تفسير سورة النّور

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة

تفسير سورة سورة النور من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة.
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ النُّورِ
قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا... (١)﴾
قال ابن عطية: سورة خبر مبتدأ، أي هذه سورة، أو هو مبتدأ و (أَنْزَلْنَاهَا) صفة، وخبره الجملة من (الزانِيَةُ وَالزانِي) ابن عرفة: وكان بعضهم يرجح كونه مبتدأ خبره أنزلنا؛ لأن سيبويه لم يشترط في الابتداء بالنكرة إلا [حصول*] الفائدة، ولا شك أن الفائدة أكثر من الفائدة في قولك: رجل من بني تميم قائم، وقرئ [بنصب (سُورَةً) فأعربه الفراء حالا*] من ضمير المفعول في (أنزلنا)، قيل لابن عرفة: وأين مفسر الضمير؟ فقال: لما أنزلنا الأحكام أو الشرائع حالة كونها سورة.
قال ابن عرفة: و (أَنْزَلْنَاهَا)، إن أريد إنزالها إلى سماء الدنيا، فيكون ماضيا حقيقة.
ابن عطية: فرضناها بتخفيف الراء ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وقوعه.
ابن عرفة: ولذلك جعل أبو زيد الدبوسي الفرض ما نشأ عن دليل قطعي، إذ هو مأخوذ من الفرض في الخشية، والوجوب ما نشأ عن دليل قلبي إذ هو بمعنى السقوط، قال تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، وقرئ بالتضعيف لتكرر الأحكام فيها ما لم تتكرر في غيرها.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أي يفصل لكم على شبيه بما تحصل لمن تذكر شيئا نسيه أو تذكرون ما علمتم يوم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ*]، والحكماء القائلون بأن العلوم كلها تذكيرية يحملونها على ظاهرها.
وفال الفخر: هذا إشارة إلى اشتمالها على الأحكام وعلى أدلتها، فقال ابن عرفة: ليس فيها أدلة، قال: فيها أدلة. قال: وفيها من علم البيان [... ]. السرقة من الرجل أكثر، [ووقوع*] الزنا من النساء أكثر، فإن قلت: هذا يتم في السرقة ولا يتم في الزنا، لأنها نسبة إضافية، فكذا المرأة يكثر منها الزنا مرات مع رجال كثيرين، والرجل في الأكثرين مرة واحدة، قلت: أو لكثرة النساء وقلة الرجال، قال ابن عطية: وهذه الآية عامة عند الجميع، وحكم المحصنين منسوخ، واختلفوا في النَّاسخ، فقالت فرقة: النَّاسخ: السنة المتواترة.
220
قال ابن عرفة: هذا عند الأصوليين تخصيص لَا ناسخ، لكن قالوا المخصص إذا ورد على العام بعد العمل به فهو ناسخ، وإن كان قبل العمل به فهو تخصيص، في قوله: السنة المتواترة.
قال ابن عرفة: هذا عند الأصوليين مخالفا لما قال ابن الصلاح: لم يتواتر من الأحاديث غير حديثين:
حديث "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
وحديث "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
والباقي أخبار آحاد.
221
ابن عطية: وقالت فرقة: بل النَّاسخ القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه.
ابن عرفة: وهو الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما ألبتَّة.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ... (٢)﴾
ابن عرفة: هل هذا من باب وروده على النفي [عن*] غير المخاطب، مثل [لا أرينك هاهنا*] للرأفة، فالأصل أن يقال: [لَا ترأفوا بههما*]، أو يكون من باب النهي عما هو أمر جلي، فيرجع إلى ترك أسبابه.
قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
[جمعت الآية العذاب الحسي، والعذاب المعنوي*]، والطائفة اختلفوا في أقل ما يجزئ منها.
ابن عطية: عن الحسن البصري عشرة، وعن ابن زيد أربعة، وعن الزهري ثلاثة، وعن عطاء، وعكرمة اثنان، وهو مشهور قول [مالك.*]؛ وعن مجاهد رجل واحد.
ابن عرفة: وقيل: ستة لأنها أول العدد التام الأجزاء.
قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً... (٣)﴾
فسره ابن عطية بأربعة أوجه: إما أن النكاح الوطء، فالزاني لَا يطأ إلا زانية، قال: ورده الزجاج بأن النكاح بمعنى الوطء، لم يرد في القرآن، وأجاب ابن عطية بوروده (حَتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، ورده ابن عرفة بأن الصحابة إنما فهموه على العقد، ولذلك لما أرادت المرأة غير المدخول بها الرجوع لزوجها الأول منعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بقوله: "حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، فلو كان قضى في الوطء لما احتاجت إلى تفسير الآية، فإن قلت:
222
معلوم أن الزنا لَا يكون إلا بزانية، وأن الزانية لَا يطأها إلا زان، قلنا: قد يزني الزاني بامرأة مكرهة على الزنا، فهو عام مخصوص ولا يلزم من عطف الزانية عليه تخصيصها؛ لأن الإكراه في الرجل غير مفهوم، لكن يقال: قد تكون المرأة عالمة بالزنا ويزني بها الرجل غالطا ظانا أنها زوجة، فإن قلت: لم بدأ أولا بالزانية في الجلد وبالزاني بالنكاح؟ قلنا: بدأ هنالك بالزانية لأنها هي المادة التي جاءت منها الجناية، لأنها لو لم تطع الرجل لم يطمع، والآية سيقت لعقوبة الجاني، والثانية سيقت لهذا النكاح، والرجل أصل فيه؛ لأنه هو الخاطب، وأيضا فلأن الرجل في الوطء فاعل، والمرأة منفعلة، فلذلك بدأ به.
قوله تعالى: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
وكان بعضهم يفسره بأمرين: إما أنه [حكم بالتحريم*]، وإمَّا إخبار عن الواقع، أي المؤمنون الكاملون الذين منعوا أنفسهم منه فلا يقعون فيه، ولا يفعله إلا مشرك أو ضعيف الإيمان، كما قاله: "لَا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
223
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ... (٤)﴾
قال ابن عرفة: إنما ذكر قذف المحصنات دون قذف المحصنين؛ لأن لحوق المعرة للنساء أشد، بدليل قول الإمام مالك رحمه الله: قاذف الصبي الذي يطيق الوطء [إنه لَا يحد*]، بخلاف قاذف الصبية المطيقة للوطء، وما ذلك إلا للحوق المعرة لها.
قوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
مع أن مالكا رحمه الله، قال في الضد: إذا قذف إنه يجلد نصف الثمانين [وعقاب القاذف*] بثلاثة أمور: حسي: وهو الجلد وعدم قبول الشهادة، ومعنوي: وهو الحكم عليه بالفسق.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ... (٦)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ منها أنه إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم الزوج أن الثلاثة يحدون؛ لأنه ألغى شهادة الزوج، بقوله تعالى: (وَلَم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أنْفُسُهُمْ)، فإذا ثبت إلغاؤها مع انفرادها ثبت مطلقا، وهي مسألة المدونة في [أجزاء اللعان*].
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ... (١٠)﴾
