تفسير سورة إبراهيم

تفسير ابن أبي زمنين

تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين.
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة إبراهيم
وهي مكية كلها إلا آيتين : قوله :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا. . . ﴾ إلى قوله :﴿ القرار ﴾.

قَوْلُهُ: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ؛ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿لتخرج النَّاس﴾ من أَرَادَ الله أَن يهديه ﴿من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ يَعْنِي: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى ﴿بِإِذن رَبهم﴾ ٦ بِأَمْر رَبهم ﴿إِلَى صِرَاط﴾ ﴿إِلَى طَرِيق﴾ (الْعَزِيز} فِي ملكه ونقمته ﴿الحميد﴾ اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، وَاسْتَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَن يحمدوه.
﴿الَّذين يستحبون﴾ يَخْتَارُونَ ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ لَا يُقِرُّونَ بِالآخِرَةِ ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل الله ويبغونها عوجا﴾ يَبْتَغُونَ السَّبِيلَ عِوَجًا؛ يَعْنِي: الشِّرْكَ.
قَالَ محمدٌ: (السَّبِيلُ) يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَكَذَلِكَ (الطَّرِيقُ) فَأَمَّا الزِّقَاقُ
361
فَمُذَكَّرٌ. وَنَصْبُ (عِوَجًا) عَلَى الْحَالِ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٤) إِلَى الْآيَة (٦).
362
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَان قومه﴾ قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: بلغَة قَوْمِهِ ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ بعد الْبَيَان.
﴿وَذكرهمْ بأيام الله﴾ تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يُذَكِّرْهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِم، وَيذكرهُمْ (ل ١٦٤) كَيْفَ أَهْلَكَ قَوْمَ نوحٍ وَعَادًا وَثَمُودَ وَغَيْرَهُمْ، يَقُولُ: ذَكِّرْهُمْ هَذَا وَهَذَا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لكل صبار شكور﴾ وَهُوَ الْمُؤمن.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٧) إِلَى الْآيَة (٩).
﴿وَإِذ تَأذن رَبك﴾ أَي: أعلمكُم ﴿لَئِن شكرتم﴾ آمنتم ﴿لأزيدنكم﴾ فِي النِّعَمِ ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابي لشديد﴾ فِي الْآخِرَة.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قبلكُمْ﴾ أَيْ: خَبَرُهُمْ.
﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلا الله﴾ أَيْ: لَا يَعْلَمُ كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ إِلا اللَّهُ.
﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاههم﴾ أَيْ: عَضُّوا عَلَى أَنَامِلِهِمْ غَيْظًا عَلَى الأَنْبِيَاءِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (١٠) إِلَى الْآيَة (١٤).
﴿قَالَت رسلهم﴾ أَيْ: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: ﴿أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ خَالِقِهِمَا؛ أَيْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شكٌّ، وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؟! ﴿يَدْعُوكُمْ ليغفر لكم من ذنوبكم﴾ أَيْ:
363
لِيَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ؛ إِنْ آمَنْتُمْ ﴿ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ يَعْنِي: إِلَى آجَالِهِمْ بِغَيْرِ عَذَابٍ؛ فَلا يَكُونُ مَوْتُهُمْ بِالْعَذَابِ.
﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ أَيْ: لَا يُوحَى إِلَيْكُمْ.
﴿فَأْتُونَا بسُلْطَان مُبين﴾ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بِالنُّبُوَّةِ؛ فَيُوحِي إِلَيْهِ
364
﴿ ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ﴾ بالنبوة ؛ فيوحي إليه.
﴿وَقد هدَانَا سبلنا﴾ يَعْنُونَ: سُبُلَ الْهُدَى ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذيتمونا﴾ يَعْنُونَ: قَوْلَهُمْ لِلأَنْبِيَاءِ: إِنَّكُمْ سَحَرَةٌ، وَإِنَّكُمْ كاذبون.
﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ وَهَذَا حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ لِلرُّسُلِ فدعوا عَلَيْهِم؛ فَاسْتَجَاب لَهُم
﴿ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ﴾ أَيْ: مَنْ بَعْدِ إِهْلاكِهِمْ ﴿ذَلِكَ لمن خَافَ مقَامي﴾ يَعْنِي: الْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحسابِ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (١٥) إِلَى الْآيَة (٢٠).
