ﰡ
(مكية، [إلا آيتي ٢٨ و ٢٩ فمدنيتان] وآياتها ٥٢ [نزلت بعد سورة نوح] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣)كِتابٌ هو كتاب، يعنى السورة. وقرئ: ليخرج الناس. والظلمات والنور:
استعارتان للضلال والهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل، كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أى نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقوله اللَّهِ عطف بيان للعزيز الحميد، لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرئ بالرفع على: هو الله. الويل: نقيض الوأل، وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك، إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال: ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ بالويل؟ قلت: لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون:
يا ويلاه، كقوله دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ مبتدأ خبره: أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين، ومنصوبا على الذمّ، أو مرفوعا على أعنى الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون. والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ «١»
والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّى. وأما صدّه، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه، لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أى ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازى، والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذى بعد. أو فيه بعد، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله «٢»
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم | صدود السواني في أنوف الحوايم |
ويروى: عن أنوف الحوايم. وفيه تشبيه الأعداء بالعطاش وأصحاب السيوف، أو السيوف بالرياح ضمنا.
(٢). قال محمود: «أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة... الخ» قال أحمد: جميع الفصل مرضى، لكن في هذه الخاتمة نظر، لأن فيها إشعاراً بأن إعجاز القرآن من حيث اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه، لو قدر منزلا بكل لسان، حتى إنه لو ينزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الايمان به، وهذا فيه نظر، والقول به غير متعين، لأن المعجز يفيد العلم بصدق من ظهر على يده، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح، فلو نزل القرآن بجميع اللغات، لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة، هو العلم الحاصل منه ولو نزل بالجميع، لا تفاوت ولا ترجيح بين العلمين، هذا هو التحقيق، والله أعلم. والزمخشري يبنى في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلى وأجلى، وهو من الحق بمعزل، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية، والله الموفق.
فإن قلت: لم يبعث رسول الله ﷺ إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت: لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، «١» والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها- مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربىّ كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً- لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغة قومه. وقرئ:
بلسن قومه. واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: «بلسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبىّ بلغة قومه، وليس بصحيح، لأنّ قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ كقوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن.
ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف «٢»، وبالهداية:
التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف
(٢). قوله «والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فخلق الضلال في القلب، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلقه كالخير عند أهل السنة. (ع)
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)أَنْ أَخْرِجْ بمعنى أى أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل: قولهم أو عز إليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر.
وكذلك التقدير بأن أخرج قومك وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم: قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذى قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نعماؤه وبلاؤه.
فإهلاك القرون لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر.
وقيل: أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهاً عليهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)
إِذْ أَنْجاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أى إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه، ويتبين «١» الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاما. ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله، أى: اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت: في سورة البقرة يُذَبِّحُونَ وفي الأعراف يُقَتِّلُونَ وهاهنا وَيُذَبِّحُونَ مع الواو، فما الفرق؟ قلت: الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على
فَأَبْلَاهُمَا خَيرَ البَلَاءِ الذِى يَبْلُوا «١»
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قال مومى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم.
ومعنى تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ: أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن: توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانا بليغا تنتفى عنده الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ أو أجرى تَأَذَّنَ مجرى، قال، لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود: «وإذ قال ربكم لئن شكرتم»، أى لئن شكرتم يا بنى إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ وغمطتم «٢» ما أنعمت به عليكم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ لمن كفر نعمتي.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٨]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
وَقالَ مُوسى إن كفرتم أنتم يا بنى إسرائيل والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج، اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٩]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
(٢). قوله «وغمطتم ما أنعمت به عليكم» في الصحاح «غمط الشيء» بطره وحقره. (ع)
الأيدى، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادى، أى: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان بالله. وقرئ: «تدعونا»، بإدغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذى ريبة، من أرابه، وأراب «٢» الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
(٢). قوله «وأراب الرجل» لعله: أو أراب. (ع)
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِى مِسْوَرا | فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَىْ مِسْوَرِ «١» |
(٢). عاد كلامه. قال: «وقولهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا: معناه فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» ؟ قال أحمد: ومن تهالكه على الانتصار لاعتقاده تفضيل الملائكة على الرسل من البشر، يستعين حتى يحمل الكفار على أنهم كانوا يعتقدون كمعتقد القدرية في تفضيل الملك على الرسول، لأنه يدعى ذلك أمراً مركوزاً في الطباع معلوما ضرورة، والله الموفق. [.....]
