تفسير سورة النّور

معاني القرآن للفراء

تفسير سورة سورة النور من كتاب معاني القرآن للفراء المعروف بـمعاني القرآن للفراء.
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

وقوله: سِخْرِيًّا (١١٠) و (سخريّا). وقد قرىء «١» بِهما جَميعًا. والضم أجود. قَالَ الَّذِينَ كسروا ما كَانَ من السُّخرة «٢» فهو مرفوع، وما كَانَ من الْهُزُؤ فهو مكسور.
وقال الْكِسَائي: سمعت العرب تقول: بحر لجّى ولجّى، ودُريّ ودِريٌّ منسوب إلى الدُّرّ، والكُرْسِيّ والكِرْسِيّ. وهو كَثِير. وهو فِي مذهبه بمنزلة قولهم الْعُصِيّ «٣» والعِصيّ والأُسوة والإسوة.
وقوله: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) كسرها «٤» الأعمش عَلَى الاستئناف، ونصبها من سواه عَلَى:
إني جزيتهم الفوز بالجنة، فأنّ فِي موضع نصب. ولو جعلتها نصبًا من إضمار الخفض جزيتهم لأنهم «٥» هم الفائزونَ بأعمالِهم فِي السّابق.
وقوله: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (١١٣) أي لا ندرى (فاسأل) الحفظة هم العادون.
وقوله: قُل كم لبثتم (١١٢) قراءة أهل «٦» المدينة (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) وأهل الكوفه (قل كم لبثتم).
ومن سورة النور
قوله: سُورَةٌ أَنْزَلْناها [١] ترفع السّورة بإضمار هَذِه سورة أنزلناها. ولا ترفعها براجع ذكرها لأن النكرات لا يُبتدأُ بِهَا قبل أخبارها، إلا أن يكون ذَلِكَ جوابًا ألا ترى أنك لا تقول: رجل
(١) الضم لنافع وحمزة والكسائي وأبي جعفر وخلف وافقهم الأعمش، والكسر للباقين.
(٢) أي الاستعباد وتكليف المشاق. [.....]
(٣) أي فى جمع العصا.
(٤) الكسر لحمزة والكسائي، والفتح للباقين.
(٥) كذا. والأولى: «بأنهم».
(٦) قرأ (قل) ابن كثير وحمزة والكسائي. وافقهم ابن محيصن والأعمش. وقرأ الباقون (قال).
243
قام، إنما الكلام أن تَقُولَ: قام رجل. وقَبُح تقديم النكرة قبل خبرها «١» أنها توصل «٢» ثُمَّ يخبر عنها بخبر سوى الصلة. فيقال: رجل يقوم أعجب إليّ من رجل لا يقوم: فقبح إذ كنت كالمنتظر للخبر بعد الصلة. ١٢٦ او حسن فِي الجواب لأن القائل يقول: من فِي الدار؟ فتقول: رَجُل (وإن قلت «٣» (رَجُلٌ فيها) فلا بأس لأنه كالمرفوع بالردّ لا بالصفة.
ولو نصبت «٤» السورة عَلَى قولك: أنزلناها سورة وفرضناها كما تَقُولُ: مُجرَّدًا ضربته كَانَ وجهًا. وما رأيت أحدًا «٥» قرأ بِهِ.
ومن قَالَ (فرضناها) يقول: أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وإن شاء: فرضناها عليكم وَعَلَى من بعدكم إلى يوم القيامة. والتشديد لهذين الوجهين حسن.
وقوله: الزَّانِيَةُ والزّانى فاجلدوا كلّ واحد منهما «٦» رفعتهما بِما عاد من ذكرهما فِي قوله (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) ولا ينصب مثل هَذَا لأن تأويله الجزاء (ومعناهُ «٧» ) - والله أعلم- من زَنَى فافعلوا بِهِ ذلك. ومثله (وَالشُّعَراءُ «٨» يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) معناهُ- والله أعلم: من قَالَ الشعر اتّبعه الغواة. وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)، (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما «٩» ) ولو أضمرت قبل كل ما ذكرنا فعلًا كالأمر جاز نصبه، فقلت: الزانية والزاني فاجلدوا:
(١) أي لأنها.
(٢) يريد وصفها.
(٣) سقط فى أ.
(٤) النصب قراءة عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي وغيرهم كما فى البحر ٦/ ٤٢٧. وهى من الشواذ.
ويريد الفراء أنها تنصب على الحال. وفى البحر: «وقال الفراء: سورة حال من الهاء والألف. والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه». ولم نر هذا النص فى نسخنا.
(٥) قد علمت أنه قرىء به فى الشواذ.
(٦) قرأ بالتخفيف من العشرة غير ابن كثير وأبى عمرو. أما هما فقرءا بالتشديد.
(٧) ش: «المعنى».
(٨) الآية ٢٢٤ سورة الشعراء.
(٩) الآية ١٦ سورة النساء.
244
وهي فِي قراءة عبد الله محذوفة الياء (الزانِ) مثل ما جرى فِي كتاب الله كثيرا من حذف الياء من الداع والمناد والمهتد وما أشبه ذَلِكَ. وقد فُسّر.
وقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ) اجتمعت القراء عَلَى التاء إلا أبا عبد الرحمن فإنه قرأ (ولا يَأخُذْكم) بالياء. وهو صواب كما قَالَ (وَأَخَذَ «١» الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) وَفِي الرأفة والكأبة والسَّأمة لغتان السَّأمة فعلة والسَّآمة مثل فعالة والرأفة والرآفة والكابة والكآبة وَكَانَ السَّأمة والرأفة مرة، والسآمة المصدر، كما تَقُولُ: قد ضَؤُل ضآلةً، وقُبح قباحَة.
حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسٌ وَمِنْدَلٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الطَّائِفَةُ: الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَذَلِكَ حَدَّثَنِي حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ. وَذَلِكَ للبكرين لا للمحصنين ومعنى الرأفة يقول: لا ترأفوا بالزانية والزاني فتعطلوا حدود الله.
وقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ «٢» يُقال: الزاني لا يزني إلا بزانية من بغايا كن بالمدينة، فهم أصحاب الصفة أن يتزوجوهنّ فيأووا إليهن ويُصيبوا من طعامهن، فذكروا ذَلِكَ للنبي عَلَيْهِ السَّلَام فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هَذَا، فأمسكوا عَن تزويجهن لَمَّا نزل (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعنى الزاني.
وقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ «٣» (وبالكسر «٤» ) بالزنى (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا) الْحُكَّامِ (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) القاذف لا تُقبل لَهُ شهادة، توبته فيما
(١) الآية ٦٧ سورة هود. [.....]
(٢) النصب قراءة عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وشيبة وغيرهم وهى شاذة.
(٣) الآية ٤ سورة النور.
(٤) سقط فى ش. ويريد كسر الصاد فى المحصنات. وهى قراءة الكسائي وقراءة غيره فتح الصاد:
245
بينه وبين ربه، وشهادته «١» ملقَاة. وقد كَانَ بعضهم يرى شهادته جائزةً إِذَا تابَ ويقول: يقبل «٢» الله توبته ولا نقبل نحنُ شهادته!
وقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [٦] بالزنَى نزلت فِي عَاصِم بن عدي لَمَّا أنزل الله الأربعة الشهود، قَالَ: يا رسول الله إن دخل أحدنا فرأى عَلَى بطنها رجلًا (يعني امرأته) احتاج أن يخرج فيأتي بأربعة شهداء إلى ذَلِكَ «٣» ما قد قضى حاجته وخرج. وإن قتلته قتلت ١٢٦ ب بِهِ. وإن قلت: فُعِل بِهَا جُلدت الحد. فابتُلِي بِهَا. فدخل عَلَى امرأته وَعَلَى بطنها رجل، فلا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهما. وَذَلِكَ أنها كذبته فينبغي أن يبتدئ الرجل فيشهد فيقول: والله الَّذِي لا إله إلا هُوَ إني صادق فيما رميتها بِهِ من الزنى، وَفِي الخامسة، وإن عَلَيْهِ لعنة الله إن كَانَ من الكاذبين فيما رماها بِهِ من الزنى: ثُمَّ تَقُولُ المرأة فتفعل مثل ذَلِكَ، ثُمَّ تقوم فِي الخامسة فتقول:
إن عليها غضب الله إن كَانَ من الصادقين فيما رماها بِهِ من الزنى. ثُمَّ يفرق بينهما فلا يجتمعانِ أبدًا.
وأما رفع قوله (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) فإنه من جهتين. إحداهُما: فعليه أن يشهد فهي «٤» مضمرة، كما أضمرت ما يرفع (فَصِيامُ «٥» ثَلاثَةِ) وأشباهه، وإن شئت جعلت رفعه بالأربع الشهادات: فشهادته أربع شهادات كأنك قلت والذي يوجب من الشهادة أربع، كما تَقُولُ: من أسلم فصلاته خمس.
وَكَانَ الأعمش وَيَحْيَى يرفعان «٦» الشهادة والأربع، وسائر القراء يرفعونَ الشهادة وينصبونَ الأربع لأنهم يضمرون للشهادة ما يرفعها، ويوقعونها عَلَى الأربع. ولنصب الأربع وجه آخر. وَذَلِكَ أن
(١) أي مطروحة لا اعتداد بها. وقد يكون الأصل: «ملغاة».
(٢) الكلام على الاستفهام الإنكارى فالهمزة محذوفة.
(٣) أي إلى أن يحصل ذلك وهو الإتيان بأربعة شهداء، وقوله: «ما قد قضى حاجته» أي يكون الزاني قضى حاجته وخرج فكلمة (ما) زائدة.
(٤) أي (عليه).
(٥) الآية ١٩٦ سورة البقرة، والآية ٨٩ سورة المائدة.
(٦) قرأ برفع (أربع) حفص وحمزة والكسائي وخلف. وقرأ الباقون بالنصب
يجعل (بالله إنّه لمن الصّادقين) رافعة «١» للشهادة كما تَقُولُ: فشهادتي «٢» أن لا إله إلا الله، وشهادتي إن الله لواحد. وكل يمين فهي تُرفع بجوابها، العرب تَقُولُ: حِلفٌ صادقٌ لأقومن، وشهادة عبد الله لتقومن. وَذَلِكَ أن الشهادة كالقول. فأنت تراهُ حسنًا أن تَقُولَ: قَوْلي لأقومن وقولي إنك لقائم «٣».
و (الخامسة) فِي الآيتين مرفوعتان «٤» بِما بعدهما من أنّ وأنّ. ولو نصبتهما عَلَى وقوع الفعل كَانَ صوابًا: كأنك قلت: وليشهد الخامسة بأن لعنة الله عَلَيْهِ. وكذلك فعلها «٥» يكون نصب الخامسة بإضمار «٦» تشهد الخامسة «٧» بأن غضبت الله عليها.
وقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [١٠] متروك الجواب لأنه معلوم المعنى. وكذلك كل ما كَانَ معلوم الجواب فإن العرب تكتفي بترك جوابه ألا ترى أن الرجل يشتم صاحبه فيقول المشتوم: أما والله لولا أبوك، فيعلم أَنَّهُ يريد لشتمتك، فمثل هَذَا يُترك جوابه. وقد قَالَ بعد ذَلِكَ فبيَّن جوابه فقال (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (وما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) فذلك يُبين لك المتروك.
وقوله: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ [١١] اجتمع القراء عَلَى كسر الكاف. وقرأ حُميد «٨» الأعرج، كُبْره بالضم. وهو وجه جيد فِي النحو لأن العرب تَقُولُ: فلان تولى عُظْم كذا وكذا يريدون أكثره.
وقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [١٥] كَانَ الرجل يلقى الآخر فيقول: أما بلغك كذا كذا
(١) أي خبر عنها. ومذهب الكوفيين أن المبتدأ والخبر يترافعان.
(٢) أ: «شهادتى».
(٣) أ: «قائم».
(٤) أنفق فى القراءة على رفع الأولى. أما الأخيرة فقد نصبها حفص.
(٥) أ، ش، ب: «فعله» والمناسب ما أثبت. [.....]
(٦) ش، ب: «فى تشهد».
(٧) ش: «فى الخامسة».
(٨) وهى أيضا قراءة يعقوب وسفيان الثوري.
فيذكر قصة عائشة لتشيع الفاحشة. وَفِي قراءة عبد الله (إذ تَتَلَقَّوْنه) وقرأت عائشة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) وهو الْوَلْق أي تردّدونه. والوَلْق فِي السير والوَلْق فِي الكذب بِمنزلته إِذَا استمر فِي السير والكذب فقد وَلَق. وقال الشاعر «١» :
إنّ الْجُلَيد زَلِق وزُمَّلقْ جاءت بِهِ عَنْس من الشام تَلِقْ
مجوَّع البطن كِلابيّ الْخُلُقْ ويقال فِي الْوَلْق من الكذب: هُوَ الْأَلْق والإِلْق! وفعلت منه: ألقت وأنتم تألقونه. وأنشدني بعضهم:
من لي بالمزرَّرِ اليلامق صاحب إدهان وألق آلق «٢»
وقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ [٢٢] والائتلاء: الْحِلف. وقرأ بعض «٣» أهل المدينة (ولا يَتَأَلَّ أولو الفضل) وهي مخالفة للكتاب، من تألّيت. وَذَلِكَ أن أبا بكر حلف ألا يُنفق عَلَى مسطح بن أُثاثة وقرابته الَّذِينَ ذكروا عائشة. وكانوا ذوي جَهد «٤» فأنزل الله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) فقال أَبُو بكر: بلى يا رب. فأعادهم إلى نفقته.
وقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ [٢٤] القراء على التاء (يَوْمَ تَشْهَدُ) وقرأ يَحْيَى «٥» بْن وثاب وأصحاب عَبْد اللَّه (يشهد) التاء لتأنيث الألسنة والياء لتذكير اللسان، ولأن الفعل «٦» إِذَا تقدم كَانَ كأنه لواحد الجمع.
وقوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [٢٦] الخبيثاتُ من الكلام للخبيثين من الرجال. أي ذَلِكَ من فعلهم ومِمَّا «٧» يليقُ بِهم. وكذلك قوله (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) الطّيّبات من الكلام للطّيّبين من الرجال.
(١) هو الشماخ. يقوله فى هجو جليد الكلابي على ما فى اللسان فى (ولق). ونسب فيه فى (زلق) إلى القلاخ ابن حزن المنقري. والزملق: الذي ينزل قبل أن يجامع. والزملق: الخفيف الطائش. والعنس: الناقة الصلبة. وفى ش، ب: «عيس» وهى الإبل البيض.
(٢) اليلامق جمع اليلمق. وهو القباء المحشو. والإدهان: الغش والخداع.
(٣) هو أبو جعفر وافقه الحسن. وهى قراءة ابن عياش بن ربيعة وزيد بن أسلم.
(٤) الجهد: كثرة العيال والفقر.
(٥) وهى قراءة حمزة والكسائي وخلف.
(٦) أي الذي هو واحد الألسنة فروعى فى فعل الألسنة مفردها. وقوله: «ولأن الفعل» فكان الأصل سقوط الواو ليكون تعليلا لما قبله.
(٧) أ: «ما».
ثم قال (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ) يعني عائشة وصفوان بن الْمُعَطَّل الَّذِي قُذِفَ معها. فقال (مبرّءون) للاثنين كما قَالَ (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فلكلّ واحد) يريدُ أخوين فما زاد، لذلك حُجِبَ بالاثنين.
ومثله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) يريد داود وسليمان. وقرأ ابن عباس (وكُنّا لحكمهما شاهدين) فدلّ عَلَى أنهما اثنان.
وقوله: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [٢٧] يقول: تستأذنوا. حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) : تَسْتَأْذِنُوا قَالَ:
هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ إِنَّمَا هُوَ حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا. وأمروا أن يقولوا: السَّلَام عليكم أأدخل؟
والاستئناسُ فِي كلامِ العرب: اذهب فاسْتأنس هَلْ ترى أحدًا. فيكون هَذَا المعنى: انظروا «١» من فِي الدار.
وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [٢٩] وهي البيوت التي تُتخذ للمسافرين: الخانات وأشباهها.
وقوله (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي منافع لكم. يقول تنتفعونَ بِهَا وتستظلونَ بِهَا من الحر والبرد (قَالَ الفراء الفندقُ مثل الخان «٢» قَالَ: وسمعتُ أعرابيًا من قُضاعة يقول فنتق).
وقوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [٣١] الزينة: الوشاح والدُّمْلُج «٣» (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها) مثل الكحل والخاتم والخَضَاب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) يقول لتُخَمِّر نَحرها وصدرها بِخمار. وَذَلِكَ أن نساء الجاهلية كنّ يسدلن خُمرهن من ورائهن فينكشفُ ما قدامها، فأمرن بالاستتار. ثُمّ قَالَ مكرّرا (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني الوشاح والدملوج «٤» لغة (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ) من النسب إلى قوله (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ).
(١) ا: «انظر».
(٢) سقط ما بين القوسين في ا.
(٣) الدملج: المعضد وهى حلية تلبس فى العضد.
(٤) يريد أنه لغة فى الدملج. [.....]
249
وقوله (أَوْ نِسائِهِنَّ) يقول: نساء أهل دينهن. يقول: لا بأسَ أن تنظر المسلمة إلى جسد المسلمة. ولا تنظرْ إليها يهودية ولا نصرانية.