﴿واستفتحوا﴾ يَعْنِي: الرُّسُلَ؛ أَيْ: دَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ، حِينَ اسْتَيْقَنُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤمنُونَ.
قَالَ محمدٌ: معنى (استفتحوا): سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ؛ أَيْ: يَنْصُرَهُمْ، وَكُلُّ نَصْرٍ هُوَ فَتْحٌ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يحيى.
364
﴿وخاب﴾ أَيْ: خَسِرَ ﴿كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ الْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ، وَالْعَنِيدُ: الْمُجَانِبُ لِلْقَصْدِ.
365
﴿من وَرَائه جَهَنَّم﴾ أَي: من بعد هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا ﴿جَهَنَّم﴾ أَيْ: عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَقَدْ قِيلَ: ﴿مِنْ وَرَائِهِ﴾ أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ.
﴿ويسقى من مَاء صديد﴾ الصَّدِيدُ: مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ
﴿يتجرعه وَلَا يكَاد يسيغه﴾ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لَهُ، وَهُوَ يُسِيغُهُ لابُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَتَتَقَطَّعَ أَمْعَاؤُهُ.
قَالَ محمدٌ معنى (يسيغه): يَبْتَلِعُهُ.
﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَان﴾ وَهِيَ النَّارُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَيْهِمْ أَلا يَمُوتُوا؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عذابٌ غَلِيظٌ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عذَابا﴾.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كرمادٍ اشتدت بِهِ الرِّيَاح فِي يَوْم عاصفٍ﴾ يَعْنِي: مِمَّا عَمِلُوا مِنْ حَسَنٍ على سييءٍ فِي الآخِرَةِ، قَدْ جُوزُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: يُصَيِّرُ الأَمْرَ إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ﴿إِنْ يَشَأْ يذهبكم﴾ يَسْتَأْصِلْكُمْ بِالْعَذَابِ ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أَي: آخَرين
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أَي: لَا يشق عَلَيْهِ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٢١) إِلَى الْآيَة (٢٣).
﴿وبرزوا لله جَمِيعًا﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ وهم الأتباع ﴿للَّذين استكبروا﴾ ٦ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ: ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تبعا﴾ لِدُعَائِكُمْ إِيَّانَا إِلَى الشِّرْكِ.
قَالَ محمدٌ: (تبعا) جَمْعُ تَابِعٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا سُمِّي بِهِ؛ أَيْ: كُنَّا ذَوِي تَبَعٍ.
﴿سواءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ محيصٍ﴾ أَيْ: مهربٍ، وَلا مَعْزِلٍ عَنِ الْعَذَاب.
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ﴾ أَيْ: فُصِلَ بَيْنَ الْعِبَادِ؛ فَاسْتَبَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ﴿إِن الله وَعدكُم وعد الْحق﴾ أَيْ: وَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِ ﴿وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سلطانٍ﴾ أَسْتَرْهِبُكُمْ بِهِ ﴿إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ ٦ بالوسوسة ﴿فاستجبتم لي﴾.
﴿مَا أَنا بمصرخكم﴾ بمغيثكم من عَذَاب الله (ل ١٦٥} (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
366
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قبل} أَيْ: فِي الدُّنْيَا - يَكْفُرُ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيكًا.
يحيى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ دُخَيْنٍ الْحَجَرِي، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَفَرَغَ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ قَضَى بَيْنَنَا رَبُّنَا؟ فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا؟ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ؛ فَإِنَّهُ أَبُونَا وَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَكَلَّمَهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيُكَلِّمُونَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ، فَيَقُولُ آدَمُ: عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ؛ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَدُلُّهُمْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ يَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَدُلُّهُمْ عَلَى مُوسَى، ثُمَّ يَأْتُونَ مُوسَى فَيَدُلُّهُمْ عَلَى عِيسَى، ثُمَّ يَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: أَدُلُّكُمْ عَلَى النَّبِيِّ الأُمِّي؛ فَيَأْتُونَنِي فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي أَنْ أَقُومَ إِلَيْهِ؛ فَيَفُورُ مِنْ مَجْلِسِي أَطْيَبُ رِيحٍ شَمَّهَا أحدٌ حَتَّى آتِي رَبِّي، فَيُشَفِّعُنِي وَيَجْعَلُ لِي نُورًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِي إِلَى ظُفْرِ قَدَمِي، ثُمَّ يَقُولُ الْكَافِرُونَ: (هَذَا) وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا؟ ﴿مَا هُوَ إِلا إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا فَيَأْتُونَهُ؛ فَيَقُولُونَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ؛ فَقُمْ فَاشْفَعْ أَنْتَ لَنَا فَإِنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَنَا﴾ فَيَقُومُ فَيَفُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهَا أحدٌ، ثُمَّ (يُعَظِّمُ لِجَهَنَّمَ)، ثُمَّ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم﴾ الْآيَة.
367
﴿تحيتهم فِيهَا سَلام﴾ يَقُولُ: يُسَلِّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ على بعضٍ، وتحييهم الْمَلائِكَةُ أَيْضًا عَنِ اللَّهِ بِالسَّلامِ؛ حِينَ تَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ بالكرامة والهدية.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٢٤) إِلَى الْآيَة (٢٧).
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا كلمة طيبَة﴾ هِيَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ﴿كشجرة طيبَة﴾ وَهِيَ النَّخْلَةُ؛ وَهِيَ مَثَلُ الْمَؤْمِنِ ﴿أَصْلهَا ثَابت﴾ فِي الأَرْضِ ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ أَيْ: رَأْسُهَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الثَّمَرَة
﴿تؤتي أكلهَا﴾ ثَمَرَتَهَا ﴿كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ أَيْ: بِأَمْرِهِ. تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَزَالُ مِنْهُ كلامٌ طيبٌ وعملٌ صالحٌ؛ كَمَا تُؤْتِي هَذِهِ الشَّجْرَةُ أُكُلَهَا فِي كُلِّ حِينٍ.
قَالَ يحيى: (وَالْحِينُ) فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ: السَّنَةُ، وَهِيَ تُؤْكَلُ شِتَاءً وَصَيْفًا.
قَالَ محمدٌ: (الْحِينُ) فِي اللُّغَةِ: اسْمُ وقتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا طَال وَقصر.
﴿وَمثل كلمة خبيثة﴾ الشّرك ﴿كشجرة خبيثة﴾ يَعْنِي: الْحَنْظَلَةَ ﴿اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْض﴾ أَيْ: قُطِعَتْ مِنْ أَعْلَى الأَرْضِ ﴿مَا لَهَا من قَرَار﴾ أَيْ: لَيْسَ لأَصْلِهَا ثباتٌ فِي الأَرْضِ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ عَمَلِ الْكَافِرِ، لَيْسَ لِعَمَلِهِ الْحَسَنِ أصلٌ
368
ثَابِتٌ يُجْزَى بِهِ فِي الآخِرَةِ.
369
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة﴾ تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ:
إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَتَاهُ ملكٌ فَأَجْلَسَهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، ثُمَّ يَقُولُ: فَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: الإِسْلامُ، ثُمَّ يَقُولُ: فَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: محمدٌ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي لَوْ أَنَّكَ كُنْتَ كَذَّبْتَ صِرْتَ إِلَيْهَا؛ قَدْ أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ هَذِهِ الْجَنَّةُ، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ فِيهَا ثُمَّ يُوَسَّعُ لَهُ قَبْرَهُ، فَلا يَزَالُ يَأْتِيهِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ وَبَرْدِهَا حَتَّى تَأْتِيَهُ السَّاعَةُ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَتَاهُ ملكٌ فَأْجَلَسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي! ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا أَدْرِي. فَيَقُولُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي لَوْ كُنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صِرْتَ إِلَيْهَا، لَنْ تَرَاهَا أَبَدًا. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، ثمَّ يضْرب ضَرْبَة لَو أَصَابَت جبلا (ل ١٦٦) فَيَصِيحُ عِنْدَ ذَلِكَ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شيءٍ إِلا الثَّقَلَيْنِ. قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمنُوا﴾ الْآيَة ".
