تفسير سورة النّور

جهود القرافي في التفسير

تفسير سورة سورة النور من كتاب جهود القرافي في التفسير
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ

٨٩٦- خصص الصحابة عموم قوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ بما تواتر عنه عليه السلام أنه رجم المحصن١ وهو فعل. ( العقد : ٢/٣٩٤. وشرح التنقيح : ٢٠٧ )
٨٩٧- حديث الرجم مقيد للحالة المطلقة لا مخصصا لعموم آية الزنا، فإن الآية إنما اقتضت جلد كل زان وزانية في حالة وهي حالة عدم الإحصان. فالعموم باق على عمومه. ( العقد : ٢/٣٩٥ ).
٨٩٨- قوله تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾ :
القاعدة : أن النهي لا يرد إلا فيما يمكن كسبه جلبا ودفعا، وأن ما لا يمكن اكتسابه جلبا ولا دفعا إذا رد طلب جلبه أو دفعه بالأمر أو النهي يتعين صرف ذلك إما إلى ثمرته أو إلى سببه.
فما يتعين صرفه لثمرته قوله تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾ مع أن الرأفة تهجم على القلب قهرا عند وجود أسبابها، فلا يمكن اجتنابها. فقال ابن عباس رضي الله عنهما لأجل هذا : " معناه : لا تنقصوا الحد "، أن تنقيص الحد هو ثمرة الرأفة والرقة، فلما تعذر النهي عن الرأفة تعين صرفه لثمرتها. ( الاستغناء : ٥٣٢- ٥٣٣. والفروق : ٢/١٩ ).
* قوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ :
٨٩٩- يقتضي أن المأمور هاهنا غير معين.
والجواب عنه : أن الأمر متوجه على الجميع بالحضور عند حد الزناة حتى يفعل ذلك طائفة من المؤمنين، فيسقط الأمر عن الباقين. وهذا ليس مأخوذا من اللفظ، بل من القاعدة الإجماعية التي تقدمت. ٢ ( الفروق : ٢/١٨ ).
٩٠٠- في الجلاب : " ينبغي إحضار حد الزناة وطائفة من المؤمنين الأحرار العدول، أربعة فصاعدا، وكذلك السيد في عبده وأمته " ٣ لقوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾. ( الذخيرة : ١٢/٨٧ ).
٩٠١- في الجواهر : " يحضر أربعة فأكثر٤ لقوله تعالى في الزنا :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ فيحضرون هاهنا بجامع التغليظ، ولأن قطع الأسباب وفساد الأعراض أمر عظيم، فيغلظ في سببه " ٥. ( نفسه : ٤/٣٠٥ ).
٩٠٢- في الكتاب : " يضرب في الحدود كلها على الظهر. ويجرد في الحد والنكال من الثياب، ويقعد ولا يقام ولا يمد. وتقعد المرأة، لا تجرد مما لا يقيها الضرب لأنه السنة٦ في الغامدية وغيرها، وينزع ما يقيها كاللبد ونحوه. وأعجب مالكا أن تجعل في القفة بالستر " ٧.
وصفة الجلد في الحدود والتعزير واحد، لا مبرح ولا خفيف. ولا يجزئ في الحد قضيب، ولا شراك ولا درة، بل السوط. ودرة عمر رضي الله عنه إنما كانت للتأديب. وكان يجلد بالسوط. ( نفسه : ١٢/٨٠ ).
١ - الحديث خرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين، باب: الاعتراف بالزنا. كما خرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا..
٢ - ذكر القرافي هذه القاعدة في الفرق الثاني والخمسين ين قاعدة خطاب غير المعين وقاعدة الخطاب بغير المعين: الفروق: ٢/١٦-١٧..
٣ - ن: التفريع: ٢/٢٢٤..
٤ - أي: في الملاعنة..
٥ - ن: الجواهر الثمينة بتصرف: ٢/٢٤٧..
٦ - روي عن علي موقوفا: "يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة في الحد". ن: السنن الكبرى للبيهقي: ٨/٣٢٧. والدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر: ٢/٩٨..
٧ - ن: المدونة: ٤/٤٨٩ بتصرف. والمنتقى: ٧/١٤٢..
٩٠٣- وفيه من الأسئلة : هل هذه الحصور باقية أو نسخت أو خصصت أم لا ؟ وما المستثنى وما المستثنى منه في المعنى وفي اللفظ ؟.
والجواب : أن هذه الآية فيها أربعة تأويلات :
الأول : روي عن ابن عباس وأصحابه رضوان الله عليهم أن النكاح في هذه الآية المراد به الوطء دون العقد١.
ومقصود الآية التنفير من الزنا بذكر سوء حاله وما فاعله مشبه به فيه، وأنه محرم على المؤمنين كما في أول السورة، فأعيدت القصة مبالغة في المعنى وتأكيدا في التنفير منه، ومعناه : " الزاني المسلم لا يطأ وقت زناه إلا زانية من المسلمات أو أخس منها من المشركات، والزانية لا ينكحها إلا زان من المسلمين أو أخس منه وهو المشرك "، وذلك كله منفر عن الزنا كما قال الشاعر :
إذا سقط الذباب على شراب***سأتركه ونفسي تشتهيه.
