تفسير سورة النّور

تيسير التفسير

تفسير سورة سورة النور من كتاب تيسير التفسير
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

السورة : المنزلة الرفيعة، الفضل والشرف، العلامة.
فرضناها : أوجبنا العمل بها.
هذه سورة أوحينا بها وأوجبنا أحكامَها، وأنزلنا فيها دلائلَ واضحةً على قدرة الله ووحدانيته، لعلّكم تتعظون فتعملون بهذه التعاليم الإلهية.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ فرّضناها ﴾ بتشديد الراء أي فصّلناها، والباقون :﴿ فرضناها ﴾ بفتح الراء دون تشديد.
تبين هذه الآية الكريمة حدَّ الزاني غير المتزوج والزانية غير المتزوجة إذا ثبت عليهما ذلك بإقرارهما أو بشهادةِ أربعة شهودٍ رأوا ذلك العملَ بأعينهم وحلفوا عليه، فلو كانوا ثلاثةَ شهود لا تثبتُ الجريمة، ولا يقع الحّد. وتنص الآية أن لا ترأفَ عند تنفيذ الحكم. وتطلب أن يكون ذلك بمشهدٍ من الناس، ليكونَ في العقاب ردع لغيرهما من الناس. ويزاد على عقاب الجلد أن يغرَّب الزاني عاماً عن بلده عند جمهور العلماء، وعند أبي حنيفة أن التغريب عائدٌ إلى رأي الإمام إن شاء غرَّبَ وإن شاء لم يغرِّب.
أما عقوبة الزاني المتزوج فقد ثبتت بالسنّة الشريفة أنها القتلُ رجماً بالحجارة. وكانت العقوبة في أول الإسلام : للمرأة الحبسُ في البيت والأذى والتعيير، وللرجل الأذى والتعيير كما تنص الآية على ذلك من سورة النساء :﴿ واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ الآيتان ١٥، ١٦. ثم نسخ هذا الحكم بهذه الآية.
فالاسلام جاء ليحافظ على المصالح المعتبرة وهي خمس :
١ - المحافظة على النفس.
٢ - المحافظة على الدين.
٣ - المحافظة على العقل.
٤ - المحافظة على المال.
٥ - المحافظة على العِرض.
فالقتلُ اعتداءٌ على النفس، والردّةُ اعتداء على الدين، وتعاطي الخمر والمخدّرات اعتداء على العقل، والسرقةُ اعتداء على المال، والزنا اعتداء على العرض.
قراءات :
قرأ ابن كثير :﴿ رآفة ﴾ بفتح الهمزة ومدها، والباقون :﴿ رأْفة ﴾ بإسكان الهمزة.
روى مجاهد وعطاء وغيرهم من المفسّرين أن المهاجرين لما قدِموا المدينة كان فيهم فقراء ليس لهم أموال ولا أقارب في المدينة، وكان فيها عدد من النساء بغايا يؤجّرون أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا، وعلى أبوابهن رايات للتعريف عنهن، فرغبَ في زواجهن رجالٌ من فقراء المسلمين المهاجرين، وقالوا نتزَّوجُهن إلى أن يُغنينا الله عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
وفي هذه الآية زَجرٌ كبير وإيضاح بأن من يرغب في زواج الزانية فهو زانٍ أو مشرك، والزانية لا يرغبُ في زواجها الصالحون من الرجال المؤمنين، وهذا النكاح لا يليق بالمؤمنين فهو محرم عليهم.
إما إذا تابت الزانيةُ فيجوز الزواج منها، وكذلك الزاني إذا تاب يجوز أن يتزوج من المؤمنات العفيفات، كما نصّ على ذلك الإمامُ أحمد رضي الله عنه.
يرمون المحصنات : يقذفون العفيفات بالزنا.
والذين يتّهمون العفيفاتِ من النساء بالزنا، ثم لا يُثبتون ذلك بأربعة شهود عدولٍ يشهدون أنهم رأوا ذلك بالعين، فعاقِبوهم بالضرب ثمانية جلدة، ولا تقبلوا شهادتهم على أي شيء مدى الحياة، جزاءً على هذه الفِرية الشنيعة. هؤلاء خارجون عن طاعة ربهم وأصحاب واحدةٍ من الكبائر.
إلا الذين رجعوا منهم عما قالوا وندموا على ما تكلموا به وتابوا توبةً نصوحا، فان الله يتجاوز عنهم ويغفر لهم.
يرمون أزواجهم : يتهمون زوجاتهم بالزنا.
والذين يتهمون زوجاتِهم بالزنا، ولا يستطيعون إثباته بأربعة شهود عدول، فإن على الواحد منهم أن يشهد بالله أربعَ شهادات ( يعني أربع مرات ) أنه صادق في هذا الاتهام. قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :﴿ فشهادة أحدهم أربع شهادات ﴾ برفع العين، والباقون :﴿ أربعَ شهادات ﴾ بفتح العين.
ويقول في المرة الخامسة أن عليه لعنةَ الله إن كان من الكاذبين.
قراءات :
قرأ نافع ويعقوب :﴿ والخامسة أنْ لعنةُ الله ﴾ ﴿ وأنْ غضبُ الله عليها ﴾ بإسكان النون، ورفع كلمة لعنة.
يدرأ عنها العذاب : يدفع عنها الحد.
وعلى الزوجة إذا لم تعترف بهذا الاتهام أن تقفَ وتقول أربع مرات : أشهدُ بالله أن الزوجَ كاذب في اتهامه إياها بالزنا.
وتقول في المرة الخامسة أن عليها غضبَ الله إن كان زوجها من الصادقين. وهذا يدفعُ عنها الحد.
وفي هذه الحالة يقضي القاضي بالتفريق بينهما إلى الأبد، وتحرُم عليه حرمةً مؤبدة، ويسقط عنها الحد، وينتفي نسَب الولد عن الزوج فلا يرثه، ويبقى الولد ابنَ الزوجة فقط هي أمه الشرعية، وليس لها مسكن ولا نفقة وليس لها أيّ حقوق من زوجها.
وهذا التشريع من لطف الله وحكمته، فيه ستر للأعراض، وتهدئةٌ للنفوس، واطمئنانٌ للقلوب، وتيسير على الناس.