ورُخّص أن يرى ذَلِكَ من لَمْ يكن لَهُ فِي النساء أَرَب، مثل الشيخ الكبير والصبي الصغير الَّذِي لَمْ يدرك، والعنين. وَذَلِكَ قوله (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) : التُّبَّاع والأجراء (قَالَ الفراء يُقال إِرْب وأَرَب).
وقوله (لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) لَمْ يبلغوا أن يطيقوا النساء. وهو كما تَقُولُ: ظهرت عَلَى القرآن أي أخذته وأطقته. وكما تَقُولُ للرجل: صارع فلان فلانًا وظهر عَلَيْهِ أي أطاقه وغالبه.
وقوله (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يقول: لا تضربن رجلها بالأخرى فيسمع صوت الخلخال. فذلك قوله (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ) وَفِي قراءة عبد الله (لِيُعْلَمَ مَا سُرَّ «١» ١٢٧ ب مِنْ زِينَتِهِنَّ).
وأمّا قوله (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) فإنه يُخفض «٢» لأنه نعت للتابعين، وليسوا بموَقتينَ «٣» فلذلك صَلحت (غير) نعتًا لَهُم وإن كانوا معرفة. والنصب جائز قد قرأ بِهِ عَاصِم «٤» وغير عَاصِم. ومثله (لا يَسْتَوِي «٥» الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) والنصب فيهما جَميعًا عَلَى القطع «٦» لأن (غير) نكرة. وإن شئت جعلته عَلَى الاستثناء فتوضع «٧» (إلا) فِي موضع (غير) فيصلح.
والوجه الأول أجود.
(١) كذا. وكأنه محرف عن (أسر).
(٢) الخفض لغير ابن عامر وأبى بكر عن عاصم وأبى جعفر، أما هؤلاء فقراءتهم النصب.
(٣) أي بمعينين.
(٤) أي فى رواية أبى بكر. أما فى رواية حفص فالخفض، كما علم آنفا.
(٥) الآية ٩٥ سورة النساء. قرأ بالرفع ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ويعقوب. وقرأ الباقون بالنصب.
(٦) يريد الحال.
(٧) أ، ب: «فتضع».
250
وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [٣٢] يعني «١» الحرائر. والأيامى القرابات نَحو البنت والأخت وأشباههما «٢». ثُمَّ قَالَ (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) يقول: من عبيدكم وإمائكم ولو كانت (وإماءكم) تردة عَلَى الصالِحين لَجاز.
وقوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) للأحرار خاصة من الرجال والنساء.
وقوله: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ [٣٣] يعني المكاتبة. و (الذينَ) فِي موضع رفع كما قال (وَالَّذانِ «٣» يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) والنصبُ جائز. وقوله (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) يقول «٤» إِذَا رجوتم عندهم وفاء وتأديةً للمكاتبة (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) حث الناس عَلَى إعطاء المكاتبين. حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حدثنا الفراء قَالَ حَدَّثَنَا حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يُعْطِيهِ ثُلُثَ مُكَاتَبَتِهِ. يَعْنِي الْمَوْلَى يَهِبُ لَهُ «٥» ثُلُثَ مُكَاتَبَتِهِ.
وقوله (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الْبِغَاء: الزنى. كَانَ أهل الجاهلية يُكرهون الإماء ويلتمسون منهن الْغَلَّةَ فيفجُرن، فنُهي أهل الإسلام عَن ذَلِكَ (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ) لهنّ (غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [٣٤] قرأ يحيى بن وثّاب (مبيّنات) بالكسر.
والناس بعد (مُبَيِّناتٍ «٦» ) بفتح الياء، هَذِه والتي فى سورة النساء «٧» الصغرى. فمن قَالَ (مُبَيِّناتٍ) جعل الفعل واقعًا عليهنّ، وقد بيّنهن الله وأوضحهنّ (ومبيّنات) : هاديات واضحات.
(١) سقط فى ا.
(٢) ا: «شبهها».
(٣) الآية ١٦ سورة النساء.
(٤) ا: «إن».
(٥) ا: «للمكاتب».
(٦) قرأ بالفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر ويعقوب، وقرأ بالكسر الباقون.
(٧) يريد سورة الطلاق. وهو يريد ما فى الآية ١١ منها «رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» قرأ بالفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة وأبو جعفر ويعقوب. وقرأ بالكسر غيرهم. [.....]
251
وقوله: كَمِشْكاةٍ [٣٥] المشكاة الْكُوّة التي ليست بنافذة. وهذا مثل ضربه الله لقلب المؤمن والإيمان فِيهِ. وقوله (الزُّجاجَةُ) اجتمعَ القراء عَلَى ضم الزجاجة. وقد يُقال زجاجة وزجاجة.
وقوله (كوكب درّىء) يخفض «١» أوله يهمز، حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي بذلك المفضل الضبي قَالَ قرأها عَاصِم كذلك (دِرِّيء) بالكسر. وقال أبو بكر بن عيّاش: قرأها عاصم «٢» (درّىء) بضم الدَّال وَالْهَمْز. وذُكر عَن الأعمش أنه قرأ (درّىء) و (درّىّ) بِهمزٍ وغير همز رُويا عَنْهُ جَميعًا ولا تُعرف جهة ضم أوله وهمزه لا يكون فِي الكلام فُعيل إلا عجميًا. فالقراءة إِذَا ضممت أوله بترك الْهَمْز. وإذا همزته كسرت أوّله. وهو من قولك: دَرَأ الكوكب إِذَا انحط كأنه رُجم «٣» بِهِ الشيطان فدمَغه «٤». ويُقال فِي التفسير: إنه واحد من الخمسة: المشترِي وزُحَل وعطارد والزُهرة والمريخ.
والعربُ «٥» قد تسمي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الدراريّ بغير همز.
ومن العرب من يقول: كوكب دِرِّيٌّ فينسبُهُ إلى الدُّرّ فيكسر أوَّله ولا يهمز كما قالوا: سُخْرِيّ وسِخْرِيّ، ولُجّيّ ولِجّيّ.
