تفسير سورة النّور

جهود ابن عبد البر في التفسير

تفسير سورة سورة النور من كتاب جهود ابن عبد البر في التفسير
لمؤلفه ابن عبد البر . المتوفي سنة 463 هـ

٣٤٦- معنى قول الله- عز وجل- :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾ معناه الأبكار دون من قد أحصن، وأما المحصن فحده الرجم، إلا عند الخوارج، ولا يعدهم العلماء خلافا، لجهلهم وخروجهم عن جماعة المسلمين. ( ت : ٥/٣٢٤ )
٣٤٧- روى وكيع عن عمران بن حدير١، عن أبي مجلز، في قوله- عز وجل :﴿ و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾، قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان. ( س : ٢٤/٩٢-٩٣ )
١ هو الإمام الحجة، أبو عبيدة السدوسي البصري، حدث عن أبي عثمان النهدي، وأبي قلابة، وعكرمة، وصلى وراء أنس بن مالك، وعنه حدث كل من شعبة، وحماد بن زيد، ووكيع، وغيرهم. توفي سنة ١٤٩هـ انظر سير أعلام النبلاء: ٦/٣٦٣-٣٦٤..
٣٤٨- أخبرنا عبد الله١، حدثنا محمد٢، حدثنا أبو داود، حدثنا إبراهيم بن محمد التميمي، قال : حدثنا يحيى، عن عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، روى عن جده، أن مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها عناق، وكانت صديقته، قال : جئت النبي- صلى الله عليه وسلم- وقلت : يا رسول الله، أنكح عناقا ؟ قال : فسكت عني، ونزلت :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية ﴾-الآية، فدعاني صلى الله عليه وسلم وقرأها علي، وقال :( لا تتزوجها )٣. ( الاستيعاب : ٣/١٣٨٥ )
٣٤٩- قال أبو عمر : قد يأتي النهي بلفظ الخبر، ويكون معناه النهي، وذلك موجود في كتاب الله كثير، نحو قوله :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ﴾، جاء بلفظ الخبر، وكان سعيد بن المسيب وغيره يقول : إنها منسوخة بقول الله- عز وجل- :﴿ وانكحوا الأيامى منكم ﴾٤، ولو لم يكن عمده في هذا الخبر معنى النهي ؛ ما أجاز فيه النسخ، ومثله كثير. ( ت : ١٧/٣٩٩ )
١ هو عبد الله بن محمد بن عبد المومن، أبو محمد، سمع إسماعيل بن محمد الصفار، وأبا بكر محمد بن بكر بن عبد الرزاق المعروف بابن داسة صاحب أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأحمد بن سلمان النجاد، ومحمد بن عثمان بن ثابت الصيدلاني، صاحب إسماعيل القاضي، ونحوهم. روى عنه أبو عمر ابن عبد البر وهو من أبرز شيوخه. انظر جذوة المقتبس: ٣٩٢..
٢ هو محمد بن بكر المعروف بابن داسة. تقدمت ترجمته..
٣ أخرجه أبو داود في النكاح، باب في قوله تعالى: ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية﴾: ٢/٢٢٠. وفيه (لا تنكحها) بدل (لا تتزوجها)..
٤ سورة النور: ٣٢..
٣٥٠- قال مالك : فالأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح، تجوز شهادته، وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك١.
قال أبو عمر : هذا يدل على أنه سمع الاختلاف في هذه المسالة. ( س : ٢٢/٣٥ )
٣٥١- قال أبو عمر : إنما جعل الله الذين يرمون المحصنات فاسقين برميهم لهن لا بجلدهم، والمحصنون في حكم المحصنات بإجماع، وكذلك كل مؤمن محمول على العفاف حتى يصح غيره، وقذف المؤمن من الكبائر، فمن قذفه سقطت شهادته حتى تصح براءته- والله أعلم وبالله التوفيق. ( س : ٢٢/٤٥ )
١ الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في شهادة المحدود: ٤٧٢. وانظر تفسيره المجموع: ٢٩٢..