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٢٨) إِلَى الْآيَة (٣١).
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نعْمَة اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها﴾ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، جَعَلُوا مَكَانَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْكُفْرَ، وَأَخْرَجُوا قَوْمَهُمْ إِلَى قِتَالِ النَّبِيِّ بِبَدْرٍ؛ فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ فَحَلُّوا فِي النَّارِ. وَالْبَوَارُ: الْفَسَادُ؛ أَيْ: أَنَّ النَّارَ تُفْسِدُ أَجْسَادَهُمْ.
قَالَ محمدٌ: نَصْبُ (جَهَنَّمَ) بَدَلا مِنْ قَوْلِهِ: (دَارَ الْبَوَارِ)، وَالْبَوَارُ أَصْلُهُ: الْهَلَاك.
﴿وَجعلُوا لله أندادا﴾ يَعْنِي: آلِهَتَهُمُ الَّتِي عَدَلُوهَا بِاللَّهِ؛ فَجَعَلُوهَا آلِهَةً ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أَي: عَن سَبِيل الْهدى.
﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاة﴾ يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؛ يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا ﴿وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ.
﴿مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِي يَوْم﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ أَيْ: لَا يَتَبَايَعُونَ فِيهِ ﴿وَلا خلال﴾ أَيْ: تَنْقَطِعُ فِيهِ كُلُّ خلةٍ إِلا خُلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ محمدٌ: الْخِلالُ مصدرٌ؛ يُقَالُ: خَالَلْتُ فُلانًا؛ أَيْ: صَادَقْتُهُ خِلالا وَمُخَالَّةً، وَالاسْمُ: الْخلَّة.
370
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٣٢) إِلَى الْآيَة (٣٤).
371
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ أَيْ: يَجْرِيَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴿وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ يَخْتَلِفَانِ عَلَيْكُم
﴿وآتاكم﴾ أَعْطَاكُمْ ﴿مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ أَيْ: وَمَا لَمْ تَسْأَلُوهُ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ يَقُولُ: كُلُّ مَا أَعْطَاكُمْ هُوَ مِنْهُ مِمَّا سَأَلْتُمْ، وَمِمَّا لَمْ تَسْأَلُوا ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نعْمَة الله لَا تحصوها﴾.
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ ".
مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّد.
﴿إِن الْإِنْسَان﴾ يَعْنِي: الْكَافِر ﴿لظلوم﴾ لنَفسِهِ ﴿كفار﴾ بِنِعَمِ رَبِّهِ حِينَ أَشْرَكَ، وَقَدْ أجْرى عَلَيْهِ هَذِه النعم.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٣٥) إِلَى الْآيَة ٤١).
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا﴾ يَعْنِي: مَكَّةَ ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نعْبد الْأَصْنَام﴾.
قَالَ محمدٌ: أهل الْحجاز يَقُولُونَ: جَنَّبْنِي فلانٌ شَرَّهُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: أَجْنَبَنِي وَجَنَّبَنِي؛ أَيْ: جَعَلَنِي جانباً مِنْهُ.
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاس﴾ يَعْنِي: الأَصْنَامَ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ؛ يَقُولُ: ضَلَّ الْمُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهَا؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ دَعَتْ هِيَ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهَا ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي﴾ فَعَبَدَ الأَوْثَانَ، ثُمَّ تَابَ إِلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ يَعْنِي: إِسْمَاعِيلَ ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا ليقيموا الصَّلَاة﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَسْكَنْتُهُمُ مَكَّةَ، لِيَعْبُدُوكَ ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَة﴾ أَيْ: قُلُوبًا ﴿مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم﴾ تَنْزِعُ إِلَى الْحَجِّ، فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " وَلَوْ كَانَ قَالَ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لَحَجَّهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وكل أحدٍ ".
