ﰡ
والوجهُ الثانِ مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن: أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي: هذه سورةٌ. وقال أبو البقاء: «سورةٌ بالرفع على تقديرِ: هذه سورةٌ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ» سورةٌ «مبتدأَةً لأنها نكرةٌ». وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها. كيف يقول: لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه: فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة.
الرابع: أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ «ها» في «أَنْزِلْناها». والحالُ من المكنى يجوز أن تتقدَم عليه. قاله الفراء. وعلى هذا فالضميرُ في «أَنْزَلْناها» ليس عائداً على سورة بل على الأحكام. كأنه قيل: أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة.
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة ورُوَيْس بالنصبِ على الاشتغال. قال الزمخشري: «وهو أحسنُ
قوله: ﴿رَأْفَةٌ﴾ قرأ العامَّةُ هنا، وفي الحديد، بسكون الهمزة، وابنُ كثير بفتحها. وقرأ ابن جُرَيْج وتُروى أيضاً عن ابن كثير وعاصم» رَآفة «بألفٍ بعد الهمزة بزنةِ سَحابة، وكلُها مصادِرُ ل رَأَفَ به يَرْؤُف. وقد تقدَّم معناه. وأشهرُ المصادرِ الأولُ. ونقل أبو البقاء فيها لغةً رابعةً: وهي إبدالُ الهمزةِ ألفاً. ومثلُ هذا ظاهرٌ غيرُ محتاجٍ للتنبيهِ عليه فإنها لغةٌ مستقلةٌ وقراءةٌ متواترة.
وقرأ العامَّةُ» تَأْخُذْكم «بالتأنيثِ مراعاةً للَّفظِ. وعلي بن أبي طالب والسُّلمي ومجاهد بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفصلِ بالمفعولِ والجارِّ. و» بهما «متعلقٌ ب» تَأْخُذْكم «أو بمحذوفٍ على سبيل البيانِ. ولا يتعلَّقُ ب» رَأْفة «لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، وفي» دين الله «متعلقٌ بالفعلِ قبله أيضاً. وهذه الجملةُ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها، أو هي الجوابُ عند بعضِهم.
قوله: ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ، كابنِ جني، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال: «لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ. تقول: عندي ثلاثةُ ضاربون، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلطٌ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ، و «شهداء» مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه. قال تعالى: ﴿مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وتقول: عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل.
ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ، وليس
وفي ﴿شُهَدَآءَ﴾ على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه تمييزٌ. وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ. الثاني: أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص. الثالث: أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث.
قوله: ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ يجوزُ أن تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً. وهو الأظهرُ، وجَوَّزَ أبو البقاء فيها أن تكونَ حالاً.
ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. الثاني: أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في «لهم» وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه «وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ» هم «في» لهم «، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ. والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل: ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي: فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين». قال الشيخ: «وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها».
وقرأ العامَّةُ «يكن» بالياءِ من تحتُ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ «إلاَّ» على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو: «ما قام إلاَّ هندٌ» ولا يجوز: ما قامَتْ، إلاَّ في ضرورة كقوله:
٣٤٣٣ -.........................
أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ: «لا ترى إلاَّ مَساكنُهم» وقرىء «ولم تَكُنْ» بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه.
قوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ﴾ في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي: فعليهم شهادة، أو مُؤَخَّرهُ أي: فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ. الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالجوابُ شهادةُ أحدِهم. الثالث: أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: فيكفي. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ.
وقرأ العامَّةُ «أربعَ شهاداتٍ» بالنصبِ على المصدر. والعاملُ فيه «شهادة» فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه، كما تقدَّم في قولِه ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ [الإسراء: ٦٣]. وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «أربع» على أنها خبرُ المبتدأ، وهو قوله: «فشهادة».
ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله: «بالله»، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «فشهادةُ» أي: فشهادةُ أحدِهم بالله. ولا يَضُرُّ الفصلُ ب «أربع» لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً. والثالث: أن المسألةَ
قوله: ﴿أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ﴾ قرأ العامَّةُ بتشديد «أنَّ» في الموضعين. وقرأ
٣٤٣٤ -........................ | إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ |
٣٤٣٥ - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ | لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما |
قوله: ﴿كِبْرَهُ﴾ العامَّةُ على كسرِ الكافِ، وضَمَّها في قراءته الحسنُ والزهريُّ وأبو رجاء وأبو البرهسم وابن أبي عبلة ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن، ورُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ والكسائيّ فقيل: هما لغتان في مصدرِ كَبُرَ الشيءُ أي: عَظُم، لكن غَلَبَ في الاستعمالِ أنَّ المضمومَ في السِّنِّ والمكانةِ يُقال: هو كُبْرُ القومِ بالضمِّ أي: أكبرُهم سِنَّاً أو مكانةً. وفي الحديث في قصة مُحَيِّصَة وحُوَيِّصَة» الكُبْرَ الكُبْرَ «وقيل: الضم معظمُ الإِفْكِ، وبالكسرِ البُداءَةُ به. وقيل: بالكسر الإِثمُ.
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: «جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير». يعني أنهم جاؤوا ب «تَلِقُوْنه» وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب «تُكذِّبون» وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: «إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد:
٣٤٣٦ - جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ... وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون».
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تَأْلِقُوْنه» بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب «تِيْلَقُوْنه» بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل.
وقال الزمخشري أيضاً: «فإِنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ فاصلاً؟ قلت: الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه. فإنْ قلتَ: ما معنى» يكون «والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل: ما لنا أن نتكلَّم بهذا؟ قلت: معناه ينبغي ويَصِحُّ، أي: ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه: ﴿مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ﴾ [المائدة: ١١٦].
قوله: ﴿مَا زَكَا﴾ العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال: زكا يَزْكُو. وفي ألفه الإِمالةُ وعدمُها. وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها. وكُتبت ألفُه ياءً وهو شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا. وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ المُشَدَّدِ. فعلى قراءة التخفيفِ يكون «مِنْ أحد» فاعلاً. وعلى قراءةِ التشديدِ يكونُ مفعولاً. و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. والفاعلُ هو اللهُ تعالى.
٣٤٣٧ -.............................
ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأَلِيَّة كقوله: «مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه». ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى: ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ [آل عمران: ١١٨] قال:
٣٤٣٨ - وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه | بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ |
قلت: ومنه:
٣٤٣٩ - تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني | إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ |
والاستِئْناسُ: الاسْتِعْلام، قال:
٣٤٤٠ - كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا | يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَِدِ |
قال ابنُ عطية:» وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ «.
وقرأ طلحة «بخُمْرِهنَّ» بسكونِ الميمِ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ تسكينِ المفردِ. وكَسَر الجيمَ مِنْ «جُيُوْبِهِنَّ» ابنُ كثير والأخَوان وابن ذَكْوان.
والغَضُّ: إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية. قال:
٣٤٤١ - فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ | فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا |
٣٤٤٢ - وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ | كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ |
قوله: ﴿غَيْرِ أُوْلِي﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر «غيرَ» نصباً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه استثناءٌ، والثاني: أنَّه حالٌ، والباقون «غيرِ» بالجرِّ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدَّم اشتقاقُها في طه.
قوله: ﴿مِنَ الرجال﴾ حالٌ من «أُولي» وأمَّا قولُه: «أو الطفلِ الذين» فقد تقدَّم في الحج أن «الطفلَ» يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع. وقيل: لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم: «أهلكَ الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ».
و «عَوْرات» جمعُ عَوْرَة وهو: ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه، وغَلَبَ في السَّوْءَتين. والعامَّةُ على «عَوْرات» بسكون الواوِ، وهي لغةُ عامَّةِ العربِ، سَكَّنوها تخفيفاً، لحرفِ العلة. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ «عَوَرات» بفتح العين. ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش. وهي لغةُ هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة. قال الفراء: «وأنشدَني بعضُهم:
٣٤٤٣ - أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ | رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ |
قوله: ﴿أَيُّهَا المؤمنون﴾ العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء، وهي» ها «التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف ﴿ياأيها الساحر﴾ [الآية: ٤٩]، في الرحمن ﴿أَيُّهَا الثقلان﴾ [الآية: ٣١] بضم الهاء وصلاً، فإذا وَقَفَ سَكَّن. ووجْهُها: أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ. فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ، والباقون بدونِها، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ، وثَبَتَتْ في غير هذه المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل، نحو: ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ [البقرة: ٢١]، ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ [البقرة: ١٥٣] وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ مُتَّبَعَةٌ.