قراءات :
قرأ نافع :﴿ وأنْ غَضِبَ الله عيها ﴾ وقرأ يعقوب :﴿ وأن غضب الله عليها ﴾، والباقون :﴿ والخامسة أن لعنةَ الله.... واأنّ غضبَ الله ﴾ بتشديد أن وفتح لعنةَ وغضب، وقرأ حفص :﴿ والخامسةَ أن غضب الله عليها ﴾ بنصب الخامسة والباقون بالرفع.
وقد عقّب الله بعد ذلك بقوله الكريم :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾
من فضل الله عليكم ورحمته بكم أن شرع لكم هذه الأحكام الميسّرة، وإلا لكان وقَعَ بينكم شر عظيم. لقد ستر عليكم ورفع عنكم الحدَّ باللعان، وإن الله توابٌ حكيم. وجواب لولا محذوف تقديره : لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.
الإفك : الافتراء، والفعل أفَك يأفِك مثل ضرب يضرب، وأفِك يأفَك : مثل علم يعلم. وأفك الناسَ : كذبهم.
العصبة : الجماعة.
تولى كبره : تحمل معظمه.
نزلت هذه الآية والآيات االتسع التي بعدها في شأن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حين رماها أهلُ الإفك والبهتان من المنافقين ومن انضمّ إليهم من بعض المؤمنين بما قالوه من الكذب والافتراء. وكان القصدُ من ذلك إيذاءَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أحبّ نسائه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبراءتها. وهذا باتفاق المفسرين والرواة من جميع الطوائف والمذاهب الإسلامية إلا من شذ.
وقد روى حديثَ الإفك عددٌ من العلماء في مقدمتهم البخاري عن السيدة عائشة وابن الزبير ؛ وأم رومان أم السيدة عائشة ؛ وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر. كما رواه عدد من التابعين. والحديث طويل من أراده فليرجعْ إلى صحيح البخاري وسيرة ابن هشام وغيرهما.
وخلاصته : أن الرسول الكريم كان إذا أراد سفراً عمل قُرعةً بين زوجاته، فالتي تخرج قرعتها أخذها معه. وفي سنة ستٍ من الهجرة ( كما حدّدها ابن هشام في السيرة ) خرج الرسول إلى غزوة بني المصطَلِق وأخذ السيدة عائشة معه. فلما انتهى من الغزوة رجع، تقول السيدة عائشة :« حتى إذا قَفَلْنا ودنونا من المدينة، نزلنا منزلا. ثم نوديَ بالرحيل في الليل، فقمتُ لأقضي حاجة، ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش. فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عِقدي قد انقطع. فرجعتُ ألتمسه. فحبَسَني ابتغاءه. وجاء الذين توكلوا بهَوْدَجي فاحتملوه ووضعوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفّتي في ذلك الوقت. ورحَلَ الناس. وبعد أن وجدت عقدي جئت إلى منزل الجيش فلم أجد أحدا، فجلست في مكاني وأنا أعلم أنهم سوف يفتقدونني ويعودون في طلبي. فبينما أنا جالسة في مكاني غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطّل السُّلَمي قد تخلف عن الجيش، فلما رآني عرفني، فاستيقظت على صوته وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون فخمَرتُ وجهي بجلبابي، و واللهِ ما تكلّمنا بكلمة ولا سمعت منه غير استرجاعه. ثم أناخ راحلته فقمتُ إليها فركبتها، وانطلق يقود بي الراحلة حتى أدركنا الجيشَ عند الظهر وهم نزول. وكانوا قد افتقدوني وماج القوم في ذكري. فبينما الناس كذلك إذ وصلتُ عندهم. وبعد وصولهم إلى المدينة، بدأ الناس يتهامسون : ما بالُ عائشة تأخرتْ عن الجيش، وجاءت مع صفوان على بعيره، وصفوان شاب وسيم الطلعة مكتمل القوة ! وقاد هذه الحركة وتولّى كِبرها رأسُ المنافقين عبدُ الله بن أبَيّ وبعض المؤمنين سيأتي ذكرهم وعددٌ من المنافقين. وبلغ النبيَّ الخبرُ، واضطرب له. وبعد مدة بلغ السيدة عائشةَ الخبر وهاج الناس وماجوا واضطربت المدينة لهذا الخبر، وبقيتْ كذلك مدة شهر إلى أن نزلت هذه الآيات تبرئ السيدة عائشة وتحسم الموضوع حسماً كاملا.
إن الذين اتهموا عائشةَ أمَّ المؤمنين بالزنا هم جماعة من كبار الكذّابين المفترين، وهم من المنافقين الموجودين بينكم، لا تظنوا هذه الحادثة شراً لكم بل هي خير لكم، لأنها ميزت المنافقين من المؤمنين، وأظهرت كرامة المبرئين منها، ولكل امرئ منهم جزاؤه على مقدار اشتراكه في هذه الجريمة.
﴿ تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ : ورأسُ الكفر والمنافقين عبدُ الله بن أبيّ هو الذي قاد هذه الحركة وتولى معظمها، له يوم القيامة عذابٌ عظيم. وقد انساق معه بعض المؤمنين منهم حسّان بن ثابت ومِسطَح بن أثاثة وهو من أقارب أبي بكر الصديق، وحمنة بنتُ جحش أختُ زينب أم المؤمنين. ولما نزلت آية البراءة أمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بجَلْدِهم.
إفك مبين : كذب ظاهر.
كان مقتضى الإيمان أن تظنوا بمن اتُّهم خيرا عند سماعِ هذه التهمة، وكان عليكم أن تقولوا هذا كذبٌ واضح لا يصدَّق.
لولا : بمعنى هلا.
ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبخهم على ما اختلقوه وأذاعوه فقال :﴿ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون ﴾ :
هلاّ جاء الخائضون في الإفك بأربعةِ شهداءَ يشهدون على ثبوت ما قالوه، فإن لم يستطيعوا فهم الكاذبون فيما اتَّهموا به عائشة.
أفضتم فيه : خضتم فيه.
ولولا تفضُّلُ الله عليكم ببيان الأحكام، ورحمتُه لكم في الدنيا بعدم التعجيل بالعقاب، وفي الآخرة بالمغفرة، لنزل بكم عذابٌ عظيم على هذه التهمة الشنيعة.