وقوله (تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ) (تذهب «٦» إلى الزجاجة. إذا قال (توقد) «٧». ومن قال (يُوقَدُ) «٨» ذهب إلى المصباح ويقرأ (تَوَقَّدُ) «٩» مرفوعة مشددة. ويقرأ (تَوَقّدَ) بالنصب والتشديد. من قَالَ (تَوَقَّدُ) ذهب إلى الزجاجة. ومن قَالَ (توقّد) نصبًا ذهب إلى المصباح) وكلّ صواب.
(١) هى قراءة أبى عمرو والكسائي.
(٢) أي فى رواية أبى بكر لا فى رواية حفص. وهذه أيضا قراءة حمزة.
(٣) ش، ب: «زجر».
(٤) سقط فى ا.
(٥) ا: «يعد».
(٦) من هنا إلى قوله: «نصب ذهب إلى المصباح» هو ما فى ا. وفى ش، ب بدله: «مرفوعة. وتقرأ تَوَقّدَ) بالنصب والتشديد. من قَالَ (تَوَقَّدُ) ذهب إلى الزجاجة. ومن قال (توقد) فنصب ذهب إلى المصباح».
(٧) وهى قراءة أبى بكر وحمزة والكسائي وخلف، وافقهم الأعمش.
(٨) هى قراءة نافع وابن عامر وحفص
(٩) هى قراءة ابن محيصن والحسن.
252
وقوله (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) وهي شجرة الزيت تَنْبُت عَلَى تَلْعة «١» من الأرض، فلا يسترها عَن الشمس شيء. وهو أجود لزيتها فيما ذُكر. والشرقية: التي تأخذها الشمس إِذَا شرقت، ولا تصيبها إِذَا غربت لأن لَهَا سترًا. والغربية التي تصيبها الشمس بالعشي ولا تصيبها بالغداة، فلذلك قَالَ لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ولكنها شرقية غربية ١٢٨ ا. وهو كما تَقُولُ فِي الكلام: فلان لا مسافر ولا مقيم إِذَا كَانَ يسافر ويقيم، معناه: أَنَّهُ لَيْسَ بمنفرد بإقامة ولا بسفر.
وقوله (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) انقطع الكلام هاهنا ثُمَّ استأنف فقال (نُورٌ عَلى نُورٍ) ولو كَانَ:
نورًا عَلَى نورٍ كَانَ صوابًا تَخرجه من الأسماء المضمرة من الزجاجة والمصباح.
وقوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [٣٦] قرأ الناس «٢» بكسر الباء. وقرأ عَاصِم (يُسَبِّحُ) بفتح الباء. فمن قَالَ (يُسَبِّحُ) رفع الرجال بنيَّة فعل مجدد. كأنه قَالَ يُسبِّح لَهُ رجال لا تلهيهم تِجَارة.
ومن قَالَ (يُسَبِّحُ) بالكسر جَعَله فعلًا للرجال ولم يضمر سواهُ.
وقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ [٢٧] فالتجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل عَلَى يديه.
كذا جاء فِي التفسير «٣».
وقوله (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) يقول: من كَانَ فِي دنياه شاكًّا أبصر ذَلِكَ فِي أمر آخرته، ومن كَانَ لا يشك ازداد قلبُه بصرًا لأنه لَمْ يره فِي دنياهُ: فذلك تقلبها.
وأما قوله: فِي بيوت أذن الله أن ترفع [٣٦].
فإن دخول (فِي) لذكر «٤» المصباح الَّذِي وصفه فقال: كمثل مصباح فِي مسجد. ولو جَعلت (فى)
(١) التلعة هنا: ما ارتفع من الأرض.
(٢) هم غير ابن عامر وأبى بكر. أما هما فقراءتهما بالفتح. وقراءة أبى بكر هى المرادة بقوله: «وقرأه عاصم».
(٣) سقط فى ا.
(٤) ش، ب: «لذكره».
253
لقوله (يُسَبِّحُ) كَانَ جائزًا «١»، كأنه: قَالَ فِي بيوت أذن الله أن ترفع يسبج لَهُ فيها رجال.
وأمّا قوله (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي تبنى.
وأمّا قوله (وَإِقامِ «٢» الصَّلاةِ) فإن المصدر من ذوات الثلاثة إِذَا قلت: أفعلت كقيلك: أقمت وأجرت وأجبت يقال فيه كله: إقامة وإجارة وإجابة لا يسقط منه الْهَاء. وإنّما أدخلت لأن الحرف قد سقطت منه الْعَين، كَانَ ينبغي أن يُقال: أقمته إقوامًا وإجوابًا فلمّا سُكنت «٣» الواو وبعدها ألف الإفعال فسكنتا سقطت «٤» الأولى منهما. فجعلوا فِيهِ الْهَاء كأنها تكثير للحرف. ومثله مما أسقط منه بعضه فجعلت فِيهِ الْهَاء قولهم: وعدته عِدة ووجدت فِي المال جِدَةَ، وزِنَة ودِيَة وما أشبه ذَلِكَ، لِمَا أسقطت الواو من أوّله كُثر من آخره بالهاء. وإنما استجيزَ سقوط الْهَاء من قوله (وَإِقامِ الصَّلاةِ) لإضافتهم إيّاه، وقالوا: الخافض وما خَفَض بِمنزلة الحرف الواحد. فلذلك أسقطوها فِي الإضافة.
وقال الشاعر:
إن الخليطَ أجَدّوا البين فانجرَدُوا وأخلفُوكَ عِدَ الأمر الَّذِي وَعَدوا
يريدُ عِدَة الأمر فاستجازَ إسقاط الْهَاء حين أضافها.
وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [٣٩] القيعة جِماع القاع واحدها قاع كما قالوا: جارٌ وجيرة. والقاعُ من الأرض: المنبسط الَّذِي لا نبت فِيهِ، وَفِيهِ يكون السراب. والسراب ما لصق بالأرض، والآل الَّذِي يكون ضحى كالماء بين السماء والأرض.