٣٤٤٤ - كلُّ امرىءٍ سَتَئِيْمُ مِنْهُ | العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ |
وقال الزمخشري: «وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما: إذا لم يتزوَّجا، بِكْرين كانا
٣٤٤٥ - فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي | وإن كنتُ أفتى منكمُ أتَأَيَّمُ |
قوله: ﴿عَلَى البغآء﴾ » البغاء «مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً، أي: زَنَتْ. وهو مختصٌّ بزِنى النساء. ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرداة.
قوله: ﴿فِإِنَّ الله﴾ جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط. والعائدُ على اسمِ الشرط محذوفٌ تقديرُه: غفور لهم. وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه، وابن عطية، وأبو البقاء: فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي: للمُكْرَهات، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ. لا يُقال: إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ: مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ، تقول:» هندٌ عجبْتُ مِنْ
وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ» بهم «ورَجِّح تقديرَ» بهنَّ «فقال:» فيه وجهان، أحدُهما: غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَلَ. والثاني: فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ. وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ «. وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ. ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ» لهنَّ «أورد سؤالاً فقال:» فإن قلتَ: لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزنى بخلاف المكرِه [عليه في أنها] غيرُ آثمةٍ. قلت: لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ. وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً «.
قوله: ﴿وَمَثَلاً﴾ عطفٌ على «آيات» أي: وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين قبلكم.
٣٤٤٦ - فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ | إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ |
٣٤٤٧ - قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد | ............................ |
قوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال
واختلفوا في الضمير في «نُوره» فقيل: هو للهِ تعالى، وهو الأولى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد. / قال مكي: «يُوْقَفَ على» الأرض «في هذه الأقوالِ الثلاثةِ».
واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في «نوره».
والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه
والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس.
وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله «الزجاجةُ».
والجملةُ مِنْ قوله: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ صفةُ ل «مِشْكاة». ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و «مصباحٌ» مرتفعٌ به فاعلاً.
قوله: ﴿دُرِّيٌّ﴾، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيْء» بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.
فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو «سِكِّين» وفي الصفاتِ نحوِ «سِكِّير».
وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.
وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.
قولِه: ﴿يُوقَدُ﴾ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو» تَوَقَّدَ «بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على» كوكب «لفسادِ المعنى. والأخوان وأبو بكر» تُوْقَدُ «بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على» زجاجة «فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.
والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.
وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ»، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما ك «تَذَكَّرُ». والضميرُ أيضاً للزُّجاجة.
وقرأ عبد الله «وَقَّدَ» فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء مِنْ تحتُ، وضَمِّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ
قوله: ﴿مِن شَجَرَةٍ﴾ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ زيتِ شجرةٍ. وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما: أنَّها بدلٌ مِنْ «شجرةٍ». الثاني: أنها عطفٌ بيان، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ. وقد تقدَّم هذا في قوله ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦].
قوله: ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ﴾ صفةٌ ل «شَجَرة» ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ. وقرأ الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي: لا هي شرقيةٌ. والجملةُ أيضاً في محل جَرٍّ نعتاً ل «شَجَرة».
قوله: ﴿يَكَادُ﴾ هذه الجملةُ أيضاً نعتُ ل «شجرةٍ».
قوله: ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ جوابُها محذوفٌ أي: لأضاءَتْ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، والجملةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه «رُدُّوا السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس» وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ: حتى في هذه الحال. وقرأ
قوله: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك نورٌ. و «على نورٍ» صفةٌ ل «نور».
قوله: ﴿أَذِنَ الله﴾ في محلِّ جرٍّ صفةً ل «بيوتٍ»، و «أن تُرفع» على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ «في بيوت» بقوله: «ويُذْكَرُ» لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز «أَنْ»، وما بعد «أَنْ» لا يتقدَّم عليها.