يؤخذ منه في مسألة الغيبة فيمن حلف على طائر أنه غراب، وحلف الآخر أنها حدأة، فغاب عنهما أنهما يَدِينَانِ ولا يحنث واحد منهما، وكذلك هذان المتلاعنان؛ لأن أحدهما على الباطل مع أن الله تفضل بأن يستر عليهما، وقد جاء في حديث ماعز بن مالك والغامدية، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لهما بعد تمام اللعان: "أحدكما كاذب"، وتركهما ولم يتعرض لهما، ولم يقل لهما ذلك قبل اللعان؛ لأن لعانهما أوجب لهما [حرمة*] يبقيا مهملين من العقوبة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ... (١١)﴾
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن دل الدليل على الاعتناء بالمخاطب، فإنه يقال: لا تحسب زيدا قائما، وإن لم يقصد الاعتناء به، فيقال: ليس زيد قائما.
قوله تعالى: ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)﴾
وكان بعضهم يقول: إطلاق الألفاظ على مسمياتها تابع للتركيب الوجودي، ولا شك أن ظن الخير سبب في قوله: والسبب سابق على المسبب، هلا عطف بالفاء، فكان يقال: فقالوا هذا إفك، قال: لكن يجاب بأنه إذا كانت السببية ظاهرة جلية، لم يحتج إلى عطفها بالفاء، وإنما يحتاج ذلك في السببية الحقيقية.
قوله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه أن من قذفه رجل بالزنا، وعلم من نفسه صدق قاذفه، وأنه زان فلا ينبغي له السكوت عنه، بل يرفع أمره إلى الحاكم، ويقوم بحقه في ذلك حتى يجد قاذفه حد القذف بدليل قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، فكل من لم يأت بالشهادة على صحة قوله فهو عند الله كاذب، وإن كان في نفس الأمر صادقا، يؤخذ من الآية أن من رمى عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها بذلك، فهو كافر؛ لأنه كذب بالقرآن، ومن رمى غيرها من نسائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنهن فهو فاسق؛ لأن الكل مبرءات [طاهرات*] غير أن تبرئة عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها، وردت في القرآن بخلاف غيرها، ولم يكن هذا في زوجة نبي قط؛ لأنه مما يعيب الرجل أن تكون زوجته زانية.
قوله تعالى: في امرأة نوح وامرأة لوط: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)، بأن كفرتا فقط لولا ذلك ما احتيج إلى قوله تعالى: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا).
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ... (١٤)﴾
قال ابن عرفة: إنعام الله تعالى على العبد له اعتباران: تارة يعتبر من حيث كونه واقعا فهذا يسمى تفضلا، وتارة يعتبر من حيث كونه مراداً فهذا يسمى رحمة، كذا كان بعضهم يقول: قال ابن الخطيب: الفضل باعتبار الإمهال في الدنيا، والرحمة باعتبار تخفيف العذاب في الآخرة.
قوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ).
قال ابن عرفة: هذا أبلغ من أن يقول: لأصابكم، أو لأنالكم، أو لوقع بكم، لأن المس يقتضي تحقيق الإصابة.
قوله تعالى: (فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ)، الإفاضة: هي استماع الحديث لإسماعه مع الإجابة ومنه المفاوضة.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ... (١٥)﴾
قال ابن عرفة: الباء للسبب، ومعناه قلتموه، والسبب مجرد سماعه من ألسنة بعضكم من غير طلب دليل على صحته والإسناد [... ].
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا... (١٦)﴾
فعبر بالكلام والقول أعم من الكلام، والقاعدة استعمال الأعم في النفي والأخص في الثبوت، قال: فالجواب: أن الأول في معرض الذم لهم، فذموا على إشاعة مطلق القول الذي يتناول القيد الخاص، وما دونه فأحرى أن يذموا على إشاعة القول المتناول للغيب الأخص، ثم قال تعالى (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ)، فنفى، ولولا إذ سمعتم هذا القول الخاص سماعا مستكملا لشرائط السماع، قلتم: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا فأحرى إذ سمعتموه مطلق سماع، وإن لم يستكمل بعضه أن ترجعوا وتقولوا: لا نتكلم به، قيل له: إنما هذا لو قيل: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) كلاما فيكون في موضع الثبوت، وإنما أتى هنا بالكلام في سياق النفي، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم،
فأجاب باسم الإشارة في قوله، بهذا يفيد مع قوله: تكلم أنه سماع كلام لَا سماع قول، فلما أثبت الأخص نفاه بقوله: ما (نَتَكَلمَ بِهَذَا).
قوله تعالى: (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
قال ابن عرفة: البهتان أن تقول في الشخص ما ليس فيه، وهو هاهنا كذلك بزيادة مخالفته للضرورة، كقولك: الواحد نصف الاثنين لوصف البهتان بالعظم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... (١٩)﴾
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون قوله تعالى: (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) كل أركانه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠)﴾
الرحمة أخص من الرأفة، فإذا أطعمت فقيرين أحدهما مشرف للهلاك، والآخر معه بعض زمن يصدق عليك، أنك رحمت الأول ورأفت على الثاني.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ... (٢١)﴾
قال ابن عرفة: المنكر كل ما قبحه الشرع مما اشتَّد قبحه كالزنا، وشرب الخمر فهو منكر، وما كان دون ذلك، كالغيبة ونحوها فهو فحشاء.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ... (٢٢)﴾
قالوا: يأتل إما من الإيلاء، أو بمعنى التقصير.
ابن عرفة: وهو الصواب؛ لأنه إذا كان من الإيلاء لزم عليه تكليف ما لَا يطاق، ولأن إيلاء أبي بكر كرم الله وجهه وقد وقع وما وقع لَا يرتفع، ولا بد أن يرجح النهي لدوام الإيلاء وتقريره؛ لأنه إن قاله في قسمته، فكأنه حدده وهو مجاز وإلا فسد.
قوله تعالى: (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ).
والسعة من عطف الخاص على العام؛ لأن الفضل هو الزيادة في المال أعم من أن يكون فيه اتساع أم لا.
قوله تعالى: (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
قيل لابن عرفة: هذا دليل على إبطال القول بالإحباط؛ لأن مِسْطَحًا كان ممن خاض في حديث الإفك، وتولى كبره فلو كان إثمه يحبط لحصل له من ثواب الهجرة لها (والمهاجرين في سبيل الله)؛ لأنه من عطف الصفات.
قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا).
قال ابن عرفة: العفو عمن قصد الجناية عمدا كان أو خطأ، والصفح بالمتعمد، بدليل قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، فإذا شككت في تعدي رجل عليك ثم تركته فهذا عفو، وإذا تحققت ذلك ثم تركته فهذا صفح.
قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ... (٢٦)﴾
والمراد الكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين، والفعلات الخبيثات للرجال الخبيثين.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ).
