تفسير سورة النّور

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة النور من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها أربع وستون
بسم الله الرحمان الرحيم
اشتملت هذه السورة على أحكام العفاف والستر ؛ وهما قوام الصالح، وبدونهما ينحط الإنسان إلى درك الحيوان. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور ).

﴿ سورة أنزلناها ﴾ أي هذه سورة. والسورة : آيات من القرآن مسرودة، لها بدء وختام ؛ وجمعها سور ؛ مأخوذ من سور البلد. وأصلها المنزلة الرفيعة. أو كل منزلة من البناء، وسميت بها سورة القرآن لرفعتها، أو لأنها درجة إلى غيرها. ﴿ وفرضناها ﴾ أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. أو ألزمناكم العمل بها ؛ من الفرض بمعنى القطع، وأصله : قطع الشيء الصلب والتأثير فيه : وأطلق على الإيجاب القطعي للأحكام مجازا.
﴿ الزانية والزاني... ﴾ أي من زنت ومن زنى ؛ فاجلدوا أيها الحكام كل واحد منهما مائة جلدة ؛ محصنا كان أو غير محصن ١. وقد نسخ الحكم في حق المحصن قطعا بحكم الرجم الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله في زمنه مرارا ؛ فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية. ويكفي في تعيين الناسخ ما ذكر من أمره وفعله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد أجمع عليه الصحابة وسلف الأمة بالأمة. وفي حديث عمر رضي الله عنه – كما في صحيح البخاري - : خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل. ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف.
على أنه قد روي من طرق متعددة أن آية الرجم كانت مكتوبة ؛ فنسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به.
وقد نسخ بحكم الرجم حكم إمساك الزانيات المتزوجات في البيوت – كما ذهب إليه الجمهور في تفسير آية ١٥ من النساء – لإحصانهن. كما نسخ بحكم الجلد حكم الأذى لمن يأتي الفاحشة من الرجال والنساء وهو غير محصن [ آية ١٦ من النساء ص ١٤٣ ]. ﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة ﴾ رحمة ورقة قلب.
﴿ في دين الله ﴾ في إقامة حده الذي شرعه تعالى إذا رفع إليكم ؛ تحملكم على تعطيله بشفاعة أو بغيرها. يقال : رأف به – مثلثة – رأفة ورآفة ورأفا، إذا رحمه.
١ يتحقق الإحصان بالإسلام والحرية والعقل والبلوغ والتزوج بنكاح صحيح والدخول. والتفصيل في كتب الفقه..
﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية... ﴾ نزلت لزجر المؤمنين عن نكاح الزانيات بعد زجرهم عن الزنا. أي أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في نكاح فاسقة خبيثة مثله أو مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك، لا ترغب غالبا في نكاح الصلحاء من الرجال بل تنفر منهم. وإنما ترغب فيمن هو من شكلها من الفسقة والمشركين ؛ لأن المشاكلة علة الألفة، والمخالفة سبب للنفرة. وهو كقولهم : لا يفعل الخير إلا تقي ؛ فإنه جار مجرى الغالب، وقد يفعله من ليس بتقي. وحرم ذلك النكاح على المؤمنين تحريم تنزيه ؛ وعبر عنه بالتحريم مبالغة في الزجر. أو حرم عليهم باعتبار ما في ضمن عقده من المفاسد، كالتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة، والطعن في النسب وغير ذلك ؛ فلا تكون الحرمة راجعة إلى نفس العقد ليكون عقد نكاح الزواني والزانيات باطلا للإجماع على صحته. وأما نكاح المشرك والمشركة، فإن كانت الآية نزلت قبل تحريمه – وقد حرم بعد الحديبية – فالأمر ظاهر، وإن كانت نزلت بعده فتكون حرمته مستندة إلى أدلة أخرى.
