ﰡ
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)
الإعراب:
(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الر تقدم اعرابها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر وقرآن عطف على الكتاب ومبين صفة للقرآن وساغ عطف قرآن على الكتاب وإن كان المراد واحدا للتعدد اللفظي
«تنكير القرآن للتفخيم وكذا تعريف الكتاب». (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ربما: كافة ومكفوفة، قال أبو حيان: «ولما كانت «رب» عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ود لما كان المستقبل في اخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي فكأنه قيل ود وليس ذلك بلازم بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة الى دخولها على الماضي ومما وردت فيه للمستقبل قول هند أم معاوية:
يا رب قائلة غدا... يا لهف أم معاويه
وقول جحدر:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي... عليّ مهذّب رخص البنان
وسيأتي قول مسهب فيها في باب الفوائد، ويود الذين فعل مضارع وفاعل وجملة كفروا صلة ولو مصدرية لوقوعها بعد يود وهي مع مدخولها في تأويل مصدر هو المفعول للودادة والمعنى يودون كونهم مسلمين، ويجوز أن تكون لو امتناعية ويكون جوابها محذوفا تقديره لو كانوا مسلمين لسروا بذلك إذ تخلصوا مما هم فيه ومفعول يود على هذا التقدير أي ربما يود الذين كفروا النجاة. (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وقد تقدم أن هذا الأمر وأمر دع لا يستعمل لهما ماض إلا قليلا بل يستعمل منهما المضارع نحو «ونذرهم في طغيانهم» ويأكلوا جواب مجزوم على انه جواب الأمر ويتمتعوا عطف على يأكلوا وكذلك يلههم الأمل والأمل فاعل، فسوف الفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) الواو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقرية مجرور لفظا ومنصوب محلا على المفعولية وإلا أداة حصر والواو حالية ولها خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة للكتاب والجملة حالية وقيل الواو زائدة واختار الزمخشري وجها آخر وهو أن تكون جملة لها كتاب معلوم صفة لقرية قال: «والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: «وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون» وانما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: «جاءني زيد عليه ثوب وعليه ثوب» وسيأتي مزيد بحث عن هذا التركيب في باب الفوائد.
(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ما نافية وتسبق فعل مضارع ومن حرف جر زائد وأمة فاعل تسبق محلا وهي مجرورة لفظا وأجلها مفعول به وما يستأخرون عطف على ما تسبق وحمل على لفظ أمة أجلها فأفرد وأنّث وعلى معناها قوله وما يستأخرون فجمع وذكر. (وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل وجملة يا أيها الذي نزل إلخ مقول القول ويا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذي بدل من أي وجملة نزل صلة وعليه متعلقان بنزل والذكر نائب فاعل وإن واسمها واللام المزحلقة ومجنون خبر إن. (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لو ما حرف تحضيض كهلا وتكون حرف امتناع لوجود والفرق بينهما أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا والامتناعية لا يليها إلا الأسماء وقد تقدم بسط ذلك وسيأتي مزيد من بحث لو ما. وتأتينا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبالملائكة متعلقان بتأتينا وإن شرطية وكنت كان واسمها
(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) كلام مستأنف مسوق للرد على دعواهم وفيه لف ونشر مشوش وسيأتي حكمه في باب البلاغة وما نافية وننزل فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن والملائكة مفعول به. وإلا أداة حصر وبالحق حال أي ملتبسا بالحق فالباء للملابسة ويجوز تعليقه بنزل وجعله الزمخشري نعتا لمصدر محذوف أي الا تنزلا ملتبسا بالحق والجميع جائز والواو عاطفة وما نافية وكانوا كان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهمل ومنظرين خبر كان. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ان واسمها ونحن تأكيد لاسم ان أو ضمير فصل لا محل له وجملة نزلنا خبر إن وإنا عطف وله متعلقان بحافظون واللام المزحلقة وحافظون خبر انا. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك صفة للمفعول به المحذوف المفهوم من منطوق الإرسال أي رسلا من قبلك وفي شيع الأولين نعت آخر للمفعول المحذوف والشيع جمعة شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور لفظا مرفوع محلا على الفاعلية وإلا أداة حصر وكانوا كان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا وجملة كانوا به يستهزئون حال أو صفة لرسول.
