ﰡ
قالوا: لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها ويعرفها أكثر من أيّ تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نُطْق هذه الكلمة، والنور لا يُعرَّف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئاً.
إذن: يُعرف النور بخاصيته، وهو الذي يجعل لك قدرة على أن
لكن، هل كل الأشياء مرائي؟ أليس منها المسموع والمشموم والمتذوّق؟ قالوا: نعم، لكن الدليل الأول على كل هذه وفعل الحوادث هي المرئيات؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولاً، ثم حين تسمع، وحين تشم، وحين تلمس، وحين تميز الثقيل من الخفيف، أو القريب من البعيد. فهذا كله فرع ما يوجد فيك، بعد ما تؤمن أن الله الذي أوجدك هو الذي أوجد لك كل شيء، فإذا ما نظرت إلى النور وجدتَ النور أمراً حسياً ترى به الأشياء.
وكانوا في الماضي يعتقدون أن الإنسان يبصر الأشياء بشعاع يخرج من العين، فيسقط على الشيء فتراه، إلى أن جاء العالم الإسلامي الحسن بن الهيثم، وأبطل هذه النظرية وقال: إن الشعاع يأتي من المرئي إلى العين فتراه، وليس العكس، واستدل على ذلك بأن الشيء إنْ كان في الظلام لا نراه، ونحن في النور، فلو أن الشعاع يخرج منك لرأيته.
وفي ضوء هذه النظرية فهمنا قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً..﴾ [الإسراء: ١٢] فهي مُبْصِرة؛ لأن الشعاع يأتي من هناك، فكأنها هي التي ترى.
لكن، ما نَفْع هذا النور الحسيّ للإنسان الخليفة في الأرض؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملاً يعطيك خيرها ويكفّ عنك شرها، ولو لم تَرَ الأشياء ما أمكنك التعامل معها، وإلا فكيف تسير في مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر؟
لذلك سمَّى الحق - تبارك وتعالى - المنهج الذي يهديك في دروب الحياة نوراً.
والناس حين لا يوجد النور الرباني الإلهي يصنعون لأنفسهم أنواراً على قَدْر إمكاناتهم وبيئاتهم بداية من المسرجة ولمبة الجاز، وكان الناس يتفاوتون حتى في هذه - حتى عصر الكهرباء والفلوروسنت والنيون وخلافة من وسائل الإضاءة التي يتفاوت فيها الناس تفاوتاً كبيراً، هذا في الليل، فإذا ما أشرقتْ الشمس أطفأ الجميع أنوارهم ومصابيحهم، لماذا؟ لأن مصباح الله قد ظهر واستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد.
وكذلك النور المعنوي نور المنهج الذي يهديك إنْ كان لله فيه توجيه، فأطفيء مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضيء بنور ونورُ ربك موجود، بل عليك أن تبادر وتأخذ ما تقدر عليه من نور ربك، فكما أخذتَ نور الله الحسيّ فألغيتَ به كل الأنوار، فخُذْ نور الله في القيم، خُذْ نُور الله في الأخلاق وفي المعاملات وفي السلوك يغنيك هذا عن أيِّ نور من أنوار البشر ومناهجهم.
أَلاَ ترى النمرود كيف بُهِتَ حينما قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - جدله وألجأه إلى الحجة التي لا يستطيع الفكاك منها، حين قال له: ﴿فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب..﴾ [البقرة: ٢٥٨].
والخليفة لا ينجح في خلافته إلا إذا سار فيها على وَفْق مراد مَن استخلفه، وآفة الناس في خلافتهم لله في الأرض أنْ يعتبروا أنفسهم أُصَلاء لا خلفاء، فالخليفة في ذِهْنه دائماً هذه الخلافة؛ لذلك يلتفت إلى الأصل، وينظر ماذا يريد منه مَن استخلفه.
والحق - تبارك وتعالى - جعل له خليفة في الأرض لتظهر عليه سمات قدرته تعالى وصفات كماله، فالله تعالى قادر، الله عالم، الله حكيم، الله غنيّ، الله رحيم، الله غفور.. الخ وهو سبحانه يعطي من صفاته ويفيض منها على خَلْقه وخليفته في أرضه بعضاً من هذه الصفات، فيعطيك من قدرته قدرة، ومن رحمته رحمةً، ومن غنائه غِنىً، لكن تظل الصفة في يده تعالى أنْ شاء سلبها، أَلاَ ترى القوي قد يصير ضعيفاً، والغني قد يصير فقيراً؟
ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا، وأن هذه الهبات ليست أصلاً عندنا، إنما هي فيْض من فيض الله وهبةٌ من هباته سبحانه، لذلك علينا أن نستعملها وَفْق مراده تعالى، فإنْ أعطاك ربُّك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك، أعطاك العلم لتنثره على الناس، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير.
إذن: ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ
فتصدَّق وأنت غني لتنال صدقة الآخرين إنْ أصابك الفقر، وأكرم اليتيم لتجد مَنْ يُكرم يتيمك من بعدك، فإنْ قابلتَ أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأنَّ قلبك، وأمِنْتَ من حوادث الزمن، واستقبلتَ الأحداث بالرضا، وكيف تهتم وأنت في مجتمع يرعاك كما رعيته، ويحملك كما حملته، ويتعاون معك كما تعاونتَ معه؟
وصدق الله تعالى حين قال: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ [النساء: ٩].
إذن: الحق - تبارك وتعالى - يريد من خليفته في أرضه أن يكون جِماعاً لصفات الكمال التي تسعد الخَلْقَ بآثار الخالق فيهم، وهذه هي الخلافة الحقة.
وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أنْ يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنه كما قال سبحانه: ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ [النور: ٤٠] فلو لم تكُنْ هذه الشمس ما استطاع أحد أنْ يصنع لنفسه نوراً أبداً.
فالحق - تبارك وتعالى - يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهراً شريفاً كريماً عزيزاً؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليماً في وضح النهار؛ لينتج عن هذا اللقاء نَسْل طاهر جدير
والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة (المؤمنون) التي قال الله في أولها ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ [المؤمنون: ١] ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٥] وهنا قال: ﴿الزانية والزاني..﴾ [النور: ٢] فجاء بالمقابل للذين هم لفروجهم حافظون.
نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ َّ هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يُصلحه، وهو خالق ذرّاته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض، وهو سبحانه خالق مَلَكات النفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر.
إذن: طبيعي أنْ أردتَ أن تنشيء خليفة في الكون على غير مراد الله وعلى غير مواصفات الحق، لا بُدَّ أنْ يضطرب الكون وتتصارع فيه مَلكات النفس، وماذا تنتظر من هذا الخليفة إنْ جاء في الظلام؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وَأْد الأولاد وقتلهم حتى في بطون الأمهات، وقد يتشكّك الرجل في ولده، فيبغضه ويهمله ويتركه للتشرد.
إذن: لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتي الخليفة وَفْق مواصفات ربه، وأنْ يلتقي الزوجان على ما شرع الله في وضح النهار، لا أن يندس كل منهما على الآخر في ظلمة الإثم، فيحدث المحظور الذي تختلط به الأنساب، ويتفكك رباط المجتمع.
إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشكَّ في نِسْبة ولده إليه، وأن تعتصره هذه الفكرة، فيهمل ولده وفلذة كبده، وينفق هنا
فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين في أُبوة صحيحة شرعية وأمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله.
ولك أنْ تُجري مقارنة بين امرأة حملتْ سفاحاً وأخرى حملتْ حَمْلاً شرعياً طاهراً، ستجد الأولى تحمله على مضض وكُرْه، وتودّ أنْ تتخلَّص منه وهو جنين في بطنها، فإنْ تحاملتْ على نفسها إلى حين ولادته تخلَّصتْ منه في ليلتها ولو بإلقائه على قارعة الطريق.
أما صاحبة الحمل الشرعي فتتلهف على الولد، وإنْ تأخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء، فإنْ أكرمها الله بالحمل طارت به فرحاً وفخراً، وحافظت عليه في مَشْيها وحركاتها ونومها وقيامها إلى حين الوضع، فتتحمل آلامه راضيةً ثم تحتضنه وتُرضِعه وتعيش حياتها في خدمته ورعايته.
فالله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصاب طاهر على اعْيُنِ الناس جميعاً وفي نور الله المعنوي، يريد للزوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النور، لا أن يتلصص في الظلام من باب الخدم.
لذلك يتوعد الحق - سبحانه وتعالى - مَنْ يخالف هذا المنهج ويريد أن يُفسِد شرف الخلافة التي يريدها الله طاهرة، ويُدنِّس النسل، ويُوغِر الصدور بالأحقاد والعداوات، ويزرع الشك في نفوس الخَلْق، وجرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله.
وانظر إلى الإيدز الذي يهدد المجتمعات الآن، وهو ناتج عن
ونعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شَرْع الله في مسألة الحدود حين تقضي برَجْم الزاني المحْصَن حتى الموت، أَلاَ يعلم هؤلاء أننا نُضحِّي بواحد لنحفظ سلامة الملايين في صحة وعافية؟ أَلاً يروْنَ ما يحدث مثلاً في وباء الطاعون الذي أعجز العلماء حتى الآن، ولم يجدوا له علاجاً، وكيف أن الشرع أمرنا إنْ نزل الطاعون بأرض ألاَّ نذهب إليها، وأمر مَنْ فيها ألاَّ يخرجوا منها، لماذا؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشري بين الناس.
كذلك الحال في مسألة الزنا؛ لأن الزاني لا يقتصر شرُّه عليه وحده، إنما يتعدّى شرُّه إلى المجتمع كله، مع مراعاة أن الشرع فرَّق بين الزاني المحصن وغير المحصن، وكذلك الزانية، ففي حالة الإحصان تتعدد الماءات في المكان الواحد، لذلك سُئلنا في سان فرانسيسكو: لماذا أبحتم تعدُّد الزوجات، ولم تبيحوا تعدُّد الأزواج؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة: لماذا لا تتزوج المرأة وتجمع بين أربعة رجال؟
قلت: اسألوهم، أليس عندهم أماكن يستريح فيها الشباب جنسياً - يعني بيوت للدعارة - قالوا: نعم في بعض الولايات، قلت: فبماذا احتطتم لصحة المجتمع وسلامته؟ قالوا: نُجرِي عليهم كشفاً دورياً كل أسبوع، قلت: وهل هذا الكشف الدوري يستوعب الجميع؟ أم أنه مجرد (ششن) وعينات عشوائية.
إذن: من الممكن أن يتسرّب المرض بين هؤلاء الشباب، وهَبْ
ثم أتُجرون هذه الفحوصات على المتزوجين والمتزوجات؟ وهل اكتشفتم بينهم مثل هذه الأمراض؟ قالوا: لا لم يحدث أن اكتشفنا هذا بين المتزوجين. قلت: إذن كان عليكم أنْ تنتبهوا إلى سبب هذه الداءات، وأنها تأتي من تعدُّد ماءات الرجال في المكان الواحد؛ لأن كل ماء سياله وله ميكروبات تتصارع، إن اجتمعت في المكان الواحد فينشأ منها المرض.
لكن حين يكون للزوجة زوج واحد، فلن نرى مثل هذه الداءات في المجتمع، ومن هنا يأتي دور الوازع الديني، فإن فُقِد الوازع الديني فلا بُدَّ من الوازع الحسيّ ليزجر مثل هؤلاء ويُوقِفهم عند حدود الله رَغْماً عنهم، حتى وإنْ لم يكونوا يؤمنون بها.
إذن: هذه أقضية ومشاكل وداءات حدثتْ للناس بقدر ما أحدثوا من الفجور، وبقدر ما انتهكوا من حُرُمات الله، وانظر مثلاً لمن يُضطرّ للسفر إلى مثل هذه البلاد، كم يكون حَذراً مُفزَّعاً حين يقيم مثلاً في فندق، فيأخذ أدواته الشخصية، ويخاف أن يستعمل أشياء غيره، ويحرص على نظافة المكان وتغيير الفراش قبل أن ينام عليه.. الخ كل هذه الاحتياطات.
فالشرع حين يأمر بقتل الزاني أو الزانية إنما فعل ذلك ليسْلَمَ المجتمع بأسْره، وكثيراً ما نواجه مثل هذه الاعتراضات من أصحاب الرحمة الحمقاء والشعارات الجوفاء، أهُم أرحم بالخَلْق من الخالق؟
أَلاَ يروْن للزلزال أو لحوادث السيارات والطائرات التي تحصد الآلاف
قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا..﴾ [النور: ١] السورة: مأخوذة من سور البيت، وهي طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية ونهاية، تحمل أحكاماً وقد تكون طويلة كسورة البقرة، أو قصيرة كالإخلاص والكوثر، فليس للسورة كمية مخصوصة؛ لأنها توقيفية.
﴿أَنزَلْنَاهَا..﴾ [النور: ١] نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى مَنْ هو أدنى منه، كما يكتب الموظف مثلاً يريد التظلُّم لرئيسه: أرفع إليك كذا وكذا، فيقول الأعلى: وأنا أنزلت القرار الفلاني، فالأدنى يرفع للأعلى، والأعلى يُنزِل للأدنى.
لذلك يقول تعالى: (أنزلنا) حتى للشيء الذي لا ينزل من السماء، كما قال سبحانه:
﴿وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ..﴾ [الحديد: ٢٥] فالحديد وإنْ كان مصدره الأرض، إلا أنه لا يكون إلا بقدرة الأعلى سبحانه.
﴿وَفَرَضْنَاهَا..﴾ [النور: ١] الشيء المفروض يعني الواجب أن يُعمل؛ لأن المشرِّع قاله وحكم به وقدَّره، ومنه قوله سبحانه: ﴿فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ..﴾ [البقرة: ٢٣٧] أي: نصف ما قدَّرتم، إذن: كل شيء له حُكْم في الشرع، فإن الله تعالى مُقدِّره تقديراً حكيماً على قَدْره.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ..﴾ [النور: ١] الآيات الواضحات، وتُطلق الآيات - كما قلنا - على الآيات الكونية التي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله وبديع صُنْعه، وتُطلق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسل، وتُطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام.
﴿لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: ١] بعد أنْ قال سبحانه أنزلت كذا وكذا أراد أنْ يُلهب المشاعر لتُستقبل آياته الاستقبال الحسن، وتُطبِّق أحكامه التطبيق الأمثل يقول: أنزلتُ إليكم كذا لعلكم تذكرون، ففيها حَثٌّ وإلهابٌ لنستفيد بتشريع الحق للخَلْق.
ثم يتحدث الحق سبحانه عن أول قضية فيما فرضه على عبادة: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ..﴾.
لكن هناك أسماء تدل على كل هذه الصيغ مثل: مَنْ، ما، ال.
فكذلك (ال) في (الزاني) تدل على المؤنث وعلى المذكر، لكن الحق سبحانه ذكرهما صراحةً ليُزيلَ ما قد يحدث عند البعض من خلاف: أيهما السبب في هذه الجريمة، هذا الخلاف الذي وقع فيه حتى الأئمة والفقهاء، فهناك مَنْ يقول: الزاني واطئ وفاعل، والمرأة موطوءة، فالفعل للرجل لا للمرأة، فهو وحده الذي يتحمل هذه التبعة.
لذلك الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يحكي «أن رجلاً ذهب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: يا رسول الله وطئت امرأتي في رمضان. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» كَفِّر «».
وأخذ الشافعي من هذا الحديث أن الكفارة إنما تكون على الرجل دون المرأة، وإلا لقال له الرسول: كَفِّرا.
لكن يجب أن نفرق بين وطِئ وجامع: الوَطْءُ فعل الرجل حتى وإن كانت الزوجة كارهة رافضة، أمَّا الجماع فهو حال الرضا والقبول من الطرفين، وفي هذه الحالة تكون الكفارة عليهما معاً؛ لذلك صرَّح الحق تبارك وتعالى بالزاني والزانية ليزيل هذه الشُّبهة وهذا الخلاف.
وأرى في هذه المسألة أن الذي استفتى رسولَ الله هو الرجلُ، ولو كانت المرأة لقال لها أيضاً: كفِّري، فالحكم خاصٌّ بمن استفتى.