(٣). قوله «لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة» هذا على مذهب المعتزلة، أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١١ الى ١٢]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم، واقتصروا على قولهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوّة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجرى علينا منكم. ألا ترى إلى قوله وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ومعناه: وأىّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه وَقَدْ هَدانا وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، فإن قلت: كيف كرّر الأمر بالتوكل «١» ؟ قلت: الأول لاستحداث التوكل، وقوله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤)
لَنُخْرِجَنَّكُمْ، أَوْ لَتَعُودُنَّ ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم حالفين «٢» على ذلك. فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت: معاذ الله، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون
(٢). قوله «حالفين» حال من فاعل قال. وعبارة النسفي «وحلفوا». (ع)
والمراد بالأرض. أرض الظالمين وديارهم، ونحوه وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ. وعن النبي ﷺ «من آذى جاره ورثه الله داره «١» » ولقد عاينت هذا في مدة قريبة: كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدّثتهم به، وسجدنا شكراً لله ذلِكَ إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين إسكان المؤمنين ديارهم، أى ذلك الأمر حق لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف الله الذي يقف «٢» فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين، كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله على أعدائهم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة، كقوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وهو معطوف على فَأَوْحى إِلَيْهِمْ وقرئ: «واستفتحوا»، بلفظ الأمر. وعطفه على لَنُهْلِكَنَّ أى: أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا، وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وهم قومهم. وقيل: واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم ولم يفلح باستفتاحه مِنْ وَرائِهِ من بين يديه. قال:
(٢). قوله «يقف فيه عباده» في الصحاح: يتعدى ولا يتعدى. (ع)
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِى أَمْسَيْتَ فِيهِ | يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ «١» |
على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ؟ قلت: صديد عطف بيان لماء، قال وَيُسْقى مِنْ ماءٍ فأبهمه إبهاما ثم بينه بقوله صَدِيدٍ وهو ما يسيل من جلود أهل النار يَتَجَرَّعُهُ يتكلف جرعه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ دخل كاد للمبالغة. يعنى: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة، كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها أى لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه «٢» وأحاطت به من جميع الجهات، تفظيعا لما يصيبه من الآلام. وقيل مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جسده حتى من إبهام رجله. وقيل: من أصل كل شعرة وَمِنْ وَرائِهِ ومن بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أى في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشدّ مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أى استمطروا- والفتح المطر- في سنى القحط التي أرسالات عليهم بدعوة رسول الله ﷺ فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر، وهو صديد أهل النار. وَاسْتَفْتَحُوا- على هذا التفسير-:
يؤرقنى اكتئاب أبى نمير | فقلبي من كآبته كئيب |
فقلت له هداك الله مهلا | وخير القول ذو اللب المصيب |
عسى الكرب الذي أمسيت فيه | يكون وراءه فرج قريب |
(٢). قوله «قد تألبت عليه» أى تجمعت. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٨]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه، تقديره: وفيما يقص عليك مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبرا للمبتدإ، أى صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، أو يكون أعمالهم بدلا من مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد: الخبر. وقرئ: الرياح فِي يَوْمٍ عاصِفٍ جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها «١» وقرئ: في يوم عاصف، بالإضافة. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجازة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْءٍ أى لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب بِالْحَقِّ بالحكمة والغرض الصحيح «٢» والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
وقرئ: خالق السموات والأرض إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أى هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم، إعلاما منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم، يقدر على الشيء وجنس ضده وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر،
(٢). قال محمود: «معناه خلقها بالحكمة والغرض الصحيح... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي وقد تقدمت أمثاله.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢١]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ ويبرزون يوم القيامة. وإنما جيء به بلفظ الماضي، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد، ونحوه وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ ونظائر له. ومعنى بروزهم لله- والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له- أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية. أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه. فإن قلت: لم كتب «الضعفؤا» بواو قبل الهمزة؟ قلت: كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. ونظيره «علمؤا بنى إسرائيل» والضعفاء:
الأتباع والعوام. والذين استكبروا: ساداتهم وكبراؤهم، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدورهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم تَبَعاً تابعين: جمع تابع على تبع، كقولهم: خادم وخدم وغائب وغيب «٢» أو ذوى تبع. والتبع: الأتباع، يقال: تبعه تبعا. فان قلت: أى فرق بين من في مِنْ عَذابِ اللَّهِ وبينه في مِنْ شَيْءٍ؟ قلت: الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله. ويجوز أن تكونا للتبعيض معا، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، أى: بعض بعض عذاب الله
(٢). قوله «خادم وخدم وغائب وغيب» في الصحاح: وإنما ثبتت فيه الياء في التحريك، لأنه شبه بصيد وإن كان جمعا، وصيد مصدر قولك «بعير أصيد» لأنه يجوز أن ينوى به المصدر. (ع)
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ وروى أنهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك ثم يقولون: سواء علينا. فإن قلت: كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ قلت: اتصاله به من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعا مما هم فيه، فقالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، يريدون أنفسهم وإياهم، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ. أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أى منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً، كأنه قيل: قالوا جميعا سواء علينا، كقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم | الخ. وإنما سيق تحذيراً وإنذارا اتفاقا، والله الموفق. |
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٢]
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لما قطع الأمر وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار. وروى أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً «١» في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم وَوَعَدْتُكُمْ خلاف ذلك فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني، وليس الدعاء من جنس السلطان، ولكنه كقولك: ما تحيتهم إلا الضرب. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اغتررتم بى وأطعتمونى إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم. وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه، «٢» وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين. ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. فإن قلت:
وحجته البالغة، وقضاؤه الحق. وذلك أنا نعترف بما خلقه الله تعالى للعبد من الاختيار الذي يجده من نفسه عند تجاذب طرفى الأفعال الارادية ضرورة، وبذلك قامت الحجة له على خلقه، وإن سلبنا عن قدرة الخلق تأثيرها في الفعل، فلا تناقض إذاً بين عقيدة السنة وبين صرف الملامة إلى المكلف، والله الموفق. [.....]
(٢). قوله «يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه» هذا مذهب المعتزلة، وقوله «المجبرة» يعنى أهل السنة، ومذهبهم أن الله هو الخالق لأسباب السعادة وأسباب الشقاوة، لكن العبد له فيها الكسب. ومن هذا يتوجه عليه اللوم، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن العبد هو الخالق لها، وهو الذي يحصل لنفسه. وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَافِىِّ | قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِى «١» |
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. «ما» في بِما أَشْرَكْتُمُونِ مصدرية، ومِنْ قَبْلُ متعلقة بأشركتمونى، يعنى: كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم، أى في الدنيا، كقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وقيل: مِنْ قَبْلُ يتعلق بكفرت.
وما موصولة، أى: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أَشركتمونيه وهو الله عز وجل، تقول: شركت زيداً، فإذا نقلت بالهمزة قلت: أَشركنيه فلان، أى: جعلني له شريكا.
ونحو «ما» هذه «ما» في قولهم: سبحان ما سخركنّ لنا. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم
قال لها هل لك يا تافىّ | قالت له ما أنت بالمرضى |
قائله مجهول. وتا: اسم إشارة، أى: هل لك يا هذه المرأة رغبة في. وأصل ياء المتكلم السكون، فان حركت فبالفتح، لكن لما التقت هنا ساكنة مع الياء قبلها ساغ كسرها، على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
وقالت: استئناف، كأنه قيل له: فماذا قالت؟ فقال: قالت له لست مرضيا، فإنك رجل ماض في كل أمرتهمّ فيه، فماض: خبر لمبتدإ محذوف. والجملة: استئناف جواب للسؤال عن علة عدم الرضا. وعبر بضمير الغيبة في قوله: هم نظراء للخير. ويجوز تقدير المبتدأ لفظ «هو» فيكون التفاتا من الخطاب إلى الغيبة، دلالة على الاعراض عنه، وذكر السبب لغيره.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٣]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: وأدخل الذين آمنوا، «١» على فعل المتكلم، بمعنى: وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله، لا من قوله إبليس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بأدخل، أى:
أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره. فإن قلت: فبهم يتعلق في القراءة الأخرى، وقولك:
وأدخلهم أنا بإذن ربهم، كلام غير ملتئم؟ قلت: الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله:
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بما بعده، أى تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ بإذن ربهم، يعنى: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)
قرئ أَلَمْ تَرَ ساكنة الراء، كما قرئ: من يتق، وفيه ضعف ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا اعتمد مثلا ووضعه. وكَلِمَةً طَيِّبَةً نصب بمضمر، أى: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهو
فان قلت: ما الذي صرف الزمخشري عن حمله على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وألجأه إلى تعليقه بما بعده، وقد كانت له في ذلك مندوحة، والالتفات على هذا الوجه كثير مستفيض. ألا ترى إلى قوله تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ثم قال تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ ولم يقل تنزيلا منا. قلت: لأمر ما صرف الكلام عن هذا الوجه، وهو أن ظاهر أُدْخِلَ بلفظ المتكلم، يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة، بل من الله تعالى مباشرة، وظاهر الاذن يشعر باضافة الدخول إلى الواسطة، فبينهما تنافر، ولكن يحسن عندي أن يعلق بخالدين، والخلود غير الدخول، فلا تنافر، والله أعلم.