قال الزمخشري: «وما يأتيهم حكاية حال ماضية لأن «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال» وهذا الذي ذكره الزمخشري هو قول الأكثر من أن «ما» تخلص المضارع للحال وتعينه له وذهب غيره الى أن ما يكثر دخولها على
أودى بنيّ وأعقبوني حسرة | عند الرقاد وعبرة ما تقلع |
له نافلات ما يغب نوالها | وليس عطاء اليوم مانعه غدا |
١- التعبير بالضد: في قوله: «ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» اختلف علماء البلاغة في المراد بهذا التعبير وقد قرر النحاة أن ربما لا تدخل إلا على الماضي؟ وما المراد بمعنى التقليل الذي تفيده رب؟ وقد أجيب عن الاول بأن المترقب في اخبار الله تعالى بمثابة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ود، وأجيب عن الثاني بأن هذا مذهب وارد على سنن العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما يفعل ولا يشكون في ندامته ولا يقصدون تقليله والعقلاء يتحرزون من التعرض من المظنون كما يتحرزون من المتيقن الثابت وهذا الجواب جميل ولكن الاجمل منه أن يقال: إن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا | للمنتهى ومن السرور بكاء |
ربما الجامل المؤبل فيهم | وعناجيج بينهنّ المهار |
وليل كموج البحر أرخى سدوله | عليّ بأنواع الهموم ليبتلي |
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع | فألهيتها عن ذي تمائم محول |
رب رفد هرقته ذلك اليوم | وأسرى من معشر أقيال |
كل الذنابات شمالا كثبا | وأم أوعال كها أو أقربا |
«اختلف في الضمير العائد الى النكرة هل هو معرفة أو نكرة فإن قلنا بأن ضمير النكرة نكرة وبه قال السيرافي والزمخشري وجماعة فلا إشكال في دخول رب على الضمير لأنه لما أبهم من جهة تقديمه على المفسر من جهة وقوعه للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد وشاع من جهة
رب رجل جواد سألقى أو لألقين لأن التقليل في الماضي شائع ولا كذلك في المستقبل لأنه لم يعلم فيتحقق تقليله» قال: وتلزم أبدا الصدر لشبهها بحرف النفي من جهة مقاربة التقليل للنفي لأن النفي اعدام الشيء وتقليله تقريب من إعدامه ولأن العرب استعملوا القليل في موضع النفي قال الشاعر:
قلما يبرح المطيع هواه | كلفا ذا صبابة وجنون |
وهناك أبحاث تتعلق برب لا يتسع لها صدر هذه الفوائد.
٢- واو الحال أيضا: مما توهم فيه النحاة اشتراطهم في واو الحال عدم اقترانها بإلا الإيجابية ومن العجيب أن يتورط في هذا الوهم
نعم امرأ هرم لم تعر نائبه | إلا وكان لمرتاع بها وزرا |
٣- لو ما: لو ما ولولا لهما وجهان أحدهما أن يدلا على امتناع جوابهما لوجود تاليهما فيختصان بالجمل الاسمية والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة:
لولا ولو ما يلزمان الابتداء | إذا امتناعا بوجود عقدا |
لو ما الاصاخة للوشاة لكان لي | من بعد سخطك في رضاك رجاء |
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٢ الى ٢٠]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦)
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
(نَسْلُكُهُ) : ندخله يقال سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته فيها وفي المختار: «السلك بالكسر الخيط وبالفتح مصدر سلك الشيء في الشيء فانسلك أي أدخله فيه فدخل وبابه نصر قال الله تعالى:
«كذلك نسلكه في قلوب المجرمين» واسلك لغة فيه» وفي القاموس وغيره: سلك يسلك بضم اللام في المضارع سلكا وسلوكا المكان دخل فيه والطريق سار فيه متبعا إياه وأسلك الشيء في الشيء أدخله فيه كما يسلك الخيط في الإبرة وسلكه المكان وأسلكه المكان وفيه وعليه أدخله فيه.
(سُكِّرَتْ) : حيرت أو حبست من الأبصار أو سدت يقال سكرت النهر سكرا من باب قتل سددته والسكر بالكسر ما يسد به وفي القاموس وشرحه وغيرهما: سكر يسكر الإناء سكرا من باب قتل:
ملأه والنهر جعل له سدا والباب سده وسكرت الريح سكورا
الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها | مثعنجر من دم الأجواف أسكوب |
أيادي بيضا بيّضت وجه مطلبي | وقد كنت في ظلمائه أتسكع |
أتاني أبيت اللعين أنك لمتني | وتلك التي تستك منها المسامع |
بم التعلل لا أهل ولا وطن | ولا نديم ولا كأس ولا سكن |
قال النابغة:
بضرب يزيل الهام عن سكناته | وطعن كايزاغ المخاض الضوارب |
والعلم في شهب الأرماح ساطعة | بين الخمسين لا في السبعة الشهب |
والمد زيد ثالثا في الواحد | همزا يرى في مثل كالقلائد |
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإدخال ندخله في قلوب المجرمين ونسلكه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفي قلوب المجرمين متعلقان بنسلكه.