قال: عادتهم يوردون: سؤالا، وهو أن تبرئتهم من هذا يقتضي عدم [احتياجهم للمغفرة*]، فيناقض قوله تعالى: (لَهُم مَغفِرَةٌ)، فأجيب بأنه يغفر لهم لثبوت ما يثبت بسبب رميهم مما هم برآء منه، وإما بأن قوله لهم يقتضي الحصر وخصوص هذه المغفرة الخاصة المعنى لهم بها وحدها، ولذلك قدم المجرور.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... (٣٥)﴾
قال ابن عرفة: ذكر القاضي ابن عبد السلام أنهم اجتمعوا للشهادة في ميدان في حقيقة هذه الآية، فامتنع الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع من الشهادة عنه حتى يذكر الآية كلها قال [باقي الآيةِ صفةٌ لـ (مصباح) *].
قال ابن عرفة: وهذا عندي مستحسن لَا واجب.
قوله تعالى: ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ... (٣٦)﴾
ولم يقل: أمر الله أن ترفع، فالجواب: إن كان المطلق محبوبا للنفس، فيقال فيه: (أَذِنَ) لأنها بنعتها تطلبه وتفعله، والإذن خاص مما ترغب النفس في فعله، والأمر عام فيه وفيما تكرهه النفس وتعظيم هذه البيوت مما تفعله النفوس وتحرص عليه.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا... (٣٨)﴾
إن قيل: ظاهره أنهم يثابون على الأحسن لَا على الحسن، فالجواب هنا: إن قلنا: إن المباح حسن فظاهر؛ لأن ما فوقه مندوب، وإن قلنا: إنه ليس بحسن، فيكون تهييجا على الاتصاف بأعلى الطاعة، فوعدهم بالثواب على أعلاها دون أدناها.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ... (٣٩)﴾
هذه اتباعهم المقلدين، لأنهم يظنون أن كبارهم على شيء كما يظن الناظر إلى السراب أنه ماء فلا يجده شيئا.
قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ... (٤٠)﴾
هذه في آلهتهم ورؤسائهم المتنوعين، لأنهم في الظلمات لأنهم يعتقدون أن ما هم عليه حق، فإذا هم يمشون في الظلمات لَا دليل لهم بوجه.
قوله تعالى: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... (٥٠)﴾
نقل ابن عرفة هنا كلام المفسرين، ثم قال: والظلم من معنى الآية أن الشيء بما يثبت بعد نفي الجرم بثبوت نقيضه، أو نفي الشك في ثبوت نقيضه، أو نفي لازم نقيضه، فقوله تعالى: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، راجع لنفي ثبوت الإيمان، وقوله تعالى: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، هذا ظلم الكفر لَا ظلم المعصية المذكور، في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ... (٥٩)﴾
يحتمل أن يكون [نفس الْحُلُم*]، أو بلغوا أن يحتلموا في النوم، والظاهر الأول، لأن البلوغ [يقتضي*] قطع المسافة، وهذا يستدعى الزمان، فإِن قلت: لمَ لم يقيد استئذان المماليك بالعتق، كما قيد استئذان الأطفال بالبلوغ؟ فالجواب: أن الأطفال إن بلغوا فلا يزالون أولادا وقرابة، والمماليك إذا أعتقوا صاروا أجانب.
قوله تعالى: (كَمَا اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم)، المراد من قبلهم في الزمان؛ لأن الذين قبلهم في الزمان الأطفال، ولم يكونوا يستأذنون، وإنما المراد [القبلية*] في ذكر بيان الحكم، أي استأذن الذين تقدم بيان حكمهم قبل هؤلاء، والكاف للسبب أو للتعليل، مثل: وأحسن كما أحسن الله إليك.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ).
وقال: بعدها وقبلها (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ)، وأجيب بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: هذه خاصة بالأطفال، والتي قبلها عامة في العبيد والأطفال، فأتى منها بالآيات مطلقا غير مقيد بالإضافة وهذه خاصة، فعبر فيها بلفظ خاص، ومنهم من أجاب بأن الخطاب للبالغين فأسند الحكم فيه لله تعالى تخويفا لهم وتشديدا عليهم.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ... (٦١)﴾
يحتمل أن يراد في التخلف عن الجهاد، ويحتمل أن يراد في الأكل من كل جهة، ويحتمل أن يراد نفي الحرج عمن يأكل مع الأعمى، وله أن يجعل يده في الإناء، فيكون إما على حذف مضاف، أي ليس على مُجالس الأعمى حرج، أو تكون على التعليل كما قال ابن مالك، أي ليس لأجله حرج.
قوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ).
نفي الحرج عن الإنسان في الأكل من البيوت معلوم، فما فائدته إلا التساوي بينه وبين نفي الحرج عن الأكل من بيت الآباء مع أن طاعة الأم آكد لتكرار [دخولَ الأبناءِ إياها*]؛ لأن النفقة واجبة على الآباء، وقدم العمة؛ لأن الحضانة لها عند الإمام مالك رحمه الله دون الخالة، فإن قلت: أفرد الصديق وجمع غيره، قلت: إنما أفرده لقلته أو أراد به الجنس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... (٦٢)﴾
يحتمل أن يراد مطلق الإيمان، والكاملون الإيمان، وهو [الأعم*]؛ لأن الخبر عندهم أعم من المبتدأ؛ لأن في المحصور؛ لأنه أخص بقول: إنما العالم زيد، والخبر هنا مقيد بتوقيفهم على استئذانه، إذا كانوا معه على أمر جامع، فدل على أن المراد الكاملون في الإيمان، ولا يلزم منه أن يكون أويس القرني منهم، لأنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يكن معه حتى يستأذنه.
قوله تعالى: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).
لا يؤخذ منه أنه مجتهد؛ لأن هذا اجتهاد في محل الحكم لَا اجتهاد في إثبات حكم شرعي، كما استأذنه بعضهم في التخلف عن الجهاد، [فإن بدا له عذر يمنعه ويبيح له التخلف فيأذن له*].
قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ... (٦٣)﴾
والنهي للتحريم والمصدر مضاف إما للمفعول، أي دعاؤكم للرسول، وهو أن الداعي إذا دعا يقول: السلام عليك يا رسول الله، ولا يقول: السلام عليك يا محمد، فأمروا بالتأدب معه أو مضاف للفاعل، أي لَا تجعلوا دعاء الرسول لكم إلى أمر من الأمور كدعاء بعضكم لبعض بحيث تمتثلوا أمره تارة، وتخالفوه أخرى، فإن قلت: ما فائدة قوله (بَينَكُم)، [والأصل عدمه*]؛ لأن النهي على المطلق [أولى*] من النهي المقيد؟ فالجواب: أنهم إذا نهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم، أي في حال غيبته عنهم، فأحرى أن ينهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم وبينه، أي بحضرته معهم، فيعلق النهي بالأخص؛ ليدل على ما عداه من باب أحرى.
* * *
سورة النور
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النُّور) مِن السُّوَر المدنيَّة، فرَضها الله عز وجل لِما تضمَّنته من أحكامٍ شرعية بالغة الأهمية؛ ففيها حدُّ الزِّنا، والأحكامُ المتعلقة به، وفيها ذِكْرُ حادثةِ (الإفك)، وتبرئةِ السيدة عائشة رضي الله عنها من هذه الكبيرةِ، ومِن عقوبتها، وقد نزَلتْ تبرئتُها من عندِ الله عز وجل من السماء، مبيِّنةً أن شَرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله له، وقد تَبِعَ ذِكْرَ هذه القصة مقاصدُ وأحكامٌ كثيرة؛ من فرضِ الحجاب، وغيرِ ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء؛ لذا كان السلفُ يحرصون على أن تتعلم نساؤُهم سورةَ (النُّور).

