تفسير سورة النّور

تفسير الإمام مالك

تفسير سورة سورة النور من كتاب تفسير الإمام مالك
لمؤلفه مالك بن أنس . المتوفي سنة 179 هـ

الآية الأول : قوله تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ [ النور : ٢ ].
٦٧٦- ابن كثير : قال عبد الرزاق : حدثني ابن وهب عن الإمام مالك في قوله :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ قال : الطائفة أربعة نفر فصاعدا. ١
١ - تفسير القرآن العظيم: ٣/٢٦٣. وينظر: أحكام القرآن للجصاص، والجامع: ١٢/١٦٦، وروح المعاني: م٦ ج١٨/٨٣..
الآية الثانية : قوله تعالى :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ [ النور : ٣ ].
٦٧٧- محمد بن الحسن : أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، في قول الله عز وجل :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ﴾ قال : سمعته يقول : إنها قد نسخت بالآية التي بعدها، ثم قرأ :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ﴾١. ٢
١ - سورة النور، الآية: ٣٢..
٢ - الموطأ برواية محمد بن الحسن: ٣٤٤. حديث رقم ١٠٠٤ باب التفسير. وأخرجه ابن العربي في أحكام القرآن: ٣/١٣٣١-١٣٣٢. وعلق عليه قائلا: وقد بينا في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ من علوم القرآن أن هذا ليس بنسخ. وإنما هو تخصيص عام وبيان لمحتمل كما تقتضيه الألفاظ وتوجيه الأصول، من فسر النكاح بالوطء وبالعقد وتركيب المعنى عليه. والله أعلم..
الآية الثالثة : قوله تعالى :﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾ [ النور : ٤ ].
٦٧٨- يحيى : عن مالك، أنه بلغه عن سليمان بن يسار وغيره، أنهم سئلوا : عن رجل جلد الحد١ أتجوز شهادته ؟ فقالوا : نعم. إذا ظهرت منه التوبة. ٢
وقال مالك، أنه سمع ابن شهاب يسأل عن ذلك. فقال مثل ما قال سليمان بن يسار.
قال مالك : وذلك الأمر عندنا. وذلك لقوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون* إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾٣ [ النور : ٤-٥ ] قال مالك : فالأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح. تجوز شهادته. وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك.
٦٧٩- ابن أبي زيد قال مالك : والإحصان : إحصان عفاف في الإسلام بالحرية، وإحصان نكاح وقول الله تعالى :﴿ يرمون المحصنات ثم لم يأتوا ﴾ فهذا إحصان في الحرائر المسلمات، فمن قذفهن من مسلم أو ذمي ذكر أو أنثى جلد ثمانين جلدة، وعلى العبد أربعين، ذكرا أو أنثى مسلما أو ذميا، ولا يحصن إلا وطء صحيح. ٤
١ - الحد: في اللغة المنع، وفي الشريعة: هو عقوبة مقدرة وجبت حقا لله عز وجل. أنيس الفقهاء /١٧٣. وينظر: التعريفات /٨٣..
٢ - الموطأ: ٢/٧٢١. كتاب الأقضية. باب القضاء في شهادة الحدود. وقال الألوسي في روح المعاني: "ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله، إن للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال: إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه" م٦ ج ١٨/٩٦..
٣ - سورة النور، الآية: ٤، ٥..
٤ - النوادر والزيادات: ١٤/٢٣٤..
الآية الرابعة : قوله تعالى :﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهادة إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين* والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين* ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين* والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ﴾ [ النور : ٦-٩ ].
٦٨٠- يحيى : قال مالك : قال الله تبارك وتعالى :﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم لكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشاهدة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين* والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين* ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين* والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ﴾. ١
قال مالك : السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا، وإن أكذب نفسه جلد الحد. وألحق به الولد. ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة عندنا، التي لا شك فيها، ولا اختلاف.
قال مالك : والأمة المسلمة، والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه :﴿ والذين يرمون أزواجهم ﴾ فهن من الأزواج. وعلى هذا الأمر عندنا.
قال مالك : في الرجل يلاعن امرأته فينزع، ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم يلتعن في الخامسة : إنه إذا نزع قبل أن يلتعن جلد الحد. ولم يفرق بينهما.
الآية الخامسة : قوله تعالى :﴿ يعظكم الله أن تعودوا لمثله ﴾ [ النور : ١٧ ].
