تفسير سورة الحج

حومد

تفسير سورة سورة الحج من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿ياأيها﴾
(١) - يَأُمُرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِتَقْوَاهُ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أَهْوالِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عِظَامٍ، وَزَلْزَلَةٍ يَشِيبُ لِهَولِها الوِلْدَانُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُون: هَلْ تَكُونُ زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَوْ تَكُونُ بَعْدَ قِيَامِهٍِمْ وَنُشَوِرِهِمْ:
١ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ زَلْزَلَة السَّاعَةِ تَكُونُ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنيا، وَأَوَّلِ أَحْوالِ السَّاعَةِ. وَفِي حَدِيثٍ رواه ابنُ جرير عن أبي هُرَيْرة أنَّ النبيَّ ﷺ قال: " يَنْفُخُ إِسْرَفِيلُ في الصُّورِ ثلاثَ نَفَخَاتٍ:
نَفْخَةَ الفَزَعِ - فَيَفْزَعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُِ، فَتَسِيرُ الجِبَالُ فَتَكُونُ تُراباً، وَتُرجُّ الأَرْضُ بِأَهْلِها رَجّاً، وَهِيَ التِي يَقُولُ فِيها اللهُ سُبْحَانَه ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة﴾ فَيَتَمَدَّدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، وَتَذْهَلُ المَراضِعُ عَنْ رُضَعَائِها، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ حَمْلَها، وَيشِيبُ الولدَانُ، وَيُولّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد﴾، فَبَيْنَما هُمْ عَلَى ذلِكَ انْصَدَعَتِ الأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَرَأَوْا أَمْراً عَظِيماً، فَأَخَذَهُمْ مِنَ ذَلِكَ الكَرْبُ، ثُمَّ نَظَرُوا إِِلى السَّماء فإِذا هيَ كَالمُهْلِ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُها وَقَمَرُهَا، وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ، وَالأَمواتُ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ.
ب - نَفْخَةَ الصَّعْق - وَبِها يُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ.
ج - نَفْخَةَ القِيَامِ لِرَبِّ العَالَمِينَ - وَبِها يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ وَيَقُومُونَ لِرَبِّ العِبادِ "
٢ - وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ بَلْ ذلِكَ هَوْلٌ وَفَزَعٌ وزِلْزَالٌ كائِنٌ يَومَ القِيَامَةِ فِي العَرصَاتِ بَعْدَ قِيَامِ الأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَسَاقُوا عَلى ذَلِكَ بَعْضَ الأَحَادِيثِ.
الزِّلْزَالُ - الهَزَّةُ الشَّدِيدَةُ التيِ تَحْدُثُ فِي الأَرْضِ.
وَزَلْزَالَةَ السَّاعةِ - أَهْوَالَ القِيَامَةِ وَشَدَائِدَهَا وَمَا يَحْدُثُ لِلنُّفُوسِ مِنَ الرُّعْبِ وَالفَزَعِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ.
﴿يُجَادِلُ﴾ ﴿شَيْطَانٍ﴾
(٣) - بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الله تَعَالَى حَالَ النَّاسِ يَوْمَ الحَشْرِ، وَبَعْدَ أَنْ أَكَّدَ أَنَّ الحَشْرَ وَالفَزَعَ وَاقِعَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ لا مَحَالَةً، قَالَ تَعَالَى: وَمَعَ ذَلِكَ فإِنَّ هُنَاكَ بَعْضَ النَّاسِ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ: فِي وُجُودِ اللهِ، وَفِي وحْدَانِيَّتِهِ، وفِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِحيَاءِ المَوْتَى.. وَفِي عِلْمِهِ. وَجِدَالُهُمْ هذا بِغَير عِلْمٍ صَحِيحٍ، وَبِدُونِ دَليلٍ وَاضِحٍ، وَهُوَ جِدالٌ نَاتِجٌ عنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ المُتَمَرِّدِ عَلَى رَبِّهِ.
المَرِيدُ - العَاتي المُتَجَرِّدُ لِلْفَسَادِ، المُخَالِفُ لِلْحَقِّ.
﴿ياأيها﴾ ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾
(٥) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ المُنْكِرِ للبَعْثِ وَالمَعَادِ، ذَكر هُنا الدَّليلَ عَلَى قُدْرَتِهِ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ بدْئِهِ الخَلْقَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ يَا أَيُّها النَّاسُ تَشُكُّونَ فِي قُدْرَتِنَا عَلَى بَعْثِ الأَمْوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَخَلْقِهِمْ خَلْقاً جَدِيداً، فَانْظُرُوا إِلى مَبْدَإِ خَلْقِكُمْ لِيَزُولَ شَكُّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا أَنَّ القَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ عَدَمٍ، هُوَ أَقْدَرُ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِكُمْ ثَانِيةً، لأَنَّ الإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الاْبِتدَاءِ، فَقَدْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلْنَا نَسْلَهُ يُخْلَقُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - أَيْ مِنْ نُطْفَةٍ - ثُمَّ تُصْبِحُ النُّطْفَةُ عَلَقَةً حَمرَاءَ، ثُمَّ تُصْبِحُ العَلَقَةُ مُضْغَةً، ثُمَّ تَبْدأُ المُضْغَةُ فِي التّشَكّلِ، وَتْبْدُو مَلامِحُ الرَّأسِ والأطْرَافِ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّ المُضْغَةَ قَدْ تُسْقِطُهَا المَرْأَةُ قَبْلَ اكْتِمَالِ مُدَّةِ الحَمْلِ - أَيْ قبْلَ اكْتِمَالِ خَلْقِها - وَقَدْ تَبْقَى هَذِه المضْغَةُ قَدْ تُسْقِطُها المَرْأَةُ قَبْلَ اكْتِمَالِ مُدَّةِ الحَمْلِ - أَيْ قبْلَ اكْتِمَالِ خَلْقِها - وَقَدْ تَبْقَى هَذِه المُضْغَةُ حَتَّى اكْتِمَالِ خَلْقِها، فَتَخْرَجُ طِفْلاً ضَعِيفاً فِي بَدَنِهِ، وَفِي سَمْعِهِ، وَبَصَرِه، وَحَوَاسِّه، ثُمَّ يُعْطِيهِ اللهُ القُوَّةَ شَيئاً فَشيئاً، فَيَبْلُغُ أشُدَّهُ وَيَتَكَامَلُ فِي قُوَّتِهِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ فَيَصِلُ إِلى عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ. وَمِنَ النَّاسِ مَن يُتَوفَّى فِي حَالِ شَبَابِهِ وَقُوَّتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِلُ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ والهَرَمِ والضَعْفِ فِي القُوَّةِ والعَقْلِ والفَهْمِ، وَيُصِيبُهُ الخَرَفُ، وَضَعْفُ الذَّاكِرَةِ، فَإِذَا هُوَ بَعْدَ القُوَّةِ والعَقْلِ والفَهْمِ، وَيُصِيبُهُ الخَرَفُ، وَضَعْفُ الذَّاكِرَةِ، فَإِذَا هُوَ بَعْدَ القُوَّةِ والاكْتِمَالِ يَرْتًَدُّ طِفْلاً وَعْيِهِ وَمَدَارِكِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَيَنْسَى عِلْمَهُ فَلاَ يَعُودُ يَذْكُرُ مِنْهُ شَيئاً (لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً).
وَيَسُوقُ اللهُ تَعَالَى دَليلاً آخَرَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ المَوْتَى، وَهُوَ إِحْيَاءُ الأرْضِ المَيِّتَةِ الهَامِدَةِ التي لاَ نَبْتَ فِيهَا، فَإِذَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهَا المَاءَ مِنَ السَّمَاءِ تَحَرَّكَتْ بالنَّبَاتِ، وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَرَبَتْ وارْتَفَعَ التُّرَابُ الذي عَلَى سَطْحِهَا مِنْ حَرَكَةِ النَّبَاتِ تَحْتَهُ ثُمَّ أَنْبَتَت الأَرْضُ نَبَاتاً حَسَنَ المَنْظَرِ، طَيِّبَ الرَّائِحَةِ، يُبْهِجُ العُيونَ النَّاظِرَةَ إِلَيْهِ.
هَامِدَةً - سَاكِنَةً أَوْ مَيِّتَةً يَابِسَةً.
بَهِيجٍ - يُبْهِجُ النَّفْسَ بِمَرْآهُ.
عَلَقَةً - قِطْعَةَ دَمٍ جَامِدةِ.
مُضْغَةً - قِطْعَةَ لَحْمٍ بَقَدْرِ مَا يُمْضَغُ.
مُخَلَّقةٍ - مُسْتَبِينَةِ الخَلْقِ مُصَوَّرَةٍ.
رَبَتْ - ارْتَفَعَ فَوْقَهَا التُّرَابُ.
﴿آتِيَةٌ﴾
(٧) - وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أنَّ السَاعَةَ سَتَأْتِي فِي الوَقْتِ المُحَدَّدِ لَهَا، لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلاَ رَيْبَ. وحِينَ يَحِيْنُ مَوْعِدُ قِيامِ السَّاعَةِ فَإِنَّ الله يَبْعَثُ المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيُعِيدُ خَلْقَهُم مِنْ جَديدٍ بَعْدَ أَنْ صَارُوا رَميماً.
﴿القيامة﴾