وقوله (حَتَّى إِذا جاءَهُ) يعنى السّراب (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) وهو مثل للكافر كَانَ يحسب أَنَّهُ عَلَى شيء فلمّا قدم عَلَى ربه لَمْ يجد له عملا، بمنزلة السراب (وَوَجَدَ اللَّهَ) عند عمله يقول: قدم عَلَى الله فَوَفَّاهُ حسابه.
(١) ا: «صوابا». [.....]
(٢) فى الآية ٣٧ سورة النور.
(٣) أي يعد نقل حركتها إلى ما قبلها
(٤) ش، ب: «فسقطت».
254
قوله: أَوْ كَظُلُماتٍ [٤٠] والظلمات مثل لقب الكافر، أي أَنَّهُ لا يعقل ولا يُبصر، فوصف قلبه بالظلمات. ثُمَّ قَالَ: (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فقال بعضُ المفسرين: لا يراها، وهو المعنى لأن أقل من الظلمات التي وصفها الله لا يَرَى فيها الناظر كفّه. وقال بعضهم إنما هُوَ «١» مثل ضربه الله فهو يراها ولكنه لا يرها إلا بطيئًا كما تَقُولُ: ما كدت أبلغ إليك وأنت قد بلغت. وهو وجه العربية. ومن العرب ١٢٨ ب من يُدخل كاد ويكاد فِي اليقين فيجعلها بمنزلة الظن إِذَا دخل، فيما هُوَ يقين كقوله (وَظَنُّوا «٢» ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) فِي كثيرٍ من الكلام.
وقوله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ [٤١] وتسبيحه ترفع كلا بِما عاد إِلَيْهِ من ذكره وهى الهاء فى (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) وإن شئت جعلت العلم لكل، أي كل قد عاد صلاته وتسبيحه فإن شئت جعلت الهاء صلاة نفسه وتسبيحا. إن شئت: تسبيح الله وصلاته التي نُصليها لَهُ وتسبيجها، وَفِي القول الأول: كل قد علم الله صلاته وتسبيحه. ولو أتت كُلًّا قَد علم بالنصب عَلَى قولك: علم الله صَلاة كُلٍّ وتسبيحه فتنصب لوقوع الفعل عَلَى راجع ذكرهم. أنشدني بعض العرب:
كُلًّا قَرعنا فِي الحروب صَفَاته ففررتم وأطلتم الْخِذلانَا «٣»
ولا يَجوز أن تَقُولُ: زيدًا ضربتَهُ. وإنّما جاز فِي كل لأنّها لا تأتي إلا وقبلها كلام، كأنها مُتَّصِلَةٌ بِهِ كما تَقُولُ: مررت بالقوم كلهم ورأيتُ القوم كلا يقول ذَلِكَ، فلما كانت نعتًا مستقصًى بِهِ كانت مسبوقَةً بأسمائها وليس ذَلِكَ لزيد ولا لعبد «٤» الله ونحوهما لأنها أسماء مبتدآت.
وقد قَالَ بعضُ النحويين: زيدًا ضربته، فنصَبَهُ بالفعلِ كما تنصبه إِذَا كان قبله كلامٌ. ولا يَجوز ذَلِكَ إلا أن تنوي التكرير، كأنه نوى أن يوقع ب: يقع الضرب عَلَى زيد قبل أن يقع عَلَى الْهَاء، فلمّا تأخر الفعل أدخل الْهَاء على التكرير. ومثله ممّا يوضحه.
(١) ا: «هذا».
(٢) الآية ٤٨ سورة فصلت.
(٣) الصفاة: الصخرة الملساء. ويقال: قرع صفاته إذا آذاه ونال منه.
(٤) ا: «عبد الله».
255
قولك: بزيد مررت بِهِ. ويدخل عَلَى من قَالَ زيدًا ضَربتُهُ عَلَى كلمة «١» أن يقول: زيدًا مَررتُ بِهِ وليس ذَلِكَ بشيء لأنه لَيْسَ قبله شيء يكون طرفًا للفعل.
وقوله: يُزْجِي سَحاباً [٤٣] يسوقه حيثُ يريد. والعرب تَقُولُ: نحنُ نُزْجي المطىّ أي نسوقه.
وقوله (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يقول القائل: بين لا تصلح «٢» إلا مضافة إلى اثنين فما زاد، فكيف قَالَ (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) وإنما هُوَ واحدٌ؟ قلنا: هُوَ واحد فِي اللفظ ومعناه جمع ألا ترى قوله (يُنْشِئُ «٣» السَّحابَ الثِّقالَ) ألا ترى أن واحدته سحابة، فإذا ألقيت الْهَاء كَانَ بمنزلة نخلة ونخل وشجرة وشجر، وأنت قائل: فلان بين الشجر وبين النخل، فصلحت (بين) مع النخل وحده لأنه جمع فِي المعنى. والذي لا يصلح من ذَلِكَ قولك: المال بين زيد، فهذا خطأ حَتَّى تَقُولَ: بين زيد وعمرو وإن نويت بزيد أَنَّهُ اسم لقبيلة جاز ذَلِكَ كما تَقُولُ: المال بين تَميم تريد: المال «٤» بين بني تَميم وقد قَالَ الأشهب بن رُمَيلة:
قفا نسألْ منازل آل ليلى بتُوضِح بين حَوْمَل أو عرادا «٥»
أرادَ بِحومَل منزلًا جامعًا فصلحت (بين) فِيهِ لأنه أراد بين أهل حومل أو بين أهل عراد.
وقوله (فَتَرَى الْوَدْقَ) الْوَدْق: المطَرُ.
وقوله (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) يعذب بِهِ من يشاء.
قوله (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) والمعنى- والله أعلم- أن الجبال فِي السماء من برد خلقة مخلوقة، كما تقول فى الكلام، الآدمىّ من لحم ودم ف (من) هاهنا تسقط فتقول: الآدمىّ لحم ودم،
(١) أي على أن يكون جملة واحدة لا على نية التكرير.
