تفسير سورة الحج

نيل المرام تفسير آيات الأحكام

تفسير سورة سورة الحج من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام.
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة الحج وآياتها ثمان وسبعون آية
هي مكيّة، أو مدنيّة. والجمهور على أنها مختلطة: منها مكيّة، ومنها مدنيّة.
قال الجمهور: إن السورة مختلطة: منها مكي ومنها مدني.
قال القرطبي «١» : وهذا هو الصحيح.
قال العزرمي: وهي من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها.
وقد وردت في فضلها الأحاديث «٢».
[الآية الأولى]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥).
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ: أي الإعادة بعد الموت فانظروا في مبدإ خلقكم.
(١) في «تفسيره» (١٢/ ١).
(٢) انظر هذه الأحاديث في: «ضعيف أبي داود (٣٠٣)، (١٤٠٢)، وكذلك الترمذي (٨٩/ ٥٨٣)، وضعيف الجامع الصغير» (٣٩٨٢)، (٣٩٨٣)، والمشكاة (١٠٣٠) للألباني.
378
فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ: في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام.
مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ: أي من مني، سمي نطفة لقلته. والنطفة: القليل من الماء قد يقع على الكثير منه، والنطفة: القطرة.
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ: هي الدّم الجامد «١».
والعلق الدم العبيط، أي الطري المتجمد.
وقيل: الشديد الحمرة. والمراد الدم المتكون من المني.
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ: هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ، تتكون من العلقة.
مُخَلَّقَةٍ بالجر صفة لمضغة، أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير.
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ: أي لم يتبين خلقها ولا ظهر تصويرها.
قال ابن الأعرابي: مخلقة يريد قد بدا خلقها وغير مخلقة لم تصور.
قال الأكثر: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة، أي غير حي بإكمال خلقته بالروح.
قال الفراء: مخلقة تامة الخلق، وغير مخلقة السقط. ومنه قول الشاعر:
أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء؟
والمعنى إنا خلقناكم على هذا النمط البديع «٢».
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ كمال قدرتنا على ما أردنا كإحياء الأموات وبعثهم، فآمنوا بذلك وتيقنوا، والآية من شواهد البعث بعد الموت.
(١) قال الخليل: العلق: الدّم قبل أن ييبس، الواحدة علقة، وهكذا تصير النطفة.
وقال أبو عبيد: العلق من الدم ما اشتدت حمرته.
وقال الأزهري: العلقة: الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل للدابة التي تكون في الماء: علقة، لأنها حمراء كالدّم، وكل دم غليظ علق. وانظر: تهذيب اللغة (١/ ٢٤٣)، ومعاني النحاس (٤/ ٣٧٧).
(٢) انظر: الطبري (١٧/ ١١٧)، والدر (٤/ ٣٤٥)، والزجاج (٣/ ٤١٢)، والفراء (٢/ ٢١٥)، وابن كثير (٥/ ٣٩١).
379
الآية الثانية
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩).
هذانِ خَصْمانِ: أحدهما: أنجس الفرق اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا.
والخصم الآخر: المسلمون، فهما فريقان مختصمان. قاله الفراء وغيره.
وقيل: المراد بالخصمين الجنة والنار: قالت الجنة: خلقني لرحمة، وقالت النار:
خلقني لعقوبة.
وقيل: المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر: فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول «١».
وقد ثبت في «الصحيح» أيضا عن عليّ عليه السلام أنه قال: فينا نزلت هذه الآية «٢».
وقال سبحانه: اخْتَصَمُوا ولم يقل اختصما؟
قال الفراء: لأنهم جمع ولو قال اختصما لجاز.
ومعنى فِي رَبِّهِمْ: أي في شأن ربهم، أي في دينه، أو في ذاته، أو في صفاته، أو في شريعته لعباده أو في جميع ذلك.
(١) انظر: معاني النحاس (٤/ ٣٧١)، والطبري (١٧/ ١٠٩)، والقرطبي (١٢/ ٢٦).
وحديث النزول رواه البخاري (١٣/ ٤٣٤) ومسلم (١٨/ ١٦٦، ١٦٧) عن قيس بن عباد عن أبي ذر فذكره.
(٢) حديث صحيح: رواه البخاري (٧/ ٢٩٧).

