تفسير سورة النّور

التفسير القيم

تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير القيم
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلب المسلم. وهذا هو النور الذي أودعه الله في قلب عبده من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره. وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس. وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته فتتزايد حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل ثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم، وإن كان سائر الخلق له منكر. فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا.
منهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأعطى على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا آماله إلى الظلمة والذهاب.
وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة، وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج حتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه. وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن، وهي الصفاء والرقة والصلابة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق، ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها :﴿ أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] وقال تعالى :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وقال تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾ [ التحريم : ٩ ].
وفي أثر :«القلوب آنية الله تعالى في أرضه، فأحبها إليه وأرقها وأصلبها وأصفاها ».
[ القلوب القاسية والمريضة ]
وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض :
أحدهما :( قلب حجري قاس )، لا رحمة فيه، ولا إحسان ولا بر، ولا له صفاء يرى به الحق، بل هو جبار جاهل، لا علم له بالحق ولا رحمة للخلق.
وبإزائه :( قلب ضعيف مائي ) لا قوة فيه ولا استمساك، بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور، ولا قوة التأثير في غيره. وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف، وطيب وخبيث.
وفي «الزجاجة » : مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته، ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار.
فهذه مادة نور المصباح. وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن : هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها عن الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء.
فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار فاشتدت بها إضاءته وقويت مادة ضوء النار به كان ذلك نورا على نور.
وهكذا المؤمن : قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه. وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه. فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة. نور على نور، فيكاد ينطق بالحق، وإن لم يسمع فيه أثرا، ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت به فطرته، فيكون نورا على نور.
فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة.
فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض، ونوره في قلوب عباده المؤمنين : النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي. فهما نوران عظيمان، أحدهما أعظم من الآخر.
وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره، لأن الحيوان إنما يكون حيث النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يتكون البتة، فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والإيمان ميتة ولا بد، وقلب فقد منه هذا النور : ميت ولا بد، لا حياة له البتة، كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه.
وقد فسر قوله تعالى :﴿ الله نور السموات والأرض ﴾ بكونه منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق له اسم «النور »، الذي هو أحد الأسماء الحسنى.
والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين : إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.
فالأول كقوله عز وجل :﴿ وأشرقت الأرض بنور ربها ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى، إذا جاء لفصل القضاء.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور :«أعوذ بنور وجهك الكريم : أن تُضلَّني. لا إله إلا أنت ».
وفي الأثر الآخر :«أعوذ بوجهك - أو بنور وجهك - الذي أشرقت له الظلمات ».
فأخبر صلى الله عليه وسلم : أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله، كما أخبر تعالى : أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي «معجم الطبراني » و«السنة » له، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي وغيرها : عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال :«ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه ».
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض.
وأما من فسرها بأنه مُنَوِّر السموات والأرض فلا يتنافى بينه وبين قول ابن مسعود رضي الله عنه.
والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.
وفي «صحيح مسلم » وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قام بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال :«إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه ».
وفي «صحيح مسلم » عن أبي ذر رضي الله عنه قال :«سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال :«نور. أنى أراه ؟ ! ».
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : معناه : كان ثم نور، زو حال دون رؤيته نور، فأنى أراه ؟
قال : ويدل عليه : أن في بعض الألفاظ الصحيحة «هل رأيت ربك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : رأيت نورا ».
وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس، حتى صحفه بعضهم فقال «نور إني أراه » على أنها ياء النسب. والكلمة كلمة واحدة، وهذا خطأ لفظا ومعنى. وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ : أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وكان قوله «أني أراه » كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث، ورده بعضهم باضطراب لفظه.
وكل هذا عدول عن موجب الدليل.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في «كتاب الرؤية » له إجماع الصحابة على أنه لم يرد به ليلة المعراج. وبعضهم استثنى ابن عباس رضي الله عنه فيمن قال ذلك.
وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه. وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين، حيث قال : إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد كلفظ ابن عباس رضي الله عنهما.
ويدل على صحته : ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «حجابه النور » فهذا النور هو - والله أعلم - النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه «رأيت نورا ».
وقوله تعالى :﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ﴾
هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه وغيره.
