها. وَقِيْلَ : يعني بذلكَ ما ذكَرَ في هذه السُّورة من الحلالِ والحرام. وقولهُ تعالى :﴿ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ ؛ أي وأنزلَ فيها مَثَلاً ؛ أي خَبَراً مِن خَبَرِ الذين مَضَوا من قبلِكم لتعتَبروا، ﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ عن الشِّركِ والفواحشِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي اللهُ هادِي أهلِ السَّموات وأهلِ الأرض بالآياتِ المبيِّنات، لا هاديَ فيهما غيرهُ، فبنُورهِ الخلقُ يهتدونَ، وبهداهُ من الضَّلالةِ يَنْجُونَ، فلا يهتدي مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسل إلاّ بهداهُ.
وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : اللهُ مُدَبرُ الأُمُورِ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، وقال الحسنُ وأبو العاليةِ :(اللهُ مُزَيِّنُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ)، يعني مُزَيِّنُ السَّموات بالشمسِ والقمر والنُّجومِ، ومُزيِّنُ الأرضِ بالأنبياء والعُلماء والمؤمنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَثَلُ نُورهِ الَّذِي أعْطَاهُ الْمُؤْمِنِيْنَ)، وقال السديُّ :(مَثَلُ نُورهِ الَّذِي فِي قَلْب الْمُؤْمِنِ)، وكان أُبَيُّ يقرأُ (مَثَلُ نُور الْمُؤْمِنِيْنَ). وَقِيْلَ : كان يقرأ (مَثَلُ نُور مَنْ آمَنَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ ؛ الْمِشْكَاةُ في لغة الحبشة : كُوَّةٌ غَيْرُ نَافِذةٍ، والمصباحُ : هو السِّرَاجُ في القِنْدِيْلِ من الزُّجَاجِ الصَّافِيَةِ. وَقِيْلَ : الْمِشْكَاةُ : عَمُودُ الْقِنْدِيْلِ الذي فيه الفَتِيْلَةُ. وقال مجاهدُ :(هِيَ الْقِنْدِيْلُ)، قال الزجَّاج :(النُّورُ فِي الزُّجَاجِ، وَضَوءُ النَّارِ أبَيْنُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَضَوْؤُهُ يَزِيْدُ فِي الزُّجَاجِ وَيَتَضَاعَفُ حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يُقَابلُهُ مِثْلُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ أي سِرَاجٌ، وأصلهُ من الضَّوءِ، ومن ذلك الصُّبْحُ، ورجلٌ صَبيْحُ الوجهِ إذا كان وَضِيئاً، وفرَّقَ قومٌ بين المصباحِ والسِّراج ؛ فقالوا : المصباحُ دونَ السِّراج، والسراجُ أعظمُ من المصباحِ ؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى الشمسَ سِرَاجاً، وقال في غيرِها من الكواكب﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾[الملك : ٥].
ثُم وصفَ اللهُ الزجاجةَ التي فيها المصباحِ ؛ فقالَ :﴿ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾ ؛ شبَّهَ القنديلَ الذي يكونُ فيه السِّراجُ بالكوكب الدُّرِّيِّ ؛ وهو النجمُ الْمُضِيْءُ، ودَرَاري النُّجومِ كبارُها، وقولهُ ﴿ دُرِّيٌّ ﴾ نسبةً إلى أنه كالدُّرِّ في صفائهِ وحُسْنِهِ، كأنَّ الكوكب دُرَّةٌ بيضاءُ.
قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ :(دِرِّئٌ) بكسرِ الدال مهموزٌ مَمدود ؛ وهو فِعِّيْلٌ من الدَّرْءِ بمعنى الدَّفعِ، يقالُ : دَرَءَ يَدْرَأ إذا دَفَعَ، فكأنه تَلأْلُؤٌ يدفعُ أبصارَ الناظرين إليه. ويقالُ : كأنه رَجَمَ به الشياطينَ فدرأهُم ؛ أي دفَعَهم بسرعةٍ في الانقضاضِ، وذلك أضْوَءُ ما يكونُ.