[الآية الثالثة]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥).
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ: المراد بالصد هنا الاستمرار، لا مجرد الاستقبال فصح بذلك عطفه على الماضي. ويجوز أن تكون الواو في: وَيَصُدُّونَ، واو الحال أي كفروا والحال أنهم يصدون.
والمراد بالصد المنع.
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دينه.
فالمعنى يمنعون من أراد الدخول في دين الله.
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ: معطوف على سبيل الله.
قيل: المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني.
وقيل: الحرم كله لأن المشركين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه عنه يوم الحديبية. وقيل: المراد به مكة، بدليل قوله:
الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً: أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به، مستويا فيه «١».
الْعاكِفُ: هو المقيم فيه الملازم له.
وَالْبادِ أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية، أو من غيرهم.
قال القرطبي «٢» : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه، واختلفوا في مكة.
فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ.
وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد
(١) حكى أبو حاتم أن بعضهم قرأ سَواءً بالنصب، و «العاكف فيه والبادي» بالخفض.. والمعنى:
الذي جعلناه للناس، العاكف والبادي: معاني النحاس (٤/ ٣٩١)، والنشر (٢/ ٣٢٦)، ومعاني الفراء (٢/ ٢٢٢).
(٢) انظره في «تفسيره» (١٢/ ٣٢).
وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبى.
وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها.
والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين:
الأول: ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد نفسه؟ أو جميع الحرم؟ أو مكة على الخصوص.
والثاني: هل كان فتح مكة صلحا؟ أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة، فهل أقرها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أيدي أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟
وقد أوضح الشوكاني رحمه الله هذا في شرحه «نيل الأوطار على منتقى الأخبار» «١» بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة.
[الآية الرابعة]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦).
وَالْبُدْنَ: قرأ ابن أبي إسحاق بضم الباء والدال، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان.
وهذا الاسم خاص بالإبل وسمّيت بدنة لأنها تبدن.
والبدانة: السمن «٢».
وقال أبو حنيفة ومالك: إنه يطلق على غير الإبل.
والأول للأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل. وقال ابن كثير في «تفسيره» «٣» : واختلفوا في صحة إطلاق البدن على
(١) انظر: نيل الأوطار (٨/ ١٦٤، ١٧٥). [.....]
(٢) انظر: تفسير القرطبي (١٢/ ٦٠).
(٣) انظر في تفسيره: (٣/ ٢٣٢).
382
البقرة على قولين، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث «١».
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ: أي أعلام دينه.
لَكُمْ فِيها خَيْرٌ: أي منافع دينية ودنيوية.
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ: أي على نحرها.
ومعنى صَوافَّ: أنها قائمة قد صفنت قوائمها لأنها تنحر قائمة معقولة.
وأصل هذا الوصف في الخيل، يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة.
وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري: صوافي: أي خوالص لله لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا «٢».
وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور، وواحد صوافي صافية.
وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جفر محمد بن علي، صوافن بالنون جمع صافنة: وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ومنه قوله تعالى:
الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١).
فَإِذا وَجَبَتْ: الوجوب السقوط، أي فإذا سقطت بعد نحرها.
جُنُوبُها: وذلك عند خروج روحها.
فَكُلُوا مِنْها: ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب. وكذا قوله: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن شريح «٣».
وقال الشافعي وجماعة: هو للوجوب.
واختلف في القانع من هو؟ فقيل: هو السائل. وقيل: هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة. ذكر معناه الخليل، وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن، وروي عن ابن عباس. وبالثاني قال عكرمة وقتادة.
(١) الذي رواه مسلم (٩/ ٦٧، ٦٨).
(٢) وهذه قراءة شاذة كما في «المحتسب» (٢/ ٨١)، والقرطبي (١٢/ ٦١)، والألوسي (١٧/ ١٥٦).
وقرأ ابن مسعود أيضا: صوافن وهي قراءة شاذة أيضا، جمع: صافنة، وهي التي غطت إحدى قوائمها ووقفت على ثلاث، وانظر: المحتسب (٢/ ٨١)، والألوسي (١٧/ ١٥٦).
(٣) انظر هذه الآثار في: الطبري (١٧/ ١٦٧)، والدر المنثور (٤/ ٣٦٣).
383
وأما المعتر فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن:
إنه الذي يتعرض من غير سؤال وقيل: هو الذي يعتريك ويسألك.
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والمعتر الزائر.
وروي عن ابن عباس أن كلاهما الذي لا يسأل ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل والمعتر الذي يعترض لك ولا يسألك.
كَذلِكَ: التسخير البديع.
سَخَّرْناها لَكُمْ: فصارت تنقاد لكم إلى موضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها، بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهورها والحلب لها ونحو ذلك.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) : هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم.
384
سورة الحج
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الحَجِّ) من السُّوَر المدنيَّة، ومع ذلك فإنها جاءت على ذِكْرِ كثيرٍ من موضوعات السُّوَر المكِّية؛ مثل: بيان مسائلِ الاعتقاد والتوحيد، وما يَتعلَّق بمَشاهِدِ يوم القيامة وحسابِ الله عز وجل للخَلْقِ، إلا أن مِحوَرَها الرئيس كان حول رُكْنِ (الحَجِّ)، وما يتعلق به من أحكامٍ تشريعية، ودَوْرِ هذا الرُّكن في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بأحكامٍ تشريعية تتعلق بالجهاد وقتال المشركين؛ فقد مزَجتِ السورةُ بين موضوعات السُّوَر المكِّية والمدنيَّة، إلا أن مِحوَرَها تشريعيٌّ؛ كما أشرنا.