ترتيبها المصحفي
24
نوعها
مدنية
ألفاظها
1319
ترتيب نزولها
102
العد المدني الأول
62
العد المدني الأخير
62
العد البصري
64
العد الكوفي
64
العد الشامي
64

* قوله تعالى: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى اْلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ، وكان رجُلًا يَحمِلُ الأَسْرى مِن مكَّةَ حتى يأتيَ بهم المدينةَ، قال: وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ بمكَّةَ يقالُ لها : عَنَاقٌ، وكانت صديقةً له، وإنَّه كان وعَدَ رجُلًا مِن أُسارى مكَّةَ يَحمِلُه، قال: فجِئْتُ حتى انتهَيْتُ إلى ظِلِّ حائطٍ مِن حوائطِ مكَّةَ في ليلةٍ مُقمِرةٍ، قال: فجاءت عَنَاقٌ، فأبصَرتْ سوادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحائطِ، فلمَّا انتهَتْ إليَّ عرَفتْ، فقالت: مَرْثَدٌ؟ فقلتُ: مَرْثَدٌ، قالت: مرحبًا وأهلًا، هلُمَّ فَبِتْ عندنا الليلةَ، قلتُ: يا عَنَاقُ، حرَّمَ اللهُ الزِّنا! قالت: يا أهلَ الخِيامِ، هذا الرَّجُلُ يَحمِلُ أَسْراكم، قال: فتَبِعَني ثمانيةٌ، وسلَكْتُ الخَنْدَمةَ، فانتهَيْتُ إلى كهفٍ أو غارٍ، فدخَلْتُ، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، فبالُوا، فظَلَّ بَوْلُهم على رأسي، وأعماهم اللهُ عنِّي، قال: ثم رجَعوا، ورجَعْتُ إلى صاحبي، فحمَلْتُه، وكان رجُلًا ثقيلًا، حتى انتهَيْتُ إلى الإذخِرِ، ففكَكْتُ عنه كَبْلَه، فجعَلْتُ أحمِلُه ويُعْيِيني، حتى قَدِمْتُ المدينةَ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنكِحُ عَنَاقًا؟ مرَّتَينِ، فأمسَكَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلَمْ يرُدَّ عليَّ شيئًا، حتى نزَلتِ: {اْلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةٗ وَاْلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٞۚ} [النور: 3]، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا مَرْثَدُ، الزَّاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مشركةً، والزَّانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ؛ فلا تَنكِحْها»». سنن الترمذي (٣١٧٧).