واختار العلامة الآلوسي : أن الآية لتقبيح أمر الزاني أشد تقبيح ؛ ببيان أنه بعد أن رضي بالزنا لا يليق به من حيث الزنا أن ينكح العفيفة المؤمنة، وإنما يليق به أن ينكح زانية مثله، أو مشركة
هي أسوأ حالا وأقبح أفعالا منه. وكذلك الزانية بعد أن رضيت بالزنا والتقحب، لا يليق أن ينكحها من حيث إنها زانية إلا من هو على شاكلتها وهو الزاني، أو من هو أسوأ حالا منها وهو المشرك. ولا يشكل على هذا التفسير صحة نكاح الزاني المسلم الزانية المسلمة، وكذلك العفيفة المسلمة، وصحة نكاح الزانية المسلمة الزاني المسلم، وكذلك العفيف المسلم. كما لا يشكل عليه بطلان نكاح المشركة والمشرك ؛ لأن ذلك ليس من اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا بل من حيثية أخرى بعلمها الشارع. وجعل المشار إليه في قوله : " وحرم ذلك على المؤمنين " – الزنا المفهوم مما تقدم، " ويجوز أن يكون نكاح الزانية. ويراد بالتحريم المنع، وبالمؤمنين : الكاملون في الإيمان. ومعنى منعهم من نكاح الزواني : جعل نفوسهم أبية عن الميل إليه ؛ فلا يليق ذلك بهم. والآية على التفسيرين خبر لا نهى، والنكاح فيها بمعنى العقد.
﴿ والذين يرمون المحصنات... ﴾ أي يقذفون النساء العفيفات بالفاحشة، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم اتفاقا. مبتدأ أخبر عنه بثلاث جمل – قوله : " فاجلدوهم "، وقوله :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾، وقوله :﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾. واتفقوا على رجوع الاستثناء الآتي إلى الجملة الأخيرة ؛ فلا يزول عنهم اسم الفسق إلا بالتوبة والإصلاح. وعلى عدم رجوعه إلى الأولى ؛ فيجلد القاذف وإن تاب. واختلفوا في رجوعه إلى الثانية ؛ فعند جمهور الأئمة يرجع إليها أيضا : فلا تقبل شهادتهم في أي شيء أبدا، أي ما داموا مصرين على عدم التوبة، إلا إذا تابوا وحسنت حالتهما وعند أبي حنيفة لا يرجع الاستثناء إليها ؛ فلا تقبل منهم شهادة أبدا، أي طول الحياة وإن تابوا وأصلحوا. والخلاف في هذا مفرع على الخلاف في عود الاستثناء الواقع بعد جمل متعاطفة ؛ هل يعود إلى الكل، أو إلى الأخيرة فقط. وتفصيل الأدلة في الفقه والأصول.
﴿ أن لعنة الله عليه ﴾ أي حالة عليه. واللعن : الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وفعله كمنع ؛ ومنه الملاعنة واللعان بين الزوجين.
﴿ ويدرأ عنها العذاب ﴾ يدفع عنها العذاب الدنيوي وهو الحبس أو الحد ؛ من الدرء وهو الدفع.
﴿ أن غضب الله عليها ﴾ خص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها ؛ لأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن، فربما يتجرأن على التفوه به لسقوط وقعه على قلوبهن بخلاف غضبه تعالى.
﴿ إن الذين جاءوا بالإفك ﴾ بعد أن بين الله تعالى قبح الزنا وحدّه، وحكم قذف المحصنات وحده، ذكر في ست عشرة آية قصة الإفك على الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتوعد الذي تولى كبره بالعذاب العظيم، وبرأها الله مما افتروه. والإفك : الكذب. يقال : أفك – كضرب وعلم – أفكا وإفكا وأفكا، أي كذب. وكانت القصة سنة ست في غزوة بني المصطلق بعد نزول آية الحجاب. ﴿ عصبة منكم ﴾ جماعة منكم. والعصبة : العشرة فما زاد إلى الأربعين [ آية ٨ يوسف ص ٣٧٩ ]. ﴿ والذي تولى كبره ﴾ أي تحمل معظمه وقام بإشاعته وهو رئيس المنافقين : عبد الله بن أبي بن سلول.
﴿ لولا إذ سمعتموه ﴾ لولا : حرف تحضيض بمعنى هلا. والخطاب للمؤمنين دون من تولى كبره منهم. وقد زجروا بتسعة زواجر، آخرها في آية ٢١
﴿ فيما أفضتم فيه ﴾ أي بسبب ما خضم فيه من حديث الإفك. يقال : أفاض في الحديث وخاض فيه وأخذ فيه واندفع، بمعنى. وأصله من قولهم أفاض الإناء، إذا ملأه حتى فاض.
﴿ سبحانك ﴾ أصل معناه التنزيه لله من كل نقص، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه [ آية ٣٢ البقرة ص ٢٤ ]. والمراد هنا : التعجب من عظم هذا الأمر وممن تفوه به. ﴿ هذا بهتان ﴾ أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته. ﴿ عظيم ﴾ لا يقدر قدره لعظمة المبهوت عليه. يقال : بهته يبهته بهتا وبهتا وبهتانا، قال عليه ما لم يفعل. والبهت – بفتح الباء - : الانقطاع والحيرة. وبالضم : الكذب والباطل الذي يتحير منه.