إذ تلقونه بألسنتكم : إذ تتلقون الإفك ويتناقله بعضكم عن بعض.
فقد تناقلتم هذه التهمةَ بألسنتكم وأشعتُموها بينكم، وتخوضون فيما لم يكن لكم علمٌ بصحته وتحسبَون أن هذا الأمر هين بسيطٌ لا يعاقِب الله عليه، مع أنه أمرٌ خطير عظيم يعاقِبُ عليه الله اشد العقاب.
بهتان عظيم : كذب محير لفظاعته.
كان عليكم أن تقولوا حين سمعتموه إن هذا كذِبٌ واختلاقٌ كبير، وأن تنصحوا بعدمِ الخوض فيه.... لأنه غير لائق بكم، وأن تقولوا متعجِّبين من هول هذه الفِرية : سبحانك يا ربّ، نحن ننزهك، إن هذا كذبٌ عظيم.
ثم حذّر الله المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال :﴿ يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ :
يعِظُكم الله بهذه المواعظ وينهاكم أن تعودوا لمثل هذه المعصية أبدا، إن كنتم مؤمنين حقّاً لأن هذه الأعمال تتنافى مع الإيمان الصادق.
ويفصّل الله لكم في كتابه الآياتِ الدالةَ على الأحكام ومحاسن الفضائل والآداب، واللهُ واسعُ العلم لا يغيب عنه شيءٌ من أعمالكم وهو الحكيم في كل ما يشرع ويخلق.
تشيع : تنتشر.
الفاحشة : الزنا، وكل أمر قبيح.
إن الذين يحبّون أن يُفشوا القبائح ويتهمون بها المؤمنات لهم عذاب مؤلم في الدنيا بالعقوبة المقررة، وفي الآخرة بالنار، واللهُ عليم بجميع أحوالكم وأنتم لا تعلمون ما يعلمه.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، لَما بيَّن لكم الأحكامَ ولعَجَّلَ عقوبتكم في الدنيا وكنتم من الهالكين.
خُطُوات : بضم الخاء والطاء، واحدتها خطوة : المسافة ما بين الرِجلين في المشي، والمقصود : وساوس الشيطان.
إن الله هو الحق : إن الله هو الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء ويبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا.
يا أيها الذين آمنوا لا تسلكوا سُبُلَ الشيطان، بل احذَروا وساوسه التي تجرّكم إلى إشاعة الفاحشة والمعاصي بينكم. ومن يتبع الشيطان فقد عصى.... لأنه يأمر بكبائر الذنوب. ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته بكم ببيان الأحكام، ما طَهُرَ أحدٌ منكم من ذنوبه أبدا، ولكن الله يطهِر مَن يشاء من خلقه بقبول توبته، واللهُ سميع لما تقولون عليم بما في قلوبكم.
لا يأتلِ : لا يحلف.
أولو الفضل : الأغنياء.
كان أبو بكر الصدّيق ينفق على مسطح بن أثاثه ابنِ خالته، وهو صحابي بدريّ من المهاجرين الفقراء، ولكن هذا كان من الخائضين في حديث الإفك، فحلف أبو بكر أن يقطع النفقة عنه، فنزلت هذه الآية : لا يحلف أصحاب الفضل من الأغنياء منكم الامتناعَ عن الإنفاق على أقاربهم من المساكين والمهاجرين ولو أساؤوا إليهم، بل عليهم أن يسامحوهم ويصفحوا عنهم. ألا تحبّون أن يستر الله عليكم ويغفر لكم ذنوبكم ! ! إن الله غفورٌ لذنوب من أطاعه رحيم به. فاستغفرَ أبو بكر ربه وأعاد النفقة على مسطح.
المحصنَات : العفيفات.
الغافلات : سليمات الصدور، اللاتي لا يفكرن في السوء.
إن الذين يتّهمون المؤمناتِ المتزوجاتِ الشريفاتِ الغافلات عن كل سوء عليهم لعنةُ الله والطردُ من رحمته في الدنيا، ولهم عذابٌ عظيم في الآخرة.
في ذلك اليوم العظيم لا يحتاج الله شهوداً، لأن جوارحَ الإنسان تشهد عليه بما كان يعمل، الله تعالى يجعلُها تنطق بالحق.
دينهم الحق : جزاءهم الثابت.
وعند ذلك يحاسبُهم الله حساباً دقيقا ويجزيهم على ما عملوا جزاءَ الحق والعدل. عندئذٍ يعلمون أن ما وعدَهم الله هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.
في هذه الآية تأكيدٌ على نفي الريبة عن السيدة عائشة بأجلى وضوح، فقد جرت سُنةُ الله في خلقه على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيّبات للطيبين والخبيثات للخبيثين... ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أطيب الطيبين، وكذلك الصدّيقة عائشة يجب أن تكون من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم.
﴿ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ... ﴾ : مبرؤون من التهم التي يلصقها بها المنافقون، وقد منَّ الله عليهم بالغفران ورزق كريم عند ربهم في جنات النعيم.
تستأنسوا : تستأذنوا، لأن الاستئذان يحصل به الأنس لأهل البيت.
تذكرون : تتعظون.
في هذه الآية يبن الله تعالى حُكمَ دخولِ المرء بيتَ غيره، وأنه لا يجوز لأي إنسان أن يدخل بيت غيره إلا بعد الاستئذان، فعلى المؤمنين أن لا يدخلوا بيوتَ غيرهم إلا بعد أن يستأذنوا ويسلِّموا على أهلها.
أزكى : أطهر.
فإن لم يجدوا فيها أحداً فلا يجوز لهم أن يدخلوها، وإن قيل لهم ارجعوا لأننا مشغولون
لا نستطيع استقبالكم فعليهم أن يرجعوا، فإن ذلك من فضائل الأخلاق وحُسنِ المعاشرة، وهو أزكى لهم وأَطهر.
جُناح : حرج.
المتاع : كل ما يُنتفع به من طعام وأثاث ومال.
ولا بأس أن يدخل المرء بيتاً وضع فيه حاجاتِه ومتاعه، إن كان غير مسكون، وله أن يدخله دون إذن، والله يعلم ما يُظهره الإنسان وما يخفيه فليتّقِ الله وليراقبْ نفسه.
يغضوا من أبصارهم : يكفّونها عن المحرمات ويخفضونها.
في هذه الآية تعليمٌ لنا وتهذيب لأخلاقنا لأن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع سليم نظيف، وذلك بالحيلولة دون استثارة المشاعر، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً. ذلك أن الميل الفطري بين الرجل والمرأة مَيْلٌ عميق في التكوين الحيوي، لأن الله قد أناط به امتدادَ الحياة على هذه الأرض. والله سبحانه يرشدنا إلى أرقى الأخلاق وأسماها لنعيش في أمن وسلام.
قل أيها الرسول للمؤمنين : كفُّوا أبصاركم عما حرَّم الله عليكم من عورات النساء ومواطن الزينة منهن، واحفظوا أنفسكم من عمل الفاحشة. إن ذلك الأدبَ أكرمُ بكم وأطهرُ وأبعدُ عن الوقوع في المعصية.
﴿ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ : فلا يخفى عليه شيء مما يصدُر منهم من الأفعال.
الخُمُر : جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها.
الجيوب : واحدها جيب، وهو فتحة في أعلى القميص.
البعولة : الأزواج، واحدها بعل.
الإربة : الحاجة إلى النساء، يقال أرِب الرجل إلى الشيء إذا احتاج إليه، والإربة والأرَب بفتح الهمزة والراء، والمأربة بفتح الراء بمعنى واحد.
الطفل : يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجوز أن يقال طفل وطفلة وأطفال وطفلات، ويقال له طفل حتى يبلغ.
لم يظهَروا على عورات النساء : لم يبلغوا حد الشهوة ولا يدرون ما هي.
وبعد أن أمر المؤمنين بغضّ أبصارهم أمر المؤمنات كذلك. فقل يا أيها النبي للمؤمنات : عليهنّ أن يحفظن أبصارهن فلا ينظرن إلى المحرَّم من الرجال. ويحفظن أنفسهن من الوقوع في الزنا وفتنة الغير. وذلك بستر أجسامهن ما عدا الوجه والكفّين. وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾.
ولما نهى عن إبداء الزينة أرشدَ إلى إخفاء بعض مواضعها، فقال :
﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ : وليضعن الخمارَ على رؤوسهن ليَسْتُرْنَ بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن.
﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ.... ﴾ : لا يحلُّ لهنّ أن يُظهرن شيئا من أجسامهن إلا لأزواجهن والأقارب الذين يحرُم عليهن التزوج منهم تحريماً مؤبدا مثل آبائهن أو آباء أزواجهن، أو أبنائهن، أو أبناء أزواجهن من زوجات سابقات، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو ما ملكت أيمانهن من الأرقاء، أو من يشتغل عندهن من المسنّين الذي ماتت شهواتهم والأطفال الذين لم يبلغوا سن البلوغ.
ثم نهى الله عن إظهار النسوة الحليّ وما يثير الشهوة، فقال :﴿ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ﴾ : اطلبْ منهن أيها الرسول، أن لا يفعلن شيئا يجلب أنظار الرجال إلى ما خَفِيَ من الزينة، وكل ما يثير الفتنةَ من المشي غير المعتاد.
﴿ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ﴾ : ارجعوا إلى الله والى طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه من عاداتِ الجاهلية، والتزِموا آدابَ هذا الدين القويم لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأبو بكر :﴿ غير أولي الإربة ﴾ بنصب غيرَ، والباقون :﴿ غير ﴾ بالجر كما هو في المصحف.
الأيامى : واحدهم أيِّم، وهو غير المتزوج رجلا كان أو امرأة، بكرا أو ثيبا. يقال : آم الرجل وآمت المرأة إذا لم يتزوجا.
من عبادكم : من عبيدكم.
الإماء : جمع أمة وهي المملوكة.
وزوِّجوا من لم يتزوج من رجالكم ونسائكم، وأعينوهم على الزواج، حتى لا يقعوا في المعصية، ويسِّروا الزواج بقدْرِ ما تستطيعون من تقليل المهور، والمساعدة بكل الوسائل
وأعِينوا الصالحين من عبيدِكم وإمائكم على الزواج ليتحصنّوا أو يعفُّوا. ولا تنظروا إلى فقرِ من يخطُب أو فقرِ من تريدون زواجَها، ففي فضل الله ما يغنيهم، واللهُ ذو سعةٍ عليمٌ بكل شيء.
والذين يبتغون الكتاب : المكاتبة وهي أن يكاتب العبدُ سيده على مبلغ من المال إذا أداه إليه يصبح حرا.
الفتيات : الإماء.
البغاء : الزنا.
التحصن : العفة.
أما الذين لا يجدون القدرة على مؤونات الزواج فعليهم أن يصبروا ويسلكوا طرق العفّة وينتظروا حتى يغنيَهم الله من فضله. وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « يا معشرَ الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوجْ، فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء »
الباءة : النكاح ومؤنته. الوجاء : الخِصاء، يعني أنه يعين على نسيان النكاح.
وفي الحديث الصحيح :« ثلاثةٌ حقٌ على الله عونُهم : المجاهدُ في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف » أخرجه الترمذي والنسائي.
﴿ والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ : هنا يحثّ الله تعالى على تيسير تحرير الرقيق.... فكل عبدٍ أو عبدة تريد التحرر وتكاتب سيّدَها على مبلغ من المال، على المؤمنين أن يساعدوهما في ذلك ويسهّلوا لهما طريق الحرية من العبودية. وهكذا كان الإسلام أول من شرع تحرير الرقيق، وقد انتهى نظام الرق الآن.
ثم حث الله المؤمنين جميعاً على تحرير الرقاب، فقال :﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ ﴾
وعلى جميع المسلمين أن يساعدوا أولئك الذين يريدون التحرّرَ فدفْعِ ما يستطيعون من الأموال لهم حتى يتم تحريرهم.
ثم نهى المؤمنين عن السعي في جمع المال من الطرق غير المشروعة فقال :﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا ﴾
كان من عادات الجاهلية أن الرجل يكون عنده إماء فيُكرهُهُنَّ على البغاء حتى يكسبن له المال، ليأخذَ أجورهن. وكانت هذه العادة فاشية فيهم. وقد اشتكت بعضُ الجواري إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فأنزل الله هذه الآية ليقطع دابر تلك العادة القبيحة.