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مفسرة لقوله نسلكه فلا محل لها ويؤمنون فعل مضارع وفاعل وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وقد: الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلت سنة الأولين فعل وفاعل والجملة حالية ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة أي مضت سنة الله في إهلاكهم وتعذيبهم. (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) الواو عاطفة ولو امتناعية شرطية وفتحنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بفتحنا وبابا مفعول به ومن السماء صفة لبابا والفاء عاطفة وظل واسمها وسيأتي في باب البلاغة ذكر الضمير في يعرجون وفيه متعلقان بيعرجون وجملة يعرجون خبر ظل. (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) اللام واقعة في جواب لو وقالوا فعل وفاعل وانما كافة ومكفوفة وسكرت أبصارنا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو وجملة إنما سكرت أبصارنا مقول القول
(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) إلا أداة استثناء ومن اسم موصول في موضع نصب على الاستثناء المتصل إن فسر الحفظ بمعنى المنع أي منع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة، أو الاستثناء المنقطع إن فسر بالمنع من دخولها والتصرف فيها.
والفاء عاطفة وأتبعه فعل ماض ومفعول به وشهاب فاعل ومبين صفة.
(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) والأرض نصب على الاشتغال أي مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده ومددناها فعل وفاعل ومفعول به وألقينا فعل وفاعل وفيها متعلقان بألقينا ورواسي مفعول به أي جبالا ثابتة لئلا تميد بأهلها. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) وأنبتنا عطف على ما قبله وفيها متعلقان بأنبتنا ومن كل شيء صفة للمفعول به المحذوف أي نباتا من كل شيء، وموزون صفة أي معلوم مقداره. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) وجعلنا عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بجعلنا أو في موضوع المفعول الثاني وفيها حال ومعايش مفعول جعلنا ومن الموصول عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم
البلاغة:
في قوله تعالى «كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون» تشبيه تمثيلي للعناد المستحوذ عليهم واللدد الراسخ في صدورهم وتفصيل ذلك أن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويداءاتها كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدّق به هؤلاء كل على علم وبينة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى من الآن، وهم في مهلة وإمكان: انهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين ليكون أدحض لأية حجة يختلقونها وأنقى لكل ادعاء يخرصون به ولذلك عقبه الله تعالى بقوله «ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا» إلخ أي إن هؤلاء فهموا القرآن حق الفهم واكتنهوا أسراره، وسبروا أغوار معجزاته وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك الى قرارات نفوسهم ووقر في أسماعهم ولكنهم قوم ديدنهم العناد وشيمتهم اللجاج والمكابرة حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها الى الايمان بضرورة العيان والمشاهدة وذلك
١- التتميم وقد مر سابقا وذلك بعرض مختلف مجالي المشاهدة والاعتبار.
٢- الاحتراس بكلمة ظلوا خشية أن يكون عروجهم في الظلام فيتعلوا به على عدم الاهتداء.
٣- سكر الابصار على طريق الاستعارة المكنية التبعية.
٤- وفي كلمتي الحصر والاضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر حسب ادعائهم وإيضاح ذلك انهم قالوا: «انما» وهي تفيد الحصر في المذكور آخرا فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير فكأنهم قالوا سكرت أبصارنا لا عقولنا ونحن وإن كنا نتخيل بأبصارنا هذه الأشياء لكنا نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه أي لا حقيقة له ثم قالوا «بل» كأنهم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا بل جاوز ذلك الى عقولنا بسحر صنعه لنا.
وهذه الآيات من الروائع التي يقف البيان أمامها مذعنا.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)اللغة:
(لَواقِحَ) : حوامل لأنها تحمل السحاب وتثيره وفيها قولان أحدهما أنها جمع لاقح إذا جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير ريح عقيم والثاني أنها بمعنى الملاحق وهي الإناث التي في بطونها أولادها، قال:
ليبك يزيد ضارع لخصومة | ومختبط ممّا تطيح الطوائح |
وفيما يلي أقوال كبار اللغويين:
قال أبو عبيدة: اللواقح: جمع ملقح لأنه من ألقح يلقح فهو ملحق فجمعه ملاقح فحذفت الميم تخفيفا يقال ألقحت الريح السحاب كما يقال ألقح الفحل الأنثى.
وقال الفراء: اللواقح: جمع لاقح على النسب كلا بن وتامر أي ذات لقاح.
وفي المختار: «ألقح الفحل الناقة ولريح السحاب، ورياح لواقح ولا تقل ملاقح».