ويجوز أن ينتصب مَثَلًا وكَلِمَةً بضرب، أى: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا ثم قال كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف، بمعنى هي كشجرة طيبة أَصْلُها ثابِتٌ يعنى في الأرض ضارب بعروقه فيها وَفَرْعُها وأعلاها ورأسها فِي السَّماءِ ويجوز أن يريد: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس. وقرأ أنس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها فإن قلت: أىّ فرق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى، لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة، وإذا قلت: مررت برجل أبوه قائم، فهو أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه، لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل. والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد. وقيل:
كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة. وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة النمار، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك. وعن ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال ذات يوم: «إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبرونى ما هي» «١» فوقع الناس في شجر البوادي، وكنت صبيا، فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله ﷺ أن أقولها وأنا أصغر القوم. وروى: فمنعني مكان عمرو استحييت، فقال لي عمر: يا بنىّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إلىّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله ﷺ «ألا إنها النخلة» وعن ابن عباس رضى الله عنهما: شجرة في الجنة وقوله فِي السَّماءِ معناه في جهة العلوّ والصعود، ولم يرد المظلة، كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ تعطى ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها بِإِذْنِ رَبِّها بتيسير خالقها وتكوينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٢٦]
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كمثل شجرة خبيثة، أى: صفتها كصفتها. وقرئ: ومثل كلمة بالنصب، عطفا على كلمة طيبة. والكلمة الخبيثة: كلمة الشرك. وقيل: كل كلمة قبيحة. وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث «٢» ونحو ذلك. وقوله اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ في مقابلة قوله أَصْلُها ثابِتٌ ومعنى اجْتُثَّتْ استؤصلت. وحقيقة الاجتثاث
(٢). قوله «والكشوث» في الصحاح الكشوث نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض.
قال الشاعر:
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق | ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع) |
فإذا نبذت له الحصاة رأيته | ينزو لوقعتها طمور الأخبل |
وإذا يهب من المنام رأيته | كرتوب كعب الساق ليس بزمل |
وإذا رميت به الفجاج رأيته | يهوى مخارمها هوى الأجدل |
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه | برقت كبرق العارض المتبلل |
وإذا قذفته في نواحي الأمكنة المتسعة، رأيته يهوى مخارمها، أى: يسرع في سلوك مسالكها الضيقة، كهوى الأجدل وهو الصقر، أى كاسراعه في الطيران. ويروى: الجندل وهو الحجر. والأسرة: خطوط الجبهة جمع سرار. والعارض: السحاب المعترض في الأفق. والمتهلل: اللامع، أو المرتفع الذي سيمطر. وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: كنت قاعدة أغزل عند رسول الله ﷺ وهو يخصف نعله، فنحضر جبينه عرفا، فتولد في عينى نوراً، فجعلت أنظر إليه فقال: ما تنظرين؟ فقلت له ذلك، وقلت: أما والله لو رآك الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، فقال: وما قال: قلت: وإذا نظرت... البيت. فوضع ما في يده وقام فقبل ما بين عينى وقال:
جزاك الله خيرا، ما سررت كسرورى بكلامك. [.....]
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك. والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولهاً إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، ورغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة. وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها. وقيل: ما نخفى من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفى من كآبة الافتراق، وما نعلن:
يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أو من كلام إبراهيم، يعنى:
وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان. «ومن» للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه
(٢). قوله «وهي اجتماع البواكير والفواكه» الباكورة: أول الفاكهة، كما في الصحاح. (ع)
إنِّى عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ «١»
وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روى أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتى عشرة سنة، وقد روى أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه. قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله. ومنه: سمع الله لمن حمده. وفي الحديث «٢» «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن «٣» » فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيداً، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أموراً، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازى.