وقد اختلف في مفسر الضمير في «نوره » فقيل : هو النبي صلى الله عليه وسلم أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : مفسره المؤمن، أي : مثل نور المؤمن.
والصحيح : أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى : مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور : رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظا ومعنى.
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى، إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه. ويضاف إلى العبد، إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة.
وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل : هو الله تعالى مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء. والقابل : العبد المؤمن. والمحل : قلبه. والحامل : همته وعزيمته [ والمادة : قوله وعمله ].
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره : ما تقر به عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان :
إحداهما : طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن.
فتأمل صفة المشكاة، وهي كُوَّة تنفذ لتكون أجمع للضوء - قد وضع فيها مصباح. وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادتة من أصفى الأدهان وأتمها وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة. والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وصفه في قلب عبده المؤمن، وخصه به.
والطريقة الثانية : طريقة التشبيه المفصل، فقيل : المشكاة صدر المؤمن. والزجاجة : قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها. وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن، ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى.
وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف «القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله أرقها وأصلبها وأصفاها » والمصباح هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة : هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتقدمنها.
والنور على النور نور الفطرة الصحيحة
و«السراب » ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، كأنه ماء يجري.
و«القيعة » والقاع : هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد.
فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله : بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه، فيخيب ظنه، ويجده نارا تتلظى.
فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس، واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء، وإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب فنقلوهم إلى نار الجحيم :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾ [ محمد : ١٥ ] وذلك الماء الذي سقوه هو بلك العلوم التي لا تنفع والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعال حميما، وسقاهم إياه، كما أن طعامهم :﴿ من ضريع * لا يسمن ولا يعني من جوع ﴾ [ الغاشية : ٦. ٧ ] وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة، التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع.
وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم ﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الدين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ [ الكهف : ١٠٣. ١٠٤ ].
وهم الدين عنى الله بقوله :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ].
وهم الذين عنى بقوله تعالى :﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ومنا هم بخارجين من النار ﴾ [ البقرة : ١٦٧ ].
القسم الثاني من هذا الصنف : أسحاب الظلمات.
وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاطت بهم جاهليتهم من كل وجه، وهم لذلك بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلا.
فهؤلاء أعمالهم التي يعملونها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد، واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى.
فظلمات : جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، ن وظلمة ظلم النفس بالتقليد واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور.
فالمعرض عما بعث الله به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات : قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم، وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور جدََّ في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره. فهرب إلى ظلمات الآراء. التي هي به أنسب. كما قيل :
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قِطْعٌ من الليل مظلم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونحاتة الأذهان، جال وصال، وأبدي وأعاد، وقعقع وفرقع. فإذا طلع نور الوحي، وشمس الرسالة انجحر في جِحَرة الحشرات.
قوله :﴿ في بحر لجي ﴾ «اللجي » العميق، منسوب إلى لجة البحر. وهو معظمه.
وقوله تعالى :﴿ يغشاه موج منن فوقه موج من فوقه سحاب ﴾ تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه سبحانه وتعالى.
فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر. وأنها أمواج بعضها فوق بعض.
والضمير الأول في «يغشاه » راجع إلى البحر. والضمير الثاني في قوله «من فوقه » عائد إلى الموج.
ثم إن بلك الأمواج مغشاة بسحاب.
فهاهنا ظلمات : ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمه السحاب الذي فوق ذلك كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.
واختلف في معنى ذلك ؟
فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية، وأنه قد ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته. فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه.
قال هؤلاء :«كاد » من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات.
فإذا قيل : كاد يفعل هو إثبات مقاربة الفعل. فإذا قيل : لم يكد يفعل، فهو نفى لمقاربة الفعل.
وقالت طائفة أخرى : بل هذا دال على أنه إنما يراها تعد جهد شديد، وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر، لأجل تلك الظلمات.