(٢) ا: «يصلح.. مضافا».
(٣) الآية ١٢ سورة الرعد.
(٤) سقط في ا.
(٥) توضح وحومل وعراد مواضع.
والجبال بَرد. وكذا سمعت تفسيره. وقد يكون فِي العربية أمثال الجبال ومقاديرُهَا من الْبَرَد، كما نقول: عندي بيتان تِبنًا، والبيتان ليسا من التبن، إنما تريد: عندي «١» قدر بيتين من التبن. فمن فِي هَذَا الموضع إِذَا أسقطت نصبت ما بعدها، كما قَالَ (أَوْ عَدْلُ «٢» ذلِكَ صِياماً) وكما قال (مِلْءُ «٣» الْأَرْضِ ذَهَباً).
وقوله (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وقد قرأها أبو جعفر (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ١٢٩ اوقوله: وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ [٤٥] و (خَلَق «٤» ) وأصحاب عبد الله قرأوا (خالق) ذُكِرَ عَن أبي إسحاق السبيعي- قَالَ الفراء: وهو الهمداني- أَنَّهُ قَالَ: صليت إلى جنب عبد الله بن مَعْقل فسمعته يقول (وَاللَّهُ خَالِقُ كل دابَّة) والعوام بعدُ (خَلَقَ كُلَّ).
وقوله (كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) يُقال: كيف قَالَ (مَنْ يَمْشِي) وإنما تكون (مَن) للناس وقد جعلها هاهنا للبهائم؟
قلت: لَمَّا قَالَ (خالق كل دابَّة) فدخل فيهم الناسُ كنى عنهم فقال (منهم) لِمخالطتهم الناس، ثم فسّرهم بِمن لَمّا كنى عنهم كناية الناس خاصة، وأنت قائل فِي الكلام: من هذان المقبلان لرجل ودابَّته، أو رجل وبعيره. فتَقوله بِمن وبِما لاختلاطهما، ألا ترى أنك تَقُولُ: الرجل وَأباعِرهُ مقبلون فكأنهم «٥» ناس إِذَا قلت: مقبلونَ.
وقوله: مُذْعِنِينَ [٤٩] : مطيعينَ غير مستكرَهينَ. يقال: قد أذعنَ بِحقي وأمعنَ بِهِ واحِدٌ، أي أقرّ بِهِ طائِعًا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ الله عليهم ورسوله [٥٠] فجعل الحيف منسوبا إلى الله
(١) ش: «قدر بيتبن».
(٢) الآية ٩٥ سورة المائدة. [.....]
(٣) الآية ٩١ سورة آل عمران.
(٤) قراءة (خالق) لحمزة والكسائي وخلف. وقراءة (خلق) للباقين.
(٥) ا: «كأنهم».
وإلى رسوله، وإنما المعنى للرسول، ألا ترى أَنَّهُ قَالَ (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) ولم يقل (ليحكما) وإنّما بدئ بالله إعظامًا لَهُ، كما تَقُولُ: ما شاء الله وشئت وأنت تريد ما شئت، وكما تَقُولُ لعبدك: قد أعتقك الله وأعتقتك.
وقوله: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ [٥١] لَيْسَ هَذَا بخبر ماض يُخبر عَنْهُ، كما تَقُولُ: إنَّما كنتُ صبيًّا، ولكنه: إنَّما كَانَ ينبغى أن يكون قول المؤمنين إذ دُعُوا أن يقولوا سمعنا. وهو أدب من الله. كذا جاء التفسير.
وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا [٥٤] واجه القوم ومعناه: فإن تتَولَّوا. فهي فِي موضع جزم. ولو كانت لقومٍ غير مخاطبين كانت نَصْبًا لأنها بِمنزلة قولك: فإن قَامُوا. والجزاء يصلح فِيهِ لفظ فَعَل ويَفعل، كما قال (فَإِنْ فاؤُ «١» فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا «٢» فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) هَؤُلَاءِ غير مُخاطبين. وأنت تعرف مجزومه من منصوبه بالقراءة بعده ألا ترى قوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) ولم يقل: وعليهم. وقال (وَإِنْ «٣» تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) فهذا يدل عَلَى فعلوا.
وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ [٥٥] الْعِدَة قول يصلح فيها أنْ وجواب اليمين. فتقول: وعدتك أن آتيك، ووعدتك لآتينَّكَ. ومثله (ثُمَّ «٤» بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) وإنّ أنْ تصلح فِي مثله من الكلام. وقد فُسِّرَ فِي غير هَذَا الموضع.
وقوله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) قرأها عَاصِم بن أبي النجود والأعمش (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتشديد. وقرأ
(١) الآية ٢٢٦ سورة البقرة
(٢) الآية ١٢٩ سورة التوبة.
(٣) الآية ١٣٧ سورة البقرة.
(٤) الآية ٣٥ سورة يوسف.
الناس «١» (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) خَفيفة وهما متقاربان. وإذا قلت للرجل قد بُدّلت فمعناه غُيِّرت وغَيِّرت حالك ولم يأت مكانك آخر. فكل ما غُيِّر عَن حاله فهو مُبَدَّل بالتشديد. وقد يَجوز مُبْدَل بالتخفيف وليس بالوجه: وإذا جعلت الشيء مكان الشيء قلت: قد «٢» أبدلته كقولك (أبدل لي «٣» ) هَذَا الدرهم أي أعطني مَكَانه. وبَدّل جائزة «٤» فمن قال (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) فكأنه جعل سبيل الخوف أمْنًا. ومن قَالَ (وليُبْدِلَنّهم) بالتخفيف قَالَ: الأمن خلاف الخوف فكأنه جَعل «٥» مكان الخوف أَمْنًا أي ذهبَ بالخوفِ وَجَاءَ بالأمن. وهذا من سعة العربية وقال أَبُو النجم:
عزل الأمير للأَمير المبدَل
فهذا يوضح الوجهين جَميعًا.
وقوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [٥٧] قرأها حَمْزَةُ «٦» (لا يَحْسَبنَّ) بالياء هاهنا «٧». وموضع (الَّذِينَ) رفع. وهو قليلٌ أن تعطل (أظنّ) من الوقوع عَلَى أن أو عَلَى اثنين سِوَى مرْفوعها.
وكأنه جَعَلَ (مُعْجِزِينَ) اسمًا وجعل (فِي الْأَرْضِ) خبرًا لَهم كما تَقُولُ: لا تحسبنّ ١٢٩ ب الَّذِينَ كفروا رجالًا فِي بيتك، وهم يريدون أنفسهم. وهو ضعيف فِي العربية. والوجه أن تُقرأ بالتاء لكون الفعل واقعًا عَلَى (الَّذِينَ) وَعَلَى (معجزين) وكذلك قرأ حَمْزَةُ فِي الأنفال (ولا يحسبن «٨» الذين كفروا سبقوا).
(١) قرأ بالتخفيف ابن كثير وأبو بكر ويعقوب.
(٢) سقط في ا.
(٣) ش، ب: «أبدلنى».
(٤) ا: «جائز».
(٥) ا: «قال جعل».
(٦) وكذا ابن عامر.
(٧) بعده فى ش: «وفى الأنفال» وقد أثبتنا ما فى امن التصريح بالآية بعد. [.....]
(٨) الآية ٥٩. وقد قرأ (يحسبن) بالياء ابن عامر وحمزة وحفص.
259
وقوله: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [٥٨] يعني الرجال والنساء. ثُمَّ قَالَ (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) الصبيان (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ثُمَّ فسرهُنَّ فقال (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) عند النوم. ثم قال (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) فنصبها عَاصِم «١» والأعمش، ورفع غيرهما. والرفع فِي العربية أحبُّ إليّ. وكذلك أقرأ. وَالْكِسَائي يقرأ بالنصب لأنه قد فسرها فِي المرات وفيما بعدها فكرهت أن تُكر ثالثة «٢» واخترت الرفع لأن المعنى- والله أعلم- هَذِه الخصال وقت العورات لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ. فمعها ضمير يرفع الثلاث. كأنك قلت: هَذِه ثلاث خصال كما قال (سُورَةٌ «٣» أَنْزَلْناها) أي هذه سورة، وكما قَالَ (لَمْ يَلْبَثُوا «٤» إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).
وأمّا قوله (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) فإنه أيضا مُستأنف كقولك فِي الكلام: إنما هم خَدَمكم، وطوَّافون عليكم. ولو كَانَ نصْبًا لكان صوابًا تخرجه «٥» من (عليهم) لأنها معرفةو (طَوَّافُونَ) نكرة ونصبه «٦» كما قَالَ (مَلْعُونِينَ «٧» أَيْنَما ثُقِفُوا) فنصب لأن فِي الآية قبلها ذكرهم «٨» معرفة، و (مَلْعُونِينَ) نكرة.
وقوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [٥٩] يقول:
لا يدخلن عليكم فِي هَذِه الساعات إلا بإذن ولا فِي غير هَذِه الساعات إلا بإذن. وقوله (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد الأحرار.
(١) أي فى رواية أبى بكر لا في رواية حفص. وكذلك قرأ بالنصب حمزة والكسائي:
(٢) ش: «ثلاثة».
(٣) أول سورة النور.
(٤) الآية ٣٥ سورة الأحقاف.
(٥) أي يكون حالا.
(٦) سقط في ا.
(٧) الآية ٦١ سورة الأحزاب.
(٨) أي ذكر أصحاب الحال فى قوله: «لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك».
260
وقوله: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً [٦٠] لا يطمعن فِي أن يتزوجن من الكبر (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) و (من ثيابِهنّ) وهو الرداء. فرخّص للكبيرة أن تضعه، لا تريدُ لذلك التزين. ثُمَّ قال (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) فلا يضعن الأردية (خَيْرٌ لَهُنَّ) وَفِي قراءة عبد الله (أن يضعن من ثيابهم).
وقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [٦١] إلى آخر الآية، كانت الأنصار يتنزهون عَن مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض، ويقولون: نُبصر طيب الطعام ولا يبصره فنسبقه إِلَيْهِ، والأعرج لا يستمكن من القعود فينال ما ينال الصحيح، والمريض يضعف عَن الأكل. فكانوا يعزلونَهم.
فنزل: ليس عليكم فى مؤاكلتهم حرج. و (فى) تصلح مكان (على) هاهنا كما تقول: ليس عَلَى صلة الرحم وإن كانت قاطعة إثم، وليس فيها إثم، لا تبالي «١» أيَّهما قلت.
ثُمَّ قَالَ (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى آخر الآية. لَمّا أنزل الله (لا تَأْكُلُوا «٢» أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير ممن أذن الله فِي الأكل معه ومنه، فقال: وليس عليكم (فِي أنفسكم «٣» ) فِي عيالكم أن تأكلوا منهم ومعهم إلى قوله (أَوْ صَدِيقِكُمْ) معناهُ: أو بيوت صديقكم، وقبلها (أَوْ بُيُوتِ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) يعني بيوت عبيدكم وأموالهم «٤» فذلك قوله (مَفاتِحَهُ) خزائنه وواحد المفاتِح مَفتح إِذَا أردت بِهِ المصدر وإِذَا كَانَ من المفاتيح التي يفتح بِهَا- وهو الإقليد- فهو مِفْتَح ومفتاح.
وقوله (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) إِذَا دخلَ عَلَى أهله فليُسَلّم. فإن لَمْ يكن فى بيته أحد فليقل السّلام
(١) ا: «ولا تبال».
(٢) الآية ٢٩ سورة النساء.
(٣) سقط في ا.
(٤) ش: «أموالكم».
261
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).