ترتيبها المصحفي
22
نوعها
مدنية
ألفاظها
1281
ترتيب نزولها
103
العد المدني الأول
76
العد المدني الأخير
76
العد البصري
75
العد الكوفي
78
العد الشامي
74

* قوله تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ فَاْلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ اْلْحَمِيمُ} [الحج: 19]:

عن قيسِ بن عُبَادٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «أنا أوَّلُ مَن يجثو بين يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ».

قال قيسٌ: «وفيهم نزَلتْ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ}، قال: هم الذين بارَزوا يومَ بَدْرٍ: عليٌّ، وحَمْزةُ، وعُبَيدةُ، وشَيْبةُ بنُ ربيعةَ، وعُتْبةُ بنُ ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتْبةَ». أخرجه البخاري (٤٧٤٤).

* قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا خرَجَ النبيُّ ﷺ من مكَّةَ، قال أبو بكرٍ: أخرَجوا نبيَّهم! إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون! لَيَهلِكُنَّ؛ فنزَلتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، قال: فعرَفْتُ أنَّها ستكونُ».

قال ابنُ عباسٍ: «فهي أوَّلُ آيةٍ نزَلتْ في القتالِ». أخرجه ابن حبان (٤٧١٠).

* سورة (الحَجِّ):

سُمِّيت سورة (الحَجِّ) بذلك؛ لأنها جاءت على ذِكْرِ رُكْنِ (الحَجِّ).

* فُضِّلتْ سورةُ (الحَجِّ) بأنها السورةُ الوحيدة من سُوَرِ القرآن الكريم التي جاء فيها سجدتانِ:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، فُضِّلتْ سورةُ الحَجِّ بأنَّ فيها سجدتَيْنِ؟ قال: «نَعم، ومَن لم يسجُدْهما فلا يَقرَأْهما». أخرجه الترمذي (٥٧٨).

جاءت سورة (الحَجِّ) على ذِكْرِ الكثير من الموضوعات؛ وهي:

1. الأمر بالتقوى، والإيمان بالساعة (١-٢).