الإعراب:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إن نافية ومن شيء من زائدة في المبتدأ وإلا أداة حصر وعندنا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائنه مبتدأ مؤخر والجملة خبر شيء. (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الواو عاطفة وما نافية وننزله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وبقدر حال من المفعول أي ملتبسا بقدر ولك أن تعلقه بننزله ومعلوم صفة لقدر. (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وأرسلنا الرياح فعل وفاعل ومفعول به ولواقح حال مقدرة من الرياح. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) فأنزلنا الفاء عاطفة وأنزلنا عطف على أرسلنا ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به فأسقيناكموه الفاء عاطفة وأسقى فعل ماض ونا فاعل والكاف مفعول به أول والميم علامة جمع الذكور والواو لا شباع ضمة الميم والهاء مفعول به ثان وما الواو للحال وما نافية حجازية وأنتم اسمها وله متعلقان بخازنين والباء حرف جر زائد وخازنين خبر ما محلا مجرور
البلاغة:
١- الاستعارة التمثيلية في قوله «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه» فقد شبه ما ينتفع به العباد جميعا لا المطر وحده كما قال بعضهم بالخزائن التي تودع فيها المكنونات والمخبآت لا خراج كل شيء بحسب ما اقتضته الحكمة الإلهية ومصالح العباد الحيوية.
٢- الاستعارة المكنية في تشبيه الرياح باللواقح وهي النوق لتوليد المطر مما أفاض الحديث في بسطه ولا يتنافى مع هذه الاستعارة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
(الصلصال) : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ وإذا طبخ فهو فخار، قالوا: إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن، وقيل: الصلصال: طين يابس إذا نقر سمع له صوت أي صلصلة وهو
فعليل وذلك في الاسم والصفة فالاسم قنديل وبرطيل والصفة شنظير وهمهيم فالقنديل معروف والبرطيل حجر طويل قدر الذراع والشنظير السيّء الخلق والهمهيم الذي يردّد ويهمهم ويقال حمار همهيم أي في صوته ترديد من الهمهمة.
ومن ذلك فعلول في الاسم والصفة فالاسم عصفور وزنبور والصفة سرحوب وقرضوب فالعصفور والزنبور معروفان والسرحوب الطويل والقرضوب الفقير وهو من أسماء السيف وربما قيل للص قرضوب.
ومن ذلك فعليل بضم الفاء وسكون العين وفتح اللام الأولى قالوا في الصفة: غرنيق وهو الرفيع السيد والغرنيق من طيور الماء طويل
ومن ذلك فعلول جاء في الاسم والصفة والاسم فردوس وحرذون والصفة علطوس فالفردوس هو البستان والحرذون دويبة كالقطاة والعلطوس الناقة الفارهة.
ومن ذلك فعلول في الاسم والصفة فالاسم فربوس وزرجون والصفة قرقوس وحلكوك فالقربوس للسرج معروف والزرجون الخمر سميت بذلك للونها وأصلها بالفارسية زركون (الزر الذهب والكون اللون) وقال أبو عمرو الجرمي: هو صبغ أحمر.
ومن ذلك فعلول بفتح الفاء والعين وسكون اللام وفتح اللام قالوا كنهور وبلهور، والكنهور: السحاب العظيم والبلهور من ملوك الهند يقال لكل ملك عظيم منهم بلهور ولا نعلمه اسما.
ومن ذلك فعلال ولا يكون إلا في الكلام المضاعف من ذوات الأربعة يكون اسما وصفة فالاسم الزلزال والحثحاث والصفة الصلصال والقسقاس فالزلزال مصدر كالزلزلة والحثحاث بمعنى الحثحثة والصلصال الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف فإن طبخ فهو الفخار والقسقاس الدليل الهادي وقد جاء حرف واحد على فعلال غير مضاعف قالوا ناقة بها خزعال وهو سوء مشي من داء.
ومن ذلك فعلال بكسر الفاء يكون اسما وصفة فالاسم نحو سربال وحملاق والصفة سرداح وهلباج، والسربال القميص والحملاق ما تغطيه الأجفان من العين والسرداح الأرض الواسعة والهلباج الكثير العيوب.
ولي دونكم أهلون سيد عملّس | وأرقط زهلول وعرفاء جيأل |
(حَمَإٍ) : الحمأ: الطين الأسود المتغيّر الرائحة من طول مكثه ويقال الحمأة.
(مَسْنُونٍ) : منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل بينهما يكون منتنا ويسمى سنينا وقيل المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في أمثلتها وقد امتاز فعل سنّ بكثرة معانيه حتى ليكاد المرء يذهل يقال سن يسن السكين من باب نصر أحدّه وشحذه ويقال هذا مما يسنك على الطعام أي يشحذك على أكله ويشهيه إليك وسن الرمع ركب فيه السنان وسن الأسنان سوكها وسن العقدة حلها وسن الإبل ساقها سوقا سريعا وسن الرجل طعنه بالسنان وعضه بأسنانه وكسر أسنانه ومدحه وأطراه وسن الأمر بينه وسهله وأجراه وسن الطريقة سارفيها وسن عليهم السنة وضعها وسن الطين عمله فخارا وسن الشيء صوّره وسن الماء أو التراب
(الْجَانَّ) : للجن كآدم للناس.
(السَّمُومِ) : نار الحر الشديد النافذ من المسام وقيل هي نار لا دخان لها تنفذ في المسام وقيل السموم: ما يقتل من افراط الحر من شمس أو ريح أو نار لأنها تدخل في المسام وهي الثقوب فتقتل وتجمع على سمائم.
