ﰡ
مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة، وهى: هذانِ خَصْمانِ... إلى: صِراطِ الْحَمِيدِ. وهى ثمان وسبعون آية.
ومناسبتها لما قبلها: قوله: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ «١» من قيام الساعة، وهى التي خوّف بها فى قوله:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)قلت: زلزلة: مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز، أو إلى الظرف، وهي الساعة. و (يَوْمَ)
: منصوب بتذهل.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة. ولفظ «الناس» يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا، والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع إضافتها لضمير المخاطبين لتأكيد الأمر، وتأكيد إيجاب الامتثال به لأن الربوبية دائمة، والعبودية واجبة بدوامها، أي: احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة، فقال: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة: التحرك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث تزيل الأشياء من مقارها، وتخرجها عن مراكزها، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها الآية «٢».
واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق، أو بعدها عند الحشر؟ فقال الحسن رضى الله عنه: إنها تكون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: زلزلة الساعة: قيامها. وعن علقمة والشعبي: أنها قبل طلوع الشمس من مغربها، فإضافتها إلى الساعة لكونها من أشراطها. قال الكواشي: وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة
(٢) الآية الأولى من سورة الزلزلة.
والتحقيق: ما قدمناه عند قوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ «١»، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفي التعبير ب (شيء عظيم) إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة ضيقة، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
ثم هوَّل شأنها، فقال: يَوْمَ تَرَوْنَها
أي: الزلزلة، وتُشاهدون هول مطلعها، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
أي:
مباشرة للإرضاع، عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي: تغفل وتغيب، من شدة الدهش عما هي بصدد إرضاعه من طفلها، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة، بالتاء، هي المباشرة الإرضاع بالفعل، والمرضع- بلا تاء- لمن شأنها ترضع، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه «بما»، دون «من» لتأكيد الذهول، كأنها من شدة الهول لا تدري من هو بخصوصه، وقيل: «ما» مصدرية، أي: تذهل عن إرضاعها. والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.
وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي: تلقى جنينها من غير تمام، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول: إنها قبل نفخة الصعق ظاهر، وأما على من يقول، إنها بعد قيام الساعة، فقد قيل:
إنه تمثيل لتهويل الأمر وشدته. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
أي: وترى أيها الناظر الناس سكارى، على التشبيه، من شدة الهول، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية، حتى قال كلُّ نبي: نفسي نفسي. وَما هُمْ بِسُكارى
على التحقيق، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم، وطيَّر تمييزهم، وردهم في حال من يَذهب السكُر بعقله وتمييزه. وعن الحسن: وترى الناس سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ: (سُكارى)
كعطشى. والمعنى واحد، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم، حتى تُشرق على قلوبكم أنوار ربكم، فتزلزل أرض نفوسكم، وتدك جبال عقولكم، عند سطوع شمس العرفان، والاستشراف على مقام الإحسان. إن زلزلة الساعة، التي تشرف فيها على أسرار الذات، شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لو كانت أنثى،
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة | خَمْرُهَا دُون خَمْرِي، خَمْرَتِي أَزَلِيّة. |
والنَّفْسُ عَزَّتْ، ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا | والذُّلُّ مرٌّ، ولكن في رضاكَ حَلاَ |
يا مَنْ عذابِيَ عَذْبٌ في مَحَبَّته | لاَ أشْتكِي منك لا صَدّاً ولا مللا. |
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣ الى ٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
قلت: (وَمِنَ النَّاسِ) : خبر، و (مَن يجادل) : مبتدأ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من ضمير «يُجادل»، و (أَنَّهُ) : نائب فاعل (كُتِبَ)، أي: كتب عليه إضلال من تولاه، و (فإنه) : مَنْ فتح: عنده خبر عن مبتدأ مضمر، أي: فشأنه أن يضله، والجملة جواب «مَن»، إن جعلتها شرطية، وخبر، إنْ جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط، ومن كسر: فخبر، أو جواب «مَنْ».
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ ويخاصم فِي اللَّهِ أي: في شأنه، ويقول مالا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته، ملابسًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت فى النضر ابن الحارث، وكان جَدلاً، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت، والله غير قادر على إحياء من بَلى وصار رميمًا «٣». وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين، وكل من يخاصم في الدين بالهوى. وَيَتَّبِعُ في ذلك كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ عاتٍ متمرد، مستمر في الشر. قال الزجاج: المَريد والمارد: المرتفع الأملس، أي: الذي لا يتعلق به شيء من الخير، والمراد: إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده.
(٢) أي: الساعة.
(٣) ذكره البغوي فى تفسيره (٥/ ٣٦٥). [.....]
الإشارة: ومِن الناس مَن تنكبت عنه سابقةُ الخصوصية، فجعل يجادل في طريق الله، وينكر على المتوجهين إلى الله، إذا خرقوا عوائد أنفسهم، وسَدَّ الباب في وجوه عباد الله، فيقول: انقطعت التربية النبوية، وذلك منه بلا عِلْمِ تحقيقٍ ولا حجةٍ ولا برهان، وإنما يتبع في ذلك كل شيطان مريد، سوَّل له ذلك وتبعه فيه. كُتب عليه أنه من تولاه، وتبعه في ذلك، فإنه يُضله عن طريق الخصوص، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب، ويهديه إلى عذاب السعير، وهو غم الحجاب والحصر في سجن الأكوان، وفي أسر نفسه وهيكل ذاته، عائذاً بالله من ذلك.
ثم برهن على قيام الساعة، التي خوّف منها، ورد من يجادل فيها، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي: إن شككتم في أمر البعث، فمُزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، وقد كنتم في الابتداء تُرابًا وماء، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا، وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء، فكما بدأكم منه يعيدكم منه، كما قال تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي: أباكم مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ خلقناكم مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي: قطعة دم جامدة، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي: لحمة صغيرة، بقدر ما يمضغ، مُخَلَّقَةٍ أي: مصورة الخلقة، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي: لم يتبين خلقها وصورتها بعدُ.
وإنما فعلنا ذلك لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، بهذا التدريج، كمال قدرتنا وحكمتنا لأن مَن قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانيًا، وقدر على أن يجعل النطفةَ علقةً، والعلقة مضغة، والمضغة عظامًا، قدر على إعادة ما بدأ، بل هو أهون في القياس وَنُقِرُّ أي: نثبت فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ ثبوته إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى: وقت الولادة، ومالم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من الرحم طِفْلًا، أي: حال كونكم أطفالاً.