فإذا كان هذا الفعل لا يباشره إلا أراذل أخسة، نفر منه ذوو المروءات والأنفاث، لا سيما أرباب الديانات والمخافة من الله تعالى.
وأنكر الزجاج هذا وقال : " لا يرد النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج ". وكل نكاح في كتاب الله تعالى فالمراد به العقد إلا في قوله تعالى :﴿ حتى تنكح زوجا غيره ﴾٢ فالمراد به الوطء للسنة الواردة في ذلك.
الثاني : أن تكون الآية نزلت في قوم مخصوصين. قال ابن عمر وابن عباس أيضا وأصحابه. قالوا : " هم قوم كانوا يزنون في الجاهلية ببغايا مشهورات، فلما أسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج تلك النسوة لأنه كانت عادتهن الإنفاق على من يتزوجهن، فسمي هؤلاء الأزواج زناة باعتبار ما كانوا عليه في الجاهلية " ٣.
وقوله :﴿ لا ينكح ﴾ أي : لا يتزوج، وفي الآية على هذا التأويل تفجع عليهم وتوبيخ لهم على قلت همتهم وخساسة نفوسهم التي لم تنفر عن زواج زانية أو مشركة.
ويرد على هذا التأويل انعقاد الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك ؛ حكى هذا الإجماع ابن عطية وغيره.
ثم قوله تعالى :﴿ وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ أي : نكاح أولئك البغايا. أهل هذا التأويل يقولون : " إن أولئك البغايا محرمات على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهن نسوة معدودة معروفات بأسمائهن كن في المواخير– والمواخير جمع مأخور، وهو الموضع الذي كانت الجاهلية تؤخر فيه فتياتهم لهذا الغرض-.
والثالث : قاله الحسن أن المراد : الزاني المحدود والزانية المحدودة، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة. وروي أن محدودا تزوج بغير محددة فرد علي بن أبي طالب رضين الله عنه نكاحها.
وقوله تعالى :﴿ وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ يريد : الزنا. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله " ٤. وضعف الرواة هذا الحديث. ثم إدخال المشرك في هذه الآية يرده، وألفاظ الآية ترد هذا التأويل.
الرابع : قول ابن المسيب، قال : " هو حكم في الزناة عامة، وكن حراما على غير الزاني، ثم نسخ ذلك ورخص فيه بقوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم ﴾٥، وقاله مجاهد، غير انه قال : التحريم في أولئك النفر من الزناة خاصة لا في زناة عامة، غير أن ذكر المشرك يبقى يرد على ذلك ".
ويمكن أن يقال : أنه حكم كان ونسخ، غير أني لا أنقله في إباحة مسلمة لمشرك في وقت من الأوقات، لا منسوخا ولا غير منسوخ. ويحتمل أن يكون لفظ الشرك استعمل مجازا فيما يوجب تفويت النفس ؛ لأن الشرك يوجب تفويت النفس كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " ٦ فعبر بالشرك عن كونه يقتل بترك الصلاة كما يقتل بالشرك، فيكون من مجاز التعبير بالسبب الذي هو الشرك عن المسبب الذي هو تفويت النفس. وعلى هذا يكون المراد بالمشرك المحصن الذي يفوت نفسه بالرجم، وبالزاني المذكور معه الزاني البكر. ويحتمل أن يكون عبر بالمشرك عن من كثر زناؤه وإعراضه عن ربه تعالى، حتى صار به سوء صنيعه إلى الزنا كما قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكي " ٧. يشير إلى الزناء فيكون المشرك على هذا حقيقة لغوية مجازا شرعيا، لاشتهار المشرك في الشرع في الكافر ويكون المراد بالزاني المذكور معه، الزاني الذي لم يصل إلى هذه الرتبة بل ابتلي بالزنا فقط من غير رياء، ولا تقحم هذه المعاصي التي هي غير الزنا.
وأما المشركة فلا حاجة إلى تأويلها ؛ فإنها مباحة للمسلم والكافر إن كان شركها وهي كتابية، وإن كان المراد عموم المشرك حتى تندرج الوثنية اندرجت في الأشكال لتحريمها على المسلم.
إذا تقررت هذه التأويلات، فالآية على التأويل الأول محكمة، لا نسخ فيها ولا تخصيص أيضا، بل هي عامة، وفيها مجازات :
أحدها : التعبير بلفظ الخبر عن النبي فإن لفظها لفظ الخبر والمراد التنفير من الزنا، وهذا نهي، ويدخلها أيضا مجاز شرعي لاشتهار النكاح في العقد شرعا.
وعلى التأويل الثاني : تدخلها مجازات : أحدها : التخصيص وهو التعبير بصيغة العموم عن قوم مخصوصين. وثانيها : مجاز التعبير بلفظ الخبر عن النهي ؛ لأن المراد أيضا التنفير من تلك الحالة في سقوط الهمة. وثالثها : تسمية الزاني باعتبار ما كان عليه، وهو الآية قد وطئ بعقد صحيح ولا نسخ في الآية أيضا.