٣٥٢- اليمين قد تسمى شهادة، قال الله تعالى ذكره :﴿ أربع شهادات بالله ﴾، أي أربه أيمان. ( س : ٢٢/٢٧ )
٣٥٣- قال الضحاك في قوله :﴿ ويدؤوا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله ﴾-الآية، قال : إن أبت أن تلاعن رجمت إن كانت ثيبا، وجلدت إن كانت بكرا، وهو قول الجمهور. ( س : ١٧/٢١٠ )
٣٥٤- مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن غير واحد من علمائهم، أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب. فاستأذن ثلاثا ثم رجع، فأرسل عمر بن الخطاب في أثره فقال : مالك لم تدخل ؟ فقال أبو موسى : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول :( الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ). فقال عمر : ومن يعلم هذا ؟ لئن لم تأتني بمن يعلم ذلك لأفعلن بك كذا وكذا، فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد يقال له مجلس الأنصار. فقال : إني أخبرت عمر بن الخطاب أني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول : الاستئذان ثلاث، فغن أذن لك فادخل وإلا فارجع ). فقال : لئن لم تأتني بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا، فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي. فقالوا لأبي سعيد الخذري : قم معه، وكان أبو سعيد أصغرهم. فقام معه، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم١.
قال أبو عمر : في هذا الحديث من الفقه إيجاب الاستئذان، وهو يخرج في تفسير قول الله – عز وجل :﴿ لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها ﴾، والاستئناس في هذا الموضع هو الاستئذان، كذلك قال أهل التفسير، وكذلك في قراءة أبي، وابن عباس " تستأذنوا وتسلموا على أهلها " ٢.
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل أبو جعفر الصائغ، قال : حدثنا عفان، قال : حدثني ثابت بن زيد، قال : حدثنا عاصم الأحول، عن عكرمة، قال : في قراءة أبي بن كعب : حتى تسلموا أو تستأذنوا، قال : وتعلم منه ابن عباس. ( ت : ٣/١٩٦-١٩٧ )
١ الموطأ كتاب الاستئذان والتشميت، باب الاستئذان: ٦٤٠-٦٤١..
٢ انظر جامع البيان: ١٨/١١٠..
٣٥٥- قال أبو عمر : اختلف العلماء في تأويل قول الله – عز وجل :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾، فروي عن ابن عباس وابن عمر :﴿ إلا ما ظهر منها ﴾، الوجه والكفان، وروي عن ابن مسعود :﴿ ما ظهر منها ﴾، الثياب، قال : لا يبدين قرطا١، ولا قلادة، ولا سوارا، ولا خلخالا، إلا ما ظهر من الثياب. وقد روي عن أبي هريرة في قوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾، قال : القلب والفتحة، رواه ابن وهب عن جرير بن حازم، قال : حدثني قيس بن سعد ؛ أن أبا هريرة كان يقول : فذكره. قال جرير بن حازم، القلب : السوار. والفتحة : الخاتم، وقال جابر بن زيد : هي كحل في عين أو خاتم في خنصر. وقال سعيد بن جبير : الجلباب والرداء. وعن عائشة مثل قول أبي هريرة. وقد روي عن ابن مسعود – ولا يصح – البنان٢، والقرط، والدملج، والخلخال، والقلادة يريد موضع ذلك- والله أعلم. واختلف التابعون فيها أيضا على هذين القولين، وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب. ( ت : ٦/٣٦٨-٣٦٩. وانظر س : ٥/٤٤٤-٤٤٥ )
٣٥٦- قال أبو عمر : اختلف العلماء في معنى قوله تعالى :﴿ أو ما ملكت أيمانهن ﴾، في الآيتين، إحداهما في سورة النور، قوله :﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أبناء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ﴾. والأخرى في سورة الأحزاب، قوله :﴿ لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن ﴾٣. ذكر إسماعيل ابن إسحاق، قال : حدثنا أبو بكر- يعني ابن أبي شيبة- قال : أخبرنا أبو أسامة. عن يونس بن أبي إسحاق. عن طارق. عن ابن المسيب. قال : لا تغرنكم هذه الآية :﴿ أو ما ملكت أيمانهن ﴾، إنما عني بها الآباء ولم يعن بها العبيد، قال : وأخبرنا أبو بكر قال : أخبرنا شريك، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس قال : لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. ( ت : ١٦/٣٢٥-٢٣٦ )
٣٥٧- اختلف العلماء في معنى قوله- عز وجل- :﴿ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ﴾ اختلافا متقارب المعنى لمن تدبر.