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نعلن﴾ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ:: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ جَاءَ بِهَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ؛ فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَلَمَّا قَفَا نَادَتْهُ هَاجَرُ: يَا إِبْرَاهِيمُ؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَضَعَنِي وَابْنِي بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا ضرعٌ وَلا زرعٌ وَلا أنيسٌ؟! قَالَ: رَبِّي. قَالَتْ: إِذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا. فَلَمَّا قَفَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نعلن﴾ أَي: من الْحزن، الْآيَة.
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذريتي﴾ أَيْ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقيم الصَّلَاة.
﴿رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي﴾ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: دَعَا لأَبِيهِ أَنْ يُحَوِّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الإِيمَانِ، وَلَمْ يَغْفِرْ لَهُ؛ فَلَمَّا مَاتَ كَافِرًا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَعَرَفَ أَنه قد هلك.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٤٢) إِلَى الْآيَة (٤٣).
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ.
﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تشخص فِيهِ الْأَبْصَار﴾ إِلَى إِجَابَةِ (الدَّاعِي) حِينَ يَدْعُوهُمْ من قُبُورهم
﴿مهطعين﴾ أَيْ: مُسْرِعِينَ إِلَى (نَحْوِ) الدَّعْوَةِ (ل ١٦٧) حِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ محمدٌ: (مُهْطِعِينَ) منصوبٌ عَلَى الْحَال.
373
و ﴿مقنعي رُءُوسهم﴾ أَيْ: رَافِعِيهَا ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طرفهم وأفئدتهم﴾ أَيْ: يُدِيمُونَ النَّظَرَ.
قَالَ محمدٌ: (طَرْفُهُمْ) يَعْنِي: نَظَرَهُمْ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَرَفَ الرَّجُلُ يَطْرِفُ طَرْفًا، إِذَا أَطْبَقِ أَحَدَ جَفْنَيْهِ عَلَى الآخَرِ؛ فَسُمِّيَ النَّظَرُ طَرْفًا؛ لأَنَّهُ بِهِ يَكُونُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَذْكُرُ سُهَيْلا - النَّجْمُ فِي السَّمَاءِ، وَشَبَّهَ اضْطِرَابَهُ بِطَرْفِ الْعَيْنِ.
(أُرَاقِبُ لَمْحًا مِنْ سهيلٍ كَأَنَّهُ إِذَا مَا بَدَا فِي دُجْنَةِ اللَّيْلِ يَطْرِفُ)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وأفئدتهم هَوَاء﴾ بَيْنَ الصَّدْرِ وَالْحَلْقِ؛ فَلا تَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ، وَلا تَرْجِعُ إِلَى الصَّدْرِ؛ يَعْنِي: قُلُوبَ الْكُفَّارِ؛ هَذَا تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ.
قَالَ محمدٌ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (هواءٌ) أَيْ: خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ شيءٍ أَجْوَفَ خاوٍ، فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ هَوَاءٌ.
وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ:
كَأَنَّ الرَّحْلَ مِنْهَا فَوْقَ صعلٍ مِنَ الظِّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ}
يَقُولُ: لَيْسَ لِعَظْمِهِ مخ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٤٤) إِلَى الْآيَة (٤٦).
374
قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَاب﴾ أَيْ: أَنْذِرْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دعوتك﴾ سَأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا؛ حَتَّى يُؤْمِنُوا.
قَالَ اللَّهُ: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أقسمتم من قبل﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا ﴿مَا لَكُمْ من زَوَال﴾ من الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة.
ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ لِلَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ محمدٌ: ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بِشِرْكِهِمْ؛ يَعْنِي: مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فعلنَا بهم﴾ كَيْفَ أَهْلَكْنَاهُمْ؛ يُخَوِّفُهُمْ بِذَلِكَ ﴿وَضَرَبْنَا لكم الْأَمْثَال﴾ يَعْنِي: وَصَفْنَا لَكُمْ عَذَابَ الأُمَمِ الخالية؛ يخوف كفار مَكَّة.
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرهمْ﴾ أَيْ: محفوظٌ لَهُمْ؛ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهِ ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَال﴾ وَهِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: قَالَ: " إِنَّ نُمْرُوذَ الَّذِي بَنَى الصَّرْحَ بِبَابِلَ، أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ السَّمَاءِ؛ فَعَمَدَ إِلَى تابوتٍ فَجَعَلَ فِيهِ غُلامًا، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نسورٍ أربعةٍ فَأَجَاعَهَا، ثُمَّ رَبَطَ كُلَّ نسرٍ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ التَّابُوتِ،