﴿ لا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ طرقه ومسالكه ووساوسه ؛ بالإصغاء إلى حديث الإفك
والخوض فيه. جمع خطوة، وهي في الأصل اسم لما بين القدمين. ﴿ ما زكى منكم من أحد أبدا ﴾ أي ما طهر من دنس هذا الذنب أحد منكم إلى آخر الدهر.
﴿ ولا يأتل أولو الفضل... ﴾ لا يحلف أولو الزيادة في الدين والسعة والمال منكم على عدم الإحسان لمن هم موضع له. نزلت في الصديق – رضي الله عنه – حين حلف ألا ينفق على مسطح – وهو من ذوي رحمه – بعد أن خاض مع الخائضين في حديث الإفك، ونزل القرآن ببراءة الصديقة. يقال : آلى وائتلى يأتلي، أي حلف ؛ من الألّية وهي اليمين، وجمعها ألايا. ﴿ أن يؤتوا ﴾ أي كراهة أن يؤتوا.
﴿ المحصنات ﴾ العفائف، وكذلك المحصنون.
﴿ دينهم الحق ﴾ جزائهم الثابت عليهم ؛ أي المقطوع بحصوله لهم.
﴿ الخبيثات للخبيثين... ﴾ تقرير للسنة الإلهية فيما بين الناس من إلف الشكل لشكله، وانجذاب كل قبيل إلى قبيله. أي الخبيثات من النساء مختصات بالخبيثين من الرجال والخبيثون منهم مختصون بالخبيثات منهن. وإذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين تبين كون الصديقة
من أطيب الطيبات بالضرورة، واتضح بطلان ما رميت به افتراء ؛ كما قال تعالى :﴿ أولئك مبرءون مما يقولون ﴾ والإشارة إلى أهل بيت النبوة رجالا ونساء، وتدخل فيهم الصديقة دخولا أوليا بقرينة سياق الآية. أي أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة. وحسب عائشة – رضي الله عنها – فضلا تبرئة الله لها في هذه الآية.
﴿ يأيها الذين آمنوا... ﴾ بعد أن بين الله الزواجر عن الزنا وعن قذف العفائف به، شرع في تفصيل الزواجر عما عسى أن يؤدى إلى أحدهما من مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات، وتعليم الناس الآداب القويمة ؛ فنهاهم أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأذنوا ممن يملك الإذن بالدخول فيها، ويسلموا على أهلها ولو كانوا من محارمهم. والأكثرون على تقديم السلام على الاستئذان. ﴿ تستأنسوا ﴾ أي تستأذنوا ؛ منا لاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف ؛ من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. والمستأنس : مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أولا.
﴿ ليس عليكم جناح ﴾ هو بمنزلة الاستثناء من قوله : " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم " ؛ أي ليس عليكم إثم في أن تدخلوا بغير استئذان بيوتا غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة فقط، بل معدة لينتفع بها من يحتاج إليها من غير أن يتخذها مسكنا ؛ كالرباطات والفنادق والحوانيت والحمامات وغيرها حين تكون بهذه الحالة. ﴿ فيها متاع لكم ﴾ أي فيها حق تمتع لكم ؛ كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال، ونحو ذلك مما يليق بحال هذه البيوت وداخليها ؛ فلا بأس من دخولها بغير استئذان ممن دخلها قبل، أو ممن يتولى أمرها.
﴿ يغضوا من أبصارهم ﴾ يكفوا من نظرهم إلى ما يحرم النظر إليه. والغض : إطباق الجفن على الجفن بحيث يمنع الرؤية. يقال : غض الرجل صوته وطرفه، ومن صوته ومن طرفه غضا، خفضه ؛ ومنه : غض من فلان غضا وغضاضة، إذا انتقصه. وكذلك القول في " يغضضن من أبصارهن ".
و " يغضوا " جواب " قل " لتضمنه معنى حرف الشرط ؛ كأنه قيل : إن تقل لهم غضوا يغضوا.
﴿ يحفظوا فروجهم ﴾ عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة والكشف والإبداء.
﴿ ويحفظن فروجهن ﴾ عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق والإبداء.
﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ الزينة : ما يتزين به ؛ كالخلخال والخضاب في الرجل، والسوار في المعصم، والقرط في الأذن، والقلادة في العنق، والوشاح في الصدر، والإكليل في الرأس، ونحو ذلك.
فلا يجوز للمرأة إظهارها حال ملابستها لمواضعها، ولا يجوز للأجنبي النظر إليها كذلك ؛ والنهي عن إظهار الزينة حال ملابستها لمواضعها يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب. ﴿ إلا ما ظهر منها ﴾ أي ما جرت العادة بظهوره ؛ كالخاتم في الإصبع، والكحل في العين، والخضاب في الكف، ونحو ذلك، فإنه يجوز للمرأة إظهاره. وقيل : المراد بالزينة مواضعها من البدن ؛ فيحرم إظهارها، وكذلك النظر إليها ؛ إلا ما استثنى لدفع الحرج وهو الوجه والكفان، أو هما والقدمان.
﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن ﴾ بيان لكيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهي عن إبدائها ؛ أي وليلقين خمرهن على جيوبهن. والخمر : جمع خمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، وتسمى المقنعة. وأصله من الخمر وهو الستر. والجيوب : جمع جيب، وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد ؛ وأصله من الجيب بمعنى القطع. تقول : جبت القميص أجوبه وأجيبه، إذا قوّرت جيبه. والمراد بالجيب هنا : محله وهو العنق. أمر النساء بستر شعورهن وأعناقهن ونحورهن وصدورهن بخمرهن عن الأجانب ؛ لئلا يرى منهن شيء من ذلك.
﴿ ولا يبدين زينتهن... ﴾ نهي النساء في هذه الآية عن إبداء مواضع الزينة الخفية لكل أحد ؛
إلا من استثنى فيها، وهم اثنا عشر نوعا : الأزواج ؛ لأنهم المقصودون بالزينة، ولأن كل بدن الزوجة حلال لهم. والمحارم السبعة المذكورون ؛ لاحتياج النساء لمخالطتهم، وأمن الفتنة من قبلهم لما ركز في الطباع من النفرة من مماسة القرائب، ويلحق لهم الأعمام والأخوال والمحارم من الرضاع. والتاسع – ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ أو نسائهن ﴾ أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة من الحرائر، مسلمات كن أو غير مسلمات ؛ كما اختاره الإمام الرازي. وما روي عن السلف من منع تكشف المسلمات للكافرات محمول على الاستحباب. والعاشر – قوله تعالى :﴿ أو ما ملكت أيمانهن ﴾ أي من الإماء. وأما العبيد فهم كالأجانب ؛ لأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم، والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة. والحادي عشر – قوله تعالى :﴿ أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال ﴾ وهم الرجال الذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن ؛ بحيث لا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ولا يصفونهن للأجانب.
والإربة : الحاجة. يقال : أرب الرجل إلى الشيء يأرب أربا وإربة ومأربة، إذا احتاج إليه. والثاني عشر – قوله تعالى :﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ﴾ أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها ؛ من قولهم : ظهر على الشيء، إذا اطلع عليه. أو الذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع ؛ من قولهم : ظهر على فلان، إذا قوي عليه وغلبه.
﴿ ولا يضربن بأرجلهن ﴾ نهي النساء عن أن يضربن بأرجلهن في الأرض ليسمع صوت خلاخلهن من يسمعه من الرجال ؛ فيدعوهن ذلك إلى التطلع والميل إليهن، وذلك سدا لذريعة الفساد.
وفي حكمه إبداء ما يخفين من زينتهن بأي وسيلة كانت. وأما صوتهن فليس بعورة ؛ كما في معتبرات كتب الشافعية، فلا يحرم سماعه ؛ إلا أن خشيت منه فتنة أو التذاذ. وذهب الحنفية إلى أنه عورة.
﴿ وأنكحوا الأيامى... ﴾ جمع أيم، وهو كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها، بكرا أو ثيبا ؛ والأمر للأولياء والسادة وهو للندب عند الجمهور. يقال : آم يئيم فهو أيم ؛ أي
زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح وخير من عبيدكم وإمائكم. والمراد من الإنكاح : المعاونة والتوسط في النكاح والتمكين منه.