والإفراد باعتبار كل واحد منهم، أو بإرادة الجنس، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي: ثم نربيكم لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد: من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته: قيل: ثلاثون سنة، وقيل: أربعون.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قبل بلوغ الأشد أو بعده، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي: أخسه، وهو الهرَمُ والخرف، لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي: لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه من العلوم، مبالغة في انتقاص علمه، وانتكاس حاله، أي: ليعود إلى: ما كان عليه في أوان الطفولية، من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس: مَن قرأ القرآن، وعمل به، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلاً آخر على البعث، فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً: ميتة يابسة، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وَرَبَتْ انتفخت وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ: صنف بَهِيجٍ: حسن رائق يسر ناظره.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم، وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحِكم، حاصل بهذا، وهو أن الله هو الحق، أي: الثابت الوجود. هكذا للزمخشري ومن تبعه، وقال ابن جزى: والظاهر: أن الباء ليسست سببية، كما قال الزمخشري، وهو أيضًا مقتضى تفسير ابن عطية، وإنما يُقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى، وذلك أن يكون التقدير: ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات، شاهد بأن الله هو الحق، وبأنه يحيي الموتى، وبأن الساعة آتية، فيصح عطف وَأَنَّ السَّاعَةَ على ما قبله، بهذا التقدير، وتكون هذه الأشياء المذكورة، بعد قوله: (ذلك)، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات. هـ.
قال المحشي الفاسي: ويرد عليه: أن تقديره عاملاً خاصًا يمنع حذفه، وإنما يحذف إذا كان كونًا مُطلقًا، فلا يقال: زيد في الدار، وتريد ضاحكٌ مثلاً، إلا أن يقال في الآية: دل عليه السياق، فكأنه مذكور. وعند الكواشي:
وذلك أيضًا شاهد بأنه يُحْيِيَ الْمَوْتى كما أحيا الأرض، مرة بعد أخرى، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: مبالغ في القدرة، وإلاَّ لَمَا أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر، مع كونه مِن جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع، وللطعن في نحور المنكرين. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ: قادمة عليكم، لا رَيْبَ فِيها، وإيثار اسم الفاعل على الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره ألْبَتَّةَ. ومعنى نفي الريب عنها: أنها، في ظهور أمرها ووضوح دلائلها، بحيث ليس فيها مظنة الريب، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به، وهو لا يخلف الميعاد، والتعبير ب «من في القبور» : خرج مخرج الغالب، وإلاَّ فهو يبعث كل من يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية، وظهور أهل الخصوصية في زمانهم، الذين يحيي اللهُ الأرواحَ الميتة، بالجهل والغفلة، على أيديهم إن كنتم في ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم، فمن فعل ذلك وقدر عليه، قدر أن يحيي النفوس الميتة بالغفلة في كل زمان. وفي الحكم: «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وَكَانَ الله على كُلِّ شيء مقتدرا». وجرت عادته أنه لا يحييها في الغالب إلا على أيدي أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة، وهي الواردات الإلهية، وأسقيناها الخمرة القدسية، اهتزت فرحًا بالله، وربت، وارتفعت بالعلم بالله، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم، ما تَبْهَجُ منه العقول، ذلك شاهد بوحدانية الحق، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي: في شأنه، فيصفه بغير ما هو أهله، وهو أبو جهل، كما قال ابن عباس رضى الله عنه، وقيل: هو من يتصدى لإضلال الناس، كائنًا من كان. حال كونه بِغَيْرِ عِلْمٍ، بل بجهل وهوىً. والمراد بالعلم: الضروري، كما أن المراد بالهدى في قوله: وَلا هُدىً: هو الاستدلال والنظر الصحيح، الهادي إلى المعرفة. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي: وحي يستند إليه، والحجة إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة، أي: يجادل في شأنه تعالى، من غير تمسك بمقدمة ضرورية، ولا بحجة نظرية، ولا ببرهان سمعي.
حال كونه ثانِيَ عِطْفِهِ أي: لاويًا عُنُقَهُ عن طاعة الله كبرًا وعُتوًا، أو عاطفًا بجانبه، وطاويًا كَشْحَهُ «١»، معرضًا متكبرًا، فثنْي العطف كناية عن التكبر. وقرأ الحسن بفتح العين، أي: مانعًا تعطفه على المساكين قسوةً. فعل ذلك الجدال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: ليضل الناس عن سبيل الله فإنَّ غرضه بالمجادلة إضلال المؤمنين، أو جميع الناس، وقرأ الملكي وأبو عمر: بفتح الياء، أي: ليصير ضالاً عن سبيل الله. وجعل ضلاله غاية لجداله، من حيث إن المراد به الضلال المبين، الذي لا هداية بعده، مع تمكنه منها قبل ذلك، أي: ليرسخ في الضلالة أيّ رسوخ، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ: هوان وذُل، وهو القتل يوم بدر، وهو بيانُ نتيجةِ ما سلكه من الطريقة، أي: يثبت له، بسبب ما فعل، خزي وصغار، وهو ما أصابه ببدر، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي: النار المحرقة.
ذلِكَ أي: ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي. وما في الإشارة من البُعد للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، أي: ذلك العذاب الهائل بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي: بسبب ما اقترفْتَهُ من الكفر والمعاصي. وإسناده إلى يديه لأن الاكتساب في الغالب بهما. والالتفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد. أو يقال له يوم القيامة: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فلا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا بذنب غيره. وهو خبر عن مضمر، أي: والأمر أنَّ الله ليس بمعذبٍ لعبيده بغير ذنب، وأما عطفه على «بما» فغير سديد، ولفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع في العبيد، ولأن قليل الظلم منه، مع علمه بقبحه واستغنائه عنه، كالكثير منا. قاله النسفي.
الإشارة: من يخاصم في طريق القوم، وينفيها عن أهلها، إما أن يكون تقليدًا، وهو ما تقدم، أو يكون تكبرًا وعتوًا، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم، وهو ما أشير إليه هنا. ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل، ولو عند الموت. ويوم القيامة يُحشر صاغرًا كالذر، كما في الحديث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حال المذبذبين، بعد ذكر حال المجادلين المصمّمين، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
قلت: (لَمَنْ ضَرُّهُ) : قال ابن عطية: جرى فيه إشكال وهو دخول اللام على «مَنْ»، وهو في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه أحدها: أن اللام متقدمة على موضعها، والأصل أن يقال:
يدعو مَنْ لَضَرُّهُ أقرب، فموضعها الدخول على المبتدأ، وثانيها: أنّ «يدعو» تأكيد ليدعو الأول، وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله: (لَمَنْ ضَرُّهُ)، فمن مبتدأ، وخبره: (لَبِئْسَ الْمَوْلى)
- قلت: وإياه اعتمد الهبطي في وقفه، وثالثها: أن معنى «يدعو» : يقول يوم القيامة هذا الكلام، إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام. هـ.