375
ثُمَّ رَفَعَ لَهُمَا لَحْمًا فِي أَعْلَى التَّابُوتِ، فَجَعَلَ الْغُلامُ يَفْتَحُ الْبَابَ الأَعْلَى، فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَاهَا كَهَيْئَتِهَا، ثُمَّ يَفْتَحُ البَّابَ الأَسْفَلِ فَيَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ فَيَرَاهَا مِثْلَ اللُّجَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ يَنْظُرُ فَلا يَرَى الأَرْضَ وَإِنَّمَا هُوَ الْهَوَاءُ، وَيَنْظُرُ فَوْقَ فَيَرَى السَّمَاءَ كَهَيْئَتِهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ صَوَّبَ اللَّحْمَ فَتَصَوَّبَتِ النُّسُورُ، فَيُقَالُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: إِنَّهُ مَرَّ بِجَبْلٍ فَخَافَ الْجَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ، فَكَادَ يَزُولُ مِنْ مَكَانِهِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَال﴾ ".
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (٤٧) إِلَى الْآيَة (٥٢).
376
﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رسله﴾ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا.
﴿أَن الله عَزِيز﴾ فِي نقمته ﴿ذُو انتقام﴾ من أعدائه بعذابه.
﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات﴾ قَالَ محمدٌ: أَي: وتبدل السَّمَوَات ﴿وبرزوا لله﴾ حُفَاة عُرَاة ﴿الْوَاحِد القهار﴾ قَهَرَ عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ وَبِمَا شَاءَ.
قَالَ محمدٌ: وَمعنى تَبْدِيل السَّمَوَات: تَكْوِيرُ شَمْسِهَا، وَخُسُوفُ قَمَرِهَا، وَانْتِثَارُ كَوَاكِبِهَا، وَانْفِطَارُهَا، وَانْشِقَاقُهَا.
376
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
تُبَدَّلُ الأَرْضُ بِأَرْضٍ بَيْضَاءَ؛ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ، وَلَمْ يُسْفَكْ فِيهَا مِحْجَمَةُ دمٍ حرامٍ ".
377
﴿وَترى الْمُجْرمين﴾ الْمُشْرِكِينَ ﴿يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ﴾ يَعْنِي:
377
السلَاسِل (يقرن كل إِنْسَان (ل ١٦٨) وَشَيْطَانِهِ الَّذِي كَانَ قَرِينَهُ فِي الدُّنْيَا فِي سِلْسِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ الأَصْفَادِ: صفدٌ) يُقَالُ: صَفَدْتُ الرَّجُلَ؛ إِذَا جَعَلْتُهُ فِي صفدٍ، وَأَصْفَدْتُهُ إِذَا أَعْطَيْتُهُ عَطَاءً.
378
﴿سرابيلهم من قطران﴾ أَيْ: قُمُصُهُمْ، وَالْقَطِرَانُ: هُوَ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الإِبْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (سرابيلهم من قطران) أَيْ: مِنْ صفرٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ هُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب﴾ أَيْ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّار
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كسبت﴾ مَا عَمِلَتْ ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحساب﴾.
يحيى: سَمِعْتُ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ:
يُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَدْرِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّام الدُّنْيَا.
﴿هَذَا بَلَاغ للنَّاس﴾ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ يَعْنِي: الْقُرْآنَ يُبَلِّغُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد﴾ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب﴾ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
378
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
سُورَة الْحجر من الْآيَة (١) إِلَى الْآيَة (٨).
379
سورة إبراهيم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (إبراهيمَ) مِن السُّوَر المكية، وجاءت هذه السورةُ الكريمة على ذِكْرِ مسائل الاعتقاد، والتوحيد، وآياتِ الله عز وجل في هذا الكونِ، كما دعَتْ إلى اتباع الدِّين الخالص: {مِلَّةَ ‌إِبْرَٰهِيمَ ‌حَنِيفٗاۖ}، وقد سُمِّيتْ باسمه عليه السلام، ودعت إلى اتباع الطريق الحقِّ التي دعا إليها كلُّ الأنبياء، كما أورَدتْ ذِكْرَ الجنة والنار، وحال كلٍّ من الفريقين؛ ترغيبًا في الاتباع والطاعة، وترهيبًا عن المعصية والمخالفة، واحتوت على ذِكْرِ عظمة الله في هذا الكونِ الفسيح؛ تثبيتًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَن والاه.