﴿ والذين يبتغون الكتاب ﴾ أي يطلبون المكاتبة منكم ليصيروا أحرار. وهي معاقدة بين السيد وعبده، يقول فيها السيد لعبده : إذا أديت إلى كذا من المال فأنت حر لوجه الله، ويقبل العبد ذلك ؛ فإذا أدى ما شرط عتق. ﴿ فكاتبوهم ﴾ أي يندب لكم مكاتبتهم كما طلبوا ؛ مسارعة إلى تحريرهم﴿ إن علمتم فيهم خيرا ﴾ أي أمانة وقدرة على الكسب. ﴿ وآتوهم من مال الله... ﴾ أمر للموالى بإعانة المكاتبين بشيء مما أعطاهم الله على سبيل الاستحباب. ﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء... ﴾ الفتيات : الإماء ؛ وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقا. والبغاء : زنى المرأة خاصة. مصدر بغت المرأة تبغي بغاء : فجرت، وهي بغي وهن بغايا. والتحصن : التصون عن الزنا والتعفف عنه. وكان بعض الجاهلين يكره إماءه على الزنا ابتغاء كسب المال أو الولد.
وكان لرأس المنافقين جوار يكرههن عليه ؛ فاشتكى بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراهه لهن على الزنا ؛ وهن يأبينه ويستعففن عنه في الإسلام ؛ فنزلت الآية بالنهي عن إكراههن على الزنا. ﴿ إن أردنا تحصنا ﴾ تعففا عنه، وليست إرادتهن التحصن شرطا في النهي عن الإكراه، ولكن لما كان سبب النزول ما ذكر خرج النهي على صفة السبب ؛ وفيه من التشنيع عليهم والتقبيح لصنيعهم ما فيه. كأنه قيل : كيف يقع منكم إكراههن على البغاء وهن إماء يردن العفة ويأبين الفاحشة ؟ ! ألستم أحق بحملهن على العفة إذا أردن البغاء. وقيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب ؛ لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن.
﴿ ومن يكرههن ﴾ على البغاء﴿ فإن الله من بعد إكراههن ﴾ أن كونهن مكرهات عليه﴿ غفور رحيم ﴾ لهن لا لهم.
﴿ الله نور السموات والأرض ﴾ أي الله نور العالم كله، علويه وسفليه ؛ بمعنى منوره بالآيات التكوينية والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته، والهادية إلى الحق وإلى ما به صلاح المعاش والمعاد. أو الله موجد العالم كله. أو مدبر الأمر فيه وحده. أو منوره بالشمس والقمر والكواكب ؛ فقد جعل الشمس ضياء والقمر نورا. والضياء والنور قد شاع إطلاق كل واحد منهما على الآخر ؛ وناط بهذا النور مصالح خلقه ومعايشهم، حتى أبصروا وعملوا، ولولاه لظلوا في عماء وظلمة وخمود. ﴿ مثل نوره ﴾ أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة﴿ كمشكاة ﴾ كصفة مشكاة وهي الكوة غير النافذة ؛ وهي أجمع للضوء الذي يكون فيها من مصباح أو غيره. ﴿ فيها مصباح ﴾ سراج ضخم ثاقب. ﴿ المصباح في زجاجة ﴾ في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر﴿ كوكب دري ﴾ شديد الإنارة ؛ نسبة إلى الدر في صفائه وإشراقه وحسنه. ﴿ يوقد من شجرة ﴾ أي من زيت شجرة﴿ مباركة ﴾ كثيرة المنافع. وهو إدام ودهام، ودباغ ووقود، وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة﴿ لا شرقية ولا غربية ﴾ أي ليست شرقية فقط، ولا غربية فقط ؛ بل هي شرقية غربية، ضاحية للشمس طول النهار، تصيبها عند طلوعها وعند غروبها ؛ وذلك أحسن لزيتها. ﴿ يكاد زيتها ﴾ من شدة صفائه وإنارته﴿ يضيء ولو لم تمسسه نار ﴾ وقد شبه في الآية نور الله بمعنى أدلته وآياته سبحانه – من حيث دلالتها على الحق والهدى، وعلى ما ينفع الخلق في الحياتين – بنور المشكاة التي فيها زجاجة صافية، وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية في الصفاء والرقة والإشراق، حتى يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار. ﴿ نور على نور ﴾ أي هو نور عظيم على نور. فنور الله متضاعف لا حد
لتضاعفه ؛ لا كالنور الممثل به، فإن لتضاعفه حدا معينا محدودا مهما كان إشراقه وإضاءته. ﴿ يهدي الله لنوره ﴾ العظيم الشأن﴿ من شاء ﴾ هدايته من عباده، بتوفيقهم لفهم آياته الدالة على صفاته وحكمته، وفهم كتبه وشرائعه، وأسرار مخلوقاته الدالة على الخير وسعادة الدارين.