والمراد سماع الله.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وبعض ذرّيتى، عطفا على المنصوب في اجعلنى، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أى
من حيث، فلعل من زائدة. قال بعضهم: تؤكل الكتف من أسفلها ويشق أكلها من أعلاها، وهو مثل يضرب للجرب المتفطن للأمور.
(٢). متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٣). قوله «كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن» في الصحاح: كاذنه لمن يتغنى... الخ. (ع)
ولوالدي، على الإفراد، يعنى أباه. وقرأ الحسن بن على رضى الله عنهما: ولولدىّ، يعنى إسماعيل وإسحاق. وقرئ: لولدي، بضم الواو. والولد بمعنى الولد، كالعدم والعدم. وقيل: جمع ولد، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف: ولذرّيتى. فإن قلت: كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت: هو من مجوّزات العقل «١» لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل: بشرط الإسلام. ويأباه قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحا لا مقال فيه، فكيف يستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أى يثبت، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل، والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم: ترجلت الشمس: إذا أشرقت وثبت ضوؤها، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازيا، أو يكون مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وعن مجاهد: قد استجاب الله له فيما سأل، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته، وجعل البلد آمنا، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماما، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة، وأراه مناسكه، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:
كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ الآية، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣)
فإن قلت: يتعالى الله عن السهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله ﷺ وهو أعلم الناس به غافلا حتى قيل وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا؟ قلت: إن كان خطابا لرسول الله ﷺ ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا، كقوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، كما جاء في الأمر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ والثاني: أنّ المراد بالنهى عن حسبانه غافلا، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه يعاملهم معاملة
لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، فوصف به فقيل: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا: قلبه هواء. قال زهير:
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ «١»
لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان:
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ «٢»
كأن الرحل منها فوق صعل... من الظلمان جؤجؤه هواء
أصك مصلم الأذنين أجنى... له بالسن تنوم وآء
لزهير بن أبى سلمى يصف ناقته. والصعل: المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس. والظلمان: جمع ظليم وهو ولد النعام، والجؤجؤ: الصدر. والهواء: الخالي الفارغ، وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير إلى طعامه. والأصك:
الذي تصطك ركبتاه عند المشي لطول رجليه. وصلمه: قطعه. والتصليم: مبالغة. ويقال: أجنى الثمر إذا أدرك، وأجنت الأرض: كثر كلؤها وخصيها. والسن، المكان المستوى واسم موضع بعينه. والتنوم- وزن تنور-:
شجر تنفلق كمامه عن حب صغير تأكله أهل البادية، يغلب على لونه السواد. قيل: وهو شجر الشهدانج. والآء: جنس من الشجر واحده آءة. وقيل: ثمر ذلك الشجر يطلق على نوع من الصوت: والتنوم: فاعل أجنى، أى كثر له في ذلك المكان هذان النوعان.
(٢).
ألا أبلغ أبا سفيان عنى... فأنت مجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركت عبيداً... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمداً فأجبت عنه... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
فان أبى ووالده وعرضي... لعرض محمد منكم وقاء
لحسان يهجو أبا سفيان قبل إسلامه. وألا التنبيه، والمأمور بالابلاغ غير معين، وكان الظن أن يقول: فانه، أى: أبا سفيان، لكن خاطبه بالذم لأنه أغيظ. ويجوز أن المأمور أبو سفيان، فهو منادى بحذف حرف النداء.
والمجوف والنخب والهواء: خالي الجوف، أو فارغ القلب من العقل والشجاعة. وروى بدل هذا الشطر «مغلغلة فقد برح الخفاء» والمغلغلة: الحارة من الغلة بالضم، وهي شدة العطش والحرارة. وقيل. المنقولة من مكان لآخر، وبرح كسمع: ذهب وزال. وقيل: ظهر واتضح من براح الأرض وهو البارز منها، فالخفا بمعنى التستر أو السر.
وإسناد الترك للسيوف مجاز عقلى، لأنها آلة للفعل. وعبيد بالتصغير قبيلة، وكذلك عبد الدار، وسادتها مبتدأ.