ذكر ابن أبي شيبة، قال : حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن :﴿ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ﴾، قال : هم قوم طبعوا على التخنيث، فكان الرجل منهم يتبع الرجل يخدمه ليطعمه وينفق عليه، لا يستطيعون غشيان النساء ولا يشتهونهن قال : وحدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله :﴿ غير أولي الإربة من الرجال ﴾، قال : هو الأبله الذي لا يعرف أمر النساء. قال : وأخبرنا جرير عن مغيرة، عن الشعبي، قال : هو الذي لم يبلغ أربه أن يطلع على عورات النساء. وذكر محمد بن ثور، وعبد الرزاق- جميعا- عن معمر، عن قتادة :﴿ أو التابعين غير أولي الإربة ﴾، قال : هو التابع الذي تبعك فيصيب من طعامك، ﴿ غير أولي الإربة ﴾، يقول : لا إرب له، ليس له في النساء حاجة.
وعن علقمة قال : هو الأحمق الذي لا يريد النساء ولا يردنه، وعن طاوس وعكرمة مثله، وعن سعيد بن جبير : هو الأحمق الضعيف العقل، وعن عكرمة أيضا هو العنين٤ووكيع عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال : هو الذي يريد الطعام، ولا يريد النساء، ليس له هم إلا بطنه، وعن الشعبي أيضا، وعطاء مثله، وعن الضحاك هو الأبله. وقال الزهري : هو الأحمق الذي لا همة له في النساء ولا أرب. وقيل : كل من لا حاجة له في النساء من الأتباع نحو الشيخ والهرم، والمجبوب٥. والطفل، والمعتوه، والعنين. ( ت : ٢٢/٢٧٣-٢٧٤ )
قال أبو عمر : هذه أقاويل متقاربة المعنى، ويجتمع في أنه لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء.
١ القرط: نوع من حلي الأذن معروف، اللسان: مادة "قرط": ٧/٣٧٤..
٢ البنان جمع بنة. وهي الريح الطيبة كرائحة التفاح ونحوها. أما البنان بفتح الباء فهي الأصابع، وقيل أطرافها. واحدتها بنانة. انظر اللسان. مادة "بنن": ١٣/٥٨-٥٩..
٣ سورة الأحزاب: ٥٥..
٤ العنين هو الرجل العاجز عن الجماع لمرض. القاموس الفقهي: ٢٦٣..
٥ المجبوب هو المقطوع ذكره. القاموس الفقهي: ٥٧..
٣٥٨- أصح ما في تأويل الآية- والله أعلم- أن الخير المذكور فيها هو القدرة على الاكتساب مع الأمانة، وقد يكتسب السؤال كما قيل : السؤال آخر كسب الرجل، أي أرذل كسب الرجل. ( س : ٢٣/١٩٤ )
٣٥٩- اختلف أهل العلم في معنى قول الله- عز وجل- :﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾ فذهبت طائفة من أهل العلم- وهو قول بعض أهل النظر من متأخري أصحاب الشافعي- إلى أن قوله – عز وجل- :﴿ وآتوهم من مال الله ﴾، لم يرد به سيدي المكاتبين ؛ وإنما هو خطاب عام للناس، مقصود به إلى من أتاه الله مالا تجب فيه زكاة. فأعلم الله عباده أن وضع الزكاة في العبد المكاتب جائز وإن كان لا يؤمن عليه العجز، وخصه من بين سائر العبيد بذلك، فجعل للمكاتبين حقا في الزكوات بقوله :﴿ وفي الرقاب ﴾١ قالوا : وهذا هو الوجه الذي يجب الاعتماد عليه في الإيتاء المذكور في الآية، لأن وضع بعض الكتابة لا تسميه العرب إيتاء، والإيتاء هو إعطاء ما تتناوله الأيدي بالدفع والقبض، وهذا هو المعروف عند أهل اللسان ؛ قالوا : ولو أراد الوضع عن المكاتب، لقال : ضعوا عنهم، أو فأعينوهم به، بل هو من مال غير الكتابة، ومعروف في نظام القرآن أن يسبق بضمير على غيره كما قال :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ﴾٢، والمأمور بالعضل : الأولياء لا المطلقون، ومثله قوله :﴿ أولئك مبرءون مما يقولون ﴾٣، والمبرؤون غير القائلين، وهذا كثير في القرآن. ( ت : ٢٢/١٨٨ )
٣٦٠- روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس في قوله – عز وجل- :﴿ وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾، قال : الربع من كتابته٤.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : ليس على السيد أن يضع عن مكاتبه شيئا من كتابته وتأويل قول الله- عز وجل- عندهم :﴿ وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾، على الندب والحض على الخير لا على الإيجاب.