والمتأَمل في آيات الحدود يجد مثلاً في حَدِّ السرقة قوله تعالى
قالوا: لأن دور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه؛ لذلك أمر الحق - تبارك وتعالى - الرجال بغَضِّ البصر وأمر النساء بعدم إبداء الزينة، ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها.
أما في حالة السرقة فعادةً يكون عِبْءُ النفقة ومُؤْنة الحياة على كاهل الرجل، فهو المكلف بها؛ لذلك يسرق الرجل، أمَّا المرأة فالعادة أنها في البيت تستقبل، وليس من مهمتها توفير تكاليف الحياة، لكن لا مانعَ مع ذلك أن تسرق المرأة أيضاً؛ لذلك بدأ في السرقة بالرجل.
إذن: بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزوناً دقيقاً غاية الدقة، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه، فهو كلام رب حكيم، ولو كانت المسألة مجرد تقنين عادي ما التفتَ إلى مثل هذه المسائل.
ثم يأتي الحد الرادع لهذه الجريمة ﴿فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ..﴾ [النور: ٢] اجلدوا: أمر، لكن لمن؟ لم يقُل أيها الحاكم أو القاضي؛ لأن الأمر هنا للأمة كلها، فأمر إقامة الحدود منوط بالأمة كلها، لكن أتنهض الأمة بأَسْرها وتعدّدها بفعل واحد في كل مكان؟
قالوا: الأمة مثل النائب العام للوالي، عليه أن يختار مَنْ يراه أهلاً للولاية لينفذ له ما يريد، ومَنْ ولَّى قاضياً فقد قضى، وما دام الأمر كذلك فإياك أنْ تُولِّي القضاء مَنْ لا يصلح للقضاء؛ لأن التبعة - إذن - ستكون عليك إنْ ظلم أو جار، فالواو والألف في
لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَنْ ولّى أحداً أمراً وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة» «.
لماذا؟ لأنك حين تُولِّي أمور الناس مَنْ لا يصلح لها في وجود مَنْ يصلح إنما تُشيع الفساد في المجتمع، ولا تظن أنك تستطيع أن تخفي شيئاً عن أعيُن الناس، فلهم من الوعي والانتباه ما يُفرِّقون به بين الكفء وغيره، وإنْ سكتوا وتغافلوا فإنهم يتساءلون من ورائك: لماذا ولّى هذا، وترك مَنْ هو أكفأ منه، لا بُدَّ أن له مؤهلات أخرى، دخل بها من الباب الخلفي، ولماذا لا نفعل مثله؟ عندها تسود الفوضى وتضيع الحقوق وينتشر الإحباط والتكاسل والخمول، ويحدث خلل في المجتمع وتتعطل المصالح.
ومع هذا كله لا نستطيع أن نلوم الوالي حين يختار مَنْ لا يصلح قبل أن نلوم أنفسنا أولاً، فنحن الذين اخترناه ودلَّسْنَا في البيعة له، فسلّطه الله علينا ليُدلِّس هو أيضاً في اختياره، أمّا لو أدى كل منا واجبه في اختيار مَنْ يصلح ما وصل إلى مراتب القيادة مَنْ يدلس على الناس، وبذلك تستقيم الأمور، ويتقرب الإنسان للولاية بالعمل وبالجد والإخلاص والأمانة والصدق والتفاني في خدمة المجتمع.
هذه المسائل كلها نفهمها من الواو والألف في ﴿فاجلدوا..﴾ [النور: ٢] أما الجَلْد فهو الضرب، نقول: جلَده: يعني ضرب جِلْدَه، ورأسه: يعني ضرب رِأسه، وظهَره: ضرب ظهره.
والجلد ضَرْبٌ بكيفية خاصة، بحيث لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً؛ لأن الضربة حسب قوتها وحسب الآلة المستخدمة في الضرب، فمن الضرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله..﴾ [النور: ٢] تحذير من الرحمة الحمقاء، الرحمة في غير محلها، وعلى حَدِّ قول الشاعر:
فَقَسَا لِيزدْجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً | فَلْيَقْسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرحَمُ |
إذن: لا مجالَ للرحمة وللرأفَة في حدود الله، فلسنا أرحم بالخَلْق
والذين يتهمون الإسلام بالقسوة والبشاعة في تطبيق الحدود أنَسُوا ما فعلوه في هيروشيما، وما زالت آثاره حتى الآن؟ أنسوا الحروب التي يشعلونها في أنحاء العالم، والتي تحصد آلاف الأرواح؟ أهي الرحمة الحمقاء التي لا معنى لها؟ أم هي الكراهية لحدود الله؟
ونذكر في الماضي أنه كان يخرج مع فوج الحجيج قوة حماية وحراسة من الجيش، تحمي الحجيج من قطاع الطرق، وكانوا يُسَمُّون بعثة الحج هذه (المحمل)، فلما أقامت السعودية حكم الله وطبَّقَتْ الحدود أمَّنَتْ الطرق، واستغنى الناس عن هذه الحراسات مع اتساعها وتشعُّب طرقها ووعورتها بين الجبال والوديان والصحاري الشاسعة التي لا يمكن أن تحكمها أو تحرسها عَيْن بشر، لا بُدَّ لها من تقنين الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
ومع ذلك حين أحْصَوا الأيدي التي قُطِعَتْ وجدوها قليلة جداً، وأغلبها من خارج المملكة - وأذكر أنني قلت مرة في خطبة عرفة: ارجعوا إلى حكامكم وقولوا لهم: اقطعوا يد السارق، فالذي لا يقطع يد السارق في نيته أن يسرق؛ لذلك يخاف على يده، فحين تذكر له مسألة قَطْع يد السارق ترتجف يده. والذين يعارضون حدود الله هم أنفسهم يسيرون على مبدأ أن هلاك الثُلث جائز لإصلاح الثلثين، لكن تقف حدود الله غُصَّة في حلوقهم.
والجلْد مائة جلدة يخصّ الزاني غير المحْصَن يعني غير المتزوج، أمَّا المتزوج فله حكم آخر لم يأْت في كتاب الله، إنما أتى في سنة
والحكم الذي يؤخذ من القول عُرْضة لأن نتمحك فيه ونقف أمامه نُقلّب ألفاظه أو نؤوله، أمّا إنْ أُخِذ الحكم من فعل المشرع، فليس فيه شكٌّ أو تمحُّك، وليس قابلاً للتأويل لأنه فعل، وقد فعل الرسول ورجم الزاني والزانية المحصنين في قصة ماعز والغامدية، لأنه مفوض من الله.
ولا بد أن نفرق بين الحدَّيْن، ففي حَدِّ الأمة إنْ زنت يقول تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب..﴾ [النساء: ٢٥] البعض فَهِم من الآية أنها تشمل حدَّيْ الرَّجْم والجَلْد، فقالوا: في الجلد يمكن أن تجلد خمسين جلده، لكن كيف نجزيء الرجم؟ وما دام الرجم لا يُجَزَّأ فليس عليها رجم.
ولو تأمل هؤلاء نصَّ الآية لخرجوا من هذا الخلاف، فالحق سبحانه وتعالى لم يقل ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات..﴾ [النساء: ٢٥] وسكت، إنما قال ﴿مِنَ العذاب..﴾ [النساء: ٢٥] فخصَّ بذلك حدَّ الجلد؛ لأن العذاب إيلام حَيٍّ، أمَّا الرجم فهو إزهاق حياة، فهما متقابلان.
أَلاَ ترى قول القرآن في قصة سليمان عليه السلام والهدهد: ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ..﴾ [النمل: ٢١] فالعذاب غير الذبح.
إذن: تجزئة الحد في الجَلْد فقط، أمّا الرَّجم فلا يُجزَّأ، فإنْ زنتِ الأَمَة المحصنة رُجِمَتْ.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يهيجنا ويثيرنا على أهل هذه الجريمة، لنأخذ على أيديهم ونُخوِّفهم بما شرع الله من الحدود.
فالمعنى: أنْ كنتم تؤمنون بالله إلهاً حكيماً مشرعاً، خلق خَلْقاً، ويريد أن يحمي خَلْقه ويُطهره ليكون أهلاً لخلافته في الأرض الخلافة الحقة، فاتركوا الخالق يتصرف في كونه وفي خَلْقه على مراده عَزَّ وجَلَّ، فالخَلْق ليس خَلْقكم لتتدخلوا فيه.
ثم يقول تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢] فالأمر لا يقف عند حدِّ التعذيب والجَلْد، إنما لا بُدَّ أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين، والطائفة هم الجماعة وأقلها أربعة لماذا؟ قالوا: لأن النفس قد تتحمّل الإهانة إنْ كانت سِراً لا يطَّلع عليها أحد، فلا يؤلمه أنْ تُعذِّبه أشدَّ العذاب بينك وبينه، إنما لا يتحمل أن تشتمه أمام الناس. إذن: فمشاهدة الحدِّ إهانة لصاحبه، وهي أيضاً زَجْر للمشاهد، ونموذج عمليٌّ رادع.
لذلك يقولون: الحدود زواجر وجوابر، زواجر لمن شاهدها أي: تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحدَّ، وجوابر لصاحب الحد تجبر ذنبه وتُسقط عنه عقوبة الآخرة، فلا يمكن أن يستوي مَنْ أقر
فالمسألة يقين وإيمان ثابت بالقيامة وبالبعث والحساب، والعقوبة اليوم أهون، وإنْ كان الزنا يثبت بالشهود فلربما دلَّسُوا، لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يأتيه الرجل مُقرّاً بالزنا فيقول له: «لعلك قبَّلْتَ، لعلك غمزْتَ، لعلك لمسْت» يعني: لم تصل إلى الحد الذي يسمى زنا، يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدرأ الحدَّ بالشبهة.
ولهذا المبدأ الإسلامي السمح إنْ أخذتَ الزاني وذهبت ترجمه فآلمه الحجر فحاول الفرار يأمرنا الشرع ألاَّ نتبعه وألاَّ نلاحقه، لماذا؟ لأنه اعتبر أن فراره من الحد كأنه رجوع عن الإقرار.
وهنا يعترض البعض: كيف إنْ كانت الزانية مسلمة: أينكحها مشرك؟ قالوا: التقابل هنا غرضه التهويل والتفظيع فقط لا الإباحة؛ لأن المسلمة لا يجوز أن تتزوج مشركاً أبداً، فالآية توبيخ لها:
وأرى أن النص محتمل لانفكاك الجهة؛ لأن التي زنتْ تدور بين أمرين: إما أنها أقبلتْ على الزنا وهي تعلم أنه مُحرَّم، فتكون عاصية باقية على إسلامها، أو أنها ردَّت حكم الزنا واعترضت عليه فتكون مشركة، وفي هذه الحالة يستقيم لنا فهم الآية.
ثم يقول تعالى: ﴿وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين﴾ [النور: ٣] فهذا سبب طُهْر الأنسال أن يُحرِّم الله تعالى الزنا، فيأتي الخليفة طاهر النسل والعنصر، محضوناً بأب وأم، مضموماً بدفء العائلة، لا يتحملون عليه نسمة الهواء؛ لأنه جاء من وعاء طيب طاهر نظيف.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم..﴾.
يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ..﴾ [الأنبياء: ٨٠] يعني: الدروع التي تحمي الإنسان وتحفظه في الحرب.
لذلك فإن السيدة هنداً التي نُسيِّدها الآن بعد إسلامها، وهي التي لاكتْ كبد سيدنا حمزة في غزوة أحد، لكن لا عليها الآن؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. لما سمعت السيدة هند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهي النساء عن الزنا قالت: أو تزني حُرَّة؟ لأن الزنا انتشر قبل الإسلام بين البغايا من الإماء، حتى كانت لهن رايات يرفعْنها على بيوتهن ليُعرفْنَ بها.
والمعنى: يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزنا ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً..﴾ [النور: ٤] وهذا يُسمَّى حدَّ القذف، أن ترمي حُرّة بالزنا وتتهمها بها، ففي هذه الحالة عليك أنْ تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميْتها به، فإن لم تفعل يُقام عليك أنت حَدُّ القذف ثمانين جلدة، ثم لا ينتهي الأمر عند الجَلْد، إنما تُقبل منك شهادة بعد ذلك أبداً.
﴿وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً..﴾ [النور: ٤] لماذا؟ لأنه لم يَعُدْ أهلاً لها؛ لأنه فاسق ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ [النور: ٤] والفاسق لا شهادةَ له، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حَدَّ الجلْد،
هذا كله ليزجر كل مَنْ تسوِّل له نفسه الخوْضَ في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات؛ لذلك عبَّر عن القَذْف بالرمي؛ لأنه غالباً ما يكون عن عجلة وعدم بينة، فالحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرد ذكرها والحديث عنها.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ..﴾.
ذكرنا أن مشروعية التوبة مِنَّة وتكرُّم من الحق - تبارك وتعالى - لأنه لو لم تشرع التوبة كان مَنْ يقع في معصية مرة، ولا تُقبل منه توبه يتجرأ على المعصية ويكثر منها، ولم لا؟ فلا دافعَ له للإقلاع.
إذن: حين يشرع الله التوبة إنما يحمي المجتمع من الفاقدين الذين باعوا أنفسهم، وفقدوا الأمل في النجاة. فمشروعية التوبة كَرَم، وقبولها كرم آخر، لذلك يقول الحق سبحانه: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا..﴾ [التوبة: ١١٨] أي: شرع لهم التوبة ليتوبوا فيقبل منهم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحُواْ..﴾ [النور: ٥] تدل على أن مَنْ وقعتْ منه سيئة عليه أن يتبعها بحسنة، وقد ورد في الحديث الشريف: «
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُحذِّر عباده: يا عبادي احذروا: مَنْ أخذ مني شيئاً خِلْسة أو ترك لي حكماً، أو تجرأ عليَّ بمعصية سيتعب فيما بعد، ويلاقي الأمَّريْن؛ لأن السيئة ستظل وراءه تطارده وتُجهده لأغفرها له، وسيحتاج لكثير من الحسنات وأفعال الخير ليجبر بها تقصيره في حَقِّ ربه.
ثم يقول الحق سبحانه:
لذلك شرع الحق - سبحانه وتعالى - في هذه الحالة حكماً خاصاً بها هو الملاعنة، وقد سُمِّيت هذه الآية آية اللعان.
ويُرْوَى أن هلال بن أمية ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: يا رسول الله إني رأيتُ فلاناً على بطن زوجتي، فإنْ تركتُه لآتي بأربعة شهداء لقضي حاجته وانصرف، وإنْ قتلتُه فقد اعتديْتُ عليه.
إذن: ما حَلّ هذا اللغز؟
وينبغي أن نعلم أن الله تعالى لا ينزل التشريع والحكم بدايةً، إنما يترك في الكون من أقضية الحياة واحداثها ما يحتاج لهذا الحكم، بحيث ينزل الحكم فيصادف الحاجة إليه، كما يقولون: موقع الماء من ذي الغُلَّة الصَّادي، يعني: حين ينزل الحكم يكون له موضع فيتلقفه الناس، ويشعرون أنه نزل من أجلهم بعد أنْ كانوا
وقد شرع الله تعالى حكم الملاعنة أو اللعان خاصة، لهذه الحالة التي يلاحظ فيها الزوج شيئاً على أهله، وقد يضع يده عليه، لكن لا يستطيع أنْ يأتي عليه بشهود ليثبت هذه الحالة؛ لذلك جعله الشارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشهادة، ويكررها أربع مرات بدل الشهداء الأربع.
يقول: أشهد الله أنني صادق فيما رميتُ به امرأتي، يقولها أربع مرات، وفي الخامسة يقول: ولعنة الله عليَّ إنْ كنتُ كاذباً، وهكذا ينتهي دور الزوج في الملاعنة.
والقذف جريمة بشعة في حَقِّ المجتمع كله، تشيع فيه الفاحشة وتتقطع الأواصر، هذا إنْ كان للمحصنات البعيدات، وهو أعظم إنْ كان للزوجة، لكن ما بالك إنْ وقع مثل هذا القول على أم ليست أماً لواحد، إنما هي أم لجميع المؤمنين، هي أم المؤمنين السيدة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها - فكانت مناسبة أن يذكر السياق ما كان من قَذْف السيدة عائشة، والذي سُمِّي بحادثة الإفك؛ لماذا؟
لأن الله تعالى يريد أن يُعطينا الأُسْوة في النبوة نفسها، ويريد أنْ يُسلِِّي عائشة صاحبة النسب العريق وأم المؤمنين، وقد قيل فيها ما قيل؛ لذلك ستظل السيدة عائشة أُسْوة لكل شريفة تُرْمَى في عِرْضها، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها، نقول لها: لا عليك، فقد قالوا مثل هذا في عائشة.