وعلى التأويل الثالث مجازان، أحدهما : التخصيص، فإنه عبر بلفظ الزناة العام عن المحدودين دون غيرهم. وثانيهما : التعبير بلفظ الخبر عن النهي، فإن المراد على هذا التأويل تحريم المحدودة والمحدود عل غيرهما إلى يوم القيامة من غير نسخ.
وفي التأويل الرابع يدخل النسخ دون التخصيص، ومجاز واحد وهو التعبير عن لفظ الخبر عن التحريم المنسوخ.
فهذا تقرير هذا الموضع.
وأما المستثنى والمستثنى منه، ففي صدر الآية من المفاعيل وقع الاستثناء فيها. فالمستثنى والمستثنى منه مفاعيل في اللفظ والمعنى، وفي آخر الآية المستثنى والمستثنى منه فاعلون في اللفظ والمعنى. ( الاستغناء : ٢٢٧ إلى ٢٣١ ).
٩٠٤- قال ابن يونس : قال ابن حبيب : لا يجوز نكاح الزانية المجاهرة لقوله تعالى :﴿ والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ ويستحب مفارقتها إن كانت زوجة إلا أن يبتلى بحبها لقوله عليه السلام لما قال له الرجل : " إن امرأتي لا ترد يد لامس. قال : قال : فارقها. قال : إني أحبها. قال : أمسكها " قال عليه السلام خشية أن يزني بها. خرجه مسلم٨. قال وما علم من ذلك استبرأه بثلاث حيض في الحرة، وحيضة في الأمة.
وكره مالك نكاح الزانية من غير تحريم، إما لأن النكاح في الآية المراد به الوطء على وجه الزنا، لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة كما روي عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما٩ أو لأنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم ﴾١٠ قاله ابن المسيب١١. ( الذخيرة : ٤/٢٥٩ ).
١ - ن: تفسير ابن كثير: ٣/٤٢١..
٢ - سورة البقرة: ٢٣٠..
٣ - ن: بعض الروايات الواردة في هذا الموضوع في تفسير ابن كثير: ٣/٤٢١- ٤٢٢..
٤ - خرجه أبو داود في سننه: ٢/٢٢٠..
٥ سورة النور: ٣٢..
٦ - خرجه أصحاب الكتب الستة، أغلبها ورد بلفظ: "بين العبد والكفر ترك الصلاة، ن: صحيح مسلم كتاب الإيمان ح: ١١٦ سنن الترمذي: كتاب الإيمان ح: ٢٥٤٣. سنن أبي داود: كتاب السنة ح: ٤٠٥٨....
٧ - أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجة في سننه، وقال المنذري: إسناد ابن ماجة رجاله ثقاة. ن: فيض القدير: ٤/٤٨٣..
٨ - الحديث خرجه النسائي في سننه، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية. عن ابن عباس. ولم يروه مسلم كما قال المؤلف..
٩ - ن: تفسير ابن كثير: ٣/٤٢١..
١٠ - سورة النور: ٣٢..
١١ - عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل: ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك﴾ قال: سمعته يقول: إنها قد نسخت بالآية التي بعدها. ثم قرأ: ﴿وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم﴾ ن: الموطأ برواية محمد بن الحسن: ٣٤٤. ح: ١٠٠٤ باب التفسير وعلق ابن العربي عليه بقوله: "قد بينا في القسم الثاني من (الناسخ والمنسوخ) من علوم القرآن أن هذا ليس بنسخ، وإنما هو تخصيص عام وبيان لمجمل كما تقتضيه الألفاظ وتوجيه الأصول من فسر النكاح بالوطء وبالعقد وتركيب المعنى عليه. والله أعلم". ن: أحكام القرآن: ٣/١٣٣١- ١٣٣٢..
٩٠٥- أمر بجلدهم عند عدم البينة وإن علم صدقهم. ( الفروق : ٤/٤٥. والذخيرة : ١٠/٩٢ ).
٩٠٦- قاعدة : مقابلة الجمع بالجمع في اللغة، تارة تتنوع الأفراد على الأفراد نحو : " الدنانير للورثة ". وتارة أحد الجمعين لكل فرد من الجمع الآخر. نحو : " الثمانون جلدة للقذف ". وتارة يثبت الجمع ولا يحكم على الأفراد، نحو : " الحدود للجنايات " إذا قصد أن المجموع للمجموع. إذا اختلفت أحوال المقابلة بطل كونه حقيقة في أحدهما ليلا يلزم الاشتراك أو المجاز، وبطل تخيل من اعتقد أن قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ﴾ يقتضي أن قذف الجماعة له حد واحد، لأنه قابل " الذين " وهو جمع بالمحصنات، وهو جمع، فيحصل أن الجميع إذا رمى الجميع يجب : ثمانون فقط. خالفنا ذلك في قذف الجمع للجمع، والواحد يبقى على مقتضاه في قذف الواحد للجمع، قاله الطرطوشي١ غيره، فيمنع كون ذلك مقتضاه. ( الذخيرة : ١٢-٤٢١ ).