قلت: والأقرب ما قاله الزجاج، وهو: أن مفعول (يدعو) محذوف، ويكون ضميرًا يعود على الضلال، وجملة:
(يَدْعُوا) : حال، والمعنى: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي: حال كونه مدعوًا له، ويكون قوله: (لَمَنْ ضَرُّهُ) مستأنفًا مبتدأ، خبره: «لبئس المولى». نقله المحشي. وحكم المحلي بزيادة اللام.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي: على طرف من الدين لاثبات له فيه، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرَّ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس: «كان الرجل
هذا الدين سُوء» «١». وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي، بدأ بالكافر المصمم، يجادل جدالاً مجملاً، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني: مقلد مجادل، من غير دليل ولا برهان، والثالث: كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم، بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا... الآية.
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي: دنيوي من الصحة في البدن، والسعة في المعيشة، اطْمَأَنَّ بِهِ أي: ثبت على ما كان عليه ظاهرًا، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين، الذين لا يلويهم عنه صارف، ولا يثنيهم عنه عاطف. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ: بلاء في جسده، وضيق في معيشته، أو شيء يفتتن به، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله، انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي: ارتد ورجع إلى الكفر، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، مهاجرين، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا، وولدت امرأته غلامًا سويًا، وكَثُرَ مالُه وماشيته، قال: ما أصبتُ، مذ دخلت في ديني هذا، إلا خيرًا، واطمأن، وإن كان الأمر خلافه، قال: ما أصبتُ إلا شرًّا، وانقلب عن دينه. وعن أبى سعيد رضى الله عنه: أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ، فَأَتَى النبي ﷺ فَقَال: أَقِلْنِي، فقال: «إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ»، فَنَزلت «٢».
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ: فَقَدَهُما، وضيعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب: خاسر، على الحال. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله: يَدْعُوا أي: يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: متجاوزًا عنه تعالى، ما لا يَضُرُّهُ إذا لم يعبده، وَما لا يَنْفَعُهُ إذا عبده. ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي: التلف البعيد عن الحق.
يَدْعُوا أي: يعبد لَمَنْ ضَرُّهُ أي: الصنم الجامد الذي ضرره أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وقرأ ابن مسعود:
«يدعو من ضره»، بحذف اللام. أو: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي: وهنا إشكال: وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب: أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني، الذي أثبته لها، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. هـ. لَبِئْسَ الْمَوْلى أي: الناصر، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي: الصاحب. أو: يدعو ويصرخ يوم القيامة، حين يرى استضراره بالأصنام، ولا يرى لها أثر الشفاعة، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
(٢) ذكره الواحدي فى الأسباب (٣١٧)، بدون إسناد، عن عطية العوفى عن أبي سعيد الخدري.
قال بعضهم: سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم: «إلهي قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء». وقال أيضًا: «لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء».
فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء، إن فارقْتَهُ، عِوَضٌ | وَلَيْسَ لله، إنْ فارقت من عوض |
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٤]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا، وتمكنوا من الإيمان، وعبدوا الله وحده في جميع الحالات، ولم يعبدوه على حرف، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: من تحت قصورها الْأَنْهارُ الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى في جميع الحالات، وأنَّ الله تفضل عليهم، بما لا غاية وراءه، إثر بيان سوء حال الكفرة، من المجاهرين والمذبذبين، وأنَّ معبودهم لا ينفعهم،
الإشارة: إِن الله يُدخل الذين آمنوا، واطمأنوا به، وعبدوه في جميع الحالات، وقاموا بعمل العبودية في كل الأوقات، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، إن الله يفعل ما يريد فيقرب هذا، ويُبعد هذا، بلا سبب «جَلَّ حُكْمُ الأزلِ أن يُضَافَ إلى العِلَلِ». وبالله التوفيق.
ولمَّا كان نفوذ هذا الوعيد فى المشركين، وإنجاز وعد المؤمنين تصديقا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ونصرة له، ذكر حال من غاظه ذلك وكرهه، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله ﷺ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة، فمن كان يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده، ويفعل ما يدفع ذلك من الخدع والمكائد، فليبالغ في استفراغ المجهود، وليجاوز كل حد معهود، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي: فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته، ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي: ليختنق، من قَطعَ: إذا اختنق لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه. أو: ليقطع من الأرض، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف.
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي: فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله، وسمى فعله كيدًا، على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه، فَتَحَصَّل أن الضمير في (ينصره) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم ذكره صراحة، لكنه معهود إذ الوحي إنما ينزل عليه. وقيل: يعود على «مَن»، والمعنى على هذا: من ظن- بسبب ضيق صدره، وكثرة غمه- أن لن ينصره الله، فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق، على هذا، القنوطُ والسخط من القضاء، وسوء الظن بالله تعالى، حتى يئس من نصره.
ويؤيده أيضاً: قوله تعالى، قبله: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي: الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني: أن الضمير في «ينصره»، على هذا، يعود على ما تقدّمه ذكر، دون الأول. هـ. وانظر ابن عطية والكواشي، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي، ورده للأول، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة.
ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع، المنطوي على الحِكَم البالغة، أنزلناه، أي: القرآن الكريم كله، حال كونه آياتٍ بَيِّناتٍ: واضحات الدلالة على معانيها الرائقة، وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي به مَنْ يُرِيدُ هدايته ابتداء، أو يثبته على الهُدى دوامًا، ومحل «أن» : إما الجار، أي: ولأن الله يهدي، أو الرفع، أي: والأمر أن الله يهدي من يريد.