(٩) - وَهُوَ يُجَادِلُ مُسْتَكْبِراً عِنِ الحَقِّ إِذَا دُعِيَ إِلَيْه. وَقَدْ لَوى رَقَبَتَهُ (ثَانِي عِطْفِهِ) إِعْرَاضاً عَنِ الحَقِّ، وَغَايَتُهُ مِنْ ذَلِكَ إِضْلاَلُ النَّاسِ وَصَرْفُهُمْ عَن سَبِيلِ اللهِ المُسْتًَقِيمِ. وَهَذا المُضِلُّ المُسْتَكْبِرُ المُتَجَبِّرُ، لَهُ فِي الدُّنْيَا ذُلٌّ وَمَهَانَةٌ (خِزْيٌ) مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، جَزَاءً لَهُ عَلَى اسْتِكْبَارِه، وَيْجْزِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ بِإِخْضَاعِهِ إِلَى عَذَابٍ مُحْرِقٍ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
ثَانِيَ عِطْفِهِ - لاَوِياً رَقَبَتَهُ أَوْ جَانِبَهُ تَكَبُّراً وَتَجَبُّراً وإِبَاءً.
خِزْيٌ - ذُلٌّ وَهَوَانٌ.
(١١) - وَمِنَ النَّاسِ صِنْفٌ لَمْ يَتَمَكَّنِ الإِيْمَانُ مِنْ فَلْبِهِ، بَلْ هُوَ مُتَزَعْزِعُ العَقِيدَةِ، تَتَحَكَّمُ مَصَالِحُهُ فِي إِيْمَانِهِ، فًَإِنْ أَصَابِهُ رَخَاءٌ وَسَعَةُ عَيْشٍ، رَضِيَ وَاطْمَأَنَّ وَاسْتَبْشَرَ بالدِّينِ فَعَبَدَ الله، وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ وَبَلاَءٌ، وَضِيقُ عَيْشٍ، ارْتَدَّ وَرَجََعَ إِلى الكُفْرِ فَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا رَاحَةَ الاطْمِئْنَانِ إِلى قَضَاءِ اللهِ وَنَصَرِهِ، كَمَا خَسِرَ فِي الآخِرَةِ النَّعِيمَ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَعضِ الأَعْرَابِ الذينَ كَانُوا يَأتُونَ إِلى النَّبِيَّ ﷺ فَيُسْلِمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلاَدِهِم فإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَخِِصْبٍ، وَعَامَ وِلادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذًَا لَصَالِحٌ فَتَمسَّكُوا بِهِ، وإِنْ وَجَدُوا عَامَ جَدْبٍ، وَعَامَ وِلادِ سُوءٍ، قَالُوا: مَا فِي دِيننَا هَذَا خَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وَهَذِهِ الآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى المُنَافِقٍِ الذي إِنْ صَلَحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى العِبًَادَةِ، وإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَت انْقَلَبَ كَافِراً فَلاَ يُقِيمُ عَلَى العِبَادَةٍ إِلاَّ لِمَا صَلَحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوْ ضِيْقٌ تَرَكَ دِيْنَهُ، وَرَجَعَ إِلى الكُفْرِ، وَارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ ﴿انقلب على وَجْهِهِ﴾، فَلاَ يَحْصُلُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى شَيءٍ. وَأَمَّا الآخِرَةُ فَقَدْ كَفَرَ بالله العَظِيم، فَهو فِيهَا فِي غَايَةِ الشَّقَاءِ والإٍِهَانَةِ، وَلِهذا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذلك هُوَ الخسران المبين﴾ أي الخَسَارَةُ العظِيمةُ والصَفْقَةُ الخَاسِرَةُ
عَلَى حَرْفِ - علَى شَكٍّ وَقَلَقٍ وَتَزَلْزُلٍ فِي الدِّينِ.
﴿يَدْعُو﴾
(١٣) - وَيَدْعُو هَذَا العابِدُ عَلَى حَرْفٍ مَنْ ضَرُّهُ فِي الدُّنْيَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ نَفْعِهِ؛ وأمَّا ضَرَرُهُ فِي الآخِرَةِ فَهُوَ مُحَقَّقٌ مُؤكَّدٌ، وَبِئْسَ الوَثَنْ الذي دَعَاهُ ذَلِكَ الضَّالُّ مَولَّى لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيّاً وَنَاصِراً، وَبْئْسَ المُخَالِطُ والمُعَاشِرُ.
بِئِسَ المَوْلَى - بِئْسَ النَّاصِرُ.
العَشْيرُ - المُصَاحِبُ المُعَاشِرُ.
﴿الآخرة﴾
(١٥) - مَنْ كَانَ يَظُنُّ مِنَ الكُفَّارِ أَنَّ اللهَ لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّداً، وَدِينَهُ، وَكِتَابَهُ، فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ بِرَبْطِ حَبْلٍ فِي سَقْفِ بَيْتِهِ، ثُمَّ لِيَخْنُقْ نَفْسَهُ بِهِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ، فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ لاَ مَحَالَةَ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيةٍ أُخْرَى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا.﴾ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرْ هَذَا المَغِيظُ هَلْ يَشْفِي فِعْلُهُ هَذَا - أيْ خَنْقَ نَفْسِهِ بِحَبْلٍ فِي سَقْفِ بَيْتِهِ - صَدْرَه مِنَ الغَيْظِ، وَهَلْ يُحَقِّقُ فِعْلُهُ هَذَا رَغْبَةَ نَفْسِهِ فِي أَنْ لاَ يَنْصًرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ؟ كَلاَّ إِنَّ ذَلِكَ لَنْ يُوِصِلَهُ إِلَى غَايَتِهِ.
يَنْصُرُهُ اللهُ - أي يَنْصُرُ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّداً.
بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ - بِحَبْلٍ إِلى سَقْفِ بَيْتِهِ.
ثُمَّ ليَقْطَعْ - ثُمَّ لِخْنُقْ بِهِ نَفْسَهُ حَتَّى يَمُوتَ.
كَيْدُهُ - صَنِيعُهُ بِنَفْسِهِ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿والصابئين﴾ ﴿والنصارى﴾ ﴿القيامة﴾
(١٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَفْصِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الأَدْيَانِ المُخْتَلِفَةِ: مِنَ المُؤْمِنِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَدَّدَهُمْ، وأَنَّهُ سَيَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالعَدْلِ، فَيُدْخِلُ مَنْ آمَنَ مِنهم بِهِ الجَنَّةَ، وَيَدْخِلُ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بِهِ النَّارَ، وأنَّهُ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِهِمْ جَمِيعِهَا، حَفِيظٌ لِأَقْوَالِهِم، عَلِيمٌ بِسَرَائِرِهِم وَضَمَائِرِهِمْ.
الصَّاؤِئِينَ - عَبَدَةَ الكَوَاكِبِ أَوْ عَبَدَةَ المَلاَئِكَةِ.
﴿رُءُوسِهِمُ﴾
(١٩) - تَجَادَلَ أهْلُ الأَدْيَانِ فِي دِينِ اللهِ فَكُلُّ فَرِيقٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيهِ هُوَ الحَقُّ، وأَنَّ مَا عَليهِ خَصْمُهُ هُوَ البَاطِلُ، وَبَنَى عَلى ذلِكَ جَميعَ أَقْوَالِهِ وَأَفْغَالِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ نَوعاًَ مِنَ الخُصُومَةِ، واللهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ، وَيَجْزِيهِمْ عَلى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَ، وَلا يَظْلِمُ أحَداً مِنْهُمْ شَيئاً، فَأَمَّا الكَافِرُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُعِدَّتْ لهُمْ نِيرانٌ تُحيطُ بِهِمْ وَكَأَنَّها مُقَطَّعَاتٌ مِنَ الثِّيَابِ قُدَّتْ عَلَى قَدْرِ أَجْسَادِهِمْ، وَيُصَبُّ المَاءُ الشَّدِيدُ الحَرَارَةِ فَوْقَ رُؤُسِهِمْ فَيَشْوِي وُجُوهَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ، وَيُذِيبُ أَمْعَاءَهُم خَصْمَانِ - المُؤْمِنُونَ وَالكَفِرُونَ عَامَّةً.
الحَمِيمُ - المَاءُ الشَّدِيدُ الحَرَارَةِ وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ النُّحَاسُ المُذَابُ.
﴿مَّقَامِعُ﴾
(٢١) - وَيُضْرَبُ هؤلاءِ الكَافِرُونَ بالسِّياطِ وَالمَطَارِقِ (مَقَامِعُ) مِنَ الحَدِيدِ المُحَمَّى فَتَتَنَاثَرُ أَعْضَاؤُهُمْ.
المَقَامِعُ - المَطَارِقُ أَوِ السِّيَاطُ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾ ﴿الأنهار﴾
(٢٣) - لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَا يُلاقُونَهُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالحَرِيقِ وَالأًَغْلالِ، وَمَا أُعدَّ لَهُمْ منْ ثِيابٍ مِنْ نَارٍ، ذَكَرَ حالَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في أَرْجَائِها، وَيُلْبِسُهُمْ رَبُّهُمْ فِيها حُلِيّاً: مِنْها أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِنْها لُؤْلُؤْ (وَجَاءَ في الحَدِيثِ: تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ) (رَوَاهُ الإِمَامَانِ) وَيَكُونُ لِباسُهُمْ مِن الحَرِيرِ في الجَنَّةِ.
(وجاءَ فِي الصَّحيحِ: لاَ تَلْبَسوا الحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنيا فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ في الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ.