وتقوم آيات الإفك دليلاً على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في البلاغ
فالصدق أنْ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ، والكذب أَلاَّ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ، والكذب قد يكون غير متعمد، وقد يكون مُتعمداً، فإنْ كان مُتعمداً فهو الإفك، وإن كان غير متعمد كأنْ أخبره شخص أن محمداً مجتهد وهو غير ذلك، فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس كاذباً.
فالإفك - إذن - تعمُّد الكذب، ويعطي ضد الحكم، كأن تقول: محمد مجتهد. وأنت تعلم أنه مهمل؛ لذلك كان الإفكُ أفظعَ أنواع الكذب؛ لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعاً مضاداً لما لم يحدث.
والعصبة: الجماعة التي تربتط حركتها لتحقيق غاية متحدة، ومن ذلك نقول: عصابة مخدرات، عصابة سرقات، يعني: جماعة اتفقوا على تنفيذ حَدَث لغاية واحدة، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ..﴾ [يوسف: ١٤].
وما دام أهلُ الإفْك عصبةً فلا بُدَّ أن لهم غاية واحدة في التشويه والتبشيع، وكان رئيسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وهو شيخ المنافقين، ومعذور في أن يكون كذلك، ففي اليوم الذي دخل فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبيٍّ تاجاً ليُنصِّبوه مَلِكاً على المدينة، فلما فُوجِيء برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه.
لذلك فهو القائل: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل..﴾ [المنافقون: ٨] يقصد أنه الأعزُّ، فردَّ عليه الحق - تبارك وتعالى - صدقت، لكن العزة ستكون لله وللرسول وللمؤمنين، وعليه فالخارج منها أنت.
وهو أيضاً القائل: ﴿لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ..﴾ [المنافقون: ٧] والعجيب أنه يعترف أن محمداً رسول الله،
وما دام أن الحق سبحانه سمَّى هذه الحادثة في حَقِّ أم المؤمنين عائشة إفكاً فلا بُدَّ أنهم قَلَبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع.
والقصة حدثت في غزوة بن المصطلق، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته: مَنْ تخرج منهن معه. وهذا ما تقتضيه عدالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجتْ معه، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة: ذهبت لأقضي حاجتي في الخلاء، ثم رجعت إلى هَوْدَجِي ألتمس عِقْداً لي من (جَزْع ظَفَار) وهو نوع نفيس.
فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا، ولم تجد هَوْدجها فقالت في نفسها لا بُدَّ أنهم سيفتقدونني وسيعودون. لكن كيف حمل القوم هودج عائشة ولم تكُنْ فيه؟ قالوا: لأن النساء كُنَّ خِفَافاً لم يثقلن، وكانت عائشة نحيفة، لذلك حمل الرجال هَودْجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله. ثم نامت السيدة عائشة في موضع هودجها تنتظر مَنْ يأتيها، وكان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان ويُعقب عليه، عَلَّه يجد شيئاً نسيه القوم أو شخصاً تخلَّف عن الرَّكْب.
ولما قَدِم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموهما، وقالوا في حقهما مَا لا يليق بأم المؤمنين، وقد تولّى هذه الحملة رَأْسُ النفاق في المدينة عبد الله بن أُبيٍّ ومِسْطح بن أُثَاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش، فروَّجوا هذا الاتهام وأذاعوه بين الناس.
ثم يقول سبحانه: ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ..﴾ [النور: ١١] لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته؟ قالوا: لأن القرآن حين تُتَّهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، وحين يُفضَح قوم على لسان القرآن، لا بُدَّ أن يعتبر الآخرون، ويخافوا إنْ فعلوا مخالفة أنْ يفتضح أمرهم؛ لذلك جاء هذا الموقف درساً عملياً لمجتمع الإيمان.
نعم، أصبحت الحادثة خيراً؛ لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته، فالحق - تبارك وتعالى - يُؤيِّد رسوله في الأشياء المسرَّة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه، ولو بالتدليس، وبالمكر ولو بالإسرار والكَيْد الخفي، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان
وقد ائتمروا عليه وكادوا له ليلاً ليلة الهجرة، فلم يفلحوا، فحاولوا أن يسحروه، وفعلاً صنعوا له سحراً، ووضعوه في بئر ذروان في مُشْط ومشاطة، فأخبره بذلك جبريل عليه السلام، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علياً فجاء به.
إذن: عجزوا في المواجهة، وعجزوا في التبييت والكيد، وعجزوا حتى في استخدام الجن والاستعانة به، وهنا أيضاً عجزوا في تشويه صورة النبوة والنَّيْل من سمعتها، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه: اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبداً، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيراً لجماعة المؤمنين.
ومع ذلك،
«لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقها، لكن تغيَّر لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يَعُدْ يداعبها كعادته، وكان يدخل عليها فيقول:» كيف تيكم «وقد لاحظت عائشة هذا التغيُّر لكن لا تعرف له سبباً إلى أنْ تصادف أنْ سارت هي وأم مِسْطح أحد هؤلاء المنافقين، فعثرتْ فقالت: تعس مِسْطح فنهرتها عائشة: كيف تدعو على ابنها، فقالت: إنك لا تدرين ما يقول؟ عندها ذهبتْ السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عَمَّا يقوله الناس فأخبرتها.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم..﴾ [النور: ١١].
عادةً ما يستخدم الفعل (كَسَبَ) المجرد في الخير، والفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال في الشر، لماذا؟ قالوا: لأن فِعْل الخير يتمشى وطبيعة النفس، وينسجم مع ذراتها وتكوينها، فالذي يُقدِم على عمل الخير لا يقاوم شيئاً في نفسه، ولا يعارض ملكَة من مَلَكَاته، أو عادة من العادات.
وهذه نلاحظها حتى في الحيوانات، أَلاَ ترى القطة: إنْ وضعتَ لها قطعة لحم تجلس بجوارك وتأكلها، وإنْ أخذتْها منك خَطْفاً تفرّ بها هاربة وتأكلها بعيداً عنك. إذن: في ذاتية الإنسان وفي تكوينه - وحتى في الحيوان - ما يُعرف به الخير والشر، والصواب والخطأ.
وأنت إذا نظرتَ إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعياً مطمئناً؛ لأن مَلكَات نفسك معك موافقة لك لا تعارضك في هذا الفعل، فإنْ حاولتَ النظر إلى ما لا يحلّ لك تختلس النظرة وتسرقها، وتحاول سترها حتى لا يلحظها أحد، وقد ترتبك ويتغير لونك، لماذا؟ لأنك تفعل شيئاً غير طبيعي، لا حَقَّ لك فيه، فتعارضك ملكَاتُ نفسك، وذراتُ تكوينك. فالأمر الطبيعي تستجيب له النفس تلقائياً، أمّا الخطأ والشر فيحتاج إلى افتعال، لذلك عبَّر عن المكر والتبييت والكيد ب (اكتسب) الدال على الافتعال.
تولَّى كبر الشيء: يعني قام به وله حَظٌّ وافر فيه، أو نقول: هو ضالع فيه، والمقصود هنا عبد الله بن أُبيّ الذي قاد هذه الحملة، وتولّى القيام بها وترويجها ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١١] أي: يناسب هذه الجريمة.
﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [النور: ١٢] كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم، فيردون هذا الكلام.
و (لولا) أداة للخصِّ والحثِّ، وقال: ﴿المؤمنون والمؤمنات..﴾ [النور: ١٢] لأنه جال في هذه الفتنة رجال ونساء، والقرآن لا يحثهم على ظنِّ الخير برسول الله أو زوجته، وإنما ظن الخير بأنفسهم
﴿وَقَالُواْ..﴾ [النور: ١٢] أي: قبل أن ينزل القرآن ببراءتها ﴿هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [النور: ١٢] يعني: كذب متعمد واضح بيِّن لأنه في حق مَنْ؟ في حق أم المؤمنين التي طهَّرها الله واختارها زوجة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ..﴾.
ثم يقول تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ..﴾.
قالوا: لأن الحق - تبارك وتعالى - أراد من هذه المسألة العبرة والعظة، وجعلها للمؤمنين وسيلةَ إيضاح، فليس المراد أن يُنزل الله بهم العذاب، إنما أن يُعلمهم ويعطيهم درساً في حِفْظ أعراض المؤمنين.
﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: ١٥].
﴿بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ [النور: ١٥] يعني: مجرد كلام تتناقله الأفواه، دون أنْ يُدقِّقوا فيه؛ لذلك قال بعدها ﴿مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ..﴾ [النور: ١٥] وهذا الكلام ليس هيناً كما تظنون، إنما هو عظيم عند الله؛ لأنه تناول عِرْض مؤمن، وللمؤمن حُرْمته، فما بالك إنْ كان ذلك في حَقِّ رسول الله؟
ثم يقول الحق سبحانه:
كما لو قلت: الوَرِع فلان، أو الشيخ فلان لا يشرب الخمر، فكأنه رغم النفي جعلته مظنة ذلك، فلا يصح أن ينسب إليه السوء ولو بالنفي، فذلك ذَمٌّ في حقِّه لا مدح.
كذلك التحدث بهذه التهمة لا يليق بأم المؤمنين، ولو حتى بالنفي، ومعنى ﴿بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦] كذب يبهت سامعه، ويُدهِشه لفظاعته، وشناعته. فنحن نأنف أن نقول هذا الكلام، ولو كنا منكرين له.
وتذييل الآية بهذا الشرط: ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [النور: ١٧] حثٌّ وإهاجة لجماعة المؤمنين، لينتهوا عن مثل هذا الكلام، وألاَّ يقعوا فيه مرة أخرى، وكأنه تعالى يقول لهم: إنْ عُدْتُم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم؛ لأن إيمانكم ساعتها سيكون إيماناً ناقصاً مشكوكاً فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ..﴾.
ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن: المسألة خطيرة.
والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة
وهذا توجيه من الحق - سبحانه وتعالى - إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تُرَاعى، وهي: حين تسمع خبراً يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض أو يخدش حكماً من أحكام الله، فإياك أنْ تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة إيجاد أُسْوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضاً على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة..﴾ [النور: ١٩].
والحق - تبارك وتعالى - لم يعصم أحداً من المعصية وعمل السيئة، لكن الأَسْوء من السيئة إشاعتها بين الناس، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإنْ سمعت في حَقِّه مَا لا يليق فلربما زهّدك ما سمعتَ في هذا الشخص، وزهَّدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمتَ المجتمع من حسنات هذا الرجل.
وهذه المسألة هي التعليل الذي يستر الله به غَيْب الخَلْق عن الخَلْق، إذن: سَتْر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه، ويجعلك تتعامل مع الآخرين، وتنتفع بهم على عِلاَّتهم، وصدق الشاعر الذي قال:
فَخُذْ بِعلْمي ولاَ تركَنْ إلىَ عَمِلي | وَاجْنِ الثمارَ وخَلِّ العُودَ للنَّارِ |
لكن أين جواب لولا؟ الجواب يُفهَم من السياق وتقديره: لَفُضحْتُم ولَهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أنْ تُقدِّره كما تشاء.
وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته.
وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
فالحق - سبحانه وتعالى - شرع منهجاً ويحب مَنْ يعمل به، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبُّل هذا العمل. إذن: ففضْل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخَلْق في منهج الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
وبعد هذه الحادثة كان لا بُدَّ أنْ يقول تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان..﴾.
وقال: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١] وهكذا علّلَ امتناعه بأنه خير، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه.
والحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود، إنما يحذرنا منه، ويُنبِّهنا إلى خطره ويُربِّي فينا المناعة من الشيطان؛ لأن عداوته لنا عداوة مركزة، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة.
فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خَلْقه، فقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢].
فلو أرادنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل، إنما تركنا سبحانه للاختيار، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب؛ لذلك قال بعدها: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [الحجر: ٤٠] فمَنِ اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل.
إذن: مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان، إنما بين الشيطان وبني آدم.
فقوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ..﴾ [النور: ٢١] نداء: يا من آمنتم بإله كأنه يقول: تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به، وابتعدوا عما يُضعِف هذا الإيمان، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة، وتأكّدوا أن الشيطان له خطوات متعددة.
والشيطان: هو المتمرد العاصي من الجن، فالجن مقابل الإنس، فمنهم الطائع والعاصي، والعاصي منهم هو الشيطان، وعلى قِمتهم إبليس؛ لذلك يقول تعالى في سورة الكهف: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..﴾ [الكهف: ٥٠].
وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين المعصية من قِبل النفس والمعصية من قِبل الشيطان، فالنفس تُلِح عليك في معصية بعينها لا تتعدّاها إلى غيرها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً على أيِّ: وجه من الوجوه، فإن امتنعت عليه في معصية جَرَّك إلى معصية أخرى أياً كانت.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر..﴾ [النور: ٢١] ولك أنْ تسأل: أين جواب (مَنْ) الشرطية هنا؟ قالوا: حُذِف الجواب لأنه يُفهم من السياق، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه، وتستطيع أن تُقدِّر الجواب: مَنْ يتبع خطوات الشيطان بُذِقْه ربه عذاب السعير؛ لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فَمَنْ يتبع خطواته، فليس له إلا العذاب، فقام المسبّب مقام جواب الشرط.
والكلام ليس كلام بشر، إنما هو كلام رَبِّ العالمين. وأسلوب القرآن أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني، وليس مجرد كلام وحَشْو.
ثم يقول تعالى بعدها: ﴿قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩].
وتأمل ما بين هذيْن الحدثيْن من أحداث حُذِفت للعلم بها، فوعي القاريء ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد.. وو إلخ فهذه أحداث يُرتِّبها العقل تلقائياً.
وقد أوضح الشيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها، وبيَّن طرقه في الإغواء، ألم يقل: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦] فلا حاجةَ للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلين صلاتهم، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك.
لكن مصيبتنا أن الشيطان فقط طرف الخيط، فنسير نحن خَلْفه (نكُرّ في الخيط كَرّاً) ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذْنا بالله من الشيطان الرجيم، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله..﴾ [الأعراف: ٢٠٠].
إذن: إياك أنْ تقبل منه طرف الخيط؛ لأنك لو قَبِلْته فلن تقدر عليه بعد ذلك.
ومن خطوات الشيطان أيضاً قوله: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ..﴾ [الأعراف: ١٧].
ثم يقول تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ..﴾ [النور: ٢١].
قلنا: إن فضل الجزاء يتناوبه أمران: جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق؛ لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب. فإنْ عاملنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - بالعدل لَضِعْنا جميعاً.
لكن، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال، كما أخذ الأمم السابقة، وظهر فَضْل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرَّض للحَدث، وحذرنا قديماً من الشيطان قبل أن نقع في المعصية، وقبل أن تفاجئنا الأحداث، فقال سبحانه:
﴿فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ..﴾ [طه: ١١٧] وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي.
لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يُربِّي المناعة في النفس، فلم يتركنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - في غفلة إلى أنْ تقعَ في المعصية، كما نُحصِّن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها.
لذلك قال تعالى (والله سَمِيعٌ) لما قيل (عَلِيمٌ) [النور: ٢١] بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى..﴾.
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان؛ لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه.
وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى؛ لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته.
إذن: العافي أقسى قَلْباً من المنتقم، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر، فيأتي الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً، فيأخذه في حضنه، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى.
ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك، وتُحسن إليه، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها.
إذن: نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس.
﴿يَأْتَلِ..﴾ [النور: ٢٢] ائتلى مثل اعتلى تماماً، ومنها تألّى يعني: حلف وأقسم، يوجه الحق - تبارك وتعالى - الصِّديق أبا بكر، ويذكر لفظ ﴿أُوْلُواْ..﴾ [النور: ٢٢] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام، ففي كل ناحية له فضل؛ لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال للصِّديق: ﴿وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا..﴾ [النور: ٢٢] وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿فاعف عَنْهُمْ واصفح..﴾ [المائدة: ١٣].