٦٨١- القاضي عياض : روي عن مالك، من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن. ٢
وقال ابن شعبان عن مالك : لأن الله يقول :﴿ يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ النور : ١٧ ].
١ - الموطأ: ٢/٥٦٧-٥٦٨-٥٦٩. كتاب الطلاق، باب ما جاء في اللعان..
٢ - الشفا: ٢/٣٠٩. "وقال القاضي عياض أيضا: قوله تعالى: ﴿ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك﴾ [النور: ١٦]. سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من السوء وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة: ٢/٣٠٩"..
الآية السادسة : قوله تعالى :﴿ لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ﴾ [ النور : ٢٧ ].
٦٨٢- ابن كثير : قال مالك عن زيد بن أسلم : هي بيوت الشعر. ١
قوله تعالى :﴿ حتى تستأنسوا ﴾ [ النور : ٢٧ ].
٦٨٣- ابن العربي : روى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك : أن الاستئناس هو : الاستئذان. وروى مطرف، عن مالك عن زيد بن أسلم أنه استأذن على ابن عمر فقال : أألج ؟ فأذن له ابن عمر، قال زيد : فلما قضيت حاجتي أقبل علي ابن عمر فقال ما لك. واستئذان العرب إذا استأذنت فقل : السلام عليكم، فإذا رد عليك السلام فقل : أأدخل ؟ فإن أذن لك فادخل. ٢
قال ابن القاسم : قال مالك : ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليها.
٦٨٤- ابن رشد : قال ابن القاسم : " سألت مالكا عن الاستئناس ما هو ؟ فقال : التسليم. قلت : فالرجل يؤذن له في مثل دار فيدخل في الدار بإذن، فإذا جاء إلى باب البيت أترى أن يستأذن ؟ قال : ليس ذلك عليه إذا أذن له مرة. وقال : الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع، قلت : ما هذا ؟ قال : تسلم ثلاث مرات فإن أذن لك وإلا فانصرف ". ٣
٦٨٥- يحيى : عن مالك عن صفوان٤ بن سليم، عن عطاء٥ بن يسار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال : يا رسول الله أستأذن على أمي ؟ فقال : " نعم " قال الرجل : إني معها في البيت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استأذن عليها "، فقال الرجل : إني خادمها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( استأذن عليها. أتحب أن تراها عريانة ؟ ) فقال : لا. قال :( فاستأذن عليها ). ٦
١ - تفسير القرآن العظيم: ٣/٢٨٢..
٢ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٣٥٩-١٣٦٠. ينظر: الجامع: ١٢/ ٢٥٠. وقال ابن رشد في المقدمات "فالاستيناس هو الاستئذان في الصحيح من الأقوال، لأنه استفعال من الأنس" ٣/٤٤٤..
٣ - البيان والتحصيل: ١٨/ ٤٦٩. قال محمد بن رشد معلقا على تفسير مالك: "وهو الصحيح الذي ذهب إليه المفسرون"..
٤ -صفوان بن سليم: "الزهري مولاهم أبو عبد الله المدني. قال أحمد ثقة من خيار عباد الله الصالحين. قال أبو عبيدة مات سنة اثنتين وثلاثين مائة" خلاصة تهذيب الكمال: ١٤٧..
٥ -عطاء بن يسار: "الهلالي أبو محمد المدني قال النسائي ثقة. قال الهيثم بن عدي توفي سنة سبع وتسعين. وقال عمرو بن علي سنة ثلاثة ومائة" الخلاصة: ١٢٦..
٦ -الموطأ: ٢/ ٩٦٣. كتاب الاستئذان، باب الاستئذان..
الآية السابعة : قوله تعالى :﴿ فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ﴾ [ النور : ٣٣ ].
٦٨٦- يحيى : قال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك. ولم أسمع أن أحدا من الأئمة أكره رجلا على أن يكاتب عبده. وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سئل عن ذلك فقيل له : إن الله تبارك وتعالى يقول :﴿ فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ﴾ يتلو هاتين الآيتين :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾١ [ المائدة : ٢ ] ﴿ فإذا قضيت الصلوات فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾٢ [ الجمعة : ١٠ ]. ٣
قال مالك : وإنما ذلك أمر أذن الله عز وجل فيه للناس. وليس بواجب عليهم.