قالوا : لأن «كاد » لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، فإذا قلت : ما كدت أصل إليك. فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة. فهذا إثبات للوصول، وإذا قلت : كاد زيد يقوم. فهي في لقيامه، كما قال تعالى :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ﴾ [ الجن : ١٩ ] ومنه قوله تعالى :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ﴾ [ القلم : ٥١ ] وأشد بعضهم في ذلك لغزا :
أنحوى هذا العصر : ما هي لفظة *** جرت في لسان جرهم وثمود
وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت *** فإن أثبتت قامت مقام جهود ؟
وقالت فرقة ثالثة، ( منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره ) : إن استعمالها مثبتة يقتضي نفي خبرها، كقولك : كاد زيد يقوم. واستعمالها يقتضي نفيه بطريق الأولى. فهي عنده تنفي الخبر، سواء كانت منفية أو مثبتة : فلم يكد زيد يقوم أبلغ عنده في النفي من لم يقم. واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل، وهو أبلغ من نفيه.
وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوع. واعتذر عن مثل قوله تعال :﴿ فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾ [ البقرة : ٧١ ] وعن مثل قوله : وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم : بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم كن مقاربا له. فالأول يقتضي وجود الفعل. والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.
وذهبت فرقة رابعة : إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرق النقي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله ﴿ فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾ [ البقرة : ٧١ ].
فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.
والصحيح : أنها فعل يقتضي المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها. فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا، يكون منفيا باللزوم.
وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة، كما إذا قلت : لا يكاد البطال يفلح، ولا يكاد الجبان يفرح. ونحو ذلك.
وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل تعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك.
فهذا التحقيق في أمرها.
والمقصود : أن قوله :﴿ لم يكد يراها ﴾ إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :
إذا غَيَّر النأي المحبين، لم يكد *** رسيس الهوى من حب مَيَّة يبرح
أي لم يقارب البراح. وهو الزوال. فكيف يزول ؟
فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يدع رائيه من بعيد، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه.
وشبهها ثانية في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج، الذي قد غشيه السحاب من فوقه.
فياله تشبيها ما أبدعه، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال، وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وترك به كتابه.
وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم.
وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم. فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.
وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة. فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه.
وقال في «أعلام الموقعين » :
ذكر سبحانه للكافرين مثلين : مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان :
أحدهما : من يظن انه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم. فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير الله، وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له، وليست كذلك، وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ].
وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة - وهي الأرض القفر الخالية من البناء، والشجر والنبات والعالم - فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله :﴿ يحسبه الظمآن ماء ﴾ والظمآن : الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه، فلم يجده شيئا، بل خانه أحوج ما كان إليه. فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولغير الله جعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها، فلم يجدوا شيئا، ووجدوا الله سبحانه ثَمَّ فجازاهم بأعمالهم، ووفاهم حسابهم.
وفي «الصحيح » من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة «ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال : كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون ؟ قالوا : نريد أن تسقينا، فيقال لهم : اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم : كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولدا فما تريدون ؟ فيقولون : نريد أن تسقينا، فيقال لهم : اشربوا، فيتساقطون » وذكر الحديث.
وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه.
فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل.
فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة، كالعمل لغير الله، أو على غير أمره، بطل العمل ببطلان غايته، وتضرر عامله ببطلانه، وبحصول ضد ما كان يؤمله، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده، لا له ولا عليه، بل صار معذبا بفوات نفعه، وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى :﴿ ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾ [ النور : ٣٩ ] فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.

فصل


النوع الثاني : أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع، وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم، فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي، لا ساحل له، وقد غشيه موج، ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج وظلمة السحاب.
وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان.
وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة، وهو الماء، والظلمات المضادة للنور : نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين، ( وهما المثل المائي، والمثل الناري )، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور، والموت المضاد للحياة، فكذلك الكفار في هذين المثلين : حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له، وحظهم الظلمات المتراكمة.
وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأصحاب المثل الثاني : هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعموا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين.
وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى :﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح - إلى قوله - ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ [ النور : ٣٥. ٣٨ ].
فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم، ( وهم أهل النور )، والضالين، ( وهم أصحاب السراب )، والمغضوب عليهم ( وهم أهل الظلمات المتراكمة )، والله أعلم.
فالمثل الأول : من المثلين : لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع.
والمثل الثاني : لأصحاب العلم الذي لا ينفع، والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم : بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة، من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشبهات في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل.
فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين : يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه، أن الموجب لذلك : أنه لم يجعل لهم نورا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها، فلم يخرجهم منها إلى النور، فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.
وفي «المسند » من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول : جف القلم على علم الله ».
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).