وممن روي عنه أن الأمر بالإيتاء ندب وحض : بريدة الأسلمي، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وكان يرى الإيتاء أيضا فرضا من غير حد، ولا يرى وضع آخرها من هذا المعنى. ( ت : ٢٢/١٨٩ )
١ سورة التوبة: ٦٠..
٢ سورة البقرة: ٢٣١..
٣ سورة النور: ٢٦..
٤ انظر جامع البيان: ١٨/١٢٩-١٣٠..
٣٦١- روى أبو كريب قال : حدثنا أبو سلمة قال : حدثنا صالح بن حسان، قال : حدثنا عبد الله بن بريدة في قول الله- عز وجل- :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾، إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل، وبيت أريحا- بيت المقدس- بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة ومسجد قباء الذي أسس على التقوى بناهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم١. ( ت : ١٣/٢٦٨ )
١ انظر الجامع لأحكام القرآن: ١٢/٢٦٥-٢٦٦..
٣٦٢- قال بعض أهل العلم : إن الاستئذان ثلاث مأخوذ من قول الله- عز وجل- :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ﴾، قال : يريد١ ثلاث دفعات. قال : فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة٢ رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين.
قال أبو عمر : ما ذكره هذا القائل، وإن كان له وجه، فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها. والذي عليه جمهور أهل العلم في قوله- عز وجل- في هذه الآية :﴿ ثلاث مرات ﴾، أي ثلاث أوقات، ويدل على صحة هذا القول مساق الآية وتمامها فيها :﴿ من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض ﴾، وللكلام في هذه الآية في معنى العورات موضع غير هذا. ( س : ٢٧/١٦١-١٦٢ )
٣٦٣- قال مجاهد في قول الله- عز وجل :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾ن قال : عبيدكم المملوكون. ﴿ والذين لم يبغوا الحلم منكم ﴾، قال : الذين لم يحتلموا من أحراركم.
وقال ابن جريج : قلت لعطاء :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ﴾ قال : واجب على الناس جميعا أن يستأذنوا أحرار كانوا أو عبيدا.
وقال سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمان السلمي، قال :﴿ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾، قال : النساء، ما عنى بها إلا النساء. قال سفيان : نحن نقول : عنى بها الرجال إذا بلغوا الحلم استأذنوا.
وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي : ما حد الطفل الذي يستأذن ؟ قال : ابن أربع سنين، قال : لا يدخل على المرأة حتى يستأذن.
قال أبو عمر : قد جاءت رخصة في المملوك الوغد٣، وفي معاني من هذا الباب، تركت ذكرها ؛ لأني لم أر من الصواب إلا أن يكون المملوك من غير أولي الإربة٤، فيكون حكمه حكم الأطفال الذين لا يفطنون لعورات النساء، وكم من المماليك الأوغاد أتى منهم الفساد. ( س : ٢٦/٣٤٤-٣٤٥ )
٣٦٤- معنى الطوافين علينا : الذين يداخلوننا ويخالطوننا، ومنه قوله تعالى في الأطفال :﴿ طوافون عليكم بعضكم على بعض ﴾. ( س : ٢/١١٥ )
١ في كتاب الجامع لأحكام القرآن: ١٢/٣٠٤. "قال يزيد" وهو تصحيف..
٢ أخرج الإمام مالك من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: (الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فادخل، وإلا فارجع). الموطأ كتاب الاستئذان والتشميت. باب الاستئذان: ٦٤٠..
٣ الوغد: الخفيف الأحمق الضعيف العقل الأرذل الدنيء. وقيل: الضعيف في بدنه. اللسان. مادة "وغد": ٣/٤٦٤. وهو هنا بالمعنى الأول..