الإشارة: من غلبته نفسُه، وملكته وأسرته في يدها فدواؤه: الفزع إلى الله، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار، والمنهاج الواضح في علاجها وقهرها: هو الفزع إلى أولياء الله، العارفين به، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل، فإذا ظفر بهم، فليلزم صُحبتهم، وليتبع طريقهم، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه، من غير تردد ولا توقف، فهم معناه، شرعًا، أم لا، فلا شك أن الله ينصره ويُؤيده، ويظفر بنفسه في أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان، وجَرَّب.. ففي التجريب علم الحقائق، وكذلك من ابتلي بالوسواس وخواطر السوء في أمر التوحيد، فليفزع إليهم، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام، وتذهب عنه الأمراض والأسقام، بإشراق شمس العرفان على قلبه، ويُفضي إلى طريق الذوق والوجدان، وغير هذا عناء وتعب، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك، فلا يذهب عنه بالكلية، فربما يهيج عليه في وقت الضعف عند الموت، فلا يستطيع دفعه، فيلقى الله بقلب سقيم. والعياذ بالله.
فإن قلت: هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب، فقد دللتني على عَنقاء مغرب؟ قلت: والله، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله، لقد وجدناهم وظفرنا بهم، على مناهج الجنيد وأضرابه، يُغنون بالنظر، ويسيرون بالمريد حتى يقول له: ها أنت وربك. والمنة لله.
فمن ترك ما قلنا له، وآيس من الدواء، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمت غيظًا وقنطًا، فلا يضر إلا نفسه لأن الله يهدي من يريد، فيوفقه للدواء، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مآل من آمن بالقرآن، الذي هو آيات بينات، ومآل من أعرض عنه، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما ذكر من الآيات البينات، أو بكل ما يجب الإيمان به- فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا- أي: آمنوا بذلك، بهداية الله وإرادته، وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ، وهم قوم من النصارى، اعتزلوهم، ولبسوا المسوح، وقيل: أخذوا من دين النصارى شيئًا، ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم أصلين: نورًا وظلمة، ويعتقدون تأثير النجوم. وَالْمَجُوسَ وهم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور، والشر من الظلمة، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وهم عبدة الأصنام من العرب وغيرهم، فهذه ستة أديان، خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في الأحوال والأماكن، فلا يجازيهم جزاء واحدًا، ولا يجمعهم في موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر، بإظهار المحق من المبطل، فيُكْرم المحق ويهين المبطل، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: عالم بكل شيء، مراقب لأحواله، حافظ له، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة:
إجراء جزائه اللائق عليه، وهو أبلغ وعيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين، أو مع عامة أهل اليمين.
وبالله التوفيق، ثم برهن على كونه شهيدا على الأشياء بسجودها له، وخضوعها من هيبته، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ، أيها السامع، أو مَن يتأتى منه الرؤية، أي: رؤية علم واستبصار، أو:
يا محمد، علمًا يقوم مقام العيان، أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ أي: ينقاد إليه انقيادًا تامًا مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِن الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون «من» : عامة للعاقل وغيره،
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، من عطف الخاص على العام لاستبعاد ذلك منها عادة. ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته، ولكن لا نفقه ذلك، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبي العالية: (ما في السماء نجم، ولا شمس، ولا قمر، إلا يقع ساجدًا حين تغيب، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له). وذكر في صحيح البخاري: «أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن» «١». وقال مجاهد: (سجود الجبال والشجر والدواب: تَحَوُّلُ ظِلاَلِها). أو سجودُها: طاعتها فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع، يُسبح له. شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ حيث امتنع من هذا السجود، الذي هو سجود عبادة لكفره وعتوه. قال ابن عرفة: قوله: «وكثير» : يحتمل كونه مبتدأ، ويكون في الآية حذف المقابل، أي: وكثير من الناس مثاب، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. هـ. وقدَّره غيرُه: وكثير من الناس يسجدون، وكثير يأبى السجود فحق عليه العذاب. وقيل: وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة، وإن سجد للصانع كالفلاسفة واليهود والنصارى. هـ.
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي، فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة، أو يوم القيامة، بل يذل ويهان، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ في ملكه يُكرم من يشاء بفضله، ويُهين من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك، إِنك على كل شيءٍ قدير. هكذا يُدعى في هذه السجدة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد تجلى الحق جلّ جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء، وبأنوار صفاته لظاهرها، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته، فعرفه كلُّ شيء، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفي الحِكَم: «أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء، فما جَهِلَكَ شيءٌ». فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني، وخاضعة للكبير المتعالي، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني، ولم يقف مع حس الأواني، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن، إلاّ مَن أهانه الله من عُصاة بني آدم. ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
قلت: خَصْمانِ: صفة لمحذوف، أي: فريقان خصمان، والمراد: فريق المؤمنين، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة. وقيل: اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمراد هنا: الجماعة، بدليل قوله: (اختصموا) بالجمع.
يقول الحق جلّ جلاله: هذانِ خَصْمانِ أي: مختصمان اخْتَصَمُوا أي: فريق المؤمنين والكافرين. وقال ابن عباس رضى الله عنه: (راجع إلى أهل الأديان المذكورة) فالمؤمنون خَصْمٌ، وسائرُ الخمسة خصمٌ، تخاصموا فِي رَبِّهِمْ أي: في شأنه تعالى، أو في دينه، أو في ذاته وصفاته. والكل من شؤونه تعالى، فكل فريق يصحح اعتقاده، ويُبطل اعتقاد خصمه. وقيل: تخاصمت اليهود والمؤمنون فقالت اليهودُ: نحن أحق بالله وأقدمُ منكم كتابًا، ونبيُّنا قبل نبيِّكم. وقال المؤمنون: نحن أحقُّ بالله منكم، آمنا بنبينا ونبيكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم كفرتم به حسدًا «١». وكان أبو ذر يُقسِمُ أنها نزلَتْ في ستة نفر من قريش، تبارَزوا يوم بَدر حمزةُ وعليٌّ، وعبيدة بن الحارث، مع عتبة، وشيبة ابني ربيعةَ، والوليد «٢»
. وقال علىّ رضى الله عنه:
إني لأوَّلُ من يجثو بين يدَيِ الله يوم القيامة للخصومة «٣»
. هـ.
(٢) أخرجه البخاري فى (المغازي باب قتل أبى جهل)، وفى (تفسير سورة الحج. ، باب هذان خصمان اختصموا فى ربهم)، ومسلم فى (التفسير، باب فى قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).
(٣) أخرجه البخاري فى الموضعين السابق ذكرهما، وفى التفسير، عن قيس بن عبادة، عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه-.
وتقديم ما في الباطن للإيذان بأن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس.