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمْ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِاْللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ اْلصَّٰدِقِينَ} [النور: 6]:

عن سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه: «أنَّ عُوَيمِرًا أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سيِّدَ بني عَجْلانَ، فقال: كيف تقولون في رجُلٍ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، فكَرِهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسائلَ، فسأله عُوَيمِرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ المسائلَ وعابَها، قال عُوَيمِرٌ: واللهِ، لا أنتهي حتى أسألَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عُوَيمِرٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رجُلٌ وجَدَ مع امرأتِه رجُلًا؛ أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يَصنَعُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد أنزَلَ اللهُ القرآنَ فيك وفي صاحبتِك»، فأمَرَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالمُلاعَنةِ بما سمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ، إن حبَسْتُها فقد ظلَمْتُها، فطلَّقَها، فكانت سُنَّةً لِمَن كان بعدهما في المُتلاعِنَينِ، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انظُروا فإن جاءت به أسحَمَ، أدعَجَ العينَينِ، عظيمَ الأَلْيَتَينِ، خَدَلَّجَ الساقَينِ؛ فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد صدَقَ عليها، وإن جاءت به أُحَيمِرَ كأنَّه وَحَرَةٌ، فلا أحسَبُ عُوَيمِرًا إلا قد كذَبَ عليها»، فجاءت به على النَّعْتِ الذي نعَتَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن تصديقِ عُوَيمِرٍ، فكان بعدُ يُنسَبُ إلى أُمِّهِ». أخرجه البخاري (٤٧٤٥).

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «سُئِلتُ عن المُتلاعِنَينِ في إمرةِ مُصعَبٍ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: فما درَيْتُ ما أقولُ، فمضَيْتُ إلى منزلِ ابنِ عُمَرَ بمكَّةَ، فقلتُ للغلامِ: استأذِنْ لي، قال: إنَّه قائلٌ، فسَمِعَ صوتي، قال: ابنُ جُبَيرٍ؟ قلتُ: نَعم، قال: ادخُلْ؛ فواللهِ، ما جاء بك هذه الساعةَ إلا حاجةٌ، فدخَلْتُ، فإذا هو مُفترِشٌ بَرْذَعةً، مُتوسِّدٌ وِسادةً حَشْوُها لِيفٌ، قلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، المُتلاعِنانِ: أيُفرَّقُ بينهما؟ قال: سُبْحانَ اللهِ! نَعم، إنَّ أوَّلَ مَن سألَ عن ذلك فلانُ بنُ فلانٍ، قال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ أنْ لو وجَدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ، كيف يَصنَعُ: إن تكلَّمَ تكلَّمَ بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكَتَ سكَتَ على مثلِ ذلك؟! قال: فسكَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجِبْهُ، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هؤلاء الآياتِ في سورةِ النُّورِ: {وَاْلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ عليه، ووعَظَه، وذكَّرَه، وأخبَرَه أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قال : لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما كذَبْتُ عليها، ثم دعاها فوعَظَها وذكَّرَها، وأخبَرَها أنَّ عذابَ الدُّنيا أهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، قالت: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدَأَ بالرَّجُلِ، فشَهِدَ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الصادقين، والخامسةُ أنَّ لعنةَ اللهِ عليه إن كان مِن الكاذبِينَ، ثم ثنَّى بالمرأةِ، فشَهِدتْ أربَعَ شَهاداتٍ باللهِ إنَّه لَمِن الكاذبينَ، والخامسةُ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إن كان مِن الصادقينَ، ثم فرَّقَ بينهما». أخرجه مسلم (١٤٩٣).

- وفي هذه الآيةِ كلامٌ كثير فيما يتعلقُ بأسبابِ النزول، والاختلافِ فيها، والترجيحِ بينها، ويراجع للفائدة: "المحرر في أسباب النزول" (719)؛ فقد بحث المسألة بحثًا وافيًا، والله الموفِّق.

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلْ هُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۚ لِكُلِّ اْمْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اْكْتَسَبَ مِنَ اْلْإِثْمِۚ وَاْلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} [النور: 11]:

عن ابنِ شِهابٍ، قال: حدَّثَني عُرْوةُ بن الزُّبَيرِ، وسعيدُ بن المسيَّبِ، وعَلْقمةُ بن وقَّاصٍ، وعُبَيدُ اللهِ بن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ؛ عن عائشةَ رضي الله عنها زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا، وكلُّهم حدَّثَني طائفةً مِن حديثِها، وبعضُهم كان أوعى لحديثِها مِن بعضٍ، وأثبَتَ له اقتصاصًا، وقد وعَيْتُ عن كلِّ رجُلٍ منهم الحديثَ الذي حدَّثَني عن عائشةَ، وبعضُ حديثِهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له مِن بعضٍ؛ قالوا:

قالت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرَعَ بين أزواجِه، فأيُّهنَّ خرَجَ سَهْمُها خرَجَ بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم معه.