٦٨٧- يحيى : عن مالك أنه بلغه، أن عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار٤، كانا يقولان : المكاتب، عبد ما بقي عليه من كتابته شيء. ٥
قال مالك : وهو رأيي.
قوله تعالى :﴿ إن علمتم فيهم خيرا ﴾ [ النور : ٣٣ ].
٦٨٨- ابن رشد : قال مالك : القوة على الأداء. ٦
٦٨٩- ابن العربي : قال مالك : إنه القدرة على السعي والاكتساب. ٧
قوله تعالى :﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾ [ النور : ٣٣ ].
٦٩٠- يحيى : قال مالك : وسمعت بعض أهل العلم يقول في قول الله تبارك وتعالى :﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾. إن ذلك أن يكاتب الرجل غلامه، ثم يضع عنه من آخر كتابته شيئا مسمى. ٨
قال مالك : فهذا الذي سمعت من أهل العلم، وأدركت عمل الناس على ذلك عندنا.
قال مالك : وقد بلغني أن عبد الله بن عمر كاتب غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم ثم وضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم.
٦٩١- ابن العربي : قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : وسألته عما يترك للمكاتب من كتابته الذي يكاتب عليها. متى يترك، وكيف يكتب ؟ فقال مالك : يكتب في كتابه أنه كاتب على كذا. وقد وضع عنه من أجر كتابته كذا٩. ١٠
قوله تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ﴾ [ النور : ٣٣ ].
٦٩٢- ابن العربي : قال مالك عن الزهري : أنه كان لعبد الله بن أبي١١ جارية يقال لها معاذة، وكان رجل من قريش أسر يوم بدر فكان عنده، وكان القرشي يريد الجارية على نفسها، وكانت الجارية تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبي يضربها على امتناعها من القرشي، رجاء أن تحمل منه، فيطلب فداء ولده، فأنزل الله الآية. ١٢
١ - سورة المائدة، الآية: ٢..
٢ -سورة الجمعة: الآية: ١٠..
٣ - الموطأ: ٢/٧٨٨. كتاب المكاتب، باب القضاء في المكاتب. قال الباجي في المنتقى عند شرح هذا الحديث: "أراد أن هذا اللفظ يحتمل غير الوجوب وأنه ليس كل ما ورد بهذه الصيغة واجبا، فقد يكون منه المنذوب إليه والمباح وغير ذلك مما تحتمله هذه الصيغة من المعاني" ٧/٥. قال ابن رشد في المقدمات: "والذي يدل على أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ولو كان فرضا لكان محدودا، لأن الفرض لا يكون غير محدد بكتاب أو سنة" ٣/١٧٥..
٤ - سليمان بن يسار: "مولى ميمونة المدني أحد الفقهاء السبعة قال أبو زرعة ثقة مأمون، وقال ابن سعد كان ثقة عالما رفيعا فقيها. قال الهيثم بن عدي مات سنة مائة وقال خليفة مات سنة أربع وقال ابن سعد والبخاري سنة سبع عن ثلاث وسبعين سنة "الخلاصة ١٣١. ينظر: التاريخ الصغير: ١/٢٣٥..
٥ - الموطأ: ٢/٧٨٧. كتاب المكاتب، باب القضاء في المكاتب..
٦ - البيان والتحصيل: ١٨/١٨٥..
٧ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٣٨٣ وينظر: المحرر: ١١/٣٠١، والجامع: ١٢/٢٤٥، ولباب التأويل: ٥/٧٤..
٨ - الموطأ: ٢/٧٨٨. كتاب المكاتب. باب القضاء في المكاتب. وقال ابن العربي في أحكام القرآن: المسألة التاسعة: قوله تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ فيه قولان: أحدهما: "أنه مال الزكاة: قاله إبراهيم والحسن، ومالك": ٣/١٣٨٤..
٩ - يستفاد من هذا أن الإمام مالك رضي الله عنه كانت له دراية بعلم الوثائق..
١٠ -أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٣٨٥..
١١ -عبد الله بن أبي: أحمد بن جحش الأسدي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. الخلاصة: ١٦١..
١٢ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٣٨٦. وأخرجه النيسابوري في أسباب النزول؛ ٢٢٠، والسيوطي في الدر: ٦/١٩٣- ١٩٤..
الآية الثامنة : قوله تعالى :﴿ من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ﴾ [ النور : ٣٥ ].