قوله: ﴿يُسَبِّحُ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ.
٣٤٤٨ - لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ | ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ |
والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.
وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال.
وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: «صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها.
قوله: ﴿يَخَافُونَ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مفعول «تُلْهِيْهم»، و «يوماً» مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر. و «يتقلَّبُ» صفةٌ ل يوماً.
قوله: ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ أي ثوابَ أحسنِ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا. و» ما «مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة.
٣٤٤٩ - فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ | كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ |
وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه: «مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ» قاله صاحب «اللوامح». والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم: «الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ» أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع. الثالث قال الزمخشري: «وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة» فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً.
وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع «الظَّمان» بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.
و «أو» هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ. وقيل: بل هي للتخييرِ أي: شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا.
وقرأ سفيان بن حسين «أوَ كظٌلُمات» بفتح الواو، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ. وقد تَقدَّم ذلك في قولِه: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٨].
قوله: ﴿فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ :«في بحرٍ» صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ. كذا قال الزمخشري. وقال غيرُه: منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمه، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ.
قوله: ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ صفةٌ أخرى ل «بَحْرٍ» هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في «يَغْشاه» على «بحرٍ» وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي: أو كذي ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في «يَغْشاه» عائداً عليه، وكانت الجملةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له.
قوله: ﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر، صفةً ل «موجٌ» الأول. ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و «مَوْجٌ» فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ.
قوله: ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان، أجودُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أَنْ يكونَ «ظُلُمات» مبتدأً. والجملةُ من قولِه «بعضُها فوقَ بعض» خبرُه. ذكره الحوفي. وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يُقالَ: إنها موصوفةً تقديراً، أي: ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم».
وقرأ ابن كثير «ظلماتٍ» بالجرِّ إلاَّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من «سَحاب»، فقرأ البزي عنه «سحابُ ظلماتٍ» بإضافة «سَحابُ» ل «ظلمات».
وروى قنبل عنه التنوينَ في «سَحابٌ» كالجماعة مع جرِّه ل «ظُلُماتٍ». فأمَّا روايةُ البزي فقال أبو البقاء: / «جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ»، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ «ظلماتٍ» بدلاً مِنْ «ظلماتٍ» الأولى.
قوله: ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في «ظلمات» قبلَها لأنها صفةٌ لها. وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع «ظلماتٌ» في «بعضُها» أن يكونَ بدلاً من «ظلمات». ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ
وقد تقدَّم الكلامُ في «كاد»، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: «لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة:
٣٤٥٠ - إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ | رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ |
وعليه جاء قولُ ذي الرمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ.............. | .......................... |
أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ: مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة. وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو:
٣٤٥١ - أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ | .......................... |
وقال ابنُ عطية ما معناه:» إذا كان الفعلُ بعد «كاد» منفياً دَلَّ على ثبوتِه نحو: كاد زيدٌ لا يقوم، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو: «كاد زيد يقوم» وإذا تقدَّم النفيُ على «كاد» احتمل أن يكونَ مُوْجَباً، وأَنْ يكونَ منفياً. تقول: «المفلوج لا يَكاد يَسْكُن» فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد «.
قوله: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ﴾ في هذه الضمائرِ أقوالٌ، أحدُها: أنَّها كلَّها
ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ «كل» قال: «لأنَّ القراءة برفع» كلٌّ «على الابتداء، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ» كل «لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها، فيَصيرُ كقولك:» زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه «فتنصِبُ» زيداً «بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز». قلت: وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ، ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ، والرفعُ لا يُحْوج إليه، فكانَ أرجحَ.
قوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ تقدَّم الخلافُ في «خِلال» هل هو مفرد
والوَدْقُ قيلأ: هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً. قال:
٣٤٥٢ - فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها | ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها |
٣٤٥٣ - أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها | خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ |
قوله: ﴿مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ «مِن» الأولى لابتداء الغايةِ اتفاقاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل. والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي: من جبالٍ فيها، فهو بدل اشتمالٍ. الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابنُ عطية. فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ
ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: «خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ» لم تكنِ الأولى والثانية إلاَّ لابتداءِ الغاية.
وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ. والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ «يُنَزِّلُ» هو «مِنْ جبال» كما تقدَّمَ تقريرُه. وقال الزمخشري: «أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتبعيض» قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول «يُنَزِّل» هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً ل «يُنَزِّل»، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه
ويجوزُ أن يكونَ «فيها» وحدَه هو الوصفَ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ» فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها.
وقال الزَّجاج: «معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ:» هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ «أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب» مِنْ «لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً» انتهى. فيكونُ «مِنْ بَرَدٍ» في موضعِ جَرٍّ صفةً/ ل «جبال»، كما كان «من حديد» صفةً ل «خاتم»، ويكونُ مفعولُ «يُنَزِّل» «من جبال». ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً.
وقال أبو البقاء: «والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئاً من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه ﴿فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكونُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه». وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخراً: «
قوله: ﴿سَنَا بَرْقِهِ﴾ العامَّةُ على قَصْر «سَنا» وهو الضَّوْءُ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ، يُقال: سَنا يَسْنُو سَناً. أي: أضاءَ يُضيْءُ. قال امرؤُ القيس:
٣٤٥٤ - يضيءُ سَناه، أو مصابيحُ راهِبٍ | .......................... |
٣٤٥٥ - وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً | .......................... |
وقرأ العامَّة أيضاً «يَذْهَبُ» بفتح الياء والهاء. وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا: «لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة».
وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر ﴿تُنْبِتُ بالدهن﴾ [المؤمنون: ٢٠] من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ، والباءُ بمعنى «مِنْ» تقديرُه: يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه:
٣٤٥٦ -.......................... | شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ |
٣٤٥٧ -.............. هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه | لَعَلِّي.......................... |
٣٤٥٨ - ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ | غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ |
وقرأ أبو جعفرٍ» ليُحْكَمَ بينَهم «هنا والتي بعدَها مبنياً للمفعولِ، والظرفُ قائمٌ مقامَ الفاعل.
قوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ﴾ » إذا «هي الفجائيةُ. وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وهي جوابُ» إذا «الشرطيةِ أولاً. وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في» إذا «
٣٤٥٩ - ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا | على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ الدهر |
٣٤٦٠ - أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا | وأندى العالمينَ بُطونَ راحِ |
٣٤٦٣ - عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ | وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان |
........................ | ................. لم يَلْدَه أَبَوانِ |
وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول:» لا يَصِحُّ قولُه: إنه
وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال: «وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «وإذا قرأه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «احتمل أن يَكونَ» يَتَّقْهِ «عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف».
قلت: لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط، الهاء من حيث هي هي، وإنما عَنَى هاءَ «يَتَّقْهِ» بخصوصِها. وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ: «تعليلُه حَذْفَ الصلةِ: بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ» يُؤَدِّهي «وشبهِه بالصلة، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها. قال أبو عبد الله:» وهو وإنْ قَرَأ «يؤدِّهي» وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ «يَرْضَهُ» بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي «يَتَّقْهِ» ب «يَرْضَهُ» وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين. وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه. وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما. والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به، لا على ما قَلَّ ونَدَر، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ.
قوله: ﴿طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾ في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: أَمْثَلُ، أو أولى. وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه: ﴿صَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: ١٨] ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله:
٣٤٦٤ - فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ | وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ |
٣٤٦٥ - ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ | بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ |
قوله: ﴿كَمَا استخلف﴾ أي: استخلافاً كاستخلافهم. والعامَّةُ على بناء «اسْتَخْلَفَ» للفاعل. وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصولُ منصوبٌ على الأول، ومرفوعٌ على الثاني.
قوله: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ «ولَيُبْدِلَنَّهم» بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ «أَبْدَلَ». وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في قولِه: ﴿أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ [الكهف: ٨١].
قوله: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ فيه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنفٌ أي: جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل: ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل: يَعْبُدونني. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم يعبدونني. والجملةُ أيضاً استئنافيةٌ تقتضي المدحَ. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «وَعَدَ اللهُ». الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولُ «
قوله: ﴿لاَ يُشْرِكُونَ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَعْبُدُونَنِي» أي: يَعْبُدونني مُوَحِّدين، وأن يكونَ بدلاً من الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها.