2. المجادلة بغير علم (٣-٤).

3. الأدلة على البعث (٥-٧).

4. المجادلة بغير علم (٨-١٦).

5. الفصل بين الأُمَم، والاعتبار (١٧-٢٤).

6. الصد عن سبيل الله والمسجدِ الحرام (٢٥-٣٧).

7. الإذن بالقتال والدفاع عن المؤمنين (٣٨-٤١).

8. الاعتبار بهلاك الأُمَم السابقة (٤٢-٤٨).

9. إحكام الوعيِ للنبي صلى الله عليه وسلم (٤٩ - ٦٠).

10. من دلائلِ قدرة الله تعالى (٦١-٦٦).

11. بطلان شريعة ومنهاج المشركين (٦٧-٧٦).

12. أوامر الله للمؤمنين (٧٧-٧٨). ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /87).

ويقول شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ: «سورة الحَجِّ ‌فيها ‌مكِّيٌّ ومدَنيٌّ، وليليٌّ ونهاريٌّ، وسفَريٌّ وحضَريٌّ، وشِتائيٌّ وصَيْفيٌّ.

وتضمَّنتْ منازلَ المسيرِ إلى الله؛ بحيث لا يكون منزلةٌ ولا قاطع يَقطَع عنها.

ويوجد فيها ذِكْرُ القلوبِ الأربعة: الأعمى، والمريض، والقاسي، والمُخبِتِ الحيِّ المطمئنِّ إلى الله.

وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ - على اختصارها - ما هو بَيِّنٌ لمَن تدبَّرَه.

وفيها ذِكْرُ الواجبات والمستحَبَّات كلِّها؛ توحيدًا، وصلاةً، وزكاةً، وحَجًّا، وصيامًا؛ قد تضمَّنَ ذلك كلَّه قولُه تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْرْكَعُواْ وَاْسْجُدُواْۤ وَاْعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩} [الحج: 77]،  فيدخُلُ في قوله: {وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ} كلُّ واجبٍ ومستحَبٍّ؛ فخصَّصَ في هذه الآيةِ وعمَّمَ، ثم قال: {وَجَٰهِدُواْ فِي اْللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ} [الحج: 78]، فهذه الآيةُ وما بعدها لم تترُكْ خيرًا إلا جمَعَتْهُ، ولا شرًّا إلا نفَتْهُ». "مجموع الفتاوى" (15 /266).

وهذه السورةُ مِن أعاجيبِ السُّوَرِ؛ كما ذكَر ابنُ سلامةَ البَغْداديُّ، وأبو بكرٍ الغَزْنويُّ، وابنُ حزمٍ الأندلسيُّ، وابنُ تيميَّةَ.

ومِن عجائبِ هذه السورةِ الكريمة: أنه اجتمَع فيها سجودانِ، وهذا لم يحدُثْ في سورةٍ أخرى، بل قال بعضُ العلماء: «إن السجودَ الثاني فيها هو آخِرُ سجودٍ نزَل في القرآنِ الكريم». انظر: "الناسخ والمنسوخ" للبغدادي (ص126)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن حزم (ص46)، و"تفسير القرطبي" (21/1)، و"مجموع الفتاوى" (15/266)، و"بغية السائل" (ص548).

جاءت سورة (الحَجِّ) بمقصدٍ عظيم؛ وهو دورُ رُكْنِ (الحَجِّ) العظيمُ في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بالحثِّ على التقوى، وخطابِ الناس بأمرهم أن يتَّقُوا اللهَ ويَخشَوْا يومَ الجزاء وأهوالَه، والاستدلالِ على نفيِ الشرك، وخطابِ المشركين بأن يُقلِعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية، وعن المجادلة في ذلك اتباعًا لوساوسِ الشياطين، وأن الشياطينَ لا تُغني عنهم شيئًا، ولا ينصرونهم في الدنيا ولا في الآخرة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /296)، والتحرير والتنوير (17 /184).