كذلك، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار، وثاني اثنين في أمور كثيرة، فهو ثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال عن الصِّديق: «كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان». يعني: في التسابق في الخير «فسبقته إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني إليها لاتبعته» «.
ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد، إنما بصيغة الجمع تكريماً وتعظيماً.
أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول: «والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم
هذا موقف الصِّديق رقيق القلب، ليِّن الجانب، صاحب الرحمة والحنان، الذي تقول عنه ابنته «إنه رجل بكّاء» يعني: كثير البكاء. في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار. لكن هذا التناقض في موقف كل منها يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعاً غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسداً شجاعاً قاسيَ القلب، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا: شِدّة أَلِفها الناس من عمر.
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانياً، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ..﴾ [الفتح: ٢٩].
فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها، ولا على الرحمة وحدها، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله.
فقوله تعالى: ﴿أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة..﴾ [النور: ٢٢] يقول للصِّديق: أنت رجل فاضل صِدِّيق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر
ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه؛ لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه.
فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول: ارجع إلى فضلك يا أبا بكر، وعُدْ أنت إلى سعتك، وكُنْ موصولَ المروءة، ولا تقطع رحمك، يريد - سبحانه وتعالى - أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة.
ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة.
ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون: أعطوا مَنْ آمن، واتركوا مَنْ كفر؟ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مَثَلاً في ذاته عَزَّ وَجَلَّ، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه، بل ربما كان أحسن حالاً مِمَّنْ آمن، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٤].
ثم يقول سبحانه: ﴿أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله..﴾ [النور: ٢٢] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم.
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها، كما قال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات..﴾ [هود: ١١٤].
فرغم ما وقع فيه مِسْطح، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر، وتحنين قلبه، وأبقاه في المهاجرين.
﴿وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا..﴾ [النور: ٢٢] العفو: ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه، وتمنّ عليه بعفوْك، وتُذكِّره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو؛ لذلك يحثنا ربنا - تبارك وتعالى - على الصفح بعد العفو، والصفح: تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه.
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ [النحل: ١٢٦].
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلاً من لحمه، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي، وأخبره بما كان بينهما من شرط، وكان القاضي ذكياً فقال للمرابي: خُذ السكين واقطع رطلاً من لحمه، لكن إنْ زاد أخذناه منك، وإنْ نقص أخذناه منك، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة.
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو، وانتهت المسألة على خير ما يكون.
وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤].
فالحق - تبارك وتعالى - يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة، فالعقاب بالمثل مرتبة، وكَظْم الغيظ مرتبه، والعفو مرتبة، والصفح مرتبة، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤].
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول: ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ..﴾ [النور: ٢٢] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك؟ وكأن ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - يريد أن يُصلح ما بيننا؛ لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر
ومعنى ﴿أَلاَ..﴾ [النور: ٢٢] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران، وليكن لديه رحمة، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات..﴾.
قالوا: لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون آثار تتعلق بالرزق، والرزق تكفَّل الله به لعباده؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، سواء المؤمن أو الكافر، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله، ويد الله الممدودة بأسباب الله.
والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه
فإنْ أنفق الموسر على المعسر جعله الله قَرْضاً، وتولّى سداده بنفسه؛ ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هِبَته، فطالما أعطاك الرزق، فلا يأخذه منك إلا قَرْضاً.
لذلك يقول تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ..﴾ [محمد: ٣٨].
وفي موضع آخر يقول عن الأموال: ﴿إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] لأن الإنسان تعب في جمع المال وعَرق في سبيله، وأصبح عزيزاً عليه؛ لذلك يبخل به، فأخذه الله منه قَرْضاً مردوداً بزيادة، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مَنَاط لعمارة الخليفة في الأرض؛ لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا، وذكر هذه الآية التي تتعلَّق بالرزق.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى..﴾ [البقرة: ٢٣٨] وقد ذُكِرَتْ وسط مسائل تتعلق بالعِدَّة والكفارة، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل؟
قالوا: لأن النزاعات التي تحدث غالباً ما تُغيِّر النفس البشرية وتثير حفيظتها، فإذا ما قمتَ للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن.
نعود إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات..﴾ [النور: ٢٣] المحصنة: لها إطلاقات ثلاث، فهي المتزوجة لأن الإحصان: الحِفْظ وكأنها حفظتْ نفسها بالزواج، أو هي العفيفة، وإنْ لم تتزوج فهي مُحْصَنة في ذاتها، والمحصنة هي أيضاً الحرة؛ لأن عملية البِغَاء والزنا كانت خاصة بالإماء.
و ﴿الغافلات..﴾ [النور: ٢٣] جمع غافلة، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل، وليس في بالها شيء عن هذه العملية، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سأل بريرة خادمة السيدة عائشة: ما تقولين في عائشة يا بريرة؟ فقالت: تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري» وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نُضْج المراهقة ومع نُضْج المراهقة نُضْج اليقين والإيمان.
وتلحظ هذه الغفلة في البنت الصغيرة حين تقول لها: أتتزوجين فلاناً؟ تقول: لا أنا أتزوج فلاناً، ذلك لأنها لا تدري معنى العلاقة الزوجية، إنما حينما تكبر وتفهم مثل هذه الأمور فإنْ ذكرتَ لها الزواج تستحي وتخزى أن تتحدث فيه؛ لأنها عرفتْ ما معنى الزواج.
لذلك لما أمرنا الشرع باستئذان البنت للزواج جعل إذنها سكوتها، فإن سكتتْ فهذا إذْن منها، ودليل على فهمها لهذه العلاقة، إنما إنْ
إذن: الغافلة حتى عن مسائل الزواج والعلاقات الزوجية، ولا تدري شيئاً عن مثل هذه الأمور كيف تفكر في الزنا؟
ثم يذكر ربنا - تبارك وتعالى - جزاء هذه الجريمة: ﴿لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ٢٣].
وإن كانت الغافلة هي التي ليس في بالها مثل هذه الأمور، ولا تدري شيئاً حتى عن الزواج والعلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة، فيكيف نقول: إنها تفكر في هذه الجريمة؟
واللعْن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأيضاً الطرد والإبعاد عن حظيرة المؤمنين؛ لأن القاذف حكمه أنْ يُقام عليه الحدُّ، ثم تسقط شهادته، ويسقط اعتباره في المجتمع الذي يعيش فيه، فجمع الله عليه الخزي في الدنيا بالحدِّ وإسقاط الاعتبار، إلى جانب عذاب الآخرة، فاللعن في الدنيا لا يعقبه من عذاب الآخرة.
وقلنا: إن العذاب: إيلام حَيٍّ، وقد يُوصَف العذاب مرة بأليم، ومرة بمهين، ومرة بعظيم، هذه الأوصاف تدور بين العذاب
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ..﴾.
قالوا: في الدنيا يتكلم اللسان وينطق، لكن المتكلم في الحقيقة أنت؛ لأنه مَا تحرَّك إلا بمرادك له، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك، إذن: فهو مجرد آلة، أمَّا في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه؛ لأن صاحبه ليس له مراد الآن.
ولتقريب هذه المسألة: أَلاَ ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم، ويُمسك لسانه بعد طلاقته، بسبب مرض أو نحوه، فلا يستطيع بعدها الكلام، وهو ما يزال في سَعَة الدنيا. فما الذي حدث؟ مجرد أن تعطلتْ عنده آلة الكلام، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها، فتنطق وتتحرك، لا بإرادتك، إنما بإرادة الله وقدرته.
فالمعنى ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ..﴾ [النور: ٢٤] أي: شهادة ونطقاً على مراد الله، لا على مراد أصحابها.
ولك أنْ تقارن هذه الحركة التلقائية السَّلسِة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة، وكيف أن السائق أمامه عدد كبير من العِصيِّ والأذرع، لكل حركة في الآلة ذراع معينة.
فإذا كان لك هذه السيطرة وهذا التحكم في نفسك وفي أعضائك، فكيف تستبعد أن يكون لربك - عَزَّ وَجَلَّ - هذه السيطرة على خَلْقه في الآخرة؟
إذن: فاللسان محلّ القول، وهو طَوْع إرادتك في الدنيا، أما في الآخرة فقد شُلَّتْ هذه الإرادة ودخلتْ في قوله تعالى: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
ثم يقول سبحانه: ﴿وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤] وهذه جوارح لم يكُنْ لها نُطْق في الدنيا، لكنها ستنطق اليوم. ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون: إن الجارحة حين تعمل أيَّ عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملتْ، فنُطْقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت.
والأقرب من هذا كله أن نقول: إنها تنطق حقيقة، كما قال تعالى حكايةً عن الجوارح: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله
ومعنى: ﴿الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أن لكل شيء في الكون نُطْقاً يناسبه، كما نطقت النملة وقالت: ﴿ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ..﴾
[النمل: ١٨] ونطق الهدهد، فقال: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢].
وقد قال تعالى عن نُطْق هذه الأشياء: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾ [الإسراء: ٤٤].
لكن، إنْ أراد الله لك أن تفقه نُطْقهم فقَّهك كما فقَّه سليمان عليه السلام، حين فهم عن النملة: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا..﴾ [النمل: ١٩] كما فَهِم عن الهدهد، وخاطبه في قضية العقيدة.
وإنْ كان النطق عادةً يفهم عن طريق الصوت، فلكل خَلْق نُطْقه الذي يفهمه جنسه؛ لذلك نسمع الآن مع تقدُّم العلوم عن لُغة للأسماك، ولغة للنحل... إلخ.
وسبق أنْ قلنا: إن الذين قالوا من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الحصى سبّح في يده، نقول: عليكم أن تُعدِّلوا هذه العبارة، قولوا: سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسبيح الحصى في يده، وإلاَّ فالحصى مُسبِّح في يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما هو مُسبِّح في يد أبي جهل.
ولو سألتَ هذه الجوارح: لم شهدتِ عليَّ وأنت التي فعلت؟ لقالت لك: فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك، إنما يوم ننحلّ عن إرادتك ونخرج عن قهرك، فلن نقول إلا الحق.
ثم يقول الحق سبحانه:
فالمعنى: يوفيهم الجزاء الذي يستحقونه ﴿الحق..﴾ [النور: ٢٥] أي: العدل الذي لا ظلمَ فيه ولا تغيير، فليس الجزاء جُزَافاً، إنما جزاء بالحق؛ لأنه لم يحدث منهم توبة، ولا تجديد إيمان؛ لذلك لا بُدَّ أنْ يقع بهم ما حذرناهم منه وأخبرناهم به من العقاب، وليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الحكم أو يؤخره عنهم.
لذلك بعد أنْ قال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ [المسد: ١ - ٥].
قال بعدها: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١ - ٤].
ثم يقول تعالى: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ [النور: ٢٥] هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكلُّ ما عدا الله تعالى مُتغير، إذن: فالله بكل صفات الكمال فيه سبحانه لا تغييرَ فيه، لذلك يقولون: إن الله تعالى لا يتغير من أجلنا، ولكن يجب أنْ نتغير نحن من أجل الله، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..﴾ [الرعد: ١١].
فالله هو الحقُّ الثابت، هذا بالبراهين العقلية وبالواقع، وقد عرفنا الكثير من البراهين العقلية، أما الواقع فإلى الآن لم يظهر مَنْ يقول أنا الله ويدَّعي هذا الكون لنفسه، وصاحب الدعوى تثبت له إنْ لم يَقُمْ عليها معارض ومعنى ﴿المبين﴾ [النور: ٢٥] الواضح الظاهر الذي تشمل أحقيتُه الوجودَ كله.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ..﴾.
إذن: فلا بُدَّ أن تكون عائشة طَيّبةً طِيبةً تكافي وتناسب طِيبة رسول الله؛ لذلك برَّأها الله مما يقول المفترون.
وقوله: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: ٢٦] مغفرة نزلتْ من السماء قبل القيامة، ورزق كريم، صحيح أن الرزق كله من الله بكرم، لكن هنا يراد الرزق المعنوي للكرامة وللمنزلة وللسمو، لا الرزق الحسيّ الذي يقيم قِوام البدن من أكل وشرب وخلافه.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ..﴾.
لكن هناك أمور تقتضي أنْ يدخل الناس على الناس؛ لذلك تكلم الحق - تبارك وتعالى - هنا عن آداب الاستئذان وعن المبادئ والنظم التي تنظم هذه المسألة؛ لأن ولوج البيوت بغير هذه الآداب، ودون مراعاة لهذه النظم يُسبِّب أموراً تدعو إلى الرِّيبة والشك؛ لذلك في الفلاحين حتى الآن: إذا رأوا شخصاً غريباً يدخل حارة لا علاقة له بها لا بُدَّ أن يسأل: لماذا دخل هنا؟
إذن: فشرْع الله لا يحرم المجتمع من التلاقي، إنما يضع لهذا التلاقي حدوداً وآداباً تنفي الرّيْب والشبهة التي يمكن أنْ تأتي في مثل هذه المسائل.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آداب الاستئذان: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا..﴾ [النور: ٢٧].
﴿حتى تَسْتَأْنِسُواْ..﴾ [النور: ٢٧] من الأُنْس والاطمئنان، فحين تجلس وأهلك في بيتك، وأقبل عليك غريب لا تعرفه، إذا لم يُقدِّم لك ما تأنس به من الحديث أو الاستئذان لا بُدَّ أن تحدث منه وَحشة ونفور إذن: على المستأذن أن يحدث من الصوت ما يأنس به صاحب الدار، كما نقول: يا أهل الله، أو نطرق الباب، أو نتحدث مع الولد الصغير ليخبر مَنْ بالبيت.
ذلك لأن للبيوت حرمتها، وكل بيت له خصوصياته التي لا يحب
لذلك قال تعالى بعدها: ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ..﴾ [النور: ٢٧].
أي: خير للجميع، للزائر وللمزور، فالاستئذان يمنع أن يتجسس أحد على أحد، يمنع أن ينظر أحد إلى شيء يؤذيه، وهَبْ أن أبا الزوجة أراد زيارتها ودخل عليها فجأة فوجدها في شجار مع زوجها، فلربما اطلع على أمور لا ترضيه، فيتفاقم الخلاف.
ثم تختم الآية بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: ٢٧] يعني: احذروا أن تغفلوا هذه الآداب، أو تتهاونوا فيها، كمَنْ يقولون: نحن أهلٌ أو أقارب لا تكليفَ بيننا؛ لأن الله تعالى الذي شرع لكم هذه الآداب أعلَمُ بما في نفوسكم، وأعلم بما يُصلِحكم.
بل ويتعدى هذا الأدب الإسلامي من الغريب إلى صاحب البيت نفسه، ففي الحديث الشريف «» نهى أن يطرق المسافر أهله بليل «إنما عليه أن يخبرهم بقدومه حتى لا يفاجئهم وحتى يستعد كل منهما لملاقاة الآخر.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ..﴾.
وقوله تعالى: ﴿حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ..﴾ [النور: ٢٨] كيف والدار ليس فيها أحد؟
ربما كان صاحب الدار خارجها، فلما رآك تستأذن نادى عليك من بعيد: تفضل. فلا بُدَّ أنْ يأذن لك صاحب الدار أو مَنْ ينوب عنه في الإذن؛ لأنه لا يأذن إلا وقد أمِن خُلو الطريق مما يؤذيك، أو مما يؤذي أهل البيت.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ..﴾ [النور: ٢٨].
لأنك إنْ تمسكت بالدخول بعد أنْ قال لك: ارجع فقد أثرت الريبة في نفسه، فعليك أن تمتثل وتحترم رغبة صاحب الشأن، فهذا هو الأزكى والأفضل، أَلاَ ترى قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك».
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢٨] أي: عالم سبحانه بدخائل النفوس ووساوس الصدور، فإنْ قال لك صاحب الدار ارجع فوقفتَ أمام الباب ولم تنصرف، فإنك تثير حولك الظنون والأوهام، وربك - عَزَّ وَجَلَّ - يريد أنْ يحميك من الظنون ودخائل النفوس.