﴿ وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ :
ومن يكره إماءه على البغاء فإن الله غفور رحيم لهنّ، والذنبُ على المكرِه، وقد وعد المكرَهاتِ بالمغفرة بعد الإكراه على عملِ لا يدَ لهن فيه.
مبينات : مفصلات لكل ما تحتاجون.
لقد أنزلنا إليكم في هذا القرآن آياتٍ واضحة مبينّةٌ للأحكامٍ، كما أنزلنا إليكم أمثلة من أحوال الأمم السابقة، وإرشادات ومواعظَ للذين يخافون الله وهدى وعزاً لمن تولاه.
المشكاة : الكوّة في الحائط غير نافذ يوضع فيها المصباح.
الزجاجة : القنديل من الزجاج.
دريّ : مضيء متلألئ نسبةً إلى الدر.
لا شرقية ولا غريبة : يعني في مكان متوسط، لا شرقية فتُحرم حرارة الشمس آخر النهار، ولا غريبة فتحرمها أول النهار.
الغدوّ : جمع غدوة : الصباح.
الآصال : جمع أصيل، وهو المساء.
الله مصدرُ النور في هذا الكون، فهو منوِّرُ السماواتِ والأرضِ بكلّ نورٍ حسّي نراه ونسير فيه، وبكل نورٍ معنويّ كنور الحق والعدل، والعلم والفضيلة، والهدى والإيمان. إن مَثَلَ نوره الباهر في الوضوح كمَثَلِ نور مصباح شديد التوهج، وُضع في فجوة من حائط يشعّ نوره، وقد وُضع المصباح في زجاجة يتلألأ نورها كالدّر ( والعربُ تسمي النجومَ العظام الدَّراري )، ويستمدّ هذا المصباح وقودَه من زيتِ شجرةٍ مباركة طيبة التربة والموقع، زيتونةٍ مغروسة في مكان معتدل لا يسترها عن الشمس في وقتِ النهار شيء، فهي لاشرقية ولاغربية، تصيبها الشمسُ بالغداة والعشي، يكاد زيت هذه الشجرة لشدة صفائه يضيء ولو لم تمسّه نار المصباح.
﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ : نور مترادِف متضاعف تجمَّع فيه نور المشكاة والزجاج والمصباح والزيت، وفق ذلك كله نورُ رب العالمين بهدْيه الناسَ إلى الصراط المستقيم.
﴿ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ ﴾ :
وهكذا، تكون الشواهد المنبثة في هذا الكون، الحسّيُّ منها والمعنوي، آياتٍ واضحةً لا تدع مجالاً للشك في وجود الله، والله يوفق من يشاء إلى الإيمان، إذا حاول الانتفاعَ بنور عقله. وهو يأتي بالأمثلة المحسوسة ليسهّل على الناس إدراكها، ولما فيها من الفوائد والنصح والإرشاد. وهو سبحانه واسع العلم، محيطٌ بكل شيء، يعطي هدايته من يستحقّها ممن صفَتْ نفوسهم واستعدّوا لتلقي أحكام الدين وآدابه.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص :﴿ دُرّي ﴾ بضم الدال وتشديد الراء بدون همز، وقرأ أبو عمرو والكسائي :﴿ دِريء ﴾ بكسر الدال والهمزة، وقرأ حمزة وعاصم :﴿ دُرِّيءٌ ﴾ بضم الدال وتشديد الراء وبالهمزة المضمومة في آخره.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ تَوقَّد ﴾َ بفتح التاء والقاف المشددة وفتح الدال على انه فعل ماض، وقرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي :﴿ يُوقَدُ ﴾ فعل مضارع بضم الياء وفتح القاف وضم الدال فعل مضارع مبني للمجهول كما هو في المصحف، وقرأ حمزة وأبو بكر :﴿ تُوقدُ ﴾ بضم التاء والدال.
ذلك النور المشعّ في السموات والأرض يتجلّى في بيوت الله ( وهي المساجد ) التي تتصل فيها القلوب بالله.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجدُ بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض.
أمر الله أن تبنى وتعظَّم وتعمر بذكر الله.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأبو بكر :﴿ يسبح ﴾ بضم الياء وفتح الباء، والباقون :﴿ يسبح ﴾ بضم الياء وكسر الباء.
من رجالٍ لا تَشغَلُهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجارتهم عن ذكر الله..
فهم يعملون للدنيا في الأسواق والحقول والمصانع، ويعملون للآخرة فيؤدون جميع فروضهم وواجباتهم، فلا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولا الآخرة عن الدنيا.
وهم مع هذا يخافون هولَ يوم القيامة الذي تضطربُ الأفئدة من شدّته، وتشخَصُ فيه القلوب والأبصار في حيرة ودهشة.
والله تعالى مع كل ذلك يطمئِنُ المؤمنين ويبين مآل أمرِهم وحُسْنَ عاقبتهم بقوله :
﴿ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
إنها بشرى عظيمة للذين آمنوا وأحسنوا، فإنه بعد أن يجزيهم أحسنَ ما عملوا يزيدُهم من فضله. ﴿ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾، ما أحسنَ هذه البشرى وما أعظم فضل الله.
السراب : ظاهرة ضوئية سببُها انعكاس الشعاع من الأرض عندما تشتد حرارة الشمس فيظنه الإنسان ماء يجري ويتلألأ على وجه الأرض، وما هو إلا وهمٌ لا حقيقة فيه. القيعة : مكان منبسط من الأرض لا نبات فيه ويقال لها القاع أيضا.
في هذه الآية يبين الله في مقابل ذلك النورِ المتجلِّي في السموات والأرض، المشعّ في بيوت الله والمشرِقِ في قلوب المؤمنين مجالاً مظلما لا نور فيه، مخيفاً لا أمن فيه، ضائعاً لا خير فيه.... ذلك هو حال الذين كفروا. فَمَثَلُ أعمالهم في بطلانها وعدم جدواها كمثل السرابِ الذي يراه الظمآن في الفلاة في شدة حرارة الشمس فيسرع إليه، حتى إذا وصله لم يجد الماء الذي رجا أن يشرب منه... ﴿ وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب ﴾ : يعني أن كل ما عمله هذا الجاحدُ من أعمال خيرٍ تذهب هباء منثورا، وفي يوم القيامة يحاسبُه الله ويوفّيه جزاءه وعقابه. فلا يستفيد من أعماله شيئاً، لأنه لم يؤمن بالله والبعث والجزاء. وكما قال تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]
لُجّيّ : اللج معظم الماء حيث لا يدرَك قعره، وبحر لجي : عميق.