وقرأ حمزةُ وأبو بكر : مضمومةُ الدالِ مهموزٌ مَمدود، قال أكثرُ النُّحاة : هو لَحْنٌ ؛ لأنه ليسَ في كلامِ العرب، فقيل بضمِّ الفاء وكسر العينِ، وأنكرَهُ الفرَّاءُ والزجَّاج وأبو العباسِ، وقال :(هَذا غَلَطٌ ؛ لأنَّهُ لَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَب شَيْءٌ عَلَى هَذا الْوَزْنِ). وقرأ الباقون بضمِّ الدالِ وتشديد الياءِ من غير همزٍ، فنسبوهُ إلى الدُّرِّ في صفائه وبَهائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾ ؛ فيه أربعُ قراءاتٍ، قرأ نافع وابن عامر : بياءٍ مضمومة يعنونَ المصباحَ، وقرأ حمزةُ والكسائي وخلف : بتاءٍ مضمومة يعنون الزُّجاجةَ، وقرأ أبو عمرٍو :(تَوَقَّدَ) بالتاء وفتحها وفتح الواو مشدَّدة بمعنى الماضِي، وقرأ ابنُ محيصن : بتاءٍ مفتوحة وتشديد القاف مثل قراءةِ أبي عمرٍو إلاّ أنه رفعَ الدالَ بمعنى الفعلِ المستقبل بمعنى : تتوقَّدُ الزجاجةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ ؛ يعني ذلك المصباحَ في بُيُوتٍ، قِيْلَ : معناهُ : تُوقَدُ في بيوتٍ وهي المساجدُ، أذِنَ اللهُ في رفعِها ؛ أي رَفْعِ بنائها كما قال تعالى﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ﴾[البقرة : ١٢٧]، ويستدلُّ مِن هذه الآيةِ أن لا يؤذنَ في رفعِ شيء من الأبنية فوقَ الحاجة غيرَ المساجد التي يُصَلِّي فيها المؤمنونَ، ويستضيءُ بنور قناديلها العابدونَ. وقال الحسنُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ أيْ تُعَظَّمَ وَتُصَانَ عَنِ الأَنْجَاسِ وَاللَّغْوِ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَعَنِ التَّكَلُّمِ بالْخَنَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ ؛ وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ :" جَنِّبُواْ مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِيْنَكُمْ ؛ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ ؛ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإقَامَةَ حُدُودِكُمْ ؛ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجَمعِ، وَاجْعَلُواْ عَلَى أبْوَابهَا الْمَطَاهِرَ ". قال ابنُ عبَّاس :(الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ، وَهِيَ تُضِيْءُ لأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيْءُ النُّجُومُ لأَهْلِ الأَرْضِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ أي ويُذْكَرُ في المساجدِ اسمُ الله تعالى وتوحيدهُ.
وقولهُ تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا ﴾ ؛ أي يُصَلِّي للهِ تعالى في تلك البيوتِ الصلاةَ المفروضةَ، ﴿ بِالْغُدُوِّ ﴾ ؛ أي صلاة الغداة، وقولهُ تعالى ﴿ وَالآصَالِ ﴾، يعني العَشِيَّاتِ، والأصِيلُ ما بين العصرِ إلى الليلِ، وسُميت الصلاةُ تَسبيحاً لاختصاصها بالتسبيحِ. وقرأ ابنُ عامر :(يُسَبَّحُ) بفتحِ الباء على ما لَم يسمَّ فاعلهُ.
ثُم فسَّرَ مَن يُصلي فقال :﴿ رِجَالٌ ﴾ ؛ كأنه قالَ : مَن يُسَبِّحُ ؟ فقيلَ : رجَالٌ ﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَـاةِ ﴾ ؛ أي لا تشغَلُهم تجارةٌ، ولا بَيْعٌ عن طاعةِ الله، وعن إقامةِ الصَّلاة في البيوتِ، وعن إعطاءِ الزكاة.
قال الفرَّاءُ :(التِّجَارَةُ لأَهْلِ الْجَلْب، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ) وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هُنَا بالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْمَبيْعِ بَعْدَهَا. والمعنى : لا يَمنعُهم ذلك عن حضور المساجد لإقامةِ الصلاة وإتْمَامِها، وإذا حضرَ وقتُ الزكاةِ لَم يحبسُوها عن وقتِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ ؛ أي يفعلون ذلك خَوْفاً من يومٍ تَرْجِفُ فيه القلوبُ، وتدورُ حُدَقُ العيونِ حالاً بعد حالٍ من الفَزَعِ والخوفِ رجاءَ أن ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ ؛ فِي دارِ الدُّنيا، ﴿ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ ؛ بغيرِ استحقاقٍ، ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ؛ أي بغيرِ حَصْرٍ ولا نِهايةٍ.