﴿جَعَلْنَاهُ﴾ ﴿العاكف﴾
(٢٥) - إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا بالله وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَأَنْكَرُوا مًَا جَاءَهُم بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَيَمْنَعُونًَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ الوُصُولِ إِلى المَسْجِدِ الحَرَامِ، الذي جَعَلَه اللهُ لِلَّذِين آمنُوا بهِ، كَافّةً، سَوَاءً مِنْهُمُ المُقِيمُ فِيهِ، وَالبَعِيدُ الدَّارِ عَنْهُ، فَإِنَّ الله يَتَوَعَّدُهُمْ بِالعَذابِ الأَليمِ فِي الآخِرَةِ، كَمَا يَتَهَدَّدُ اللهُ بِالعَذَابِ الأليمِ يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ يُريدُ أَنْ يَميلَ إِلى الظُّلْمِ في المَسْجِدِ الحَرَامِ فَيْعْصِيَ الله فيه، أَوْ يُخَالِفَ أَمْرَهُ، مُتَعَمِّداً غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عِقَابَهُ الشَّديدَ بِأَهْلِ الضَّلاَلِ لَمَّا هَمُّوا بِتَخْريبِ البَيْتِ، فَأَرْسَلِ عَلَيْهِم الطَيرَ الأَنَابِيلَ فًَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالاً لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ بِبَيْتِ الله سُوءاً.
المُسْجِد الحَرَام - الحَرَمُ أَيْ مَكَّةُ أَوْ هُوَ الكَعْبَةُ.
العَاكِفُ - المُقِيمُ فِيهِ، المُلاَزِمُ لَهُ.
البَادِ - الطَّارئُ غَيْرُ المُقِيمِ.
إِلحَادٍ بِظُلْمٍ - يَمِيلُ عَنٍ الحَقِّ إِلى البَاطِلِ.
(٢٧) - وَقَلْنَا لإِبْرَاهِيمَ: نَادِ النَّاسَ دَاعِياً إِيَّاهُم إِلى الحَجِّ إِلَى هَذا البَيْتِ الذي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ، يَأْتُوكَ مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ (رِجَالاً)، مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَيَأْتُوكَ رَاكِينَ (رُكْبَاناً) عَلَى الخَيْلِ والجِمَالِ المُضَمَّرَةِ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَبَلِّغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لاَ يَنْفُذُهُم؟ فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: نَادِ وَعَلَيْنَا البَلاَغُ، فَقَامَ فَنَادَى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُم اتَّخَذَ بَيْتً فَحُجُّوهُ. وَلِهَذَا يَرُدُّ مَنْ يَحُجُّ البَيْتَ عَلَى نِدَاءِ اللهِ قَائِلاً: (لَبِّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ).
أَذَّنْ فِي النَّاسِ - نَادِ فِيهمِ وَأَعْلِمُهُمْ.
رِجَالاً - مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ.
ضَامِرٍ - بَعِير أَوْ فَرَسٍ مَهْزُولٍ مِنْ بُعْدِ الشُّقَّةِ.
فَجٍّ عَمِيقٍ - طَرِيقٍ بَعِيدٍ.
(٢٩) - ثُمَّ لِيُزِيلُوا مَا عَلِقَ بِهِمْ مَنَ الأوْسَاخِ أَثْنَاءَ السَّفَرِ والإٍِحْرَامِ فَيْحْلِقُوا الشَّعْرَ، وَيُقَلِّمُوا الأظَافِرَ، وَيُخَفِّفُوا شَعَرَ الوَجْهِ والرَّأسِ (لِيَقْضُوا تَفَثَهُم)، وَلْيَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ وَلْيُوفُوا مَا نَذَرُوهُ مِنَ أَعْمَالِ البرِّ، وَلْيَطُوفُوا طَوافَ الوَدَاعٍِ بالبَيْتِ الحَرَامِ (البَيْتِ العَتِيقِ)، الذي هُوَ أَقْدَمُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم - ثُمَّ لْيُزِيلُوا بِالتَّحَلُّلِ مَا عَلِقَ بِهِمْ مِنْ أَوْسَاخٍ، أو ثُمَّ لُيؤدُّوا مَنَاسِكَهُمْ.
(٣١) - وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الأُمُورِ عَلَى وَجْهِ الإِخْلاَصِ والعِبَادَةِ للهِ، وحْدَهُ مُخْلٍصِينَ لَهُ الدِّينَ دُونَ شُرَكَاء، لأنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ سِوَاهُ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ، وَكَانَ حَالُهُ كَحُالِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، فَفَرَّقَتْ أجْزَاءَهُ فِي حَوَاصِلَها، أو كَمَنْ عَصَفَتْ بِه الرِّيحُ فَهَوتءْ بِهِ فِي المَهَاوِي العَمِيقَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ: أنَّ الكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلى السَّمَاءِ فَلا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّماءِ بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً مِنْ هُنَاكَ ثُمَّ قَرَأَ هَذَهِ الآيَةَ.
حُنَفَاءَ - مَائِلِينًَ عَنِ البَاطِلِ إِلى الدِّينِ الحقِّ.
تَهْوِي بهِ الرِّيحُ - تُسْقِطُهُ وتَقْذِفُهُ.
مَكانٍ سَحيقٍ - مَوضِعٍ بعيدٍ مُهلِكٍ.
(٣٣) - وَالأَنْعَامُ التي يَتَخِذُها الحُجَّاجُ هَدَايَا لِتُنْحَرَ فِي نِهَايَةِ أيَّامِ الإِحْرَامِ، يَجُوزُ لِصَاحِبِها الانْتِفَاعُ بِهَا فَيَرْكَبُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ أَلْبَانِها وَيَسْتِفيدُ مِنْ أوْبَارِهَا وأصْوَافِها. حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ حِلَّهَا (مَحِلَّهَا) وَهو البَيْتُ الحَرَامُ، ثُمَّ تُنْحَرُ هُنَاكَ لِيَأكُلَ مِنْهَا أصْحَابُها؛ وليُطعِمُوا البُؤسَاءَ والفُقَرَاءَ.
مَحٍِلُّهَا - وُجُوبُ نَحْرِها.
إلَى البَيْتِ العَتِيقِ - مُنْتَهِيَةً إلى أرضِ الحَرَمِ كُلِّهِ.
﴿والصابرين﴾ ﴿الصلاة﴾ ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾
(٣٥) - وَيُعَرِّفُ اللهُ تَعَالَى المُخْبِتينَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الذين إِذَا ذُكِرَ اللهُ خَشَعَتْ قُلُوبُهمْ وَخَافَتْ (وَجِلَتْ)، والذين يَصْبِرُونَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ والمَصَائِبِ اسْتِسْلاماً لِقَضَائِهِ، والذين يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ، ويُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِها، والذِين يُنْفِقُونَ مِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ عَلَى أَهْلِهِم وأقارِبِهِم والمُحْتَاجِينَ، ويُحْسِنُونَ إِلى خَلْقِ اللهِ، مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ.
وَجِلَتْ قُلُوبُهم - خَافَتْ هَيْبَةً وَإِجْلالاً.
(٣٧) - إِِنَّمَا شَرَعَ اللهُ لَكُمْ نَحْرَ هَذهِ الضَّحَايَا لِتَذْكُروا اسْمَ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِها، فَهُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ؛ وَهُوَ تَعَالَى لاَ يَنَالُه شيءٌ مِنْ لُحًُومِها، ولا مِنْ دِمائِها، فَهُوَ الغَنِيُّ عَمَّنْ سِواهُ، يَتَقَبَّلُ الذَبِيحَةً، وَيْجْزِي عَلَيْها.
(وَكَانَ المُشْرِكُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِذَا ذَبُحوا لآلِهَتِهِمْ، وَضَعُوا شَيْئاًَ مِنْ لُحُومِ قَرابِينِهِمِ ودِمَائِها عَلَى أَصْنَامِهِمْ).
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَخَّرَ اللهُ لَكُمْ البُدْنَ لِتُعَظِّمُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَفِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَنَهَاكُم عَنْ فِعْلِ المُنْكَر، وَعَنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُ. وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمِ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ، بِأنَّ الله سَيَجْزيهِمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
﴿يُقَاتَلُونَ﴾
(٣٩) - هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الجِهَادِ، وَقَدْ نَزلَتْ بَعْدَ خُروجِ النًَّبِيِّ عليهِ السَّلاَمُ وَأَصْحَابِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ. يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ ظَلَمُوا المُسْلِمينَ فِي مَكَّةَ، وأَخْرَجُوهُم مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرٍ حَقٍّ، وَلاَ ذَنْبَ لَهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله، وَقَالُوا: رَبُّنَا اللهُ. وَلِذَلِكَ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى للمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِ المُشْرِكِينَ، دَفْعً لأَذَاهُم، وإِضْعَافاً لِشَوْكَتِهِم، وتَشْجِيعاً لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلاَمِ عَلَى الالْتِحَاقِ بِالمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا قُوَّةً تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِها، وَتُرِهِبُ أعْدَاءَهَا الكفَّارَ، وإِنَّ اللهَ قَادِرٌ وَحْدَهُ عَلَى نَصْرِ المُسْلِمِينَ دُونَ عَوْنٍ مِنْهَمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُريدُ مِنَ المُؤْمِنيِنَ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدَهُم فِي طَاعَةِ رَبِّهِم، وأَن يَقُومُوا بِواجِبِهِم فِي الدِّفَاعِ عَنْ أًَنْفِسِهِم وَدِينِهِِ.