﴿ في بيوت ﴾ متعلق ب " يسبح " والمراد بها المساجد كلها﴿ أذن الله أن ترفع ﴾ أي أمر الله أن يعظم قدرها بصيانتها عن دخول الجنب والحائض والنفساء، وعن تلويثها وإدخال نجاسات فيها، وعن كل ما فيه إثم ومعصية أو امتهان لها.
﴿ يسبح له فيها... ﴾ ينزهه تعالى فيها، ويقدسه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله ؛ فلا يذكر فيها إلا بما هو شأنه عز وجل. وقيل : المراد من التسبيح الصلاة. وفاعل " يسبح " قوله : " رجال ". و " فيها " تأكيد لقوله : " في بيوت ". ﴿ بالغدو والآصال ﴾ [ آية ١٥ الرعد ص ٤٠٢ ].
﴿ بغير حساب ﴾ [ آية ٢١٢ البقرة ٦٩ ].
﴿ والذين كفروا ﴾ بيان لحال الكافرين بضرب مثلين لأعمالهم، بعد بيان حال المؤمنين ومآل أمرهم. ﴿ أعمالهم كسراب ﴾ هو الشعاع الذي يرى وسط النهار عند اشتداد الحر في الفلوات الواسعة ؛ كأنه ماء سارب وهو ليس بشيء، ويسمى الآل. ﴿ بقيعة ﴾ جمع قاع، وهو ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يتراءى السراب. ﴿ يحسبه الظمآن ﴾ الذي اشتدت حاجته إلى الماء﴿ ماء حتى جاءه لم يجده شيئا ﴾ مما حسبه وظنه. شبه ما يعمله الكافر من أنواع البر في الدنيا التي يظنها نافعة له عند الله ومنجيا له من عقابه – من حيث حبوطها ومحو أثرها في الآخرة، وخيبة
أمله فيها – بسراب يراه الظمآن في الفلاة وهو أشد ما يكون حاجة إلى الماء فيحسبه ماء ؛ فيتيه فلا يجده شيئا فيخيب أمله ويتحسر. ﴿ ووجد الله عنده ﴾ أي وجد حكمه تعالى وقضاءه﴿ فوفاه حسابه ﴾ أعطاه وافيا كاملا جزاء كفره ؛ أما أجورهم عليها فيوفونها في الدنيا فقط.
﴿ أو كظلمات ﴾ أي أعمالهم الحسنة في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق كظلمات﴿ في بحر لجي ﴾ عميق كثير الماء﴿ يغشاه ﴾ يغلوه و يغطيه﴿ موج من فوقه موج ﴾ آخر﴿ من فوقه ﴾ أي من فوق هذا الموج الأعلى﴿ سحاب ﴾ قاتم. ﴿ ظلمات ﴾ هذه ظلمات متراكمة﴿ بعضها فوق بعض ﴾ ظلمة السحاب فوق ظلمة الموج فوق ظلمة البحر. ﴿ إذا أخرج يده ﴾ من ابتلي بها﴿ لم يكد يراها ﴾ من تراكم الظلمات ؛ أي لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها. وقيل : " أو " للتنويع، فشبهت أعمالهم الحسنة بالسراب، والسيئة بالظلمات. ﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ أي من لم يشأ سبحانه أن يهديه لنوره في الدنيا فما له من هداية فيها من أحد.
﴿ ألم تر أن الله يسبح له... ﴾ أي ألم تعلم، بمعنى قد علمت علما يقينا بالوحي أو بالمكاشفة أو الاستدلال : أن جميع الكائنات من العقلاء وغيرهم، تنزهه في ذاته وصفاته وأفعاله، عن كل مالا يليق بشأنه العظيم ؛ حتى الطير صافات – بدلالتها بلسان الحال على وجوده وكمال قدرته، وأنه ليس كمثله شيء. " والطير " معطوف على " من ". ﴿ صافات ﴾ باسطات أجنحتها في الهواء ؛ من الصف وهو جعل الشيء على خط مستقيم. وخصت هذه الحالة بالذكر لكونها أغرب أحوالها ؛ فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ولا استقرار على الأرض من أبدع صنع الله تعالى. وفي الآية
تقريع للكفار حيث جعلوا من الجمادات التي من شأنها التسبيح لله تعالى شركاء له يعبدونها كعبادته.