قولهُ :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ ؛ معناهُ : أن أعمالَ الكُفَّارِ قد أُحبطُوا بكفرِهم، كسَرَابٍ بأرضٍ مُستوية ملساءَ، يظنُّهُ العطشانُ ماءً يرجُو به النجاةَ، حتى إذا جاءَ السرابَ ليشربَ لَم يجدْهُ ماء، بل رأى أرضاً بيضاءَ لا ماء فيها فيَئِسَ وتحيَّرَ، كذلكَ الكافرُ في عملهِ ييأسُ في الآخرة عن عمله الذي كان يعتقدهُ يبرئ، يتقطَّعُ عنه طمعهُ عند شدَّةِ حاجته إليه، ثم يجدُ عند ذلك من العقاب كما قال تعالى :﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ﴾ ؛ أي عند عملهِ، يعني : قَدِمَ على اللهِ، ﴿ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾ ؛ أي جَازَاهُ بعملهِ. والسَّرَابُ : هو الشعاعُ الذي يتراءَى للعين وقتَ الهاجرةِ في الفَلَوَاتِ، يُرَى من بعيدٍ كأنه ماءٌ وليس بماء. والبقِيْعَةُ : جمعُ بقَاعٍ، والقِيْعَةُ جمعُ قَاعٍ، نحوُ جَارٍ وجِيرَةٍ، وهو ما انبسطَ من الأرضِ وفيه يكون السَّرابُ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ الكافرَ يحسَبُ أن عملَهُ يُغنِي عنه وينفعهُ، فإذا أتاه الموتُ واحتاجَ إلى عملهِ لَم يجدْهُ شَيْئاً ؛ أي لا منفعةَ فيهِ ووَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ بالمرصادِ عندَ ذلك فوفَّاهُ جزاءَ عملهِ، ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ ؛ أي سريعٌ حِسَابُهُ كلَمْحِ البصرِ أو أقلَّ ؛ لأنه تَعَالَى لا يتكلمُ بآلةٍ حتى يشغلَهُ سَمعٌ عن سَمعٍ. وسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : كيفَ يُحَاسِبُهُمْ في حالةٍ واحدة ؟ فَقَالَ :(كَمَا رَزَقَكُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾ ؛ هذا تخير في المثلِ، والمعنى : أن مَثَلَ أعمالِ الكفار أيضاً في الدُّنيا، ومثلَ قلوبهم في حياتِهم الدُّنيا كمثلِ ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ؛ أي عميقٍ كثير الماء يعلوهُ موجٌ ومن فوق ذلك الموجِ الأعلى سحابٌ.
وهذا حدُّ الكلام، ثُم ايتدأ فقال :﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾، أرادَ به ظلمةَ البحرِ وظُلمةَ الموجِ الأدنى وظلمةَ الموجِ الأعلى وظلمةَ السَّحاب وظلمة الليلِ. قال المفسِّرون : أرادَ بالظُّلماتِ أعمالَ الكفارِ، وبالبحرِ اللُّجِّيِّ قلبَ الكافرِ، وبالموجِ ما يغشَى عليه من الجهلِ والشكِّ والحيرة، وبالسَّحاب الدِّينَ والختمَ والطبعَ على قلبهِ.
قال أُبَيُّ بنُ كعبٍ في هذه الآية :(الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ : فَكَلاَمُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَقَلْبُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَمَصِيْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى ظُلْمَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ﴾[الحديد : ١٣].
وقولهُ تعالى :﴿ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ ؛ أي إذا أخرجَ يَدَهُ من هذه الظُّلمات لَم يرَها ولَم يُقَارِبْ أن يرَاها من شدَّةِ الظلماتِ، فكذلك الكافرُ لا يُبْصِرُ الحقَّ والهدى. وقولهُ تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾ ؛ أي مَن لَم يهدهِ اللهُ فما له من إيْمَانٍ، ومَن لَم يجعلِ اللهُ له نوراً في الدُّنيا، فما له من نورٍ.
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَنِي مِنْ نُورهِ، وَخَلَقَ أبَا بَكْرٍ مِنْ نُورِي، وَخَلَقَ وَخَلَقَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِنْ نُورِ أبي بَكْرٍ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُورِ عُمَرَ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُور عَائِشَةَ. فَمَنْ لَمْ يُحِبَّنِي وَيُحِبَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ ؛ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ ؛ معناهُ : ألَمْ تعلَمْ ؛ ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ ﴾ ؛ أي يُنَزِّهُهُ ؛ ﴿ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ مِن العُقَلاَءِ وغيرِهم، وكَنَّى عن الجميعِ بكلمة (مَنْ) تغليباً للعقلاءِ على غيرِهم. وَقِيْلَ : أرادَ بالآيةِ العقلاءَ، وهذا عمومٌ أرادَ به الخصوصَ في أهلِ الأرض وهم المؤمنونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ ﴾ ؛ أي ويسبحُ له الطيرُ باسطاتٍ أجنِحَتِها في الهواءِ، والبَسْطُ في اللغة : الصَّفُّ، والصَّفُّ في اللغة هو البَسْطُ، ويسمَّى القَدِيْدُ صَفِيْفاً لأنه يُبْسَطُ. وخصَّ الطيرَ بالذِّكرِ من جُملةِ الحيوان ؛ لأنَّها تكون بين السَّماء والأرضِ، وهي خارجةٌ عن جُملة مَن في السَّمواتِ والأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلٌّ ﴾ ؛ أي كلٌّ مِن هؤلاء، ﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾ ؛ اللهُ ؛ ﴿ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾. قال المفسِّرون : الصلاةُ لبني آدمَ، والتسبيحُ عامٌّ لِما سواهم من الخلقِ. وفيه وجوهٌ مِن التأويلِ :
أحدُها : كلُّ مُصَلٍّ ومُسَبحٍ قد عَلِمَ اللهُ تعالى صلاتَهُ وتسبيحَهُ، والثانِي : أن معناهُ : كُلَّ مُصَلٍّ ومسبحٍ قد عَلِمَ صلاةَ نفسهِ وتسبيحَ نفسهِ، والثالثُ : قد عَلِمَ كلٌّ منهم تسبيحَ اللهِ وصلاتَهُ، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ ؛ من الطاعةِ وغيرِها. وقولهُ تعالى :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي له تقديرُهما وتدبيرُهما وتصريفُ أحوالِهما، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ؛ أي يُنْشِؤُهُ ويَسُوقُهُ سَوْقاً دفِيقاً قِطَعاً قِطَعاً، { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ﴾ ؛ أي يجمعُ بين قِطَعِ السَّحاب المتفرقةِ، والسَّحَابُ جمعٌ واحدهُ سَحَابَةٌ، والتَّأْلِيْفُ ضَمُّ بعضٍ إلى بعض حتى يجعلَهُ قطعةً واحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ﴾ ؛ أي مُتَرَاكِماً بعضهُ فوق بعضٍ، ﴿ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ ؛ أي ترَى المطرَ يخرجُ من وَسَطِهِ وأثنائهِ، والْخِلاَلُ جمعُ الْخَلَلِ مثل الجبال والجبل. قال الليثُ :(الْوَدْقُ الْمَطَرُ كُلُّهُ، شَدِيْدُهُ وَهَيِّنُهُ، وَخِلاَلُ السَّحَاب مَخَارِجُ الْقَطْرِ مِنْهُ). قرأ ابنُ عبَّاس والضحاك :(مِنْ خِلَلِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ ؛ أي من جبلٍ في السَّماء، وتلك الجبالُ من بَرَدٍ. قال ابنُ عبَّاس :(أخْبَرَ اللهُ أنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالاً مِنْ بَرَدٍ) ومفعولُ الإنزالِ محذوفٌ، تقديرهُ : وينَزِّلُ اللهُ من جبالٍ بَرَدَ فيها، واستغنَى عن ذكرِ المفعول للدلالة عليه، ومِن الأُولَى لابتداء الغايةِ، لأن ابتداءَ الإنزالِ من السَّماء، والثانية للتبعيضِ ؛ لأن ما يُنْزِلُهُ اللهُ بعض تلك الجبالِ التي في السَّماء، والثالثةُ لتبيين الجنسِ ؛ لأن جنسَ تلك الجبالِ البَرَدَ، كما تقولُ : خَاتَمٌ مِن حديدٍ.
وكان عمرُ رضي الله عنه يقول :(جِبَالُ السَّمَاءِ أكْثَرُ مِنْ جِبَالِ الأَرْضِ)، ﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي فيصيبُ بالبَرَدِ مَن يشاءُ فيهلكهُ ويهلِكُ زَرْعَهُ، ﴿ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ﴾ ؛ فلا يضرُّهُ في زرعهِ وثَمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ﴾ ؛ أي كادُ ضَوْءُ برقِ السَّحاب يذهبُ بالأبصارِ من شدَّة ضوئهِ وبريقه ولَمَعَانِهِ ؛ لأن مَن نَظَرَ إلى البرقِ خِيْفَ عليه ذهابُ البصرِ. قرأ أبو جعفر :(يُذْهِبُ بالأَبْصَارِ) بضمِّ الياء وكسر الهاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ ؛ أي يقلِّبُها في الذهاب والْمَجِيءِ والزيادةِ والنُّقصان، ﴿ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ ﴾ ؛ أي إنَّ في ذلك التقلُّب، وفيما ذُكِرَ عِبْرَةً لذوي العقولِ من الناس، يقالُ : فلانٌ صاحِبُ بَصَرٍ ؛ أي صاحبُ عَقْلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ﴾ ؛ من النُّطفةِ، من ماءِ الذكر والأُنثى، والْخَلْقُ من الماءِ أعجبُ ؛ لأنه ليس شيءٌ إلاّ وهو أشدُّ طَوْعاً من الماءِ ؛ لأنَّ الماءَ لا يُمكِنُ إمساكهُ بيدهِ ولا أن يَبْنِي عليهِ ولا أن يتخِذ منهُ شيءٌ. والمعنى : واللهُ خَلَقَ كلَّ حيوانٍ شاهد في الدُّنيا، ولا تدخلُ الجنُّ والملائكةُ في هذا لأنَّا لا نشاهِدُهم.