يغشاه : يغطيه.
لم يكد يراها : تصعب رؤيتها.
وهذه صورة أخرى من صور حال الكفار الجاحدين. فأعمالُ الكافرين في الدنيا كمثل السراب الذي ليس بشيء، أو كهذه الظلمات في البحر العميق، تتلاطم أمواجه ويتراكم بعضها فوق بعض. ومن فوقِ ذلك كله سحابٌ كثيف مظلم لو رفع الإنسان يدَه إلى وجهه لما رآها من شدة الظلام. إن قلوب الكافرين وأعمالَهم مثلُ هذه الظلمات المتراكمة تراكمت عليها الضلالات، فهي مظلمة في صدور مظلمة، في أجساد مظلمة.
ولقد جمع الله تعالى في هذا الوصف بينَ الليل المظلم، وتراكُب الأمواج في البحر بعضها فوق بعض، ومن فوقها السحاب الكثيف.... وهذا أشدُّ ما يكون من الظلمات.
وتجمع هذه الآية الكريمة أهم ظواهر عواصف المحيطات العظيمة، وهذا من أكبرِ الأدلة على أن القرآن من عند الله، لأن الرسول الكريم لم يركب المحيطاتِ وكان يعيش في بلاد صحراوية.... فورودُ هذه الدقائق العلمية دليل على أنها وحي من عند الله.
﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾ : ومن لم يوفقه الله لنورِ الإيمان، فليس له نور يهديه إلى الخير، ويدلّه على الصراط المستقيم.
صافات : باسطة أجنحتها في الهواء.
المصير : المرجع.
ألم تعلم أيها النبي أن جميع من في هذا الكون يسبِّح بحمد الله تعالى، وأن تسبيحَ كل صنف يختلف باختلاف صفاته وخصائصه، وكلٌّ يسبّح بدلالة وجوده وصورته وأحكامه على وجود المصوّر الحكيم، فالعاقل يسبّح بلسان المقال، وغيره يسبّح بلسان الحال، والطير صافات باسطةً أجنحتها في الفضاء تسبّح الله وتحمدُه بلغاتٍ لا نعلمها.
واعلم أن هذا الوجودَ كلَّه حيّ، ولا معنى للوجود بغير حياة، وأن الحياة على مقدار إشراق الأنوار العلوية على المخلوقات، فللإنسان وللحيوان وللنبات حياة، أي أن هناك نوعاً من الشعور. وهكذا الجماد له نوع من الشعور لا ندركه. وكل هذه المخلوقات تسبح بحمده تعالى.
والله تعالى هو مالكُ هذا الكون ومن فيه وصاحبُ السلطان عليهم، وكلُّهم راجعٌ إليه يوم القيامة للحساب والجزاء.
يزجي : يسوقُ برفق.
يؤلف بينه : يجمع بين أجزائه وقطعه.
ركاماً : متراكما بعضه فوق بعض.
الودق : المطر.
من خلاله : من بينه.
من جبال : من قطعٍ عظام تشبه الجبال.
سنا برقه : ضوء برقه.
يذهب بالأبصار : يخطفها لشدة بريقه ولمعانه.
في هذه الآية والتي تليها دلالةٌ على قدرة الله ووحدانيته.... انظرُ أيها الرسولُ الكريم إلى السحابِ يسوقُه الريحُ بقدرة الله أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرّق من أجزائه، ثم يجعل بعضَه متراكماً فوق بعض، فترى المطرَ يخرج من خلاله. واللهُ يُنزل من مجموعات السحب المتراكمة التي تشبه الجبالَ في عِظَمِها بَرَداً ينزل على قومٍ فينفعهم أو يضرّهم تبعاً لقوانينه وإرادته، ولا ينزل على آخرين كما يريد الله. وانظُر إلى ما في هذه السّحاب من بَرْقٍ يضيء بشدّةٍ وسرعة حتى يكاد يخطَفُ الأبصار، كما في قوله تعالى :﴿ يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠ ].
وهذه الظواهر من أقوى الدلائل على قدرة الله، وكلُّ من ركب الطائرة يعرف التشابه بين السحب والجبال، فإنه يراها متراكمة كأنها الجبال والآكام، وهذا من الأدلة الباهرة على إعجاز القرآن الكريم. ولم تُعرف هذه الصورة إلا بعد وجود الطائرات التي ترفع الإنسان فوق السحب فيراها على حقيقتها كما وُصفت في القرآن.
يقلّب الليل والنهار : يتصرف فيهما طولا وقصرا.
لأولي الأبصار : لأهل العقول والبصائر.
انظر أيضاً إلى اختلاف الليلِ والنهار وتقلُّبِهما بزيادة أحدِهما ونقص الآخر، والى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة.... إن في ذلك كله لعبرةً لذوي العقول السليمة، وعظةً لكل من ينظر ويتأمل.
والله خلقَ كلَّ حيوان يدب على الأرض من الماء، وكما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ الانبياء : ٣٠ ]. ثم بيّن أقسام هذا الحيوان، فمنهم من يمشي على بطنه كالزواحف، ومنهم من يمشي على رِجلين كالإنسان والطير، ومنهم من يمشي على أربع كالأنعام والوحوش.
﴿ وَيَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ ﴾ من الحشرات التي تمشي على أكثرَ من أربع أرجل، وغير ذلك على اختلاف أنواعها.
﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ : إن الله على إحداث ذلك وخلْقِ ما يشاء لذو قدرة،
لا يتعذر عليها شيء فالماء هو أصل الإنسان، وجسمُ الإنسان معظمه من الماء إذ يحتوي على نحو ٧٠% من وزنه ماءً. والماء أكثر ضرورةً للإنسان من الغذاء، فبينما يمكن للإنسان أن يعيش ستين يوما بدون غذاء لا يمكنه أن يعيش بغير الماء إلا ثلاثة أيام إلى عشرة على أقصى تقديره.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف :﴿ والله خالق كل دابة ﴾، والباقون :﴿ والله خلق كل دابة ﴾.