﴿ ألم تر أن الله ﴾ دليل من الآثار العلوية على كمال قدرته تعالى وانفراده بالخلق والتدبير. ﴿ يزجى سحابا ﴾ يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد. يقال : زجى الشيء يزجيه تزجية، دفعه برفق ؛ كزجاه وأزجاه. ﴿ ثم يجعله ركاما ﴾ متراكما بعضه فوق بعض. يقال : ركم الشيء يركمه ركما، إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وتراكم وارتكم الشيء : اجتمع. والركام : الرمل المتراكم. ﴿ الودق ﴾ أي المطر. وهو في الأصل مصدر ودق السحاب يدق ودقا، إذا نزل منه المطر. ﴿ خلاله ﴾ أي فتوقه ومخارجه جمع خلل ؛ كجبال وجبل. ﴿ سنا برقه ﴾ أي شدة ضوء برق السحاب ولمعانه. يقال : سنا يسنوسنا، أي أضاء.
﴿ يقلب الله الليل والنهار ﴾ دليل آخر زمني إثر الدليل العلوي.
﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾ دليل ثالث من عجائب خلق الحيوان وبديع صنعته.
﴿ ويقولون آمنا... ﴾ نزلت في المنافقين.
﴿ يأتوا إليه مذعنين ﴾ منقادين لحكمه طائعين. يقال : أذعن لفلان، انقاد ولم يستعص، وأسرع في طاعته.
﴿ أفي قلوبهم مرض... ﴾ ترديد لأسباب إعراضهم عن حكمه صلى الله عليه وسلم ؛ أي أسبب إعراضهم عن التحاكم إليه أنهم مرض القلوب بالنفاق ! أم سببه أنهم ارتابوا في نبوته مع ظهور حقيتها ! أم سببه أنهم يخافون أن يحيف الله والرسول عليهم ! ثم أضرب عن سببية هذه الثلاثة بأنه ليس شيء من ذلك سببا، وإنما سببه أنهم يريدون أن يظلموا صاحب الحق، ولا يتأتى لهم ذلك مع انقيادهم لحكمه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا يحكم إلا بالحق. ﴿ يحيف ﴾ يجور ؛ من الحيف وهو الميل إلى أحد الجانبين. يقال : حاف في قضائه، مال. وتحيفت الشيء : أخذته من جوانبه.
﴿ جهد أيمانهم ﴾ أي مجتهدين فيها [ آية ٥٣ المائدة ص ١٩٦ ].
﴿ طاعة معروفة ﴾ أي هذه طاعة باللسان لا بالجنان، معروفة عنكم وهي دأبكم ؛ فإنكم تكذبون وتحلفون وتقولون ما لا تفعلون.
﴿ يأيها الذين آمنوا... ﴾ أمر الله المؤمنين أن يمنعوا مماليكهم – عبيدا وإماء – وصبيانهم الذين لم يبلغوا الحلم – ذكورا وإناثا – من الدخول عليهم في مضاجعهم بغير إذن في هذه الأوقات الثلاثة ؛ خشية أن يطلعوا على عوراتهم. وخصت بالذكر لكونها الأوقات التي تغلب فيها الخلوة بالأهل والتجرد من الثياب. والأمر للاستحباب. وقيل للوجوب. و﴿ الحلم ﴾ بضمتين : الاحتلام المعروف في النوم. ﴿ ثلاث مرات ﴾ أي في ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ؛ منصوب على الظرفية للاستئذان. ﴿ تضعون ثيابكم ﴾ تخلعونها وتطرحونها. ﴿ ثلاث عورات لكم ﴾ أي هي أوقات ثلاث عورات كائنة لكم. جمع عورة، وهي في الأصل شق في الشيء، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره، وهو السوءة.
﴿ والقواعد من النساء... ﴾ أي العجائز اللواتي قعدن عن الولد أو عن الحيض، أو عن الاستمتاع لكبرهن، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج. جمع قاعد، بغير تاء لاختصاصها بالنساء، ولولاه لوجبت
التاء ؛ كما في قاعدة من القعود بمعنى الجلوس. ﴿ فليس عليهن جناح ﴾ حرج أو إثم﴿ أن يضعن ثيابهم ﴾ ينزعن عنهن ثيابهن الظاهرة التي لا يفضي نزعها إلى كشف العورة، كالقناع الذي يكون فوق الخمار، والجلباب والرداء الذي يكون فوق الثياب ؛ حال كونهن﴿ غير متبرجات بزينة ﴾ أي غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائها في قوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ أو غير قاصدات بالوضع التبرج، وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. رخص لهن في هذا التخفف من التستر دفعا للحرج عنهن ؛ على أن استعفافهن عنه خير لهن.