وقولهُ تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾ ؛ كالحيَّاتِ والْهَوَامِ والحيتان، وإنَّما قال فمنهم (مَنْ) تغليباً للعُقَلاءِ، ولو كان لِمَا لا يعقلُ لقال : فمنهم مَن يَمشي على بطنهِ، ﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ﴾ ؛ كالإنسانِ والطَّيرِ، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾ ؛ كالبهائمِ والسِّباعِ. والدَّابَّةُ اسمٌ لكلِّ حيوانٍ مِن مُمَيِّزٍ أو غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى، قرأ الكوفيُّون غير عاصمٍ (وَاللهُ خَالِقُ) على الاسمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ﴾ ؛ يعني القُرْآنَ هو مُبَيِّنُ الْهُدَى والأحكامِ، ﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي يرشدُ مَن يشاءُ إلى دِين الإسلامِ الذي هو دِينُ اللهِ وطريقُ رضَاهُ وجَنَّتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ﴾ ؛ يعني المنافقينَ يقولون صَدَّقْنَا بتوحيدِ الله وبالرَّسولِ مُحَمَّدٍ ﷺ وأطَعْناهُما فيما حَكَمَا، ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي ثُم تعرضُ طائفة منهم، ﴿ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾ ؛ أي مِن بعد قولِهم آمَنَّا، ﴿ وَمَآ أُوْلَئِكَ ﴾ ؛ الذين أعرَضُوا عن حكمِ الله ورسوله، ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : إذا دُعُوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكُمَ بينَهم الرسولُ فيما اختلفوا فيه، ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ ؛ عما يُدْعَوْنَ إليه، نزلت هذه الآياتُ في بشْرِ المنافقِ وخصمهِ اليهوديِّ حين اختصمَا في أرضٍ، فجعلَ اليهوديُّ يجذبهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ ليحكُمَ بينَهما، وجعلَ المنافقُ يجذبهُ إلى كعب بن الأشرفِ، يقولُ : إنَّ مُحَمَّداً يَحِيْفُ عليه، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ عن الكتاب والسُّنةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾ ؛ معناهُ : وإن يكن لَهم القضاءُ على غيرِهم يأتونَ إلى النبيِّ ﷺ مُسرعينَ مطيعينَ مُنقادين لحكمهِ. والإذْعَانُ : الإقرارُ بالحقِّ مع الانقيادِ له. قال الزجَّاجُ :(الإذْعَانُ : الإسْرَاعُ مَعَ الطَّاعَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ لفظهُ لفظُ الاستفهامِ، ومعناهُ التوبيخُ، وذلك أشدُّ ما يكون في الذمِّ كما جاءَ في المبالغةِ في المدح : ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأنْدَى الْعَالَمِيْنَ بُطُونَ رَاحٍيَعْنِي أنتُم كذلكَ.
قولهُ :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ ؛ انتصبَ (قَوْلُ) على خبرِ كانَ، واسْمُها ﴿ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾.
وذلك أن عَلِيّاً رضي الله عنه بَاعَ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أرْضاً بالْمَدِيْنَةِ لاَ يَنَالُهَا الْمَاءُ، فَجَاءَ قَوْمٌ عُثْمَانَ فَنَدَّمُواْ عُثْمَانَ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَالُواْ لَهُ : لاَ تَذْهَبْ فِي خُصُومَتِكَ مَعَ عَلِيٍّ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَإنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ! فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَتَحَاكَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَضَى لِعَلِيٍّ رضي الله عنه، فَأَبَى قَوْمُ عُثْمَانَ أنْ يَرْضُواْ بقَضَائِهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه :﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سَمعنا قولكَ يا رسولَ اللهِ وأطَعْنا أمرَكَ ورضينا بحُكمِكَ وقضائِكَ، وإنْ كان ذلك فيما يكرهونَهُ ويضرُّ بهم. وقولهُ تعالى :﴿ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ؛ يعني الرَّاضِينَ بقضاءِ الله ورسوله.
فلما نزلَتْ هذه الآيةُ أقْبَلَ عثمانُ إلى رسولِ الله ﷺ فقالَ :(يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَاللهِ لَئِنْ شِئْتَ لأَخْرُجَنَّ مِنْ أرْضِي كُلِّهَا الَّتِي أمْلِكُهَا وَأدْفَعُهَا إلَيْهِ) فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ﴾ ؛ معناهُ : ومَن يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ فيما ساءَهُ وسرَّهُ ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبهِ ويتَّقِ اللهَ فيما بعدُ فلم يَعْصِ اللهَ، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون ﴾، برضَى الله وحسناتهِ.
وقولهُ :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ ؛ أي حَلَفُوا باللهِ وبالَغُوا في القَسَمِ، ﴿ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾، مِن مالِهم كلِّه لفَعَلُوا، ﴿ قُل ﴾ لَهم :﴿ لاَّ تُقْسِمُواْ ﴾ ؛ أي لا تَحْلِفُوا، وتَمَّ الكلامُ ها هنا. ثُم قالَ :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ ؛ أي هذا القولُ منكم يعني القَسَمَ طاعةٌ حَسَنَةٌ.
وقال بعضُهم : هذه الآيةُ نزلت في المنافقينَ ؛ كانوا يَحْلِفُونَ لئِنْ أمَرَهم النبيُّ ﷺ بالخروجِ إلى الجهادِ ليخرجُنَّ، ولَم يكن في نيَّتِهم الخروجُ، فقيلَ لَهم : لا تُقسِمُوا طاعةٌ معروفة مِثْلُ من قَسَمِكُمْ بما لا تصدِّقون، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ يعني عَلِيْمٌ بما تعملون مِن طاعتكم بالقولِ " و " مخالفتكم بالفعل.