لقد أنزلنا عليك يا محمد دلائل واضحةً تبين الأحكام والعظات، والله يوفق إلى الخير من يشاء من عباده، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم.
يتولى : يعرض ولا يطيع.
الحديث في هذه الآية الكريمة عن المنافقين الذي يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فيقولون : آمنّا بالله والرسول وأطعْنا أوامرهما، ثم يفعلون ضدّ ما يقولون، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين.
فإذا طُلبوا إلى التحاكم أمامَ رسول الله فيما يتنازعون فيه أَبَوا وخافوا أن يحكمَ عليهم.
مذعنين : منقادين.
أما إذا عرفوا الحق في جانبهم فإنهم يأتون إلى الرسول مسرعين ليحكم بينهم.
أفي قلوبهم مرض : فسادٌ وبغض يحملهم على الضلال.
ارتابوا : شكوا.
يحيف : يجور.
لماذا يقفون هذا الموقف، هل هم مرضى القلوب بالكفر والنفاق ؟ أم يشكّون في عدالة الرسول الكريم ؟
أم يخافون أن يجور عليهم الله ورسوله ؟
كل هذا لم يحصل، بل هم الظالمون لأنفسهم ولغيرهم بسبب كفرهم ونفاقهم وعدولهم عن الحق.
وبعد أن نفى عن المنافقين الإيمانَ الحقَّ بيَّن صفاتِ المؤمنين، فقال :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ : فأما المؤمنون حقاً الصادقون فِعلاً فإنهم إذا طُلبوا إلى التحاكم بمقتضى
ما جاء عن الله إلى رسوله قالوا مطيعين : سمعْنا وأطعنا الأمر، وأولئك هم المفلحون.
ومن يطِع الله ورسولَه فيما أمرا به وتركِ ما نهيا عنه، وخشيَ الله وغضبه، فأولئك هم الفائزون في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ حفص :﴿ يتقْه ﴾ بإسكان القاف، والباقون :﴿ يتقِهِ ﴾ بكسر القاف والهاء، قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي :﴿ ويتقهي ﴾ بكسر القاف ومد الهاء.
جهد أيمانهم : أقصى غايتها.
ثم بعد المقابلة بين المنافقين والمؤمنين يعودُ لاستكمال الحديث عن المنافقين :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
أقسم المنافقون بالأيمان المغلّظة لئن أمرتَهم يا محمد بالخروج إلى الجهاد معك ليخرجون قل لهم : لا تحلِفوا، إن طاعتكم معروفة لنا، فهي طاعة باللسان فحسب، والله تعالى خبير لا تخفى عليه خافية من أعمالكم فلا يحتاج إلى حلف أو توكيد.
فان تولّوا : فإن تولوا بحذف التاء، أصلُه تتولوا.
قل لهم أيها الرسول : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول طاعة صادقة، فإن أعرضوا ولم يمتثلوا، فإنما على الرسول ما حمّله الله من أمر التبليغ، وعليكم ما حمّلكم من التكليف والطاعة. إنكم إن تطيعوا الرسول تهتدوا إلى الخير، وما عليه إلا التبليغ الواضح.
ليستخلفنهم : يجعلهم خلفاء في الحكم على هذه الأرض.
وليمكننّ لهم دينهم : يثبت لهم الإسلام الذي ارتضاه لهم دينا.
وعد الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم العاملين المجاهدين لجعل الإسلام هو الحاكمَ في الأرض، أن ينصرهم ويجعلهم حكام الأرض، كما فعل مع المؤمنين الذين سبقوهم. كما وعدهم أن يرسِّخَ دعائم دينهم الذي ارتضاه لهم، وان يبدِّل حالهم من الخوف الذي عاشوا فيه عند بداية الإسلام إلى أمنِ واستقرار وعز بشرط أن يعبدوا الله وحده.
وقد تحقق هذا الوعدُ لأسلافنا، وهو قائمٌ إلى الأبد إذا نحن أقمنا على شرطِ الله بأن نصدُق في إيماننا، ونسيرَ على منهاج ديننا. إن وعدَ الله حقٌّ قائم وشَرْطَ الله حق معروف، ومن أوفى بعهِده من الله. ! ؟
والذين كفروا بعد هذا الوعد الصادق، هم الخارجون المتمرّدون، وحسابهُم على الله. قراءات :
قرأ أبو بكر :﴿ كما استخلف ﴾ بضم التاء وكسر اللام، والباقون :﴿ كما استخلف ﴾ بفتح التاء واللام.
وقرأ ابن كثير وابو بكر :﴿ وليبدلنْهم ﴾ بإسكان النون، والباقون :﴿ وليبدلنّهم ﴾ بالتشديد.
وبعد الوعد الصادق للمؤمنين بالنصرِ واستخلافِهم في الأرض يأتي الأمرُ بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عن طيب خاطر لمستحقّيها، وإطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في سائر ما أمرنا اللهُ به حتى يكون لنا رجاءٌ في رحمته ورضوانه.
ثم بين الله بعد ذلك أن الكافرين لا قيمة لهم، وأنه سيحلُّ بهم العذاب، ولا يجدون مَهْرَباً مما أوعدهم به ربهم، وأن مصيرهم النار وبئس القرار.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة :﴿ لا يحسبن ﴾ بالياء، والباقون :﴿ لا تحسبن ﴾ بالتاء.
ما ملكت أيمانكم : العبيد والإماء.
الحلم : بضم اللام وسكونها، البلوغ.
تضعون ثيابكم : تخلعونها.
الظهيرة : وقت اشتداد الحر عند منتصف النهار.
العورة من الجسم : كل ما يستحي الإنسان أن يظهرهُ من جسمه.
ثلاث عورات : ثلاث مرات في الأوقات التي تستريحون فيها.
جناح، بضم الجيم : إثم.
طوافون عليكم : يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة.