٤ انظر النص رقم ٣٥٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:٣٦٢- قال بعض أهل العلم : إن الاستئذان ثلاث مأخوذ من قول الله- عز وجل- :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ﴾، قال : يريد١ ثلاث دفعات. قال : فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة٢ رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين.
قال أبو عمر : ما ذكره هذا القائل، وإن كان له وجه، فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها. والذي عليه جمهور أهل العلم في قوله- عز وجل- في هذه الآية :﴿ ثلاث مرات ﴾، أي ثلاث أوقات، ويدل على صحة هذا القول مساق الآية وتمامها فيها :﴿ من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض ﴾، وللكلام في هذه الآية في معنى العورات موضع غير هذا. ( س : ٢٧/١٦١-١٦٢ )

٣٦٣-
قال مجاهد في قول الله- عز وجل :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾ن قال : عبيدكم المملوكون. ﴿ والذين لم يبغوا الحلم منكم ﴾، قال : الذين لم يحتلموا من أحراركم.
وقال ابن جريج : قلت لعطاء :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ﴾ قال : واجب على الناس جميعا أن يستأذنوا أحرار كانوا أو عبيدا.
وقال سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمان السلمي، قال :﴿ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾، قال : النساء، ما عنى بها إلا النساء. قال سفيان : نحن نقول : عنى بها الرجال إذا بلغوا الحلم استأذنوا.
وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي : ما حد الطفل الذي يستأذن ؟ قال : ابن أربع سنين، قال : لا يدخل على المرأة حتى يستأذن.
قال أبو عمر : قد جاءت رخصة في المملوك الوغد٣، وفي معاني من هذا الباب، تركت ذكرها ؛ لأني لم أر من الصواب إلا أن يكون المملوك من غير أولي الإربة٤، فيكون حكمه حكم الأطفال الذين لا يفطنون لعورات النساء، وكم من المماليك الأوغاد أتى منهم الفساد. ( س : ٢٦/٣٤٤-٣٤٥ )

٣٦٤-
معنى الطوافين علينا : الذين يداخلوننا ويخالطوننا، ومنه قوله تعالى في الأطفال :﴿ طوافون عليكم بعضكم على بعض ﴾. ( س : ٢/١١٥ )
١ في كتاب الجامع لأحكام القرآن: ١٢/٣٠٤. "قال يزيد" وهو تصحيف..
٢ أخرج الإمام مالك من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: (الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك فادخل، وإلا فارجع). الموطأ كتاب الاستئذان والتشميت. باب الاستئذان: ٦٤٠..
٣ الوغد: الخفيف الأحمق الضعيف العقل الأرذل الدنيء. وقيل: الضعيف في بدنه. اللسان. مادة "وغد": ٣/٤٦٤. وهو هنا بالمعنى الأول..
٤ انظر النص رقم ٣٥٧..

٣٦٥- ذكر الحارث بن مسكين، قال : سمعت أشهب بن عبد العزيز يقول : خرجنا مرابطين إلى الإسكندرية، فمررنا بجنان الليث بن سعد، فدخلنا فأكلنا من الثمر، فلما أن رجعت دعتني نفسي إلى أن أستحل ذلك من الليث، فدخلت إليه، فقلت : يا أبا الحارث إنا خرجنا مرابطين ومررنا بجنانك، فأكلنا من الثمر، وأحببنا أن تجعلنا في حل، فقال الليث : يا ابن أخي، لقد نسكت نسكا أعجميا، أما سمعت الله- عز وجل- يقول :﴿ أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ﴾. فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه الذي يسره بذلك، وأكثر ذلك فيما كان تمرا معلقا، غير المدخرات ما لا يتشاح في مثله، ويعلم أن صاحبه تطيب به نفسه. ( س : ٢٧/١١٢ )
٣٦٦- قال ابن جريج، قوله- عز وجل- :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية ﴾، قال : على أهليكم. قال : وقال : مجاهد في قوله :﴿ فسلموا على أنفسكم ﴾، قال : بعضكم على بعض، قال ابن جريج : وسئل عطاء : أحق على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم ؟ قال : نعم، يسلم عليهم. وقاله عمر وابن دينار. وقالوا جميعا : إذا دخلتم بيوتا، ﴿ فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ﴾. ( س : ٢٧/١٤٩ )
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).