وقولهُ تعالى :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى، وقولهُ تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ ﴾ ؛ أي فإن أعرَضُوا عن طاعةِ الله وطاعةِ رسوله فإنَّما على الرسولِ ما حُمِّلَ من التبليغِ وأداءِ الرسالة، وعليكم ما حُمِّلْتُمْ من الطاعةِ، ﴿ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾ ؛ أي ليس عليهِ إلاَّ أن يُبَلِّغَ ويُبَيِّنَ لكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ؛ نزلت هذه الآيةُ في أصحاب رسول الله ﷺ ؛ أقَامُوا بمَكَّةَ مدَّةً قبلَ الهجرةِ لا يُمكِنُهم إظهارُ الإسلامِ، ولا أُذِنَ لَهم في القتالِ، وكذلك بعدَما هاجَرُوا إلى المدينةِ وَآوَتْهُمُ الأنصارُ، رَمَتْهُمُ العربُ عن قوسٍ واحدة، وكانوا لا يَبيْتُونَ إلاّ مع السِّلاحِ ولا يُصبحُونَ إلاَّ فيه.
فجاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله ﷺ، فقالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أهَكَذا جَالَدتَّنَا أبَداً ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ أي لَيُبَوِّأَنَّهُمْ أرضَ المشركين من العرب والعَجَمِ كما استخلفَ بني اسرائيلَ بأرضِ مِصْرَ والشَّام بعدَ إهلاكِ الجبابرة بأَنْ أورَثَهم أرضَهم وديارَهم وجعلهم سُكَّاناً ومُلُوكاً.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾ ؛ أي ولِيُوَسِّعَ لَهم البلادَ حتى يَملكُوها ويُظْهِرَ دِينَهم على جميعِ الأديانِ، ﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾ ؛ وقولهُ تعالى :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ ؛ يجوزُ أن يكون في موضعِ نصبٍ على الحال ؛ أي لأَفْعَلَنَّ ذلك في حالِ عِبَادتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾. وقولهُ تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّـلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ؛ ظاهرُ الْمُرَادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي ولا تَحْسَبَنَّ كفارَ مكة يا مُحَمَّدُ فَائِتِيْنَ من عذاب الله أو يفُوتُنَا هَرَباً، فقدرةُ اللهِ تعالى محيطةً بهم، ﴿ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ﴾ ؛ أي لِيَسْتَأْذِنْكُمْ في الدُّخولِ عليكم عبيدُكم وإمائكم والذين لَم يبلغُوا الْحُلُمَ منك أي مِن أحرارِكم من الرِّجال والنساءِ، والمعنى : لَيَسْتَأْذِنْكُمْ عبيدُكم وإمائكم والذين لَم يبلغُوا الْحُلُمَ من صغيرِ أولادِكم من الأحرارِ في الدُّخول عليكم في ثلاثِ أوقاتٍ من الليلِ والنهارِ يكون الغالبُ فيها كشفُ العوراتِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الأوقاتَ الثلاث فقال :﴿ مِّن قَبْلِ صَـلَاوةِ الْفَجْرِ ﴾ ؛ أي وقتَ القيامِ مِن المضاجع والتَّهَيُّؤِ للصَّلاةِ بالطهارةِ، ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ ﴾ ؛ وهو وقتُ القَيْلُولَةِ، ﴿ وَمِن بَعْدِ صَلَاوةِ الْعِشَآءِ ﴾ ؛ أرادَ به العشاءَ الأخيرةَ، وهذه الأوقاتُ الثلاثة :﴿ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ﴾ ؛ لأنَّ الإنسانَ يضعُ ثيابه فيها في العادةِ.
من قرأ (ثَلاَثُ) بالرفع، فمعناه : هذه الأوقاتُ الثلاثة ثلاثُ عوراتٍ لكم. ومَن قرأ (ثَلاَثَ) بالنصب جعلَهُ بدَلاً من قولهِ (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). قال السديُّ :(كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُعْجِبُهُمْ أنْ يُوَاقِعُواْ نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ الثَّلاَثِ لِيَغْتَسِلُواْ ثُمَّ يَخْرُجُواْ إلَى الصَّلاَةِ ؛ فَأَمَرَهُمُ اللهُ أنْ يَأْمُرُواْ الْغِلْمَانَ وَالْمَمَالِيْكَ أنْ يَسْتَأْذِنُواْ فِي هَذِهِ الثَّلاَثِ سَاعَاتٍ إذا دَخَلُواْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾ ؛ أي لا جناحَ عليكم ولا عليهم في أنْ لاَ يستأذِنُوا في غيرِ هذه الأوقات.