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي: ولتعذيب الكفرة، أو لأجلهم، مقامع: جمع مقمعة، وهي آلة القمع، أي: سيَاط من حديد، يُضربون بها. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي: أشرفوا على الخروج من النار، ودنوا منه، حسبما رُويَ: أنها تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا بأعلاها ضُربوا بالمقامع، فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا. وقوله:
مِنْ غَمٍّ: بدل اشتمال من ضمير (منها) بإعادة الجار، والعائد: محذوف، أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها أُعِيدُوا فِيها أي: في قعرها، بأن رُدوا من أعاليها إلى أسافلها، من غير أن يخرجوا منها، وَقيل لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي: الغليظ من النار، العظيم الإحراق.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر، وهم أهل الحق، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وغيَّر الأسلوب فيه، بإسناد الإدخال إلى الله عزَّ وجَلَّ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة، وإظهارًا لمزيد العناية بحال المؤمنين، يُحَلَّوْنَ فِيها من التحلية، وهو التزين، أي: تحليهم الملائكة بأمره تعالى مِنْ أَساوِرَ أي: بعض أساور: جمع سوار، مِنْ ذَهَبٍ للبيان، أي: يلبسون أساور مصنوعة من ذهب، وَلُؤْلُؤاً، من جَرَّهُ: عَطَفَهُ على «ذهب»، أو «أساور»، ومَنْ نَصَبَهُ:
فعلى محل «من أساور»، أي: ويُحَلَّوْنَ لؤلؤًا، أو بفعل محذوف، أي: ويُؤْتَوْنَ لؤلؤًا. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ:
أبريسِمْ، وغيَّر الأسلوب، فلم يقل: ويلبسون حريرًا لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإنما المحتاج للبيان: أيُّ لباس هو، بخلاف الأساور واللؤلؤ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية، فجعل بيان حليتهم بها مقصودًا بالذات. انظر أبا السعود.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله أو: الحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بدليل قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ «١»
. وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي: المحمود، وهو الإسلام. أو:
الإشارة: قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن في شأن الربوبية، فقال أهل الظاهر: الحق تعالى لا يُرى في دار الدنيا، ولا تُمكن معرفته، إلا من جهة الدليل والبرهان، على طريق الإيمان بالغيب. وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية: الحق تعالى يُرى في هذه الدار، كما يرى في تلك الدار، من طريق العرفان، على نعت الشهود والعيان، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية، فلا يزال يُحاذيه ويسير به، حتى يقول: ها أنت وربك، فحينئذٍ تشرق عليه شموسُ العرفان، فتُغطى عنه وجود حس الأكوان، فلا يرى حينئذ إلا المكون، حتى لو كُلف أن يرى غيره لم يستطع إذ لا غير معه حتى يشهده.
وقال بعضهم: (مُحال أن تشهده، وتشهد معه سواه). وفي مناجاة الحكم العطائية: «إلهي، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غِبْتَ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!». وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: (أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان). وهذه الطريق هي طريق التربية، لا تنقطع أبدًا، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان، يُصب من فوق رأسه، إلى قلبه، حَرُّ التدبير والاختيار، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له: ذق عذاب الحريق، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق.
إِن الله يُدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص، جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل، وهُدوا إلى الطيب من القول، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب، الحامد المحمود، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنّه وكرمه.
ثم شرع فى المقصود من السورة، وهو أحكام الحج، وبدأ بتعظيم البيت تشويقا وترغيبا فى حجه، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
مبتدأ. ومن نصبه: جعله مفعولَ «جعل»، و «العاكف» فاعل به.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أي: واستمروا على الصد، ولذلك حسن عطفه على الماضي، وَيصدون أيضًا عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والدخول فيه، كأهل مكة مع المسلمين، الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي: مقامًا ومسكنًا للناس، كائنًا من كان، لا فرق فيه بين مكي وآفاقي، وضعيف وقوي، حاضر وباد. فإن أُريد بالمسجد الحرام «مكة»، ففيه دليل على أن دور مكة لا تُباع، وأن الناس فيها سواء، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها مِلك. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وغيره: ليست الدور فيها كالمسجد، بل هي مُتَمَلَّكَةٌ. وإن أريد به البيت كان نصًا في إباحته لجميع المؤمنين. وهو مجمع عليه.
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ أي: مستوٍ المقيم فيه وَالْبادِ، أي: المسافر من أهل البادية، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أي: في المسجد، إحداث شيء بِإِلْحادٍ أي: بسبب ميل عن القصد، بِظُلْمٍ، وهما حالان مترادفان، أي: ومن يرد فيه إحداث شيء مائلاً عن الحق، ظالمًا فيه، نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة.
وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك.
وَاذكر يا محمد إِذْ بَوَّأْنا: حين هيأنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ وعيناه له، حتى بناه في مكانه مسامتًا للبيت المعمور، حيث كان بناه آدم عليه السلام، وقد كان رُفع إلى السماء الرابعة، أيام الطوفان، وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم اللهُ إبراهيم مكانه، بريح أرسلها، يقال لها: الخَجُوح، فكنست مكان البيت، وقيل: سحابة على قدر البيت، وقيل: كلمته، وقالت له: ابنِ على قَدري. هـ. فبناه على أساسه القديم «١»
، وفي ابن حجر: أنه جعل طوله في السماء تسعة أذرع، ودوره في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعه. وأدخل الحِجْر في البيت، وكان قبل ذلك لغنم
رُوِيَ أن الكعبة الشريفة بُنيت خمس مرات، إحداها: بنتها الملائكة، وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رُفعت أيام الطوفان. والثانية: بناها إبراهيم عليه السلام، وقيل: إن جُرهم كانت بنتها قبله، ثم هدمت، ويدل عليه: التجاء عادٍ إليها، حين نزل بهم القحط. فأرسل الله عليهم الريح، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السلام، والثالثة: بنتها قريش، وقد حضرها رسول الله ﷺ قبل النبوة. والرابعة: بناها ابن الزبير، والخامسة: الحجاج.