والإماء خبره، والجملة في محل المفعول الثاني لتركت، أى صيرت عبيداً لا سادة لها إلا النساء، وصيرت عبد الدار كذلك، يعنى: أننا أفنينا رجالهما الرؤساء الأشراف، فأشرافهما النساء لا غير، بل يجوز أنهم سواء الحرائر أيضاً، فلم يبق إلا الرقائق. وأتهجوه: استفهام توبيخي، والواو بعده للحال، أى: لا ينبغي ذلك شر وخير، من قبيل أفعل التفضيل، واختصا بحذف همزتهما تخفيفاً لكثرة استعمالهما، لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان، والجملة دعائية، دعا عليه بأن يكون فداء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام، ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا نصف بيت قالته العرب، فعليك بالانصاف وأمن يهجو: استفهام إنكارى، أى ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين. ويحتمل أن الهمزة للتنبيه، أو للنداء، والمنادى محذوف، أى: يا قوم أبى سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما وروى: فمن، ولا بد من تقدير، أى: من يهجوه ويخذله منكم ليقابل الخذلان النصر كالهجو والمدح، ثم إن في هذا دليلا على جواز حذف الموصول، وقد أجازه الكوفيون والأخفش، وتبعهم أبو مالك، وشرط كونه معطوفا على موصول آخر كما هنا. وقوله: ووالده، أى والد أمى. ويروى:
ووالدتي. والوقاء: ما يتوقى به المكروه، كالترس وزن الحزام والرباط للمفعول به الفعل، فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم الآلة، ورأيت في كلام الزمخشري ما يفيد تسمية هذا الوزن باسم المفعول. وفي الهمع ما يفيد أنه جاء شاذا من أوزان الآلة، كأراث لما تؤرث به النار، أى تضرم به، وسراد لما يسرد به، أى يحزز به. ولما سمع ﷺ قوله «وعند الله في ذلك الجزاء» قال: جزاك الله الجنة بإحسان. ولما سمع قوله «فان أبى» قال: وقال الله حر النار بإحسان. وتقريره ﷺ على المكافأة بالذم، يدل على الجواز.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة
وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معداً لذلك، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها، كقوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً. وتنصره قراءة ابن
(٢). قوله «وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به» الذي في الصحاح المكر: الاحتيال والخديعة، وقد مكر به.
والمكر أيضاً: المغرة، وقد مكره فامتكر، أي خضبه فاختضب اه، وهو يفيد أن المكر بمعنى الاحتيال لا يتعدى بنفسه، فتدبر. (ع)
وقرئ: مخلف وعده رسله، بجرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ «قتل أولادهم شركائهم». عَزِيزٌ غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام.
والمعنى: يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وكذلك السموات. والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. ومنه بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ وفي الأوصاف، كقولك: بذلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ واختلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الّذِينَ عَهِدْتَهُمْ | وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِى كُنْتَ تَعْلَمُ «١» |
وقيل: يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة. وعن على رضى الله عنه: تبدّل أرضا من فضة، وسموات من ذهب.
وعن الضحاك: أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ: يوم نبدّل الأرض، بالنون «٢».
فإن قلت: كيف قال الْواحِدِ الْقَهَّارِ؟ قلت: هو كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين.
أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله فِي الْأَصْفادِ إمّا أن يتعلق بمقرّنين، أى:
يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به، فيكون المعنى: مقرّنين مصفدين. والأصفاد:
القيود: وقيل الأغلال، وأنشد لسلامة بن جندل:
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لَاقَى صِفَاداً | بَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ «٣» |
وقرئ: من قطران، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب. والآنى: المتناهي حرّه وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ كقوله تعالى أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ
(٢). قوله «وقرئ نبدل الأرض بالنون» لعله ونصب الأرض والسماوات، فلتحرر. القراءة. (ع)
(٣). لسلامة بن جندل. وزيد الخيل: هو الذي سماء النبي ﷺ زيد الخير. قد لاقى: أى نال من أعدائه صفادا، أى قيدا وغلا. واستعار العض لقرص الصفاد اليابس الصلب على طريق التصريحية، والباء للإلصاق، وأقحم لفظ العظم للمبالغة في العض حتى وصل العظم. [.....]