(رَجِيمٌ) مطرود وفي المصباح: الرجم بفتحتين الحجارة والرجم القبر سمي بذلك لما يجتمع عليه من الحجارة ورجمته رجما من باب قتل ضربته بالرجم، وفي القاموس: «الرجم: اللعن والشتم والطرد والهجران» والمرجوم المطرود الملعون ولعنه الله طرده وأبعده قال الشماخ:
وماء قد وردت لوصل أروى | عليه الطير كالورق اللّجين |
ذعرت به القطا ونفيت عنه | مقام الذئب كالرجل اللعين |
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا الإنسان فعل وفاعل ومفعول به ومن صلصال جار ومجرور متعلقان بخلقنا ومن حمأ يجوز أن يكون صفة لصلصال وأن يكون
(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) والجان نصب على الاشتغال وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ومن نار السموم متعلقان بخلقناه. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة قال ربك مضافة للظرف وللملائكة متعلقان بقال وإن واسمها وخالق خبرها وبشرا مفعول به لخالق ومن صلصال من حمأ مسنون تقدم اعرابها. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة سويته مضافة للظرف ونفخت عطف على سويته وفيه متعلقان بنفخت ومن روحي صفة لمفعول محذوف أي روحا من روحي والمراد الأحياء وليس ثمة نفخ ولا منفوخ فقعوا الفاء رابطة لجواب إذا وقعوا فعل أمر والواو فاعل وله متعلقان بساجدين وساجدين حال (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فخلقه وسواه ونفخ فيه من روحه فسجد الملائكة وكلهم وأجمعون تأكيدان لزيادة تمكين المعنى وترسيخه في الذهن، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كلهم زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم هل سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت فلما قال أجمعون ظهر أنهم جميعا سجدوا دفعة واحدة. (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) تقدم القول في هذا الاستثناء أنه متصل إما لأنه كان جنيا مغمورا بألوف الملائكة فعدّ منهم تغليبا واما لأنه منهم حقيقة ويجوز أن يكون منقطعا فيتصل به ما بعده أي لكن إبليس أبى أن يكون معهم، وأبى فعل ماض وأن يكون مصدر مؤول منصوب على المفعولية لأبى واسم يكون
بأزينن وفي الأرض حال ولأغوينهم عطف على لأزينن وأجمعين تأكيد للضمير. (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعبادك مستثنى والمخلصين صفة ومنهم حال. (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هذا مبتدأ وصراط خبر وعلي متعلقان بمحذوف صفة أي حق ومستقيم صفة ثانية أي هذا طريق حق علي أن أراعيه ولا أتجاوزه وهو: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فالجملة تفسيرية للصراط المستقيم الذي أوجبت على نفسي التزامه وان واسمها وجملة ليس خبر ولك خبر ليس المقدم وعليهم حال لأنه كان صفة لسلطان وسلطان اسم ليس المؤخر.
قال ابن هشام: «قول كثير من النحويين في قوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك» إنه دليل على جواز استثناء الأكثر من الأقل والصواب ان المراد بالعباد المخلصون لا عموم المملوكين وان الاستثناء منقطع بدليل سقوطه في الآية ٦٥ سورة الاسراء «ان عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا» وتعقبه الدماميني بقوله: «اختياره لكون الاستثناء منقطعا مقدوح
(إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) قيل هو استثناء من غير الجنس لأن المراد بعبادي الموحدون ومتبع الشيطان غير موحد وقيل هو من الجنس لأن عبادي جميع المكلفين ومن الغاوين حال. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وموعدهم خبر إن وأجمعين تأكيد للضمير. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) لها خبر مقدم وسبعة أبواب مبتدأ مؤخر ولكل باب خبر مقدم ومنهم حال لأنه كان صفة لجزء وجزء مبتدأ مؤخر ومقسوم نعت لجزء أيضا والمراد بالجزء الطائفة.
البلاغة:
١- الإيجاز في قوله «قال هذا صراط علي مستقيم» ولعله من أبلغ الايجازات لأنه قسيم الإيجاز بالحذف فهو إيجاز بالتقدير وهو قسمان: أحدهما ما ساوى لفظه معناه، وثانيهما ما زاد معناه على لفظه ويسمى بالقصر إذ يدل لفظه على محتملات عديدة ومشتملات كثيرة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها لا بل يستحيل ذلك
لما أرسل المهلب بن أبي صفرة أبا الحسن المدائني الى الحجاج ابن يوسف يخبره أخبار الأزارقة كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدده هنا وذلك ان الحجاج سأله فقال كيف تركت المهلب؟ فقال أدرك ما أمّل وأمن مما خاف فقال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: كيف جنده له؟ قال: أولاد بررة، قال: كيف رضاهم عنه؟
الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القريّة، والحجاج أفصحهم، قال يوما لطباخه: اطبخ لنا مخلّلة وأكثر عليها الفيجن (أي السذاب وهو نبات ورقه كالصعتر) واعمل لنا مزعزعا فلم يفهم عنه الطباخ فسأل بعض ندمائه فقال له: اطبخ له سكباجا وأكثر عليها من السذاب واعمل له فالوذا سلسا. وسترى نماذج من الإيجاز في أماكن كثيرة يتم بها شرط الكتاب.