﴿مَّكَّنَّاهُمْ﴾ ﴿الصلاة﴾ ﴿وَآتَوُاْ﴾ ﴿الزكاة﴾ ﴿عَاقِبَةُ﴾
(٤١) - وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ المُءْمِنينَ المَظْلُومِينَ فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الذِينَ إِذَا مَكَنَّ اللهُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ، وَحَقَّقَ لَهُمُ النَّصْرَ والغَلَبَةَ، وَجَعَلَ لَهُمُ العَاقِبَة، عَمِلُوا بِأمْرِ اللهِ، وَاجْتَنُبوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ، فَأَقَامُوا الصَّلاَةَ، وأَدَّوهَا حَقَّ أَدَائِها، وَدَفَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَرُوا بالمعْرُوفِ، وَحَثُّوا النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ وَمَا يُرْضِي الله، وَنَهَوْا المُتَجَاوِزِينَ عَلَى حُدُودِ اللهِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ. وَعِنْدَ اللهِ حِسَابُ النَّاسِ جَميعاً فِي نِهَايَةِ المَطَافِ، وَلَهُ عَاقِبَةُ الأُمُورِ، فَيجْزِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ.
﴿إِبْرَاهِيمَ﴾
(٤٣) - وَكَذَلِكَ كَذَّبَ إِبْرَاهِيمَ قَوْمُه، وَكَذَّبَ قَوْمٌ لوطِ لُوطاً عَلَيْهِما السَّلامِ.
﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾
(٤٥) - إِنًَّ القُرَى التي أَهْلَكَهَا اللهُ بِظُلْمِها وَكُفْرِها وَتَكْذِيبِها رُسُلَ اللهِ، هِيَ كَثِيرَةٌ (فَكَأين) فَأَصْبَحَتْ مُهَدَّمَةَ البُنْيَانِ، قَدْ سَقَطَتْ سُقُوفُها عَلى قِيعَانِها، وأَقْفَرَت الأَبْنِيةُ مِنْ سَاكِنيها، فَأَصْبَحَتْ مُوحِشَةً كَئِيبَةً، وَأَصْبَحَتِ الآبَارُ مُعَطَّلَةً مَهْجُورَةً لَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَأتِي إِلَيْهَا لِيَحْمِلَ مِنها الماءَ، وأَصْبَحَتِ القُصُورُ، المَبْنِيَّةُ لِتَكُونَ حُصُوناً وَمَعَاقِلَ يَحَتَمِي أَصْحَابُها بِها، مَهْجُورَةً خَالِيةً مِنْ سَاكِنيها.
(٤٧) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الكُفَّارَ المُكَذِّبِينَ يَرَوْنَ آيَاتِ الله، وَيَرونَ ما حَلَّ بِمَنْ سَبَقَهم مِن المُكَذِّبِينَ، مِنْ دَمَارِ وَهَلاَكٍ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُدْرِكُونَ حَلَّ بِمَنْ سَبَقَهم مِن المُكَذِّبِينَ، مِنْ دَمَارٍ وَهَلاكٍ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُدْرِكُونَ وَلا يَتَّعِظُونَ، وَيَسْخَرونَ مِمَّنْ يَدْعُونَهم إِلى اللهِ، ومِمَّنْ يُحَذِّرُونَهُمْ عَقُوبَتَهُ وَعذَابَهُ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ العَذَابِ بِهِمْ، وَيَدْفَعُ بِهِمْ غُرُورُهُمْ إِلى حَدِّ اسْتِعْجَالِ وقوعِ العَذَابُ آتٍ فِي الوَقْتِ الذي حَدًَّدَهُ اللهُ، وَقَدَّرَهُ وَفْقَ حِكْمَتِهِ، وَلاَ يُعْجٍِّلُه اسْتِعْجَالُ النَّاسِ. وَتَقْدِيرُ الزَمَنِ في حِسَابِ اللهِ غَيْرُهُ فِي حِسَابِ البَشَرِ وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ اللهِ كألفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ البَشَرُ مِن سِنِّي أَرْضِهٍِمْ.
(٤٨) - وَكَمْ مِنْ قَرْيَةِ ظَالِمَةٍ أَخَّرَ اللهُ إِهْلاَكَ مَعَ اسْتِمْرَارٍِهِم عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَاغْتَرُّوا بِذَلَكَ التَأْخِيرِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بَأْسَهُ وعِقابَهُ بِهِمْ، وَسَيَلْقَوْنَ يَومَ القِيَامَةِ حِسَاباً شَدِيداً عَسِيراً حِينَمَا يَرْجِعُ النَّاسُ إِلى اللهِ. وَيَومُ القِيَامَةِ يَوْمٌ لاَ يَنْفَعُ النَّاسَ فِيهِ مَالٌ وَلا بَنُونَ. فَمَا بَالُ هَؤلاءِ المُشْرِكِينَ يَسْتَعِجِلُونَ بِالْعَذَابِ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالوَعِيدِ؟
﴿ياأيها﴾
(٤٩) - وَحِينَما اسْتَعْجَلَ الكُفَّارُ وَقُوعَ العَذَابِ بِهٍِمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّمًَا أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ نَذِيراً بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيءٍ، وَإِنَّمَا أَمْرُكُمْ إِلَى الله إِنْ عَجَّلَ لَكُمُ العَذَابَ، وإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُم، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾
(٥٠) - والذينَ آمَنَتْ قُلُوبُهم، وَصَدَّقُوا إِيَمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِم، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ من سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَقْصِيرِهِم، وَيُجَازِيهِم بالحُسْنَى عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ، وَلَهُمْ فِيهَا رِزْقٌ كَرِيمٌ.
﴿اآيَاتِنَا﴾ ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿أَصْحَابُ﴾
(٥١) - أَمَّا الذينَ بَذَلُوا جُهْدَهُم فِي ررَدِّ دَعْوَةِ اللهِ، والتَكْذِيبِ بِها، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ، وَسَعَوْا فِي تَعْطِيلِ آيَاتِ اللهِ، وَمَنْعِها مِنْ أَنْ تَفْعَلَ مَفْعُولَها فِي القُلُوبِ، فَأُولَئِكَ أَهْلُ الجَحِيمِ، وإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ الله وَيَفوتُونَه هَرَباً.
﴿الشيطان﴾ ﴿آيَاتِهِ﴾
(٥٢) - أَوْرَدَتْ بَعْضُ كُتًُب التَّفْسِير فِي أًَسْبَاب نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قِصَّةً غَريبَةً تُعْرَفُ بِقَصَّةِ الغَرَانِيق. والفُرْنُوقُ طَائرٌ أَبْيْضُ.. وَتَقُولُ القِصَّةُ إنَّ النَّبيَّ ﷺ قَرَأَ في مَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ في حُضُور جَمْعٍ مِنَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكِينَ فَلَمّا بَلَغَ في قِراءَتِهِ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى﴾ أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ (تِلْكَ الغَرَانِيْقُ العُلَى وإنّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى) فَقَالَ المُشْرِكُونَ مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بخَيْر قَبْلَ اليَوْم. فَلَمَّا خَتَمَ السّورَة سَجَدَ وَسَجَدُوا. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ الله (A) فَنَزَلَ تَسْلِيَةً لَهُ ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ.. الآيَةَ﴾.
وَلَكِنَّ عْلَمَاءَ المُسْلِمِينَ الثِّقاتَ (مِثْلَ القَاضِي عِيَاضٍ والفَخْر الرِّازيَّ والقْسْطَلاَّني وابن إٍِسْحَاقٍ والأمام محمد عبده.. الخ يَقُولُونَ إِنَّه لاَ يَجُوزُ عَلَى النَّبيِّ تَعْظِيمُ الأوْثَانِ. وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لارْتفَعَ الأَمَانُ عَن شَرْعهِ، وَجَوَّزْنَا في كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأحْكَامِ والشَّرَائع أَنْ يَكُونَ كَذَلِك أي مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ. وَيَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِنْ وَضْع الزَّنَادِقَِ.
وأفْرَدَ عَالِمُ حَلَب الجَليلُ الشَّيْخُ عَبْدُ الله سِرَاجُ الدِّين فَصْلاً مُطَوَّلاً في كِتَابِه (هَدْي القُرْآن الكريم إلى الحجة والبرهان) لِنَفِي هَذِهِ القِصَّةِ، وَتَأْكِيدِ عَدَم جَوَاز وُقُوعِها.
وَيَتَلَخَّصُ رَأْيُ القَائِلين بِنَفْي القِصَّة في الآتي:
١) - يَمْتَنِعُ في حَقِّ النَّبيَّ (A) أَنْ يَتَمِنَّى أَنْ يَنْزلَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنَ القُرْآنٍِ في مَدْح آلِهةٍ غَيْر الله لأنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. كَمَا يَمْتَنعُ في حَقِّه أَنْ يتَسَوَّدَ الشَّيْطَانُ عَلَيْه، وَيُشَبِّهَ عَلَيْهِ القُرْآنَ حَتَّى يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيَعْتَقِد النَّبيّ أنّ مِنَ القُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُفْهمَهُ جِبْرِيلُ ذَلِكَ.