٩٠٧- قوله تعالى :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون ﴾، المشهور عندنا قبول شهادة القاذف قبل جلده وإن كان القذف كبيرة، وقاله أبو حنيفة رضي الله عنه، وردها عبد الملك ومطرف والشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم٢.
لنا : أنه قبل الجلد غير فاسق لأنه ما لم يفرغ من جلده يجوز رجوع البينة أو تصديق المقذوف له، فلا يتحقق الفسق إلا بعد الجلد، والأصل استصحاب العدالة والحالة السابقة.
احتجوا بوجوه :
الأول : أن الآية اقتضت ترتيب الفسق على القذف، وقد تحقق القذف فيتحقق الفسق سواء جلد أم لا.
الثاني : أن الجلد فرع ثبوت الفسق، فلو توقف الفسق على الجلد لزم الدور.
الثالث : أن الأصل عدم قبول الشهادة إلا حيث تيقن العدالة ولم تيقن هنا، فترد
والجواب عن الأول : أن الآية اقتضت صحة ما ذكرناه وبطلان ما ذكرتموه لأن الله تعالى قال :﴿ فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ﴾ فرتب الشهادة والفسق على الجلد، وترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم، فيكون الجلد هو السبب المفسق، فحيث لا جلد لا فسوق، وهو مطلوبنا أو عكس مطلوبكم.
وعن الوجه الثاني : أن الجلد فرع ثبوت الفسق ظاهرا ظهورا ضعيفا لجواز رجوع البينة أو تصديق المقذوف، فإذا أقيم الجلد قوي الظهور بإقدام البينة وتصميمها على أذيته، وكذلك المقذوف. وحينئذ نقول : إن مدرك رد الشهادة إنما هو الظهور القوي لأنه المجمع عليه، والأصل بقضاء العدالة السابقة.
قال الباجي : " قال القاضي أبو إسحاق والشافعي : لابد في توبة القاذف من تكذيبه لنفسه، لأنها قضينا بكذبه في الظاهر لما فسقناه، فلو لم يكذب نفسه لكان مصرا على الكذب الذي فسقناه لأجله في الظاهر " ٣.
وعليه إشكالان :
أحدهما : أنه قد يكون صادقا في قذفه، فتكذيبه لنفسه كذب، فكيف تشترط المعصية في التوبة هي ضدها، ونجعل المعاصي سبب صلاح العبد قبول شهادته ورفعته ؟.
وثانيهما : أنه إن كان كاذبا في قذفه فهو فاسق، أو صادق فهو عاص، لأن تعبير الزاني بزناه معصية فكيف ينفعه تكذيب نفسه مع كونه عاصيا بكل حال ؟
والجواب عن الأول : أن الكذب لأجل الحاجة جائز كالرجل مع امرأته ؛ وللإصلاح بين الناس. وهذا التكذيب فيه مصلحة الستر على المقذوف، وتقليل الأذية والفضيحة عند الناس، وقبول شهادته في نفسه وعوده إلى الولاية التي يشترط فيه العدالة وتصرفه في أموال أولاده وتزوجه لمن يلي عليه وتعرضه للولايات الشرعية.
وعن الثاني : أن تعيير الزاني بزناه صغيرة لا تمنع الشهادة. قال مالك : " لا يشترط في قبوله توبته ولا قبول شهادته تكذيبه لنفسه، بل صلاح حاله بالاستغفار والعمل الصالح كسائر الذنوب " ٤. ( الفروق : ٤/٦٩-٧٠. والذخيرة : ١٠/٢١٩-٢٢٠ ).
٩٠٨- قال مالك وأكثر أصحابه وأبو حنيفة : " إن شهادة القاذف جائزة حتى يحد، لأن الله تعالى قال :﴿ ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾ فرتب عدم القبول على عدم الإتيان بالشهادة. وإذا لم يحد فهل تتأتى منه إقامة الشهادة ؟ وقال الشافعي وعبد الملك : لا تقبل، لأنه قبل الحد شر منه بعده، لأن الحد كفارة له. وإذا تاب قبلت عند مالك ومنعها أبو حنيفة٥ لقوله تعالى :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾. ( الذخيرة : ١٢/١١٧ ).
١ - هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري المعروف بالطرطوشي، أبو بكر (ت: ٤٧٤هج) من كتبه: "الحوادث والبدع" و"رسالة في تحريم جبن الروم " و"اختصار الكشف والبيان عن تفسير القرآن" وغيرها. ن: الديباج ٢/٢٤٤- ٢٤٨. وشجرة النور: ١٢٤-١٢٥..
٢ - قال ابن رشد: "قال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا..." بداية المجتهد: ٦/١٤١..
٣ - ن: المنتقى: ٥/٢٠٧- ٢٠٨. بتصرف..