ترتيبها المصحفي
14
نوعها
مكية
ألفاظها
831
ترتيب نزولها
72
العد المدني الأول
54
العد المدني الأخير
54
العد البصري
51
العد الكوفي
52
العد الشامي
55

* قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاْلْقَوْلِ اْلثَّابِتِ فِي اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَا وَفِي اْلْأٓخِرَةِۖ} [إبراهيم: 27]:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ في عذابِ القَبْرِ، فيقال له: مَن رَبُّك؟ فيقول: رَبِّي اللهُ، ونَبيِّي محمَّدٌ ﷺ؛ فذلك قولُهُ عز وجل: {يُثَبِّتُ اْللَّهُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاْلْقَوْلِ اْلثَّابِتِ فِي اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَا وَفِي اْلْأٓخِرَةِۖ} [إبراهيم: 27]». أخرجه مسلم (٢٨٧١).

* سورة (إبراهيمَ):

سُمِّيتْ سورة (إبراهيمَ) بذلك؛ لأنها تحدَّثتْ - بشكل رئيسٍ - عن سيدنا (إبراهيمَ) عليه السلام، وعَلاقةِ ذلك بالتوحيد.

جاءت موضوعاتُ سورة (إبراهيم) على النحوِ الآتي:

1. منزلة القرآن الكريم، وحُجِّيته على الناس جميعًا (١-٤).

2. دعوة الرُّسل في الإخراج من الظُّلمات إلى النور (٥-٨).

3. استفتاح الرسل بالنصر على أعدائهم (للدعاة) (٩-١٨).

4. نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار (١٩- ٣١).

5. عظمة الله في الكون، ونِعَمُه على خَلْقه (٣٢- ٣٤).

6. نبأ إبراهيم عليه السلام في دعوته (٣٥- ٤١).

7. صُوَر من مشاهدِ يوم القيامة (٤٢-٥٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /1).

مقصودُ سورة (إبراهيمَ) هو التوحيدُ، وبيانُ أن هذا الكتابَ غايةُ البلاغ إلى الله؛ لأنه كافل ببيان الصراط الدالِّ عليه، المؤدي إليه، وأدلُّ ما فيها على هذا المَرامِ: قصةُ (إبراهيم) عليه السلام.

أما أمرُ التوحيد في قصة (إبراهيم) عليه السلام: فواضحٌ في آيات كثيرة من القرآن، والتوحيدُ هو ملَّةُ (إبراهيمَ) عليه السلام، التي حكَم اللهُ تعالى على مَن رَغِب عنها بقوله: {وَمَن ‌يَرْغَبُ ‌عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥۚ} [البقرة: 130]. وقال الله تعالى في هذه السُّورةِ مبينًا حِرْصَ (إبراهيمَ) عليه السلام على التوحيد: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ اْجْعَلْ هَٰذَا اْلْبَلَدَ ءَامِنٗا وَاْجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ اْلْأَصْنَامَ (35) ​رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرٗا مِّنَ اْلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (36)} [إبراهيم: 35-36].

وأما أمرُ الكتاب: فلأنه من جملةِ دعائه لذريتِه الذين أسكَنهم عند البيت المُحرَّم؛ ذريةِ (إسماعيلَ) عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}[سورة البقرة: 129].

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السُّور" للبقاعي (2 /198).