ثم يقول الحق سبحانه:
و ﴿جُنَاحٌ..﴾ [النور: ٢٩] يعني: إثم أو حرج، وهذه خاصة بالأماكن العامة التي لا يسكنها أحد بعينه، والمكان العام له قوانين في الدخول غير قوانين البيوت والأماكن الخاصة، فهل تستأذن في دخول الفندق أو المحل التجاري أو الحمام... إلخ، هذه أماكن لا حرجَ عليك في دخولها دون استئذان.
فمعنى ﴿غَيْرَ مَسْكُونَةٍ..﴾ [النور: ٢٩] أي: لقوم مخصوصين ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ..﴾ [النور: ٢٩] كأن تنام فيها وتأكل وتشرب وتضع حاجياتك، فالمتاع هنا ليس على إطلاقه إنما مقيد بما أحلَّه الله وأمر به، فلا يدخل في المتاع المحرمات.
لذل قال بعدها: ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [النور: ٢٩] يعني: في تحديد الاستمتاع، فلا تأخذه على إطلاقه فتُدخل فيه
ثم يقول رب العزة سبحانه: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ..﴾.
وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه، فالله تعالى يريد مجتمعاً تضيء فيه القيم السامية، مجتمعاً يخلو من وسائل (العكننة) والمخالفة والشَّحْناء والبغضاء، فلو أننا طبَّقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله.
ومسألة غَضِّ البصر التي يأمرنا بها ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة، ويسد الطريق دونها؛ لذلك قال تعالى: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ [النور: ٣٠].
وقلنا: إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة، وكل جهاز إدراك له مناط: فالأذن تسمع الصوت، والأنف يشم الرائحة، واللسان للكلام، ولذوْق المطعومات، والعين لرؤية المرئيات، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسَّة البصر؛ لذلك وضع
وحين تتأمل مسألة غَضِّ البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات: الأولى: أن يغضَّ هو بصره ولا تبدي هي زينتها، فخطّ الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل، الثانية: أن يغضَّ هو بصره وأن تبدي هي زينتها، الثالثة: أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها. وليس هناك خطر على المجتمع إو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر. إنما الخطر في القسمة الرابعة: وهي أن ينظر هو ولا يغضّ بصره، وأنْ تتزين هي وتُبدي زينتها، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر.
إذن: فالحق - تبارك وتعالى - حرَّم حالة من أربع حالات؛ ذلك لأن المحرّمات هي الأقل دائماً، وهذا من رحمة الله بنا، بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..﴾ [الأنعام: ١٥١] فالمحرمات هي المحصورة المعدودة، أمّا المحللات فهي فوق الحصر والعَدِّ، فالأصل في الأشياء أنها حلال، وإذا أراد الحق سبحانه تحريم شيء نَصَّ عليه، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عَزَّ وَجَلَّ.
وكما أمر الرجل بغضِّ بصره، كذلك أُمِرَتْ المرأة بغضِّ بصرها، لأن اللَّفْتة قد تكون أيضاً للرجل ذي الوسامة و.. وفإنْ كان حظ المرأة في رجل تتقحمه العين، فلربما نظرتْ إلى غيره، فكما يُقال في الرجال يُقال في النساء.
هذا الاحتياط وهذه الحدود التي وضعها الله عَزَّ وَجَلَّ وألزمنا بها
نَظْرَةٌ فابتسَامَةٌ فسَلاَمٌ | فكَلامٌ فموعِدٌ فَلِقَاءٌ |
ذلك ليطمئن كل إنسان على أن مَنْ يليه في الخلافة من أبناء أو أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعيٍّ شريف، فيجتهد كل إنسان في أن يُنشِّيء أطفاله تنشئةً فيها شفقة، فيها حنان ورحمة؛ لأنه واثق أنه ولده، ليس مدسوساً علي، وأغلب الظن أن الذين يُهملون أطفالهم ولا يُراعون مصالحهم يشكُّون في نسبهم إليهم.
ولا يصل المجتمع إلى هذا الطُّهْر إلا إذا ضمنتَ له الصيانة الكافية، لئلا تشرد منه غرائز الجنس، فيعتدي كل نظر على مَا لا يحلّ له؛ لأن النظر بريد إلى القلوب، والقلوب بريد إلى الجنس، فلا يعفّ الفرج إلا بعفاف النظر.
ونلحظ في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ [النور: ٣٠] دقة بلاغ الرسول عن ربه - عَزَّ وَجَلَّ - وأمانته في نقل العبارة كما أُنزِلَتْ عليه، ففي هذه الآية كان يكفي أن يقول رسول الله: غُضُّوا أبصاركم، لكنه التزم بنص ما أُنزِل عليه؛ لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط، وإنما القرآن هو كلام الله المنزّل على رسوله والذي يُتعبَّد بتلاوته، فلا بُدَّ أنْ يُبلّغه الرسول كما جاءه من ربه.
والمعنى: إنْ تقُل لهم غُضُّوا أبصاركم يغضُّوا، فالفعل - إذن - مجزوم في جواب الأمر (قُلْ).
إذن ﴿قُلْ..﴾ [النور: ٣٠] تدل على أمانة الرسول في البلاغ، وعلى أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب، إنما هو أيضاً كلام الله المعجز؛ لذلك نحافظ عليه وعلى كل لفظة فيه، وكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: ما أتيتُ لكم بشيء من عندي، ومهمتي أن أبلغكم ما قاله الله لي.
وقوله: ﴿لِّلْمُؤْمِنِينَ..﴾ [النور: ٣٠] فما داموا مؤمنين بإله حكيم، وقد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يُرغمهم عليه أحد، فلا بُدَّ أنْ يلتزموا بما أمرهم ربهم به وينفذوه بمجرد سماعه.
والغَضُّ: النقصان، يقال: فلان يغُضُّ من قَدْر فلان يعني: ينقصه، فكيف يكون النقصان في البصر؟ أينظر بعين واحدة؟ قالوا: البصر له مهمة، وبه تتجلى المرائي، والعين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالاً لها أو مُحرّماً عليها.
فنقص البصر يعني: قَصْره على ما أحل، وكفّه عما حُرم، فالنقص نقص في المرائي وفي مجال البصر، فلا تعطي له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شيء، إنما تُوقِفه عند أوامر الله فيما يُرى وفيما لا يُرى.
و ﴿مِنْ..﴾ [النور: ٣٠] في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ [النور: ٣٠] البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول: كُلْ من هذا الطعام يعني: بعضاً منه، فالمعنى: يغضُّوا بعض البصر؛ لأن بَعضه حلال لا أغض عنه بصري، وبعضه محرم لا أنظر إليه.
قلنا: فرق بين قولك: ما عندي مال، وقولك: ما عندي من مال. ما عندي مال، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعْتدّ به، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قَلَّ، فمِنْ تعني بدايةَ ما يقال له مال.
فالمعنى هنا: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ [النور: ٣٠] يعني: بداية مَا يُقال له بصر، ولو لمحة خاطفة، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر.
وقلنا: إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل، قلنا: لو مررتَ ببستان فرأيتَ به ورده جميلة، فأعجبت بها وسُرِرْت وانبسطتْ لها أسارير نفسك، كل هذا مباح لك لا حرجَ عليك فيه، فإنْ تعدَّى الأمر ذلك فمددتَ إليها يدك لتقطفها، هنا يتدخل الشرع يقول لك: قِفْ، فليس هذا من حقك لأنها ليستْ لك.
هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثني منها إلا النظر وحده، وكأن ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - يستسمحنا فيه، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يُخلِّفه في النفس من عذابات ومواجيد.
ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له: انظر كما تحب واعشق كما شئت، فإن نزعْتَ إلى ضمة أو قبلة قلنا لك: حرام. لماذا؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً.
لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بعضِّ البصر قال: ﴿وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ..﴾ [النور: ٣٠] لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، وإنْ أمكن ذلك في الأمور الأخرى، فحين نمنعك عن قطف الوردة التي أعجبتْك لا يترك هذا المنع في نفسك أثراً ولا وَجْداً، على خلاف ما يحدث إنْ مُنعتَ عن امرأة أعجبتك، وهيَّجك الوجدان إليها.
وحِفْظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحلَّه الله وشرعه فلا أنيله لغير مُحلَّل له، سواء كان من الرجل أو من المرأة، أو: أحفظه وأصونه أن يُرى؛ لأن رؤيته تهيج إلى الشر وإلى الفتنة.
﴿ذلك أزكى لَهُمْ..﴾ [النور: ٣٠] يعني: أطهر وأسلم وأدْعَى لراحة النفس؛ لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرماً، ويلج في أعراض الناس، وإما ألا ينزع فيُكدِّر نفسه ويُؤلمها بالصبر على مَا لا تطيق.
ثم يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور: ٣٠] فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية، وواضع مسألة الشهوة والغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل والمرأة، وليحقق بها عملية النسل وبقاء الاستخلاف في الأرض، ولو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملّحة لزهَدَ الكثيرون في الزواج وفي الإنجاب وما يترتب عليه من تبعات.
وللبعض نظرة فلسفية للغرائز، خاصة غريزة الجنس، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز، وربطها بلذة أكثر أثراً من لذة الطعام والشراب والشَّمِّ والسماع.. إلخ فهي لذة تستوعب كل جوارح الإنسان وملكاته، وما ذلك إلا حِرْصاً على بقاء النوع ودواماً للخلافة في الأرض.
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا..﴾.
فإنْ كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجتْ لشيء من الزينة، لكن العجيب أنهن يُبالِغْنَ في هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبي مائل، فترى مُسِنَّات يضعْنَ هذا الألوان وهذه المساحيق، فيَظْهَرن في صورة لا تليق؛ لأنه جمال مُصْطنع وزينة متكلفة يسمونها تطرية، وفيها قال المتنبي، وهو يصف جمال المرأة البدوية وجمال الحضرية:
حُسْن الحِضارة مَجلْوبٌ بتطْرِيةٍ | وفِي البَدَاوة حُسْنٌ غير مَجْلُوب |
لكن لا يظهر منها القُرْط مثلاً؛ لأن الخمار يستره ولا (الديكولتيه) أو العقد أو الأسورة أو الدُّمْلُك ولا الخلخال، فهذه زينة لا ينبغي أن تظهر. إذن: فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطةَ أن تكون في حدود، وأن تقصر على مَنْ جُعِلَتْ من أجله.
ونلحظ في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا..﴾ [النور: ٣١] المراد تغطية الزينة، فالجارحة التي تحتها من باب أوْلَى، فالزينة تُغطِّي الجارحة، وقد أمر الله بسَتْر الزينة، فالجارحة من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ..﴾ [النور: ٣١].
الخُمر: جمع خِمّار، وهو غطاء الرأس الذي يُسْدل ليستر الرقبة والصدر. الجيوب: جميع جيب، وهو الفتحة العليا للثوب ويسمونها (القَبَّة) والمراد أن يستر الخمارُ فتحةَ الثوب ومنطقة الصدر، فلا يظهر منها شيء.
والعجيب أن النساء تركْنَ هذا الواجب، بل ومن المفارقات أنهن يلبسْنَ القلادة ويُعلِّقن بها المصحف الشريف، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعي وعدم الدراية بشرع الله مُنزِل هذا المصحف.
وتأمل دقة التعبير القرآني في قوله تعالى ﴿وَلْيَضْرِبْنَ..﴾ [النور: ٣١] والضرب هو: الوَقْع بشدة، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها وتتركها هكذا للهواء، إنما عليها أنْ تُحكِمها على رأسها وصدرها وتربطها بإحكام.
إذن: راعَى الشارع الحكيم زِيَّ المرأة من أعلى، فقال: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ.
.﴾ [النور: ٣١] ومن الأدنى فقال: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ..﴾ [الأحزاب: ٥٩].
ثم يقول تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ..﴾ [النور: ٣١] أي: أزواجهن؛ لأن الزينة جُعِلَتْ من أجلهم ﴿أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ..﴾ [النور: ٣١] أبو الزوج، إلا أنْ يخاف منه الفتنة، فلا تبدي الزوجة زينتها أمامه.
ومعنى ﴿أَوْ نِسَآئِهِنَّ..﴾ [النور: ٣١] أي: النساء اللائي يعملْنَ معها في البيت كالوصيفات والخادمات ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ..﴾ [النور: ٣١] والمراد هنا أيضاً ملْك اليمين من النساء دون الرجال.
ويشترط في هؤلاء النساء أن يكُنَّ مسلمات، فإنْ كُنَّ كافرات كهؤلاء اللائي يستقدمونهن من دول أخرى، فلا يجوز للمرأة أن تُبدي زينتها أمامهن، وأن تعتبرهن في هذه المسألة كالرجال، لأنهن غير مسلمات وغير مؤتمنات على المسلمة، وربما ذهبت فوصفتْ ما رأتْ من سيدتها للرجل الكافر فينشغل بها.
ومن العلماء مَنْ يرى أن مِلْك اليمين لا يخصُّ النساء فقط، إنما الرجال أيضاً، فللمرأة أنْ تُبدي زينتها أمامهم، قالوا: لأن هناك استقبالاً عاطفياً وامتناعاً عاطفياً في النفس البشرية، فالخادم في
وقوله تعالى: ﴿أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال..﴾ [النور: ٣١] أي: التابعين للبيت، والذين يعيشون على فضلاته، فتكون حياة التابع من حياة متبوعه، فليس عنده بيت يأويه؛ لذلك ينام في أيِّ مكان، وليس عنده طعام؛ لذلك يُطعمه الناس وهكذا، فهو ضائع لا هدفَ له ولا استقلاليةَ لحياته، وترى مثل هؤلاء يأكلون فضلات الموائد ويلبسون الخِرَق وينامون ولو على الأرصفة.
مثل (الأهبل) أو المعتوه الذي يعطف الناس عليه، وليس له مطمع في النساء، ولا يفهم هذه المسألة، فلا يُخاف منه على النساء؛ لأنه لا حاجةَ له فيهن؛ ولا يتسامى لأنْ ينظر إلى أهل البيت.
ومعنى: ﴿غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال..﴾ [النور: ٣١] يعني: كأن يكون كبير السِّنِّ واهن القوى، لا قدرةَ له على هذه المسائل، أو يكون مجبوباً، مقطوع المتاع، ولا خطرَ من مثل هؤلاء على النساء.
وقوله تعالى: ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء..﴾ [النور: ٣١].
نلحظ هنا أن الطفل مفرد، لكن وُصِف بالجمع ﴿الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء..﴾ [النور: ٣١] لماذا؟ قالوا: هذه سِمَة من سمات اللغة، وهي الدقة في التعبير، حيث تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى وعلى الجمع.
كذلك الحال في ﴿الطفل..﴾ [النور: ٣١] مع أن المراد الأطفال، لكن قال (الطفل) لأن غرائزه مشتركة مع الكل، وليس له هَوىً، فكل الأطفال - إذن - كأنهم طفل واحد حيث لم يتكوّن لكل منهم فِكْره الخاص به، الجميع يحب اللهو واللعب، ولا شيءَ وراء ذلك، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد في الغرائز وفي الميول.
بدليل أنه إذا كَبِر الأطفال وانتقلوا إلى مرحلة البلوغ وتكوَّن لديهم هَوىً وفِكْر وميْل يقول القرآن عنهم: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم..﴾ [النور: ٥٩] فنظر هنا إلى الجمع لعدم التوحُّد في مرحلة الطفولة المبكرة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ [الذاريات: ٢٤] فوصف ضيف وهي مفرد بالجمع (مكرمين) ؛ ذلك لأن ضَيْف تدل أيضاً على الجمع، فالضيف من انضاف على البيت وله حَقٌّ والتزامات لا بُدَّ أن يقدمها المضيف، مما يزيد على حاجة البيت، والضيف في هذه الالتزامات واحد، سواء كان مفرداً أو جماعة؛ لذلك دَلَّ بالمفرد على الجميع.
وقوله تعالى: ﴿الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء..﴾ [النور: ٣١] يظهر على كذا: لها معنيان في اللغة: الأول: بمعنى يعلم كما في
والثاني: بمعنى يعلو ويغلب ويقهر، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾ [الكهف: ٩٧] أي: السد الذي بناه ذو القرنين، فالمعنى: ما استطاعوا أنْ يعلوه ويرتفعوا عليه.