قالت عائشةُ: فأقرَعَ بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرَجَ فيها سَهْمي، فخرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الحجابُ، فكنتُ أُحمَلُ في هَوْدجي وأَنزِلُ فيه، فسِرْنا، حتى إذا فرَغَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن غزوتِه تلك وقفَلَ، دنَوْنا مِن المدينةِ قافِلينَ، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمْتُ حين آذَنوا بالرَّحيلِ، فمشَيْتُ حتى جاوَزْتُ الجيشَ، فلمَّا قضَيْتُ شأني أقبَلْتُ إلى رَحْلي، فلمَسْتُ صدري، فإذا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطَعَ، فرجَعْتُ، فالتمَسْتُ عِقْدي، فحبَسَني ابتغاؤُه، قالت: وأقبَلَ الرَّهْطُ الذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتمَلوا هَوْدجي، فرحَلوه على بَعيري الذي كنتُ أركَبُ عليه، وهم يَحسَبون أنِّي فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يَهبُلْنَ، ولم يَغشَهنَّ اللَّحْمُ، إنَّما يأكُلْنَ العُلْقةَ مِن الطعامِ، فلَمْ يستنكِرِ القومُ خِفَّةَ الهَوْدجِ حينَ رفَعوه وحمَلوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعَثوا الجمَلَ، فسارُوا، ووجَدتُّ عِقْدي بعدما استمَرَّ الجيشُ، فجِئْتُ مَنازِلَهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنتُ به، وظنَنْتُ أنَّهم سيَفقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبَيْنا أنا جالسةٌ في منزلي، غلَبتْني عَيْني فنِمْتُ، وكان صَفْوانُ بنُ المُعطَّلِ السُّلَميُّ ثم الذَّكْوانيُّ مِن وراءِ الجيشِ، فأصبَحَ عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فعرَفَني حين رآني، وكان رآني قبل الحجابِ، فاستيقَظْتُ باسترجاعِه حين عرَفَني، فخمَّرْتُ وجهي بجِلْبابي، وواللهِ، ما تكلَّمْنا بكلمةٍ، ولا سَمِعْتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه، وهَوَى حتى أناخَ راحلتَه، فوَطِئَ على يدِها، فقُمْتُ إليها، فرَكِبْتُها، فانطلَقَ يقُودُ بي الراحلةَ حتى أتَيْنا الجيشَ مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهيرةِ وهم نزولٌ، قالت: فهلَكَ مَن هلَكَ، وكان الذي تولَّى كِبْرَ الإفكِ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: أُخبِرْتُ أنَّه كان يشاعُ ويُتحدَّثُ به عنده، فيُقِرُّه ويستمِعُه ويَسْتَوْشِيهِ.

وقال عُرْوةُ أيضًا: لَمْ يُسَمَّ مِن أهلِ الإفكِ أيضًا إلا حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ومِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ، وحَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، في ناسٍ آخَرِينَ لا عِلْمَ لي بهم، غيرَ أنَّهم عُصْبةٌ؛ كما قال اللهُ تعالى، وإنَّ كُبْرَ ذلك يقالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ.

قال عُرْوةُ: كانت عائشةُ تَكرَهُ أن يُسَبَّ عندها حسَّانُ، وتقولُ: إنَّه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي***لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشةُ: فقَدِمْنا المدينةَ، فاشتكَيْتُ حينَ قَدِمْتُ شهرًا، والناسُ يُفِيضون في قولِ أصحابِ الإفكِ، لا أشعُرُ بشيءٍ مِن ذلك، وهو يَرِيبُني في وجَعي أنِّي لا أعرِفُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيُسلِّمُ، ثم يقولُ: «كيف تِيكُمْ؟»، ثم ينصرِفُ، فذلك يَرِيبُني، ولا أشعُرُ بالشرِّ، حتى خرَجْتُ حينَ نقَهْتُ، فخرَجْتُ مع أمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، وكان مُتبرَّزَنا، وكنَّا لا نخرُجُ إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا مِن بيوتِنا.

قالت: وأمرُنا أمرُ العرَبِ الأُوَلِ في البَرِّيَّةِ قِبَلَ الغائطِ، وكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخِذَها عند بيوتِنا.

قالت: فانطلَقْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ، وهي ابنةُ أبي رُهْمِ بنِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمُّها بنتُ صَخْرِ بنِ عامرٍ، خالةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثَاثةَ بنِ عَبَّادِ بنِ المطَّلِبِ، فأقبَلْتُ أنا وأمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بيتي حينَ فرَغْنا مِن شأنِنا، فعثَرتْ أمُّ مِسطَحٍ في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسطَحٌ، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فقالت: أيْ هَنْتَاهْ، ولم تَسمَعي ما قال؟ قالت: وقلتُ: ما قال؟ فأخبَرتْني بقولِ أهلِ الإفكِ، قالت: فازدَدتُّ مرَضًا على مرَضي، فلمَّا رجَعْتُ إلى بيتي، دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ، ثم قال: «كيف تِيكُم؟»، فقلتُ له: أتأذَنُ لي أن آتيَ أبوَيَّ؟ قالت: وأريدُ أن أستيقِنَ الخبَرَ مِن قِبَلِهما، قالت: فأذِنَ لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فقلتُ لأُمِّي: يا أُمَّتَاه، ماذا يَتحدَّثُ الناسُ؟ قالت: يا بُنَيَّةُ، هَوِّني عليكِ؛ فواللهِ، لقَلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجُلٍ يُحِبُّها، لها ضرائرُ، إلا كثَّرْنَ عليها، قالت: فقلتُ: سُبْحانَ اللهِ! أوَلَقَدْ تحدَّثَ الناسُ بهذا؟

قالت: فبكَيْتُ تلك الليلةَ حتى أصبَحْتُ، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، ثم أصبَحْتُ أبكي.

قالت: ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالبٍ وأسامةَ بنَ زيدٍ حينَ استلبَثَ الوحيُ، يَسألُهما ويستشيرُهما في فِراقِ أهلِه، قالت: فأمَّا أسامةُ فأشار على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالذي يَعلَمُ مِن براءةِ أهلِه، وبالذي يَعلَمُ لهم في نفسِه، فقال أسامةُ: أهلُك، ولا نَعلَمُ إلا خيرًا، وأمَّا عليٌّ فقال: يا رسولَ اللهِ، لم يُضيِّقِ اللهُ عليك، والنساءُ سِواها كثيرٌ، وسَلِ الجاريةَ تصدُقْكَ.