٢- الاستثناء في قوله تعالى: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس» فإن هذا الاستثناء لو لم يتقدم لفظه هذا الاحتراس من قوله كلهم أجمعون لا حتمل- كما أشرنا في الاعراب- أن يكون في الملائكة من لم يسجد فيتأسى به إبليس ولا يكون منفردا بهذه الكبيرة لاحتمال أن تكون آلة التعريف للعهد لا للجنس فلما كان هذا الاشكال يتوجه على الكلام إذا اقتصر فيه على ما دون التوكيد وجب الإتيان بالتوكيد ليعلم أن آلة التعريف للجنس فيرتفع هذا الإشكال بهذا
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
اللغة:
(غِلٍّ) : الغل بكسر الغين الحقد الكامن في القلب من انغل في جوفه وتغلغل ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد وتقول: جعل الله في كبده غلة وفي صدره غلّا وفي ماله غلو لا وفي رقبته غلا فالغل بالضم القيد وهي مادة تدل على التغلغل مطابقة للفظها يقال وبي وجد تغلغل في الحشا وأبلغ فلانا مغلغلة وهي الرسالة الواردة من بلد بعيد وغلغلت اليه رسالة قال الأخطل:
لأغلغلن إلى كريم مدحة | ولأثنينّ بنائل وفعال |
وأرفع صدر العنس وهي شملّة | إذا ما السرى مالت بلوث العمائم |
(سِجِّيلٍ) طين طبخ بالنار.
(لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرسين والمعتبرين المتأملين والتوسم تفعل من الوسم والتوسم أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البقر أو غيره، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك الى قدمك.
(القطع) تقدم تفسيره ولا يكون إلا في آخر الليل، قال:
افتحي الباب وانظري في النجوم | كم علينا من قطع ليل بهيم |
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) الفاء الفصيحة وأسر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبأهلك حال وبقطع متعلقان بأسر ومن الليل صفة لقطع. (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) واتبع عطف على فأسر وأدبارهم مفعول به والواو حرف عطف ولا ناهية ويلتفت مجزوم بلا ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة وأحد فاعل وامضوا عطف أيضا وحيث ظرف مبهم في محل نصب مفعول لأمضوا ولإبهامه تعدى إليه الفعل من غير واسطة وجملة تؤمرون
البلاغة:
شملت الآية الكريمة وهي «فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون» شملت على وجازتها آداب المسافرين لأمر مهم ديني أو دنيوي من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع وسنلخص ما ورد فيها من آداب:
١- أمره بأن يقدمهم أمامه لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم.
٢- جعل السرى في آخر الليل لأنه أخفى للويل ولأن الإنسان يكون نشيطا فيه.
٤- ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض فيصيبه العذاب ولأن المتلفت يقف دائما ويتذكر مرابعه ومراتعه فيتحسر ويأسى وقد يدوم النشيج كما حدث للصمة بن عبد الله.
تلفت نحو الحي حتى وجدتني | وجعت من الإصغاء ليتا واخدعا |
ولقد وقفت على ديارهم | وطلولها بيد البلى نهب |
وبكيت حتى ضج من لغب | نضوي ولج بعذلي الركب |
وتلفتت عيني فمذ خفيت | عني الطلول تلفت القلب |
وفي أمثال العرب: «أجور من قاضي سدوم» قالوا بفتح السين مدينة من مدائن قوم لوط، قال الأزهري قال أبو حاتم في كتابه الذي صنفه في المفسد والمذال: إنما هو سذوم بالذال المعجمة والدال خطأ قال الأزهري: وهذا عندي هو الصحيح قال الطبري: «هو ملك من بقايا اليونانية غشوم كان بمدينة سرمين من أرض قنسرين» وهذا هو الذي اعتمده صاحب القاموس فحمله على تغليط الجوهري وقال الثعالبي: إن سدوم من الملوك المتقدمين المتصفين بالجور «كالة» قاض
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨٥]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥)
اللغة:
(الْأَيْكَةِ) : هي غيضة شجر بقرب المدينة وأصحابها هم قوم شعيب وفي المختار: الأيك الشجر الملتف والكثير والواحدة أيكة مثل تمر وتمرة.
(الْحِجْرِ) : واد بين المدينة والشام وهم قوم ثمود.