وهنا ﴿لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء..﴾ [النور: ٣١] يعني: يعرفونها ويستبينونها، أو يقدرون على مطلوباتها، فليس لهم عِلْم أو دراية بهذه المسائل.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ..﴾ [النور: ٣١].
الحق - تبارك وتعالى - يكشف ألاعيب النساء وحِيَلهنّ في جَذْب الأنظار، فإذا لم يلفتْك إليها النظر لفتَك الصوت الذي تحدثه بمشيتها كأنها تقول لك: يا بجم اسمع، يا للي ما نتاش شايف اسمع، وفي الماضي كُنَّ يلبسْنَ الخلخال الذي يُحدِث مثل هذا الصوت أثناء المشي، وأول مَنِ استخدم هذه الحيل الراقصات ليجذبن إليهن الأنظار.
ومعلوم أن طريقة مَشْي المرأة تُبدِي الكثير من زينتها التي لا يراها الناس، وتُسبِّب كثيراً من الفتنة؛ لذلك يقول تعالى بعدها وفي ختام هذه المسائل: ﴿وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١].
لم يَقُل الحق تبارك وتعالى: يا مَنْ أذنبتم بهذه الذنوب التي سبق الحديث عنها، إنما قال ﴿جَمِيعاً..﴾ [النور: ٣١] فحثَّ الجميع على
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ..﴾.
و ﴿الأيامى..﴾ [النور: ٣٢] جمع أيِّم، والأيِّم من الرجال مَنْ لا زوجةَ له، والأيِّم من النساء مَنْ لا زوجَ لها.
ونلحظ أن الأمر في ﴿أَنْكِحُواْ..﴾ [النور: ٣٢] جاء هكذا بهمزة القَطْع، مع أن الأمر للواحد (انكح) بهمزة الوصل، ذلك لأن الأمر هنا (أنكحوا) ليس للمفرد الذي سينكح الأيِّم، إنما لغيره أنْ يُنكحه، والمراد أمر أولياء الأمور ومَنْ عندهم رجال ليس لهم زوجات، أو نساء ليس لَهُنَّ أزواج: عَجِّلوا بزواج هؤلاء، ويسِّروا لهم هذه المسألة، ولا تتشددوا في نفقات الزواج حتى تُعِفُّوا أبناءكم وبناتكم، وإذا لم تعينوهم فلا أقلَّ من عدم التشدد والمغالاة.
ومع ذلك في مجتمعاتنا الكثير من العادات والتقاليد التي تعرقل زواج الشباب أخطرها المغالاة في المهور وفي النفقات والنظر إلى المظاهر.. إلخ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لأولياء الأمور: يسِّروا للشباب أمور الالتقاء الحلال ومهَّدوا لهم سبيل الإعفاف.
وقد أعطانا القرآن نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه وليُّ الأمر، فقال تعالى عن سيدنا شعيب عليه السلام: ﴿قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ..﴾ [القصص: ٢٧] ذلك لأن موسى - عليه السلام - سيكون أجيراً عنده، وربما لا يتسامى إلى أن يطلب يد ابنته؛ لذلك عرضها عليه وخطبه لها وشجَّعه على الإقبال على زواجها، فأزال عنه حياء التردد، وهكذا يجب أن يكون أبو الفتاة إنْ وجد لابنته كفؤاً، فلا يتردد في إعفافها.
وقوله تعالى: ﴿والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ..﴾ [النور: ٣٢]
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تُنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».
ولما سُئِل الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن مسألة الزواج قال لوالد
فالدين والخُلق والقيم السامية هي الأساس الذي يُبني عليه الاختيار، أما المال فهو شيء ثانوي وعَرَض زائل؛ لذلك يقول تعالى: ﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ..﴾ [النور: ٣٢].
فالفقر قد يكون سبباً في عدم الإقبال على البنت، أو عدم إقبال أهل البنت على الزوج، لكن كيف يتخلى الله عَنَّا ونحن نتقيه ونقصد الإعفاف والطهر؟ لا يمكن أن يضن الله على زوجيْن التقيا على هذه القيم واجتمعا على هذه الآداب، ومَنْ يدريك لعل الرزق يأتي للاثنين معاً، ويكون اجتماعهما في هذه الرابطة الشرعية هو باب الرزق الذي يفتح للوجهين معاً؟
﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٣٢] فعطاء الله دائم لا ينقطع؛ لأن خزائنه لا تنفد ولا تنقص، والإنسان يُمسِك عن الإنفاق؛ لأنه يخاف الفقر، أمّا الحق - تبارك وتعالى - فيعطي العطاء الواسع؛ لأن ما عنده لا ينفد.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ..﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ..﴾ [النور: ٣٣] يعني: يحاول العفاف ويطلبه ويبحث عن أسبابه، يجاهد أن يكون عفيفاً، وأول أسباب العفاف أن يغضَّ بصره حين يرى، فلا يوجد له مُهيِّج ومثير، فإنْ وجد في نفسه فُتوة وقوة فعلية أن يُلجمها ويُضعِفها بالوسائل الشرعية كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما معشر الشباب مَنِ استطاع منكم الباءة - يعني: نفقات الحياة الزوجية - فليتزوج، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء».
والصوم يعمل على انكسار هذه الشهوة ويُهدِّيء من شراسة الغريزة؛ ذلك لأنه يأكل فقط ما يقيم أَوْدَه، ولا يبقى في بدنه ما يثير الشهوة، كما جاء في الحديث الشريف: «بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه... ».
لذلك قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ..﴾ [النور: ٣٣] ولم يقُلْ: وليعف، فالمعنى ليسلك سبيل الإعفاف لنفسه وليسْعَ إليه، بأن يمنع المهيِّج بالنظر ويُهدئ شراسة الغريزة بالصوم، أو بالعمل فيشغل وقته ويعود آخر النهار متعباً يريد أن ينام ليقوم في الصباح لعمله نشيطاً، وهكذا لا يجد فرصة لشيء مما يغضب الله.
ومعنى: ﴿الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً..﴾ [النور: ٣٣] أي: بذواتهم قدرة أو بمجتمعهم معونة.
وقوله تعالى: ﴿حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ..﴾ [النور: ٣٣] يدل على أن الاستعفاف وسيلة من وسائل الغنى؛ لأن الاستعفاف إنما نشأ من إرادة التقوى، وقد قال تعالى في قضية قرآنية: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣] فمن هذا الباب يأتيه غِنَى الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ..﴾ [النور: ٣٣].
الكتاب: معروف أنه اجتماع عدة أشياء مكتوبة في ورق، والمراد هنا المكاتبة، وهي أن تكتب عَقْداً بينك وبين العبد المملوك، تشترط فيه أن يعمل لك كذا وكذا بعدها يكون حراً، إنْ أدَّى ما ذكر في عَقْد المكاتبة.
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - هذه المكاتبة مَصْرفاً من مصارف الزكاة، فقال تعالى: ﴿وَفِي الرقاب..﴾ [البقرة: ١٧٧] يعني: المماليك الذين نريد أنْ نفكَّ رقابهم من أَسْر العبودية وذُلِّها بالعتق، وإنْ كان مال الزكاة يُدفع للفقراء وللمساكين.. إلخ ففي الرقاب يدفع المال للسيد ليعتق عبده.
كما جعل الإسلام عِتْق الرقاب كفارةً لبعض الذنوب بين العبد وبين ربه؛ ذلك لأن الله تعالى يريد أن يُنهي هذه المسألة.
﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ..﴾ [النور: ٣٣].
الحق - تبارك وتعالى - هو الرازق، والمال في الحقيقة مال الله، لكن إنْ ملّكك وطلب منك أن تعطي أخاك الفقير يحترم ملكيتك، ولا يعود سبحانه في هِبَته لك؛ لذلك يأخذ منك الصدقة على أنها قَرْض لا يردُّه الفقير، إنما يتولى ربك عَزَّ وَجَلَّ رَدَّه، فيقول: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً..﴾ [البقرة: ٢٤٥] ولم يقُلْ سبحانه: يقرض فلاناً، وإنما يُقرِض الله لأنه تعالى هو الخالق، ومن حق عبده الذي استدعاه للوجود أنْ يرزقه ويتكفّل له بقُوتِه.
واحترام الملكية يجعل الإنسان مطمئناً على آثار حركة حياته وثمره جهده، وأنها ستعود عليه، وإلاّ فما الداعي للعمل ولبذل المجهود إنْ ضاعت ثمرته وحُرِم منها صاحبها؟ عندها ستتعطل مصالح كثيرة وسيعمل الفرد على قَدْر حاجته فحسب، فلا يفيض عنه شيء للصدقة.
يُقَال للمملوك: فتى، وللمملوكة: فتاة، فقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي إنما يقول: فتاي وفتاتي، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع، فالفتى من الفُتوّة والقوة كأنك تقول: هذا قوتي الذي يساعدني ويعينني على مسائل الحياة، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يرفع من شأنهم.
ومن هؤلاء جماعة المماليك الذين حكموا مصر في يوم من الأيام، وكانوا من أبناء الملوك والسلاطين والأعيان.
والبغاء ظاهرة جاء الإسلام فوجدها منتشرة، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهُنّ راية تدل عليهن، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق، وكان عنده (مسيكة، ومعاذه) وفيه نزلت هذه الآية.
وتأويل الآية: لا تُكرِهوا الإماء على البغاء، وقد كُنَّ يبكين، ويرفضْنَ هذا الفعل، وكُنَّ يؤذيْنَ ويتعرضْنَ للغمز واللمز، ويتجرأ
ومعنى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً..﴾ [النور: ٣٣] يتكلم القرآن هنا عن الواقع بحيث إنْ لم يُرِدْن تحصُّناً فلا تُكرهِوهُنَّ ﴿لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا..﴾ [النور: ٣٣] طلباً للقليل من المال الزائل ﴿وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: ٣٣] لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدن شرط الاختيار، فلا يتحملن ذنب هذه الجريمة، عملاً بالحديث النبوي الشريف: «رُفِع عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه».
لذلك يُطمئِن الحق - تبارك وتعالى - هؤلاء اللاتي يُرِدْنَ التحصُّن والعفاف، لكن يكرههن سيدهن على البغاء، ويُرغمهن بأيِّ وسيلة: اطمئنن فلا ذنبَ لَكُنَّ في هذه الحالة، وسوف يُغفر لَكُنَّ والله غفور رحيم.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ..﴾.
لذلك يقول سيدنا الإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
ولا يزال الزمان يُثبِت صِدْق هذه المقولة، وانظر هنا وهناك لتجد مصارع الآراء والمذاهب والأحزاب والدول التي قامت لتناقض الإسلام، سواء كانت رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة. إلخ. كلها انهارت على مَرْأىً ومَسْمع من الجميع.
نعم، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، لأنه خالقك، وهو أعلم بما يُصلحك، فلا يليق بك - إذن - أن تأخذ خَلْق الله لك ثم تتكبر عليه وتضع لنفسك قانوناً من عندك أنت.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الآيات تطلق على ثلاثة إطلاقات: الآيات الكونية التي تلفتك إلى الصانع المبدع عَزَّ وَجَلَّ، وعلى المعجزات التي تأتي لتثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وتُطلق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن الكريم، وفي القرآن هذا كله.
وقوله تعالى: ﴿وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [النور: ٣٤].
وكان أعظم من حضارة الفراعنة حضارة عاد التي قال الله عنها: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ [الفجر: ٦ - ١٤] يعني: لن يفلت من المخالفين أحد، ولن ينجو من عذاب الله كافر.
والمثَل كذلك في مسألة الزنا وقَذْف المحصنات العفيفات، كحادثة الإفك التي سبق الكلام عنها، وأنها كانت مَثَلاً وعِبرةً، كذلك كانت قصة السيدة مريم مثلاً وقد اتهمها قومها، وقالوا: ﴿ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٨].
وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، وكلها مسائل تتعلق بالشرف، ولم تَخْلُ من رَمْي العفيفات المحصنات، أو العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وهذه الآيات مبينات للوجود الأعلى في آيات الكون، مُبينات لصِدْق المبلِّغ عن الله في المعجزات، مُبيِّنات للأحكام التي تنظم حركة
فإذا شرع الله حكماً معنوياً يُنظِّم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية.
ثم يضرب لنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - مثلاً توضيحياً لنوره، فيقول: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ..﴾ [النور: ٣٥] أي: مثَلُ تنويره للسموات وللأرض ﴿كَمِشْكَاةٍ..﴾ [النور: ٣٥] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديماً في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قوياً، ولا يصنع ظِلاً أمام مسار الضوء.
والمصباح: إناء صغير يُوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلاً، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخاناً؛ لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق؛ لذلك جعلوا على الفتيل حاجزاً من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافياً لا دخانَ فيه، وكانوا يسمونه (الهباب).
وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ..﴾ [النور: ٣٥] لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة ﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ..﴾ [النور: ٣٥] يعني: كوكب من الدُّرِّ، والدُّر ينير بنفسه.
كذلك زَيْتها ليس زيتاً عادياً، إنما زيت زيتونة مباركة.
يعني: شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية، يعني: لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء، لكن كيف ذلك؟
قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً، إذن: يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء.
وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه ﴿يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥]، وتعطي الشجرة الضوء القوي الذي يناسب بنوتها للشمس، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها، ومنها تستمد نورها، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس.
إذن: مَثْلُ تنوير الله للسموات وللأرض مثل هذه الصورة مكتلمة كما وصفنا، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات، أيكون بها موضع مظلم؟ فالسموات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة، والمثل هنا ليس لنور الله، إنما لتنويره للسموات وللأرض، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أنْ يُوصَف. وما المثَل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان.
وسبق أنْ ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب، فقال:
إقْدَامُ عَمْرٍ فِي سَمَاحَةٍ حَاتمٍ | في حِلْم أحنفَ في ذَكَاءِ أيَاسِ |
لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً | شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ |
فَاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لنُورِهِ | مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِ |
كأنكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكبٌ | إذَا ظَهَرتْ لَمْ يَبْدُ منهُنّ كوكَبُ |
وقوله تعالى: ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [النور: ٣٥] أي: لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور، وإنِ اهتدوا إلى النور الحسيِّ في الشمس والقمر وانتفعوا به، وأطفأوا له مصابيحهم، لكن لم يكُنْ لهم حظ في النور المعنوي، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلوبهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به.
وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مِثْلُ نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه، لذلك جاء في أثر علي بن أَبي طالب: «من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله».
وقال تعالى: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
ثم يقول تعالى: ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ﴾ [النور: ٣٥].
يعني للعبرة والعِظة مثل المثل السابق لنوره تعالى ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ﴾ [نور: ٣٥].
وهذه الخصوصية في البيوت يتفاوت فيها الناس وتتسامى حسْب إمكاناتهم، وكل إنسان يريد أنْ يتحيّز إلى مكان خاص به؛ لأن التحيّز أمر مطلوب في النفس البشرية: الأسرة تريد أن تتحيز عن المجتمع العام، والأفراد داخل الأسرة يريدون أن يتحيزوا أيضاً، كل إلى حجرة تخصه، وكذلك الأمر في اللباس، ذلك لأن لكل واحد منا
وقد اتخذ الله له بيتاً في الأرض، هو أول بيت وُضِع للناس، كما قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾ [آل عمران: ٩٦].
وهذا هو بيت الله باختيار الله، ثم تعددتْ بيوت الله التي اختارها خَلْق الله، فكما اتخذتم لأنفسكم بيوتاً اتخذ الله لنفسه بيوتاً ﴿أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ [النور: ٣٦] وأنتم جميعاً عباد الله وعيال الله، وسوف تجدون الراحة في بيته تعالى كما تجدون الراحة في بيوتكم، مع الفارق بين الراحة في بيتك والراحة في بيت الله.
الراحة في بيوتكم راحة حِسِّية بدنية في صالون مريح أو مطبخ مليء بالطعام، أمّا في بيت الله فالراحة معنوية قيمية؛ لأن ربك عَزَّ وَجَلَّ غيْبٌ فيريحك أيضاً بالغيب.
لذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة ليُلقي باحماله على ربه. وماذا تقول في صنعة تُعرض على صانعها مرة واحدة كل يوم، أيبقى بها عطل أو فساد؟ فما بالك إنْ عُرِضَتْ على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة؟
فربُّكَ يدعوك إلى بيته ليريحك، وليحمل عنك همومك، ويصلح ما فسد فيك، ويفتح لك أبواب الفرج. إذن فنور على نور هذه لا تكون إلا في بيوت الله التي أذِن سبحانه أن تُرفعَ بالذكر وبالطاعات وترفع عما يحل في الأماكن الأخرى وتعظم.
لذلك نهى الإسلام أن نعقد صفقة في بيت الله، أو حتى ننشد فيه الضالة؛ لأن الصفقة التي تُعقَد في بيت الله خاسرة بائرة، والضالة التي ينشدها صاحبها فيه لا تُردُّ عليه، وقد أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نقول لمن يفعل هذا بالمسجد «لا ردها الله عليكم».
وإنْ جعل الله الأرض كلها لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مسجداً وطهوراً، لكن فَرْقٌ بين الصلاة في المسجد والصلاة في أيِّ مكان آخر، المسجد خُصِّص للعبادة، ولا نذكر فيه إلا الله، أمّا الأماكن الأخرى فتصلح للصلاة، وأيضاً لمزاولة أمور الدنيا.
وإلا، فكيف تعيش كل وقتك لأمور الدنيا على مدار اليوم والليلة، ثم تستكثر على ربك هذه الدقائق التي تؤدي فيها فَرْض الله عليك فتجرجر الدنيا معك حتى في بيت الله؟ ألا تعلم أن بيوت الله ما جُعِلت إلا لعبادة الله؟ لابد للمؤمن أن يترك دُنْياه خارج المسجد، وأن ينوي الاعتكاف على عبادة ربه والمداومة على ذِكْره في بيته، فلا يليق بك أن تكون في بيت الله وتنشغل بغيره.
فإن التزمتَ بآداب المسجد تلقيتَ من ربك نوراً على نور، وزال
إذن: فالحق تبارك وتعالى جعل في الفطرة الإيمانية أن تؤمن بإله، فالإيمان أمر فطري مهما حاول الإنسان إنكاره، فالكافر الذي ينكر وجود الله ساعة يتعرَّض لأزمة لا منجاةَ منها بأسباب البشر تجده تلقائياً يتوجه إلى الله يقول: يا رب، لا يمكن أن يكذبَ على نفسه في هذه الحالة أو يُسلم نفسه ويبيعها رخيصة.
وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً﴾ [الزمر: ٨].
ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة قوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع﴾ [الجمعة: ٩].
فذكر طرفاً واحداً من عملية التجارة وهو البيع، ولم يقل: والشراء، قالوا: لأنه حين يُمنع البيع يُمنع الشراء في الوقت نفسه؛ ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال.
إذن: قوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ البيع﴾ [الجمعة: ٩] إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع؛ لذلك يحزن البائع إذا لم يَبِعْ، أما المشتري فيقول حين لا يجد الشيء أو يجد المحل مُغلَقاً: بركة يا جامع.
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾ [الجمعة: ١٠].
كأنك ذهبتَ للمسجد لتأخذ شحنة إيمانية تعينك وتسيطر على كُلِّ حواسك في حركتك في التجارة، وفي الإنتاج، وفي الاستهلاك، وفي كل ما ينفعك ويُنمي حياتك. وحين يأمرك ربك أن تفرغ لأداء الصلاة لا يريد من هذا الفراغ أن يُعطّل لك حركة الحياة، إنما ليعطيك الوقود اللازم لتصبح حركة حياتك على وَفْق ما أراده الله. وما أشبه هذا الوقت الذي نختزله من مصالح دنيانا في عبادة الله بشحن بطارية الكهرباء، فحين تذهب بالبطارية إلى جهاز الشحن لا نقول: إنك عطلت البطارية إنما زدتَ من صلاحيتها لأداء مهمتها وأخْذ خيرها.
فأنت تذهب إلى بيت الله بنور الإيمان، وبنور الاستجابة لنداء: الله أكبر، فتخرج بأنوار متعددة من فيوضات الله؛ لذلك ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً لها النور بالمصباح الذي يتنامى نوره ويتصاعد؛ لأنه في زجاجة تزيد من ضوئه؛ لأنها مثل كوكب دُريٍّ والنور يتصاعد؛ لأنها بزيت زيتونة، ويتصاعد لأنها شرقية وغربية في آن واحد، إذن: عندنا ألوان متعددة في المثل، فكذلك النور في بيوت الله.
لذلك قال بعض العارفين: أهل الأرض ينظرون في السماء نجوماً متلألئة، والملائكة في السماء ينظرون نجوماً متلألئة من بيوت الله، ولا عجبَ في ذلك لأنها أنوار الله تتلألأ وتتدفق في بيته وفي مسجده، وكيف نستبعد ذلك ونحن نرى نور الشمس كيف يفعل حينما يعكس على سطح القمر فيُلقِي إلينا بالضوء الذي نراه؟ والشمس والقمر أثر من آثار نور الله الذي يَسْطع في بيوت الله، ألاّ يعطينا ذلك الإشعاع الذي يفوق إشعاع البدور؟
فالمساجد جُعِلَتْ لتسبيح الله؛ لذلك كان بعض الصالحين إذا نزل بلداً يتحيل أن ينزلها في غير وقت الصلاة، ثم يذهب إلى المسجد فإنْ وجده عامراً في غير وقت الصلاة بالمسبحين علم أن هؤلاء ملتزمون بمنهج الله، حيث يجلسون قبل وقت الصلاة يُسبِّحون الله وينتظرون الصلاة، وإنْ وجد الحال غير ذلك انصرف عنها وعلم أنها بلد لا خيرَ فيها.
والغُدوُّ: يعني الصباح، والآصال: يعني المساء، فهي لا تخلو أبداً من ذكْر الله وتسبيحه، وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم: ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله﴾
﴿وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة﴾ [النور: ٣٧] الصلاة لأنها تأخذ وقتاً من العمل، وكثيراً ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظاناً أنها ستُضيِّع عليه الوقت، وتُفوِّت عليه مصالح كثيرة، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله، وهذه نظرة خاطئة حمقاء؛ لأن الفلاح الذي يُخرِج من مخزنه أردباً من القمح ليزرع به أرضه: الأحمق يقول: المخزن نقص أردباً، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافاً مضاعفة.
أو: أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره، فيبارك له في وقته، وينجز من الأعمال من الوقت المتبقي ما لا ينجزه تارك الصلاة، أو: يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق، ومن حيث لا يحتسب، والبركة كما قلنا قد تكون سَلْباً وقد تكون إيجاباً، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه.
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال: ﴿يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار﴾ [النور: ٣٧] ذلك لأنهم يتجارون لهدف أسمى
وإذا قِسْتَ زمن دنياك بزمن أُخْراك لوجدته هباء لا قيمةَ له، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت، إمّا الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حَلاَ وطال، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع.
إذن: فَهُمْ يعملون للآخرة ﴿يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار﴾ [النور: ٣٧] واليوم في ذاته لا يُخاف منه، وإنما يُخَاف ما فيه، كما يقول الطالب: خِفْت يوم الامتحان، واليوم يوم عادي لا يخاف منه، إنما يُخاف مما سيحدث في هذا اليوم، فالمراد: يخافون عذاب هذا اليوم.
ومعنى ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار﴾ [النور: ٣٧] يعني: رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا، فما بالك بهوْل الآخرة، وما يحدث من اضطراب في القلب؟
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلَّب هنا وهناك؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب، تنظر هنا وتنظر هنا عَلَّها ترى ما يُطمئنها أو يُخفِّف عنها ما تجد، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعاً آخر أشدّ وأَنكى.
لذلك ينتهي الموقف إلى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ [القلم: ٤٣] ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ [النازعات: ٨٩] يعني: ذليلة منكسرة حيث لا مفرَّ ولا مَنْجى، ولن يجد في هذا اليوم راحة إلا مَنْ قدم له العمل الصالح كالتلميذ المجتهد الواثق من نفسه ومعلومات،
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾
لذلك ورد في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان. فليس لنا نجاة إلا بهذا، كما يقول سبحانه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].
﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: ٣٨] والرزق: كُلُّ ما يُنتفع به، وكل معنى فيه فوقية لك هو رزق، فالصحة رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، والشجاعة رزق.. الخ.
والبعض يظن أن الرزق يعني المال، وهذا خطأ؛ لأن الرزق مجموعُ أمورٍ كثيرة، فإنْ كان رزُقك علماً فعلِّم الجاهل، وإنْ كان رزقك قوةً فأعِن الضعيف، وإنْ كان رزقك حِلْماً فاصبر على السَّفيه، وإن كان رزقك صنعة تجيدها، فاصنع لآخرقَ لا يجيد شيئاً.
وإذن: هذا كله رزق، وما دام ربك عَزَّ وَجَلَّ يرزقك بغير حساب، ويفيض عليك من فضله فأعْطِ المحتاجين، وارزق أنت أيضاً
والحساب: أنْ تحسب ثمرة الأفعال: هذه تعطي كذا، وهذا ينتج كذا، يعني ميزانية ودراسة جدوى، أمّا عطاء الله فيأتيك دون هذه الحسابات، فأنت تحسب؛ لأن وراءك مَنْ سيحاسبك، أمّا ربك عَزَّ وَجَلَّ فلا يحاسبه أحد؛ لذلك يعطيك بلا عمل ودون أسباب، ويعطيك بلا مُقدِّمات، ويعطيك وأنت لا تستحق، أَلاَ ترى مَنْ تتعثر قدمه فيجد تحتها كنزاً؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾
﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ [النور: ٣٩] أي: التي يظنونها خيراً، وينتظرون ثوابها، والسراب: ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك. وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء، و «قِيعة» : جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة.
وأسند الفعل ﴿يَحْسَبُهُ﴾ [النور: ٣٩] إلى الظمآن؛ لأنه حاجة للماء، وربما لو لم يكُنْ ضمآناً لما التفتَ إلى هذه الظاهرة، فلظمئه يجري خلف الماء، لكنه لا يجد شيئاً، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: ٣٩] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير، إله لم يؤمن به، والآن فقط يتنبه، ويصحو من غَفْلته، ويُفَاجأ بضياع عمله.
إذن: تجتمع عليه مصيبتان: مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِياً، ومصيبة العذاب الذي ينتظره، كما قال الشاعر:
كَما أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامَةٌ | فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِ |
لذلك الحق تبارك وتعالى يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس، فالعمل للناس لا بُدَّ أن يكون من أجل الله. وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنهتي من مباشرة هذ الفعل.
وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء، فلا ينبت شيئاً: ﴿كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [البقرة: ٢٦٤].
وقوله تعالى: ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به، كما قال سبحانه: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: ٤٦].
والله تعالى أخفى الموت أسباباً وميعاداً؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان، وبإبهام الموت تظل ذاكراً له عاملاً للآخرة؛ لأنك تتوقعه
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾
وقوله: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] أي: لم يقرب من أنْ يراها، وإذا نفى القُرْب من أن يرى فقد نفى الرؤية من باب أَوْلَى؛ ذلك لأنه ليس له نور من الله يرى به ويهتدي ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ [النور: ٤٠] فكما أنه لم ينتفع بالنور، ولم يَرَ حتى يده، كذلك لا ينتفع بشيء من عمله.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ [النور: ٤١].
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [النور: ٤١] يعني: ألم تعلم، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١] ومعلوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وُلِد عام الفيل، ولم يَرَ هذه الحادثة، فلماذا لم يخاطبه ربُّه بألم تعلم ويريح الناس الذين يتشكّكون في الألفاظ؟
قالوا: ليدلّك على أن ما يخبرك الله به غيباً عنك أوثقُ مما تخبرك به عينُك مشهداً لك؛ لأن مصدر علمك هو الله، أَلاَ ترى أن النظر قد يصيبه مرض فتختل رؤيته، كمن عنده عمى ألوان أو قِصَر
والتسبيح: هو التنزيه، والتنزيه أن ترتفع بالمنزّه عن مستوى ما يمكن أنْ يجولَ بخاطرك: فالله تعالى له وجود، وأنت لك وجود، لكن وجودَ الله ليس كوجودك، الله له ذاته وصفات، لكن ليست كذاتك وصفاتك.. إلخ.
إذن: نزَّه ذات الله تعالى عن الذوات التي تعرفها؛ لأنها ذوات وُهِبَتْ الوجود، أما ذات الله فغير موهوبة، ذات الله ذاتية، كذلك لك فِعْل، ولله تعالى فِعْل.
وقد ذكرنا في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا﴾ [الإسراء: ١].
إن الذين اعترضوا على هذا الفعل اعترضوا بغباء، فلم يُفرِّقوا بين فِعْل الله وفِعْل العبد، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل: سريْتُ من مكة ألى بيت المقدس. إنما قال: أُسْرِي بي.
فالاعتراض على هذا فيه مغالطة، فإنْ كنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ فذلك لأن سَيْركم خاضع لقدرتكم وإمكاناتكم، أمّا الله تعالى فيقول للشيء: كُنْ فيكون، فلا يحتاج في فِعْله سبحانه إلى زمن. فمن الأدب أَلاَّ تقارن فِعْل الله بفعلك، ومن الأدب أنْ تُنزِّه الله عن كل مَا يخطر لك ببال، نزَّه الله ذاتاً، ونزِّهه صفاتاً، ونزهه أفعالاً.
ألا ترى أن (سبحان) مصدر للتسبيح، يدل على أن تنزيه الله ثابت له سبحانه قبل أن يخلق مَنْ ينزهه، كما جاء في قوله تعالى:
﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨] فشهد الحق تبارك وتعالى لنفسه قبل أنْ تشهدوا، وقبل أن تشهد الملائكة، فهذه هي
وحين تتتبع ألفاظ التسبيح في القرآن الكريم تجدها جاءت مرة بصيغة الماضي ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ [الحديد: ١] فهل سبّحَتْ السموات والأرض مرة واحدة، فقالت: سبحان الله ثم سكتَتْ عن التسبيح؟ لا إنما سبَّحَتْ في الماضي، ولا تزال تُسبِّح في الحاضر: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١].
وما دام أن الكون كله سبَّح لله، وما يزال يُسبِّح فلم يَبْقَ إلا أنت يا ابن آدم: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ [الأعلى: ١] يعني: استح أن يكون الكون كله مُسبِّحاً وأنت غير مُسبِّح، فصِلْ أنت تسبيحك بتسبيح كل هذه المخلوقات.
وعجيب أن نسمع من يقول أن (مَنْ) في الآية للعاقل، فهو الذي يُسبِّح أمّا السموات والأرض فلا دخلَ لهما في هذه المسألة، ونقول: لا دخلَ لها في تصورك أنت، أمّا الحقيقة فإنها مثلك تُسبِّح كما قال تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١].
وقال: ﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾ [الرعد: ١٣] فليس لك بعد كلام الله كلام.
وآخر يقول لك: التسبيح هنا ليس على الحقيقة، إنما هون تسبيح دلالة وحال، لا مقال، يعني: هذه المخلوقات تدلُّ بحالها على تسبيح الله وتنزيهه، وأنه واحد لا شريك له، على حد قول الشاعر:
وَفِي كُلِّ شَيء لَهُ آيَةٌ | تدُلُّ على أنَّه الوَاحِدُ |
كَأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بيْتِ جَارَتِها | مَرُّ السَّحابَة لاَ رَيْث ولاَ عَجَل |
وعَوْراء جاءتْ من أخٍ فردَدْتُها | بِسالمةِ العَيْنيْنِ طَالِبةً عُذْراً |
ثم يقول سبحانه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ [النور: ٥٨] يعني: بعد هذه الأوقات: لا إثمَ ولا حرجَ عليكم، ولا على المماليك، أو الصغار أنْ يدخلوا عليكم، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مُسْتعداً لممارسة حياته العادية، ولا مانع لديه من استقبال الخَدَم أو الأَطفال الصغار دون استئذان؛ لأن طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار.