٦٩٣- ابن العربي : روى ابن وهب عن مالك١، قال : هو الشام، الشرق من هاهنا والغرب من هاهنا. ٢
١ - وفي القبس: قال المصريون سمعنا مالكا يقول هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر: ٢/١٦٩ كتاب التفسير. قال ابن الأثير في النهاية..
٢ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٣٨٧. وأضاف قائلا: أنها ليست من شجر الشرق دون الغرب ولا من شجر الغرب دون الشرق، لأن الذي يختص بإحدى الجهتين كان أدنى زيتا، وأضعف ضوءا، ولكنها ما بين الشرق والغرب كالشام، لاجتماع الأمرين فيه، وهو قول مالك..
الآية التاسعة : قوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ [ النور : ٥٥ ].
٦٩٤- ابن العربي : قال مالك١ : نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾. ٢
١ - العشاء: بالكسر والمد: "مثل العشى والعشاءات: المغرب، والعتمة. والعشاء بالفتح والمد: الطعام بعينه وهو خلاف الغداء" أنيس الفقهاء /٧٤..
٢ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٣٩٢. ينظر: القبس: ٣/١٠٧٨ كتاب التفسير، والجامع: ١٢/٢٩٧.
وقال أبو بكر الحسين المراغي في كتابه: تحقيق النصرة بتلخيص مصالح دار الهجرة: "ونقل عن يحيى بن سليمان بن نضلة قال: قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك: كقرب قبريهما من قبره بعد وفاتهما، فقال: شفيتني يا مالك" ١٠٠..

الآية العاشرة : قوله تعالى :﴿ ومن بعد صلاة العشاء ﴾ [ النور : ٥٨ ].
٦٩٥- ابن العربي : قال ابن القاسم، قال مالك :﴿ ومن بعد صلاة العشاء ﴾ فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بما سماها به الله، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقل عتمة١ إلا عند خطاب من لا يفهم، وقد قال حسان بن ثابت٢ :٣
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء٤
٦٩٦- محمد العتبي : ابن القاسم، عن مالك، قال : الأعراب يسمون المغرب الشاهد، لأنها لا تقصر، وأحب إلي أن يقال في العتمة صلاة العشاء، لقول الله تعالى :﴿ ومن بعد صلاة العشاء ﴾، إلا أن تخاطب من لا يفهم عنك فذلك واسع. ٥
١ - العتمة: وقت صلاة العشاء. قال الخليل: العتمة هو الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق. أنيس الفقهاء/٧٤..
٢ - حسان بن ثابت: ابن المنذر بن حرام أنصاري النجاري. صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره. قال ابن سعد: عاش في الجاهلية ستين سنة. وفي الإسلام مثلها. وكان قديم الإسلام. ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا قال الحافظ بن عساكر: كان جهاده بشعره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب له منبرا في المسجد يقوم عليه يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك على قريش أشد من رشق النبل. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجب على رسول الله. اللهم أيده بروح القدس! وفي رواية أهجهم أو هاجمهم وجبريل معك. قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث: "كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي في الإسلام، وشاعر اليمن كلها، وكان أشهر أهل المدر. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: سنة أربع وخمسين توفي حسان بن ثابت. وقال شمس الدين الذهبي: الذي بلغنا أن حسانا، وأباه وجده، وجد أبيه، عاش كل منهم مائة وعشرين سنة" نكت الهميان: ١٣٤، ١٣٥، ١٣٦، ١٣٨.
وأورد الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها قال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تغلبنكم الأعراف على اسم صلاتكم العشاء. فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل) ٢/١١٨. وينظر: فتح الباري: ٢/٤٤٢. باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعا. قال ابن الأثير في النهاية في شرح هذا الحديث: قال الأزهري: "أرباب النعم في البادية يريحون الإبل ثم ينيخونها في مراحها حتى يعتموا: أي يدخلوا في عتمة الليل وهي ظلمته، وكانت الأعراب يسمون صلاة العشاء صلاة العتمة، تسمية بالوقت، فنهاهم عن الاقتداء بهم، واستحب لهم التمسك بالاسم الناطق به لسان الشريعة" ١٨٩٣.
وانظر النوادر والزيادات: ١/١٤٦..

٣ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٣٩٨. ينظر: الجامع: ١٢/٣٠٧..
٤ - ديوان حسان بن ثابت: ٧١..
٥ - البيان والتحصيل: ١/٣٢٤. وانظر النوادر والزيادات: ١/١٤٦..
الآية الحادية العشرة : قوله تعالى :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ﴾ [ النور : ٦١ ].
٦٩٧- ابن العربي : روى مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أن الآية نزلت في أناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنون في الجهاد- وضعوا مفاتيح بيوتهم عند أهل العلة ممن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند الأعمى، والأعرج، والمريض، وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، فكانوا يتقونه، ويقولون : نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة، فأنزل الله هذه الآية يحله لهم. ١
١ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٤٠٤. وينظر: أسباب النزول للنيسابوري: ٢٢٣..
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾ [ النور : ٦٢ ].
٦٩٨- ابن العربي : روى أشهب، ويحيى بن بكير، وعبد الله بن الكريم، عن مالك : أن هذه الآية، إنما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. ١
١ -أحكام القرآن لابن العربي: ٣/١٤١٠. وزاد قائلا: وكذلك قال محمد بن إسحاق، والذي بين ذلك أمران صحيحان.
أما أحدهما فهو قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا﴾ [النور: ٦٣]، وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون، ويخرجون عن الجماعة، ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يتبين إيمانه. وأما الثاني: فهو قوله تعالى: ﴿لم يذهبوا حتى يستأذنوه﴾ [النور: ٦٢]. فأي إذن في الحدث والإمام يخطب، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه، وقد قال: ﴿فأذن لمن شئت منهم﴾ [النور: ٦٢]. فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق أما إن الآية تدل بقوة معناها على أن من حضر جماعة لا يخرج إلا لعذر بين أو بإذن قائم من مالك الجماعة ومقدمها، وذلك أن الاجتماع كان لغرض فما لم يتم الغرض لم يكن للتفرق أصل، وإذا كمل الغرض جاز التفرق. ينظر: البيان والتحصيل؛ ١٨/٤٥٠، والجامع: ١٢/٣٢٠-٣٢١.
وفي الجامع قال القرطبي: "روى أشهب، وابن عبد الحكم، عن مالك أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان وغطفان وقائدها عُيينة بن حصن فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويتعذرون بأعذار كاذبة": ١٢/٣٢٠-٣٢١..

الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ [ النور : ٦٣ ].
٦٩٩- ابن كثير : قال مالك عن زيد بن أسلم في قوله :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ قال : أمرهم الله أن يشرفوه. ١
قوله تعالى :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ [ النور : ٦٣ ].
٧٠٠- ابن العربي : أخبرنا أبو الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الأزدي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي، أنبأنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيوة، حدثنا جرهمي بن أبي العلاء، قال : سمعت الزبير٢ بن بكار يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : سمعت مالكا بن أنس وأتاه رجل، فقال : يا أبا عبد الله، من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحُليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد فقال : لا تفعل. قال : إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال : لا تفعل، فإني أخشي عليك الفتنة. قال : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها. قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت رسول الله يقول :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن يصيبهم عذاب أليم ﴾. ٣
٧٠١- أبو نعيم : قال مالك وجاءه رجل وسأله عن مسألة. فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فقال الرجل : أرأيت ؟ قال مالك :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن يصيبهم عذاب أليم ﴾. ٤
١ - تفسير القرآن العظيم: ٣/٣٠٧..
٢ - الزبير بن بكار: بن عبد الله بن مصعب من سلالة الزبير بن العوام، من أهل المدينة عالم بالفقه والحديث والأدب والإخبار من تأليفه: جمهرة أنساب قريش. تولى قضاء مكة، وتوفي بها سنة ٢٥٦". تذكرة الحفاظ: ١/٥٢٨، والديباج: ١/٣٧١، والمدارك: ٣/٣٥٢، وخلاصة تهذيب الكمال: ١٠٢..
٣ - أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٤١٢-١٤١٣. ينظر: ترتيب المدارك: ٢/٤٠، وفتاوي الإمام الشاطبي: ١٩٨- ١٩٩، والاعتصام: ٢/٥٢-٥٣. وزاد الشاطبي معقبا: "فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقمة أشرف منه، هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره، لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله، فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادي الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة واستدل بالآية. فكل ما كان مثل ذلك داخل عند مالك في معنى الآية، فأين التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة": ٢/٥٣..
٤ - الحلية : ٦/٣٢٦..
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).