الإعراب:
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) الواو استئنافية أو عاطفة وإن
الفاء عاطفة وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما فاعل وجملة كانوا صلة وجملة يكسبون خبر كانوا ويجوز أن تكون ما استفهامية مفعولا مقدما لأغنى ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد. (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) الواو عاطفة وما نافية وخلقنا السموات فعل وفاعل ومفعول به والأرض عطف على السموات وإلا أداة حصر وبالحق حال والباء للملابسة أي ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وآتية خبرها والفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والصفح مفعول مطلق والجميل صفة.
البلاغة:
١- في قوله تعالى: «وان كان أصحاب الأيكة لظالمين» مجاز مرسل علاقته الحالية لأن الأيكة هي شجر ملتف مزدحم.
٢- في قوله «لبإمام مبين» استعارة تصريحية لأن الطريق سبيل للوصول والمسافر فيه يتبعه حتى النهاية فاستعمل المشبه به بدلا عن المشبه.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٦ الى ٩٩]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
(الْمَثانِي) : المراد بالمثاني هنا مختلف فيه فقيل الفاتحة لأنها تثنى في كل ركعة وهي سبع آيات وقيل هي السور السبع الطوال وهي جمع مثناة مؤنث مثنى وقد تقدم بحثه مفصلا في النساء وسميت السور السبع الطوال مثاني لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد والكلام في ذلك مبسوط في المطولات.
(عِضِينَ) : جمع عضة وأصلها عضوة من عضي الشاة إذا جعلها أعضاء وقيل عضهة من عضهته إذا بهته وفي المختار: «قال الكسائي:
العضة الكذب والبهتان وجمعها عضون مثل عزة وعزون قال الله تعالى:
(فَاصْدَعْ) : فاجهر به وأظهره يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا كقولك صرح بها من الصديع وهو الفجر والصدع في الزجاجة الإبانة وقال الضحاك: وأصل الصدع الشق والفرق أي افرق بين الحق والباطل وسيأتي مزيد بحث عن هذا التعبير العجيب في باب البلاغة.
الإعراب:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وخبرها، وهو ضمير فصل (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) كلام مستأنف مسوق لتنبيه المسلمين الى أن ما أنزل عليهم خبر من متاع الدنيا قيل:
وافت من بصرى وأذرعان سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم الله عز وعلا لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وسبعا مفعول به ثان ومن المثاني صفة لسبعا والقرآن عطف على سبعا من قبيل عطف الصفات مع وحدة ذات الموصوف والعظيم صفة للقرآن. (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) لا ناهية وتمدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد
(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة والواو للقسم وربك مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، واللام واقعة في جواب القسم ولنسئلنهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجمعين تأكيد (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصدع، واصدع فعل أمر وفاعله أنت وبما متعلقان به وما مصدرية أو موصولة وعن المشركين متعلقان بأعرض. وقد رجح ابن هشام في المغني أن تكون مصدرية وعلل ذلك ابن الشجري قال: فيه أي في الموصولية خمسة حذوف والأصل بما تؤمر بالصدع به فحذفت
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به | فقد تركتك ذا مال وذا نشب |
الفاء الفصيحة وسبح بحمد ربك تقدم إعرابه قريبا وكن مع الساجدين كان واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبرها والساجدين مضاف اليه. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر ويأتيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والكاف مفعول به واليقين فاعل وسمي الموت يقينا لأنه متيقن الوقوع.
البلاغة:
١- في قوله «فاصدع بما تؤمر» استعارة مكنية فالمستعار منه الزجاجة والمستعار الصدع وهو الشق والمستعار له هو عقوق المكلفين وهو من استعارة المحسوس للمعقول وقد تقدمت الاشارة الى أقسام الاستعارة والمعنى صرح بجميع ما أوحي إليك وبين كل ما أمرت ببيانه وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض والانبساط ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر ذلك على ظاهر الزجاجة المصدوعة فانظر الى هذه الاستعارة ما أروعها وما أبعد دلائلها ومراميها وما أوجزها لأنها وقعت في ثلاث كلمات انطوت على ما يستوعب الصفحات، قال عبد الله بن عبيدة ما زال النبي ﷺ مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه.
ويروى أن بعض الأعراب لما سمع هذه اللفظات الثلاث سجد فقيل له: لم سجدت؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام لأنه أدرك منه بديها من غير تأمل كل ما أدركناه بعد الروية والنظر ومن هذا يتبين لك أن العرب تيقنت من أول ما سمعت القرآن أنه غير مقدور للبشر فلم تشتغل بالمعارضة ولا حدثت نفوسها بها.