في هذه الآية توجيهٌ للمؤمنين وتربيةٌ وتعليم إلى اللّياقة الاجتماعية في محيط الأسرة، وذلك أن اندماجَ الخدم والصبيان في أسَرهم قد يتجاوز بهم الاحتشامَ في المخالطة فيدخلون على الكبار دون استئذان في هذه الأوقات الثلاثة المذكورة في الآية.
نظرا لأنها أوقات خلوة وحرية شخصية ويتحلل الإنسان فيها من لباس الحشمة، جاء القرآن الكريم بتشريع الاستئذان في تلك الأوقات بالنسبة لمن ذكرتُهم من الخدم والصبيان حتى لا يطلعوا على ما يعتبر سراً لا يستساغ اطلاعهم عليه، إذ هو كالعورة التي ينبغي سترها.
وفي هذا توجيه لأعضاء الأسرة المؤمنة إلى اتخاذ الملابس اللائقة لمقابلة بعضهم البعض حتى تظل كرامتهم مصونة، وحريتهم مكفولة وآدابهم مرعية، فالقرآن الكريم جاء ليعلّمنا ويوجهنا إلى الخير وفضائل الأخلاق وحسن المعاشرة.
وكان الخدم والصبيان والعبيد قبل هذا يدخلون على بعضهم دون استئذان. وهناك روايات عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأسماء بنت مرثد وغيرهما أن بعض الخدم دخل عليهم في بعض هذه الأوقات فتأذوا من ذلك فنزلت هذه الآية، وهناك أحاديث كثيرة في هذا الموضع.
بيّن الله تعالى في هذه الآية أن على الأطفال والخدم أن يستأذنوا للدخول على الكبار في ثلاثة أوقات من اليوم هي : قبل الفجر، وعند الاستراحة وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء. وفيما عدا ذلك يمكن أن يدخلوا دون إذن.
قراءات :
قرأ الجمهور :﴿ ثَلاثُ عورات ﴾ بضم الثاء، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي :﴿ ثَلاثَ عورات ﴾ بفتح الثاء.
أما إذا بلغ الأطفال سن البلوغ فعليهم أن يستأذنوا كما يفعل الكبار على كل حال.
القواعد من النساء : العجائز الكبار في السن.
لا يرجون نكاحا : لا يطمعون بالزواج.
التبرج : إظهار المحاسن.
وأما النساء الكبار في السن اللاتي لا مطمع لهن في الزواج، فلا جناح عليهن اذا تحللن من بعض الملابس في بيوتهن، وإذا تعففن باللباس الساتر فإنه خير لهن، والله سميع بما يجري بين الناس، عليم بمقاصدهم لا تخفى عليه خافية.
الحرج : الضيق، ومعناه هنا الإثم.
ما ملكتم مفاتحه : ما كان تحت تصرفكم.
الصديق : يطلق على الواحد والجمع.
جميعا : مجتمعين.
أشتاتا : متفرقين.
في هذه الآيةِ الكريمة توجيهٌ للمؤمنين لتنظيم العلاقاتِ والمعاشرة والمخالطة بين الأقارب والأصدقاء، فقد سمح الله للمؤمنين أن يأكلوا مع أصحابِ العاهات من عُمْيٍ وعُرجٍ ومرضى من هذه البيوت التي سمّاها، يدخلونها مجتمعين أو متفرقين. وعليهم إن أرادوا دخولها أن يسلِّموا على أهلِها إن كانوا موجودين، أو يسلِّموا على أنفسهم إن لم يكن في البيت أحد. وهذه التحية تحية مشروعة مباركة، بها تطيبُ النفوس. وعلى هذا النحو يوضح الله لنا آياته لعلّنا نعقِلها ونتفهّم ما فيها من الأحكام والعظات لنعمل بها، ونِعْمَ الأدب والمؤدب.
أمر جامع : أمر هام يستدعي أن يجتمع الناس عليه للتشاور والتداول.
كما أمَرَ اللهُ تعالى المؤمنين بالاستئذان عند الدخول، أمَرَهم هنا بالاستئذان عند الخروج، وفي هذا تعليمٌ وتأديبٌ لنا جميعا.
إن المؤمنين حقاً إذا كانوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في أمر مهمٍ من أمور المسلمين، كتشاوُرٍ في أمر الحرب، او ما ينفع المسلمين، فلا يحقّ لهم أن ينصرفوا
إلا بعد استئذانه ومشورته، فمن التزم بهذا فهو من المؤمنين الكاملين، ويحق للرسول أن يأذَنَ لمن يشاء منهم كما تقتضي المصلحةُ التي اجتمعوا عليها، ويستغفر للمستأذنين.
فقد حدث حين بدأ المسلمون بحفر الخندق عندما غزتهم قريشُ ومن معها من العرب
- وكان في مقدمتهم الرسول الكريم - أنّ بعضَ المنافقين أخذوا يتسلّلون من ذلك المكانِ ويذهبون إلى أهلِهم، أما المؤمنون فقد ثبتوا معه، وكان من يريد أن يذهب إلى قضاء حاجة يستأذن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فإن قضى حاجته عاد إلى مكانه وعمله.
لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضا : لا تنادوا الرسول باسمه : يا محمد، بل عظموه وقولوا : يا رسول الله.
يتسللون منكم : يخرجون خفية.
لواذا : متسترين يلوذ بعضهم في بعض.
يخالفون عن أمره : يخرجون عن طاعته.
وعندما تخاطبون الرسولَ الكريم فلا تنادوه باسمه :« يا محمد » مثلاً، أو يا أبا القاسم، وإنما خاطبوه بيا أيها الرسول، واحترموه غاية الاحترام، باللين من القول وخفض الجناح.
والله تعالى يعلم عِلم اليقين الّذين ينصرفون متسلّلين بدون إذن حتى لا يراهم الرسول، فليحذَرِ الذين يخالفون أمرَ الله أن يصيبَهم بلاءٌ من الله أو عذاب أليم.
واعلموا أيها الناسُ أن هذا الكونَ وما فيه مِلْكٌ لله وحده لا شريك له، ويعلم كل
ما تعلمون، وسترجعون إليه فينبئكم بكل ما عملتموه من خير أو شر، وسيجازيكم عليه، واللهُ بكل شيء عليم.
وهكذا ختمت السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله، وتذكيرها بخشيته وتقواه، والحمد لله أولاً وآخرا، ونسأله التمام على خير.
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).