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ؛ أي طَوَّافُونَ عليكم يدخلُونَ ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويتردَّدُون في أحوالِهم واشتغَالِهم بغيرِ إذنٍ، يريدُ أنَّهم خَدَمُكُمْ، شئ فلا بأسَ أن يدخلُوا في غيرِ هذه الأوقات بغيرِ إذن. قال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : يَطُوفُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَمَالِيْكُ عَلَى بَعْضٍ وَهُمُ الْمَوَالِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَـاتِ ﴾ ؛ أي هكذا يُبَيِّنُ اللهُ لكم الدَّلالاتِ والأحكامِ في أمر الاستئذان، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بمصالحِ العباد، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ فيما حَكَمَ من استئذانِ الْخَدَمِ في هذه الأوقاتِ الثلاثة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ ﴾ ؛ معناهُ : إذا بَلَغَ الأطفالُ مِن أحرارِكم وعبيدكم فليستأذِنُوا في جميعِ الأوقات وفي عمومِ الأحوال، ﴿ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ؛ المذكورين مِن قَبْلِهم على ما بَيَّنَ اللهُ في كتابهِ، يعني بقوله ؛ الأحرارُ الكبارُ الذين أُمِرُوا بالاستئذانِ على كلِّ حالٍ في قوله﴿ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ﴾[النور : ٢٧] فليس للعبدِ البالغ أن يدخلَ مَنْزِلَ مولاهُ ولا للولدِ البالغِ أن يدخلَ على أُمِّهِ وعلى ذاتِ محارمه في كلِّ وقتٍ بإذن ﴿ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ ﴾ ؛ معناهُ : والقَوَاعِدُ من النِّساءِ اللاتِي قَعَدْنَ عن الحيضِ من الكِبَرِ وهنَّ العجائزُ اللاتِي لا يُرِدْنَ النكاحَ لكِبَرِهنَّ، فليس عليهنَّ حرجٌ فِي، ﴿ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ﴾ ؛ يعني الْجِلْبَابَ والرِّداءَ والقناعَ الذي فوقَ الخِمَارِ لأجلِ الثياب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ ؛ التَّبَرُّجُ : أن تُظْهِرَ المرأةُ مَحَاسِنَهَا مِن وجهِها وجَسَدِها، والمعنى من غير أنْ يُرِدْنَ بوضعِ الجلباب أن يُرَى زينَتُهن. قال مقاتلُ :(لَيْسَ لَهَا أنْ تَضَعَ الْجِلْبَابَ، تُرِيْدُ بذلِكَ أنْ تُظْهِرَ قَلاَئِدَهَا وَقِرْطَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّيْنَةِ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ ؛ معناهُ : وأن يَسْتَعْفِفْنَ فلا يضعْنَ الجلبابَ في الْمِلاَئَةِ والقِنَاعِ فهو خيرٌ لَهنَّ مِن أن يَضَعْنَ، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ ؛ مقالةَ العبادِ، ﴿ عِلِيمٌ ﴾ ؛ بأعمالِهم. يقالُ : امرأةٌ عِدَادٌ أُقْعِدَتْ عنِ الحيضِ، فإذا قالَ : قَاعِدَةٌ بالهاءِ أراد به جالسةً، والجمعُ فيهما جميعاً قَوَاعِدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ ؛ وذلك أنَّ المسلمينَ كانوا إذا غَزَوا خَلَّفُوا أزْمانَهم وكانوا يدفعونَ إليهم المفاتيحَ ويقولونَ لَهم قد أبَحْنَا لكم أن تأكُلُوا مِما في بُيُوتِنَا، فكانوا يتحرَّجُون مِن ذلك ويقولونَ : لا ندخُلُها وهم في غَيْبٍ امتثالاً لقوله تعالَى﴿ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾[النساء : ٢٩] فَنَزَلتْ هذه الآيةُ رُخصَةً لَهم.
ومعناها : نَفْيُ الحرجِ عن الزَّمْنَى في أكْلِهم من بيوتِ أقاربهم أو بيوتِ مَن يدفعُ إليهم المفتاحَ إذا خرجَ للغَزْوِ وخَلَفَهُ بحفظِ ماله ؛ لأنَّهم كانوا يتحَرَّجون أن يأكلُوا مما يحفظونَهُ، فأَعْلَمَهُمُ اللهُ تعالى أنه لا جُنَاحَ عليهم في ذلكَ.
وذهبَ الحسنُ إلى أن معنى الآيةِ :(لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيْضِ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ ؛ أي لا حرجَ عليكم أن تأكلوا من بيتكم، أرادَ بهذا بيوتَ أبنائِكم ونسلهم، وإنَّما أضافَ بيوتَ الأبناءِ إليهم لأنَّهم مِن أنفسهم، كما قال ﷺ :" أنْتَ وَمَالُكَ لأَبيْكَ " ولِهذا قابلَهُ ببيوتِ الآباء، فقالَ :﴿ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾ ؛ ولَم يقل بيوتَ أبنائكم، فعُلِمَ أن المرادَ بقوله :﴿ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ أي بيوتِ أبنائِكم وأزواجِكم، وبيتُ المرأةِ كبيت الزَّوجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ﴾ ؛ أخرجَ الكلامَ على وفْقِ العادةِ ؛ لأن الغالبَ مِن أحوالِ هؤلاء أن تَطِيْبَ أنفسُهم بذلكَ، فجازَ الأكلُ مِن بيوتِهم بغيرِ إذنٍ لدلالة الحالِ.
فأمَّا إذا عَلِمَ أن صاحبَ البيت لا تطيبُ نفسهُ بذلكَ، لا يحلُّ له أن يتناولَ شيئاً من ذلكَ، ﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ ؛ يعني بيوتَ عبيدِكم وإمائكم، وذلك أن السيِّدَ يَمِلِكُ بيتَ عبدهِ، أو الْمَفَاتِحُ معناها الخزائنُ، كقولهِ تعالى﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾[الأنعام : ٥٩] أي خزائنُ الغيب.
ومعناهُ : المفاتيحُ التي يُفْتَحُ بها الخزائنُ، يعني بذلك الوكلاءَ والأُمَنَاءَ والعبيدَ الذين يَملكون أمرَ الخزائنِ وتكون مفاتِحُها بأيديهم، فليس عليهم في الأكلِ جُنَاحٌ إذا كان أكْلاً يَسيراً مثل أن يأكُلَ مِن ثَمَرِ حائطٍ يكون قَيِّماً عليه أو يشربَ مِن لبنِ ماشية يكون قَيِّماً عليها. وقال السديُّ :(الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعَامَهُ غَيْرَهُ يَقُومُ عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ ؛ يعني صَدِيْقاً يسرُّهُ أن يأكلَ من طعامهِ، وإنَّما أطلقَهُ على عادةِ الصحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كما روي في سبب نزُول هذا : أنَّ مَلِكَ بْنَ يَزِيْدٍ وَالْحَارثَ بْنَ عَمْرٍو كَانَا صَدِيْقَيْنِ، فَخَرَجَ الْحَارثُ غَازياً وَخَلَّفَ مَالِكاً فِي أهْلِهِ وَخَزَائِنِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ رَأى مَالِكاً مَجْهُوداً، قَالَ : مَا أصَابَكَ ؟ قَالَ : لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي أنْ آكُلَ مِنْ مَالِكَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ﴾ ؛ في الآية ثَنَاءٌ على المؤمنين، وإذا كانُوا مع النبيِّ ﷺ في أمرٍ جامع ؛ أي في أمرِ طاعةٍ يجتمعون عليه لِحَقِّ الْجُمُعَةِ وصلاةِ العيدين والْجِهَادِ وأشباهِ ذلكَ، ﴿ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾.
قال المفسِّرون : كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا صَعَدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ لِطَاعَةٍ أوْ عُذْرٍ ؛ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بحِيَالِ النَّبيِّ ﷺ حَيْثُ يَرَاهُ، فَيَعْرِفَ أنَّهُ إنَّمَا قَامَ لِيَسْتَأْذنُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. قال مجاهدُ :(وَإذا أذِنَ الإمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أنْ يُشِيْرَ بيَدِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ نزلَتْ في عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه حِيْنَ اسْتَأْذنَ النَّبيَّ ﷺ فِي الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إلَى الْمَدِيْنَةِ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾ ؛ قِيْلَ : إنَّ هذا منسوخٌ بقوله تعالى﴿ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾[التوبة : ٤٣]، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ﴾ ؛ أي استغفِرْ لِهؤلاء المستأذِنين إذا استأذنوكَ لعُذرِهم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ للنَّاسِ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ ؛ أي ادْعُوهُ بالْخُضوعِ والتعظيمِ، وقولوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ ويَا نَبيَّ اللهِ، في لِيْنٍ وتواضعٍ وخَفْضِ صوتٍ، ولا تقولُوا : يا مُحَمَّدُ! ولا يا أبَا القَاسِمِ! كما يدعُو بعضُهم بعضاً باسْمهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ ؛ أرادَ به المنافقين، كَانَ النَّبيُّ ﷺ إذا خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَابَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ، فَإذا سَمِعُواْ ذلِكَ نَظَرُواْ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَإنْ أبْصَرَهُمْ أحَدٌ لَمْ يَقُومُواْ، وَإنْ لَمْ يُبْصِرْهُمْ أحَدٌ قَامُواْ فَخَرَجُواْ مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَسَلَّلُونَ. وَالتَّسْلُّلُ الْخُرُوجُ فِي خِفْيَةٍ.
وَاللِّوَاذُ : أن يَسْتُرَ بعضهُ بعضاً ثُم يَمِضِي، يقالُ : لاَوَذْتُ بفُلاَنٍ مُلاَوَذةً وَلِوَاذاً. قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ أنْ يَلُوذ بغَيْرِهِ فَيَهْرُبَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذانٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ ؛ أي لِيَحْذر الذين يُعرِضُونَ عن أمرِ الله ويخالِفُون في أمرهِ، ﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ أي بَلِيَّةٌ، ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي له كلُّ ذلك مُلْكاً وقدرةً وإحاطة، ﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ ؛ أي يعلمُ ما يُبْدِيْهِ كلٌّ منكم وما يخفِيه، وقولهُ تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ﴾ ؛ معناهُ : يعني يَعْلَمُ يومَ يُبعثونَ متى هو، ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ ﴾ ؛ فيهِ ؛ ﴿ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ ؛ أي يجزيَهم بما عملوا في دارِ الدُّنيا، ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ﴾ ؛ من أعمالِ العباد وغيرِ ذلك.
وعن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ النُّورِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِيْمَا مَضَى وَفِيْمَا بَقِيَ ".
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).