٤ - ن: الموطأ: ١٢/٧٢١. كتاب الأقضية، باب: القضاء في شهادة الحدود..
٥ - ن: بداية المجتهد: ٦/١٤١..
٩٠٩- الاستثناء في قوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا ﴾ على التفسيق دون قبول الشهادة وهو باطل لأن سبب الرد التفسيق، إذا زال قبلت. ( الذخيرة : ١٢/١١٧ ).
٩١٠- قال أشهب : " من ظهرت توبته، جازت شهادته حد في قذف أو غيره من الحدود، لقوله تعال :﴿ إلا الذين تابوا ﴾١. ".
وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون : " لا ترد شهادة القاذف حتى يجلد، وبقبول شهادة القاذف إذا تاب قاله الشافعي وابن حنبل. وقال أبو حنيفة بعدم قبولها٢ ".
لنا : قوله تعالى :﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾٣ الآية، فدل ذلك أن العدل لا يتبين في خبره، ويقبل، وهذا عدل، وقوله تعالى :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾٤ وقال أيضا :﴿ وأشهدوا ذوي عدل ﴾٥ ولم يفرق. وقوله تعالى :﴿ إن الله يحب التوابين ﴾٦ ومن أحبه الله تعالى فهو عدل. والاستثناء في آيات القذف يدل على ذلك، وإجماع الصحابة، فإن الذين شهدوا على المغيرة٧ بالزنى جلدهم عمر رضي الله عنه، ثم قال لهم بعد ذلك : " توبوا تقبل شهادتكم " فتاب منهم اثنان فقبل شهادتهما، وقال لأبي بكرة٨ : " تب تقبل شهادتك، وهو يقول : لا أتوب " ٩ ولم يخالفه أحد١٠، فكان إجماعا منهم.
ثم القاذف إذا قذف فحد، ثم أسلم قبلت شهادته، فكذلك المسلم، وجميع الحدود إذا تاب جناتها قبلوا، وهي أعظم من القذف كالزنى إجماعا. والحد مطهر فيجب القبول، والحد استيفاء حق، فلا يبقى مانع من القبول.
احتجوا بقوله تعالى :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾ ولم يفرق، لأنه خصص بهذا، فلو أنه يقبل إذا تاب، وسائر المعاصي كذلك، لم يبق في التخصيص فائدة، ولأن الجلد لا يرتفع بالتوبة، فكذلك رد الشهادة، ولأن الاستثناء في الآية يجب عوده على آخره في الآية، وهي قوله تعالى :﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾ صونا للكلام عن الإبطال، فيبقى قوله تعالى :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾ على حاله، وأصل مالك : عود الجملة الأخيرة فلم ينقض أصله هاهنا.
والجواب عن الأول : أنا نخصص التأبيد بحالة عدم التوبة لأنه فسق.
وعن الثاني : أن فائدة التخصيص ثبوت الحكم في الزنى، وغيره بطريق الأولى، لأن القذف أخفض رتبة منها، فإذا ردت الشهادة فأولى بغيره.
وعن الثالث : أن الحد حق كأخذ المال والقصاص، فكما لا يسقط رد المال في الحرابة وغيرها بالتوبة، فكذلك الحدود ( لا شهادة إنما هو اهتضام والحار عن تعظم الله تعالى )١١، والحوبة، تمحوها التوبة، فتقبل شهادته.
وعن الرابع : أن العلة في أحكام هذه المسائل واحدة، وهي القذف، وقبح الجناية، فإذا زال ذلك بالتوبة، وحسنت حاله مع الله تعالى زالت تلك الأحكام كلها لزوال سببها المتحد إلا الحد لكونه لا يزول لما تقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الغامدي : " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ١٢ فأخبر عن عظيم توبتها، ومع ذلك رجمها، فعلم بأن الحدود لا تسقط بالتوبة إلا الحرابة لكون الحد فيه تنكيلا، ولا تنكيل مع التوبة، وهو في غيرها إن وقع قبل التوبة هو تنكيل، أو بعدها فتطهير. وهو الجواب عن مخالفتنا لأصلنا. ( نفسه : ١٠/٢١٧-٢١٨ ).
١ - وهو مذهب مالك. ن: المدونة: ٤/٢٣..
٢ - ن: بداية المجتهد: ٦/١٤١..
٣ - سورة الحجرات: ٦..
٤ - سورة البقرة: ٢٨٢..
٥ - سورة الطلاق: ٢..
٦ - سورة البقرة: ٢٢٢..
٧ - هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود، الثقفي يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبو عيسى. أسلم عام الخندق، وشهد الحديبية، (ت: ٥٠هج) ن: سيرة ابن هشام: ١/٣١٣. وجمهرة أنساب العرب لابن حزم: ٢٦٧..
٨ - هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو، الثقفي، وهو ممن نزل يوم الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف في "بكرة" فأسلم (ت: ٥١ هج) ن: أسد الغابة: ٥/٣٨-٣٩..
٩ - ن: أسد الغابة: ٥/٣٨..
١٠ - ن: المدونة: ٤/٢٣..