ثم قال تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ أي: وقلنا له: ألا تشرك بِي شَيْئاً، بل خلص عملك في بنائها وغيره، من شوائب حظ النفس، عاجلاً وآجلاً، لا طَمَعًا في جزاء، ولا خوفًا من عقوبة، بل محبة وشكرًا وعبودية. قال القشيري: أي: لا تلاحظ البيت ولا بنيانك. هـ. وقيل: في الآية طعن على من أشرك من قُطَّان البيت، أي: هذا الشرط كان على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم، فلم تقبلوه، بل أشركتم وصددتم وألحدتم، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأصنام والأقذار، لِلطَّائِفِينَ به وَالْقائِمِينَ للصلاة فيه، أو المقيمين فيه، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي: المصلين، جمعًا من راكع وساجد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إِنَّ الذين كفروا بطريق الخصوصية، ويصدون الناس عن الدخول فيها، ويُعوقونهم عن مسجد الحضرة، الذي جعله للناس محلاً تسكن فيه قلوبهم، وتعشش فيه أرواحهم. فكل من قصده وباع نفسه وقلبه لله، وصله ودخله، وهو محل المشاهدة والمكالمة، والمساررة والمناجاة، محل شهود الحبيب والمساررة مع القريب، محل نزهة الأفكار في فضاء الشهود والاستبصار، فمن عاق عنها نذقه من عذاب أليم. وقوله تعالى: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ، قال القشيري: فيه إشارة إلى أن التفاوت إنما يكون في الطريق، وأما بعد الوصول، فلا تفاوت. ثم إذا اجتمعت النفوس، فالموضع الواحد مجمعها، ولكن لكلٍّ حالٌ يُعرف به «١»
. هـ. قلت: مقام التوحيد الخاص، وهو الفناء، هو محل الاجتماع، وتتفاوت بعد ذلك أذواقهم ومواجيدهم، وازدياد كشوفاتهم وترقياتهم، تفاوتًا بعيدًا، على حسب التفرغ والانقطاع، والتأهب والاتباع، حسبما سبقت به القسمة الأزلية.
وقال الورتجبي، على قوله تعالى: (وإذ بوأنا... ) الآية: هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات، وما ألبسه من أنوار حضرته ليكون وسيلة لعبادته، ومرآة لأنوار آياته. هـ. قلت: الإشارة بالبيت
لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن». وفيه عند أهل الحديث كلام. ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة. والله تعالى أعلم.
ولما فرغ إبراهيم عليه السّلام من بناء البيت، أمره ربه أن يؤذن فى الناس بالحج، كما قال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
قلت: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ: حال معطوفة على حال، أي: يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا. و (يأتين) : صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع. وقرأ عبد الله: «يأتون»، صفة لرجال. و (رجال) : جمع راجل كقائم وقيام.
يقول الحق جلّ جلاله لإبراهيم عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي: نادِ فيهم ليحجوا. رُوِي: أنه عليه السلام صعد أبا قبيس، فقال: يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم، فأسمعه الله تعالى الأرواح، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك. يَأْتُوكَ إن أذنت رِجالًا أي: مشاة وَركبانا عَلى كُلِّ ضامِرٍ أي: بعير مهزول، أتعبه بُعدُ الشُقة، فهزّله، أو زاد هزاله. وقدّم الرجال على الركبان لفضيلة المشاة، كما ورد في الحديث يَأْتِينَ تلك الضوامر بركبانها، مِنْ كُلِّ فَجٍّ طريق عَمِيقٍ بعيد. قال محمد بن
زُرْ مَن هَوَيْتَ، وإن شطتْ بِكَ الدارُ | وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ |
لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته | إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ |
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند ذبح الضحايا والهدايا فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ، وهي أيام النحر عند مالك، وعند الشافعي: اليوم الأول والثاني والثالث لأن هذه هي أيام الضحايا عنده. ولم يجز ذبحها بالليل لقوله: فِي أَيَّامٍ.
وقال أبو حنيفة: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة ويوم النحر، وهو قول ابن عباس رضى الله عنه، وأما الأيام المعدودات، فهي: الثلاثة بعد يوم النحر- فيوم النحر معلوم لا معدود، ورابعه: معدود لا معلوم، واليومان بعده: معلومان ومعدودان. فيذكروا اسم الله عَلى ما رَزَقَهُمْ أي: على ذبح ما رزقهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وهي الإبل والبقر والغنم، فَكُلُوا مِنْها من لحومها، والأمر: للإباحة، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج.
قال ابن جزي: ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا، ويتصدق بالأكثر. هـ. وقال النسفي: ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران لأنه دم نسك لأنه أشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا. هـ. وهو حنفي، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ، وهو الذي أصابه البؤس، أي: ضرر الحاجة، وقيل: المتعفف، وقيل: الذي يظهر عليه أثر الجوع، الْفَقِيرَ: المحتاج الذي أضعفه الإعسار.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
ذلِكَ أي: الأمر ذلك، وهذا من فضل الكلام، كما يقدم الكاتبُ جملة من الكلام، ثم يقول: هذا، وقد كان كذا وكذا وكذا، إذا أراد أن يخرج من كلام إلى كلام آخر، وإن كان له تعلق بما قبله. والكلام هنا متصل بتعظيم حرمات البيت، فقال: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ، جمع حرمة، وهو ما لا يحل هتكه من الشريعة، فيدخل ما يتعلق بالحج دخولاً أوليًا، وقيل: حرمات الله: البيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام. وقيل: المحافظة على الفرائض والسنن واجتناب المعاصي، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي: فالتعظيم خير له ثوابًا عِنْدَ رَبِّهِ، ومعنى التعظيم: العلم بوجوب مراعاتها، والعمل بموجبه، والاهتمام بشأنه، والتأديب معه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، قال القشيري: أي: حوائجهم، ويحققوا عهودهم، ويُوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فَمَنْ كان عقدُه التوبةَ فوفاؤه ألاَّ يرجعَ إلى العصيان، ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ، فَشَرْطُ وفائه ترك تقصيره، ومن كان عهدُه ألاَّ يرجع إلى طلب مقامٍ وتطلع إكرامٍ، فوفاؤه استقامته على الجملة، التي دخل عليها في هذه الطريق، بألا يرجع إلى استعجال نصيبٍ واقتضاءِ حظ. هـ. قلت: ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة، وحمله إلى درجة المعرفة. ثم قال: ومَنْ عاهد الله بقلبه، ثم لا يفي بذلك، فهو من جملة قول الزور. هـ. وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله، حيث طلبها ثم تهاون وتركها. والله تعالى أعلم.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي: أكلها، إِلَّا ما يُتْلى أي: سيتلى عَلَيْكُمْ منها في آية المائدة «١»
، كالميتة والموقوذة وأخواتهما. والمعنى: إن الله قد أحل لكم الأنعام إلاَّ ما بيَّن في كتابه، فحافظوا على حدوده، ولا تُحرِّموا شيئًا مما أحلَّ لكم، كتحريم البحيرة وما معها، ولا تُحلوا ما حرَّم، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما.
ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها، فقال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ لأن ذلك من تعظيم حرمات الله، و «من» : للبيان، أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. والرجس: كل ما يستقذر من الخبث، وسمى الأوثان رجسًا على طريقة التشبيه، أي: فكما تنفرون بطباعكم من الرجس، فعليكم أن تنفروا عنها. والمراد: النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقربًا لها. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنَّ عبادة الأوثان رأس الزور، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور. وقيل: المراد شهادة الزور فقط، لِمَا رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «عَدلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللهِ تعالى» ثلاثًا، وتلى هذه الآية «٢»
. والزور من الزّور، وهو الانحراف والميل لأن صاحبه ينحرف عن الحق، ولا شك أن الشرك داخل في الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة، وهو باطل وزور.
ثم قال تعالى: حُنَفاءَ لِلَّهِ: مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق، مخلصين لله، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيئًا من الأشياء، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ، أظهر الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الشرك، فَكَأَنَّما خَرَّ: سقط
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٤/ ٣٢١)، وأبو داود فى (الأقضية: باب فى شهادة الزور)، والترمذي فى (الشهادات، باب ما جاء فى شهادات الزور)، وابن ماجة فى (الأحكام، باب شهادة الزور)، عن خريم بن فاتك. [.....]
الإشارة: جعل الحقُّ تعالى شكرَ النعم أمرين: طهارة الباطن من شرك الميل إلى السِّوى، ولسانه من زور الدعوى، وهو الترامي على مراتب الرجال قبل التحقق بها، حنيفًا موحدًا، شاكرًا لأنعمه يجتبيه ربه، ويهديه إلى صراط مستقيم. ومن يشرك بالله بأن يُحب معه غيره، فقد سقط عن درجة القرب والتحقيق، فتخطفه طيور الحظوظ والشهوات، وتهوي به ريح الهوى، في مكان سحيق. والعياذ بالله.
ثم حضّ على الاعتناء بشأن الهدايا، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ أي: الأمر ذلك، أو امتثلوا ذلك، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي:
الهدايا، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى، كما ينبىء عنه: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وتعظيمها: اعتقاد التقرب بها، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان، روى «أنه ﷺ أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ، في
». وأن عمر رضى الله عنه- أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار «٢»
. وقيل: شعائر الله: مواضع الحج، كعرفة ومنى والمزدلفة. وتعظيمها: إجلالها وتوقيرها، والتقصد إليها. وقيل: الشعائر: أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها: القيام بها ومراعاة آدابها، فَإِنَّها أي: فإن تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي: من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. أو فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب لأنها مراكز التقوى.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من الركوب عند الحاجة، ولبنها عند الضرورة، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن تُنحر. ومن قال: شعائر الله: مواضع الحج، فالمنافع: التجارة فيها والأجر، والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة.
ثُمَّ مَحِلُّها منتهية إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، قال ابن جزي: من قال: إن الشعائر الهدايا، فمحلها موضع نحرها، وهي مِنى ومكة. وخصّ البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهدي. و «ثم»، على هذا، ليست للترتيب في الزمان لأن محلها قبل نحرها، وإنما هي لترتيب الجمل. ومن قال: إن الشعائر مواضع الحج، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم، أي: آخر ذلك كله: الطواف بالبيت، أي: طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم. هـ. أي:
محل شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت، طواف الإفاضة. ومثله في الموطأ.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جماعة مؤمنة قبلكم، جَعَلْنا مَنْسَكاً أي: مُتَعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله- عزَّ وجَلَّ- والمنسك- بالفتح: مصدر، وبالكسر: اسم موضع النُسك، أي: لكلٍّ جعلنا عبادة يتعبدون بها، أو موضع قربان، يذبحون فيه مناسكهم، لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ دون غيره، عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي: عند نحرها وذبحها، فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي: اذكروا على الذبائح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد، فَلَهُ أَسْلِمُوا أي:
فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا فأخلصوا له التقرب، أو الذكر خاصة، واجعلوه له سالمًا، لا تشوبوه بإشراك.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ المطمئنين بذكر الله، أو المتواضعين، أو المخلصين، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم.
والخَبْتُ: المطمئن من الأرض. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقيل:
تفسيره ما بعده، وهو قوله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ: خافت منه هيبة لإشراق أشعة جلاله عليها. وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخيرات.
(٢) أخرجه أبو داود فى (المناسك، باب تبديل الهدى) عن سالم عن أبيه.
لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها المُتَصَدَّقُ بها، وَلا دِماؤُها المهراقة بالنحر، أي: لن يصل إلى الله اللحم والدم، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ فإنه هو الذي طلب منكم، وعليه يحصل الثواب. والمراد: لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء، وإنما تصلون إليه بالتقوى، أي: الإخلاص لله، وقصد وجه الله، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا. فعبَّر عن هذا المعنى بلفظ (ينال) مبالغةً وتأكيدًا، كأنه قال: لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله، وإنما يصل إليه التقوى منكم، وقيل: كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم، فهم المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك، فنزلت الآية.
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ أي: البدن، وهو تكرير للتذكير والتعليل، لقوله: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي: لتعرفوا عظمة الله، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحدوه بالكبرياء شكرًا على هدايته لكم. وقيل: هو التكبير عند الذبح. وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ: المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: أعظم شعائر الله التي يجب تعظيمها أولياء الله، الدالين على الله، ثم الفقراء المتوجهون إلى الله، ثم العلماء المعلمون أحكام الله، ثم الصالحون المنتسبون إلى الله، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد الله.
ويجب تعظيم مَنْ نصبه الله لقيام خطة من الخطط لإصلاح العباد كالسلاطين، ولو لم يعدلوا، والقضاة والقواد، والمقدمين لأمور العامة، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب. ويدخل في ذلك: الأماكن المعظمة كالمساجد والزوايا، وأما الفقير فَيُعَظِّمُ كل ما خلق الله حتى الكلاب، ويتأدب مع كل مخلوق.
. ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة، فحيئنذ يستغني بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي: لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة، والوصول واحد ولذلك قال: (فإلهكم إله واحد). وقال القشيري: الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال: ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم، (فله أسلموا) : اسْتَسلموا لحكمِه، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ. هـ.
وقوله تعالى: (وَالْبُدْنَ... ) الآية. قال الورتجبي: فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات، وزمها بالرياضات عن المخالفات، وفناء الوجود للمشاهدات، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق. هـ.