وقال الفراء:» هو ضعيفٌ «وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني. التقديرُ:» لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين «قلت: وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ» الذين «فاعلٌ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلاَّ مفعولٌ واحدٌ وهو» معجزين «، فلذلك قالوا ما قالوا. والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم، أو على ما يُفْهَمُ من السياق، كما سَبَقَ تحريرُه. الثاني: أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجزين. إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين. ومنه قولُ عنترةَ:
٣٤٦٦ - ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه | مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ |
الثالث: أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه: ﴿مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ قاله الكوفيون. ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال: «والمعنى: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك. وهذا معنىً قويٌّ جيد».
قلت: قيل: هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في «الأرض» ب «مُعْجِزين» فجعله مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه، وهو نظيرُ: «ظَنَنْتُ قائماً في الدار».
قوله: ﴿وَمَأْوَاهُمُ النار﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه. الثاني: أنَّها معطوفةٌ عليها، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ. والتقدير: الذين كفروا لاَ يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار. قاله الزمخشري. كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ. هذا ظاهرُ حالِه. الثالث: أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ.
قوله: ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قوله» ثلاث «فتكونُ في محلِّ نصبٍ. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ» عورات «فيكونُ في محلِّ جر. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي من قبلِ أي: تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ.
قوله: ﴿مِّنَ الظهيرة﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ» مِنْ «لبيانِ الجنس أي:
قوله: ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ﴾ قرأ الأخَوان وأبو بكر» ثلاثَ «نصباً. والباقون رفعاً. فالأولى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله: ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ﴾. قال ابن عطية:» إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ: أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه «، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء. ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ. وعلى هذا الوجهِ أعني وجهَ البدل لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ﴾ لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه.
الثاني: أنَّ ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ﴾ بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء. يعني قولَه: ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر﴾ وما عُطِفَ عليه، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ.
وأمَّا الثانية ف» ثلاثُ «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ. وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال:» أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ «. قلت: وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه.
قال الزمخشري: «وسمى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها. والعَوْرَةُ: الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ، وأَعْوَرَ المكانُ. والأَعْوَرُ: المختلُّ العينِ» فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ، مضافةً ل «عَوْراتٍ» بخلافِ كلامِه أولاً. فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقف على ما قبلَ ﴿ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ﴾ لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها.
وقرأ الأعمش «عَوَرات» وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم: يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ:
٣٤٦٧ - أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ | رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ |
٣٤٦٨ - فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه | ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا |
٣٤٦٩ - فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما | أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ |
٣٤٧٠ - أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه | ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ |
﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ﴾ في» يوم «وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ﴾. والثاني: أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف. قال ابن عطية:» ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: والعلمُ الظاهرُ لكم أو نحو هذا يومَ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ «انتهى.
وقرأ العامَّةُ» يُرْجَعون «مبنياً للمفعول. وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من الخطابِ في قولِه: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ إلى الغَيْبة في قوله:» يُرْجَعون «. والثاني: أنَّ» ما أنتم عليه «خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ. والضميرُ في» يُرْجَعُون «للمنافقين خاصةً، فلا التفاتَ حينئذٍ.
سورة النور
سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).
ترتيبها المصحفي
24نوعها
مدنيةألفاظها
1319ترتيب نزولها
102العد المدني الأول
62العد المدني الأخير
62العد البصري
64العد الكوفي
64العد الشامي
64* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:
عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).
* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:
عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).
عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).
- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.
* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:
عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:
قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.
قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.
قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.
وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.
قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.
قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.
قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟
قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.
قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.
قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.
قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.
قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.
قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.
قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ جَمِيلٞۖ وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.
قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.
قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.
قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.
قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).
* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).
* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).
* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:
عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61]
إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).
* سورة (النُّور):
سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).
* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:
عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧/١٢٦).
وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).
تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:
1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).
2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).
3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).
4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).
5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).
6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).
7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).
8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).
9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).
10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).
تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).