لذلك قال تعالى بعدها: ﴿طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ﴾ [النور: ٥٨]
﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات﴾ [النور: ٥٨] أي: بياناً واضحاً، حتى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد ﴿والله عَلِيمٌ﴾ [النور: ٥٨] بكل ما يُصلح الخلافة في الأرض ﴿حَكِيمٌ﴾ [النور: ٥٨] في تشريعاته وأوامره، لا يضع الحكم إلا بحكمة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم﴾
وبلوغ الحلم أن ينضج الإنسان نُضْجاً يجعله صالحاً لإنجاب مثله، فهذه علامة اكتمال تكوينه، وهذا لا يتأتّى إلا باستكمال الغريزة الجنسية التي هي سَبَب النَّسْل والإنجاب، ومثّلْنا ذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نُضْجها، فإنْ تركتَها بعد النضج سقطتْ من نفسها، وهذه آية من آيات الله لبقاء النوع، فلو أكلنا الثمرة قبل نُضْجها لا تنبت بذرتها وينقرض نوعها، فمن حكمة الله في الخَلْق ألاَّ تحلو الثمرة إلا بعد النُّضْج.
لذلك يقول تعالى في موضع آخر: ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء﴾ [النور: ٣١].
وجاء بالطفل بصيغة المفرد؛ لأن الأطفال في هذه السِّنِّ لم تتكوّن لديهم الغريزة، وليست لهم هذه الميول أو المآرب، فكأنهم واحد، أمّا بعد البلوغ وتكوُّن الميول الغريزية قال: ﴿الأطفال﴾ [النور: ٥٩] لأن لكل منهم بعد البلوغ ميوله وشخصيته وشطحاته.
وقوله: ﴿كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٩] أي: من الكبار الذين يستأذنون في كل الأوقات ﴿كذلك﴾ [النور: ٥٩] أي: مثل ما بينَّا في الاستئذان الأول ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ [النور: ٥٩] لأنه سبحانه ﴿عَلِيمٌ﴾ [النور: ٥٩] بما يُصلِحكم ﴿حَكِيمٌ﴾ [النور: ٥٩] لا يُشرِّع لكم إلا بحكمة.
ثم يقول سبحانه: ﴿والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً﴾
لكن القواعد من النساء والكبيرات منهن لَهُنَّ حكم آخر.
والقواعد: جمع قاعد لا قاعدة، قاعدة تدل على الجلوس، أمّا القاعد ذكراً أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة، ولم يَعُدْ له مهمة الإنجاب، ومثل هؤلاء لم يَعُدْ فيهنَّ إِرْبة ولا مطمع؛ لذلك لا مانعَ أن يتخفَّفْنَ بعض الشيء من اللباس الذي فُرِض عليهن حال وجود الفتنة، ولها أن تضع (طرحتها) مثلاً.
لكن هذه مسألة مقولة بالتشكيك: نسبية يعني: فمِن النساء مَنْ ينقطع حَيْضها ويدركها الكِبَر، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربنا تبارك وتعالى وضع لنا الحكم الاحتياطي ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] ثم يدلُّهُن على ما هو خير من ذلك ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾ [النور: ٦٠].
والمقصود بوَضْع الثياب: التخفّف بعض الشيء من الثياب الخارجية شريطة ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ [النور: ٦٠] فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أَخْذاً بهذه الرخصة، ثم تضع الزينة وتتبرج. ونخشى أن نُعلِّم النساء هذا الحكم فلا يأخذْنَ به حتى لا نقول عنهن: إنهن قواعد!!
وتعجب حين ترى المرأة عندما تبلغ هذه السِّنَّ فتجدها وَرِعة في ملبسها، وَرِعة في مظهرها، وَرِعة في سلوكها، فتزداد جمالاً وتزداد بهاءً وآسرية، على خلاف التي لا تحترم سِنّها فتضع على
ومعنى ﴿يَسْتَعْفِفْنَ﴾ [النور: ٦٠] أي: يحتفظْنَ بملابسهن لا يضعْنَ منها شيئاً، فهذا أَدْعى للعفة.
أو الحرج بمعنى: الإثم، فالحرج المرفوع عن هؤلاء هو الضِّيق
والأعمى يتحرَّج أنْ يأكل مع الناس؛ لأنه لا يرى طعامه، وربما امتدتْ يده إلى أطيب الطعام فيأكله ويترك أدناه، والأعرج يحتاج إلى راحة خاصة في جلْسته، وربما ضايق بذلك الآخرين، والمريض قد يتأفف منه الناس. فرفَع الله تعالى عن عباده هذا الحرج، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ [النور: ٦١].
فيصح أن تأكلوا معاً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يجعل التكامل في الذوات لا في الأعراض، وأيضاً أنك إنْ رأيتَ شاباً مَؤوفاً يعني به آفة، ثم تعامله معاملة خاصة فربما جرحْتَ شعوره، حتى إنْ كان ما به أمراً خَلْقياً من الله لا يتأباه، والبعض يتأبى أن يخلقه الله على هيئة لا يرضاها.
لذلك كانوا في الريف نسمعهم يقولون: اللي يعطي العمى حقه فهو مبصر، لماذا؟ لأنه رضي بهذا الابتلاء. وتعامل مع الناس على أنه كذلك، فطلب منهم المساعدة؛ لذلك ترى الناس جميعاً يتسابقون إلى مساعدته والأخذ بيده، فإنْ كان قد فقد عيناً فقد عوَّضه الله بها ألف عَيْن، أما الذي يتأبّى ويرفض الاعتراف بعجزه ويرتدي نظارة سوداء ليخفي بها عاهته فإنه يسير مُتعسِّراً يتخبّط لا يساعده أحد.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد لأصحاب هذه الآفات أن يتوافقوا مع المجتمع، لا يأخذون منه موقفاً، ولا يأخذ المجتمع
﴿أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] إلخ.
وكان في الأنصار قزازة، إذا جلس في بيت لا يأكل منه إلا إذا أَذِنَ له صاحب البيت، وقد يسافر الرجل منهم ويترك التابع عنده في البيت دون أنْ يأذنَ له في الأكل من طعام بيته ويعود، فيجد الطعام كما هو، أو يجده قد فسد دون أنْ يأكل منه التابع شيئاً، فأراد الحق سبحانه أنْ يرفع هذا الحرج عن الناس، فقال:
﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١] إلى آخر هذه المعطوفات.
ولقائل أنْ يقول: وأيّ حرج في أنْ يأكل المرء في بيته؟ وهل كان يخطر على البال أنْ تجد حَرَجاً، وأنت تأكل من بيتك؟
قالوا: لو حاولتَ استقصاء هؤلاء الأقارب المذكورين في الآية لتبيّن لك الجواب، فقد ذكرتْ الآية آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم، ولم تذكر شيئاً عن الأبناء وهم في مقدمة هذا الترتيب، لماذا؟
إذن: لا حرجَ عليك أن تأكل من بيت ابنك أو أبيك أو أمك أو أخيك أو أختك أو عمك أو عمتِك، أو خالك أو خالتك ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾ [النور: ٦١] يعني: يعطيك صاحب البيت مفتاح بيته، وفي هذا إذْنٌ لك بالتصرُّف والأكل من طعامه إنْ أردتَ.
﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] ٍ وتلحظ في هذه أنها الوحيدة التي وردتْ بصيغة المفرد في هذه الآية، فقبلها: بيوتكم، آباءكم، أمهاتكم.. إلخ إلا في الصديق فقال ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] ولم يقل: أصدقائكم.
ذلك لأن كلمة صديق مثل كلمة عدو تستعمل للجميع بصغية المفرد، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ [الشعراء: ٧٧].
لأنهم حتى إنْ كانوا جماعة لا بُدَّ أنْ يكونوا على قلب رجل واحد، وإلا ما كانوا أصدقاء، وكذلك في حالة العداوة نقول عدو، وهم جمع؛ لأن الأعداء تجمعهم الكراهية، فكأنهم واحد.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: ٦١] علىأنفسكم، لأنك حين تُسلِّم على غيرك كأنك تُسلِّم على نفسك، لأن غيرك هو أيضاً سيسلم عليك، ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة، فحين تقول لغيرك: السلام عليكم سيردّ: وعليكم السلام. فكأنك تُسلِّم على نفسك.
أو: أن المعنى: إنْ دخلتم بيوتاً ليس فيها أحد فسلِّموا على أنفسكم، وإذا دخلوا المسجد قالوا: السلام على رسول الله وعلينا من ربنا، قالوا: تُسمع الملائكة وهي ترد.
وقوله تعالى: ﴿تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: ٦١] وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ [النساء: ٨٦].
والتحية فوق أنها من عند الله فقد وصفها بأنها ﴿مُبَارَكَةً﴾ [النور: ٦١] والشيء المبارك: الذي يعطي فوق ما ينتظر منه ﴿كَذَلِكَ﴾ [النور: ٦١] أي: كما بيَّن لكم الأحكام السابقة يُبيِّن لكم ﴿الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: ٦١].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾
فالمؤمن الحق إذا دُعي إلى مثل هذا الأمر الجامع، لا يقوم من مجلسه حتى يستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليس إلزاماً أنْ يأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن أمر المسلمين الجامع لهم قد يكون أهمّ من الأمر الذي يشغلك، وتريد أن تقوم من أجله، وتترك مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والرسول إما يستشير أصحابه ليستنير برأيهم وتجاربهم، فحين يدعوهم إلى أمر جامع يجب أن يُفهم هذا الأمر على نطاق منزلة الرسول من بلاغة عن الله للأمة، فإذا دعا نفر نفراً للتشاور، فإنما يتشاوران في أمر شخصي يخصُّ صاحبه، لكن حين يدعوهم رسول الله لا يدعو لخصوصية واحدة، وإنما لخصوصية أمة، شاء الله أن تكون خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، وسوف يستفيد الفرد أيضاً من هذه الدعوة، وربما كانت استفادته من الاستجابة للدعوة العامة التي تنتظم كل الناس خَيْراً من استفادته من دعوته الخاصة، فيجب أنْ يُقدِّر المدعو هذا الفارق.
ومع وجود هذا الفارق لم يَحرِم اللهُ بعضَ الناس الذين لهم مشاغل أنْ يستأذنوا فيها رسول الله وينصرفوا؛ لذا شرع لهم الاستئذان، لكن يجب أنْ يضعوا هذا الفارق في بالهم، وأنْ يذكروا أنهم انصرفوا لبعض شأنهم، والرسول قائم في أمر لشئون الدنيا كلها إلى أنْ تقوم الساعة.
فكأنه إنْ شارك في هذا الاجتماع فسيستفيد كفرد، وستستفيد أمته: المعاصرون منهم والآتُون إلى أنْ تقومَ الساعة، فإنْ فضّل شأنه الخاص على هذه الشئون فقد أساء، وفعل مَا لا يليق بمؤمن؛ لذلك أُمر رسول الله أنْ يأذنَ لمنْ يشاء، ثم يستغفر له اللهَ.
إذن: لا بُدَّ من استئذان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيأذن لمَنْ يشاء منهم ممَّنْ يرى أن في الباقين عِوَضاً عنه وعن رأيه، فإنِ استأذن صاحب رأي يستفيد منه المسلمون لم يأذن له.
ثم يقول سبحانه: ﴿واستغفر لَهُمُ الله﴾ [النور: ٦٢]، وكأن مسألة الاستئذان والقيام من مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر لا يريده الله تعالى.
حتى إن استأذنتَ لأمر يهمك، وحتى إنْ أَذِن لك رسول الله، فالأفضل ألاَّ تستأذن؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يدعو لأمر جامع يُهِمّ جماعة المسلمين، يجب ألاَّ ينشغل أحد عَمَّا دُعِي إليه، وألاَّ يُقدِّم على مصلحة المسلمين ومجلس رسول الله شيئاً آخر، ففي الأمر الجامع ينبغي أنْ يُكتّل الجميع مواهبهم وخواطرهم في الموضوع، وساعة تستأذن لأمر يخصُّك فأنت منشغل عن الجماعة شارد عنهم.
فحين تنشغل بأمرك الخاص عن أمر المسلمين العام، فهذه مسألة تحتاج إلى استغفار لك من رسول الله، فالرسول يأذن لك، ثم يستغفر لك الله.
ثم يقول الحق سحبانه: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾
أو: أن الدعاء هنا بمعنى النداء يعني: يناديكم الرسول أو تنادونه؛ لأن لنداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آداباً يجب مراعاتها، فهو ليس كأحدكم تنادونه: يا محمد، وقد عاب القرآن على جماعة لم يلتزموا أدب النداء مع رسول الله، فقال: ﴿إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: ٤].
فأساءوا حين قالوا: يا محمد، ولو قالوا حتى: يا أيها الرسول فقد أساءوا؛ لأنه لا يصحّ أنْ يتعجّلوا رسول الله، ويجب أنْ يتركوه على راحته، إنْ وجد فراغاً للقائهم خرج إليهم، إذن: أساءوا من وجهين.
ولا يليق أن نناديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باسمه: يا محمد. لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد، إنما الجامع أنه رسول الله، فلا بُدَّ أنْ نناديه بهذا الوصف. ولِمَ لا وربه عَزَّ وَجَلَّ وهو خالقه ومصطفيه قد ميّزه عن سائر إخوانه من الرسل، ومن أولي العزم، فناداهم بأسمائهم:
﴿يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ [البقرة: ٣٥].
وقال: ﴿يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا﴾ [هود: ٤٨].
وقال: ﴿ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ [الصافات: ١٠٤١٠٥].
وقال: ﴿ياموسى إني أَنَا الله﴾ [القصص: ٣٠].
وقال: ﴿ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦].
وقال: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ [ص: ٢٦].
وكما نُميِّز دعاء رسول الله حين نناديه، كذلك حين ينادينا نحن يجب أن نُقدِّر هذا النداء، ونعلم أن هذا النداء لخير عام يعود نفعه على الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣].
لا شكَّ أن الذين يستأذنون رسول الله فيهم إيمان، فيُراعنون مجلس رسول الله، ولا يقومون إلا بإذنه، لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان: ﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾ [النور: ٦٣] والتسلل: هو الخروج بتدريج وخُفْية كأنْ يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج، أو يُوهِمك أنه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم فينسلِتُ من المجلس خُفْية، وهذا معنى ﴿يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً﴾ [النور: ٦٣] يلوذ بآخر ليخرج بسببه.
ويحذر الله هؤلاء: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣] والتحذير إنذار بالعاقبة السيئة التي تترتب على الانسحاب من مجلس رسول الله، كأنه يقول لهم: قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرسول وبين ما ينتظركم من العقاب عليه.
والأمر: يُراد به فعل الأمر أو النهي أو الموضوع الذي نحن بصدده يعني: ليس طلباً، وهذا المعنى هو المراد هنا: أي الموضوع الذي نبحثه ونتحدث فيه، فانظروا ماذا قال رسول الله ولا تخالفوه ولا تعارضوه؛ لأنه وإنْ كان بشراً مثلكم إلا أنه يُوحَى إليه.
لذلك يحدد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مركزه كبشر وكرسول، فيقول: «يَرِدُ عليَّ يعني من الحق الأعلى فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم».
لذلك كان الصحابة يفهمون هذه المسألة، ويتأدبون فيها مع رسول الله، ويسألونه في الأمر: أهو من عند الله قد نزل فيه وَحْي، أم هو الرأْي والمشورة؟ فإنْ كان الأمر فيه وَحْيٌ من الله فلا كلامَ لأحد مع كلام الله، وإنْ كان لم يرد فيه من الله شيء أدْلَى كُلٌّ منهم برأيه ومشورته.
وهذا حدث فعلاً «في غزوة بدر حين نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منزلاً رأى بعض الصحابة أن غيره خير منه، فسألوا رسول الله: أهذا منزل أنزلكَهُ الله، أم هو الرأْيُ والمشورة؟ فقال:» بل هو الرأي والمشورة «فأخبروه أنه غير مناسب، وأن المكان المناسب كذا وكذا».
ثم تختم السورة بقوله تعالى: ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾
والحق تبارك وتعالى يريد ألاَّ يضيع منك حرف واحد من كلامه، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها، إلا أنها تنبهك وتُذهِب ما عندك من دهشة أو غفلة، فتعي ما يُقال لك، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب، وتحدثتْ به قبل نزول القرآن.
ويقول الشاعر الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس:
أَلاَ هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبِحِيناَ | وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدرِينَا |