ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - والواو في قوله: ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾ للقسم. والصافات (١): جمع صافة بمعنى جماعة صافة، فالصافات بمعنى الجماعات الصافات. ولو قيل: والصافين وما بعدها بالتذكير لم يحتمل الجماعات. والصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، كالناس لأداء الصلاة أو الحرب أو الأشجار في الغرس.
وقوله: ﴿صَفًّا﴾ مصدر مؤكد لما قبله؛ أي: صفًا بديعًا. أقسم الله سبحانه، بالملائكة الذين يصفون للعبادة في السماء، ويتراصون في الصف؛ أي: بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على أن المراد: إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول، واللاتي يقفن صفا صفا، في مقام العبودية والطاعة، أو الصافات أنفسها؛ أي: الناظمات لها في سلك الصفوف، بقيامها في مواقف الطاعة ومنازل الخدمة. وفي الآية (٢) بيان شرف الملائكة حيث أقسم بهم، وفضل الصفوف. وقد صح أن الشيطان يقف في فرجة الصف، فلا بد من التلاصق والانضمام والاجتماع ظاهرًا وباطنًا.
٢ - والفاء في ﴿فَالزَّاجِراتِ﴾ وما بعده للعطف، والترتيب الرتبي، أو الوجودي كما سيأتي. وقوله: ﴿زَجْرًا﴾ مصدر مؤكد لما قبله. والزجر: الصرف عن الشيء بتخويف؛ أي: فأقسمت بالملائكة الذين يزجرون السحاب زجرًا، ويؤلفونه
(٢) روح البيان.
٣ - وقوله: فَالتَّالِياتِ معطوف أيضًا على ما قبله. وقوله: ﴿ذِكْرًا﴾ مفعول ﴿التاليات﴾؛ أي: فأقسمت بالملائكة الذين يتلون ذكرًا عظيم الشأن، من آيات الله وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، وغيرهما من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد، أو المراد بالمذكورات: نفوس العلماء، العمال، الصافات أنفسها في صفوف الجماعات، وأقدامها في الصلاة الزاجرات بالمواعظ، والنصائح التاليات، آيات الدارسات شرائعه وأحكامه، أو طوائف الغزاة، الصافات أنفسهم في مواطن الحرب، كأنهم بنيان مرصوص، أو طوائف قوادهم، الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقًا، والعدو في المعارك طردًا، التاليات آيات الله وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك، لا يشغلهم عن الذكر مقابلة العدو. وذلك لكمال شهودهم وحضورهم مع الله. وفي الحديث: «ثلاثة أصوات يباهي الله بهن الملائكة: الأذان، والتكبير في سبيل الله، ورفع الصوت بالتلبية».
وهذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء، للدلالة على ترتيبها في الفضل، إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة، فيكون من باب الترقي، أو على العكس، فيكون من باب التدلي. وإن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة، فهو للدلالة على ترتيب الموصوفات في مراتب الفضل، بمعنى: أن طوائف الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلا أو على العكس. وفي تفسير الشيخ وغيره: وجاء بالفاء، للدلالة على أن القسم بمجموع المذكورات. وفي «الصاوي» (١): الفاء للترتيب في الوجود الخارجي؛ لأن مبدأ الصلاة الاصطفاف، ثم يعقبه زجر النفس، ثم يعقبه التلاوة، وهكذا. ويحتمل أنها للترتيب في المزايا، ثم هو إما باعتبار الترقي، فالصافات ذوات فضل، فالزاجرات أفضل، فالتاليات أكثر فضلًا أو باعتبار التدلي، فالصافات أعلى ثم الزاجرات ثم التاليات، وكل صحيح، انتهى.
٤ - ﴿إِنَّ إِلهَكُمْ﴾ يا أهل مكة - فإن الآية (٢) نزلت فيهم إذ كانوا يقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا﴾ - أو يا بني آدم؛ أي: أقسمت لكم بهذه المذكورات، على أن إلهكم ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة ﴿لَواحِدٌ﴾ لا شريك له، فلا تتخذوا آلهة من الأصنام والدنيا والهوى والشيطان. إذ لو لم يكن واحدًا لاختل هذا الاصطفاف، والزجر، والتلاوة. وفي «الصاوي»: ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾ الواو (٣): حرف جر وقسم، ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾ مقسم به مجرور بواو القسم، وما بعده عطف عليه، وقوله: ﴿إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)﴾ جواب القسم، وهو المقسم عليه. والمعنى: وحق الصافات وحق الزاجرات وحق التاليات. وإنما خص ما ذكر لعظم قدرها عنده تعالى. ولا يعكر عليه ما ورد من النهي عن الحلف بغير الله تعالى، لأن النهي للمخلوق حذرًا من تعظيم غير الله، وأما هو سبحانه وتعالى، فيقسم ببعض مخلوقاته للتعظيم كقوله: والشمس والليل والضحى والنجم، وغير ذلك.
فإن قلت: ما الحكمة في ذكر القسم هنا، لأنه إن كان المقصود المؤمنين، فلا حاجة إليه؛ لأنهم مصدقون ولو من غير قسم. وإن كان المقصود الكفار، فلا
(٢) روح البيان.
(٣) الصاوي.
قلت: إن الحكمة في القسم، تأكيد الأدلة التي تقدم تفصيلها في سورة يس، ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويزداد الكافرون بعدًا وطردًا. أو الحكمة فيه تعظيم المقسم به، وإظهار شرفه، وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم. وقد أنزل القرآن على لغتهم، وعلى أسلوبهم في محاوراتهم. وقيل: تقدير الكلام فيها وفي أمثالها: ورب الصافات، ورب الشمس، ورب الضحى، ورب التين والزيتون، ورب الذاريات، ورب النجم إلى غير ذلك.
وقرأ ابن مسعود (١)، ومسروق، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة بإدغام التاء من الصافات والزاجرات والتاليات في صاد ﴿صَفًّا﴾ وزاي ﴿زَجْرًا﴾ وذال ذكرًا وكذلك فعلا في ﴿وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا (١)﴾، وفي ﴿فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ ﴿وَالْعادِياتِ ضَبْحًا﴾ بخلاف عن خلاد في الأخيرين. وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها. وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك.
قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث، والملائكة مبرؤون عن هذه الصفة. وأجيب عنه بوجهين:
الأول: أن الصفات المذكورة جمع الجمع، فإنه يقال جماعة صافة، ثم يجمع على صافات.
الثاني: أنهم مبرؤون عن التأنيث المعنوي، وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة، مع أن علامة التأنيث حاصلة، انتهى.
قال الغزالي، رحمه الله سبحانه: الواحد في أسمائه تعالى هو الذي لا يتجزأ ولا يثنى، وهو سبحانه الواحد المطلق أزلًا وأبدًا، وخاصية هذا الاسم، إخراج الكون من القلب، فمن قرأه ألف مرة خرج الخلائق من قلبه، فكفي خوف الخلق. وهو أصل كل بلاء في الدنيا والآخرة. وسمع النبي - ﷺ - رجلًا يقول في
٥ - وقوله: ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما﴾ خبر ثان ﴿لأن﴾؛ أي: مالك السموات والأرض، ومالك ما بينهما من الموجودات، ومربيها، ومبلغها إلى كمالاتها ﴿وَرَبُّ الْمَشارِقِ﴾؛ أي: مشارق الشمس، وهي ثلاث مئة وستون مشرقًا، تشرق كل يوم من مشرق منها، وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها على حد ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾. وإنما اقتصر على المشارق ولم يعكس؛ لأن نفعه أعم من الغروب. يعني: إذا كانت المشارق بهذا العدد، تكون المغارب أيضًا بهذا العدد، فتغرب في كل يوم من مغرب منها. وأما قوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)﴾ فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما. وقوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ أراد به الجهة، فالمشرق جهة والمغرب جهة.
وإعادة (١) الرب في المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها، وتجددها كل يوم كما ذكر آنفًا.
والخلاصة: هو رب جميع الموجودات، وربوبيته لذاته، لا لنفع يعود إليه، بخلاف تربية الخلق. والربوبية بمعنى الخالقية والمالكية، ونحوهما عامة، وبمعنى التربية خاصة بكل نوع بحسبه، فهو تعالى مربي الأشباح بأنواع نعمه، ومربي الأرواح بلطائف كرمه. والرب عنوان الأدعية، فلا بد للداعي من استحضاره لسانًا وقلبًا، حتى يستجاب في دعائه: اللهم ربنا إنك أنت الواحد وحدة حقيقية، ذاتية، لا انقسام لك فيها، فاجعل توحيدنا توحيدًا حقانيًا ذاتيًا سريًا لا مجازية فيه، وإنك أنت الرب الكريم الرحيم، فكما أنك ربنا وخالقنا، فكذا مربينا
فإن قلت (١): لم جمع هنا ﴿الْمَشارِقِ﴾ وحذف مقابله، وثنّاه في الرحمن، وجمعه في المعارج، وأفرده في المزمل مع ذكر مقابله في الثلاثة؟.
قلت: لأن القرآن نزل على المعهود من أساليب كلام العرب وفنونه. ومنها: الإجمال والتفصيل، والذكر والحذف، والجمع والتثنية، والإفراد باعتبارات مختلفة. فأفرد وأجمل في المزمل بقوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، لأنه أراد بهما: الجهة، فالمشرق جهة والمغرب جهة. وجمع وفصّل في المعارج بقوله: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ﴾؛ لأنه أراد جميع مشارق السنة ومغاربها، وهي تزيد على سبع مئة. وثنّى وفصّل في الرحمن، لأنه أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربهما. وجمع وحذف هنا بقوله: ﴿وَرَبُّ الْمَشارِقِ﴾، لأنه أراد جميع مشارق السنة، واقتصر عليه لدلالته على المحذوف، وخص ما هنا بالجمع، موافقة للجموع أول السورة، وبالحذف مناسبة للزينة في قوله: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)﴾. إذ الزينة إنما تكون غالبًا بالضياء والنور، وهما ينشآن من المشرق لا من المغرب. وخص ما في الرحمن بالتثنية، موافقة للتثنية في ﴿يَسْجُدانِ﴾، وفي ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾، وبذكر المتقابلين مقابلة، لبسط صفاته تعالى وإنعامه. ثم خص ما في المعارج بالجمع، موافقة للجمع قبله وبعده، وبذكر المتقابلين موافقةً لكثرة التأكيد في القسم وجوابه. وخص ما في المزمل بالإفراد موافقة لما قبله من إفراد ذكر النبي - ﷺ -، وما بعده من إفراد ذكر الله تعالى، وبذكر المتقابلين موافقة للحصر في قوله: ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾، ولبسط أوامر الله تعالى لنبيه - ﷺ -.
وإجمال المعنى (٢): أنه سبحانه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم،
(٢) المراغي.
٦ - ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا﴾؛ أي: القربى منكم من الأرض، وأما بالنسبة إلى العرش فهي البعدى منه. والدنيا: تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب ﴿بِزِينَةٍ﴾ عجيبة بديعة ﴿الْكَواكِبِ﴾ بالجر بدل من الزينة، على أن المراد بها: الاسم؛ أي: ما يزان به، لا المصدر. والتقدير: بعد طرح المبدل منه: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ﴾ بإضافة زينة إلى الكواكب. والمعنى: زيناها بتزيين الكواكب؛ أي: بحسنها. وقرأ ابن مسعود، ومسروق بخلاف عنه. وأبو زرعة، وابن وثّاب، وطلحة، والأعمش، والنخعي، وحمزة بتنوين ﴿زينة﴾، وخفض ﴿الْكَواكِبِ﴾ على أنها بدل من الزينة، كما مر آنفًا. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه، وابن وثّاب، ومسروق بخلاف عنهما. والأعمش، وطلحة ﴿بزينةٍ﴾ منونًا ونصب ﴿الْكَواكِبِ﴾ على أن الزينة مصدر، وفاعله محذوف، والتقدير: بأن الله زيّن الكواكب، بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلا من السماء بدل اشتمال. وقرأ زيد بن علي، وابن عباس، وابن مسعود بتنوين ﴿زينة﴾، ورفع ﴿الكواكب﴾ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: بزينة هي الكواكب. فإن قلت: لم خص سماء الدنيا بزينة الكواكب، مع أن بقية السموات مزينة بذلك.
قلت: لأنا إنما نرى سماء الدنيا دون غيرها.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أن الزينة التي تدرك بالبصر يعرفها الخاصة
(٢) روح البيان.
والحاصل: أن المراد هو التزيين في رأي العين، سواء كانت أصول الزينة سماء الدنيا أو في غيرها. وهذا مبني على ما ذهب إليه أهل الهيئة، من أن الثوابت مركوزة في الفلك الثامن وما عدا القمر في الستة المتوسطة، وإن لم يثبت ذلك بنقل، فحقيقة ذلك عند الله تعالى.
٧ - وانتصاب (١) ﴿حفظًا﴾ على المصدرية بإضمار فعل؛ أي: حفظناها حفظًا أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: زيناها بالكواكب للحفظ أو بالعطف على محل ﴿زينة﴾، كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء، وحفظًا لها ﴿مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ﴾ برمي الشهب المنقضة منها إليه ﴿مارِدٍ﴾؛ أي: عال على الله، خارج عن الطاعة، متعرّ عن الخير من قولهم: شجر أمرد إذا تعرى من الورق. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾.
والمعنى (٢): أي إنا جعلنا الكواكب والنجوم زينة في السماء القريبة منكم، بما لها من البهجة والجمال وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها، المفكرين في حسابها، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات، بحيث يكون كل سيار بعيدًا من الشمس، ضعف بعد الكواكب الذي قبله. ﴿وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)﴾؛ أي: وحفظنا السماء أن يتطاول، لدرك جمالها، وفهم محاسن نظامها، الجهال والشياطين، المتمردون من الجن
(٢) المراغي.
وكانت الشياطين (١) أولًا لا يحجبون عن السموات كلها، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها فيلقونها على الكهنة. فلما ولد عيسى عليه السلام، منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد - ﷺ - منعوا من السموات كلها. فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب. وهو الشعلة من النار فلا يخطئه أبدًا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولًا يضل الناس في البراري.
٨ - وقوله: ﴿لا يَسَّمَّعُونَ﴾؛ أي: الشياطين، ولا يصغون ﴿إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى﴾ كلام (٢) مستأنف، مسوق لبيان حال الشياطين، بعد بيان حفظ السماء منهم، مع التنبيه على كيفية الحفظ، وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذاب. والملأ الأعلى: الملائكة أو أشرافهم أو الكتبة وصفوا بالعلو لسكونهم في السموات العلى، والجن والإنس هم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض.
والمعنى: لا يتطلبون السماء والإصغاء إلى الملائكة الملكوتية. وقيل: إن جملة ﴿لا يَسَّمَّعُونَ﴾ صفة لكل شيطان. وقيل: جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال: ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى﴾.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿يسْمَعون﴾ بسكون السين وتخفيف الميم، وعدّاه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثّاب، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص، وعاصم في رواية حفص ﴿يَسَّمَّعُونَ﴾ بتشديد السين والميم بمعنى لا يتسمعون. والقراءة الأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والقراءة الثانية تدل على انتفائهما. وفي
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَيُقْذَفُونَ﴾؛ أي: يُرجمون، ويُرمون ﴿مِنْ كُلِّ جانِبٍ﴾ من جوانب السماء، ومن كل جهة يصعدون بالشهب، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع. والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض، وليست بالكواكب الجارية في السماء؛ لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة نرى حركتها لقربها منا. وقرأ محبوب عن أبي عمرو ﴿وَيُقْذَفُونَ﴾ مبنيًا للفاعل، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني.
٩ - وانتصاب ﴿دُحُورًا﴾ على أنه مفعول لأجله. والدحور: الطرد والإبعاد؛ أي: يقذفون لأجل الطرد والإبعاد عن السماء أو على الحال؛ أي: يقذفون حال كونهم مدحورين مطرودين أو مصدر ليقذفون؛ لأن متضمن معنى الطرد؛ أي: ويدحرون من كل جانب دحورًا، ويقذفون من كل جهة قذفًا. وقيل: هو جمع داحر، نحو: قاعد وقعود، فيكون حالًا أيضًا. وقرأ الجمهور: ﴿دُحُورًا﴾ بضم الدال. وقرأ علي، والسلمي، وابن أبي عبلة، ويعقوب الحضرمي، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر ﴿دحورا﴾ بنصب الدال أي: قذفًا دحورًا بنصب الدال. ويجوز أن يكون مصدرًا كالقبول والولوع إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة.
واختلف (٢)، هل كان هذا الرمي لهم بالشهب، قبل المبعث أو بعده؟ فقال بالأول طائفة، وبالآخر آخرون. وقالت طائفة، بالجمع بين القولين: إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميًا يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتًا ولا ترمى وقتًا آخر، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر. ثم بعد المبعث،
(٢) الشوكاني.
فإن قلت: تقدم (١) أن الكواكب ثابتة في السماء أو في العرش زينة، ومقتضى كونها رجوما للشياطين أنها تنفصل وتزول، فكيف الجمع بين ذلك؟.
أجيب: بأنه ليس المراد: أن الشياطين بذات الكواكب ترمى، بل تنفصل منها شهب تنزل على الشياطين والكواكب باقية بحالها.
إن قلت: إذا كان الشياطين خلقوا من النار فكيف يحترقون؟
أجيب: بأن الأقوى يحرق الأضعف، كالحديد يقطع بعضه بعضًا.
إن قلت: إذا كان الشيطان يعلم أنه لا يصل لمقصوده بل يصاب، فكيف يعود مرة أخرى؟.
أجيب: بأنه يرجو وصوله لمقصوده وسلامته، كراكب البحر، فإنه يشاهد الغرق المرة بعد المرة، ويعود طمعًا في السلامة.
وقيل معنى: ﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى﴾؛ أي (٢): إن كثيرًا من أولئك الجهّال، والشياطين محبوسون في هذه الأرض غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا، والتأمل في إدراك أسرارها، والبحث في سر عظمتها. ﴿وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ﴾؛ أي: وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب، فهم تائهون في سكراتهم، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات. فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرف للحكماء، ويبهر أنظار العلماء، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته. وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر، حتى ذاقوا حلاوته، فخروا ركعًا سجدًا مذهولين من ذلك الجمال والجلال.
﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: وللشياطين في الآخرة غير ما في الدنيا، من عذاب الرمي بالشهب. ﴿عَذابٌ واصِبٌ﴾؛ أي: عذاب دائم غير منقطع، من وصب الأمر وصوبًا
(٢) المراغي.
١٠ - وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾ استثناء (١) من واو ﴿يسمعون﴾، و ﴿مَنْ﴾ بدل من الواو. والخطف: اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة؛ أي: لا يسمع جماعة الشياطين إلى الملأ الأعلى، إلا الشيطان الذي خطف؛ أي: اختلس الخطفة؛ أي: المرة الواحدة. يعني: كلمة واحدة من كلام الملائكة. ﴿فَأَتْبَعَهُ﴾؛ أي: أتبع ذلك المختلس، ولحقه ﴿شِهابٌ﴾؛ أي: شعلة نار ساطعة، والمراد هنا: ما يرى منقضا من السماء. ﴿ثاقِبٌ﴾؛ أي: مضيء غاية الإضاءة، يثقب بإضاءته ونوره ما يقع عليه؛ أي: كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع.
والمعنى (٢): لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة الواحدة، من كلام الملائكة على وجه المسارقة، فلحقه شهاب
مضيء يحرقه، أو يخبله أو يجرحه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - ﷺ - جالس في نفر من أصحابه، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية»؟ فقالوا: يموت عظيم أو يولد عظيم، فقال: «إنه لا يرمى لموت أحد، ولا لحياته، ولكن الله إذا قضى أمرًا، يسبحه حملة العرش وأهل السماء السابعة يقولون؛ أي: - أهل السماء السابعة لحملة العرش -: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، فيستخبر أهل كل سماء أهل سماء، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، فيتخطف الجن فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه ويكذبون، فما ظهر صدقه فهو من قسم ما سمع من الملائكة، وما ظهر كذبه فهو من قسم ما قالوه». قيل: كان ذلك في الجاهلية أيضًا، لكن غُلِّظ المنع، وشُدد حين بعث النبي - ﷺ -.
قيل: هيئة استراقهم، أن الشياطين يركب بعضهم بعضًا إلى السماء الدنيا،
(٢) روح البيان.
ثم إن المراد بالشهاب: شعلة نار تنفصل من النجم، لا أنه النجم نفسه، لأنه قار في الفلك على حاله. وقالت الفلاسفة: إن الشهب إنما هي أجزاء نارية، تحصل في الجو عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة، واتصالها بالنار التي دون الفلك، انتهى. وقال بعض كبار أهل المعرفة: لولا الأثير - الركن من النار - الذي هو بين السماء والأرض ما كان حيوان ولا نبات ولا معدن في الأرض، لشدة البرد الذي في السماء الدنيا. فهو؛ أي: الأثير يسخن العالم لتسري فيه الحياة، بتقدير العزيز العليم. وهذا الأثير الذي هو ركن النار متصل بالهواء، والهواء حار رطب، ولما في الهواء من الرطوبة، إذا اتصل بهذا الأثير أثّر فيه، لتحركه اشتعالًا في بعض أجزاء الهواء الرطبة، فبدت الكواكب ذوات الأذناب، لأنها هواء محترق لا مشتعل، وهي سريعة الاندفاع. وإن أردت تحقيق هذا، فانظر إلى شرر النار، إذا ضرب الهواء النار بالمروحة، يتطاير منها شرر مثل الخيوط في رأى العين، ثم تنطفىء كذلك هذه الكواكب المنقضة. وقد جعلها الله رجوما للشياطين الذين هم كفار الجن، كما قال الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
يقول الفقير (١): كلام هذا البعض، يفيد حدوث بعض الكواكب ذوات
وقرأ الجمهور (١) ﴿خَطِفَ﴾ ثلاثيًا بكسر الطاء. وقرأ الحسن، وقتادة بكسر الخاء والطاء مشددة. قال أبو حاتم: ويقال: هي لغة بكر بن وائل، وتميم بن مرة. وقرىء ﴿خَطّف﴾ بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن، وقتادة، وعيسى. وعن الحسن أيضًا التخفيف. وأصله في هاتين القراءتين اختطف، ففي الأولى لما سكنت التاء للإدغام والخاء ساكنة كسرت لالتقاء الساكنين، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعا لحركة الخاء. وعن ابن عباس ﴿خِطِف﴾ بكسر الخاء والطاء مخففة، أتبع حركة الخاء لحركة الطاء، كما قالوا: نعم. وقرىء ﴿فأتبعه﴾ مخففًا ومشددًا.
وقيل في تفسير معنى الآية على نهج ما سبق: ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ﴾؛ أي (٢): وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث في سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه وبديع قدرته. ثم بيّن من وفّقهم الله تعالى، وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال: ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)﴾؛ أي: إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب، فحن إلى مثلها وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثًا عن سر عظمته ومعرفة كنه جماله. وهم من اصطفاهم الله تعالى من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده.
(٢) المراغي.
والخلاصة: أن الدنيا بيت فرشه الأرض، وسقفه السماء، وسراجه الكواكب، والبيوت الرفيعة العماد العظيمة البناء، كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافون، والأنبياء، والعلماء المخلصون. أما الجهال، والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون. فلقد يعيش المرء منهم، ويموت وهو لاه عن درك هذا الجمال. إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه، وقد تبدو لهم أحيانًا بارقة من محاسن هذا الجمال، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضيء قلوبهم، وينير ألبابهم. فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة، وقيّض لهم التوفيق والهداية، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه والفوز بنعيمه. وقد نحونا بهذا التفسير نحوًا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير، إذ أنهم قالوا: إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء، فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شيء منها، وعصم الله وحيه وكتابه، اهـ.
١١ - قوله: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ خطاب للنبي - ﷺ -، والضمير لمشركي مكة المنكرين للبعث. والمراد (١) بالاستفتاء هنا: الاستخبار كما في قوله تعالى في قصة أهل الكهف: ﴿وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾، وليس المراد سؤال الاستفهام بل التوبيخ. والمعنى: فاستخبر يا محمد مشركي مكة، توبيخًا لهم، واسألهم سؤال محاجة ﴿أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا﴾ وأقوى أجسامًا، وأعظم أعضاء، وأحكم خلقة، وأمتن بنية، أو أصعب على الخالق خلقًا، أو أشق إيجادًا ﴿أَمْ مَنْ﴾؛ أي: أم الذي ﴿خلقنا﴾ هم من السموات والأرض وما بينهما من الملائكة، والمشارق، والمغارب، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة؛ أي: أأنتم أشد خلقًا من هؤلاء المذكورين، أم أشد منكم خلقًا. و ﴿مَنْ﴾ لتغليب العقلاء على
ثم ذكر خلق الإنسان، فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْناهُمْ﴾؛ أي: خلقنا أصلهم، وهو آدم، وهم من نسله ﴿مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾؛ أي: لاصق يلصق ويعلق باليد، لا رمل فيه. والباء في ﴿لازِبٍ﴾ بدل من الميم، والأصل: لازم مثل: بكة ومكة، كما في كشف الأسرار. واللازب: الثابت كما يقال: صار الشيء ضربة لازب، ومنه:
قول النابغة:
لا تَحسبُونَ الْخَيْر لا شَرَّ بَعْدهُ | وَلا تَحْسَبونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ |
والمعنى في الآية: أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف، ولم ينكره من هو مخلوق خلقا أقوى منهم. وأعظم وأكمل وأتم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَمْ مَنْ خَلَقْنا﴾ بتشديد الميم، وهي أم المتصلة. وقرأ الأعمش ﴿أمن﴾ بتخفيف الميم دون ﴿أم﴾ استفهامًا ثانيًا تقريريًا أيضًا، فهما جملتان مستقلتان في التقرير على قراءته. و ﴿من﴾: مبتدأ، والخبر محذوف،
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
ومعنى الآية (١): أي سل يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث؛ أي أصعب إيجادًا أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟. والسؤال للتوبيخ والتبكيت، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقًا؛ أي: وإذًا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا؟ فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟. ثم زاد الأمر بيانًا، وأوضح هذا التفاوت، فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾؛ أي: إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض. وفي هذا شهادة عليهم بالضعف، والرخاوة دون الصلابة والقوة، فأين هم من كواكب السماء وعالم الملائكة، وتلك العوالم المشرقة، وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة، فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين، لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه.
١٢ - ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق، إلى خطاب الرسول - ﷺ - بقوله: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ يا محمد من قدرة الله سبحانه ﴿وَ﴾ هم ﴿يَسْخَرُونَ﴾ منك بسبب تعجبك، أو ويسخرون منك بما تقوله، من إثبات المعاد. وفي «المفردات»: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ من إنكارهم البعث لشدة تحققك بمعرفته، ويسخرون بجهلهم. قال سعدي المفتي: وهذا إضراب عن الأمر بالاستفتاء؛ أي: لا تستفتهم فإنهم معاندون ومكابرون لا ينفع فيهم الاستفتاء، وانظر إلى تفاوت حالك وحالهم، أنت تعجب من قدرة الله تعالى، على خلق هذه الخلائق العظيمة، ومن قدرته
والخلاصة: إن قلوبهم غلف، فلا تنظر فيما حولها من البراهين، والآيات الدالة على البعث، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به. فحالهم عجب، ويحق لك أن تكثر التعجب منها، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَجِبْتَ﴾ بفتح التاء على الخطاب للنبي - ﷺ -؛ أي: بل عجبت يا محمد، من قدرة الله، على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك، ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث، أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم من الهدى، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله تعالى. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن سعدان، وابن مقسم بتاء المتكلم. ورويت عن علي وعبد الله، وابن عباس، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وشقيق، والأعمش، وأنكر شريح القاضي هذه القراءة، وقال: الله لا يعجب. فقال إبراهيم: كان شريح معجبًا بعلمه، وعبد الله أعلم منه يعني: عبد الله بن مسعود. والظاهر: أن ضمير المتكلم هو لله تعالى، والعجب لا يجوز على الله تعالى؛ لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء. قال الحسن بن الفضل (٢): التعجب من الله إنكار الشيء، وتعظيمه. ومعنى ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾؛ أي: استعظمت كفرهم وإنكارهم البعث، وسخطت منه. وقال علي بن
(٢) الشوكاني.
قلت: أراد بالتعجب: الاستعظام، وهو جائز على الله تعالى، أو معناه: قل يا محمد: بل عجبت. وفي الذي تعجب قولان:
أحدهما: كفرهم بالقرآن.
والثاني: إنكارهم البعث، انتهى.
١٣ - ﴿وَإِذا ذُكِّرُوا﴾؛ أي: ودأبهم المستمر، أنهم إذا وعظوا بشيء من المواعظ ﴿لا يَذْكُرُونَ﴾؛ أي: لا يتعظون. قال سعيد بن المسيب؛ أي: إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه، ولم يتدبروا، انتهى. وفيه إشارة إلى أنهم نسوا الله غاية النسيان، بحيث لا يذكرونه إذا ذكروا. يعني: بالله تعالى لا يتذكرون.
١٤ - ﴿وَإِذا رَأَوْا آيَةً﴾ أي: معجزة تدل على صدق القائل بالبعث. والسين، والتاء في قوله: ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ للمبالغة والتأكيد؛ أي: يبالغون في السخرية والاستهزاء. أو للطلب على أصله؛ أي: يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.
١٥ - ﴿وَقالُوا إِنْ هذا﴾؛ أي: ما هذا الخارق الذي تأتينا به ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: إلا سحر واضح، ظاهر سحريته. وفيه إشارة إلى أن أهل الإنكار إذا رأوا رجلًا يكون آية من آيات الله سبحانه يسخرون منه، ويعرضون عن الإيمان به، ويقولون لما يأتي به: إن هذا إلا سحر مبين، لانسداد بصائرهم عن رؤية حقيقة الحال، بغطاء الإنكار ونسبة أهل الهدى إلى الضلال.
١٦ - ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث، فقالوا: ﴿أَإِذا﴾؛ أي: أنبعث إذا ﴿مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا﴾؛ أي: وكان بعض أجزائنا ترابًا وبعضها عظامًا. وتقديم (٢) التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البالية، فالعامل في إِذا هو ما دل عليه قوله: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ وهو أنبعث لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه؛ أي: لا نبعث، فإن الهمزة فيه للإنكار الذي يراد به: النفي. وتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة. وهذا (٣) الإنكار منهم للبعث هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم، واستهزؤوا بما جاؤوا به من المعجزات.
١٧ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري أيضًا، والواو للعطف، و ﴿آباؤُنَا﴾ مبتدأ، خبره محذوف عند سيبويه؛ أي: و ﴿آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾؛ أي: الأقدمون أيضًا مبعوثون؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وقرأ الجمهور: ﴿أَوَآباؤُنَا﴾ بفتح الواو على أن الواو حرف عطف، دخلت عليه همزة الاستفهام. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن عامر، ونافع في رواية قالون بسكون الواو على أن ﴿أو﴾ هي العاطفة. وفي «فتح الرحمن»: ختم الآية هنا بقوله: ﴿أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾، وختم التي بعدها بقوله: ﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾؛ أي: لمجزيون ومحاسبون، لأن الأولى في حق المنكرين للبعث، والثانية في حق المنكرين للجزاء، وإن كان كل منهما مستلزمًا للآخر، انتهى.
ومعنى الآية: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا...﴾ إلخ؛ أي (١): إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول، وإن كان فيه ما يدهش العقول، لا نتقبل منه تلك المقالة. وهي إحياء العظام النخرة، والأجسام التي صارت ترابا إن هذا إلا إحدى الكبر، فلا ينبغي أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل، ولا يصل إلى مثلها الفكر. ثم زادوا في استبعادهم وتعظيم تعجبهم، فقالوا: ﴿أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧)﴾؛ أي: أيبعث آباؤنا الأولون أيضًا. وهذا أغرب؛ لأن أباءهم أقدم منهم، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادًا.
١٨ - وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة.. أجاب عنها بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم أيها الرسول تبكيتًا لهم ﴿نَعَمْ﴾ تبعثون يوم القيامة، بعدما تصيرون ترابًا وعظامًا ﴿وَأَنْتُمْ داخِرُونَ﴾ أي: والحال أنكم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة. ونحو الآية قوله: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾. و ﴿نَعَمْ﴾ (٢) بفتحتين، يقع في جواب الاستخبار، المجرد من النفي، ورد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام. والخطاب لهم ولآبائهم على التغليب. والدخور: أشد الصغار، والذلة. والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم؛ أي: كلكم مبعوثون، والحال أنكم صاغرون، ذليلون على زعم منكم.
(٢) روح البيان.
٢٠ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال أولئك المبعوثون، لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا: ﴿يا وَيْلَنا﴾؛ أي: يا هلاكنا احضر إلينا لنتعجب منك، فهذا أوان حضورك. وصيغة الماضي في ﴿قالُوا﴾ للدلالة على التحقق والتقرر. وقوله: ﴿هذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، بطريق الاستئناف؛ أي: هذا اليوم، هو اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا، من الكفر والتكذيب للرسل. وإنما علموا ذلك، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجازون بأعمالهم، فلما شاهدوا البعث، أيقنوا بما بعده أيضًا.
٢١ - فتقول الملائكة لهم بطريق التوبيخ والتقريع: ﴿هذا﴾ اليوم الحاضر هو ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾ والقضاء بين الخلائق، أو يوم الفرق بين فريقي الهدي والضلال. ﴿الَّذِي كُنْتُمْ﴾ على الاستمرار ﴿بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾؛ أي: تكذبون به، وتقولون: إنه كذب ليس له أصل أبدًا. وتقديم الجار لرعاية الفاصلة.
والمعنى (١): أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا، حين رأوا العذاب لنا: الويل والهلاك، فقد حل ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل، كما وعدنا
٢٢ - فيقول الله تعالى للملائكة: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالشرك، واجمعوهم. والمراد بالظالمين: المشركين من بني آدم. ﴿وَأَزْواجَهُمْ﴾؛ أي: أشباههم من أهل الشرك، والكفر، والنفاق، والعصيان عابد الصنم مع عبدته، وعابد الكواكب مع عبدتها، واليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والمجوس مع المجوس، وغيرهم من أهل الملل المختلفة. ويجوز أن يكون المراد بالأزواج: نساءهم اللاتي على دينهم، أو قرناءهم من الشياطين، كل كافر مع شيطانه في سلسلة. ﴿وَما كانُوا يَعْبُدُونَ
٢٣ - مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، من الأصنام والشياطين ونحوها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم.
وهذا (١) العموم المستفاد من ﴿مَا﴾ الموصولة، فإنها عبارة عن المعبودين لا عن العابدين، كما قيل مخصوص لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من عبد الملائكة، فيخرجون بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)﴾. ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل، هو زيادة التبكيت لعابديها، وتخجيلهم، وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر. ﴿فَاهْدُوهُمْ﴾؛ أي: فاهدوا أيها الملائكة الظالمين وأزواجهم ومعبوديهم، وسوقوهم إِلى ﴿صِراطِ الْجَحِيمِ﴾ ودلوهم عليها؛ أي: عرّفوهم طريق جهنم، ووجهوهم إليها. وفي هذا تهكم بهم. ويقال: الظالم في الآية عام على من ظلم نفسه وغيره، فيحشر كل
ومعنى الآية (١): أي ويقال للملائكة: احشروا الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب، مع أشباههم وأمثالهم، فاجعلوا ذوي المعاصي المتشابهة بعضهم مع بعض، فاجعلوا الزناة معًا، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك، واجعلوا عابدي الأصنام ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معًا، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة، وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك، وكبير المعصية. ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: أرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها. وفي هذا زيادة في النكاية بهم. والازدراء بشأنهم. إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم.
٢٤ - ﴿وَقِفُوهُمْ﴾؛ أي: قفوا أيها الملائكة المشركين، واحبسوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك. وجملة قوله: ﴿إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾ عن أعمالهم، وأقوالهم، وأفعالهم تعليل للجملة الأولى. وقال الضحاك: عن خطاياهم. وقيل: عن لا إله إلا الله. وقيل: عن ظلم العباد. وقرأ الجمهور: بكسر همزة ﴿إن﴾. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها. قال الكسائي: أي: لأنهم أو بأنهم؛ أي: واحبسوهم أيها الملائكة في الموقف، حتى يسألوا عما كسبت أيديهم، واجترحوا من المعاصي والآثام، وعن تلك العقائد الزائغة التي زينها لهم الشيطان، فأضلهم عن سواء السبيل.
٢٥ - وقولوا أيها الملائكة للمشركين عند ذلك: ﴿مَا لَكُمْ﴾؛ أي: أي شيء ثبت لكم أيها المشركون حالة كونكم ﴿لا تَناصَرُونَ﴾؛ أي: لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب، كما كنتم تزعمون في الدنيا، كما قال أبو جهل يوم بدر: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾. وجملة ﴿لا تَناصَرُونَ﴾ حال من معنى الفعل في ﴿ما لَكُمْ﴾؛ أي: ما تصنعون حال كونكم غير متناصرين، ومعناه: ما سبب عدم تناصركم، ولأي شيء لا ينصر بعضكم بعضًا، وقد كنتم في الدنيا تزعمون أنكم تتناصرون.
والخلاصة: إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم، إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم، وقطع أعذارهم بعد حسابهم.
٢٦ - ثم أضرب سبحانه، عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنا لك، فقال: ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ﴾؛ أي: فيقول الله سبحانه: بل هم في هذا اليوم الرهيب ﴿مُسْتَسْلِمُونَ﴾؛ أي: منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، ذليلون خاضعون بالاضطرار لظهور عجزهم. إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة. فأسلم بعضهم بعضًا إلى الهلكة وخذله عن عجز، فكل مستسلم صاحبه غير منتصر له، كقوم متحابين انكسرت سفينتهم، فوقعوا في البحر، فأسلم كل واحد منهم صاحبه إلى الهلكة لعجزه عن تنجية نفسه فضلًا عن غيره، بخلاف حال المتحابين في الله سبحانه.
٢٧ - ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾؛ أي: بعض الكفار بوجهه. وهم الأتباع أو الكفرة. والإقبال ضد الإدبار عَلى بَعْضٍ هم الرؤساء أو القرناء حال كونهم ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ ويتخاصمون؛ أي: يسأل بعضهم بعضًا سؤال توبيخ، بطريق الخصومة والجدال، كأنه قيل: كيف يتساءلون؟
٢٨ - فقيل: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الأتباع للرؤساء أو الكفرة للقرناء ﴿إِنَّكُمْ﴾ أيها الرؤساء أو القرناء ﴿كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ﴾؛ أي: بالقوة والإجبار. فـ ﴿عَنِ﴾ بمعنى الباء، واليمين بمعنى القوة كقوله تعالى: ﴿فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)﴾؛ أي: بالقوة،
والمعنى (٢): أي وأقبل التابعون من الكفار على رؤسائهم المضلين لهم، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف، على طريق الجدل والخصومة، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار. فألقى الأتباع مسؤولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال، ورد الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء في الآية بعد.
ثم فصل طريق التساؤل، وكيف يحدث. فقال: ﴿قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا﴾؛ أي: قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر: إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير، وتصدوننا عن سلوك طريقه، وترغّبوننا فيما تديّنون به وتعتقدونه. ومن ثم أضللتمونا، وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة.
٢٩ - فرد الرؤساء عليهم، وأجابوهم بجوابين:
﴿قالُوا﴾ استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قال الرؤساء أو القرناء؟ فقيل: قالوا: ﴿بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: لم نمنعكم نحن من الإيمان بالقوة والقهر أو بغير ذلك، بل لم تؤمنوا باختياركم، وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه، وآثرتم الكفر عليه؛ أي: فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم، قالوا: إننا ما أضللناكم بل أنتم
(٢) المراغي.
٣٠ - ﴿وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ﴾؛ أي: من قهر وتسلط نسلب به اختياركم. والسلاطة: التمكن من القهر، ومنه: السلطان: بمعنى الغالب والقاهر. والسلطان يطلق على السلاطة أيضًا، ومنه: ما في هذه الآية ونظائرها ﴿بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ﴾؛ أي: مختارين للطغيان مصرين عليه. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان.
والمعنى (١): أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم، لم نجبركم عليه، ولم نسلبكم اختياركم. فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون، مسرورة مما تأتون وما تذرون، مائلة إلى الكفر والعصيان، تواقة للسير على سننه واتباع طريقته. فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا، وزيّنه الشيطان لنا، ووسوس به إلينا، فلبيتم دعوتنا سراعا، وسرتم فيما نحن فيه سائرون، إذ كنتم لذلك مستعدين ولمثله محبين، فما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة باختياركم لا جبرًا لكم.
٣١ - ثم ذكروا نتيجة لما تقدم، فقالوا: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنا﴾؛ أي: لزم وثبت علينا ﴿قَوْلُ رَبِّنا﴾ وقضاؤه بتعذيبنا، وهو قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾. ﴿إِنَّا لَذائِقُونَ﴾؛ أي: العذاب الذي ورد به الوعيد.
والمعنى: أي ولأجل أنا بطبعنا، كنا قومًا طاغين، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين، وعن الإيمان بربنا معرضين، ثبت علينا وعيده، بأنا ذائقوا العذاب لا محالة، إذ كان من عدله أن يجازي كل نفس بما كسبت، ويثيبها بما عملت. وهو الخبير بها، وبما اجترحت. وهذا جزاء لا محيص عنه، وهو نتيجة حتمية لما
٣٢ - ﴿فَأَغْوَيْناكُمْ﴾؛ أي: فدعوناكم إلى الغي والضلال، دعوة غير ملجئة، فاستجبتم لنا باختياركم الغي على الرشد ﴿إِنَّا كُنَّا غاوِينَ﴾؛ أي: ثابتين على الغواية، فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك المرتبة من الدعوة، لتكونوا أمثالنا في الغواية؛ أي: إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبنا أن تكونوا مثلنا. وهو غير ملزم لكم، وإنما أضركم سوء اختياركم، وقبح استعدادكم. وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب، الذي وعدتم به على ألسنة الرسل.
٣٣ - وبعد أن ذكر حالهم.. أعقبه بذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعًا، رؤساء ومرؤوسين. فقال: ﴿فَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: فإن الأتباع والمتبوعين ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يتساءلون، وهو يوم القيامة ﴿فِي الْعَذابِ﴾ متعلق بقوله: ﴿مُشْتَرِكُونَ﴾ حسبما كانوا مشتركين في الغواية؛ أي: فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والغواية وإن كان المغوون أشد عذابًا، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارًا مثل أوزار من أضلوهم، كما ثبت في الحديث. وقد تقدم ذكره مرارًا.
٣٤ - ثم ذكر سبحانه، أن هذا عدل منه على مقتضى سننه، فقال: ﴿إِنَّا كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وهو الجمع بين الضالين والمضلين في العذاب. ﴿نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ المتناهين في الإجرام. وهم المشركون،
٣٥ - كما يعرب عنه التعليل بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ بطريق الدعوة والتلقين بأن يقال لهم: قولوا: ﴿لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾؛ أي: يتكبرون، ويتعظمون عن القول بهذه الكلمة المشرّفة. ومحل ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ النصب على أنه خبر كان، أو الرفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة.
والمعنى: أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين، وفاقًا لما
واعلم: أنه وقع ذكر ﴿لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ في القرآن في موضعين:
أحدهما: في هذه السورة.
والثاني: في سورة القتال في قوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. وليس في القرآن لهما ثالث.
٣٦ - ثم ذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته، فيما حكاه عنهم بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: المشركون بعضهم لبعض. والهمزة في قوله: ﴿أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا﴾ للاستفهام الإنكاري؛ أي: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا وهي الأصنام. ﴿لِشاعِرٍ﴾؛ أي: لأجل قول شاعر ﴿مَجْنُونٍ﴾؛ أي: مغلوب على عقله، يعنون محمدًا - ﷺ -؛ أي: أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلط ويهذي. فمثله لا يستمع لكلامه، ولا يصغي إلى قوله.
ولقد كذبوا في ذلك حيث جنّنوه وشعّروه، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلًا، وأحسنهم رأيًا، وأشدهم قولًا، وأعلاهم كعبًا في المآثر والفضائل كلها، وأطولهم باعا في العلوم والمعارف بأسرها. ويشهد بذلك خطبة أبي طالب في تزويج خديجة الكبرى في محضر بني هاشم، ورؤساء مضر على ما سبق في سورة آل عمران عند قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية.
وقد جمعوا في كلامهم هنا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. فإنكار الأولى في استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: ﴿أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾.
٣٧ - ثم كذبهم سبحانه، فيما قالوا، فقال: ﴿بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: ليس الأمر على ما قالوه من الشعر والجنون، بل جاء محمد - ﷺ - بالحق. وهو التوحيد.
والمعنى: أي أنه - ﷺ - جاء بالحق الذي لا شك فيه، وهو التوحيد الذي يثبته العقل، ويؤيده البرهان، وبمثله جاء الأنبياء السابقون. فهو لم يكن بدعًا من بين الرسل، بل سار على شاكلتهم، واتبع نهجهم. فكيف يكون من هذه حاله شاعرًا أو مجنونًا؟!.
وقرأ عبد الله (١): ﴿وصدق﴾ بالتخفيف، ﴿المرسلون﴾ بالواو رفعا؛ أي: وصدق المرسلون في التبشير به، وفي أنه يأتي آخرهم.
٣٨ - ﴿إِنَّكُمْ﴾ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول والاستكبار ﴿لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ﴾ والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لذائقو العذاب﴾ بحذف النون للإضافة، وأبو السمال وأبان عن ثعلبة عن عاصم بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب، كما حذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ ﴿أَحَدٌ اللَّهُ﴾. ونقل ابن عطية عن أبي السمال: أنه قرأ ﴿لذائق﴾ منوّنًا، ﴿العذاب﴾ بالنصب. ويخرّج على أن التقدير: جمع، وإلا لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في ﴿إِنَّكُمْ﴾. وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون، والنصب للعذاب قول الشاعر:
فَأَلْفيْتُه غَيْرَ مُسْتَعتبٍ | وَلا ذَاكِر اللهَ إِلّا قَلِيْلا |
٣٩ - ثم بيّن العلة في لحوقه بهم، فقال: ﴿وَما تُجْزَوْنَ﴾ أيها الكفرة ﴿إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات، أو إلا بما كنتم تعملونه
(٢) البحر المحيط.
قال ابن الشيخ (١): ولما كان المقام مظنة أن يقال: كيف يليق بالكريم الرحيم المتعالي، عن النفع والضر أن يعذب عباده؟ أجاب عنه بقوله: ﴿وَما تُجْزَوْنَ...﴾ إلخ. وتقريره: أن الحكمة تقتضي الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، ولا يكمل المقصود من الأمر والنهي إلا بالترغيب في الثواب والترهيب بالعقاب. ولما وقع الإخبار بذلك، وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب. فلهذا السبب وقعوا في العذاب، انتهى. فعلى العاقل: أن يحذر من يوم القيامة وجزائه، فينتقل من الإنكار إلى الإقرار، ومن الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن الباطل إلى الحق، ومن الفاني إلى الباقي، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الرياء إلى الإخلاص.
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما علامة المؤمن؟ قال: أربع: أن يطهر قلبه من الكبر والعداوة، وأن يطهر لسانه من الكذب والغيبة، وأن يطهر قلبه من الرياء والسمعة، وأن يطهر جوفه من الحرام والشبهة. وأعظم الكبر أن يتكبر عن قول: لا إله إلا الله الذي هو أساس الإيمان، وخير الأذكار.
٤٠ - وبعد أن أبان حال المجرمين، ذكر حال عباد الله المؤمنين العاملين، وما يلاقونه من الجزاء والنعيم. فقال: ﴿إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)﴾ استثناء منقطع من ضمير ﴿ذائقون﴾، وما بينهما اعتراض، جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق، ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم، لا من جهة غيرهم أصلًا، ولكون الاستثناء منقطعا و «إلا» بمعنى لكن.
قال في «كشف الأسرار»: تم الكلام هاهنا؛ أي: عند قوله تعالى: ﴿إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. والمعنى: إنكم لذائقوا العذاب الأليم، لكن عباد الله المخلصين لا يذوقونه.
٤١ - وقوله: ﴿أُولئِكَ﴾ إشارة إلى المخلصين، وهو كلام مستأنف. فكأن (٣) سائلًا سأل ما لهؤلاء المخلصين من الأجر والثواب؟ فقيل: أولئك الممتازون عمن عداهم بالإضافة والإخلاص ﴿لَهُمْ﴾ بمقابلة إخلاصهم في العبودية ﴿رِزْقٌ﴾ لا يدانيه رزق، ولا يحيط به وصف على ما يفيده التنكير. والرزق اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله، كما سيأتي. ﴿مَعْلُومٌ﴾ الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ونحوها من نعوت الكمال.
والظاهر: أن معناه: معلوم وجودًا وقدرًا وحسنًا ولذة وطيبًا ووقتًا بكرة وعشيًا، أو دوامًا كل وقت اشتهوه. فإن فيه فراغ الخاطر. وإنما يضطرب أهل الدنيا في حق الرزق، لكون أرزاقهم غير معلومة لهم كما في الجنة.
٤٢ - ﴿فَواكِهُ﴾ بدل من ﴿رِزْقٌ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو فواكه، وهو الظاهر، جمع فاكهة. وهي الثمار كلها رطبها ويابسها. وتخصيصها بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه؛ أي: ما يؤكل بمجرد التلذذ دون الاقتيات؛ لأنهم مستغنون عن القوت
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
يقول الفقير (١): والظاهر أن الاقتصار على الفواكه للترغيب والتشويق من حيث إنه لا يوجد في أغلب ديار العرب خصوصا في الحجاز أنواع الفواكه. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ مُكْرَمُونَ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: معظمون عنده تعالى، برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه ولقائه في الجنة، لا يلحقهم هوان. وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولي الهمم. وقال بعضهم: لما فصل خصائص رزقهم بيّن أن ذلك الرزق، يصل إليهم بالتعظيم والإكرام. لأن مجرد المطعوم من غير إعزاز وإكرام يليق بالبهائم. وقرأ الجمهور (٢) ﴿مُكْرَمُونَ﴾ بتخفيف الراء. وقرأ ابن مقسم ﴿مكرمون﴾ بفتح الراء مشددًا.
ومعنى الآية: أي لكن عباد الله، الذين أخلصوا له العمل، وأنابوا إليه أولئك لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذ وطاب، فيتمتعون بلذيذ الفواكه ذات الطعم الجميل، والرائحة الشذية، وتأتيهم وهم مكرمون. كما تقدم للملوك المترفين وذوي اليسار في الدنيا. وفي ذلك إيماء إلى أن ما يأكلونه في الجنة، إنما هو للتفكه والتلذذ لا للتقوّت، كما مر، لأنهم في غنى عنه لعدم تحلل شيء من أجسامهم بالحرارة الغريزية، حتى يحتاجوا إلى بدل منه. وما جاء في قوله: ﴿وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١)﴾ فهو بيان لأنواع ما يأكلون.
٤٣ - ثم بيّن المكان الذي يأتيهم فيه الرزق، وذكر حالهم إذ ذاك. فقال: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ يجوز أن يتعلق بـ ﴿مُكْرَمُونَ﴾، وأن يكون خبرًا ثانيًا، وأن يكون حالا. والنعيم: النعمة؛ أي: في جنات ليس فيها إلا النعيم. فالإضافة للاختصاص، والظرف يقرر محل الرزق والإكرام.
٤٤ - وقوله: ﴿عَلى سُرُرٍ﴾ يحتمل أن
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي إنهم يأتيهم ذلك الرزق وهم في جنات النعيم جالسين على سرر متقابلين ليأنس بعضهم ببعض، ويتمتعوا بطيب الحديث. وفي ذلك لذة روحية لا يدركها إلا ذوو النهى وأرباب الحجا.
٤٥ - وبعد أن ذكر صفة مأكل المخلصين ومسكنهم ذكر صفة شربهم، فقال: ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ﴾ استئناف مبني على ما نشأ عن حكاية تكامل مجالس أنسهم؛ أي: يدار عليهم وهم على سرر ﴿بِكَأْسٍ﴾؛ أي: بإناء فيه خمر (١). فإن الكأس يطلق على الزجاجة ما دام فيها خمر، وإلا فهو قدح وإناء. ﴿مِنْ مَعِينٍ﴾ صفة كأس؛ أي: كائنة من شراب معين؛ أي: ظاهر للعين أو من نهر معين؛ أي: جار على وجه أرض الجنة. فإن في الجنة أنهارا جارية من خمر، كأنها جارية من ماء.
وفي الآية إشارة إلى أن قومًا شربوا، ومشربهم الشراب بالكأس، والشراب معين محسوس، وقومًا شربوا، ومشربهم الحب، والحب مغيب مستور، وقومًا شربوا، ومشربهم المحبوب هو سر مكنون.
نَسِيْم الحُبِّ يُحْييْكُمْ | رَحِيقُ الْحُبِّ يُلْهِيْكُمْ |
مِنَ الْمَحْبُوبِ يَأْتِيْكُم | إِلَى الْمَحْبُوْب يُنْهِيْكُمْ |
(٢) المراغي.
وَشَمُولَةٍ مِنْ عَهْدِ عَادٍ قَدْ غَدَتْ | صَرْعَى تُدَاسُ بِأَرجُلِ العُصَّارِ |
لانَتْ لَهُم حَتَّى انْتَشَوا فَتمَكَّنَتْ | مِنْهُمْ فَصَاحَتْ فِيْهِمُ بِالثَّارِ |
والمعنى (٢): أي يطاف عليهم بكأس لونها مشرق حسن بهي، لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع واللون الأسود أو الأصفر أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم. وهي لذيذة الطعم كما هي طيبة اللون وطيبة الريح. وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة، كما قال أبو نواس:
صَفْرَاءُ لا تَنْزلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا | لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ |
وَحَمْراءُ قَبْلَ الْمَزْجِ صَفْرَاءُ بَعْدَهُ | أَتَتْ فِيْ ثِيَابِيْ نَرْجِسٍ وَشَقَائِقِ |
حَكَتْ وَجْنَةً المَحْبُوبِ صِرفًا فَسُلِّطُّوا | عَليْهَا مَزاجًا فَاكتسبت لَوْن عَاشِق |
(٢) المراغي.
فَمَا زَالتِ الْكَأسُ تَغتَالُنَا | وَتَذْهَبُ بالأوَّلِ الأوَّلِ |
﴿وَلا هُمْ﴾؛ أي: المخلصون ﴿عَنْها﴾؛ أي: عن خمر الجنة ﴿يُنْزَفُونَ﴾؛ أي: يسكرون، من نزف الشارب فهو نزيف إذا ذهب عقله من السكر.
قرأ الحرميان (٢): نافع وابن كثير، والعربيان: أبو عمر وابن عامر ﴿ينزفون﴾ بضم الياء وفتح الزاي هنا، وفي الواقعة مبنيًا للمفعول، من نزف الثلاثي، يقال: نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله من السكر. وقرأ حمزة، والكسائي بضم الياء وكسر الزاي فيهما، من أنزف الرباعي، يقال: أنزف الرجل إذا سكر وذهب عقله أو نفد شرابه. وقرأ عاصم: بفتحها هنا، وكسرها في الواقعة. وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي. وقرأ طلحة بفتح الياء وضم الزاي.
ثم إنه (٣) أفرد هذا بالنفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغول عنها لما أنه من معظم مفاسد الخمر، كأنه جنس برأسه.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٤٨ - ثم ذكر محاسن زوجاتهم، ليكون في ذلك تتميم لبيان ما آتاهم ربهم من النعم. فقال: ﴿وَعِنْدَهُمْ﴾؛ أي: عند المخلصين ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ﴾؛ أي: حور قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا يمددن طرفًا إلى غيرهم، ولا يبغين بهم بدلًا لحسنهم عندهنَّ ولعفتهنَّ. ﴿عِينٌ﴾ جمع عيناء بمعنى واسعة الأعين. وهو صفة بعد صفة لموصول، ترك ذكره للعلم به؛ أي: حور قاصرات الطرف حسان الأعين وعظامها واسعات العيون في جمال.
٤٩ - ثم زاد بيانًا في وصف جمالهن بما شبههن به، فقال: ﴿كَأَنَّهُنَّ﴾؛ أي: تلك القاصرات ﴿بَيْضٌ﴾ بفتح الباء وسكون الياء، جمع بيضة، سمي البيض لبياضه والمراد به هنا: بيض النعام. ﴿مَكْنُونٌ﴾؛ أي: مصون مستور تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فيكون لونها أبيض في صفرة؛ أي: لم تنله الأيدي، فإن ما مسته الأيدي يكون متدنسا ويقال: هذا من أحسن ألوان النساء. وهو أن تكون المرأة بيضاء مشوبة بصفرة، والعرب تشبه المرأة ببيض النعامة، وتسميهن بيضات الخدور. وهذا عند العرب، وإلا فأحسنها عند العجم والروم الأبيض المشرب
والمعنى: أي إنهن في بياض يشوبه قليل من الصفرة كالبيض المستور في الأعشاش الذي لم تمسه الأيدي، ولم يعله الغبار. وهذا اللون مما تهيم به العرب. فقد شبهت النساء ببيضات الخدور، كما قال امرء القيس:
وَبيضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِبَاؤها | تَمتَّعْتُ مِن لهوٍ بِها غَير مُعجِلِ |
الإعراب
﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)﴾.
﴿وَالصَّافَّاتِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم، ﴿الصَّافَّاتِ﴾ مقسم به، مجرور
﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)﴾.
﴿لا﴾ نافية، ﴿يَسَّمَّعُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَى الْمَلَإِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسَّمَّعُونَ﴾، ﴿الْأَعْلى﴾: صفة لـ ﴿الْمَلَإِ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَيَقْذِفُونَ﴾: فعل، ونائب فاعل، معطوف على ﴿لا يَسَّمَّعُونَ﴾، ﴿مِنْ كُلِّ جانِبٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُقْذَفُونَ﴾، ﴿دُحُورًا﴾: مفعول لأجله منصوب بـ ﴿يُقْذَفُونَ﴾؛ أي: يقذفون للدحور والطرد أو على الحال؛ أي: يقذفون مدحورين أو مفعول مطلق
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)﴾.
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم وإنكارهم للمعاد، وأردت أن تبكتهم وترد عليهم في أمر إثبات المعاد فأقول لك: استفتهم. ﴿استفت﴾: فعل أمر، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، والهاء مفعول به. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿أَهُمْ﴾: الهمزة حرف استفهام لطلب تعيين أحد الأمرين، و ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، و ﴿أَشَدُّ﴾ خبر، ﴿خَلْقًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل. والجملة الاسمية جملة إنشائية، مسوقة لبيان الاستفتاء وتفسيره، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَمْ﴾ حرف عطف، وهي هنا متصلة لمعادلتها بهمزة الاستفهام، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على هم، ﴿خَلَقْنا﴾ فعل، وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أم من خلقناهم. وفي قراءة تخفيف ﴿أمن﴾ الهمزة للاستفهام، ﴿مَنْ﴾ مبتدأ، ﴿خَلَقْنا﴾: صلة من الموصولة، والخبر محذوف، تقديره: أمن خلقناهم أشد. فهما جملتان مستقلتان. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿خَلَقْناهُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿مِنْ طِينٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بخلقناهم، ﴿لازِبٍ﴾:
﴿أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)﴾.
﴿أَإِذا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر معلوم مما سيأتي تقديره: أنبعث. والجملة المقدرة في محل النصب مقول قالوا. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالفعل المقدر، ﴿مِتْنا﴾: فعل، وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾؛ أي: أنبعث وقت موتنا وكوننا ترابًا. ﴿وَكُنَّا تُرابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على متنا، ﴿وَعِظامًا﴾: معطوف على ترابًا، ﴿أَإِنَّا﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري مؤكدة للأولى، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿لَمَبْعُوثُونَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿مبعوثون﴾:
﴿وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَقالُوا﴾ الواو استئنافية، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿يا وَيْلَنا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿هذا يَوْمُ الدِّينِ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾: على كونها جواب النداء. ﴿هذا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾: ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿يَوْمُ الْفَصْلِ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول. ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول به. والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ويقول الله سبحانه للملائكة: احشروا الذين ظلموا. والجملة المحذوفة مستأنفة. وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾ صلة الموصول، ومفعول ﴿ظَلَمُوا﴾ محذوف، تقديره:
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)﴾.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من فاعل ﴿يَعْبُدُونَ﴾؛ أي: حال كونهم مجاوزين الله في عبادتهم. ﴿فَاهْدُوهُمْ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿اهدوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿احْشُرُوا﴾. ﴿إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اهدوهم﴾، ﴿وَقِفُوهُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على ﴿اهدوهم﴾. ﴿إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره. وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل الأمر قبلها. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ويقال لهم: ما لكم. ﴿لا﴾ نافية، ﴿تَناصَرُونَ﴾: فعل، وفاعل. والجملة في محل النصب حال من كاف المخاطبين. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب، ﴿هُمُ﴾: مبتدأ، ﴿الْيَوْمَ﴾: متعلق بما بعده، ﴿مُسْتَسْلِمُونَ﴾: خبرهم. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (٣٠)﴾.
﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾: فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿عَلى بَعْضٍ﴾: متعلق بأقبل، وجملة ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ في محل النصب حال من الفاعل والمجرور. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كُنْتُمْ﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول قالوا. ﴿تَأْتُونَنا﴾: فعل، وفاعل، وفعول به. والجملة الفعلية في
﴿فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)﴾.
﴿فَحَقَّ﴾ الفاء: عاطفة تفريعية، ﴿حق﴾: فعل ماض، ﴿عَلَيْنا﴾: متعلق به، ﴿قَوْلُ رَبِّنا﴾: فاعل، ومضاف إليه. والجملة معطوفة على جملة الإضراب. ﴿إِنَّا لَذائِقُونَ﴾ ناصب واسمه، واللام: حرف ابتداء، ﴿ذائقون﴾: خبره. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿فَأَغْوَيْناكُمْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿أغويناكم﴾ فعل وفاعل ومفعول، معطوف على حق، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿غاوِينَ﴾: خبره. وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما جرى بين الأتباع والرؤساء من المخاصمة، وأردت بيان مصائرهم وعواقبهم فأقول لك: إنهم. ﴿إنهم﴾ ناصب واسمه، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿يوم﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف حال من ضمير الغائبين، ﴿يوم﴾: مضاف، ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ يتساءلون ويتلاومون. ﴿فِي الْعَذابِ﴾: متعلق بـ ﴿مُشْتَرِكُونَ﴾ و ﴿مُشْتَرِكُونَ﴾: خبر ﴿إنهم﴾. وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب
﴿إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)﴾.
﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كانُوا﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. إِذا: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق به، ونائب فاعله جملة محذوفة، تقديرها: إذا قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله. وجملة ﴿قِيلَ﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾، والظرف متعلق بـ ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾. وجملة ﴿لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ مقول قول محذوف تقديره: قولوا ﴿قولوا﴾: فعل أمر وفاعل. والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿قولوا﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿لا﴾: نافية للجنس تعمل عمل ﴿إن﴾، ﴿إِلهَ﴾: في محل النصب، اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف، تقديره: لا إله موجود إلا الله، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿اللَّهُ﴾ بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لا﴾: في محل النصب مقول للقول المحذوف. وجملة ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾. ﴿أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿إنا﴾ ناصب واسمه، ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿تاركوا آلهتنا﴾: خبر ﴿إن﴾، ومضاف إليه، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿لِشاعِرٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تاركوا﴾، ﴿مجنون﴾: صفة لـ ﴿شاعر﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب وابتداء للإضراب الإبطالي، ﴿جاءَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿جاءَ﴾، والجملة مستأنفة. {وَصَدَّقَ
﴿إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن، ﴿عِبادَ اللَّهِ﴾: مستثنى من الواو في ﴿تُجْزَوْنَ﴾، ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾: صفة لعباد الله، ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ أول، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿رِزْقٌ﴾: مبتدأ ثان مؤخر، ﴿مَعْلُومٌ﴾: صفة ﴿رِزْقٌ﴾، وجملة المبتدأ الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة. ﴿فَواكِهُ﴾: بدل أو عطف بيان لـ ﴿رِزْقٌ﴾ بدل كل من كل، ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو حالية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مُكْرَمُونَ﴾: خبره. والجملة إما معطوفة على جملة ﴿لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾: أو حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾. ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿مُكْرَمُونَ﴾ أو خبر ثان لهم أو في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿مُكْرَمُونَ﴾. ﴿عَلى سُرُرٍ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَقابِلِينَ﴾ أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله أعني: ﴿فِي جَنَّاتِ﴾، وكذا ﴿مُتَقابِلِينَ﴾: حال من الضمير المستكن فيه، ﴿يُطافُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، ﴿بِكَأْسٍ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل. والجملة الفعلية صفة
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالصَّافَّاتِ﴾: هم جماعة الملائكة، يقفون صفوفًا لكل واحد منهم، مرتبة معينة في الشرف والفضيلة. ﴿صَفًّا﴾: والصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، كالناس والأشجار. تقول: صففت القوم، من باب رد، فاصطفوا إذا أقمتهم على خط مستقيم، لأداء الصلاة أو لأجل الحرب. ﴿فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (٢)﴾: أصل الزجر: الدفع عن الشيء بتسلط وصياح، ثم استعمل في السوق والحث على الشيء، وفي المنع والنهي. والمراد بها هنا: الملائكة؛ لأن لهم تأثيرًا في قلوب بني آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير. يقال: زجرت البعير إذا حثثته ليمضي، وزجرت فلانًا عن سوء فانزجر؛ أي: نهيته فانتهى فزجر البعير كالحث له، وزجر الإنسان كالنهي. وفي «كشف الأسرار»: الزجر: الصرف عن الشيء بتخويف. وفي «المفردات»: الزجر: الطرد بصوت، ثم يستعمل في الطرد
﴿لَواحِدٌ﴾؛ أي: لا ثاني له سبحانه. وفي «المفردات» الوحدة: الانفراد. والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة، ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح وصفه، فيقال: عشرة واحدة، ومئة واحدة. فالواحد لفظ مشترك، يُستعمل في خمسة أوجه:
الأول: ما كان واحدًا في الجنس أو في النوع كقولنا: الإنسان والفرس واحد في الجنس، وزيد وعمرو واحد في النوع.
والثاني: ما كان واحدًا بالاتصال، إما من حيث الخلقة كقولك: شخص واحد، وإما من حيث الصناعة كقولك: حرفة واحدة.
والثالث: ما كان واحدًا لعدم نظيره. إما في الخلقة كقولك: الشمس واحدة، وإما في دعوى الفضيلة كقولك: فلان واحد دهره، وكقولك: هو نسيج وحده.
والرابع: ما كان واحدًا لامتناع التجزي فيه، إما لصغره كالهباء، وإما لصلابته كالماس.
والخامس: للمبتدأ إما لمبدأ العدد، كقولك: واحد اثنين، وإما لمبدأ الخط كقولك: النقطة الواحدة. والوحدة في كلها عارضة، فإذا وصف الله عز وجل بالواحد فمعناه: هو الذي لا يصح التجزي، ولا التكثر. ولصعوبة هذه الوحدة قال الله تعالى: ﴿وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾، انتهى.
﴿الدُّنْيا﴾ مؤنث الأدنى؛ أي: قرب السموات من أهل الأرض. ﴿مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ﴾؛ أي: متعر عن الخير، متجرد عنه من قولهم: شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه: الأمرد لتجرده عن الشعر، والمارد والمريد بمعنى واحد، وهو المتعري عن كل خير. وفي «المختار»: مرد من باب ظرف، فهو مارد ومريد، وهو العاتي.
﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ﴾ والخطف: الاختلاس بسرعة. والمراد هنا: اختلاس الكلام؛ أي: كلام الملائكة مسارقة. ﴿فَأَتْبَعَهُ﴾ في «المختار»: تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مر به فمضى معه، وكذا اتبعه وهو افتعل، وأتبعه على أفعل. وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل: ردفه وأردفه، ومنه: قوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ﴾. قال ابن الكمال: الفرق بين أتبعه وتبعه أنه يقال: أتبعه إتباعًا إذا طلب الثاني اللحوق بالأول، وتبعه تبعًا إذا مر به ومضى معه. ﴿شِهابٌ﴾ والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة. وفي «القاموس»: الشهاب ككتاب شعلة من نار ساطعة، انتهى. والمراد هنا: ما يُرى منقضًّا من السماء. ﴿ثاقِبٌ﴾ قال في «المفردات»: الثاقب: النيِّر المضيء، يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه، انتهى؛ أي: مضيء في الغاية، كأنه يثقب الجو بضوئه، يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع.
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ والفتيا والفتوى: الجواب عما يشكل من الأحكام. يقال: استفتيته فأفتاني بكذا. قال بعضهم: الفتوى من الفتي، وهو الشاب القوي، وسمي الفتوى فتوى؛ لأن المفتي يقوي السائل في جواب الحادثة، وجمعه
﴿أَشَدُّ خَلْقًا﴾؛ أي: أصعب خلقًا، وأشد إيجادًا. ﴿مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾ قال في «المفردات»؛ اللازب: الثابت الشديد الثبوت، ويعبر باللازب عن الواجب، فيقال: ضربة لازب، اهـ. والباء بدل من الميم، والأصل لازم مثل: بكة ومكة، يقال: لزب يلزب لزوبا من باب دخل اشتد وثبت، ولزب به لصق، ولزب يلزب لزبًا من باب تعب، ولزب يلزب لزبًا ولزوبًا من باب كرم الطين لزق وصلب، ولزب الشيء دخل بعضه في بعض. واللازب اسم فاعل: الثابت، يقال: صار الأمر ضربة لازب؛ أي: صار لازمًا ثابتًا.
﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)﴾ والسخرية: الاستهزاء والعجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قال بعض الحكماء: العجب: ما يعرف سببه، ولهذا قيل: لا يصح على الله التعجب. إذ هو علام الغيوب لا تخفى عليه خافية. ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ والسين والتاء للمبالغة والتأكيد؛ أي: يبالغون في السخرية والاستهزاء أو للطلب على أصله؛ أي: يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.
قوله: ﴿أَإِذا مِتْنا﴾ إلخ، أصله: أنبعث إذا متنا. فبدّلوا الفعلية بالاسمية وقدّموا الظرف، وكرّروا الهمزة مبالغة في الإنكار وإشعارًا بأن البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارًا، اهـ «بيضاوي». ﴿نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ﴾؛ أي: صاغرون. وكلمة ﴿نَعَمْ﴾ بفتحتين: تقع في جواب الاستخبار المجرد من النفي، ورد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام. والخطاب لهم ولآبائهم على التغليب. والدخور: أشد الصغار والذلة، يقال: دخر يدخر من باب فتح، ودخر يدخر من باب تعب دخرًا ودخورًا؛ أي: ذل وصغر، ويقال: أدخرته فدخر؛ أي: أذللته فذل.
﴿فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ﴾ والزجرة: الصيحة، من زجر الراعي غنمه، أو إبله إذا صاح عليها. وهي النفخة الثانية. ﴿يا وَيْلَنا﴾ قال الزجاج: الويل: كلمة يقولها
﴿وَقِفُوهُمْ﴾ أمر من وقفه وقفًا بمعنى حبسه، لا من وقف وقوفًا بمعنى دام قائمًا. فالأول متعد، والثاني لازم. والمعنى: احبسوا المشركين أيها الملائكة عند الصراط. ﴿مُسْتَسْلِمُونَ﴾ من الاستسلام، يقال: استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، وأصله: طلب السلامة، ويلزمه الانقياد عرفا. ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾ يقال: أقبل عليه بوجهه، وهو ضد الإدبار. ﴿مِنْ سُلْطانٍ﴾؛ أي: قهر وتسلط. والسلاطة: التمكن من القهر، يقال: سلطه فتسلط، ومنه: سمي السلطان بمعنى الغالب والقاهر، كما مر.
﴿رزق﴾ والرزق اسم لما يسوقه الله تعالى، إلى الحيوان، فيأكله. قال أحمد بن رسلان في زبده:
يرزقُ مَن يَشاءُ ومنْ شَاءَ أَحْرَمَا | والرِّزقُ مَا ينفعُ ولو مُحَرَّمَا |
وكأسٍ شَربتُ عَلى لَذَّةٍ | وَأُخْرى تَدَاويتُ مِنهَا بِهَا |
لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أنِّي امْرُؤٌ | أَتَيْتُ المَعِيشَةَ مِنْ بَابِهَا |
وبيضةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِبَاؤهَا | تَمتَّعْتُ مِنَ لَهْوٍ بها غَيْر مُعْجِلِ |
أحدها: بالصحة والسلامة عن الطمث، ومنه: قول الفرزدق:
خَرَجْنَ إِلَيَّ لَمْ يطمثهُنَّ قَبلِي | وَهُنَّ أَصحُّ مِن بَيْضِ الْحَمَامِ |
والثالث: في صفاء اللون ونقائه؛ لأن البيض يكون صافي اللون نقيّه إذا كان تحت الطائر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) حال أهل الجنة وما يتمتعون
قوله تعالى: ﴿أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما وصف (١) ثواب أهل الجنة، وذكر ما يتمتعون به من مآكل، ووصف الجنة، ورغّب فيها بقوله: ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)﴾ أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار، وما يلاقون فيها من العذاب اللازب، الذي لا يجدون عنه محيصا، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم، جزاء ما دسوا به أنفسهم من سيء الأعمال، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان، من الكفر بالله. وعبادة الأصنام والأوثان.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين، دون نظر ولا تدبر.. أردفه ما يوجب التسلية لرسوله - ﷺ -، على كفرهم وتكذيبهم، بأن كثيرا من الأمم قبلهم، قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم، وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم، فليكن لك فيهم أسوة، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات، إن عليك إلا البلاغ.
التفسير وأوجه القراءة
٥٠ - قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠)﴾ معطوف (٢) على ﴿يُطافُ﴾؛ أي: يطاف على عباد الله المخلصين في الجنة بشراب، فيشربون فيتحدثون على الشراب، كما هو عادة الشربة في الدنيا، فيقبل بعضهم على بعض حال كونهم
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء، إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم:
وَمَا بَقيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلّا | مُحَادثةُ الْكِرام عَلَى الشَّرَابِ |
وَلَثمُكَ وَجنَتَي قَمَرٍ مُنِيرٍ | يَجُولُ بِوَجْهِهِ مَاءَ الشَّبَابِ |
٥١ - ثم فصّل هذا التساؤل وبيّنه، فقال:
﴿قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من العباد المخلصين في تضاعيف محاوراتهم، وأثناء مكالماتهم ﴿إِنِّي كانَ لِي﴾ في الدنيا ﴿قَرِينٌ﴾؛ أي: مصاحب وجليس، كافر بالبعث، منكر له،
٥٢ - كما يدل عليه قوله: ﴿يَقُولُ﴾ لي على طريقة التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث ﴿أَإِنَّكَ﴾ أيها المؤمن ﴿لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾؛ أي: لمن المعتقدين بالبعث والمقرين الجزاء. وهذا (٢) الاستفهام من القرين، لتوبيخ ذلك المؤمن، وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا.
٥٣ - ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد للبعث عنده، وفي زعمه. فقال: ﴿أَ﴾ ندان ونجازى ﴿إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)﴾؛ أي: هل نحن مجزيون
(٢) الشوكاني.
قرأ الجمهور (١): ﴿لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ بتخفيف الصاد من التصديق؛ أي: لمن المصدقين بالبعث. وقرىء بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، وهو بعيد؛ لأنها من التصدق لا من التصديق. ويمكن تأويلها: بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث. وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى، والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. ووافقه الكسائي؛ إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى والثالثة بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها، ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدةٍ غير مطولة، وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين.
وقد مضت قصتهما في سورة الكهف، والاختلاف في اسميهما. قال قرة بن ثعلبة النهراني (٢): كانا شريكين في بني إسرائيل بثمانية آلاف درهم، أحدهما يعبد الله، واسمه يهوذا، ويقصر في التجارة والنظر، والآخر وهو كافر اسمه نطروس، كان مقبلا على ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، فكلما اشترى دارا أو جارية أو بستانا ونحوه، عرضه على المؤمن وفخر عليه، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة، فكان من أمرهما في الآخرة، ما قصه الله في كتابه في سورة الكهف. وقال الزمخشري (٣): نزلت في رجل، تصدق بماله لوجه الله تعالى، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ فقال: تصدقت به ليعوّضني الله تعالى في الآخرة خيرًا منه. فقال: أإنك لمن المصدقين بيوم الدين، أو لمن المتصدقين لطلب ثواب الله تعالى، والله لا أعطيك شيئًا.
(٢) البحر المحيط مع زيادة من المراح.
(٣) الكشاف.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مُطَّلِعُونَ﴾ بتشديد الطاء المفتوحة، وفتح النون، ﴿فَاطَّلَعَ﴾ فعلًا ماضيًا، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي: ﴿مُطَّلِعُونَ﴾ بإسكان الطاء وفتح النون، ﴿فَاطَّلَعَ﴾ بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام، فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس، وابن محيصن، وعمار بن أبي عمار، وأبي سراج، وقرىء ﴿فاطلع﴾ مشددًا مضارعًا، منصوبًا على جواب الاستفهام.
وقرىء ﴿مطلعون﴾ بالتخفيف، ﴿فأطلع﴾ مخففًا فعلًا ماضيًا. وقرىء ﴿فأطلع﴾ مخففًا مضارعًا منصوبًا. وقرأ أبو البرهشيم، وعمار بن أبي عمار، فيما ذكره خلف عن عمار: ﴿مطلعون﴾ بتخفيف الطاء وكسر النون، ﴿فَاطَّلَعَ﴾ ماضيًا مبنيًا للمفعول. وأورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم، والوجه ﴿مطلعي﴾ كما قال: أو مخرجي هم. وقال الزمخشري: يريد مطلعون إياي، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله: هم الفاعلون للخير والآمرونه. أو يقال: إن كسر النون في الجمع لغة، وإن كان لا يقع إلا في الشعر.
وحاصل معنى الآيات (٢): أي قال قائل من أهل الجنة: إني كان لي قرين
(٢) المراغي.
٥٥ - وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة، أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من دخول النار فـ ﴿قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾؛ أي: قال لجلسائه من أهل الجنة ليزيدهم سرورًا على أن عصمهم الله تعالى من مثل حاله، ووفقّهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياءه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين، وكيف خذله الله تعالى، وأوقعه في الهلكة؟.
واعلم: أنه لا ينبغي لنا أن نخوض في بيان كيفية الاطلاع، إذ ذاك مع شاسع المسافات واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار، فإن ذلك من أمور الغيب، التي يجب أن نؤمن بها دون بحث في شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها.
٥٦ - فاطلع ذلك المؤمن إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرها وشديد لهبها، ﴿قالَ﴾ ذلك القائل المؤمن، مخاطبًا لقرينه، متشمتًا به حين رآه على صورة قبيحة، وقال خليل العصري: رآه تبدلت حالته، فلولا ما عرّفه الله به، لم يعرفه، فقال له عند ذلك: ﴿تَاللَّهِ﴾؛ أي: أقسمت لك بالله المنتقم ﴿إِنْ﴾؛ أي: إن الشأن ﴿كِدْتَ﴾؛ أي: قاربت ﴿لَتُرْدِينِ﴾؛ أي: لتهلكني بالإغواء. والردى: الهلاك، والإرداء: الإهلاك، أصله: ترديني بياء المتكلم، فحذفت اكتفاء بالكسرة، كما سيأتي؛ أي: إن الشأن، قاربت لتهلكني بدعائك إياي، إلى إنكار البعث والقيامة، وقرىء (١): ﴿لتغوين﴾؛ أي: لتضلني عن الدين،
٥٧ - ﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي﴾ علي بهدايتي إلى الحق، وعصمتي من الباطل ﴿لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾؛ أي: من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك، وفي «التأويلات
وإنما أخبر الله تعالى عن هذه الحالة قبل وقوعها، ليعلم أن غيبة الأشياء وحضورها عند الله سبحانه سواء، لا يزيد حضورها في علم الله تعالى شيئًا، ولا ينقص غيبتها من علمه شيئًا، سواء في علمه وجودها وعدمها، بل كانت المعدومات في علمه موجودة.
٥٨ - وقوله: ﴿أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨)﴾ رجوع إلى محاورة جلسائه في الجنة، بعد إتمام الكلام مع قرينه، سرورًا بفضل الله العظيم، والنعيم المقيم، فإن تذكر الخلود في الجنة لذة عظيمة، والهمزة فيه للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، وفيها معنى التعجب، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أنحن مخلدون، منعمون في الجنة، فما نحن بميتين؛ أي: بمن شأنه الموت
٥٩ - ﴿إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى﴾ التي كانت في الدنيا، وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال؛ أي: لا نموت في الجنة أبدًا، سوى موتتنا الأولى في الدنيا، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل يعني: إنه مستثنى مفرّغ معرب، على حسب العوامل، منصوب بميتين، كما ينصب المصدر بالفعل المذكور قبله في مثل قولك: ما ضربت زيدًا إلا ضربة واحدة، فكأنه قيل: وما نحن نموت موتة إلى موتتنا الأولى. وقيل: نصبها على الاستثناء المنقطع، بمعنى؛ لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا. وقيل: ﴿إِلَّا﴾ هنا بمعنى بعد وسوى، وقرأ زيد بن علي ﴿وما نحن بمائتين﴾، ﴿وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨)﴾ كالكفار، فإن النجاة من العذاب أيضًا نعمة جليلة، مستوجبة للتحدث بها، كما أن العذاب محنة عظيمة، مستدعية لتمني الموت كل ساعة. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «الموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده».
والمعنى (١): أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا
والخلاصة: أن المؤمن غبط نفسه، بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب.
وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون فيها، حصل لهم من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك، وبما ذكر في كتابه، نحو قوله تعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى﴾، وفي نفي العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم، وعدم خوف زواله، فإن خوف الزوال نوع من العذاب، كما قال:
إِذَا شِئتَ أَنْ تَحيَا حَيَاةً هَنيَّه | فَلا تتَّخِذ شَيئًا تَخَافُ لَهُ فَقْدَا |
٦٠ - ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته، فقال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الأمر العظيم، الذي نحن فيه من النعمة والخلود والأمن من العذاب ﴿لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والظفر الجسيم، والسعادة الأبدية، والسلامة السرمدية؛ أي: لهو السعادة والظفر بكل المراد، إذ الدنيا وما فيها تحتقر دونه، كما تحتقر القطرة من البحر المحيط، والحبة من البيدر الكبير، وقرىء ﴿أإن هذا لهو الفوز﴾ بزيادة همزة الاستفهام، قاله في المراح.
والمعنى (١): أي إن هذا الأمر العظيم، والنعيم المقيم، والخلود الدائم الذي نحن فيه، لهو الفوز العظيم، الذي لا يقادر قدره، ولا يمكن الإحاطة بوصفه.
٦١ - وقوله: ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)﴾؛ أي: لنيل هذا المرام الجليل من تمام كلامه؛ أي: لنيل مثل هذا العطاء، يجب أن يعمل العاملون، ويجتهد
حُفَّتِ الجَنَّةُ بِمَكْرُوهَاتِنَا | وَحُفَّت النِّيْرَانُ مِن شَهَواتِنَا |
٦٢ - والهمزة في قوله: ﴿أَذلِكَ﴾ للاستفهام التقريري. والمراد (٢): حمل الكفار على إقرار مدخولها، وذلك إشارة إلى نعيم الجنة، وهو مبتدأ، خبره ﴿خَيْرٌ﴾ وهو وارد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم، وانتصاب ﴿نُزُلًا﴾ على التمييز أو على الحالية، وهو ما يهيأ من الطعام النفيس للقادم؛ أي: الضيف ومنه: إنزال الأجناد لأرزاقهم؛ أي: أنعيم الجنة، ورزقها المعلوم للمؤمنين خير طعامًا ﴿أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾؛ أي: ثمرها الذي كان طعام أهل النار، فأيهما خير في كونهما نزلا، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق، مرة كريهة الرائحة، تكون بتهامة يعرفها المشركون، سميت بها الشجرة الموصوفة بقوله: ﴿إِنَّها شَجَرَةٌ...﴾ إلخ، والإضافة فيها من إضافة المسمى إلى الاسم، واختلف (٣) فيها، هل هي من شجر الدنيا، التي يعرفها العرب، أم لا؟ على قولين:
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والقول الثاني: أنها عبارة عن أطعمة كريهة في النار، وفي ذكره ﴿نُزُلًا﴾ دلالة على أن ما ذكره من النعيم لأهل الجنة، بمنزلة ما يُعد ويرفع للنازل، ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار.
والمعنى: أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة، كرامة مني لهم خير، أم ما أوعدت به أهل النار، من الزقوم المر البشع.
والحاصل: أن الله سبحانه، أمر رسوله أن يورد ذلك على كفار قومه، ليصير ذلك زاجرًا لهم عن الكفر والمعاصي، وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم.
٦٣ - قال قتادة: لما ذكر الله سبحانه هذه الشجرة، افتتن بها الكفار، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة؟، فأنزل الله سبحانه ﴿إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣)﴾؛ أي: إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء، واختبارًا للكافرين. فهم حين سمعوا أنها في النار قالوا: كيف يكون ذلك، والنار تحرق الشجر، مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها كحيات جهنم مثلا فهو أقدر على خلق الشجر فيها، وحفظه من الاحتراق.
وقيل المعنى (١): أنا جعلناها فتنة؛ أي: عذابًا لهم في الآخرة، فإن الفتن تأتي بمعنى الإحراق، وابتلاءً لهم في الدنيا حيث فتنوا وضلوا عن الحق بسببها، فإن الفاتن قد يطلق على المضل عن الحق، فإن الكفار لما سمعوا كون هذه الشجرة في النار، فتنوا به في دينهم، وتوسلوا به إلى الطعن في القرآن، والنبوة والتمادي في الكفر.
ولعل (١) هذا رد على ابن الزبعرى وصناديد قريش، وتجهيل لهم حيث قال ابن الزبعرى لهم: إن محمدًا يخوفنا بالزقوم، والزقوم بلسان البربر، الزبد والتمر، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقمينا، فأتتهم بالزبد والتمر، فقال استهزاءً: تزقموا فهذا ما توعدكم به محمد، فقال: ﴿إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)﴾؛ أي: فليس الزقوم ما فهم هؤلاء الجهلة الضلال.
٦٥ - ﴿طَلْعُها﴾؛ أي: حملها وثمرها الذي يخرج منها ويطلع، مستعار من طلع النخلة، لمشاركته له في الشكل والطلع كما سيأتي: شيء يخرج من النخل، كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، قالوا أول الثمر: طلع ثم خلال، ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، اهـ أبو السعود. ﴿كَأَنَّهُ﴾؛ أي: كأن ذلك الطلع وثمره في تناهي قبحه وشناعة منظره ﴿رُؤُسُ الشَّياطِينِ﴾؛ لأن صورة الشيطان أقبح الصور، وأكرهها في طباع الناس وعقائدهم، ومن ثمة إذا وصفوا شيئًا بغاية القبح والكراهة قالوا: كأنه شيطان وإن لم يروه، فتشبيه الطلع برؤوس الشياطين، تشبيه بالمخيّل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، قال تعالى حكاية: ﴿ما هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾، وفيه إشارة، إلى أن من كان هاهنا معلوماته في قبح صفات الشياطين، يكون هناك مكافأته في قبح صورة الشياطين.
والمعنى (٢): أي إن ثمرها في قبح منظره، وكراهة رؤيته، كأنه رؤوس الشياطين، والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة، لا تعدلها صورة أخرى، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي: كأن وجهه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس
(٢) المراغي.
أَيَقتُلُنِي والمَشْرفِيُّ مُضَاجِعيْ | وَمسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأنْيَابِ أَغْوَالِ |
وقال الزجاج والفراء (١): الشياطين حيات هائلة، قبيحة المنظر، لها رؤوس وأعراف، جمع عرف بضم العين، وهو شعر تحت الرأس، وهي من أقبح الحيات وأخبثها، وأخفها جسمًا. وقيل: إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح، معروف باليمن، بناحية يقال لها: الأستن، ويقال له: الشيطان، قال النحاس: وليس ذلك معروفًا عند العرب، وقيل: هو شجر خشن منتن، مر، منكر الصورة، يسمى ثمره رؤوس الشيطان، يوجد بين مكة واليمن.
٦٦ - ﴿فَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: الكفار ﴿لَآكِلُونَ مِنْها﴾؛ أي: من شجرة الزقوم، أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة، ﴿فَمالِؤُنَ مِنْهَا﴾؛ أي: من شجرة الزقوم ﴿الْبُطُونَ﴾؛ أي: بطونهم، والمالىء اسم فاعل، من ملأ الإناء ماء كما سيأتي، والبطون: جمع بطن، وهو خلاف الظهر، وذلك لغلبة الجوع عليهم، أو أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلىء بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة وفاكهتهم،
٦٧ - ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ﴾ بعد الأكل منها ﴿عَلَيْها﴾؛ أي (٢): على الشجرة التي ملؤوا منها بطونهم بعد ما شبعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استسقاؤهم كما ينبىء عنه كلمة ﴿ثُمَّ﴾ فتكون للتراخي الزماني، ويجوز أن تكون للرتبي، من حيث إن كراهة شرابهم وبشاعته، لما كانت أشد
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿شوبا﴾ بفتح الشين، وقرأ شيبان النحوي: بالضم، قال الزجاج: الفتح للمصدر، والضم للاسم، يعني: أنه فعل بمعنى مفعول كالنقض بمعنى المنقوض.
٦٨ - ﴿ثُمَّ﴾ بعد ما ملؤوا بطونهم منها، وشربوا عليها شوبًا من حميم ﴿إِنَّ مَرْجِعَهُمْ﴾؛ أي: مصيرهم ومنقلبهم ﴿لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾؛ أي: إلى (٢) دركاتها أو إلى نفسها، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها، وقيل: الجحيم خارج عنها لقوله تعالى: ﴿هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤)﴾، يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم من الجحيم إلى شجرة الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يمتلئوا، ثم يسقون من الحميم، ثم يردون إلى الجحيم، كما يرد الإبل عن موارد الماء، ويؤيده قراءة ابن مسعود ﴿ثم إن مقيلهم﴾، وفي الحديث: «يا أيها الناس اتقوا الله، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت، لأمرت على أهل الدنيا معيشتها، فكيف بمن هو طعامه وشرابه، وليس له طعام غيره»، وقرأ ابن مسعود ﴿ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم﴾.
وقال أبو حيان (٣): ولما كان الأكل يعقبه ملء البطن، كان العطف بالفاء في قوله: ﴿فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾، ولما كان الشرب يكثر تراخيه عن الأكل، أتى
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط بتصرف.
وحاصل معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها﴾ إلى آخر الآيات الثلاث؛ أي: فإنهم (١) ليأكلون من ثمرها، فيملؤون بطونهم منه، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه، ونهاية نتنه، وبشاعة رائحته، ولكن ماذا يعملون، وقد غلب عليهم الجوع، والمضطر يركب الصعب والذلول، ويستروح من الضر بما يقاربه فيه، وبعد أن وصف طعامهم وبيّن شناعته، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع، فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)﴾؛ أي: ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش، يستغيثون منه، فيغاثون بماء كالمهل، قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم، شوى لحوم وجوههم، وإذا شربوه قطع أمعاءهم، ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك، لا مأوى لهم إلا نار جهنم، وبئس المصير، فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)﴾؛ أي: ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فهم تارة في هذه، وتارة في تلك.
والخلاصة: أنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم، ثم يسقون الحميم، ثم يرجعون إلى تلك الدركات.
٦٩ - ثم علل استحاققهم للوقوع، في تلك الشدائد، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به، فقال: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩)﴾؛ أي: وإنما استحقوا هذا العذاب الشديد؛ أي: لأنهم أي: لأن أصحاب الزقوم وجدوا آباءهم ضالين،
٧٠ - ﴿فَهُمْ﴾؛ أي: الكافرون الظالمون بسبب تقليدهم آباءهم ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾؛ أي: على آثار الآباء وأعقابهم ﴿يُهْرَعُونَ﴾؛ أي: يسرعون من غير أن يتدبروا أنهم على الحق، أو لا، مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل، والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يزعجون ويحثون حثا على الإسراع على آثارهم.
والمعنى: يتبعون آباءهم في سرعة، كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، وفي هذا دليل، على أن التقليد شؤم على المقلد، وعلى من يتبعه، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر، والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن في القرآن آية، غير هذه في ذم التقليد، لكفت.
٧١ - ﴿وَلَقَدْ﴾ جواب قسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ﴿ضَلَّ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل قومك قريش ﴿أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ من الأمم السابقة، أضلهم إبليس، ولم يذكر لأن في الكلام دليلًا، فاكتفي بالإشارة.
والمعنى: أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم الماضية، فعبدوا مع الله تعالى آلهة أخرى، كما فعل قوم إبراهيم، وقوم هود، وقوم صالح.
٧٢ - ثم ذكر رحمته بعباده، وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أرسلنا في أولئك الأولين رسلًا أولي عدد كثير، ذوي شأن خطير، بيَّنوا لهم بطلان ما هم عليه، وأنذروهم عاقبته الوخيمة، وأوضحوا لهم الحق. فلم ينجح ذلك فيهم،
٧٣ - ﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد، أو أيها المخاطب ﴿كَيْفَ كانَ﴾؛ أي: أي حالة كانت ﴿عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾؛ أي: آخر أمر الذين أنذروا من عذاب الله تعالى، فلم يلتفتوا إلى الإنذار، ولم يرفعوا له رأسًا من الدمار والهلاك، فقد دمرهم الله تعالى، ونجى المؤمنين ونصرهم.
والخطاب (١): إما للرسول، أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم،
٧٤ - استثني منهم المخلصين بقوله تعالى: ﴿إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)﴾؛ أي: الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان، والعمل بموجب الإنذار، واصطفاهم بالقرب والرضا. يعني: أنهم نجوا مما أهلك به كفار الأمم الماضية. وقرىء (١) ﴿المخلصين﴾ بكسر اللام؛ أي: الذين أخلصوا لله طاعاتهم، ولم يشوبوها بشيء مما بغيرها؛ أي: لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه أنجاهم من عذابه. ففازوا بالنعيم المقيم، في جنات عرضها السموات والأرض.
وفي الآية (٢): تسلية لرسول الله - ﷺ - ببيان أنه تعالى، أرسل قبله رسلًا إلى الأمم الماضية، فأنذروهم بسوء عاقبة الكفر والضلال، فكذبهم قومهم ولم ينتهوا بالإنذار، وأصروا على الكفر والضلال، فصبر الرسل على أذاهم، واستمروا على دعوتهم إلى الله تعالى، فاقتد بهم، وما عليك إلا البلاغ، ثم إن عاقبة الإصرار الهلاك، وغاية الصبر النجاة والفوز بالمراد، فعلى العاقل تصحيح العمل بالإخلاص، وتصحيح القلب بالتصفية.
قال الواسطي: مدار العبودية على ستة أشياء: التعظيم، والحياء، والخوف، والرجاء، والمحبة، والهيبة، فمن ذكر التعظيم يهيج الإخلاص، ومن ذكر الحياء يكون العبد على خطرات قلبه حافظًا، ومن ذكر الخوف يتوب العبد من الذنوب ويأمن من المهالك، ومن ذكر الرجاء يسارع إلى الطاعات، ومن ذكر المحبة يصفو له الأعمال، ومن ذكر الهيبة يدع التملك والاختيار، ويكون في إرادته تابعًا لإرادة الله تعالى، ولا يقول إلا سمعنا وأطعنا، ومن الله سبحانه التوفيق، بطريق التحقيق، وقد ذكر الله سبحانه، في هذه السورة ست قصص من قصص الأنبياء:
(٢) روح البيان.
٧٥ - ولما ذكر سبحانه، أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين، وحسن عاقبة المنذرين بالكسر، وسوء خاتمة المنذرين، بالفتح ذكر تفصيل ما أجمله، فقال: ﴿وَلَقَدْ﴾ جواب قسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ﴿نادانا نُوحٌ﴾ عليه السلام، ودعا واستنصر بنا على كفار قومه، لما بالغوا في إيذائه وهموا بقتله، حين دعاهم إلى الدين الحق. ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ له نحن إذ لبينا نداءه، وأهلكنا من كذب به من قومه، والنداء: الدعاء بقرينة ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾.
والمعنى (١): وبالله لقد دعانا نوح، وهو أول المرسلين حين يئس من إيمان قومه، بعدما دعاهم إليه أحقابا ودهورا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا ونفورًا، فأجبناه أحسن الإجابة، حيث أوصلناه إلى مراده من نصرته على أعدائه، والانتقام منهم بأبلغ ما يكون، فوالله لنعم المجيبون نحن، فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه، والجمع دليل العظمة والكبرياء.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - ﷺ - إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية: ﴿وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)﴾ قال: «صدقت ربنا أنت أقرب من دُعي، وأقرب من بُغي، فنعم المدعو، ونعم المُعطي، ونعم المسؤول، ونعم المولى، أنت ربنا، ونعم النصير».
٧٦ - ثم بيّن سبحانه، أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه:
١ - ﴿وَنَجَّيْناهُ﴾، أي: ونجينا نوحًا ﴿وَأَهْلَهُ﴾؛ أي: وأهل دينه، وهم من آمن معه، وكانوا ثمانين، ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ والغرق العميم، وقيل: من أذى قومه دهرًا طويلًا، ومن كل ما يكربه ويسوؤه، والكرب: الغم الشديد كما سيأتي في مبحث اللغة.
٢ - ٧٧ ﴿وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ﴾ ونسله ﴿هُمُ﴾ فحسب ﴿الْباقِينَ﴾ في الدنيا دون غيرهم،
وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين (١)، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شيء من هذا، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبةً، ولا أن الغرق عم الأرض جميعًا، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقون، إنما هو بالنسبة لذرية من معه في السفينة، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه، وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة، من لم تبلغهم الدعوة، فلم يستوجبوا الغرق، كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية.
٣ - ٧٨ ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ﴾؛ أي: على نوح، وأبقينا له ثناء حسنًا وذكرًا جميلًا، ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾؛ أي: فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة،
٧٩ - ثم ذكر سبحانه، أنه سلم عليه ليقتدى به، فلا يذكره أحد بسوء، فقال: ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)﴾؛ أي: وقلنا له: عليك السلام في الملائكة، والإنس، والجن، وعلى هذا التفسير المتروك محذوف، كما قدرنا: والسلام من الله تعالى، وقيل: المتروك نفس قوله: ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ﴾؛ أي: تركنا هذا الكلام بعينه في الآخرين، وارتفاعه على الحكاية كقولك: قرأت سورة أنزلناها، فلم ينتصب السلام، لأن الحكاية لا تغير عن وجهها. والمعنى: يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له على الدوام أمةً بعد أمة. وقوله: ﴿فِي الْعالَمِينَ﴾ على هذا المعنى بدل من قوله: ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾ لكونه
وفي «التأويلات النجمية»: يشير بهذا إلى أن المستحق لسلام الله، هو نوح روح الإنسان؛ لأنه ما جاء أن الله سلم على شيء من العالمين غير الإنسان، كما قال تعالى ليلة المعراج: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فقال عليه السلام: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وما قال: وعلى ملائكتك المقربين. وإنما كان اختصاص الإنسان بسلام من بين العالمين؛ لأنه حامل الأمانة الثقيلة التي أعرض عنها غيره، فكان أحوج شيءٍ إلى سلام الله، ليعبر بالأمانة على الصراط المستقيم، الذي هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ولهذا قال النبي - ﷺ -: «تكون دعوة الرسل حينئذٍ، رب سلم سلم». وهل سمعت أن يكون لغير الإنسان العبور على الصراط، وإنما اختصوا بالعبور على الصراط؛ لأنهم يؤدون الأمانة إلى أهلها. وهو الله تعالى، فلا بد من العبور على صراط الله، الموصل إليه لأداء الأمانة، وقرأ ابن مسعود (٢) ﴿سَلامًا﴾ منصوبًا بتركنا.
٨٠ - ثم علل ما فعله به، بأنه جزاء على إحسانه فقال: ﴿إِنَّا كَذلِكَ﴾ الكاف متعلق بما بعدها؛ أي: مثل ذلك الجزاء الكامل، من إجابة الدعاء، وإبقاء الذرية، والذكر الجميل، وتسليم العالمين أبدًا، ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: الكاملين في الإحسان والإخلاص، لا جزاءً أدنى منه، فهو تعليل لما فعل بنوح، من الكرامات السنية، بأنه مجازاة على إحسانه،
٨١ - وقوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)﴾ تعليل لكونه من المحسنين، بخلوص عبوديته وكمال إيمانه، وفيه إظهار لجلالة قدر الإيمان وأصالة أمره، وترغيب في تحصيله والثبات عليه، وفي «كشف
(٢) الشوكاني.
٨٢ - ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا﴾ بالطوفان ﴿الْآخَرِينَ﴾؛ أي: المغايرين لنوح وأهله، وهم كفار قومه أجمعين، ولم نُبق لهم عينًا ولا أثرًا، وهو معطوف على ﴿نَجَّيْناهُ﴾، وأتى بـ ﴿ثُمَّ﴾ لما بين الإنجاء والإغراق من التفاوت الرتبي، وكذا إذا كان عطفًا على ﴿تَرَكْنا﴾، وليس للتراخي؛ لأن كلًا من الإنجاء والإبقاء إنما هو بعد الإغراق دون العكس، كما يقتضيه التراخي.
والثانية منها: قصص إبراهيم عليه السلام
٨٣ - ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم، وبيّن أنه ممن شايع نوحًا فقال: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ﴾؛ أي: وإن ممن شايع نوحًا وتابعه ووافقه في أصول الدين والدعوة إلى الله سبحانه، وإلى توحيده والإيمان به ﴿لَإِبْراهِيمَ﴾ وإن اختلفت فروع شريعتهما، ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أي: وإن من أهل دينه وعلى سننه أو ممن شايعه ووافقه على التصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين، وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح فقط، والذين قبل نوح ثلاثة: إدريس، وشيث، وآدم، فجملة ﴿مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ﴾ من الأنبياء ستة، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وست مئة وأربعون سنة، قال الأصمعي: الشيعة: الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد، وفي بعض التفاسير أن الهاء في ﴿شِيعَتِهِ﴾ عائد على محمد - ﷺ -، وإن كان غير مذكور.
والمعنى عليه: وإن من شيعة محمد - ﷺ - لإبراهيم، فإبراهيم وإن كان سابقًا في الصورة، لكنه متابع لرسول الله - ﷺ - في الحقيقة، ولذا اعترف بفضله، ومدح
٨٤ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)﴾ منصوب بفعل محذوف، تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصةً إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من الشرك والشك. وقيل: من الغل، والغش، والحقد، والحسد يحب للناس ما يحب لنفسه، وقيل: خالص من جميع آفات القلوب، وقيل: سليم من العلائق بما في الكونين، ومعنى مجيئه به ربه: إخلاصه له، كأنه جاء به متحضنًا إياه بطريق التمثيل، وإلا فليس القلب مما ينقل من مكان إلى مكان حتى يجاء به، وفي الشوكاني: ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين:
أحدهما: عند دعائه إلى توحيده وطاعته.
والثاني: عند إلقائه في النار. وقيل: الظرف متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة؛ أي: تابعه إذ جاء ربه بقلب سليم، واعترضه أبو حيان بلزوم الفصل بينه وبين معموله بأجنبي، وهو قوله: ﴿لَإِبْراهِيمَ﴾ وبلزوم عمل ما قبل اللام الابتدائية فيما بعدها، وأجيب: بأنه يتوسع في الظروف ما لا يُتوسع في غيرها.
ومعنى قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ...﴾ إلخ؛ أي (١): وإنّ ممن سار على نهج نوح، وسلك طريقه في اعتقاد التوحيد والبعث، والتصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين، إبراهيم الخليل، صلوات الله وسلامه عليه، ﴿إِذْ جاءَ رَبَّهُ...﴾ إلخ؛ أي: إذا أخلص قلبه لربه، وجعله خاليا من كل شؤون الحياة الدنيا، فلا غش لديه، ولا حقد، ولا شيء مما يشينه من العقائد الزائفة، والصفات القبيحة.
٨٥ - ثم فصّل ما سلف، فقال: ﴿إِذْ قالَ﴾ والظرف بدل من ﴿إِذْ﴾ الأولى، أو متعلق بـ ﴿سَلِيمٍ﴾؛ أي: اذكر إذ قال، أو جاء ربه بقلب سليم حين قال: ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر بن باعر بن ناحور بن فالغ بن صالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ﴿وَقَوْمِهِ﴾ وكانوا عبدة الأصنام ﴿ماذا تَعْبُدُونَ﴾ استفهام إنكار وتوبيخ؛ أي: أي شيء
٨٦ - ثم بيّن الإنكار وفسّره بقوله: ﴿أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦)﴾ الهمزة فيه للاستفهام الإنكاري. والإفك (١): أسوأ الكذب، وهو لا يثبت ويضطرب، ومنه: ائتفكت بهم الأرض. وانتصاب ﴿إِفْكًا﴾ على أنه مفعول لأجله، و ﴿آلِهَةً﴾ مفعول به لـ ﴿تُرِيدُونَ﴾. فقدم المفعول على الفعل للعناية، ثم المفعول له على المفعول به؛ لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك آلهتهم، وباطل شركهم؛ أي: أتريدون آلهة من دون الله، تعبدونها إفكًا وكذبًا، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل، من نص ولا تأييد من نقل، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأي، وقيل: انتصاب ﴿إِفْكًا﴾ على أنه مفعول به لـ ﴿تُرِيدُونَ﴾، و ﴿آلِهَةً﴾ بدل منه جعلها نفس الإفك مبالغة. وهذه أولى من الوجه الأول. وقيل: انتصابه على الحال من فاعل ﴿تُرِيدُونَ﴾؛ أي: أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك.
٨٧ - ﴿فَما﴾ مبتدأ، خبره ﴿ظَنُّكُمْ﴾؛ أي: فأي شيء ظنكم واعتقادكم ﴿بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؛ أي: أتظنون أن يغفل عنكم أو لا يؤاخذكم بما كسبت أيديكم؛ أي: لا ظن فكيف القطع. فالاستفهام للإنكار، وهو تحذير مثل: ﴿ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾. أو المعنى (٢): أتظنون أنه من جنس هذه الأجسام، حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية، أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في المعبودية،
٨٨ - ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً﴾ واحدة ﴿فِي النُّجُومِ﴾ جمع نجم، وهو الكوكب الطالع؛ أي: في علمها وحسابها، إذ لو نظر إلى النجوم أنفسها لقال: إلى النجوم، وكان القوم يتعاطون علم النجوم، فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، واعتذر عن التخلف عن عيدهم؛ أي: عن الخروج إلى معبدهم
٨٩ - ﴿فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)﴾؛ أي: سقيم القلب مما تفعلون أو سقيم فيما مضى أو سقيم في المستقبل سقمًا أموت به أو سقيم سقمًا خفيًا مما هو موجود في
(٢) المراح.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكر: نظر في النجوم. والمعنى هنا: فأطال إبراهيم الفكر فيما هو فيه ﴿فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)﴾؛ أي (٢): أحس بخروج مزاجي عن حال الاعتدال، ولا أرى في نفسي خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه، أن لا يخرج معهم في يوم عيدهم، حين طلبوا منه الخروج، لينفذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم، وإعلان الحرب عليهم، في عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقًا فيما يقول، إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذي بال، يخاف منه الخطر على نفسه، أن يكون مهمومًا مغمومًا مفكرًا في عاقبة ما يعمل.
٩٠ - وكان القوم يتطيرون من المريض (٣)، فلما سمعوا من إبراهيم ذلك، هربوا منه إلى معبدهم، وتركوه في بيت الأصنام فريدا ليس معه أحد، وذلك قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ﴾؛ أي: فتول قومه، وأعرضوا وتفرقوا عن إبراهيم ﴿مُدْبِرِينَ﴾؛ أي: هاربين مخافة العدوى؛ أي: السراية، وتركوه في مكانه.
فائدة: قال عز الدين بن عبد السلام: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا. فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وفي «فتح الرحمن» قوله: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨)﴾ لم يقل: إلى النجوم مع أن النظر إنما يتعدى بإلى، كما في قوله تعالى: ﴿وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾؛ لأن ﴿فِي﴾ بمعنى إلى كما في قوله تعالى: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ﴾، أو أن النظر هنا بمعنى الفكر، وهو يتعدى بفي، كما في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ﴾. فصار المعنى هنا: ففكر في علم النجوم. فإن قلت: لم لم يجز النظر في علم النجوم كما جاز لإبراهيم؟.
قلت: إذا كان الناظر فيه كإبراهيم في أن الله أراه ملكوت السموات والأرض، جاز له النظر فيه.
٩١ - ﴿فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ﴾؛ أي: ذهب إبراهيم إلى آلهتهم وأصنامهم في خفية، وأصله: الميل بحيلة من روغة الثعلب، وهو ذهابه في خفية وحيلة ﴿فَقالَ﴾ إبراهيم للأصنام استهزاء وسخرية: ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾ أيتها الأصنام من الطعام الذي يصنعونه لكم، وخاطبا كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة، وكانوا يضعون الطعام عند الأصنام لتحصل لهم البركة بسببها، ويأكلوه إذا رجعوا من عيدهم، وقيل: تركوه للسدنة، وقيل: إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئًا بها،
٩٢ - والاستفهام في قوله: ﴿ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)﴾ للتهكم بهم؛ أي: أي مانع ثبت لكم غير ناطقين بجوابي
٩٣ - ﴿فَراغَ﴾ إبراهيم؛ أي: مال مستعليًا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ حال كونه يضربهم ﴿ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾؛ أي: ضربًا حاصلًا باليد اليمنى. فانتصابه على أنه مصدر مؤكد، لفعل محذوف، أو مصدر لراغ؛ لأنه بمعنى ضرب أو على
ومعنى الآيات: ﴿فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ﴾ إلخ؛ أي: فذهب مستخفيًا إلى أصنامهم التي يعبدونها، وقال لها استهزاءً: ألا تأكلون من الطعام الذي يقدم إليكم، وكانوا يصنعون في أيام أعيادهم طعامًا لدى هذه الأصنام لتبارك فيه. وقال أيضًا: ﴿ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢)﴾؛ أي: أي شيء منعكم الإجابة عن سؤالي، ومراده بذلك: التهكم بهم، واحتقار شأنهم، ﴿فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)﴾؛ أي: فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة، حتى تركهم جذاذًا إلا كبيرهم، كما تقدم في سورة الأنبياء،
٩٤ - فلما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام، وجدوها مكسورة، فسألوا عن الفاعل، فظنوا أن إبراهيم عليه السلام، فعله، فقيل: فائتوا به. ﴿فَأَقْبَلُوا﴾؛ أي: توجه المأمورون بإحضاره ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى إبراهيم، قال ابن الشيخ: قوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ يجوز أن يتعلق بما قبله وبما بعده، وقوله: ﴿يَزِفُّونَ﴾ حال من واو ﴿أقبلوا﴾؛ أي: حال كونهم يسرعون من زفيف النعام، وهو ابتداء عدوها، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَزِفُّونَ﴾ بفتح الياء من زف إذا أسرع، أو من زفاف العروس، وهو التمهل في المشية، إذ كانوا في طمأنينة أن ينال أصنامهم شيء لعزتهم، وقرأ مجاهد، وعبد الله بن يزيد، والضحاك، ويحيى بن عبد الرحمن المقري، وابن أبي عبلة ﴿يزفون﴾ مضارع زف بمعنى أسرع. وقال الكسائي والفراء: لا نعرفها بمعنى زف. وقرأ حمزة، ومجاهد أيضًا، وابن وثّاب، والأعمش ﴿يزفون﴾ بضم الياء من أزف الرباعي، دخل في الزفيف؛ أي: الإسراع، فهي للتعدي، قاله الأصمعي، وقرىء ﴿يزفون﴾ مبنيًا للمفعول. وقرىء
٩٥ - ﴿قَالَ﴾ إبراهيم عليه السلام؛ أي: بعدما أتوا به، وجرى بينهم وبينه من المحاورات، ما نطق به قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢)﴾ إلى قوله: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾؛ أي: قال لهم حال كونه يؤنبهم ويعيّبهم: ﴿أَتَعْبُدُونَ﴾ بهمزة الاستفهام الإنكاري ﴿ما تَنْحِتُونَـ﴾ ـه من الأصنام. فما موصولة؛ أي: أتعبدون أصنامًا أنتم تنحتونها، وتبرونها، وتصلحونها. والنحت: النجر والبري، يقال: نحته ينحته بالكسر نحتًا إذا براه والنحاتة: البراية،
٩٦ - وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿تعبدون﴾ مؤكدة للإنكار والتوبيخ، أي: والحال أنه تعالى خلقكم، والخالق هو الحقيق بالعبادة دون المخلوق. ﴿وَما تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: وخلق ما تعملونه من الأصنام وغيرها، فإن (١) جواهر أصنامهم ومادتها بخلقه تعالى، وشكلها وإن كان بفعلهم، لكنه بإقدار الله تعالى إياهم عليه، وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد والأسباب، فلم يلزم أن يكون الشيء مخلوقًا لله ومعمولًا لهم. ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: خلقكم وخلق عملكم. ولكن جعلها موصولةً أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام. وظهر من فحوى الآية: أن الأفعال مخلوقة لله تعالى، مكتسبة للعباد، حسبما قالته أهل السنة والجماعة، وبالاكتساب يتعلق الثواب والعقاب.
والمعنى: أي قال لهم: أتعبدون من دون الله تعالى، أصنامًا أنتم تنحتونها بأيديكم، فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم، تجعلونه معبودًا لكم، أفلا عاقل منكم، ينهاكم عن مثل هذا، والله خلقكم، وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم، وإثم كبير.
وقال السهيلي في «التعريف»: قائل هذه المقالة لهم فيما ذكر الطبري، اسمه الهيزن، رجل من أعراب فارس، وهم الترك، وهو الذي في الحديث: «بينا رجل يمشي في حلة، يتبختر فيها فخسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».
٩٨ - ثم ألقوه فيها، ونجاه الله منها، وجعلها بردًا وسلامًا، وهو معنى قوله: ﴿فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا﴾؛ أي: شرًا، وهو أن يحرقوه بالنار عليه السلام؛ أي: لما قهرهم بالحجة، وألقمهم الحجر قصدوا أن يكيدوا به ويحتالوا لا هلاكه كما كاد أصنامهم بكسره إياهم، لئلا يظهر للعامة عجزهم. ﴿فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾؛ أي: الأذلين بإبطال كيدهم، وجعله في نحورهم، وجعله برهانًا نيرًا على علوّ شأنه عليه السلام، بجعل النار عليه بردا وسلاما على ما سبق تفصيل هذه القصة في سورة الأنبياء؛ أي: إن إبراهيم في وقت المحاجة، حصلت له الغلبة، وعندما ألقوه في النار، صرف الله عنه ضرر النار، فصار هو الغالب عليهم.
فإن قلت (١): لم ابتلاه الله تعالى بالنار في نفسه؟.
قلت: لأن كل إنسان يخاف بالطبع من ظهور صفة القهر، كما قيل لموسى
وقد ورد في الخبر: أن النمرود لما شاهد النار، كانت على إبراهيم بردًا وسلامًا قال: إن ربك لعظيم نتقرب إليه بقرابين. فذبح تقربًا إليه آلافًا كثيرة، فلم ينفعه لإصراره على اعتقاده وعمله وسوء حاله.
٩٩ - وبعد أن يئس من إيمانهم، أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم، كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَقالَ﴾ إبراهيم بعدما أنجاه الله تعالى من النار، قاله لمن فارقه من قومه، فيكون ذلك توبيخًا لهم، أو لمن هاجر معه من أهله، فيكون ذلك ترغيبًا لهم. ﴿إِنِّي ذاهِبٌ﴾؛ أي: مهاجر من أرض قومي، الذين فعلوا ما فعلوا، تعصبًا للأصنام، وكفرًا بالله، وتكذيبًا لرسله؛ أي: مهاجر من أرض حران، أو من بابل، أو قرية بين البصرة والكوفة، يقال لها: هرمز بحره ﴿إِلى رَبِّي﴾؛ أي: إلى حيث أمرني ربي بالمهاجرة إليه. وهو الشام، أو إلى حيث أتجرد فيه لعبادته تعالى؛ أي: موضع كان، فإن الذهاب إلى ذات الرب محال، إذ ليس في جهة من الأرض.
وفي «بحر العلوم»: ولعله أمره الله تعالى، بأن يهجر دار الكفر، ويذهب إلى موضع، يقدر فيه على زيارة الصخرة التي هي قبلته، وعلى عمارة المسجد الحرام، أو هي القرية التي دفن فيها، كما أمر نبينا - ﷺ -، بالهجرة من مكة إلى المدينة. وفي بعض التواريخ: دفن إبراهيم بأرض فلسطين، وهي بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة؛ البلاد التي بين الشام وأرض مصر، منها: الرملة، وغزة، وعسقلان، وغيرها. ﴿سَيَهْدِينِ﴾؛ أي: سيرشدني إلى مقصدي الذي أردت، وهو الشام أو إلى موضع يكون فيه صلاح ديني، أو سيثبتني على هداي ويزيدني هدى. وبتّ القول بذلك لسبق الوعد بذلك، أو لفرط توكله على ربه،
وهذه (١) الآية أصل في الهجرة، من ديار الكفر إلى أرض، يتمكن فيها من إقامة وظائف الدين والطاعة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، هاجر مع لوط وصار إلى الأرض المقدسة.
١٠٠ - ولما هاجر من وطنه، ودخل الأرض المقدسة، طلب الولد، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ ولدًا صالحًا ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: بعض الكاملين في الصلاح، يعينني على الدعوة والطاعة، ويؤنسني في الغربة، هكذا قال (٢) المفسرون، وعللوا ذلك، بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عليه عند الإطلاق، وإذا وردت مقيدةً، حملت على ما قيدت به، كما في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)﴾ وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله: ﴿فَبَشَّرْناهُ﴾ على لسان الملائكة ﴿بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾؛ أي: ذي حلم، وحلم؛ أي: بلوغ. يدل على أنه ما أراد بقوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾ إلا الولد، والغلام (٣): من جاوز العشر، وأما من دونها فصبي، كما قاله بعض أهل اللغة كما سيأتي، والحليم: من لا يعجل في الأمور، ويتحمل المشاق، ولا يضطرب عند إصابة المكروه، ولا يحركه الغضب بسهولة، ولقد جمع فيه ثلاث بشارات: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحلم فإن الصبي لا يوصف بالحلم، وأنه يكون حليمًا، وأي حلم يعادل حلمه، حين عرض عليه أبوه الذبح، وهو مراهق فاستسلم.
روي: أن إبراهيم عليه السلام، لما جعل الله النار عليه بردًا وسلامًا، وأهلك عدوه النمرود، وتزوج بسارة، وكانت أحسن النساء
وجهًا، وكانت تشبه حواء في حسنها، عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام، فلما دخل الأرض المقدسة، دعا ربه أن يرزقه الولد، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾؛ أي: رب هب لي أولادًا مطيعين، يعينونني على الدعوة، ويؤنسونني في الغربة، ويكونون عوضًا من قومي وعشيرتي الذين فارقتهم،
١٠١ - فاستجاب ربه دعاءه، فقال:
(٢) الشوكاني.
(٣) روح العجائب.
فإن قلت (٢): لم ختم هنا الآية بـ ﴿حَلِيمٍ﴾، وفي الحجر والذاريات بـ ﴿عَلِيمٍ﴾؟.
قلت: ختم في ذينك بـ ﴿عَلِيمٍ﴾ إشعارًا بشرف العلم، وختم هنا بـ ﴿حَلِيمٍ﴾ لمناسبة حلم الغلام، لوعده بالصبر في جوابه، لسؤال أبيه في ذبحه، حيث قال: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
الإعراب
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)﴾.
﴿فَأَقْبَلَ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿أقبل بعضهم﴾: فعل، وفاعل، ﴿عَلى بَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿أقبل﴾ والجملة معطوفة على ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ﴾. ﴿يَتَساءَلُونَ﴾: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب، حال من الفاعل، ومن المجرور. ﴿قالَ قائِلٌ﴾: فعل، وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة لـ ﴿قائِلٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي﴾: ناصب
(٢) فتح الرحمن.
﴿أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)﴾.
﴿أَإِذا مِتْنا﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: أندان ونجازى، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالفعل المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾ أو مفعول لـ ﴿الْمُصَدِّقِينَ﴾؛ أي: لمن المصدقين المداناة والمجازاة وقت موتنا... إلخ، ﴿مِتْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذا﴾؛ أي: أندان وقت موتنا، ﴿وَكُنَّا تُرابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الخفض، معطوف على متنا، ﴿وَعِظامًا﴾: معطوف على ﴿تُرابًا﴾، ﴿أَإِنَّا﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري، مؤكدة للأولى، ﴿إنا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَمَدِينُونَ﴾: خبره، واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾، على كونها مفسرة للمحذوفة، أو مفعول لـ ﴿الْمُصَدِّقِينَ﴾. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على المؤمن القائل، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام بمعنى الأمر، كأنه قال: اطلعوا كما مر في مبحث التفسير. ﴿أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَاطَّلَعَ﴾ الفاء عاطفة، ﴿اطلع﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على القائل المؤمن، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالَ﴾. ﴿فَرَآهُ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿رآه﴾: فعل ماض، ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على القائل المذكور، والجملة معطوفة على جملة ﴿اطلع﴾، ورآى هنا بصرية. ﴿فِي سَواءِ الْجَحِيمِ﴾ جار ومجرور
﴿أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)﴾.
﴿أَفَما نَحْنُ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، تقديره: أنحن مخلدون منعمون، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿ما﴾: نافية حجازية. ﴿نَحْنُ﴾ في محل الرفع اسمها. ﴿بِمَيِّتِينَ﴾ خبرها، والباء زائدة، وجملة ﴿ما﴾: الحجازية معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿مَوْتَتَنَا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بميتين. ﴿الْأُولى﴾: صفة لـ ﴿مَوْتَتَنَا﴾، ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ما: حجازية. ﴿نَحْنُ﴾: اسمها. ﴿بِمُعَذَّبِينَ﴾ خبرها، وجملة ﴿ما﴾ معطوفة على جملة ما الأولى.
﴿أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥)﴾.
﴿أَذلِكَ﴾: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري؛ لأن المراد من الكلام: حمل الكفار على الإقرار بمدخولها، لا كما قاله بعضهم من أنها للإنكار. ﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿خَيْرٌ﴾ خبره، ﴿نُزُلًا﴾ تمييز لخير، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، ﴿أَمْ﴾: عاطفة متصلة. ﴿شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾: معطوف على ذلك. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: قل لهم يا محمد، على سبيل التقرير: ﴿أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا...﴾ الخ. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿جَعَلْناها﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول، ﴿فِتْنَةً﴾ مفعول ثان، ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ صفة لـ ﴿فِتْنَةً﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿إِنَّها﴾ ناصب واسمه، ﴿شَجَرَةٌ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿تَخْرُجُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على شجرة. ﴿فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ متعلق بـ ﴿تَخْرُجُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿شَجَرَةٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿طَلْعُها﴾ مبتدأ، ﴿كَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿رُؤُسُ الشَّياطِينِ﴾ خبر كأن، ومضاف إليه، وجملة التشبيه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿شَجَرَةٌ﴾.
﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)﴾.
﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، ﴿إِنَّ مَرْجِعَهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ خبره، واللام حرف ابتداء، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ المذكورة قبلها. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿أَلْفَوْا﴾ فعل ماض، وفاعل، وهي من أخوات ظن تنصب مفعولين. ﴿آباءَهُمْ﴾ مفعول أول، ﴿ضالِّينَ﴾ مفعول ثان. وجملة ألفى في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل رجوعهم إلى الجحيم. ﴿فَهُمْ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿هم﴾ مبتدأ، ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُهْرَعُونَ﴾. ﴿يُهْرَعُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، والواو: نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿ألفى﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿ضَلَّ﴾ فعل ماض، ﴿قَبْلَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿ضَلَّ﴾. أو حال مما بعده، ﴿أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾: فاعل، ومضاف إليه. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق، ﴿أَرْسَلْنا﴾: فعل، وفاعل، ﴿فِيهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنا﴾. ﴿مُنْذِرِينَ﴾ مفعول به. والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبلها. ﴿فَانْظُرْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنا أرسلنا
﴿وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿نادانا﴾: فعل، ومفعول. ﴿نُوحٌ﴾: فاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَلَنِعْمَ﴾ الفاء: عاطفة، واللام: موطئة للقسم. ﴿نعم﴾ فعل ماض لإنشاء المدح. ﴿الْمُجِيبُونَ﴾ فاعل نِعْمَ، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: نحن وجملة ﴿نعم﴾ جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم الثاني، معطوفة على جملة القسم الأول. ﴿وَنَجَّيْناهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على نادانا، ﴿وَأَهْلَهُ﴾ معطوف على ضمير المفعول أو مفعول معه، ﴿مِنَ الْكَرْبِ﴾ متعلق بـ ﴿نجينا﴾. ﴿الْعَظِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْكَرْبِ﴾. ﴿وَجَعَلْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿نَجَّيْناهُ﴾. ﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ مفعول أول لـ ﴿جعلنا﴾. ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل، لا محل لها من الإعراب، ﴿الْباقِينَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾.
﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣)﴾.
﴿وَتَرَكْنا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿تَرَكْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿نَجَّيْناهُ﴾. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور صفة لمفعول ﴿تَرَكْنا﴾
أحدها: أنه مفسر لـ ﴿تَرَكْنا﴾.
والثاني: أنه مفسر لمفعوله؛ أي: تركنا عليه شيئًا، وهو هذا الكلام، وقيل: ثم قول مقدر؛ أي: فقلنا: سلام. وقيل: ضمّن تركنا معنى قلنا، وقيل: سلّط تركنا على ما بعده. وقال الزمخشري: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)﴾ هذه الكلمة، وهي: ﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)﴾. يعني: يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له. وهو من الكلام المحكي، كقولك: سورة أنزلناها. وهذا الذي قاله قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولًا بتركنا، لا أنه ضمّن معنى القول، بل هو على معناه، بخلاف الوجه الذي قبله، وهو أيضًا من أقوالهم، اهـ من «الفتوحات». ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿كَذلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: جزاء كائنًا كذلك المذكور. ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل مجازاة نوح بتلك الكرامة السامية، وهي خلود ذكره وتسليم العالمين عليه أبد الدهر. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿مِنْ عِبادِنَا﴾ خبره، ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ صفة لـ ﴿عِبادِنَا﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ. ﴿أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على ﴿نَجَّيْناهُ﴾. ﴿وَأَهْلَهُ﴾ فالترتيب حقيقي؛ لأن نجاتهم حصلت قبل غرق الباقين، ولكن بينهما تراخ. ﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة عطف قصة ثانية على القصة الأولى، أو استئنافية ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾ خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَإِبْراهِيمَ﴾ اسمها مؤخر، واللام حرف ابتداء. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ﴾ أو مستأنفة.
﴿إِذْ﴾: ظرف ما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد - ﷺ - لقومك قصة حين جاء إبراهيم. ﴿جاءَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿رَبَّهُ﴾ مفعول به. ﴿بِقَلْبٍ﴾ متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، ﴿سَلِيمٍ﴾ صفة قلب، ﴿إِذْ﴾ بدل من ﴿إِذْ﴾ الأولى، وجملة ﴿قالَ﴾ في محل الجر مضاف إليه، ﴿لِأَبِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿قالَ﴾، ﴿وَقَوْمِهِ﴾ معطوف على أبيه. ﴿ماذا﴾ اسم استفهام مركب في محل النصب، مفعول مقدم لـ ﴿تَعْبُدُونَ﴾ أو ﴿ما﴾ مبتدأ، ﴿ذا﴾ اسم موصول خبره، وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾ صلة لذا الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: ما الذي تعبدونه، والجملة الفعلية أو الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَإِفْكًا﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي. ﴿إِفْكًا﴾ مفعول من أجله، منصوب بـ ﴿تُرِيدُونَ﴾. ﴿آلِهَةً﴾ مفعول به لـ ﴿تُرِيدُونَ﴾. ﴿دُونَ اللَّهِ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿تُرِيدُونَ﴾. و ﴿تُرِيدُونَ﴾: فعل، وفاعل. والجملة الفعلية مستأنفة، وقدمت معمولات الفعل عليه اهتماما بها. وقيل: ﴿إِفْكًا﴾: مفعول به لـ ﴿تُرِيدُونَ﴾، ﴿آلِهَةً﴾: بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، فأبدلها منه وفسره بها. وقيل: ﴿إِفْكًا﴾: حال من فاعل ﴿تُرِيدُونَ﴾؛ أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين أو ذوي إفك. ﴿فَما﴾ الفاء عاطفة، ﴿ما﴾: اسم استفهام للإنكار والتوبيخ في محل الرفع مبتدأ. أي: ليس لكم سبب ولا عذر يحملكم على الظن. ﴿ظَنُّكُمْ﴾ خبر المبتدأ، ﴿بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ متعلق بظنكم. والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية قبلها.
﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)﴾.
﴿فَنَظَرَ﴾: الفاء: استئنافية. ﴿نظر﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم. والجملة مستأنفة. ﴿نَظْرَةً﴾ مفعول مطلق. ﴿فِي النُّجُومِ﴾ متعلق بنظر. ﴿فَقالَ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿قال﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على نظر.
﴿قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَتَساءَلُونَ﴾ من باب تفاعل، يدل على المشاركة من الجانبين، كما هو صريح لفظ السياق. ﴿قَرِينٌ﴾؛ أي: خليل، وصاحب، وجليس. ﴿لَمَدِينُونَ﴾؛
﴿نَزَلَ﴾ النزل بضمتين أو بضم النون وسكون الزاي: المنزل، وما يهيأ للضيف من الطعام، والجمع أنزال والنزل أيضًا بضمتين: الطعام ذو البركة، والقوم النازلون، وريع ما يزرع ونماؤه، والعطاء، والفضل، والزيادة. ومنه قولهم: العسل ليس من أنزال الأرض؛ أي: من ريعها، وما يحصل منها.
﴿الزَّقُّومِ﴾ وفي «المفردات»: شجرة الزقوم، عبارة عن أطعمة كريهة في النار، ومنه: استعير زقم فلان، وتزقّم إذا ابتلع شيئًا كريها. قال في «القاموس»: الزقَّم: اللقم، والتزقم: التلقم، وأزقمه فازدقمه أبلعه فابتلعه، والزقوم كتنور: الزبد بالتمر، وشجرة بجهنم، ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار، وفي «الخازن»: والزقوم: ثمر شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم، يكره أهل النار على تناولها، فهم يتزقمونه على أشد كراهية. وقيل: هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. ﴿طَلْعُها﴾؛ أي: حملها وثمرها، والطلع في الحقيقة اسم لثمر النخيل في أول بروزه، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة، كما سيأتي في مبحث البلاغة. والطلع من النخل شيء يخرج منه، كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، وما يبدو من ثمرته في أول ظهورها. ﴿فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ جمع مالىء اسم فاعل من ملأ المهموز. والملء: حشو الإناء لا يحتمل الزيادة عليه، يقال: ملأ الإناء ماء يملؤه فهو مالىء ومملوء، والبطون جمع بطن، وهو خلاف الظهر في كل شيء.
﴿أَلْفَوْا آباءَهُمْ﴾؛ أي: وجدوا من الإلفاء، وهو الوجدان. ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾؛ أي: آثار الآباء، جمع أثر. ﴿يُهْرَعُونَ﴾؛ أي: يسرعون إسراعًا شديدًا. والإهراع: الإسراع الشديد، كأنهم يزعجون ويحثون حثًا على الإسراع على آثارهم. وفي «المصباح»: هرع وأهرع بالبناء للمفعول فيهما؛ إذا أُعجل، اهـ. ﴿مِنَ الْكَرْبِ﴾ والكرب: الغم الشديد، والكربة كالغمة. وأصل ذلك من كرب الأرض، وهو قلبها بالحفر، فالغم يثير النفس إثارة ذلك، ويصح أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب.
﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ﴾ في «المختار»: الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره. وفي «المصباح»: الشيعة: الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت الشيعة اسمًا لجماعة مخصوصة، والجمع: شيع مثل: سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع، انتهى. مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد به الكبار حتى تستوقد، اهـ «قرطبي». وفي «الأساس»: شيعته يوم رحيله، وشايعتك على كذا تابعتك عليه، وتشايعوا على الأمر، وهو شيعته وشيعه وأشياعه، وهذا الغلام شيع أخيه، إذا ولد بعده، وآتيك غدًا أو شيعه. قال الشاعر:
قَالَ الخَليطُ غَدًا تَصُدُّ عَنَّا | أَو شِيَعَه أَفَلا تُشَيِّعَنَا |
أَلا يَا نَخلَةً فِي ذَاتِ عِرقِ | بُرودُ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلامُ |
﴿أَإِفْكًا﴾ الإفك: أسوأ الكذب. ﴿فِي النُّجُومِ﴾ جمع نجم، وهو الكوكب الطالع. وفي «القرطبي»: فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم، منظورًا فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم معتقدهم عذرًا لنفسه، وذلك أنهم أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم.
﴿فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)﴾ قال في «المفردات»: السَّقَمُ والسُّقْمُ: المرض المختص بالبدن، والمرض قد يكون في البدن وفي القلب. ﴿فَراغَ﴾ قال في «القاموس»: راغ الرجل والثعلب روغًا وروغانًا، مال وحاد إلى الشيء في خفية؛ أي: فذهب خفية إلى أصنامهم. وأصل الروغ والروغان: الميل. قال شاعرهم:
وَيُريكَ من طَرَفِ اللِّسَان حَلاوةً | وَيرُوغُ عَنكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعلَبُ |
﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ من الجحمة، وهي شدة التأجج والالتهاب. ﴿فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا﴾ والكيد: ضرب من الاحتيال كما في «المفردات». ﴿بِغُلامٍ﴾ والغلام: الطارّ الشارب، والكهل ضده، أو من حين يولد إلى أن يشيب كما في «القاموس». وقال بعض أهل اللغة: الغلام من جاوز العشر، وأما من دونها فصبي. ﴿حَلِيمٍ﴾ والحليم من لا يعجل في الأمور، كما سبق.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع حتمًا.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿فاطلع، ومطلعون﴾.
ومنها: التعبير بالماضي في قوله: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ﴾ لإفادة التحقق والوقوع.
ومنها: الجمع بين المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠)﴾ أكده بإن وبضمير الفصل وباللام وباسمية الجملة إفادةً، لفخامة تلك النعمة وعظمها. إذ الدنيا وما فيها تحتقر دونها، كما تحتقر القطرة من البحر المحيط، والحبة من البيدر الكبير.
ومنها: القصر في قوله: ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)﴾؛ أي: لا لغيره من الحظوظ الدنيوية السريعة الانقطاع.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿طَلْعُها﴾؛ لأن الطلع حقيقة في أول ما يخرج من ثمر النخل، فاستعير لما يخرج من شجرة الزقوم، بجامع الطلوع والبروز في كل.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ﴾. فتشبيه طلعها برؤوس الشياطين في الشناعة والقبح، تشبيه بالمخيل، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك، في نحو قوله: ﴿إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ فيما حكى الله سبحانه، عن صواحبات يوسف عليه السلام.
فمنها: الإتيان بصيغة الجمع في قوله: ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ للدلالة على العظمة والكبرياء.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿مُنْذِرِينَ﴾ و ﴿الْمُنْذَرِينَ﴾؛ لأن المراد بالأول: الرسل، وبالثاني: الأمم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)﴾ كني به عن الثناء الحسن الجميل.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ﴾؛ لأنه حذف منه المفعول به؛ أي: ثناء حسنًا.
ومنها: مراعاة الفواصل في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)﴾ إلخ؛ لأنه من المحسنات البديعية، وهو من خصائص القرآن.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿إِذْ جاءَ رَبَّهُ﴾ شبه إقباله على ربه مخلصًا بقلبه، بمن قدم على الملك بتحفة ثمينة جميلة، ففاز بالرضى والقبول.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿ابْنُوا﴾ ﴿بُنْيانًا﴾، وبين ﴿فَنَظَرَ﴾ ﴿نَظْرَةً﴾.
ومنها: فن الرمز والإيماء في قوله: ﴿فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)﴾. وهو أن يريد المتكلم إخفاء أمر ما في كلامه، فيرمز في ضمنه رمزا إما تعمية للمخاطب، وتبرئة لنفسه، وتنصلا من التبعة، وإما ليهتدى بواسطته إلى طريق استخراج ما أخفاه في كلامه، وقد كان قوم إبراهيم نجّامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم التنجيم على أنه يسقم، فقال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾؛ أي: مشارف للسقم، وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وكانوا يخافون العدوى، فقال ذلك ليوجسوا خوفا، ويتفرقوا عنه، فهربوا منه إلى عيدهم، وتركوه في بيت الأصنام، ليس معه أحد ففعل بالأصنام ما فعل، وقد يوهم ظاهر الكلام، أنه ارتكب بذلك جريرة الكذب، والأنبياء معصومون عنه، والصحيح: أن الكذب حرام، إلا إذا عرّض عنه، وورّى. ولقد نوى إبراهيم أن من في عنقه الموت سقيم.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾. فقد انطوت هذه البشارة الموجزة على ثلاث: أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وأنه يكون حليما. وأي حلم أدل على ذلك من حلمه، حين عرض عليه أبوه الذبح، فلم يضطرب، ولم يتخاذل، ولم يعترض على مشيئة أبيه، بل قال: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، ثم استسلم لذلك، ولم يكن ليدور له في خلد، أن الله سيفديه، وسيهييء له كبش الفداء.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما قال (١): ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾.. أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به،
التفسير وأوجه القراءة
١٠٢ - والظرف في قوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ﴾ الغلام ﴿مَعَهُ﴾؛ أي: مع إبراهيم، متعلق بقوله: ﴿السَّعْيَ﴾. وجاز (١) التعلق به؛ لأنه ظرف فيكفيه رائحة من الفعل، لا ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حد السعي، ولم يكن معًا كذا في «بحر العلوم». والفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنّا بشرناه بغلام حليم، وأردت بيان عاقبته فأقول لك: لما بلغ الغلام أوان أن يسعى مع إبراهيم في أشغاله وحوائجه ومصالحه، وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة. ﴿قالَ﴾ إبراهيم للغلام، وهذا جواب الشرط ﴿يا بُنَيَّ﴾ تصغير شفقة ﴿إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ قربانًا لله تعالى؛ أي: أرى هذه الصورة بعينها، أو ما هذه عبارته وتأويله؛ أي: قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئًا فعلوه. وقيل: إنه (٢) رآى ليلة التروية، كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله تعالى هذا الحلم، أم من الشيطان، فمن ثمة سمّي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله تعالى، فمن ثمة سمي يوم عرفة، ثم رأى في الليلة الثالثة مثل ذلك، فهم بنحره، فسمي اليوم يوم النحر.
﴿فَانْظُرْ﴾ يا بني ﴿ماذا﴾ منصوب بقوله: ﴿تَرى﴾ من الرأي فيما ألقيت
(٢) روح البيان.
قال العلماء بالسير وأخبار الماضين (١): لما دعا إبراهيم ربه فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾، وبشر به قال: هو إذا لله ذبيح. فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له: أوف بنذرك. هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بالذبح، فقال للغلام: انطلق نقرب لله قربانًا، فأخذ سكينًا وحبلًا، وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال، فقال الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال: يا بني، إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر... إلخ.
فإن قلت: لم شاوره في أمر قد علم أنه حتم من الله تعالى، وما الحكمة في ذلك؟.
قلت: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، وإنما شاوره ليعلم ما عنده، فيما نزل به من بلاء الله تعالى، وليعلم صبره على أمر الله، وعزيمته على طاعته، ويثبت قدمه، ويصبّره إن جزع، ويراجع نفسه، ويوطنها، ويلقي البلاء، وهو كالمستأنس، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى، قبل نزوله، وتكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرّط منه ذلك.
فإن قلت: لم كان ذلك في المنام دون اليقظة، وما الحكمة في ذلك؟.
قلت: إن هذا الأمر كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح، فورد في المنام كالتوطئة له، ثم تأكد حال النوم بأحوال اليقظة، فإذا تظاهرت الحالتان، كان ذلك أقوى في الدلالة. ورؤيا الأنبياء وحي وحق. وفي أسئلة الحكم: لم أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده في المنام، ورؤيا الأنبياء حق، وقتل الإنسان بغير حق من أعظم الكبائر؟. قيل: أمره في المنام دون اليقظة؛ لأنه ليس شيء أبغض إلى الله من قتل المؤمن، وقيل: ليعلم أن رؤيا الأنبياء، ويقظتهم سواء في وجوب العمل به.
والمعنى (١): أي لما كبر وترعرع، وصار يذهب مع أبيه، ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه قال له: يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك، فما رأيك؟، وقد قص عليه ذلك، ليعلم ما عنده فيما نزل به، من بلاء الله، فيثبّت قدمه إن جزع، وليوطّن نفسه على الذبح، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى.
ثم بيّن أنه كان سميعًا مطيعًا منقادًا لما طلب منه بقوله: ﴿قالَ﴾ الغلام ﴿يا أَبَتِ﴾؛ أي: يا أبي ويا والدي. ولما كان خطاب الأب يا بنيّ، على سبيل الترحم والشفقة، قال هو: يا أبت على سبيل التعظيم والتوقير ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ به من الذبح. فحذف الجار أولًا على القاعدة المطردة، ثم حذف العائد إلى الموصول بعد انقلابه منصوبًا بإيصاله إلى الفعل أو حذفا دفعةً. أو المعنى: افعل أمرك على إرادة المأمور به. والإضافة إلى المأمور. وصيغة (٢) المضارع حيث لم يقل: ما أمرت للدلالة على أن الأمر متعلق به، متوجه إليه، مستمر إلى حين الامتثال به. وفي «البيضاوي»: وإنما ذكر بلفظ المضارع. لتكرار الرؤيا، انتهى. ولعله فهم من كلامه، أنه رأى ذبحه مأمورًا به، ولذا قال: ﴿ما تُؤْمَرُ﴾؛ أي: قال الغلام لأبيه: افعل ما أمرت به. قال ابن إسحاق وغيره: لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية، وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب، أخبره بما أمره الله به، فقال: افعل ما تؤمر.
والمعنى (٣): أي قال الغلام: يا أبت سميعًا دعوت، ومن مجيب طلبت،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ثم أكد امتثاله للأمر بقوله: ﴿سَتَجِدُنِي﴾ يا أبي ﴿إِنْ شاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى صبري ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ على قضاء الله تعالى وبلائه، أو من الصابرين على الذبح. فاستعان بالله في الصبر على بلائه، حيث قال: إن شاء الله. ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى، والتجأ إليه لم يعطب. قال الذبيح (١): ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ أدخل نفسه في عداد الصابرين، فرق عليه وموسى عليه السلام تفرد بنفسه، حيث قال للخضر: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا﴾، فخرج، والتفويض أسلم من التفرد، وأوفق لتحصيل المرام، ولما كان إسماعيل في مقام التسليم، والتفويض إلى الله تعالى، وقف وصبر، ولما كان في صورة المتعلم، ومن شأن المتعلم، أن يتعرض لأستاذه فيما لم يفهمه، خرج ولم يصبر، وقال بعضهم: ظاهر موسى تعرض، وباطنه تسليم أيضًا؛ لأنه إنما اعترض على الخضر بغيرة الشرع.
والمعنى: أي سأصبر على القضاء، واحتمل هذه اللأواء غير ضجر ولا برم بما قضي وقدّر، وقد صدق فيما وعد، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه، ومن ثم قال سبحانه في شأنه، مادحًا له: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ﴾.
١٠٣ - ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا، فقال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَما﴾؛ أي: استسلما لأمر الله، وأطاعاه، وإنقادا له؛ أي: استسلم إبراهيم وابنه لأمر الله، وانقادا، وخضعا له. وعن قتادة: معنى ﴿أَسْلَما﴾؛ أي: أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه.
وقرأ الجمهور: ﴿أَسْلَما﴾. وقرأ عبد الله، وعلي، وابن عباس، ومجاهد،
﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾؛ أي: أسقط إبراهيم الغلام، وأوقعه على جبينه على الأرض. والجبين: أحد جانبي الجبهة، فللوجه جبينان، والجبهة بينهما. قال في «القاموس»: تلّه: صرعه، وألقاه على عنقه وحده، والجبين: أحد جانبي الجبهة، فللوجه فوق الصدغ جبينان، عن يمين الجبهة وشمالها. قال الراغب: أصل التل: المكان المرتفع، والتليل: العنق، وتلّه للجبين: أسقطه على التل أو على تليله؛ أي: عنقه. وقال غيره: صرعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر وجلد ليرضيا الرحمن، ويحزنا الشيطان. وكان ذلك عند الصخرة التي بأصل جبل ثبير أو في الموضع المشرف على مسجد منى، أو في المنحر الذي ينحر فيه اليوم عند الجمار، أو في مكة عند المقام، وقيل: بالشام، وروي: أن إبليس عرض لإبراهيم عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى، وعزم على الذبح، ومنه شرع رمي الجمرات في الحج، فهو من واجبات الحج، يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة.
قال في «التأويلات النجمية»: ومن دقة النظر في رعاية آداب العبودية في حفظ حق الربوبية في القصة: أن إسماعيل، أمر أباه أن يشد يديه ورجليه، لئلا يضطرب إذا مسه ألم الذبح فيعاتب، ثم لما هم بذبحه قال: افتح القيد عني، فإني أخشى أن أعاتب، فيقال لي: أمشدود اليد حبيبي يطيعني. ولقد قيل في المعنى:
وَلَو بِيَدِ الحَبيبِ سُقيتُ سُمَّا | لَكَانَ السُّمُّ مِن يَدهَ يَطِيْبُ |
والمعنى: أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء. وقال القرطبي: قال أهل السنة: إن نفس النسخ لم يقع، ولو وقع لم يتصور رفعه. فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء.
١٠٥ - قال: ومعنى ﴿صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾: فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل في هذا الباب.
وقد اختلف في جواب ﴿لما﴾ ماذا هو؟ فقيل: هو محذوف (١) إيذانًا بعدم وفاء التعبير بتفاصيله، كأنه قيل: كان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى، على ما أنعم به عليهما من رفع البلاء، بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفّق أحد لمثله، وإظهار فضلهما بذلك على العالمين، مع إحراز الثواب العظيم، إلى غير ذلك، هكذا قال البصريون، وقال الكوفيون: الجواب: هو ناديناه، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس: بأن الواو من حروف المعاني، ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش: الجواب: وتلّه للجبين، والواو زائدة، وروي هذا أيضًا عن الكوفيين، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأول.
وقرأ زيد بن علي ﴿وناديناه﴾ قد صدقت بحذف ﴿أن﴾. وقرىء ﴿صدَقت﴾ بتخفيف الدال. وقرأ فيّاض ﴿الريا﴾ بكسر الراء والإدغام.
وقوله: ﴿إِنَّا﴾ نحن ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كما جزينا إبراهيم وابنه بتفريج الكرب
والمعنى (١): أي إنا كما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله حين أعد العدة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضي بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا، نجزي كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير.
١٠٦ - ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه، مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة، فقال: ﴿إِنَّ هذا﴾ الذبح المأمور به ﴿لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: لهو الابتلاء البيّن الظاهر، والذي يتميز فيه المخلص من غيره، أو إن هذا لهو المحنة البينة الصعوبة، التي لا محنة أصعب منها، والمعنى؛ أي: إن هذا الذي كان، لهو محنة أيما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله سبحانه أن يبتلي من شاء من عباده بما شاء من التكاليف، قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها، وبما لأجله شرعها.
وقيل المعنى: إن هذا الفداء الآتي لهو النعمة الظاهرة، حيث سلم الله ولده من الذبح، وفداه بالكبش، يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه، والأول أولى، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير والشر، ولكن المناسب للمقام المعنى الأول، فقال أبو زيد: هذا في البلاء الذي نزل به، في أن يذبح ولده، قال: وهذا من البلاء المكروه.
١٠٧ - ﴿وَفَدَيْناهُ﴾؛ أي: وفدينا إسماعيل ﴿بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: بمذبوح عظيم الشأن، متقبل عند الله تعالى. قيل: معناه: بكبش سمين اسمه جرير، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى، فقبله، وكان في الجنة يرعى، حتى فدى الله تعالى به إسماعيل، وقال السدي: نودي إبراهيم فالتفت، فإذا هو بكبش أملح
وقيل المعنى: وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير، قاله الحسن البصري، فإنه قال: ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. قال الزجاج: قد قيل: إنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي.
ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداءً له، وخلصناه به من الذبح، لكن ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه، والذبح بالكسر: اسم للمذبوح، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح: المصدر، ومعنى ﴿عَظِيمٍ﴾: عظيم القدر، ولم يرد عظم الجثة، وإنما عظم قدره لأنه فدي به نبي ابن نبي، وأي نبي من نسله سيد المرسلين. وقيل معنى ﴿عَظِيمٍ﴾؛ أي: عظيم الجثة سمين، وهي السنة في الأضاحي، كما قال النبي - ﷺ -: «عظّموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم».
١٠٨ - ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى، فقال: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ﴾؛ أي: على إبراهيم؛ أي: أبقينا له ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلًا ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾؛ أي: في الأمم المتأخرة التي تأتي بعده إلى يوم القيامة، فصار محببًا بين الناس جميعًا من كل ملة ومذهب، فاليهود يجلّونه، والنصارى يعظمونه، والمسلمون يبجّلونه، والمشركون يحترمونه، ويقولون: إنا على ملة أبينا إبراهيم. وذلك استجابة لدعوته حين قال: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)﴾.
١٠٩ - ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة، فقال: ﴿سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩)﴾؛ أي: وقلنا له: عليك السلام في الملائكة، والإنس والجن. أو (١) المعنى؛ أي: تركنا على
والمعنى: أثبت الله التسليم على إبراهيم، وأدامه في الآخرين، فيسلمون عليه؛ أي: يدعون له بثبوت هذه التحية.
١١٠ - ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ بالثناء الحسن. فالكاف (١) متعلقة بما بعدها. وذلك إشارة إلى بقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم، لا إلى ما أشير إليه فيما سبق، فلا تكرار؛ أي: مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي المنقادين لأوامرنا، لا جزاء أدنى منه، يعني أن إبراهيم من المحسنين، وما فعلناه مما ذكر مجازاة على إحسانه.
١١١ - ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن إبراهيم ﴿مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والاطمئنان. وفي «التأويلات النجمية» أي من عبادنا المخلصين، لا من عباد الدنيا، والهوى، والسوى. وفي «فتح الرحمن»: إن قلت: لم قال هنا: كذلك نجزي المحسنين بحذف إنا، وأثبته في آخر غيرها من القصص؟
قلت: حذفه في قصة إبراهيم اختصارًا واكتفاءً بذكره له قبل في قصته بقوله: وناديناه أن يا إبراهيم الآية، مع أن ما بعد قصته كان من تكملتها، وهو قوله: ﴿وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)﴾ بخلاف سائر القصص، انتهى.
١١٢ - ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة، وهي نعمة الولد، فقال: ﴿وَبَشَّرْناهُ﴾؛ أي: إبراهيم، والتبشير: هو الإخبار بما يظهر سرورًا في المخبر به. ﴿بِإِسْحاقَ﴾ من سارة رضي الله عنها حال كونه ﴿نَبِيًّا﴾ أي: مقضيًا بنبوته، مقدرًا كونه ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: بشرنا إبراهيم بولد يولد له، ويصير نبيًا بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، وانتصاب ﴿نَبِيًّا﴾ على الحال، وهي حال مقدرة، والأولى (٢) أن يقال: إن من فسّر الذبيح بإسحاق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط، وإنما الشرط المقارنة للفعل. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، وإيماء إلى أنه
(٢) الشوكاني.
والمعنى: أي وآتينا إبراهيم إسحاق، ومننا بنعمة النبوة له، وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا، وصبره على بلوانا.
١١٣ - ﴿وَبارَكْنا عَلَيْهِ﴾؛ أي: على إبراهيم في أولاده ﴿وَعَلى إِسْحاقَ﴾ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء من بني إسرائيل، وغيرهم كأيوب وشعيب، أو (١) أفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة، فكثَّرنا نسلهما، وجعلنا منه أنبياء ورسلًا، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة، فيقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما﴾؛ أي: ومن ذرية إبراهيم وإسحاق ﴿مُحْسِنٌ﴾ في عمله أو لنفسه بالإيمان والطاعة ﴿وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر ظلمه. وفيه تنبيه على أن الظلم في أولادهما وذريتهما لا يعود عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء يجازى بما صدر من نفسه طاعة أو معصية، لا بما صدر من أصله وفرعه، كما قال: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾. وأن النسب لا تأثير له في الصلاح، والفساد والطاعة والعصيان فقد يلد الصالح العاصي، والمؤمن الكافر، وبالعكس، ولو كان ذلك بالطبيعة لم يتغير، ولم يتخلف. فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال المبين، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فقد ماتوا على الشرك، إلا من أنقذه الله بالإسلام.
أَتَفْخَرُ باتِّصَالِكَ مِنْ عَلِيِّ | وَأصْلُ الْبَولَةِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ |
وَلَيْسَ بنَافِعٍ نسبٌ زَكِيٌّ | تُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ الْقِبَاحُ |
وَمَا يَنْفَعُ الأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ | إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ من باهله |
والمعنى: أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله، فآمن بربه، وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، ومنهم من ظلم نفسه، ودسّاها بالكفر والفسوق والمعاصي.
والخلاصة: أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة ولا عيب عليهم في شيء منه، كما قال: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾.
تتمة: مَنِ الذبيح، أإسحاق أم إسماعيل؟ ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب، وعن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن ثم حدث الخلاف فيها:
أولًا: فمن قائل: إنه إسحاق، ويؤيده:
١ - ما روي عن يوسف عليه السلام: أنه قال لفرعون مصر في وجهه: أترغب عن أن تأكل معي، وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
٢ - ما روي عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، فقال: أنا فلان بن فلان بن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله.
٣ - ما حكاه البغوي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعباس: أنه
ثانيًا: ومن قائل: إنه إسماعيل، وهو الذي يساوقه صحيح النظر، ونصوص القرآن. ويؤيده:
١ - رواية ذلك عن ابن عباس، فقد روى عطاء ابن أبي رباح عنه أنه قال: المفدي هو إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود.
٢ - روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال الذبيح إسماعيل.
٣ - أن ابن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن الذي أمر الله بذبحه من ابني إبراهيم هو إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى، فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: ﴿وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وقال: ﴿فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ﴾، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق، وله فيه من الموعد ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيرًا.
وعلى الجملة: فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها، يؤيد أنه إسماعيل، ولكن اليهود حسدوا العرب، على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان، ومن الفضل الذي ذكره الله له لصبره، لما أمر به، فجحدوا ذلك، وزعموا أنه إسحاق؛ لأنه أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرًا مطيعًا لربه.
القصة الثالثة: قصة موسى وهارون عليهما السلام
١١٤ - ولما فرغ الله سبحانه، من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح، وما منّ عليه بعد ذلك من النبوة.. ذكر ما منّ به على موسى وهارون. فقال: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أنعمنا ﴿عَلى مُوسى﴾ بن عمران وَأخيه الشقيق ﴿هارُونَ﴾ بن
١١٥ - ﴿وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما﴾ وهم المؤمنون من بني إسرائيل؛ أي: خلّصناهم ﴿مِنَ الْكَرْبِ﴾ والبلاء ﴿الْعَظِيمِ﴾؛ أي: الشديد. والمراد بالكرب العظيم: هو ما كانوا فيه من استعباد فرعون وقومه إياهم، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء، وقيل هو الغرق الذي أهلك به فرعون وقومه، والأول أولى.
١١٦ - ولما كانت التنجية عبارة عن التخليص من المكروه، وهي لا تقتضي الغلبة أتبعها بقوله: ﴿وَنَصَرْناهُمْ﴾؛ أي: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على أعدائهم، وأيّدناهم عليهم ﴿فَكانُوا﴾ بسبب نصرنا إياهم ﴿هُمُ﴾ فحسب ﴿الْغالِبِينَ﴾ على أعدائهم فرعون وقومه القبطيين، غلبةً لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما في أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى، فصّل النعم التي أنعم بها على موسى وهارون وقومهما.
فقال أولًا: ﴿وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما﴾؛ أي ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى، من المهانة والمذلة، التي لولا الفهم لها، لكانت كافية في انقراضهم، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال، وحيازته، والتمتع بلذات الدنيا.
وقال ثانيًا: ﴿وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦)﴾؛ أي: ونصرناهم على أعدائهم، فغلبوهم، وملكوا أرضهم وأموالهم، وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم، فكانوا أصحاب الصولة، والسلطان، والدولة، والرفعة.
١١٧ - وقال ثالثًا: ﴿وَآتَيْناهُمَا﴾؛ أي: وأعطينا موسى وهارون بعد التنجية المذكورة ﴿الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ﴾؛ أي: الكتاب الجلي الواضح المتناهي في البيان، والتفصيل لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا، وهو التوراة، فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، كما قال تعالى:
١١٨ - وقال رابعًا: ﴿وَهَدَيْناهُمَا﴾ بذلك الكتاب ﴿الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ أي: الموصل إلى الحق والصواب، بما فيه من تفاصيل الشرائع، وتفاريع الأحكام.
١١٩ - وقال خامسًا: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِما﴾؛ أي: أبقينا لهما ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلًا ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾؛ أي: فيمن بعدهم من الأمم. وهذا ما تصبو إليه النفوس. قال شاعرهم:
وإنَّمَا المَرءُ حَديْثٌ بَعدَهُ... فَكُن حَدِيثًا حَسنًا لِمنْ وَعَى
وقال الآخر:
الذِّكْرُ لِلإنْسَا... نِ عُمرٌ ثَانِيْ
١٢٠ - فهم يسلمون عليهما، ويقولون: ﴿سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠)﴾ ويدعون لهما دعاء دائمًا إلى يوم الدين، ولا شيء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال، كما ورد في الحديث: «من أصبح آمنًا في سربه، معافى في بدنه، فكأنما حيزت الدنيا له بحذافيرها».
١٢١ - ثم ذكر سبب هذه النعم، فقال: ﴿إِنَّا كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل هذا الجزاء الكامل ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين هما من جملتهم، لا جزاء قاصرًا عنه
١٢٢ - ﴿إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)﴾ يشير إلى (١) أن طريق الإحسان هو الإيمان. فالإيمان هو مرتبة الغيب، والإحسان هو مرتبة المشاهدة. ولما كان الإيمان ينشأ عن المعرفة كان الأصل معرفة الله، والجري على مقتضى العلم.
القصة الرابعة: قصة إلياس عليه السلام
١٢٣ - ﴿وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)﴾ إلى بني إسرائيل. قال ابن جرير: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِلْيَاسَ﴾ بهمزة مكسورة مقطوعة. وقرأ ابن ذكوان بوصلها، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر، وقرأ ابن مسعود، والأعمش، ويحيى بن وثّاب ﴿وإن إدريس لمن المرسلين﴾. وقرأ أبّي ﴿وإن إيليس﴾ بهمزة مكسورة، ثمّ تحتية ساكنة، ثمّ لام مكسورة، ثم تحتية ساكنة، ثم سين مهملة مفتوحة.
وحاصل قصته: كما قال محمد بن إسحاق، وعلماء السير والأخبار: لما (٢) قبض الله عز وجل، حزقيل النبي عليه السلام، عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك، ونصبوا الأصنام، وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبيا، وكان أنبياء يبعثون من بعد موسى عليه السلام في بني إسرائيل، بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة. وكان يوشع لما فتح الشام، قسمها على بني إسرائيل، وإن سبطا منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها، وهم الذين بعث إليهم إلياس، وعليهم يومئذ ملك اسمه آجب، وكان قد أضل قومه، وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان له صنم من ذهب، طوله عشرون ذراعًا، وله أربعة أوجه، اسمه بعل. وكانوا قد فتنوا به، وعظّموه، وجعلوا له أربع مئة سادن، وجعلوهم أنبياء. فكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها عنه، ويبلغونها الناس. وهم أهل بعلبك، وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وهم لا يسمعون له، ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك، فإنه آمن به وصدقه. فكان إلياس يقوم بأمره، ويسدده، ويرشده، وكان للملك امرأة جبارة، اسمها أربيل، وكانت قتالة للأنبياء والصالحين، يقال: إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا، وقد تزوجت سبعةً من ملوك بني إسرائيل، وقتلتهم كلهم غيلة، إنها ولدت سبعين ولدًا. وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب، فغضبت من رجل مؤمن اسمه مزدكي له جنينة تصغير جنة، كان يتعيّش منها في جنب
(٢) الخازن.
قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمر إلياس بعجوز، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: نعم شيء من دقيق وزيت قليل، قال: فدعا به ودعا فيه بالبركة، ومسه حتى ملأ جرابها دقيقًا، وملأ خوابيها زيتًا، فلما رأوا ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مر بي رجل من حاله كذا، وكذا، فوصفته بصفته فعرفوه، وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه، فوجدوه، فهرب منهم، ثم إنه آوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل، ولها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب، به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا لابنها فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع الياس، وآمن به، وصدّقه، ولزمه، وذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد كبر، وأسنّ، واليسع غلام شاب. ثم إن الله تعالى أوحى إلى الياس: أنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص الله من البهائم، والدواب، والطير، والهوام، والشجر بحبس المطر، فيزعمون أن الياس قال يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم بالفرج مما هم فيه من البلاء، لعلهم يرجعون عما هم فيه، وينزعون عن عبادة غيرك، فقيل له: نعم. فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال: إنكم قد هلكتم جوعًا وجهدًا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل، فنزعتم ودعوت الله تعالى، ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، فقالوا: يا الياس أنصفت، فخرجوا بأوثانهم ودعوها، فلم تفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فقالوا: إنا قد أهلكنا فادع الله لنا، فدعا إلياس ومعه اليسع بالفرج، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبّقت الآفاق، ثم أرسل الله عز وجل عليهم المطر، وأغاثهم، وحييت بلادهم، فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزعوا عن كفرهم، وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا، وكذا، فاخرج إلى موضع
روى السدي عن يحيى بن عبد العزيز عن أبي روّاد قال: إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس، ويوافيان الموسم في كل عام، وقيل: إن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار. فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)﴾.
١٢٤ - والظرف في قوله: ﴿إِذْ قالَ﴾ متعلق (١) بمحذوف، تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصة وقت قوله ﴿لِقَوْمِهِ﴾ بني إسرائيل: ﴿أَلا تَتَّقُونَ﴾ وتخافون عذاب الله تعالى، ونقمته إن خالفتم أمره. و ﴿أَلا﴾ بالتخفيف حرف عرض، وهو الطلب برفق ولين. وقيل: إن الهمزة في ﴿أَلا﴾ للاستفهام، و ﴿لا﴾ نافية، ويكون الاستفهام بمعنى الأمر؛ أي: اتقوا الله. وقيل: الظرف متعلق بالمرسلين. والأول أولى.
١٢٥ - والهمزة في قوله ﴿أَتَدْعُونَ﴾؛ أي: أتعبدون ﴿بَعْلًا﴾؛ أي: صنمًا. للإنكار؛ أي: لا تعبدوه، ولا تطلبوا منه الخير، فالبعل اسم صنم كان لأهل بك من
أي: أتعبدون صنمًا عملتموه ربًا ﴿وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ﴾؛ أي: وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق. ثم إن الخلق حقيقة في الاختراع والإنشاء والإبداع، ويستعمل أيضًا بمعنى التقدير والتصوير، وهو المراد به هاهنا؛ لأن الخلق، بمعنى: الاختراع لا يتصور من غير الله تعالى، حتى يكون هو أحسنهم. والمعنى: أحسن المصورين أو أحسن الخالقين لو وجدوا.
١٢٦ - وانتصاب الاسم الشريف في قوله: ﴿اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ على أنه بدل من ﴿أَحْسَنَ﴾ هذا على (١) قراءة حمزة، والكسائي، والربيع بن خيثم، وابن أبي إسحاق، ويحيى بن وثاب، والأعمش. فإنهم قرؤوا بنصب الاسمين. وقيل: النصب على المدح. وقيل: على عطف البيان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس، وأولى ما قيل: إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. وحكي عن الأخفش: أن الرفع أولى وأحسن. قال ابن الأنباري: من رفع أو نصب لم يقف على ﴿أَحْسَنَ الْخالِقِينَ﴾ على جهة التمام؛ لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعًا. والمعنى: إنه خالقكم وخالق من قبلكم، فهو الذي تحق له العبادة.
وقوله: ﴿وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ معطوف على ﴿رَبَّكُمْ﴾ على كلا الوجهين. والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم، للإشعار ببطلان آرائهم أيضًا
١٢٧ - ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: إلياس. ﴿فَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: فإن قومه بسبب تكذيبهم إياه ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾؛ أي: لمدخلون في النار والعذاب، لا يغيبون منها، ولا يخفف عنهم كقوله: ﴿وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ﴾، لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفًا.
١٢٨ - وقوله: ﴿إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨)﴾ استثناء متصل من فاعل ﴿كذبوه﴾. فيه دلالة على أن من قومه من
والمعنى: أي إلا قومًا منهم أخلصوا العمل لله، وأنابوا إليه، فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح، وقدموا من ذخر طيب.
١٢٩ - ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ﴾؛ أي: وأبقينا على إلياس ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾ من الأمم
١٣٠ - ﴿سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠)﴾ أي: هذا الكلام بعينه، فيدعون له، ويثنون عليه إلى يوم القيامة. وهو لغة (١) في إلياس كسيناء في سينين، فإن كلا من طور سيناء وطور سينين بمعنى الآخر، زيد في أحدهما الياء والنون، فكذا إلياس وإلياسين. وقرىء بإضافة ﴿آل﴾ إلى ﴿ياسين﴾؛ لأنهما في المصحف مفصولان. فيكون ياسين أبا إلياس، والآل هو نفس إلياس. وقرأ (٢) زيد بن علي، ونافع، وابن عامر ﴿على إل ياسين﴾، وزعموا أن ﴿آل﴾ مفصولة في المصحف، و ﴿ياسين﴾ اسم لإلياس. قيل: اسم لأبي إلياس؛ لأنه إلياس بن ياسين، وآل ياسين هو ابنه إلياس. وقرأ باقي السبعة ﴿على إلياسين﴾ بهمزة مكسورة؛ أي: إلياسيين. جمع المنسوبين إلى إلياس معه، فسلم عليهم. وهذا يدل على أن من قومه من كان تبعه على الدين، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس، فلما جمعت خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف، فالتقى ساكنان الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع، فحذفت لالتقائهما كما الأشعرون في جمع أشعري، والأعجمون في جمع أعجمي. وحكى أبو عمرو: أن مناديًا نادى يوم الكلاب هلك اليزيديون، وقال الزمخشري: لو كان جمعا لعرّف بالألف واللام. وقرأ أبو جعفر، والحسن ﴿على الياسين﴾ بوصل الألف على أنه جمع يراد به: إلياس وقومه المؤمنون، وحذفت ياء النسب كما قالوا: الأشعرون، والألف واللام دخلت على الجمع، واسمه على هذا ياس. وقرأ ابن مسعود، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس ﴿سلام على إدراسين﴾. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبًا، فياسين،
(٢) البحر المحيط.
١٣١ - ﴿إِنَّا كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل هذا الجزاء الكامل ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ إحسانًا مطلقًا، ومن جملتهم إلياس
١٣٢ - ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن إلياس. لا شبهة في أن الضمير لإلياس، فيكون إلياس وإلياسين شخصًا واحدًا، وليس إلياسين جمع إلياس، كما دل عليه من قبله من قوله: سلام على نوح، وسلام على إبراهيم، وسلام على موسى وهارون ﴿مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والاطمئنان.
القصة الخامسة: قصة لوط عليه السلام
١٣٣ - ﴿وَإِنَّ لُوطًا﴾ هو لوط بن هاران أخي إبراهيم الخليل عليه السلام ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى قومه، وهم أهل سدوم بالدال المهملة. فكذبوه وأرادوا إهلاكه، فقال: رب نجني وأهلي مما يعملون،
١٣٤ - فنجاه الله وأهله. فذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ نَجَّيْناهُ﴾ والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: اذكر، ولا يصح تعلقه بالمرسلين؛ لأنه لم يرسل وقت تنجيته؛ أي: اذكر يا محمد لقومك قصة وقت تنجيتنا إياه ﴿وَأَهْلَهُ﴾؛ أي: أهل بيته يعني: ابنتيه: زاعورا، ورينا ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد لما قبله
١٣٥ - ﴿إِلَّا عَجُوزًا﴾؛ أي: إلا (١) امرأته الخائنة واهلة الكافرة. وكان نكاح الوثنيات، والإقامة عليهن جائزا في شريعته. وسميت المرأة المسنة عجوزًا لعجزها عن كثير من الأمور، كما في «المفردات». ﴿فِي الْغابِرِينَ﴾ صفة لـ ﴿عَجُوزًا﴾؛ أي: إلا عجوزا مقدرًا غبورها في الباقين في العذاب والهلاك، وهم قومه، فلا بد من تقدير «مقدرًا»؛ لأن الغبور لم يكن صفتها وقت تنجيتهم. وقيل للباقي: غابر تصورا، بتخلف الغبار عن الذي يعدو، فيخلفه أو في الماضين الهالكين، وقيل للماضي: غابر تصورا لمضي الغبار عن الأرض.
١٣٦ - ﴿ثُمَّ﴾ بعد تنجيتهم ﴿دَمَّرْنَا﴾؛ أي: أهلكنا ﴿الْآخَرِينَ﴾؛ أي: من بقي بعد لوط وابنتيه بالإئتفاك بهم، وإمطار الحجارة عليهم، فإنه تعالى لم يرض بالإئتفاك حتى أتبعه مطر من حجارة.
١٣٧ - ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على قربات ديار قوم لوط المهلكين ومنازلهم سدوم، وعمورًا، وصبورًا، ودادوما في متاجركم إلى الشام، وتشاهدون آثار هلاكهم. فإن سدوم أعظم قراهم في طريق الشام، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦)﴾. وقوله: ﴿مُصْبِحِينَ﴾ حال من فاعل ﴿تمرون﴾؛ أي: حال كونكم داخلين في الصباح.
١٣٨ - ﴿وَ﴾ ملتبسين ﴿بِاللَّيْلِ﴾؛ أي: مساءً. ولعلها وقعت بقرب منزل يمر به المرتحل عنه صباحًا، والقاصد له مساء. ويجوز أن يكون المعنى: نهارًا وليلًا، على أن يعمم المرور للأوقات كلها من الليل والنهار، ولا يخصص بوقتي الصباح والمساء.
والمعنى: أي وإنكم لتمرون عليهم، وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح، أو أول الليل، فترون آثار ديارهم التي عفت وأصبحت خرابًا يبابًا، لا أنيس فيها، ولا جليس، ولا ديار، ولا نافخ نار.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أفتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به، وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فإن من قدر على إهلاك أهل سدوم، واستئصالهم بسبب كفرهم وتكذيبهم، كان قادرًا على إهلاك كفار مكة، واستئصالهم لاتحاد السبب ورجحانه؛ لأنهم أكفر من هؤلاء، وأكذب كما يشهد به قوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ﴾. وكان النبي - ﷺ - يقول لأبي جهل: «إن هذا أعتى على الله من فرعون». فعلى العاقل: أن يعتبر، ويؤمن بوحدانية الحق، ويرجع إلى أبواب فضله وكرمه ورحمته، ويؤدب عجوز نفسه الأمارة، ويحملها على التسليم والامتثال كي لا تهلك مع أهل القهر والجلال.
القصة السادسة: قصة يونس عليه السلام
١٣٩ - ﴿وَإِنَّ يُونُسَ﴾ بن متى بالتشديد، وهو اسم أبيه أو أمه. وفي «كشف الأسرار»: اسم أبيه متى، واسم أمه تنجيس. كان يونس من أولاد هود عليه
وأما ذو النون المصري من أولياء هذه الأمة. فقيل: إنما سمي به لأنه ركب سفينة مع جماعة، فقد واحدٌ منهم ياقوتًا فلم يجده، فآل رأيهم إلى أن هذا الرجل الغريب قد سرقه، فعوتب عليه، فأنكر الشيخ فحلف، فلم يصدقوه، بل أصروا على أنه ليس إلا فيه، فلما اضطر توجه ساعة، فأتى جميع الحوت من البحر في فيها يواقيت. فلما رأوا ذلك اعتذروا عن فعلتهم، فقام وذهب إلى البحر، ولم يغرق بإذن الله تعالى. فسمي ذا النون.
﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى بقية ثمود. وهم أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية. وقيل: بضمها قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل. ولما بعث إليهم دعاهم إلى التوحيد أربعين سنة، وكانوا يعبدون الأصنام، فكذبوه وأصروا على ذلك، فخرج من بين أظهرهم، وأوعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث أو بعد أربعين ليلة. ثم إن قومه لما أتاهم أمارات العذاب، بأن أطبقت السماء غيمًا أسود يدخن دخانًا شديدًا، ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم، حتى إذا صار بينهم وبين العذاب قدر ميل، أخلصوا الله تعالى بالدعاء والتضرع، بأن فرقوا بين الأمهات والأطفال، وبين الأتن والجحوش، وبين البقر والعجول، وبين الإبل والفصلان، وبين الضأن والحملان، وبين الخيل والأفلاء، ولبسوا المسوح، ثم خرجوا إلى الصحراء متضرعين ومستغفرين حتى ارتفع الضجيج إلى السماء، فصرف الله عنهم العذاب، وقبل توبتهم. ويونس ينتظر هلاكهم، فلما أمسى سأل محتطبًا مر بقومه كيف كان حالهم؟ فقال: هم سالمون وبخير وعافية وحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وخرج من ديارهم مستنكفًا خجلًا منهم، ولم ينتظر الوحي، وتوجه إلى جانب البحر،
١٤٠ - وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾. والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة وقت إباقه؛ أي: هربه، ولا يصح تعلقه بالمرسلين؛ لأنه لم يرسل إذا أبق. وأصله: الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه بطريق
﴿إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: إلى السفينة المملوءة من الناس، والدواب، والمتاع. ويقال: إلى الفلك المجهز الذي فرغ من جهازه. روي: أن يونس لما دخل السفينة، وتوسطت البحر احتبست عن الجري، ووقفت، وكان ذلك بدجلة؛ لأنه أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل. فقال الملاحون: هنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها عبد آبق لا تجري. وقال الإمام: فقال الملاحون: إن فيكم عاصيًا وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر. وقال التجار: قد جربنا مثل هذا، فإذا رأينا نقترع فمن خرج سهمه نرميه في البحر، لأن غرق الواحد خير من غرق الكل. فاقترعوا ثلاث مرات، فخرجت القرعة على يونس في كل مرة،
١٤١ - وذلك قوله تعالى: ﴿فَساهَمَ﴾؛ أي: فتساهموا. فساهم يونس واقترع؛ أي: خرجت عليه القرعة. والمفهوم من تفسير الكاشفي: أن الضمير في ﴿ساهم﴾ إلى يونس. والسهم: ما يرمى به من القداح ونحوه. وقيل: الضمير إلى القوم، والمعنى: فقارع أهل الفلك من الآبق، وألقوا السهام على وجه القرعة، فخرجت قرعة الرمي على يونس ﴿فَكانَ﴾ يونس ﴿مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾؛ أي: فصار من المغلوبين. وأصل المدحض: المزلق: عن مقام الظفر والغلبة. ومنه قول الشاعر:
قَتَلْنَا المُدحِضِيْنَ بِكُلِّ فَجٍّ | فَقَد قَرَّتْ بِقَتلِهِمُ الْعُيُوْنُ |
١٤٢ - ولما خرجت القرعة على يونس قال: أنا العبد الآبق، أو يا هؤلاء أنا والله العاصي، فتلفف في كسائه، ثم قام على رأس السفينة، فرمى بنفسه في البحر. ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ﴾؛ أي: فابتلعه الحوت العظيم. وقال في «كشف الأسرار»: فصادفه حوت جاء من قبل اليمن، فابتلعه فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى. وقوله: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ حال من مفعول ﴿فَالْتَقَمَهُ﴾؛ أي: داخل في
١٤٣ - ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ﴾؛ أي: يونس ﴿كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ في بطن الحوت، وهو قوله: ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، أو من الذاكرين الله كثيرًا بالتسبيح مدة عمره، وعن سهل، من القائمين بحقوق الله تعالى، قبل البلاع ذكرًا أو صلاة أو غيرهما.
١٤٤ - ﴿لَلَبِثَ﴾ يونس ﴿فِي بَطْنِهِ﴾؛ أي: في بطن الحوت وجوفه ﴿إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: إلى يوم يبعث الخلائق، وهو يوم القيامة؛ أي: لصار بطن الحوت له قبرًا إلى يوم البعث. وقيل: للبث في بطنه حيًا.
واختلف (١) المفسرون في كم أقام في بطن الحوت؟. فقال السدي، ومقاتل بن سليمان، والكلبي: أربعين يومًا، وقال الضحاك: عشرين يومًا، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقيل: ساعة واحدة قال في «كشف الأسرار»: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يبقى هو والحوت إلى يوم البعث.
والثاني: يموت الحوت ويبقى هو في بطنه.
والثالث: يموتان ثم يحشر يونس من بطنه، فيكون بطن الحوت قبرًا له إلى يوم القيامة، فلم يلبث فيه لكونه من المسبحين.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - أنه قال: «سبح يونس في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة، فقال تعالى: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في يوم وليلة عمل صالح، قال: نعم. فشفعوا له، فأمر الحوت فقذفه بالساحل في أرض نصّبين» وهي بلدة قاعدة ديار ربيعة. وذلك قوله تعالى: ﴿فَنَبَذْناهُ﴾.
وحاصل المعنى (٢): أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة؛ أي: فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال: أنا الآبق، وألقى نفسه في الماء، فالتقمه الحوت. وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه. وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل، فلولا أنه كان من الذاكرين الله كثيرًا، والمسبحين بحمده طوال عمره للبث ميتًا في بطنه إلى يوم البعث. إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام، ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها.
١٤٥ - ﴿فَنَبَذْناهُ﴾؛ أي: فألقينا يونس من بطن الحوت ﴿بِالْعَراءِ﴾؛ أي: بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت؛ أي: أمرنا الحوت، وحملناه على لفظه، ونبذه، ورميه بالمكان الخالي ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾؛ أي: والحال أن يونس عليل البدن من أجل ما ناله في بطن الحوت من ضعف بدنه، فصار كبدن الطفل ساعة يولد، لا قوة له، أو بلي لحمه ونتف شعره، حتى صار كالفرخ ليس عليه شعر وريش،
(٢) المراغي.
أي (١): فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر، وهو عليل الجسم، سقيم النفس لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه إذ أعرضوا عن دعوته، ولم يصدقوه فيما جاء به. وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة في دنياهم وآخرتهم، ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له.
١٤٦ - ثم بيّن لطفه به، ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس، ولا لزمهرير البرد. فقال: ﴿وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ﴾؛ أي: فوقه مظللة عليه ﴿شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾؛ أي: من قرع، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، فهو موضوع لمفهوم كلي متناول للقرع، والبطيخ، والقثاء، والقند، والحنظل، ونحوها، مما كان ورقه كله منبسطًا على وجه الأرض، ولم يقم على ساق، واحدته يقطينة، أطلق هنا على القرع استعمالًا للعام في بعض جزئياته. وقال في «القاموس»: اليقطين: ما لا ساق له من النبات ونحوه، وبهاء القرعة الرطبة، انتهى. قال ابن الشيخ: ولعل (٢) إطلاق اسم الشجرة على القرع، مع أن الشجر في كلامهم اسم لكل نبات يقوم على ساقه، ولا ينبسط على وجه الأرض مبني على أنه تعالى أنبت عليه شجرةً، عريشًا لما نبت تحتها من القرع، بحيث استولى القرع على جميع أغصانها، حتى صارت كأنها شجرة من يقطين. وكان هذا الإنبات كالمعجزة ليونس، فاستظل بظلها، وغطته بأوراقها عن الذباب، فإنه لا يقع عليها كما يقع على سائر العشب، وكان يونس حين لفظه البحر، متغيرًا يؤلمه الذباب، فسترته الشجرة بورقها، قيل لرسول الله - ﷺ -: إنك تحب القرع، قال: أجل، هي شجرة أخي يونس. وروي: أنه تعالى قيّض له أروية وهي الأنثى من الوعل، تروح عليه بكرةً وعشية، فيشرب من لبنها حتى اشتد لحمه، ونبت شعره، وعادت قوته.
والمعنى: أي (٣) فأنبتنا حواليه شجرة من موز يتغطى بورقها، ويستظل
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١٤٧ - ثم ذكر أنه لما شُفي من سقمه، ونجا من الهلاك، ورضي ربه عنه عاد إلى قومه ليتم دعوته، ويبلّغ رسالته، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَأَرْسَلْناهُ﴾؛ أي: يونس مرة أخرى ﴿إِلى مِائَةِ أَلْفٍ﴾ هم قومه الذين هرب منهم. وقيل المراد: إرساله السابق، وهو إرساله إليهم قبل أن يخرج من بينهم، والتقمه الحوت. أخبر أولًا بأنه من المرسلين على الإطلاق، ثم أخبر بأنه قد أرسل إلى مئة ألف جمة. وكان توسيط تذكير وقت هربه إلى الفلك وما بعده بينهما لتذكير سببه. وهو ما جرى بينه وبين قومه من إنذاره إياهم عذاب الله، وتعيينه لوقت حلوله، وتعللهم، وتعليقهم لإيمانهم بظهور أماراته. ليعلم أن إيمانهم الذي سيحكى بعد، لم يكن عقيب الإرسال كما هو المتبادر من ترتيب الإيمان عليه بالفاء.
واختلف (١) أهل العلم، هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر، أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟. والراجح: أنه كان رسولًا قبل أن يذهب إلى البحر، كما يدل عليه ما تقدم في سورة يونس، وبقي مستمرًا على الرسالة. وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته.
والمعنى (٢): وكنا أرسلناه إلى مئة ألف. فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إليهم ثانيًا؛ أي: وأرسلناه إلى قوم عددهم مئة ألف. ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ قال ابن عباس: معناه: ويزيدون على ذلك، فـ ﴿أَوْ﴾ عنده بمعنى الواو. وقيل معناه: بل يزيدون، فـ ﴿أَوْ﴾ بمعنى بل. وقيل: ﴿أَوْ﴾ على أصلها، ومعناها: من الشك. والمعنى: أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم. قال: هؤلاء مئة ألف أو يزيدون على ذلك، فالشك على تقدير المخلوقين. إذ الشك على الله محال. والأصح هو قول ابن عباس الأول. والمعنى عليه: وأرسلناه إلى قوم عدادهم مئة ألف، وإلى
(٢) الخازن.
وفي «فتح الرحمن»: إن قلت: ﴿أَوْ﴾ للشك (١) وهو على الله محال.
قلت: ﴿أَوْ﴾ بمعنى: بل، أو بمعنى الواو، أو المعنى: أو يزيدون في نظرهم، فالشك إنما دخل في قول المخلوقين، انتهى. وقرأ جعفر بن محمد ﴿ويزيدون﴾ بدون ألف الشك.
١٤٨ - ﴿فَآمَنُوا﴾؛ أي: بعدما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانًا خالصًا ﴿فَمَتَّعْناهُمْ﴾ بالحياة الدنيا، وأبقيناهم ﴿إِلى حِينٍ﴾ انقضاء آجالهم، ومنتهى أعمارهم. وهذا كناية عن رد العذاب عنهم، وصرف العقوبة.
والمعنى: أي (٢) فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم، وقد كانوا مئة ألف بل يزيدون، فاستقامت حالهم، وآمنوا به؛ لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطؤوا، وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم. فلما عاد إليهم، ودعاهم إلى ربه لبوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم، وهلكوا فيمن هلك.
فائدة: هاهنا مسألتان (٣):
١ - أن القرآن الكريم لم يبين لنا مم أبق، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها.
٢ - أنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت، وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح، ولم يؤثر ذلك وأيا كان، فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة، أو
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
وصارت (١) قصة يونس آخر القصص، لما فيها من ذكر عدم الصبر على الأذى والإباق. ولعل عدم ختم هذه القصة وقصة لوط بما ختم به سائر القصص، من ذكر سلام وما يتبعه للتفرقة بينهما، وبين أرباب الشرائع الكبار، وأولي العزم من الرسل، أو اكتفاءً بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة، قاله البيضاوي. وقال بعضهم: وجهه أن إلياس ويونس سواء في أن كلّا منهما ليسا من أرباب الشرائع الكبار، وأولي العزم من الرسل، فلا بد لتخصيص أحدهما بالسلام من وجه، وأن التسليم المذكور في آخر السورة شامل لكل من ذكر هنا، ومن لم يذكر، فحينئذ كان الظاهر أن يقتصر على ذكر سلام نوح ونحوه، ثم يعمم عليهم، وعلى غيرهم، ممن لم يكن في درجتهم.
روي: أن يونس عليه السلام نام يومًا تحت الشجرة، فاستيقظ وقد يبست، فخرج من ذلك العراء ومر بجانب مدينة نينوى، فرأى هنا لك غلامًا يرعى الغنم، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس، قال: فإذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم مني السلام، وأخبرهم أنك لقيت يونس ورأيته، فقال الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أن من يحدث، ولم يكن له بينة قتلوه، وكان في شرعهم أن من كذب قتل، فمن يشهد لي، فقال له يونس: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة، فقال الغلام ليونس: مرهما بذلك، فقال لهما: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، فأمر الملك أن يقتل، فقال: إن لي بينة، فأرسل معه جماعة فانتهوا إلى الشجرة والبقعة، فقال لهما الغلام: أنشدكما الله عز وجل؛ أي: أسألكما بالله تعالى، هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم. فرجع القوم مذعورين، فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا، فتناول الملك يد الغلام، فأجلسه في منزله، فقال له: أنت أحق مني بهذا المقام والملك، فأقام بهم الغلام أربعين سنة.
الإعراب
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى﴾.
﴿فَلَمَّا بَلَغَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت دعاءَهُ لنا، وتبشيرنا إياه وأردت بيان عاقبة الولد.. فأقول لك: لما بلغ. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم، في محل نصب على الظرفية الزمانية ﴿بَلَغَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الغلام. والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾، في محل جر بالإضافة. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف حال من فاعل بلغ؛ أي: حالة كون الغلام مصاحبًا لأبيه، ﴿السَّعْيَ﴾: مفعول به، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم. والجملة جواب لما، لا محل لها من الإعراب، وجملة لما في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿يا بُنَيَّ﴾: ﴿يا﴾ حرف نداء، ﴿بُنَيَّ﴾: منادى، مضاف إلى ياء المتكلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أَرى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿إبراهيم﴾. ﴿فِي الْمَنامِ﴾: متعلق بـ ﴿أَرى﴾. وجملة ﴿أَرى﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنْ﴾، وجملة ﴿إِنْ﴾: في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أَذْبَحُكَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. وجملة أذبح في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: مع معموليها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿أَرى﴾، والتقدير: إني أرى في المنام ذبحي إياك. ﴿فَانْظُرْ﴾: الفاء: عاطفة
﴿قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الغلام، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أَبَتِ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المعوّض عنها تاء التأنيث، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. ﴿افْعَلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به لـ ﴿افْعَلْ﴾. وجملة افعل في محل النصب مقول قال، ﴿تُؤْمَرُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر. والجملة صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تؤمر به. ﴿سَتَجِدُنِي﴾: السين حرف استقبال، ﴿تجد﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل النصب مفعول أول لتجد، ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ متعلق بـ ﴿وجد﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له. والجملة الفعلية في محل النصب مقول قال. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿شاءَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ فاعل شاء، ومفعول شاء محذوف تقديره: إن شاء الله صبري، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن شاء الله صبري ستجدني من الصابرين. وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معترضة، لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الفعل ومعموله.
﴿فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩)﴾.
﴿كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)﴾.
﴿كَذلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، مقدم على عامله. ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، والتقدير: نجزي المحسنين جزاءً كائنًا كذلك الجزاء المذكور. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنْ عِبادِنَا﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿عباد﴾ مضاف. ﴿نا﴾: مضاف إليه، ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿عِبادِنَا﴾، ﴿وَبَشَّرْناهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿بشرنا﴾ الأولى. ﴿بِإِسْحاقَ﴾ متعلق بـ ﴿بَشَّرْناهُ﴾. ﴿نَبِيًّا﴾: حال من ﴿إسحاق﴾. ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: صفة لـ ﴿نَبِيًّا﴾ أو حال ثانية. ﴿وَبارَكْنا﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ﴾ متعلقان بـ ﴿بارَكْنا﴾. ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما﴾: خبر مقدم. ﴿مُحْسِنٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَظالِمٌ﴾: معطوف عليه. ﴿لِنَفْسِهِ﴾: متعلق بـ ﴿ظالِمٌ﴾، ﴿مُبِينٌ﴾: صفة لـ ﴿ظالِمٌ﴾. والجملة مستأنفة.
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿مَنَنَّا﴾: فعل، وفاعل جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. وجملة القسم مستأنفة. ﴿عَلى مُوسى﴾: متعلق بـ ﴿مَنَنَّا﴾، ﴿وَهارُونَ﴾: معطوف على ﴿مُوسى﴾، ﴿وَنَجَّيْناهُما﴾: فعل وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿مَنَنَّا﴾، ﴿وَقَوْمَهُما﴾ معطوف على ضمير ﴿هما﴾، ﴿مِنَ الْكَرْبِ﴾: متعلق بـ ﴿نَجَّيْناهُما﴾، ﴿الْعَظِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْكَرْبِ﴾، ﴿وَنَصَرْناهُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿مَنَنَّا﴾، ﴿فَكانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، معطوف على ﴿نَصَرْناهُمْ﴾، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل ﴿الْغالِبِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾، ﴿وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ﴾: فعل، وفاعل، ومفعولان، معطوف على ﴿مَنَنَّا﴾، ﴿الْمُسْتَبِينَ﴾: صفة
﴿إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿كَذلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف مقدم على عامله، ﴿نَجْزِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾: مفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنا؛ أي: إنا مجازو، المؤمنين جزاء كائنًا كذلك الجزاء المذكور ﴿إِنَّهُما﴾ ناصب واسمه، ﴿مِنْ عِبادِنَا﴾ خبر ﴿إن﴾، ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ صفة لـ ﴿العباد﴾، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿وإن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة قصة على قصة. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿إِلْياسَ﴾ اسمها، ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ خبرها، واللام حرف ابتداء. والجملة مستأنفة أو معطوفة على ما سبق من القصص.
﴿إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد قصة وقت قول إلياس لقومه، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿إِلْياسَ﴾. والجملة في محل الجر مضاف لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿لِقَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿قالَ﴾، ﴿أَلا﴾ حرف عرض، مبني على السكون. وقيل: الهمزة للاستفهام الأمري.
والجملة الفعلية في محل النصب، مقول قال. ﴿أَتَدْعُونَ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَتَذَرُونَ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿تَدْعُونَ﴾، ﴿أَحْسَنَ الْخالِقِينَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، ﴿اللَّهَ﴾: بالنصب بدل من أحسن الخالقين، ﴿رَبَّكُمْ﴾: بدل من لفظ الجلالة، ﴿وَرَبَّ آبائِكُمُ﴾: معطوف على ربكم، ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: صفة لـ ﴿آبائِكُمُ﴾: فالكلمات الثلاث منصوبة. وقرىء بالرفع على أنها أخبار لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الله، أو ﴿اللَّهَ﴾: مبتدأ، و ﴿رَبَّكُمْ﴾: خبره. والجملة الاسمية بدل من ﴿أَحْسَنَ الْخالِقِينَ﴾. ﴿وَرَبَّ آبائِكُمُ﴾: معطوف على ﴿رَبَّكُمْ﴾، ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿كذبوه﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة قال. ﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت دعوته إياهم إلى الإيمان، وتكذيبهم له وأردت بيان عاقبة أمرهم فأقول لك ﴿إنهم﴾ ناصب واسمه ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾: خبره، واللام: حرف ابتداء. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿عِبادَ اللَّهِ﴾ منصوب على الاستثناء من فاعل ﴿كذبوا﴾، ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾: نعت لعباد الله، ﴿وَتَرَكْنا﴾: فعل، وفاعل، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. والجملة مستأنفة. ومفعول ﴿تَرَكْنا﴾ محذوف؛ أي: ثناء حسنًا ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾: صفة لذلك المحذوف، ﴿سَلامٌ﴾ مبتدأ، ﴿عَلى إِلْ ياسِينَ﴾: خبر. والجملة الاسمية مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا سلام على إلياسين. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿كَذلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف، مقدم على عاملة، وجملة ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنْ عِبادِنَا﴾ خبره، ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿العباد﴾. وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (١٣٥)﴾.
﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف للترتيب مع التراخي. ﴿دَمَّرْنَا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿نَجَّيْناهُ﴾، ﴿الْآخَرِينَ﴾: مفعول به، ﴿وَإِنَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، ﴿إِنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَتَمُرُّونَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿تمرون﴾: فعل، وفاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿تمرون﴾، ﴿مُصْبِحِينَ﴾ حال من فاعل ﴿تمرون﴾. وهو من أصبح التامة. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِنَّ لُوطًا﴾ أو مستأنفة ﴿وَبِاللَّيْلِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿بِاللَّيْلِ﴾ جار ومجرور، متعلق بمحذوف، معطوف على مصبحين على كونه حالًا من فاعل ﴿تمرون﴾؛ أي: وملتبسين بالليل. ﴿أَفَلا﴾: الهمزة للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر معلوم من المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَعْقِلُونَ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، والتقدير: أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به، وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ الواو: عاطفة قصة على قصة أو استئنافية، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿يُونُسَ﴾: اسمها، ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾: خبرها، واللام: حرف ابتداء. والجملة
﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)﴾.
﴿فَلَوْلا﴾ الفاء: استئنافية، ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود، ﴿أَنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على يونس. ﴿مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، تقديره: فلولا كونه من المسبحين موجود، ﴿لَلَبِثَ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لولا﴾، ﴿لبث﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على يونس، ﴿فِي بَطْنِهِ﴾: متعلق بـ ﴿لبث﴾، ﴿إِلى يَوْمِ﴾: جار ومجرور، متعلق بلبث أيضًا، ﴿يُبْعَثُونَ﴾: فعل مضارع، مغيّر الصيغة، ونائب فاعل. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمِ﴾، وجملة ﴿لبث﴾ جواب ﴿لولا﴾، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿لولا﴾ مستأنفة.
{فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ
﴿فَنَبَذْناهُ﴾ الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: أمرنا الحوت بنبذه فنبذناه. ﴿نبذناه﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿بِالْعَراءِ﴾ متعلق بـ ﴿نبذنا﴾، ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هُوَ سَقِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿نبذناه﴾. ﴿وَأَنْبَتْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوفة على ﴿نبذنا﴾، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْبَتْنا﴾، ﴿شَجَرَةً﴾: مفعول به، ﴿مِنْ يَقْطِينٍ﴾: صفة لـ ﴿شَجَرَةً﴾، ﴿وَأَرْسَلْناهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، معطوف على ﴿أنبتنا﴾، ﴿إِلى مِائَةِ أَلْفٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف بمعنى الواو. ﴿يَزِيدُونَ﴾: فعل، وفاعل، صفة لموصوف محذوف، تقديره: وإلى عدد يزيدون على ذلك، ﴿فَآمَنُوا﴾: الفاء: عاطفة، ﴿آمنوا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على أرسلناه، ﴿فَمَتَّعْناهُمْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿متعناهم﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على آمنوا، ﴿إِلى حِينٍ﴾ متعلق بـ ﴿متعناهم﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾؛ أي: فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله، وحاجات المعيشة. ﴿أَسْلَما﴾؛ أي: استسلما، وانقادا لأمر الله تعالى. يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد. قرىء بهن جميعًا، كما مر. ﴿وَتَلَّهُ﴾؛ أي: كبه على وجهه. ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾؛ أي: صرعه، وأسقطه، فوقع أحد جنبيه على الأرض، تواضعًا على مباشرة الأمر بصبر، وجلد. وفي «المصباح»: والجبين: جانب الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، قاله الأزهري، وابن فارس، وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جبن بضمتين مثل: بريد وبرد، وأجبنة مثل أسلحة. وفي «القاموس»: تله تلا من باب قتل، فهو متلول وتليل أو ألقاه على عنقه وخده. قال الراغب: أصل التل: المكان المرتفع، والتليل: العنق وتله للجبين: أسقطه على التل أو على تليله.
﴿وَبَشَّرْناهُ﴾: من التبشير، وهو الإخبار بما يظهر سرورًا في المخبر به، ومنه: تباشير الصبح لما ظهر من أوائل ضوئه. ﴿وَبارَكْنا عَلَيْهِ﴾؛ أي: أفضنا البركات عليه. ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤)﴾ المنان في صفة الله تعالى، المعطي ابتداء من غير أن يطلب عوضًا. يقال: منّ عليه منّا إذا أعطاه شيئًا، ومنّ عليه منّة إذا أعد نعمته عليه، وامتن وهو مذموم من الخلق، لا من الحق كما قال تعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ﴾؛ أي: البليغ المتناهي في البيان. فاستبان مبالغة بان بمعنى: ظهر ووضح، وجعل الكتاب بالغا في بيانه من حيث إنه لكماله في بيان الأحكام، وتمييز الحلال عن الحرام، كأنه يطلب من نفسه أن يبيّنها، ويحمل نفسه على ذلك. وقيل: هذه السين كهي في قوله: ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾. فإن بان، واستبان، وتبين واحد نحو: عجل، واستعجل، وتعجل. فيكون معناه: الكتاب المبين.
﴿بَعْلًا﴾ والبعل هو الذكر من الزوجين. ولما تصور من الرجل استعلاء على المرأة، فجعل سائسها والقائم عليها شبّه كل مستعل على غيره به، فسمّي باسمه، فسمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله: بعلا لاعتقادهم ذلك. فالبعل اسم صنم كان لأهل بك من الشام، وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك، وكان من ذهب طوله عشرون ذراعًا، كما مر. وفي «تاج العروس»: قال الأزهري: هما
﴿وَتَذَرُونَ﴾؛ أي: تتركون. وسمعنا عمن له نصاب في العربية أن كلمتي ذر ودع أمران في معنى الترك، إلا أن ﴿دع﴾ أمر للمخاطب بترك الشيء قبل العلم به، و ﴿ذر﴾ أمر له بتركه بعدما علمه. وروي: أن بعض الأئمة سأل الإمام الرازي عن قوله تعالى: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥)﴾ لم لم يقل: وتدعون أحسن الخالقين، وهذا أقرب من الفصاحة للمجانسة؟ فقال الإمام: لأنهم اتخذوا الأصنام آلهةً، وتركوا الله بعد ما علموا أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارًا. فكذلك قيل لهم: ﴿وَتَذَرُونَ﴾ ولم يقل: وتدعون، هذا. وقد أمات العرب ماضي دع وذر، ومصدرهما ولكن روي في الحديث: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات»؛ أي: عن تركهم الجمعات. وقال في «القاموس»: ودعه؛ أي: اتركه، أصله: ودع كوضع، وقد أميت ماضيه، وإنما يقال في ماضيه: تركه، وجاء في الشعر ودعه، وهو مودوع. وقرىء شاذًا ﴿ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾، وهي قراءته - ﷺ -. وقال الجوهري: ولا يقال وادع، وينافيه وروده في الشعر والقراءة إلا أن يحمل قولهم: «وقد أميت ماضيه» على قلة الاستعمال. فهو شاذ استعمالًا، صحيح قياسًا.
﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفًا. ﴿إِلَّا عَجُوزًا﴾ العجوز: المرأة المسنة، سميت عجوزا لعجزها عن كثير من الأمور، كما في «المفردات».
﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا﴾ التدمير: إدخال الهلاك على الشيء؛ أي: أهلكنا. ﴿أَبَقَ﴾؛ أي: هرب من قومه بغير إذن ربه. وأصل الإباق: هرب العبد من سيده، ولكن أطلق هنا على يونس على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، أو على طريق المجاز المرسل، والعلاقة هي استعمال المقيد في المطلق، وفي «المصباح»: أبق العبد أبقا من بابي تعب وقتل في لغة، والأكثر من باب ضرب إذا هرب من سيده من غير خوف ولا كد. والإباق بالكسر اسم منه، فهو آبق، والجمع أباق، مثل:
﴿إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء بالأحمال، يقال: شحن السفينة ملأها كما في «القاموس». ﴿فَساهَمَ﴾؛ أي: فقارع من في الفلك؛ أي: عمل قرعة. والسهم: ما يرمى من القداح ونحوه. والمعنى: فقارع أهل الفلك عن الآبق، وألقوا السهام على وجه القرعة.
﴿فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾؛ أي: فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله: المزلق عن مقام الظفر والغلبة. قال في «القاموس»: دحضت رجله زلقت، والشمس زالت دحوضا بطلت، انتهى. ﴿فَالْتَقَمَهُ﴾ الالتقام: الابتلاع، يقال: لقمت اللقمة، والتقمتها إذا ابتلعتها؛ أي: فابتلعه الحوت العظيم. ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾؛ أي: داخل في الملامة، يقال: ألام فلان إذا فعل ما يلام عليه. وفي «المصباح»: لامه لومًا من باب قال عذله، فهو ملوم على النقص. والفاعل لائم، والجمع لوم مثل: راكع وركع، وألامه بالألف لغة، فهو ملام، والفاعل مليم، والاسم الملامة، والجمع ملاوم، واللائمة مثل الملامة، وألام الرجل إذا فعل ما يستحق عليه اللوم، وتلوّم تلوّمًا مكث.
﴿فَنَبَذْناهُ﴾ النبذ: إلقاء الشيء، وطرحه لقلة الاعتداد به. ﴿بِالْعَراءِ﴾؛ أي: بالمكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه، وهو مشتق من العري. وهو عدم السترة، شبهت الأرض الجرد بذلك لعدم استتارها بشيء. والعراء بالقصر: الناحية، ومنه: اعتراه؛ أي: قصد عراه. وعبارة «القاموس»: العراء: الفضاء لا يستتر فيه بشيء، وجمعه أعراء، وأعرى سار فيه وأقام.
﴿مِنْ يَقْطِينٍ﴾؛ أي: دباء القرع العسلي المعروف الآن. وقيل: الموز. وهو أظهر، لأن أوراقه أعرض. قال في القاموس: اليقطين: ما لا ساق له من النبات ونحوه، وبهاء القرعة الرطبة. وعبارة الزمخشري: واليقطين: كل ما ينبسط على وجه الأرض، ولا يقوم على ساق كشجرة البطيخ، والقثاء، والحنظل. وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به. وقيل: هو الدباء. وإنما خص القرع لأنه يجمع بين برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ حيث لم يقل: ما أمرت، للدلالة أن الأمر متعلق به، متوجه إليه، مستمر إلى حين الامتثال به.
ومنها: الطباق بين ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ﴾، وبين ﴿مُحْسِنٌ وَظالِمٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿بَعْلًا﴾؛ لأن البعل في الأصل: الذكر من الزوجين، شبه كل مستعل على غيره به، فسمي به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)﴾. شبه خروجه بغير إذن ربه بإباق العبد من سيده، ثم اشتق منه أبق بمعنى خرج بغير إذن ربه، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، أو على طريق المجاز المرسل، والعلاقة هي استعمال المقيد في المطلق.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَنادَيْناهُ﴾ لما فيه من إسناد الفعل إلى الآمر لكونه سببه؛ لأن المنادى جبرائيل.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)﴾ إشعارًا بفخامة الأمر. لأنه أكده بـ ﴿أن﴾، وبضمير الفصل، وباللام، وباسمية الجملة.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)﴾؛ لأنه كناية عن الثناء الحسن والذكر الجميل.
ومنها: الإسناد المجازي، في قوله: ﴿فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ﴾؛ لأنه من قبيل إسناد الفعل إلى السبب الحامل على الفعل.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ﴾؛ لأنه كناية عن رد العذاب
ومنها: استعمال العام بمعنى الخاص في قوله: ﴿يَقْطِينٍ﴾؛ لأن اليقطين في الأصل: كل ما لا ساق له، فأطلق هنا على القرع فقط استعمالًا للعام في بعض جزئياته.
ومنها: الاستعارة التصريحية التحقيقية في قوله: ﴿وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)﴾؛ لأنه استعير ﴿الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ من معناه الحقيقي، وهو الطريق المستوي للدين الحق، وهو ملة الإسلام. وهذا أمر تحقق عقلًا، فقد نقل اللفظ إلى أمر معلوم.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مُصْبِحِينَ﴾ ﴿وَبِاللَّيْلِ﴾.
ومنها: الزيادة، والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) أمر رسوله - ﷺ - في صدر هذه السورة بتبكيت قريش، وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة، وتظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين، وبيّن ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين، وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء، تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل.. أمره هنا أيضًا بالتشديد عليهم ثانيًا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها، وهي جعل البنات لله، وجعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات الله، ثم بالتقريع
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أثبت فساد آراء المشركين ومذهبهم.. أتبع ذلك بما نبه به، إلى أن هؤلاء المشركين، لا يقدرون على حمل أحد على الضلال، إلا إذا كان مستعدًا له، وقد سبق في حكم الله تعالى، أنه من أهل النار، وأنه لا محالة واقع فيها. ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيهًا إلى فساد قول من ادعى، أنهم أولاد الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما هدد (١) المشركين بقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾.. أردفه بما يقوي قلب رسوله - ﷺ - بوعده بالنصر، والتأييد، كما جاء في آية أخرى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخبره جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: أنزلت هذه الآية في ثلاثة أحياء من قريش: سليم وخزاعة وجهينة.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ...﴾ سبب نزوله: ما أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن. فأنزل الله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ..﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك، قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله:
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ سبب نزوله: ما أخرجه جويبر عن ابن عباس، قال: قالوا: يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجله لنا. فنزلت: ﴿أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)﴾ الآية، صحيح على شرط الشيخين.
التفسير وأوجه القراءة
١٤٩ - ولما كانت قريش، وقبائل من العرب، يزعمون أن الملائكة بنات الله، أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - باستفتائهم على طريقة التوبيخ والتقريع. فقال: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ يا محمد؛ أي: استخبر يا محمد هؤلاء المشركين، وسلهم. والفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الله سبحانه موصوفًا بنعوت الكمال، والعظمة والجلال متفردًا بالخلق والربوبية، وجميع الأنبياء مقرين بالعبودية، داعين للعبيد إلى حقيقة التنزيه والتوحيد، وأردت توبيخ هؤلاء المشركين وتقريعهم على زعمهم الفاسد، فأقول لك: استخبرهم على سبيل التوبيخ والتجهيل؛ أي: سل قريشًا وبعض طوائف العرب نحو: جهينة، وبني سلمة، وخزاعة، وبني مليح. فإنهم كانوا يقولون: إن الله تعالى تزوج من الجن، فخرجت منها الملائكة، فهم بنات الله. ولذا يسترهن عن العيون، فأثبتوا الأولاد لله تعالى، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور، وقسموا القسمة الباطلة، حيث جعلوا الإناث لله تعالى، وجعلوا الذكور لأنفسهم. فإنهم كانوا يفتخرون بذكور الأولاد، ويستنكفون من البنات، ولذا كانوا يقتلونهن، ويدفنونهن حياء، كما قال تعالى: ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)﴾ الآية. ومن (١) هنا أنه: من رأى في المنام أنه اسود وجهه، فإنه يولد له بنت.
وفي «الكشاف» قوله: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ معطوف (٢) على مثله في أول السورة؛ أي: على قوله: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا﴾ وإن تباعدت المسافة بينهما، أمر رسول الله - ﷺ - باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولًا، ثم ساق الكلام
(٢) الزمخشري.
أي: سلهم يا محمد ﴿أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ﴾ اللاتي هي أوضع الجنسين ﴿وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾ الذين هم أرفعهما. وفيه تفضيل لأنفسهم على ربهم، وذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل، وارتكبوا (١) في زعمهم ثلاثة أنواع من الكفر: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام، وتفضيل أنفسهم حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى، واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله تعالى، حيث أنثوهم، وهم الملائكة بدأ أولًا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله: ﴿أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ﴾، وعدل عن قوله: ألربكم إلى ما قاله، لما في ترك الإضافة إليهم من تخسيسهم وشرف نبيه بالإضافة إليه.
والمعنى (٢): أي سل يا محمد قريشًا مؤنبًا لها، ومقرعًا على ضعف أحلامها، وسفاهة عقولها: ألربي البنات، ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، وإلام تستندون؟. وإنكم لتكرهون البنات، وتبغضونها أشد البغض، كما جاء في قوله: ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ...﴾ الآية. وفيه إشارة إلى كمال جهالة الإنسان، وضلالته. إذا وكل إلى نفسه الخسيسة، وخلي إلى طبيعته الركيكة، أنه يظن بربه ورب العالمين نقائص لا يستحقها أدنى عاقل، بل غافل من أهل الدنيا.
١٥٠ - ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم، فقال: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا﴾ جمع أنثى ﴿وَهُمْ شاهِدُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم حاضرون، خلقنا إياهم إناثًا، فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت، والتهكم بهم، ويجوز أن تكون (٣) ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري، وأن تكون متصلة معادلة
(٢) المراغي.
(٣) زاده.
والمعنى على الأول: أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق، وأبعدهم من صفات الأجسام ورذائل الطبائع إناثًا، والأنوثة من أخس صفات الحيوان. ولو قيل لأدناهم: فيك أنوثة لتمزقت نفسه من الغيظ لقائله، ففي جعلهم الملائكة إناثًا استهانة شديدة بهم.
أي: كيف جعلوهم إناثًا وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم. وهذا كقوله: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾. فبيّن سبحانه، أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا، ولا دل دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل، حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم.
وهذا (١) ترق في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل حتى يقوم الدليل، والبرهان على صحته، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، وهذه لم تحصل.
١٥١ - ثم بيّن فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة، فقال: ﴿أَلا﴾ حرف تنبيه ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن هؤلاء المشركين ﴿مِنْ إِفْكِهِمْ﴾، أي: من أجل كذبهم الأسوأ. وهو متعلق بقوله: ﴿لَيَقُولُونَ﴾
١٥٢ - ﴿وَلَدَ اللَّهُ﴾: فعل، وفاعل. ﴿وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ﴾ فيما يتدينون به من قولهم: ذلك كذبًا بيّنًا لا ريب فيه. قرأ الجمهور: ﴿وَلَدَ اللَّهُ﴾ فعلًا ماضيًا، مسندًا إلى الله سبحانه. وقرىء (٢) بإضافة ﴿وَلَدَ﴾ إلى ﴿اللَّهُ﴾ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: يقولون الملائكة ولد الله. وولد فعل بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد، والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، والقليل والكثير. وفيه (٣) تجسيم له تعالى، وتجويز الفناء عليه؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام القابلة للكون
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
١٥٣ - ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم، ونقض الدعوى من أساسها مبينًا أن العقل لا يتقبلها. فقال: ﴿أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)﴾ قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري الاستبعادي، دخلت على ألف الافتعال، أصله: أاصطفى، فحذفت همزة الافتعال التي هي همزة الوصل استغناءً بهمزة الاستفهام، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء لنفسه؛ أي: أتقولون: إنه تعالى اختار البنات على البنين مع نقصانهن رضى بالأخس الأدنى؛ أي: أي شيء يحمله على أن يختار البنات، ويترك البنين. والعرف، والعادة، والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا. ونحو الآية قوله: ﴿أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (٤٠)﴾. وقرأ (١) نافع في رواية عنه، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش بهمزة وصل مكسورة تثبت ابتداء وتسقط درجًا، ويكون الاستفهام منويًا، قاله الفراء. وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن ﴿أَصْطَفَى﴾ وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول، وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل، فقد حكى جماعة من المحققين، منهم: الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام، كما في قوله: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا﴾. وقيل: هو على إضمار القول.
١٥٤ - ﴿مَا لَكُمْ﴾؛ أي: أي (٢) شيء ثبت لكم في هذه الدعوى ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ على الغني عن العالمين بهذا الحكم، تقضي ببطلانه بديهة العقول، ارتدعوا عنه، فإنه جور. قال ابن الشيخ: هاتان جملتان استفهاميتان، ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب. استفهم أولًا عما استقر لهم، وثبت استفهام إنكار، ثم استفهم استفهام تعجب من حكمهم هذا الحكم الفاسد، وهو أن يكون أحسن
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي شيء ثبت لكم، كيف تحكمون لله بالبنات، وهو القسم الذي تكرهون، ولكم بالبنين، وهو القسم الذي تحبونه.
١٥٥ - ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)﴾ بحذف إحدى التاءين من تتذكرون. والهمزة فيه للتوبيخ، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتلاحظون ذلك الحكم فلا تتذكرون بطلانه، فترجعوا عنه، فإنه مركوز في عقل ذكي وغبي. وقرأ طلحة بن مصرف (١): ﴿تذكرون﴾ بسكون الذال وضم الكاف.
١٥٦ - ثم انتقل إلى تبكيت آخر، فقال: ﴿أَمْ لَكُمْ﴾؛ أي: بل ألكم ﴿سُلْطانٌ مُبِينٌ﴾ وحجة واضحة ظاهرة، نزلت عليكم من السماء، بأن الملائكة بنات الله، ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي. وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي
١٥٧ - ﴿فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ﴾ الناطق بصحة دعواكم، فالباء: للتعدية، أو فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تقولونه. فإذا لم ينزل عليكم كتاب سماوي فيه ذكر ذلك الحكم، فلم تصرون على الكذب، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم مع الاستهزاء بهم والتعجيب من جهلهم.
١٥٨ - ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب، وسقوطهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي جناياتهم لآخرين، فقال ﴿وَجَعَلُوا﴾؛ أي: وجعل هؤلاء المشركون ﴿بَيْنَهُ﴾ تعالى ﴿وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾؛ أي: الملائكة. وسموا جنة لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار ﴿نَسَبًا﴾؛ أي: مشاكلة، ومناسبة. فقالوا: الملائكة بنات الله، والنسب، والنسبة اشتراك من جهة الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء، ونسب بالعرض كالنسبة بين الأخوة وبني العم، ويقال: فلان نسيب فلان؛ أي: قريبه.
ثم إن هذا أعني: قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ﴾ إلخ، عبارة عن قولهم: الملائكة بنات الله. وإنما أعيد ذكره تمهيدًا لما يعقبه من قوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد علمت الجنة؛ أي: الملائكة التي عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسبًا. ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن هؤلاء الكفرة ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ النار معذبون بها، لا يغيبون عنها لكذبهم وافترائهم في ذلك، والمراد به. المبالغة في التكذيب ببيان أن الذي يدعي هؤلاء المشركون لهم تلك النسبة، ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال، يكذبون في ذلك، ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكمًا مؤكدًا.
والمعنى: أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون، أن بينه تعالى، وبينهم نسبًا أن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار، ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم. وقيل: علمت الجنة أنهم أنفسهم يحضرون للحساب، والأول أولى؛ لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد به: العذاب كما مر.
١٦٠ - ﴿إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)﴾ استثناء منقطع (١) من الواو في ﴿يَصِفُونَ﴾؛ أي: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن المخلصين الذين أخلصهم الله بلطفه من ألواث الشكوك والشبهات، ووفقهم للجريان بموجب اللب برآء من أن يصفوه به. وجعل أبو السعود قوله: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ بتقدير قول معطوف على علمت الجنة تقديره ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك، وقالوا: سبحان الله عما يصفون به من الولد والنسب، لكن عباد الله المخلصين، الذين نحن من جملتهم، برآء من ذلك الوصف، بل نصفه بصفات العلى، فيكون المستثنى أيضًا من كلام الملائكة، وقد قرىء ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ بفتح اللام وكسرها، ومعناهما من بيناه قريبًا، وقيل: هو استثناء من المحضرين؛ أي: إنهم يحضرون النار إلا من أخلص. فيكون متصلًا لا منقطعًا. وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة.
١٦١ - ثم خاطب الكفار على العموم، أو كفار مكة على الخصوص، فقال: ﴿فَإِنَّكُمْ﴾ أيها المشركون. عود إلى خطابهم لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام ﴿وَما تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: ومعبوديكم. وهم الشياطين الذين أغووهم
١٦٢ - ﴿ما أَنْتُمْ﴾ ﴿ما﴾ نافية، و ﴿أَنْتُمْ﴾ خطاب لهم ولمعبوديهم تغليبًا للمخاطب على الغائب ﴿عَلَيْهِ﴾ الضمير عائد لله، و ﴿على﴾ متعلقة بقوله: ﴿بِفاتِنِينَ﴾ جمع فاتن. والفاتن هنا: بمعنى المضل والمفسد، يقال: فتن فلان على فلان امرأته؛ أي: أفسدها عليه وأضلها حاملًا إياها على عصيان زوجها، فعدّى الفاتن بعلى لتضمينه معنى الحمل والبعث. ومفعول ﴿بِفاتِنِينَ﴾ محذوف.
والمعنى (٢): ما أنتم بفاتنين أحدًا من عباده؛ أي: بمضلين ومفسدين بحمله
(٢) روح البيان.
١٦٣ - ﴿إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)﴾ منهم؛ أي: داخلها لعلمه تعالى بأنه يصر على الكفر بسوء اختياره، ويصير من أهل النار لا محالة، فيضلون بتقدير الله من قدّر الله أن يكون من أهل النار، وأما المخلصون منهم فإنهم بمعزل عن إفسادهم وإضلالهم، فهم لا جرم برآء من أن يفتنوا بكم، ويسلكوا مسلككم في وصفه تعالى بما وصفتموه به.
وقرأ الجمهور (١): ﴿صَالِ﴾ بكسر اللام، لأنه منقوص مضاف، حذفت الياء لالتقاء الساكين، وحمل على لفظ ﴿مَنْ﴾، وأفرد كما أفرد ﴿هُوَ﴾. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة ﴿صالوا الجحيم﴾ بضم اللام مع واو بعدها. وروي عنهما: أنهما قرأا بضم اللام بدون واو. فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو، حملا على معنى ﴿مَنْ﴾، وحذفت نون الجمع للإضافة. وأما بدون الواو، فيحتمل أن يكون جمعا وإنما حذفت الواو خطًا كما حذفت لفظًا، ويحتمل أن يكون مفردًا، وحقه على هذا كسر اللام.
والمعنى (٢): أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل النار، وهم المصرون على الكفر، وإنما يصر على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وأنه ممن يصلى النار؛ أي: يدخلها، فهو لا محالة يكبكب فيها. قال لبيد بن ربيعة:
أَحْمَدُ اللهَ فَلا نِدَّ لَهُ | بِيَدَيْه الْخَيرُ مَا شَاءَ فَعَلْ |
مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى | نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلْ |
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
١٦٤ - قوله: ﴿وَما مِنَّا﴾ حكاية اعتراف الملائكة للرد على عبدتهم، كأنه قيل: ويقول الملائكة الذين جعلتموهم بنات الله، وعبدتموهم بناءً على ما زعمتم، من أن بينهم وبينه تعالى مناسبة، وجنسية جامعة. وما منا أحد؛ أي: وما أحد كائن منا معشر الملائكة ﴿إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ في السموات، يعبد الله فيه، لا يتجاوزه. وفي «السمين»: في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن ﴿مِنَّا﴾ صفة لموصوف محذوف هو مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: ﴿إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ تقديره: ما أحد منا إلا له مقام معلوم. وحذف المبتدأ مع ﴿مَنْ﴾ جيد فصيح.
والثاني: أن المبتدأ محذوف أيضًا، و ﴿إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ صفة حذف موصوفها، والخبر على هذا هو الجار المتقدم، والتقدير: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، انتهى. وقيل: التقدير: وما منا إلا من له مقام معلوم. يعني (١): أن جبرائيل قال للنبي - ﷺ -: وما منا معشر الملائكة ملك إلا له مقام معلوم؛ أي: مرتبة، ومنزلة، ووظيفة لا يتعداها. فمنا الموكل بالأرزاق، ومنا الموكل بالآجال، ومنا الموكل بإنزال الوحي، ومنا راكع لا يقيم صلبه، ومنا ساجد لا يرفع رأسه خضوعًا لعظمته، وخضوعا لهيبته، وتواضعًا لجلاله، ولكل منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف.
ففي الآية تنبيه على فساد قول المشركين: إنهم أولاد الله؛ لأن مبالغتهم في إظهار العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، فكيف يكون بينه تعالى وبينهم جنسية؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح، بل والعالم مشحون بالأرواح، فليس فيه موضع بيت ولا
١٦٥ - ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)﴾ في مواقف الطاعة، ومواطن الخدمة، قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض، قيل (١): إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية، وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين،
١٦٦ - ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)﴾؛ أي: المنزهون لله تعالى، المقدسون له عما أضافه إليه المشركون. وقيل: المصلون. وقيل: المراد بقولهم: ﴿الْمُسَبِّحُونَ﴾ مجموع التسبيح باللسان، وبالصلاة. والمقصود أن هذه الصفات هي صفات الملائكة، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله سبحانه.
١٦٧ - ﴿وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧)﴾ هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين. و ﴿إِنْ﴾ هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وفي الإتيان بإن المخففة، واللام إشارة إلى أنهم كانوا يقولون ما قالوه مؤكدين جادين، فكم بين أول أمرهم وآخره.
والمعنى: وإن الشأن كانت قريش تقول قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل:
١٦٨ - ﴿لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)﴾؛ أي: كتابًا من كتب الأولين من التوراة والإنجيل
١٦٩ - ﴿لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩)﴾؛ أي: لأخلصنا العبادة لله، ولما خالفنا كما خالفوا.
١٧٠ - والفاء في قوله: ﴿فَكَفَرُوا بِهِ﴾ عاطفة على محذوف تقديره: فجاءهم ذكر؛ أي ذكر سيد الأذكار، وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأسفار. وهو القرآن الكريم فكفروا به، وأنكروه، وقالوا في حقه وفي حق من أنزل عليه ما قالوا. ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: عاقبة كفرهم، وغائلته من المغلوبية في الدنيا والعذاب الأليم في العقبى. وهو وعيد لهم وتهديد.
١٧١ - قوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا﴾ جملة مستأنفة مقررة للوعيد. قرأ الجمهور
١٧٢ - ثم فسر ذلك الوعد بطريق الاستئناف، فقال: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن عبادنا المذكورين ﴿لَهُمُ﴾ خاصة ﴿الْمَنْصُورُونَ﴾ فمن نصرناه فلا يغلب، كما أن من خذلناه لا ينصر.
١٧٣ - ثم عمم فقال: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنا﴾ وحزبنا من المرسلين، وأتباعهم المؤمنين ﴿لَهُمُ﴾؛ أي: لا غيرهم ﴿الْغالِبُونَ﴾ على أعدائهم في الدنيا والآخرة. قال الشيباني: جاء هنا بالجمع مع كون المسند إليه مفرد اللفظ، من أجل أنه رأس آية. ووصفهم (٢) بالغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن، وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبتهم لهم، فخرج الكلام الغالب، فالحكم للغالب، والنادر كالمعدوم، والمغلوبية قد تكون لعارض لمخالفة أمر القائد، والطمع في الدنيا، والعجب، والغرور بكثرة العدة والعدد، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن كما قال سبحانه: ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
١٧٤ - ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم، والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات والضلالات، فقال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ والفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنها
(٢) روح البيان.
١٧٥ - ﴿وَأَبْصِرْهُمْ﴾ يا محمد، وانظر إليهم على أسوأ حال وأفظع نكال، حل بهم من القتل والأسر، والمراد بالأمر بإبصارهم: الإيذان بغاية قربه، كأنه بين يديه يبصره في الوقت، وإلا فمتعلق الإبصار لم يكن حاضرا عند الأمر ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ ما يقع بهم. و ﴿سوف﴾ للوعيد، لا للتبعيد، أو فسوف يبصرون ما قضينا لك من التأييد، والنصرة، والثواب في الآخرة، أو انظر إليهم إذا عذبوا، فسوف يبصرون ما أنكروا، أو أعلمهم فسوف يعلمون.
والمعنى (١): أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال، بمخالفتك وتكذيبك، وسوف يبصرون انتشار دينك، وإقبال الناس عليه أفواجًا زرافات ووحدانًا، مصداقًا لوعده بقوله: ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا (٣)﴾. وفي «التأويلات النجمية»: فسوف يبصرون جزاء ما عملوا من الخير والشر، انتهى. و ﴿سوف﴾ للوعيد، ليتوبوا ويؤمنوا دون التبعيد؛ لأن تبعيد الشيء المحذر منه كالمنافي لإرادة التخويف به.
١٧٦ - ولما نزل قوله: ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ قالوا استعجالًا، واستهزاء لفرط جهلهم: متى هذا؟ فنزل قوله: ﴿أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦)﴾ والهمزة (٢): للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أي: أبعد هذا التكرير من الوعيد ينكرون
(٢) روح البيان.
١٧٧ - ﴿فَإِذا نَزَلَ﴾ العذاب الموعود ﴿بِساحَتِهِمْ﴾؛ أي: بفنائهم، وقربهم، وحضرتهم، كأنه جيش قد هزمهم، فأناخ بفنائهم بغتة. ﴿فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ﴾؛ أي: قبح وبئس صباح الكافرين، الذين أنذروا بعذابنا، وكذبوا به فلم يؤمنوا، والمخصوص بالذم: صباحهم، واللام فيه: للجنس. فإن أفعال المدح والذم تقتضي الشيوع، والإبهام، والتفصيل، فلا يجوز أن تكون للعهد، والصباح: مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثرت منهم الإغارة في الصباح سموها صباحًا وإن وقعت ليلًا.
وقرأ عبد الله: ﴿فبئس﴾. قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل. قيل: المراد به: نزول رسول الله - ﷺ - بساحتهم يوم فتح مكة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿نزل﴾ مبنيًا للفاعل.
وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل، وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - ﷺ - غزا خيبر، فلما دخل القرية قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاث مرات». متفق عليه.
١٧٨ - ثم كرر سبحانه ذكر ما تقدم، تأكيدًا لوعيد العذاب، فقال: ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: أعرض عنهم يا محمد ﴿حَتَّى حِينٍ﴾. وقيل: المراد من الآية الأولى: ذكر أحوالهم في الدنيا، وهذه ذكر أحوالهم في الآخرة. فعلى هذا القول يزول التكرار.
١٧٩ - ﴿وَأَبْصِرْ﴾ العذاب إذا نزل بهم ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ ما سيحل بهم من فنون العذاب.
وهذا (٢): تسلية لرسوله - ﷺ - إثر تسلية، وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول، من الإيذان بأن ما يبصره عليه السلام، من فنون المسار، وما يبصرون من أنواع المضار، لا يحيط به الوصف والبيان، وفي «البرهان»: حذف الضمير من الثاني اكتفاء بالأول.
(٢) روح البيان.
١٨٠ - ثم ختم سبحانه السورة، بخاتمة شريفة جامعة، لتنزيهه تعالى عما لا يليق به، مع وصف نفسه بصفات الكمال، ومدحه للرسل الكرام، فقال: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ﴾ يا محمد. خطاب للنبي - ﷺ -، والإضافة فيه للتشريف، وقوله: ﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ بدل من الأول ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾؛ أي: نزّه يا محمد (١) من هو مربيك، ومكملك، ومالك العزة والغلبة والقوة على الإطلاق، عما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه من الأولاد، والأزواج، والشركاء، وغير ذلك من الأشياء، التي من جملتها ترك نصرتك عليهم، كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب، قال في «بحر العلوم»: أضاف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذي العزة كقولك:
صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، فلا عزة إلا له سبحانه، على أن العزة ذاتية، أو لمن أعزه من الأنبياء وغيرهم، فالعزة حادثة كائنة بين خلقه، وهي وإن كانت صفة قائمة بغيره تعالى، إلا أنها مملوكة له مختصة به، يضعها حيث يشاء، كما قال تعالى: ﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ﴾. وفيه إشعار بالسلوب والإضافات، كما في قوله تعالى: ﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)﴾. وذلك أن قوله: ﴿سُبْحانَ﴾ إشارة إلى السلوب كالجلال، فإن كلا منهما يفيد ما أفاد الآخرة في قولنا: سبحان ربنا عن الشريك والشبيه، وجل ربنا عنهما، وقوله: ﴿رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ إشارة إلى الإضافات كالإكرام، وإنما قدم السلب على الإضافة، لأن السلوب كافية فيها ذاته، من حيث هو هو، بخلاف الإضافات، فإنه لا بد في تحققها من غيره؛ لأن الإضافة لا توجد إلا عند وجود المضافين.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ﴾ كلمة مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته، فما كان من أسمائه سلبًا فهو مندرج
١٨١ - ثم إن المرسلين لما كانوا وسائط بين الله، وبين عباده، نبه على علو شأنهم بقوله: ﴿وَسَلامٌ﴾؛ أي: وسلامة، ونجاة من كل المكاره، وفوز بجميع المآرب، كائن ﴿عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين يبلّغون رسالات الله إلى الأمم، ويبيّنون لهم ما يحتاجون إليه من الأمور الدينية والدنيوية، أولهم آدم، وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، فهو تعميم للرسل، بالتسليم بعد تخصيص بعضهم فيما سبق؛ لأن تخصيص كل واحد بالذكر يطول.
١٨٢ - ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾؛ أي: على هلاك الأعداء، ونصرة الأنبياء، وقيل: الغرض من ذلك: تعليم المؤمنين أن يقولوه، ولا يخلّوا به، ولا يغفلوا عنه، لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى، من الأجر يوم القيامة، فليكن أخر كلامه إذا قام من مجلسه ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)﴾. وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - ﷺ - غير مرة، ولا مرتين، يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)﴾.
والمعنى: أي تنزيهًا لربك أيها الرسول، رب القوة والغلبة، عما يصفه به هؤلاء المفترون، من مشركي قريش من نحو قولهم: ولد الله، وقولهم: الملائكة بنات الله، وأمنة من الله سبحانه للمرسلين، الذين أرسلهم إلى أممهم من العذاب الأكبر، ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى، والحمد لله رب الثقلين، الجن والإنس، خالصًا له دون من سواه؛ لأن كل نعمة لعباده، فهي منه.
الإعراب
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠)﴾.
﴿أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦)﴾.
﴿أَلا﴾ حرف تنبيه واستفتاح، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنْ إِفْكِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يقولون﴾ ﴿لَيَقُولُونَ﴾ اللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿يقولون﴾: خبر
﴿فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)﴾.
﴿فَأْتُوا﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت افتراءهم فيما يقولون، وأردت الزام الحجة لهم.. فأقول لك: قل لهم: ائتوا بكتابكم. ﴿ائتوا﴾: فعل أمر، وفاعل. ﴿بِكِتابِكُمْ﴾: متعلق به. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم
﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)﴾.
﴿سُبْحانَ اللَّهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سُبْحانَ﴾، وجملة ﴿يَصِفُونَ﴾: صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: عما يصفونه به، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿عِبادَ اللَّهِ﴾: استثناء منقطع من المحضرين، كأنهم ليسوا من جنسهم، ويحتمل أن يكون استثناء من فاعل ﴿جَعَلُوا﴾ أو من فاعل ﴿يَصِفُونَ﴾؛ أي: لكن عباد الله المخلصين ناجون. ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ صفة ﴿فَإِنَّكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إنكم﴾: ناصب واسمه، ﴿وَما تَعْبُدُونَ﴾: ﴿الواو﴾: واو المعية، ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب على أنه مفعول معه، وقد سدت مسد خبر ﴿إن﴾؛ أي: إنكم وآلهتكم قرناء، لا تزالون تعبدونها على حد قولهم: كل رجل وضيعته؛ أي: مقترنان. وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿ما﴾: نافية أو حجازية. ﴿أَنْتُمْ﴾: اسمها، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿فاتنين﴾، ﴿بِفاتِنِينَ﴾: خبر ﴿ما﴾، والباء: زائدة. والجملة مستأنفة. ويجوز أن تكون جملة ﴿ما﴾: الحجازية خبر ﴿إن﴾: على أن ﴿الواو﴾: عاطفة لا معية في قوله: {وَمَا
أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلّاعِ الثَّنَايَا | مَتَى أَضَعِ العِمَامَةَ تَعْرِفُونِي |
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)﴾.
﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿لَنَحْنُ﴾ اللام: حرف ابتداء. ﴿نحن﴾: مبتدأ أو ضمير فصل، و ﴿الصَّافُّونَ﴾: خبر ﴿نحن﴾، وجملة ﴿نحن﴾: خبر ﴿إِنَّا﴾: أو ﴿الصَّافُّونَ﴾: خبر ﴿إِنَّا﴾، وجملة ﴿إن﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)﴾. ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)﴾ معطوف أيضًا على الآية السابقة، ﴿وإن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة مهملة، أو اسمها ضمير الشأن، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَيَقُولُونَ﴾: اللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿يقولون﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿سَبَقَتْ كَلِمَتُنا﴾: فعل، وفاعل. ﴿لِعِبادِنَا﴾: متعلق بـ ﴿سَبَقَتْ﴾. ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ صفة لـ ﴿عبادنا﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَهُمُ﴾ اللام: حرف ابتداء. ﴿هم﴾: ضمير فصل، ﴿الْمَنْصُورُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ جملة مفسرة لـ ﴿كَلِمَتُنا﴾، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَإِنَّ جُنْدَنا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿جُنْدَنا﴾ اسمها، ﴿لَهُمُ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿هم﴾ ضمير فصل، ﴿الْغالِبُونَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ المذكورة قبلها.
﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)﴾.
﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)﴾.
﴿سُبْحانَ﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبح ربك سبحانًا، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّكَ﴾: مضاف إليه، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، ﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾: بدل من ربك، بدل كل من كل. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿سُبْحانَ﴾، وجملة ﴿يَصِفُونَ﴾: صفة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: يصفونه به. ﴿وَسَلامٌ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿سَلامٌ﴾: مبتدأ، سوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء به، ﴿عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾: خبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿سُبْحانَ﴾ عطف إخبار على إنشاء؛ لأنه في معنى الإنشاء. ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، معطوف على ما قبله، ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾: صفة للجلالة أو بدل منه، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ من الاستفتاء، وهو طلب الفتوى، والفتوى، وكذا الفتيا: الجواب عما أشكل من الأحكام، يقال: استفتيته فأفتاني بكذا، والمراد بالاستفتاء هنا: الاستخبار. ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا﴾ الإناث ككتاب، جمع الأنثى، من أنث أنوثة إذا ضعف، والألف في الأنثى، ألف التأنيث المقصورة، فلذلك لا يصرف. ﴿مِنْ إِفْكِهِمْ﴾ والإفك: أسوأ الكذب، وأقبحه، وأشده عقوبة. ﴿أَصْطَفَى الْبَناتِ﴾ بفتح الهمزة على أنها همزة الاستفهام الإنكاري، دخلت على ألف الافتعال، أصله أاصطفى، فحذفت همزة الافتعال التي هي همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام. وأصل ﴿أَصْطَفَى﴾: اصتفى من الصفوة، قلبت تاء الافتعال طاء، لوقوعها بعد حرف الإطباق. والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء لنفسه.
﴿وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾ الجنة بكسر الجيم: جماعة الجن، والملائكة أيضًا كما في «القاموس»، والمراد هنا: الملائكة، وسموا جنة لاجتنانهم، واستتارهم عن الأبصار، ومنه: سمي الجنين، وهو المستور في بطن الأم، والجنون، لأنه خفاء العقل، والجنة بالضم: الترس، لأنه يجن صاحبه، ويستره. والجنة بالفتح، لأنها كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. فمن له اجتنان عن الأعين.. فهو جنس يندرج تحته الملائكة، والجن المعروف. قالوا: الجن واحد، ولكن من خبث من الجن، ومرد، وكان شرًا فهو شيطان. ومن طهر منهم، ونسك، وكان خيرًا فهو ملك. قال الراغب: يقال الجن على وجهين:
أحدهما: للروحانيين المستترة عن الحواس كلها، بإزاء الإنس، فعلى هذا يدخل فيه الملائكة والشياطين، فكل ملائكة جن، وليس كل جن ملائكة.
وقيل الثاني: بل الجن بعض الروحانيين. وذلك أن الروحانيين ثلاثة أقسام: أخيار وهم الملائكة، وأشرار وهم الشياطين، وأوساط فهم أخيار وأشرار وهم الجن. ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ إلى قوله: ﴿وَمِنَّا الْقاسِطُونَ﴾.
﴿نَسَبًا﴾ النسب، والنسبة: اشتراك من جهة الأبوين، وذلك ضربان:
نسب بالطول: كالاشتراك بين الآباء والأبناء.
ونسب بالعرض: كالنسبة بين الإخوة وبني العم. وقيل: فلان نسيب فلان؛ أي: قريبه.
﴿بِفاتِنِينَ﴾ والفاتن هنا بمعنى: المضل والمفسد، يقال: فتن فلان على فلان امرأته؛ أي: أفسدها عليه، وأضلها حاملا لها على عصيان زوجها، فعدّي الفاتن بعلى لتضمينه معنى الحمل والبعث.
﴿إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)﴾ صال بالكسر أصله: صالي على وزن فاعل
﴿كَلِمَتُنا﴾؛ أي: وعدنا. ﴿لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾؛ أي: الغالبون في الحرب، وغيرها. ﴿وَإِنَّ جُنْدَنا﴾؛ أي: أتباع رسلنا. والجند: العسكر. وفي المصباح: الجند: الأنصار، والأعوان، والجمع أجناد، وجنود، والواحد جندي، فالياء للوحدة مثل: روم رومي، وجند بفتحتين: بلد باليمن، اهـ.
﴿بِساحَتِهِمْ﴾ قال الراغب: الساحة: المكان الواسع، ومنه: ساحة الدار، والسائح: الماء الجاري في الساحة، وساح فلان في الأرض مر مر السائح، ورجل سائح وسياح. وفي «حواشي ابن الشيخ»: الساحة: الفناء الخالي من الأبنية، وفناء الدار بالكسر ما امتد من جوانبها معدًا لمصالحها، وجمعها سوح، فألفها منقلبة عن واو، فتصغر على سويحة. وفي «المصباح»: الفناء بوزن كتاب: الوصيد، وهو سعة أمام الدار وقيل: ما امتد من جوانبه، اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿الْبَناتِ﴾ ﴿الْبَنِينَ﴾.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾. وكان مقتضى السياق أن يقال: وجعلتم للإيذان بانقطاعهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم، وتحكى جناياتهم لآخرين كما في «الكرخي».
ومنها: تتابع الاستفهامات، وتكراره في قوله: ﴿أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾، وقوله: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا﴾، وقوله: ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)﴾ وقوله: ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦)﴾ للتقريع والتوبيخ.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)﴾ فقد شبه العذاب النازل بهم، بعدما أنذروا به، فلم يبالوا الإنذار، وأصموا آذانهم عنه بجيش، أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم، فلم يكترثوا لإنذاره، ولم يتخذوا الأهبة والاحتياط حتى اجتاحهم جيش العدو، ففي الضمير المستتر في ﴿نَزَلَ﴾ استعارة بالكناية. والنزول: تخييل، كما في «البيضاوي».
ومنها: إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: ﴿فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ﴾ وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فساء صباحهم.
ومنها: حذف مفعول ﴿أبصر﴾ الثاني إما اختصارًا لدلالة الأول عليه، وإما اقتصارًا، اهـ «سمين».
ومنها: إضافة رب إلى العزة في قوله: ﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذي العزة كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه به.
ومنها: تعميم الرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم في قوله: ﴿وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١)﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - التوحيد، ودليله في الآفاق والأنفس.
٢ - خلق السموات والأرض، ووصفه سبحانه لذلك.
٣ - إنكار المشركين للبعث، وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار، وهم يطلعون عليهم.
٤ - وصف الجنة، ونعيمها.
٥ - قصص بعض الأنبياء: كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل.
٦ - دفع فرية قالها المشركون، وتوبيخهم عليها، إذ قالوا: الملائكة بنات الله.
٧ - تنزيه الله عن ذلك.
٨ - بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوي الأحكام الضعيفة، المستعدة للإضلال.
٩ - وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
١٠ - مدح المرسلين، وسلام الله عليهم.
١١ - حمد الله، وثناؤه على نفسه، بأنه رب العزة، ورب الخلق أجمعين.
والله أعلم
* * *
سورة ص مكية، قال القرطبي عند الجميع. ويقال لها: سورة داود عليه السلام. وآيها ست، وقيل: ثمان وثمانون آية. وكلماتها: سبع مئة واثنتان وثلاثون كلمة. وحروفها: ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفًا، وقيل: تسعة وتسعون.
التسمية: واسمها: سورة ص، ويقال لها: سورة داود لذكر قصة داود فيها، وسميت سورة ص، وهو حرف من حروف الهجاء، إشارة إلى فضل هذا الكتاب المعجز، الذي تحدى الله به الأولين والآخرين، وهو المنظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال محمد بن حزم - رحمه الله -: سورة ص كلها محكم إلا آيتين:
أولهما: قوله تعالى: ﴿إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)﴾ الآية (٧٠) نسخت بآية السيف.
الثانية: قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)﴾ الآية (٨٨)، نسخت أيضًا بآية السيف.
فضلها: ومن فضائلها: ما روي (١) عن النبي - ﷺ -: «من قرأ سورة ص.. كان له بوزن كل جبل سخّره الله لداود عشر حسنات، وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير». ولكن فيه مقال.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (٢): أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين:
(٢) المراغي.
٢ - أنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار، أنهم قالوا: لو أن عندنا ذكرًا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين، وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم.. بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم.
وقال أبو حيان (١): مناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها، أنه لما ذكر عن الكفار، أنهم كانوا يقولون: لو أن عندنا ذكرا من الأولين؛ لأخلصوا العبادة لله، وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به.. بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن؛ لأنه الذكر الذي جاءهم، وأخبر عنهم أنهم كافرون، وأنهم في تعزز مشاقة للرسول الذي جاء به، ثم ذكر من أهلك من القرون، التي شاقّت الرسل ليتعظوا.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)﴾.المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة، وآخر السابقة آنفًا.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ..﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما
قوله تعالى: ﴿وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما تقدم، أن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد، والنبوات، والمعاد.. فأشار إلى الأولى بقولهم: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا﴾، وإلى الثانية بقولهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا﴾. أشار هنا إلى الثالثة بقوله: ﴿وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)﴾ سخريةً وتهكمًا حين سمعوا بالمعاد، وأن هناك دارًا أخرى يحاسبون فيها، ويجازون على ما يعملون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين، وعلى ما يقولون في شأنه من أنه شاعر، وأنه مفتر كذاب.
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر رسوله، بالصبر على أذى المشركين.. أردف ذلك، ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاق والأذى، مثل ما حدث له، فصبروا حتى فرّج الله تعالى عنهم، وأحسن عاقبتهم، ترغيبًا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد، كما كان ذلك عاقبة من قبله.
قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه (١)، لما مدح داود، وأثنى عليه بما سلف.. أردف ذلك، ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوقًا إليه السامع، ومعجبًا له.
قوله تعالى: ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما قص علينا قصص داود عليه السلام، والخصمين.. أردف ذلك، ببيان أنه فوّض إلى داود خلافة الأرض، وأوصاه بالحكم بين الناس
سورة الصافات
سورةُ (الصَّافَّات) من السُّوَر المكِّية، افتُتِحت بإثبات وَحْدانية الله عزَّ وجلَّ، المتصفِ بكلِّ كمال، المُنزَّهِ عن كلِّ نقص، مُبدِعِ العوالِمِ السماوية، وقد تعرَّضتِ السورةُ لإثبات البعث والجزاء وقُدْرة الله تعالى من خلال ذِكْرِ قِصَص الكثير من الأنبياء، مختتمةً بنصرِ الله عزَّ وجلَّ لأوليائه بعد أن بيَّنتْ جزاءَ كلٍّ من الأبرار والكفار في الدَّارَينِ، و(الصَّافَّات) هم جموعُ الملائكة الذين يعبُدون اللهَ في صفوف.
ترتيبها المصحفي
37نوعها
مكيةألفاظها
865ترتيب نزولها
56العد المدني الأول
182العد المدني الأخير
182العد البصري
181العد الكوفي
182العد الشامي
182
* سورة (الصَّافَّات):
سُمِّيت سورةُ (الصَّافَّات) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بالقَسَمِ الإلهيِّ بهذا اللفظ، و(الصَّافَّات): هم جموعُ الملائكة الذين يعبُدون اللهَ في صفوف.
* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورةَ (الصَّافَّات) في صلاة الفجر:
عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «إن كان رسولُ اللهِ ﷺ لَيؤُمُّنا في الفجرِ بـ: {اْلصَّٰٓفَّٰتِ}». أخرجه ابن حبان (١٨١٧).
اشتمَلتْ سورة (الصَّافَّات) على الموضوعات الآتية:
1. إعلان وَحْدانية الله تعالى (١-١٠).
2. إثبات المَعاد (١١-٢١).
3. مسؤولية المشركين في الآخرة (٢٢-٣٧).
4. جزاء الكافرين والمؤمنين (٣٨-٦١).
5. جزاء الظالمين، وألوان العذاب (٦٢-٧٤).
6. عبادُ الله المُخلَصِينَ {إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي اْلْمُحْسِنِينَ} (٧٥-١٤٨).
7. قصة نُوحٍ ودعاؤه (٧٥-٨٢).
8. قصة إبراهيمَ والذَّبح (٨٣-١١٣).
9. قصة موسى وهارون (١١٤-١٢٢).
10. قصة إلياسَ (١٢٣-١٣٢).
11. قصة لُوطٍ (١٣٣-١٣٨).
12. قصة يونُسَ (١٣٩-١٤٨).
13. مناقشة عقائدِ المشركين (١٤٩-١٧٠).
14. نصرُ جندِ الله تعالى (١٧١- ١٨٢).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /347).
جاءت سورةُ (الصَّافَّات) بإثبات وَحْدانية الله عزَّ وجلَّ، المستحِقِّ للعبادة، المُنزَّه عن كلِّ نقص، المتصِفِ بكلِّ كمال مطلق، المتفرِّدِ بصُنْعِ العوالِمِ السماوية وإبداعها، ويَلزم من هذا الكمال ردُّ العباد ليوم الفصل، وحسابُهم بالعدل.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /409)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (23 /81).