قالت: فدعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ، فقال: أيْ بَرِيرةُ، هل رأيتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟ قالت له بَرِيرةُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، ما رأيتُ عليها أمرًا قطُّ أغمِصُهُ غيرَ أنَّها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنامُ عن عجينِ أهلِها، فتأتي الدَّاجنُ فتأكُلُه.

قالت: فقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن يومِه، فاستعذَرَ مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وهو على المِنبَرِ، فقال: يا معشرَ المسلمين، مَن يَعذِرُني مِن رجُلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي؟ واللهِ، ما عَلِمْتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلا خيرًا، وما يدخُلُ على أهلي إلا معي، قالت: فقامَ سعدُ بنُ مُعاذٍ أخو بني عبدِ الأشهَلِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ أعذِرُك، فإن كان مِن الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَه، وإن كان مِن إخوانِنا مِن الخَزْرَجِ أمَرْتَنا ففعَلْنا أمْرَك، قالت: فقامَ رجُلٌ مِن الخَزْرَجِ، وكانت أمُّ حسَّانَ بِنْتَ عَمِّه مِن فَخِذِه، وهو سعدُ بنُ عُبَادةَ، وهو سيِّدُ الخَزْرَجِ، قالت: وكان قَبْلَ ذلك رجُلًا صالحًا، ولكنِ احتمَلتْهُ الحَمِيَّةُ، فقال لسعدٍ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على قَتْلِه، ولو كان مِن رَهْطِك ما أحبَبْتَ أن يُقتَلَ، فقام أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وهو ابنُ عَمِّ سعدٍ، فقال لسعدِ بنِ عُبَادةَ: كذَبْتَ، لَعَمْرُ اللهِ لَنقتُلَنَّهُ؛ فإنَّك منافِقٌ تُجادِلُ عن المنافِقينَ، قالت: فثارَ الحيَّانِ: الأَوْسُ والخَزْرَجُ، حتى هَمُّوا أن يَقتتِلوا، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المِنبَرِ، قالت: فلم يَزَلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخفِّضُهم حتى سكَتوا، وسكَتَ.

قالت: فبكَيْتُ يومي ذلك كلَّه، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ.

قالت: وأصبَحَ أبوايَ عندي، وقد بكَيْتُ ليلتَينِ ويومًا، لا يَرقأُ لي دمعٌ، ولا أكتحِلُ بنَوْمٍ، حتى إنِّي لَأظُنُّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبَيْنا أبوايَ جالسانِ عندي وأنا أبكي، فاستأذَنتْ عليَّ امرأةٌ مِن الأنصارِ، فأذِنْتُ لها، فجلَستْ تبكي معي.

قالت: فبَيْنا نحن على ذلك، دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّمَ، ثم جلَسَ، قالت: ولَمْ يَجلِسْ عندي منذُ قِيلَ ما قِيلَ قَبْلَها، وقد لَبِثَ شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ جلَسَ، ثم قال: «أمَّا بعدُ، يا عائشةُ، إنَّه بلَغَني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كنتِ ألمَمْتِ بذَنْبٍ، فاستغفِري اللهَ وتُوبي إليه؛ فإنَّ العبدَ إذا اعترَفَ ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه»، قالت: فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مقالتَه، قلَصَ دَمْعي حتى ما أُحِسُّ منه قطرةً، فقلتُ لأبي: أجِبْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِّي فيما قال، فقال أبي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ لأُمِّي: أجيبي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أُمِّي: واللهِ، ما أدري ما أقولُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ مِن القرآنِ كثيرًا -: إنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ؛ لقد سَمِعْتُم هذا الحديثَ حتى استقَرَّ في أنفُسِكم، وصدَّقْتُم به، فلَئِنْ قلتُ لكم: إنِّي بريئةٌ، لا تُصدِّقوني، ولَئِنِ اعترَفْتُ لكم بأمرٍ، واللهُ يَعلَمُ أنِّي منه بريئةٌ؛ لَتُصدِّقُنِّي، فواللهِ، لا أجدُ لي ولكم مثَلًا إلا أبا يوسُفَ حينَ قال: {فَصَبْرٞ ‌جَمِيلٞۖ ‌وَاْللَّهُ اْلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحوَّلْتُ واضطَجَعْتُ على فِراشي، واللهُ يَعلَمُ أنِّي حينئذٍ بريئةٌ، وأنَّ اللهَ مُبَرِّئي ببراءتي، ولكنْ واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ اللهَ مُنزِلٌ في شأني وَحْيًا يُتلَى، لَشأني في نفسي كان أحقَرَ مِن أن يَتكلَّمَ اللهُ فيَّ بأمرٍ، ولكنْ كنتُ أرجو أن يَرى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبرِّئُني اللهُ بها، فواللهِ، ما رامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجلِسَه، ولا خرَجَ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ حتى أُنزِلَ عليه، فأخَذَه ما كان يأخُذُه مِن البُرَحاءِ، حتى إنَّه لَيَتحدَّرُ منه مِن العَرَقِ مِثْلُ الجُمَانِ وهو في يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القولِ الذي أُنزِلَ عليه، قالت: فسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَضحَكُ، فكانت أوَّلَ كلمةٍ تكلَّمَ بها أن قال: «يا عائشةُ، أمَّا اللهُ فقد برَّأَكِ»، قالت: فقالت لي أُمِّي: قُومِي إليه، فقلتُ: واللهِ لا أقُومُ إليه؛ فإنِّي لا أحمَدُ إلا اللهَ عز وجل.

قالت: وأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ جَآءُو بِاْلْإِفْكِ عُصْبَةٞ مِّنكُمْۚ} [النور: 11] العَشْرَ الآياتِ، ثم أنزَلَ اللهُ هذا في براءتي.

قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ - وكان يُنفِقُ على مِسطَحِ بنِ أُثَاثةَ؛ لقَرابتِه منه وفقرِه -: واللهِ، لا أُنفِقُ على مِسطَحٍ شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشةَ ما قال؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ اْلْفَضْلِ مِنكُمْ} [النور: 22] إلى قولِه: {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: بلى واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ أن يَغفِرَ اللهُ لي، فرجَعَ إلى مِسطَحٍ النَّفقةَ التي كان يُنفِقُ عليه، وقال: واللهِ، لا أنزِعُها منه أبدًا.

قالت عائشةُ: وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سألَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ عن أمري، فقال لزَيْنَبَ: ماذا عَلِمْتِ أو رأَيْتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ، أَحْمي سمعي وبصَري، واللهِ، ما عَلِمْتُ إلا خيرًا، قالت عائشةُ: وهي التي كانت تُسامِيني مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعصَمَها اللهُ بالوَرَعِ، قالت: وطَفِقَتْ أختُها حَمْنةُ تُحارِبُ لها، فهلَكتْ فيمَن هلَكَ.

قال ابنُ شهابٍ: فهذا الذي بلَغَني مِن حديثِ هؤلاء الرَّهْطِ، ثم قال عُرْوةُ: قالت عائشةُ: واللهِ، إنَّ الرَّجُلَ الذي قِيلَ له ما قِيلَ ليقولُ: سُبْحانَ اللهِ! فوالذي نفسي بيدِه، ما كشَفْتُ مِن كَنَفِ أُنْثَى قطُّ، قالت: ثم قُتِلَ بعد ذلك في سبيلِ اللهِ». أخرجه البخاري (٤١٤١).

* قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ يقولُ لجاريةٍ له: اذهَبي فابغِينا شيئًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى اْلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اْللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [النور: 33]». أخرجه مسلم (٣٠٢٩).

* قوله تعالى: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه المدينةَ، وآوَتْهم الأنصارُ؛ رمَتْهم العرَبُ عن قوسٍ واحدةٍ، كانوا لا يَبِيتون إلا بالسِّلاحِ، ولا يُصبِحون إلا فيه، فقالوا: تَرَوْنَ أنَّا نعيشُ حتى نكونَ آمِنِينَ مطمئنِّينَ لا نخافُ إلا اللهَ؛ فنزَلتْ: {وَعَدَ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اْلْأَرْضِ كَمَا اْسْتَخْلَفَ اْلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اْلَّذِي اْرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنٗاۚ} إلى {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} يعني: بالنِّعْمةِ، {فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ} [النور: 55]». أخرجه الحاكم (3512).

* قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ} [النور: 61]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان المسلمون يَرغَبون في النَّفيرِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيَدفَعون مفاتيحَهم إلى ضَمْنَاهم، ويقولون لهم: قد أحلَلْنا لكم أن تأكلوا ما أحبَبْتم، فكانوا يقولون: إنَّه لا يَحِلُّ لنا؛ إنَّهم أَذِنوا مِن غيرِ طِيبِ نفسٍ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّيْسَ عَلَى اْلْأَعْمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْأَعْرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى اْلْمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ} [النور: 61] إلى قولِه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} [النور: 61]». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (170).

* سورة (النُّور):

سُمِّيتْ سورة (النُّور) بذلك؛ لذِكْرِ النُّور فيها، وقد تكرَّر فيها سبعَ مرات، وفيها آيةُ (النُّور).

* ورَد في سورة (النُّور) كثيرٌ من الأحكام؛ لذا جاء في فضلها:

عن أبي وائلٍ رحمه الله، قالَ: «قرَأَ ابنُ عباسٍ سورةَ (النُّورِ)، ثمَّ جعَلَ يُفسِّرُها، فقال رجُلٌ: لو سَمِعتْ هذا الدَّيْلَمُ، لأسلَمتْ». " فتح الباري" لابن حجر (٧‏/١٢٦).

وعن مجاهدِ بن جَبْرٍ المكِّيِّ رحمه الله، قال: «علِّموا رجالَكم سورةَ (المائدةِ)، وعلِّموا نساءَكم سورةَ (النُّورِ)». أخرجه البيهقي (٢٤٢٨).

تضمَّنتْ سورةُ (النُّور) الموضوعات الآتية:

1. الزِّنا والأحكام المتعلقة به (١-١٠).

2. حادثة (الإفك) (١١-٢٦).

3. آداب اجتماعية (٢٧-٣٤).

4. نور الإيمان، وظلام الكفر (٣٥-٤٠).

5. مِن آثار قدرة الله وعظمته (٤١-٤٦).

6. المنافقون لم ينتفعوا بآيات الله (٤٧-٥٤).

7. جزاء الطاعة في الدنيا والآخرة (٥٥-٥٧).

8. آداب الاستئذان داخل البيت (٥٨-٦٠).

9. الأكل من بيوت الأقارب (٦١).

10. أدب المؤمن مع الرسول عليه السلام (٦٢-٦٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /172).

تضمَّن اسمُ السورة مقصدَها؛ وهو أنه تعالى شامل العلمِ، اللازمِ منه تمامُ القدرة، اللازم منه إثباتُ الأمور على غاية الحِكمة، اللازم منه تأكيدُ الشَّرف للنبي صلى الله عليه وسلم، اللازم منه شَرَفُ من اختاره سبحانه لصُحْبتِه، على منازلِ قُرْبِهم منه، واختصاصهم به، اللازم منه غايةُ النزاهة والشَّرف والطهارة لأمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي مات صلى الله عليه وسلم وهو عنها راضٍ، ثم ماتت هي رضي الله عنها صالحةً محسنة، وهذا هو المقصود بالذات، ولكن إثباته محتاجٌ إلى تلك المقدِّمات.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /310).