الفوائد:
الملحق بجمع المذكر السالم:
حملوا على جمع المذكر السالم أربعة أنواع أعربت بالحروف وليست جمعا مذكرا سالما وهي كما يلي:
الأول: أسماء جموع: وهي: أولو بمعنى أصحاب، وعالمون اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعا له لأن العالم عام في العقلاء وغيرهم والعالمون مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعا لما هو أعم منه، وعشرون وبابه وهو سائر العقود الى التسعين وقد وردت العقود كلها في القرآن وقد أحصيناها على الشكل التالي:
آ- «ان يكن منكم عشرون صابرون».
ب- «وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة».
ج- «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما».
د- «فإطعام ستين مسكينا».
هـ- «ذرعها سبعون ذراعا».
و «فاجلدوهم ثمانين جلدة».
الثاني: جموع تكسير تغير فيها بناء الواحد وأعربت بالحروف وهي: (بَنُونَ) جمع ابن وقياس جمعه جمع السلامة ابنون كما يقال في تثنيته ابنان ولكن خالف تصحيحه تثنيته لعلة تصريفية أدت الى حذف الهمزة وذلك أن ابن أصله بنو حذفت لامه للتخفيف وعوض عنها همزة الوصل والجمع يرد الأشياء إلى أصولها فلما جمع رجعت الواو فذهبت الهمزة ثم حذفت الواو والمحذوف لعلة كالثابت فلم تأت الهمزة وأما التثنية فلو رجعت الواو لم يكن هناك ما يقتضي حذفها لأنها متحركة بالفتح والفتح خفيف وقد حذفت أولا لغرض التخفيف فلو حذفت لزال ذلك الغرض والمانع من حذفها لو رجعت ومن قلبها ألفا سكون ما بعدها كما في بيان ولو حذفت لصار اللفظ بنان فيحصل اللبس ببنان الكف بخلاف بنون فليتأمل وأرضون بفتح الراء جمع أرض بسكونها وجمع هذا الجمع لأنه ربما يورد في مقام الاستعظام كقوله:
لقد ضجت الأرضون إذ قام من بني | سدوس خطيب فوق أعواد منبر |
الثالث: مما حمل على هذا الجمع جموع تصحيح لم تستوف شروط الجمع كأهلون ووابلون لأن أهلا ووابلا ليسا علمين ولا صفتين ولأن وابلا غير عاقل والمعروف أن شرط هذا الجمع أن يكون لعلم من يعقل أو صفته.
الرابع: ما سمي به من هذا الجمع ومما ألحق به فالأول نحو زيدون مسمى به شخص والثاني كعليون فإنه ملحق بهذا الجمع وسمي به أعلى الجنة قال تعالى: «إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون» وهناك تفاصيل أخرى لا حاجة إلى إثباتها لأنها دون الفصيح ولهذا أضربنا عن ذكرها ويرجع إليها في المطولات.
سورة الحجر
سورةُ (الحِجْرِ) مِن السُّوَر المكية، وقد سعَتْ هذه السورةُ إلى إقامةِ الحُجَّة على الكافرين في سنَّةِ الله في إرسال الرُّسُل، الذين أوضَحوا طريق الحقِّ والهداية ودعَوْا إليه، وبيَّنُوا طريقَ الغَوايةِ وحذَّروا منه، وجاءت هذه السورةُ بأمرٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في طريق الدعوة، والدَّلالة على الله عز وجل؛ فالله ناصرُه وكافيه: {فَاْصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].
ترتيبها المصحفي
15نوعها
مكيةألفاظها
658ترتيب نزولها
54العد المدني الأول
99العد المدني الأخير
99العد البصري
99العد الكوفي
99العد الشامي
99سورةُ (الحِجْرِ):
سُمِّيتْ سورةُ (الحِجْرِ) بذلك؛ لذِكْرِ (الحِجْرِ) فيها، ولم يُذكَرْ في أيِّ سورة أخرى.
جاءت موضوعاتُ السورة على النحو الآتي:
1. سُنَّة الله تعالى في إرسال الرسل (١-١٥).
2. إقامة الحُجة على الكافرين (١٦- ٢٥).
3. بيان أصل الغَواية والهِداية (٢٦- ٤٨).
4. مَصارِعُ الغابرين (٤٩-٨٤).
5. الخطاب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالمُضيِّ في أمرِ الدعوة (٨٥- ٩٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /93).
مِن مقاصدِ السورة: وصفُ الكتاب بأنه في الذِّروة من الجمعِ للمعاني، الموضِّحةِ للحق من غير اختلافٍ أصلًا، وأقرَبُ ما فيها وأمثَلُه وأشبَهُه بهذا المعنى: قصةُ أصحاب (الحِجْرِ).
وكذا مِن مقاصدها: تثبيتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتظارُ ساعة النَّصر، وأن يَصفَحَ عن الذين يؤذونه، ويَكِلَ أمرهم إلى الله، ويشتغِلَ بالمؤمنين، وأن اللهَ كافِيهِ أعداءَه.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /20) ، "التَّحرير والتنوير" لابن عاشور (14 /7).