٢) - يَمْتَنِعُ بِحَقِّ النَّبيِّ (A) أَنْ يَقُول ذَلِكَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ عَمْداً أَو سَهْواً، فَالنَّبيَّ مَعْصًوُمٌ مِنْ جَرَيَانِ الكُفْر عَلَى لِسَانِهِ أوْ قَلْبهِ عَمْداً أََو سَهْواً، أوْ أَنْ يًَشْتَبِهَ عَلَيْهِ المَلَكُ وَمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ للشَّيْطَانِ عَلَيْه سَبيلٌ.
٣) - وَيَقُولُ العَالِمُ الهنْدِيّ مُحَمَّد عَلي إن قِراءةَ الآيَاتِ مُتَسَلْسِلَةً تُظْهِرَ أنْ لَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تُحْشَرَ بَيْنَها آيَاتٌ مُناقِضَةٌ لَها في أَصْلِ العَقِيدَةِ الاسْلاَميَّةِ. وَصُلْب دَعْوَة مُحَمَّد، دَعْوَة التَّوْحِيدِ.
٤) - وَيَرى الامَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْدُه أنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الآيَةِ بِمَا يَلي:
لَمْ يُرْسِل الله رَسُولاً نَبيّاً إلى قَوْمٍ إلاَّ وتَمنَّى أَنْ يَتَّبعهُ قَوْمُهُ وأنْ يَسْتَجيبُوا لِمَا يَدْعُوهُم إلَيْهِ. وَلَكِنَّ مَا تَمَنَّى نَبَيّ وَلاَ رَسُولٌ هَذِهِ الأمْنِيَة السَّامِيَة إلاّ ألْقَى الشَّيْطَانُ في سَبيلِهِ العَوائِق وأثار الشكوك وَوَسْوسَ في صُدُور النَّاس، لَسْلِبَهُم القُدْرَةَ عَلَى الانْتِفَاع بما وُهِبُوهُ مِنْ قُوَّةِ العَقْل، وسَلاَمَة الفِكرِ، فَثَاروا في وَجْهِ النَّبيِّ وصَدّوهُ عَنْ غَايَتِهِ. فإذَا ظَهَروُوا في بادِئ الأمر ظَنّوا أنَّهُمْ عَلَى الحَقْ، وَلَكِنَّ كَلِمَةَ الله سَتَكُون دَائماً هِي العُلْيا، وَكَلِمِةُ الشَيْطَانُ وأعوانِهِ هِيَ السُفْلى دائماً.
﴿الشيطان﴾ ﴿الظالمين﴾
(٥٣) - فَأَمَّا الذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ وِنَفَاقٌ، أَوْ انْحِرافٌ (مِنْ المُنافِقِينَ)، والقاسِيةُ قُلُوبُهُمْ مِنَ اليَهُود والكُفَّارِ والمعانِدِينَ فَيَجِدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ مَادَّةً للجَدَلِ واللَّجَاجِ والشِّقَاقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ.
﴿آمنوا﴾ ﴿صِرَاطٍ﴾
(٥٤) - وَأَمَّا الذينَ أُوتُوا العِلْمَ والمَعْرِفَةَ فَتَطَمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى بَيَانِ اللهِ، وَحُكْمِهِ الفَاصِلِِ، لأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بالعِلْمِ الذي أُوتُوهُ بَيْنَ الحَقِّ والبَّاطِلِ، فَيُؤمِنُونَ بالحَقِّ وَيُصَدّقُونَه، وَيَنْقَادُونَ إِلَيْهِ، وَتَخْضَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَتَذِلُّ فَتُخْبِتُ، واللهُ يَهدي الذين آمنوا في الدُّنيا والآخِرَةِ إِلى الطَّريقِ القَوِيمِ.
أمَّا فِي الدُّنْيا فَيُرْشِدُهُمُ إِلَى الحَقِّ وإِلَى اتِّبَاعِهِ، وَيُوفِّقُهم إِلى مُخَالَفَةِ البَّاطِلِ وإِلَى اجْتِنَابِهِ، وفِي الآخِرَةِ يَهْدِيهِم إِلَى الطَّرِيقِ المُوْصِلِ إِلَى الجَنَّةٍ، ويُجَنِّبُهم نَارَ جَهَنَّمَ.
(٥٥) - أَمَّا الكُفَّارُ فَيَبْقَونَ فِي شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ (مِرْيَةٍ)، مِنْ هَذَا القُرْآنِ (أو مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ)، وَيَغْتَرُّونَ باللهِ، وَيَبْقَوْنَ كَذِلِكَ إِلى أَنْ يَبْغَتُهْم عَذَابُ يَومِ القِيَامَةِ، وَهُمْ فِي لَهُوِهِم واغْتِرَارِهِمْ.
يَوْمٌ عَقِيمٌ - هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ وسُمِّيَ عَقِيماً لأَنَّه نَهَارٌ كُلُّّهُ لاَ لَيْلَ لَهُ مِرْيَةٍ - شَكَّ وَقَلَقٍ مِنَ القُرْآنِ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿آمَنُواْ﴾ ﴿
١٦٤٩; لصَّالِحَاتِ﴾
﴿جَنَّاتِ﴾
(٥٦) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَكُونَ السُّلْطَانُ القَاهِرُ، والتَّصَرُّفُ المُطْلَقُ للهِ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِعْدْلِهِ، فَلاَ يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً، وَيَجْزي الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجِنَّاتٍ يَكُونُ لَهُمْ فِيْهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ دَائِمٌ.
﴿بِآياتِنَا﴾ ﴿فأولئك﴾
(٥٧) - أَمَّا الذينَ كَفَرُوا بالحَقِّ، وَجَحَدُوهُ، وَكَذَّبُوا بِهِ، وَخَالَفُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَكْبَروا عَنْ اتِّبَاعِهِمْ، فَيَجْزِيهِم اللهُ عَلَى اسْتِكْبَارِهِم وَجُحُودِهِمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُخْزٍ فِي نَارِ جَهَّنَّم يُذِلُّهُم وَيُخْزِيهِم.
﴿الرازقين﴾
(٥٨) - والذينَ هَاجَرُوا فِي سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، ابْتَغَاءَ مَْرْضَاتِهِ، وَطَلَباً لِمَا عِنْدَهُ مِنْ أَجْرٍ وَثَوَابٍ، وَتَرَكُوا الأَهْلَ والأوْطَانَ، ثُمَّ قُتِلُوا وَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ، أَوْ مَاتُوا في مَهْجَرِهِم حَتْفَ أَنْفِهِم، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُمْ عَلَى اللهِ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُم الجَزَاءَ الأَوْفَى، وَسَيُجْرِي عَلَيْهِم مِنْ فَضْلِهِ وَرِزْقِهِ فِي الجَنَّةِ لِتَقَرَّ عُيُونُهُمْ، واللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فَهُوَ تَعَالَى يَرْزُقُ بِغَيْر حِسَابٍ.
(٥٩) - وَسَيُدْخِلُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ المُهَاجِرينَ الذينَ عَمِلوا الصَّالِحَاتِ الجَنَّةَ (وهي المُدْخَلُ الذي يَرْضَوْنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)، واللهُ عَلِيم بِمَنْ هَاجَرَ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الجَزَاءَ الحَسَنَ، وَهُوَ حَلِيمٌ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَصْفَحُ عَنِ السَّيِئَاتِ.
مُدْخَلاً - الجَنَّةَ، أو دَرَجَاتٍ رَفِيعَةِ فِيهَا.
(٦٠) - وَكَمَا يَعِدُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ المُهَاجِرِينَ بأَنْ يُدْخِلَهم مُدْخلاً كَرِيماً، يَعِدُهم أيْضاً بالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، إِذَا هُمْ قَاتَلُوهُم وَبَغَوْا عَلَيْهمِ. وأَخْرَجُوهُم مِنْ دِيَارِهِمْ.
فالذينَ يَقَعُ عَلَيْهِم العُدْوَانُ مِنَ البَشَرِ قَدْ لاَ يَحْلُمُونَ وَلاَ يَصْبِرُونَ فَيَردُّونَ العُدْوَانَ، وَيُعاقِبُونَ بِمِثْلِ مَا وَقَعَ عَلَيهم مِنْ الأذى، فَإِنْ لَمْ يَكٌفَّ المُعْتَدُونَ عَنْ عُدْوَانِهِم، وَعَادُوا إٍِلَى البَغْي عَلى المَظْْلُومِينَ، تَكَفَّلَ اللهُ عَِنْدَئِذٍ بِنَصْرِ المَظْلُومِينَ عَلَى المُعْتَدِينَ. فَشَرءطُ هَذَا النَّصْرِ أَنْ يَكُونَ العِقَابُ قِصَاصَاً عَلَى اعْتِدَاءٍ، لاَ عُدْوَاناً وَتَبَطُّراً، وَأًَلاَّ يُجَاوِزَ العِقَابُ العدَوانَ الواقِعَ دونَ مُغَالالةٍ. وَمَنْ قَامَ بِرَدِّ الاعْتِدَاءِ الوَاقِعِ عَليهِ، وَلَمْ يَغْفِرْ فَإِنَّ اللهَ يَعْفُو عَنْه، وَيَغْفِرُ لَهُ لأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ العَفُوُّ الغَفُورُ.
(نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَقِيَتْ جَمَاعَةً مِنَ المُشْرِِكِينَ فِي شًَهْرِ محَرَّمٍ، فَنَاشَدَهُمُ المُسْلِمُون لَئِلا يُقَاتِلُوا في الشَّهْرِ الحَرَامِ فَأَبَى المُشْرِكُون إِلاَّ قِتَالَهُمْ، فَقَاتَلُهُمُ المُسْلِمُونَ ونَصَرَهُمُ اللهُ عَلَيهم).
﴿الليل﴾ ﴿الليل﴾
(٦١) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى النَّاسُ إِلَى أَنَّهُ الخَالِقُ المُتَصَرِّفُ في خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَهُو القَادِرُ عَلَى نَصْرِ المَظْلُوم الذِي بُغِيَ عَلَيْهِ، وَنَصْرُهُ هَيِّنٌ عَلَيهِ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ مُتَدَاخِلَيْنِ مُتَتَالِيَيْنِ، يَتَنَاوَبَانِ الطُّولَ والقِصَرَ، وَفِي ذلِكَ آيةٌ وَدَلاَلَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَلكِنَّ النَّاسَ يَمُرُّونَ عَلَى هذِهِ الآياتِ غَافِلِينَ. واللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ. العِبَادِ بَصِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ.
يولج - يُدخِل.
﴿الباطل﴾
(٦٢) - وَذلكَ الاتِّصَافُ بكَمَالِ القُدْرَةِ، وَكَمَالِ العِلْمِ، إِنَّمَا كَانَ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الإِلهُ الحَقُّ الذِي لا تَنْبَغِي العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ لأَنَّهُ ذُو السُّلْطَانِ، فَمَا شَاءَ كَانَ. وَكُلُّ شَيءٍ فَقِيرٌ إِليهِ ذَليلٌ لَدَيهِ، وَإِنَّ الأَصْنَامَ التِي يَدْعُونَها، والأًَوْثَانَ التِي يَعْبُدُونها مِنْ دُونِ اللهِ هيَ بَاطِلٌ لأَنَّها لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلا نَفْعاً، واللهُ تَعَالى هُوَ العَليُّ الكَبيرُ، وَكُلُّ شَيءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، لاَ شَيءِ أَكْبَرُ منهُ وَلا شَيءَ أَعْلَى مِنْهُ.
(٦٣) - وَمِنْ دَلائِلِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَعَظِيمِ شَأْنِهِ أَنَّهُ يُنْزِلُ المَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْضَرُّ الأَرْضُ، وَتُنْبِتُ بِالنَّبَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مِيِّتَةً. وَمِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى أَنْ تَتَحَرَّكَ النَّبَاتَاتُ في بَاطِنِ الأَرْضِ ثُمَّ تَشُقُّها وَتَخْرُجُ مِنْهَا. وَهُوَ عَلِيمٌ بِجِميعِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، لاَ تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيةٌ، وَهُوَ تَعَالَى لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فَيُدَبِّرُها وَيَتَوَلاّهَا بِعِنَايِتِهِ.
﴿السماوات﴾
(٦٤) - وَجَميعُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ للهِ: خَلَقَهُ وَدَبَّرَهُ وَنَظِّمَهُ وَأَمَّنَ زِرْقَهُ، وَهُوَ غَنيٌّ عَنْ جَميعِ مَخْلُوقَاتِهِ، مَحْمودٌ في جَميعَ أَحْوَالِهِ وأَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ.
﴿لَرَءُوفٌ﴾
(٦٥) - وَمِنْ إِحْسَانِه تَعَالَى وَفَشْلِهِ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَنَبَاتٍ لِيَنْتَفِعُوا بهِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ المَرَاكِبَ التِي تَسيرُ في البَحْرِ، وَتَنْقُلُ النَّاسَ وَمَتَاعَهُمْ وَدَوابَّهُمْ مِنْ مَكَانٍ إِلى آخَرَ وَرَفَعَ السَّمَاءَ بِقُدْرَتِهِ وَأَمْسَكَهَا وَمَنَعَها بِلُطْفِهِ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ لأَذِنَ لَهَا فَسَقَطَتْ عَلَى الأَرْضِ فَدَمَّرَتْها وَأَهْلَكَتْ مَنْ فِيها، وَلَكِنَّ الله رَؤُوفٌ بالنَّاسِ رَحيمٌ يَحْلُمُ عَلَيْهِمْ، وَيَرْأَفُ بِحَالِهِم، مَعَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ.
﴿الإنسان﴾
(٦٦) - فَكَيفَ يَجْعَلُونَ للهِ أَنْدَاداً، وَتَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ المُسْتَقِلُّ بالخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَدْ أَوْجَدَكُمْ الحَيَاة، وَلَمْ تَكُونَوا شَيئاً، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مِيتَةَ الحَقِّ الاتِي فَرَضَها عَلَى جَميعِ خَلْقِهِ، ثُمّ يُعِيدُ خَلْقَكُمْ مِنْ جَديدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُجَازِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبتَ، وَلكِنَّ الإِنْسَانَ يَرَى كُلَّ ذَلِكَ وَيُدْرِكُهَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِرَبِّهِ، وَيَجْحَدُ بِآلائِهِ لأَنَّهُ كَثيرُ الكُفْرِ، شَدِيدُ الجُحُودِ.
﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ﴾
(٦٧) - وَلَقَدْ جَعَلْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ، مِنَ الأُمَمِ ذَاتِ الشَّرائعِ السَّابِقَةِ، شَرْعاً وَمِنْهاجاً (مَنْسَكاً)، يَسِيرونَ عَليه، وَيَعْمَلُونَ بِهٍِ وَيَعْبُدُونَ الله وَفْقَهُ إِلى أَنْ يَنْسَخَهُ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، فَقَدْ جَعَل اللهُ التَّورَاة شَرِيعةً لِلْيَهُودِ حَتَّى مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيِهِ السَّلامُ، وَجَعَلَ الإِنْجِيلَ شِرْعَةً للنَّصَارَى حَتَّى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ القُرآنَ شِرْعَةً لِلْمُسْلِمينَ لأنَّه نَسَخَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرائِع، فَلا تَتْرُكْ يَا مُحمَّدُ هؤُلاءِ المُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرائِعِ المَنْسُوخَةِ يَصْرِفُوكَ، بِمُنَازَعَتِهِمْ لَكَ، عَنِ الحَقِّ الذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، وَتَابعْ طَرِيقَكَ، وَأدِّ مَهَمَّتَكَ فِي إِبلاغِ الدَّعْوةِ للنَّاسِ فَإِنَّكَ عَلَى طَرِيقِ الهُدَى المُسْتَقِيمِ الوَاضِحِ.
مَنْسَكاً - شَرِيعَةً خَاصَّةً أَوْ نُسْكاً وِعِبَادَةً.
﴿جَادَلُوكَ﴾
(٦٨) - فَإِذا جَادَلَكَ هؤلاءِ الضَّالونَ فَاخْتَصِرِ الجَدَلَ مَعهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَسْعَوْنَ إلى الاسْتِيضَاحِ وَالتَّعَلُّم، وَإِنَّما يُجَادِلونَكَ تَعَنُّتاً، وَقلْ لَهُمْ: اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَبِمَا تَرْمُونَ إِليهِ مِنْ جَدَلِكُمْ، وَهُوَ تَعَالَى يُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ، وَيُحَاسِبُكُم عَليها جَميعاً.
﴿القيامة﴾
(٦٩) - وَاللهُ يَجْمعُ النَّاسَ جمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَحْكُمُ بِعَدْلِهِ بَيْنَهُمْ وَسَيَحْكُمُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ هؤلاءِ الضَّالينَ فِيما اخْتَلَفْتُمْ فِيه مِنْ أَمورِ الدِّينِ، فَيَتَبَيَّنُ المُحِقُّ مِنَ المُبطِل.
﴿كِتَابٍ﴾
(٧٠) - يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَنَظَرَ النَّاسِ، إِلَى أَنَّهُ هُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، وَخَلَقَ جَمِيعَ مَا فِيهِما مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَهُوَ عَالِمٌ بِحَالِ كُلِّ مَخْلُوقٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَقَدْ سَطَّرَ كُلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ لَدَيْهِ (اللوح المَحْفُوطِ أو أُمِّ الكِتَابِ) ولَيْسَ ذَلِكَ صَعْباً عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وهِيَ قُدْرَةٌ لاَ حُدُودَ لَهَا.
﴿سُلْطَاناً﴾ ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾
(٧١) - وَيَعْبُدُ هؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ أَصْنَاماً وأَوْثَاناً وَأَنْدَاداً مِنْ دُونِ اللهِ، لَيْسَ لَهُمْ فِي عَِبَادَتِها حُجَّةٌ وَلاَ بُرْهَانٌ، وَلاَ عِلْمَ لَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ، وَفِيمَا ادَّعَوْهُ، وإِنَّمَا نَقَلُوه عَِنْ أَسْلاَفِهِمْ، فَسَارُوا عَلَيْهِ بِدُونِ تَمْحِيصٍ، وَلاَ إِعْمَالِ عَقْلٍ فِيهِ، وَيَتَوَعَّدُهٌمْ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِمْ هَذَا بِأَنَّ الظَّالِمِينَ لَنْ يَجِدْوا لَهُمْ مِنْ يَنْصُرُهُم مِنَ اللهِ فِيمَا يَحٍِلُّ بِهِمْ مِنَ العَذَابِ والنَّكَالِ يضوْمَ القِيَامَةِ.
سُلْطَاناً - حُجَّةً وَبُرْهاناً.
﴿آيَاتُنَا﴾ ﴿بَيِّنَاتٍ﴾
(٧٢) - وَإِذَا قُرِئَتْ عَلَى هَؤُلاَءِ المًُشْرِكِينَ، العَابِدِينَ غَيْرَ اللهِ، آيَاتُ القرآنِ البَيِّنَاتُ، وَذُكِّرُوا بِمَا فِيهَا مِنْ حُجَج وَبَرَاهِينَ، وَدَلاَئلِ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، تَتَبَدَّلُ مَلاَمِحُ وُجُوهِهِمْ، وَتَثُورُ نُفُوسُهم وَيَهُمُّونَ بِالبَطْشِ بالذين يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ، وَيَذُكِّرونَهُمْ بِهَا، وَيَكَادُونَ يُبَادِرُونَهم بالضَّرْبِ والشَّتْمِ (يَسْطُونَ بِهِمْ).
فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ: إِنَّ النَّارَ التِي أَعَدَّها اللهُ للكَافِرِينَ لِيُذِّبَهُمْ فِيهَا هِيَ أَشَدَّ وَأَقْسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا تُخَوِّفُونَ بِهِ أولِياءَ اللهِ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا؛ وَبِئْسَ النَّارُ مَنْزِلاً وَمُقَاماً وَمَصِيراً، يَوْمَ القِيَامَةِ، للذين كَفَرُوا.
المُنْكَر - الأًَمْرُ المُسْتَقْبَحُ.
يَسْطُونَ - يَثُبِوهَ وَيَبِطشُونَ غَيْظَاً وَغَضَباً.
﴿ياأيها﴾
(٧٣) - يُنَبِّهعُ الللهُ تَعَالَى إِلَى تَفَاهَةِ الأَصْنَامِ، وَسَخَافَةِ عُقُولِ عَادِيِههَا، فَيَقُوللُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلَ المُشْرِكُونَ لِي أَششْبَاهاً وَأَنْدَاداً مِنَ الأَصْنَامِ والأأَوْثَانِ التي يَعبُدُونَهَا ممَعِي، فَأَنْصِتُوا وَتَفَهَّمُوا حَالَ هََؤلاَءِ المَعْبُودِينَ: لَوْ اجْتتَمَعَ جَمِيعُ مَنْ يَعْبُدُهُم البَشَرُ مِنْ دُون اللهِ عَلَى أَنْْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً لَمَا اسْتَطَاعُوا، وَلََعَجُزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقُاوَمَةِ الذُّبَابِ إِذَا سَلَبُهُمْ شَيئاً مِمَّا عًَلَيْهِمْ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا اسْتِنْقَاذَهُ مِنْهُ لِمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِذًَا عَجَزَ هَؤُلاءِ عَنْ خَلْقِ الذُّبَابِ، وَعَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَهُوَ من أَضْعَفِ مَا خَلَقَ اللهُ، فَهُمْ أَعْجَزُ عَنِ الإِتْيَانِ بِشيءٍ آخَرَ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهم عَاقِلٌ؟ ضَعُفَ الصَّنَمُ الطَّالِبُ، وَضَعُفَ الذُّبَابُ المَطْلُوبُ.
(٧٤) - مَا عَرَفَ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ قَدْرَ الله وَعَظَمَتَهُ حِينَ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي العِبَادَةِ سِوَاهُ مِنَ الأَصْنَامِ التِي لاَ تَسْتْطيعُ مُقَاوَمَةَ الذُّبَابِ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِها. واللهُ هُوَ القَادِرُ الذِي خَلَقَ الكَوْنَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، وَلاَ يُعْجِزُه خَلْقٌ وَلاَ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ العَزِيزُ الذي لا يَضام وَلاَ يُرَامُ.
مَا قَدَرُوا الله - مَا عَظَّمُوه، أَوْ مَا عَرَفُوه.
﴿الملائكة﴾
(٧٥) - اقْتَضَتْ مَشِيئَةُُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مِنَ مَلاَئِكَتِهٍِ الكِرَامِ، فِيمَا يَشَاءُ إِبْلاَغَههُ إِلى رُسُُلِهِ مِنَ البَشَرِ، وَأَنْ يَخْتَارًَ رُسُلاً مَنَ البَشَرِ لإِبْلاَغِ رسَالاَتِه إِلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ. عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مَنَ البَشَرٍ لإِبْلاَغِ رسًَالاَتِه إِلى النَّاسِ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِأْحْوَالِهِمْ. عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَهُ اللهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ.
(٧٦) - يَعْلَمُ اللهُ تَعَالَى مَا يَفْعَلُهُ رُسُلُه وَمَلاَئِكَتُهُ فِيمَا أَرْسَلَهُم بِهِ، فَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَهُوَ سُبْحَانَه رَقِيبٌ عَلَيْهِم، شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لًَهُمْ وَنَاصِرٌ. وَإِلَيهِ تَعَالَى يَرْجِعُ أَمْرُ الخَلْقِ كُلِّهِم يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُحَاسِبُهُم ويَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
﴿ياأيها﴾ ﴿آمَنُواْ﴾
(٧٧) - يأمُر اللهُ المؤمِنِينَ بِعِبََادَتِهِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلاةِ، وَبِالرُّكُوع والسجُودٍِِِ له، وَبِفِعْلِِ الخَيْرِ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُوصِلُُهُمْ إلَى الخَيْرِ، لَعَلََّ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْْ إِلَى الخَيْرِ واللفَلاََحِ فيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِِ.
﴿وَجَاهِدُوا﴾ ﴿اجتباكم﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿سَمَّاكُمُ﴾ ﴿الصلاة﴾ ﴿وَآتُواْ﴾ ﴿الزكاة﴾ ﴿مَوْلاَكُمْ﴾
(٧٨) - يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بٍِالجِهَادِ وأَخْلَصَهُُ: بِالأَمْوَالِ والأَنْفْسِ والألْسِنَةِ، فَقَدْ اصْطفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، واخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سَِِوامهُم، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ، وَلَمْْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْهِمِ فِي شَيْءٍٍ مِنْ أُمورِ دِينِِهمِ، بَلْ وَسَّع عَلَيهم، فِي شَيْءِ مِنْ أُمورِ دِيِنهِم، بَلْْ وَسَّعَ عََلَيْهِمِ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلّةِ إبْرِاهيِمَ عَلَيْهِم فِي شَيْءٍ مِنْ أُمورِ دِيِنِهم، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْهم، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامَمُ (وَنَصَبَ مِلَّةِ) عَلَى تَقْدِيرِ الزَمُوا مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ)، وَقَدْ سَمَّاهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسْلِمين فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، وَفي هَذَا القُرْآنِ (مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا). وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً عُدُولاً لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمِ القِيَامَةِ، لأَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمِ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغَتَهُم رِسَالَةَ أَبْلَغَتْهُم رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، والرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيهِ، فَلْيُقَابِلِ المُسْلِمُونَ هَذِهِ النِعْمَةَ العَظِيمَةَ بالقِيَامِ بِشُكْرِ اللهِ عَلَيهَا، وَأداءِ حَقِّ اللهِ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِم، ومِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إقَامَةُ الصَّلاَةِ وأداؤها حَقَّ أَدَائِها، وَدفْعُ الزَّكَاةِ، والاعْتِصَامُ بِاللهِ، وَالاسْتِعَانَهُ بِهِ، والاتِّكَالُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَوْلاَهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ، وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّاصِر عَلَى الاَعْداءِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ "). " وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مُعَاذَ بنَ جبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَما بَعَثَهُمَا أمِيرَيْنَ عَلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا:
بَشِّرِا وَلاَ تُنَفَّرَا، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرا ".
الجِهَادُ - بَذْلُ الجُهْدِ فِي مُدَافَعَةِ العَدُوِّ.
هو اجْتَبَاكُم - اخْتَارَكُم لِدِينِهِ وعِبَادَتِهِ ونُصْرَتِهِ.
حَرَجٌ - ضِيقٌ بِتَكْلِيفٍ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ.
هُوَ مَوْلاَكُم - مَالِكُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ ومُتَولِّي أُمْرِكُمْ.
سورة الحج
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الحَجِّ) من السُّوَر المدنيَّة، ومع ذلك فإنها جاءت على ذِكْرِ كثيرٍ من موضوعات السُّوَر المكِّية؛ مثل: بيان مسائلِ الاعتقاد والتوحيد، وما يَتعلَّق بمَشاهِدِ يوم القيامة وحسابِ الله عز وجل للخَلْقِ، إلا أن مِحوَرَها الرئيس كان حول رُكْنِ (الحَجِّ)، وما يتعلق به من أحكامٍ تشريعية، ودَوْرِ هذا الرُّكن في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بأحكامٍ تشريعية تتعلق بالجهاد وقتال المشركين؛ فقد مزَجتِ السورةُ بين موضوعات السُّوَر المكِّية والمدنيَّة، إلا أن مِحوَرَها تشريعيٌّ؛ كما أشرنا.

ترتيبها المصحفي
22
نوعها
مدنية
ألفاظها
1281
ترتيب نزولها
103
العد المدني الأول
76
العد المدني الأخير
76
العد البصري
75
العد الكوفي
78
العد الشامي
74

* قوله تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ فَاْلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ اْلْحَمِيمُ} [الحج: 19]:

عن قيسِ بن عُبَادٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «أنا أوَّلُ مَن يجثو بين يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ».

قال قيسٌ: «وفيهم نزَلتْ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ}، قال: هم الذين بارَزوا يومَ بَدْرٍ: عليٌّ، وحَمْزةُ، وعُبَيدةُ، وشَيْبةُ بنُ ربيعةَ، وعُتْبةُ بنُ ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتْبةَ». أخرجه البخاري (٤٧٤٤).

* قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا خرَجَ النبيُّ ﷺ من مكَّةَ، قال أبو بكرٍ: أخرَجوا نبيَّهم! إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون! لَيَهلِكُنَّ؛ فنزَلتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، قال: فعرَفْتُ أنَّها ستكونُ».

قال ابنُ عباسٍ: «فهي أوَّلُ آيةٍ نزَلتْ في القتالِ». أخرجه ابن حبان (٤٧١٠).

* سورة (الحَجِّ):

سُمِّيت سورة (الحَجِّ) بذلك؛ لأنها جاءت على ذِكْرِ رُكْنِ (الحَجِّ).

* فُضِّلتْ سورةُ (الحَجِّ) بأنها السورةُ الوحيدة من سُوَرِ القرآن الكريم التي جاء فيها سجدتانِ:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، فُضِّلتْ سورةُ الحَجِّ بأنَّ فيها سجدتَيْنِ؟ قال: «نَعم، ومَن لم يسجُدْهما فلا يَقرَأْهما». أخرجه الترمذي (٥٧٨).

جاءت سورة (الحَجِّ) على ذِكْرِ الكثير من الموضوعات؛ وهي:

1. الأمر بالتقوى، والإيمان بالساعة (١-٢).

2. المجادلة بغير علم (٣-٤).

3. الأدلة على البعث (٥-٧).

4. المجادلة بغير علم (٨-١٦).

5. الفصل بين الأُمَم، والاعتبار (١٧-٢٤).

6. الصد عن سبيل الله والمسجدِ الحرام (٢٥-٣٧).

7. الإذن بالقتال والدفاع عن المؤمنين (٣٨-٤١).

8. الاعتبار بهلاك الأُمَم السابقة (٤٢-٤٨).

9. إحكام الوعيِ للنبي صلى الله عليه وسلم (٤٩ - ٦٠).

10. من دلائلِ قدرة الله تعالى (٦١-٦٦).

11. بطلان شريعة ومنهاج المشركين (٦٧-٧٦).

12. أوامر الله للمؤمنين (٧٧-٧٨). ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /87).

ويقول شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ: «سورة الحَجِّ ‌فيها ‌مكِّيٌّ ومدَنيٌّ، وليليٌّ ونهاريٌّ، وسفَريٌّ وحضَريٌّ، وشِتائيٌّ وصَيْفيٌّ.

وتضمَّنتْ منازلَ المسيرِ إلى الله؛ بحيث لا يكون منزلةٌ ولا قاطع يَقطَع عنها.

ويوجد فيها ذِكْرُ القلوبِ الأربعة: الأعمى، والمريض، والقاسي، والمُخبِتِ الحيِّ المطمئنِّ إلى الله.

وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ - على اختصارها - ما هو بَيِّنٌ لمَن تدبَّرَه.

وفيها ذِكْرُ الواجبات والمستحَبَّات كلِّها؛ توحيدًا، وصلاةً، وزكاةً، وحَجًّا، وصيامًا؛ قد تضمَّنَ ذلك كلَّه قولُه تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْرْكَعُواْ وَاْسْجُدُواْۤ وَاْعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩} [الحج: 77]،  فيدخُلُ في قوله: {وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ} كلُّ واجبٍ ومستحَبٍّ؛ فخصَّصَ في هذه الآيةِ وعمَّمَ، ثم قال: {وَجَٰهِدُواْ فِي اْللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ} [الحج: 78]، فهذه الآيةُ وما بعدها لم تترُكْ خيرًا إلا جمَعَتْهُ، ولا شرًّا إلا نفَتْهُ». "مجموع الفتاوى" (15 /266).

وهذه السورةُ مِن أعاجيبِ السُّوَرِ؛ كما ذكَر ابنُ سلامةَ البَغْداديُّ، وأبو بكرٍ الغَزْنويُّ، وابنُ حزمٍ الأندلسيُّ، وابنُ تيميَّةَ.

ومِن عجائبِ هذه السورةِ الكريمة: أنه اجتمَع فيها سجودانِ، وهذا لم يحدُثْ في سورةٍ أخرى، بل قال بعضُ العلماء: «إن السجودَ الثاني فيها هو آخِرُ سجودٍ نزَل في القرآنِ الكريم». انظر: "الناسخ والمنسوخ" للبغدادي (ص126)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن حزم (ص46)، و"تفسير القرطبي" (21/1)، و"مجموع الفتاوى" (15/266)، و"بغية السائل" (ص548).

جاءت سورة (الحَجِّ) بمقصدٍ عظيم؛ وهو دورُ رُكْنِ (الحَجِّ) العظيمُ في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بالحثِّ على التقوى، وخطابِ الناس بأمرهم أن يتَّقُوا اللهَ ويَخشَوْا يومَ الجزاء وأهوالَه، والاستدلالِ على نفيِ الشرك، وخطابِ المشركين بأن يُقلِعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية، وعن المجادلة في ذلك اتباعًا لوساوسِ الشياطين، وأن الشياطينَ لا تُغني عنهم شيئًا، ولا ينصرونهم في الدنيا ولا في الآخرة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /296)، والتحرير والتنوير (17 /184).