١١ - كذا وردت هذه العبارة في المصدر المطبوع، والمخطوط أيضا نقلا عن المحقق..
١٢ - رواه مسلم في الحدود، وأبو داود في الحدود أيضا، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
ن: صحيح مسلم: كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى. سنن أبي داود: كتاب الحدود باب المرأة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة..

٩١١- " الشهداء " جمع، وهو أعم من الأنفس. و " الأنفس " أخص بمنزلة الواحد من الكل. ( الاستغناء : ١٠٠ ).
٩١٢- الأصل في القذف : التحريم وإيجاب الحد، كما هو في الأجنبي، وإنما أبيح للزوج لضرورة حفظ النسب وشفاء الصدور، ولما خرج من حيز التحريم لم يناسب العقوبة بالجلد مطلقا، بل عند عدم ظهور الغرض الصحيح، وجعل له مخلص بالأيمان المباحة لقوله تعالى :﴿ والذين يرمون أزواجهم ﴾ الآيات. ( الذخيرة : ٤/٢٨٧ ).
٩١٣- في الكتاب : " يبدأ بالزوج لأن لعانه سبب عن قذفه، فيدرأ عن نفسه الحد، وسبب للعانها لأنه الموجب للحد عليها لكونه مثل البينة، ولقوله تعالى بعد ذكر لعانه :﴿ ويدرأ عنها العذاب ﴾ فدل على توجه العذاب عليها، وهو الحد، فتشهد أربع شهادات. فيقول في الرؤية : " أشهد بالله لرأيتها تزني " وفي نفي الحمل : " أشهد بالله لزنت " لأن القاعدة : مطابقة البينة واليمين للدعوى. وتقول في الخامسة :﴿ أن لعنة الله عليه عن كان من الكاذبين ﴾
وتقول المرأة في الرؤية :" أشهد بالله ما زنيت " أربع مرات، وفي الخامسة :﴿ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ﴾١.
قال ابن يونس : زاد أصبغ في حلف الرؤية : " تزني، كالمرود في المكحل " وفي حلف المرأة في نفي الحمل، وإنه لمنه " ٢.
وروي عن ابن القاسم في نفي الحمل : " أشهد بالله إني لمن الصادقين، وما هذا الحمل مني، ولزنت " لنفي احتمال الغضب.
قال أصبغ : " وإن دل مكان " إن كنت من الكاذبين " : " إن كنت كذبتها " أجزأ. والمرأة في الخامسة : " مكان ﴿ إن كان من الصادقين ﴾ : " إنه من الكاذبين " أجزأها، لاتحاد المعنى. لكن لفظ القرآن أولى. ( نفسه : ٤/٣٠٥-٣٠٦ ).
٩١٤- " درأ " معناه : الدفع. ومنه قوله تعالى :﴿ ويدرأ عنها العذاب ﴾. ( الأمنية في إدراك النية مطبوع مع كتاب " الإمام القرافي... ٤٩٥ ).
١ - ن: المدونة: ٢/ ٣٥٢ بتصرف والجواهر الثمينة: ٢/٢٤٦.
٢ - ن: الجواهر الثمينة: ٢/٢٤٦..
٩١٥- قوله تعالى :﴿ الغافلات ﴾ أي : اللاتي لم يخطر لهن الفساد، ولا يشعرن به قط، فتحمل الآية الأخرى على هذه، لأنها مطلقة، وتلك مقيدة، وهي قوله تعالى :﴿ الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ﴾. ( الذخيرة : ١٢/٦٩ ).
٩١٦- للإحصان في القرآن أربعة معان١ : العفاف، وهو المراد بهذه الآية. والثاني الزوجات في قوله تعالى :﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾٢. وقوله تعالى :﴿ محصنات غير مسافحات ﴾٣ والثالث : الحرية في قوله تعالى :﴿ فإذا أحصن ﴾٤. ( نفسه : ١٢/١٠٣ ).
١ - لم يتطرق على المعنى الرابع، والظاهر أنه الإسلام، جاء في لسان العرب (١٣/١٢٠):" أصل الإحصان المنع والمرأة تكون محصنة بالإسلام والعفاف والحرية والتزويج"..
٢ - سورة النساء: ٢٣..
٣ - سورة النساء: ٢٥..
٤ - سورة النساء: ٢٥..
٩١٧- قوله تعالى :﴿ الخبيثات للخبيثين ﴾ المراد : العصاة. ( نفسه : ٤/١٠٤ ).
٩١٨- " الطيب " في اللغة : الملائم للطباع، المستحسن اللائق بالسياق، يدل على ذلك قوله تعالى :﴿ الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ﴾. وليس المنبتات، بل البعيدات من الدناءات الشرعية. ( نفسه : ١/٣٤٨ ).
٩١٩- في الموطإ : " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : " يا رسول الله، أستأذن على أمي ؟ " فقال : " نعم ". فقال : " إني معها في البيت ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا. قال : فاستأذن عليها " ١.