﴿ ليس على الأعمى حرج... ﴾ أي إثم. والحرج في الأصل : مجتمع الشجر، ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم. أي لا إثم على هذه الطوائف الثلاث في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه لما قام لهم من الأعذار. ولا إثم على من ذكروا بعدهم في الآية في الأكل من البيوت المذكورة. ﴿ ولا على أنفسكم ﴾ حرج﴿ أن تأكلوا من بيوتكم ﴾ أي من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ؛ فيدخل فيها بيوت الأولاد. ﴿ أو ما ملكتم مفاتحه ﴾ أي أو البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها ؛ كما إذا كنتم وكلاء عنهم أو خازنين عندهم ؛ فيباح لكم الأكل منها بالمعروف. ومفاتح جمع مفتح، وهو آلة الفتح. وملكها : كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه. ﴿ أو صديقكم ﴾ أي أو بيوت أصدقائكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة ؛ فيجوز الأكل من بيوت الأحد عشر صنفا المذكورة وإن لم يحضروا، إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ، أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة ؛ كما قاله الجلال.
﴿ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا ﴾ مجتمعين﴿ أو أشتاتا ﴾ متفرقين. وقد كان بعضهم يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلا ؛ كبنى ليث بن عمرو بن كنانة، فنزلت الآية. جمع شت. يقال : شت الأمر يشت شتا وشتاتا، تفرق. وأمر شت : متفرق.
﴿ فإذا دخلتم بيوتا ﴾ من هذه البيوت التي رخص لكم في الدخول فيها﴿ فسلموا على أنفسكم ﴾ أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم﴿ تحية من عند الله ﴾ أي حيوهم تحية مشروعة من لدنه تعالى﴿ طيبة ﴾ تطيب بها نفوسهم وتطمئن. ومعنى التحية في الأصل : أن تقول : حياك الله ! أي أعطاك الحياة ؛ ثم عمم لكل دعاء.
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ﴾ نزلت في المنافقين الذين كان يعرض بهم النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه وخطبه، وكانوا إذا جلسوا في مجلسه ينظرون إلى الصحابة، فإن رأوهم غافلين عنهم خرجوا خفية واستتار من غير استئذان. فأخبر الله تعالى أن المؤمنين الكاملين إذا كانوا مع نبيهم في طاعة يجتمعون عليها – كالجمعة والجماعة والعيدين والجهاد – أو تشاور في أمر جليل ؛ لم ينصرفوا عنه حتى يستأذنوه ويأذن لهم، وجعل ذلك علامة على كمال الإيمان، وفارقا بين الإخلاص والنفاق. وهذا الأدب الإسلامي من الآداب العامة في أمثال هذه المجتمعات.
﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول... ﴾ أي لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة والسلام إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال، وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه بغير استئذان ؛ فإن ذلك من المحرمات. وقيل : المعنى لا تجعلوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه أو كنيته. فلا تقولوا : يا محمد، ولا يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير وقولوا : يا رسول الله، يا نبي الله ؛ مع تواضع وخفض صوت. قال السيوطي : في هذا النهي تحريم ندائه صلى الله عليه وسلم باسمه ؛ والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته إلى الآن اه. فليتق الله وليتأدب بالأدب القويم أقوام في هذا العصر درجوا على ذكر اسمه الشريف مجردا دون وصفه بالرسالة أو النبوة، ودون الصلاة والسلام عليه في كتبهم وخطبهم وأحاديثهم ؛ ومنهم من يتسم بسمة العلماء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
﴿ وقد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ﴾ أي يخرجون من الجمعة قليلا قليلا في خفية متلاوذين، يتستر بعضهم ببعض حتى يخرجوا جميعا ؛ وكان المنافقون يفعلون ذلك في خطبه صلى الله عليه وسلم. والتسلل والانسلال : الخروج والانطلاق في استخفاء. واللواذ : من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك. أو هو الروغان من شيء إلى شيء في خفية.
﴿ يخالفون عن أمره ﴾ يعرضون عنه أو يصدون. والمخالفة : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله. والله أعلم.
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).