مجرمة ما كَسَبَتْ أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٥٢]
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية في التذكير والمواعظة، يعنى بهذا ما وصفه من قوله فَلا تَحْسَبَنَّ إلى قوله سَرِيعُ الْحِسابِ. وَلِيُنْذَرُوا معطوف على محذوف، أى لينصحوا ولينذروا بِهِ بهذا البلاغ. وقرئ: ولينذروا، بفتح الياء، من نذر به إذا علمه «١» واستعدّ له وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد، لأنّ الخشية أمّ الخير كله.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» «٢»
(٢). يأتى إسناده في آخر الكتاب.
سورة إبراهيم
سورةُ (إبراهيمَ) مِن السُّوَر المكية، وجاءت هذه السورةُ الكريمة على ذِكْرِ مسائل الاعتقاد، والتوحيد، وآياتِ الله عز وجل في هذا الكونِ، كما دعَتْ إلى اتباع الدِّين الخالص: {مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ}، وقد سُمِّيتْ باسمه عليه السلام، ودعت إلى اتباع الطريق الحقِّ التي دعا إليها كلُّ الأنبياء، كما أورَدتْ ذِكْرَ الجنة والنار، وحال كلٍّ من الفريقين؛ ترغيبًا في الاتباع والطاعة، وترهيبًا عن المعصية والمخالفة، واحتوت على ذِكْرِ عظمة الله في هذا الكونِ الفسيح؛ تثبيتًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَن والاه.
ترتيبها المصحفي
14نوعها
مكيةألفاظها
831ترتيب نزولها
72العد المدني الأول
54العد المدني الأخير
54العد البصري
51العد الكوفي
52العد الشامي
55* قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاْلْقَوْلِ اْلثَّابِتِ فِي اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَا وَفِي اْلْأٓخِرَةِۖ} [إبراهيم: 27]:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ في عذابِ القَبْرِ، فيقال له: مَن رَبُّك؟ فيقول: رَبِّي اللهُ، ونَبيِّي محمَّدٌ ﷺ؛ فذلك قولُهُ عز وجل: {يُثَبِّتُ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاْلْقَوْلِ اْلثَّابِتِ فِي اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَا وَفِي اْلْأٓخِرَةِۖ} [إبراهيم: 27]». أخرجه مسلم (٢٨٧١).
* سورة (إبراهيمَ):
سُمِّيتْ سورة (إبراهيمَ) بذلك؛ لأنها تحدَّثتْ - بشكل رئيسٍ - عن سيدنا (إبراهيمَ) عليه السلام، وعَلاقةِ ذلك بالتوحيد.
جاءت موضوعاتُ سورة (إبراهيم) على النحوِ الآتي:
1. منزلة القرآن الكريم، وحُجِّيته على الناس جميعًا (١-٤).
2. دعوة الرُّسل في الإخراج من الظُّلمات إلى النور (٥-٨).
3. استفتاح الرسل بالنصر على أعدائهم (للدعاة) (٩-١٨).
4. نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار (١٩- ٣١).
5. عظمة الله في الكون، ونِعَمُه على خَلْقه (٣٢- ٣٤).
6. نبأ إبراهيم عليه السلام في دعوته (٣٥- ٤١).
7. صُوَر من مشاهدِ يوم القيامة (٤٢-٥٢).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /1).
مقصودُ سورة (إبراهيمَ) هو التوحيدُ، وبيانُ أن هذا الكتابَ غايةُ البلاغ إلى الله؛ لأنه كافل ببيان الصراط الدالِّ عليه، المؤدي إليه، وأدلُّ ما فيها على هذا المَرامِ: قصةُ (إبراهيم) عليه السلام.
أما أمرُ التوحيد في قصة (إبراهيم) عليه السلام: فواضحٌ في آيات كثيرة من القرآن، والتوحيدُ هو ملَّةُ (إبراهيمَ) عليه السلام، التي حكَم اللهُ تعالى على مَن رَغِب عنها بقوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥۚ} [البقرة: 130]. وقال الله تعالى في هذه السُّورةِ مبينًا حِرْصَ (إبراهيمَ) عليه السلام على التوحيد: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ اْجْعَلْ هَٰذَا اْلْبَلَدَ ءَامِنٗا وَاْجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ اْلْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرٗا مِّنَ اْلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (36)} [إبراهيم: 35-36].
وأما أمرُ الكتاب: فلأنه من جملةِ دعائه لذريتِه الذين أسكَنهم عند البيت المُحرَّم؛ ذريةِ (إسماعيلَ) عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}[سورة البقرة: 129].
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السُّور" للبقاعي (2 /198).