قال الباجي : " الاستئذان على كل بيت فيه أحد واجب، تستأذن ثلاثا، فإن أذن لك، وإلا رجعت لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ﴾٢ قال مالك : " الاستيناس : الاستئذان ثلاثا " ٣. قال عليه السلام : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " ٤. ( نفسه : ١٣/ ٢٩٥ ).
٩٢٠- في البيان : " قال مالك : الاستيناس : التسليم، وإن أذن له من باب الدار فليس له أن يستأذن إذا وصل باب البيت " ٥. قال صحب البيان : " وتفسير الاستيناس بالتسليم بعيد لقوله تعالى :﴿ حتى تستأنسوا وتسلموا ﴾ فغاير بينهما. وعن مالك : " الاستيناس : الاستئذان "، وهو الصحيح، وعليه أكثر المفسرين. وقيل : " حتى تونسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم ونحوه حتى يعلموا إرادتكم الدخول ".
وقال الفراء : " في الكلام تقديم وتأخير، تقديره :( حتى تسلموا وتستأذنوا ) وهو أن تقول : السلام عليكم، أأدخل ؟ ٦ لأن ابن مسعود كان يقرؤها : " حتى تسلوا على أهلها وتستأذنوا " ٧. ( الذخيرة : ١٣/ ٢٩٦ ).
١ - خرجه مالك في الموطإ: ٢/٩٣٦. كتاب الاستئذان، باب الاستئذان. وذكره الباجي في المنتقى: ٧/٢٨٣..
٢ - هذا القول رواه الباجي عن القاضي أبي محمد. ن: المنتقى: ٧/٢٨٣..
٣ - ن: البيان والتحصيل: ١٨/٤٦٩..
٤ - خرجه في الموطإ: ٢/٩٦٣ كما ذكره الباجي في المنتقى: ٧/٢٨٤..
٥ - ن: البيان والتحصيل: ١٨/٤٦٩. وقد علق ابن رشد على هذا التفسير بقوله: "فالاستيناس هو الاستئذان في الصحيح من الأقوال لأنه استفعال من الأنس". ن: المقدمات من كتاب المدونة: ٣/٤٤٤..
٦ - ن: المنتقى: ٧/٢٨٤..
٧ - ن: تفسير ابن كثير: ٣/٤٤٧..
٩٢١- قوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ يقتضي العفو عن الوجه واليدين من الحرة، لأنه الذي يظهر عند الحركات للضرورة، عما يظهر من الأمة عند التقليب للشراء، وهو ما عدا السرة والركبة. ( نفسه : ٢/١٠٤ ).
٩٢٢- إن النكاح حقيقة في الوطء، وهو متعذر من المرأة، وإذا تعذرت الحقيقة فحمله على التمكين منه أولى، لأنه أقرب المجازات إلى الحقيقة، ويوضحه قوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم ﴾ فخاطب الأولياء دون النساء. ( الذخيرة : ٤/٢٠١ ).
٩٢٣- خاطب الأولياء بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، ولو كان ذلك للمرأة لتعذر ذلك. وقال عليه السلام : " لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " ١ خرجه الدارقطني، وقال إنه حديث صحيح. ( الفروق : ٣/١٣٧ ).
٩٢٤-قوله تعالى :﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ﴾ : وصفهم بالفقر يدل على قبولهم للغنى، فإنه لا يقال للجماد : أعمى ولا أصم، لعدم قبوله للبصر والسماع، ثم إنهم إما أن يكونوا فقراء أو لا يكونوا، فقد اتصفوا بالغنى، وهو فرع الملك، فثبت أنهم يملكون وإن كانوا فقراء، فقد قال الله تعالى : إنه يغنيهم، وخبره تعالى صدق، فلابد أن يتصفوا بالغنى، وهو فرع الملك، فصار الملك لازما للنقيضين، فيكون واقعا قطعا، لأنه لابد من وقوع أحد النقيضين قطعا. ( الذخيرة : ٥/٣١٠ ).
١ - خرجه ابن ماجة في سننه، كتاب النكاح، ح: ١٨٧٢. ولم أعثر على تخريجه في سنن الدارقطني..
٩٢٥- يطلق النكاح على الصداق لأنه سبب كالعقد، نحو قوله تعالى :﴿ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ﴾ أي : صداقا، ويحتمل أن يكون من باب الإضمار، أي سبب النكاح، ليس المجاز أولى من الإضمار على ما تقرر في الأصول. ( نفسه : ٤/١٨٨ ).
١٥ :﴿ الذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ﴾٣٣.
٩٢٦- الخير : قيل : الدين : ليتخلصوا لطاعة الله تعالى. وقيل : المال، ليتم العقد. ( نفسه : ١١/٢٤٧ ).
٩٢٧- رفعها : تعظيمها وإجلالها عما لا يليق بها.
٩٢٨- تنزه المساجد عما هذا. ( الذخيرة : ١٣/١٨٩ ).
٩٢٩- مفهومه : أن الله تعالى لا يجازيهم على الحسن، وهو كذلك، إذا فسرنا الحسن بما ليس منهيا عنه كان أدنى رتبة الإباحة وأعلى رتبة المطلوب، فيكون المباح الحسن، والمطلوب الأحسن، والجزاء إنما يقع في المطلوب. فالجزاء إنما هو في الأحسن لا في الحسن، فقد عملنا بالآية مفهوما ومنطوقا. ( شرح التنقيح : ٩٠ ).
٩٣٠- عبر عن الذي يمشي على بطنه نحو الحيات، وعلى أربع نحو الخيل والإبل ب " من " اختلافها مع من يعقل في صدر الآية في قوله تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾ وعموم الدابة يشمل العقلاء وغيرهم، فغلب على الجميع حكم من يعقل، فكان الجميع عقلاء، فلذلك جاء التفصيل كله بلفظ " من ".
و " الذي " يقع على من يعقل وما لا يعقل من المذكورين.
و " الذين " لا يقع إلا على من يعقل خاصة، لأن الياء التي فيه مشبهة بالياء في جمع السلامة، نحو : المشركين والزيدين الخاص بمن بعقل. ( العقد المنظوم : ١/٤٧٩ ).
٩٣١- قال صاحب القبس١ : " الاستئذان : استفعال، من الإذن، وعمه الله في كل موضع وجعله أصلا في كل رقبة، وهيبة لكل منزل، حتى قال النبيصلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة : " فآتي فاستأذن على ربي في داره٢ فيؤذن لي٣ ".
ووقته مأخوذ من قوله تعالى :﴿ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾ الآية. والآذن هو من كان من أهل المنزل، وإن كان الصبي الصغير يعقل الحجبة ويفهم الإذن. ( الذخيرة : ١٣/٢٩٦ ).
١ - ن: القبس: ٣/١١٤٤ بتصرف في التقديم والتأخير..
٢ - قال محقق القبس: "كذا في جميع النسخ: (في داره) ولم أجدها في أي رواية من روايات الحديث، وأعتقد أنها خطأ من النساخ. ن: القبس: ٣/١١٤٤ هامشا..
٣ - خرجه البخاري في صحيحه: ٦/١٠٥ و٤/١٦٣. ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان. ح: ١٩٤..
٩٣٢- علق البلوغ والحكم على الحلم، فلا يتعلق بغيره. ( الذخيرة : ٨/٢٣٨ ).
٩٣٣- في الموطإ : " مالك بلغه أنه إذا دخل البيت غير المسكون يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " ١.
قال الباجي : " إذا لم يكن فيه من يسلم عليه فليسلم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين كما يفعله في التشهد، لقوله تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ﴾ قال ابن عباس : " معناه إذا دخلتم بيوتا فقولوا : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين٢. " وإذا دخل الإنسان منزله ينبغي أن يسلم على أهله٣. قال صاحب القبس : يقال : السلام معرفا : " السلام عليكم- بالألف واللام- ومنكرا : " سلام عليكم ". فإن نكر فهو مصدر، تديره : " ألقيت عليك مني سلاما، فألق علي سلاما منك ". وإن عرف احتمل أن يكون مصدرا معرفا. واحتمل أن يكون اسم الله تعالى معناه : " الله رقيب عليك " ٤. والسنة تقديم السلام على " عليك ". ويكره : " عليكم السلام " ففي أبي داود : " قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : عليك السلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قل سلام عليكم. فإن عليك السلام تحية الميت " ٥.
يشير عليه السلام على ما وردت به اللغة في قولهم :
عليك سلام الله٦ قيس بن عاصم***ورحمته ما شاء أن يترحما
وكقول الآخر :
عليك سلام الله مني٧ وباركت***يد الله في ذاك الأديم الممزق
( نفسه : ١٣/٢٩١-٢٩٢ ).
١ - ن: الموطأ، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان. والمنتقى: ٧/٢٨٣..
٢ - ن: المنتقى: ٧/٢٨٣..
٣ - هذا القول رواه الباجي عن ابن القاسم، ن: المنتقى: ٧ /٢٨٣..
٤ - ن: اللسان: ١٢/٢٩٠..
٥ - خرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار. والترمذي في سننه، كتاب الاستئذان والآداب باب ما جاء في كراهية أن يقول: عليك السلام مبتدئا..
٦ - قال ابن بري: "وإنما فعلوا ذلك لأن المسلم على القوم يتوقع الجواب وأن يقال له: "عليك السلام" فلما كان الميت لا يوقع منه جواب جعلوا السلام عليه كالجواب" ن: اللسان: ١٢/٢٩٠..
٧ - جاء في اللسان ١٢/٢٩٠: "عليك سلام من أمير....
٩٣٤- معنى الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء له، إلا أن يخص بلفظ الصلاة دون الدعاء لقول الله عز وجل :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ فتقول : " اللهم صل على محمد " ولا تقل : " اللهم ارحم محمدا، أو اغفر لمحمد، وارض عن محمد. ولا اللهم صل على فلان. وتقول : " اللهم ارحم فلانا ولا تصل على غيره إلا معه ". ( الذخيرة : ١٣/٢٩٤ ).
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).