وفي قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها، وظفرتم بها فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها لأن النفس، إذا ماتت، حييت الروح، وفاضت عليها العلوم اللدنية، فكلوا منها، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها.. الآية، قال الورتجبي: الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى، لا يلحق الحق بحق المراد منه، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته، ذُبح بسيف شوقه، مطروح على باب عشقه. قال سهل في قوله: (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى) : هو التبري والإخلاص. هـ.
قال القشيري: لا عِبْرةً بإظهار الأفعال، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا، أو مما يتعلق بالوجهين، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار، صَلُحَتْ للقبول، وينال صاحبها القرب، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)، الإحسان، كما في الخبر: «أن تعبد الله كأنك تراه». وأمارةُ صحته: سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ. هـ. قلت: خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر لأنه طبع بشري، وإنما يضر ما سكن فى القلب.
ومن كانت هذه صفته كان من المحسنين، الذين يدفع الله عنهم المكارة والعوائق، كما قال تعالى:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٨]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ يدفع غائلة المشركين عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شيء من عبادة الله، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا»
، وصيغة المفاعلة: إمَّا للمبالغة، أو للدلالة على تكرير الدفع، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين، فيبقى تكرره من جانب واحد، كما في المحارسة، أي: يبالغ في دفع ضرر المشركين وشوكتهم، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله، مبالغةَ مَن يغالَبُ فيه، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين، كما في قوله: كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ «٢»
. وقرأ المكي والبصري: «يُدافِعُ».
ثم علّل ذلك الدفع بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي: لأنَّ الله يبغض كل خوان في أمانة الله تعالى، وهي: أوامره ونواهيه، ومن أعظمها: الإيمان بالله ورسوله. أو في جميع الأمانات، كفورٌ لنعم الله. والمعنى: إن الله يدافع عنهم لأنه يبغض أعداءهم، وهم: الخونة الكفرة، الذين يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم. وصيغة المبالغة فيها لبيان أنهم كذلك فيهما، لا لتقييد البعض بغاية الجناية فإن الخائن ممقوت مطلقًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الله يدفع عن أوليائه، والمتوجهين إليه، كل عائق وشاغل، وغائلة كل غائل، الذين حازوا ذروة الإيمان، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان. فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور، (إن الله لا يحب كل خوّان كفور).
(٢) من الآية ٦٤ من سورة المائدة.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
قلت: (إلا أن يقولوا)، قيل: منقطع. وقال الزمخشري: في محل الجر، بدل من حق. هـ. وهو على طريق قول الشاعر:
لاَ عَيُبَ فِيِهمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ |
. وهي أول آية نزلت في الجهاد، بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. وعدٌ لهم بالنصر، وتأكيد لِما مرّ من العِدَة الكريمة بالدفع، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم. وتأكيده بكلمة التحقيق. واللام لمزيد تحقيق مضمونه، وزيادة توطين نفوس المؤمنين.
ثم وصف الذين أَذن لهم، أو فسرهم، أو مدحهم بقوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، يعني مكة: بِغَيْرِ حَقٍّ بغير ما يوجب إخراجهم إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي: بغير موجب سوى التوحيد، الذي ينبغي أن يكون موجبًا للإقرار لا للإخراج. ومثله: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ «٢».
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ: لولا أن يدفع الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل عصر وزمان، وإقامة الحدود وكف الظالم، لَهُدِّمَتْ أي: لخربت باستيلاء الكفرة على الملل، صَوامِعُ:
(٢) من الآية ٥٩ من سورة المائدة.
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي: وتالله، لينصرن الله من ينصر دينه ونبيه- عليه الصلاة والسلام- وأولياءه. ومن نصرِه: إشهاره وإظهاره، وتعليمه لمن لا يعلَمه، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء. وقد أنجز الله وعده، حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ: غالب على كل ما يريد، ومن جملته: نصرهم وإعلاؤهم.
ثم وصف الذين أُخرجوا مِن دِيَارِهِم بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قلت: الصواب ما قاله مكي: أنه بدل مِن: «مَن ينصره»، في محل نصب.
قيل: المراد بهم: الصحابة- رضى الله عنهم-، وقيل: الأمة كلها. وقيل: الخلفاء الأربعة لأنهم هم الذين مُكِّنوا في الأرض بالخلافة، وفعلوا ما وصفهم الله به. وفيه دليل صحة أمرِ الخلفاء الراشدين لأن الله- عزّ وجلّ- أعطاهم التمكين، ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة. وعن عثمان رضى الله عنه: (هذا، والله، ثناء قبل بلاء)، يعني: أن الله تعالى أثنى عليهم قبل ظهور الشر من الهرج والفتن فيهم. وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإنَّ مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط.
وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته.
الإشارة: إذا اتصل الإنسان بشيخ التربية فقد أذن له في جهاد نفسه، إن أراد الوصول إلى حضرة ربه لأنها ظالمة تحول بينه وبين سعادته الأبدية. وإن الله على نصرهم لقدير لأن هِمَّةَ الشيخ تحمله وتنصره بإذن الله. وأما إن لم يتصل بشيخ التربية، فإن مجاهدته لنفسه لا تُصيب مَقاتلها لدخولها تحت الرماية، فلا يُصيبها ضربه، وأما الشيخ فلأنه يريه مساوئها ويعينه على قتلها.
وقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم، وخرجوا عن عوائد الناس، رفضوهم وأنكروهم، وربما أخرجوهم من ديارهم، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم، وقولهم: ربُّنا الله دون شيء سواه، فحيث خرجوا عن
قال القشيري: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ)، أي: يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر استبقاء لمنازل العبادة، تلك سُنَّة أجراها. ثم قال: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ)، أي: لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا. هـ.
ولمّا بشّر نبيّه- عليه الصلاة والسلام- مع المؤمنين، بالدفع والنصر على سائر الملل، سلّاه عن تكذيب قومه بقوله:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا مُحمد، أي: أهل مكة، فلا تحزن فلست بأول من كُذب، فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ نوحاً، وَعادٌ هودًا، وَثَمُودُ صالحًا، وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ إبراهيم، وَقَوْمُ لُوطٍ لوطًا، وَأَصْحابُ مَدْيَنَ شعيبًا، وَكُذِّبَ مُوسى كذَّبه فرعونُ والقبط. ولم يقل: وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه القبطُ. أو: كأنه لمَّا ذكر تكذيب كلُّ قوم رسولهم، قال: وكُذِّب موسى، مع وضوح آياته وظهور معجزاته، فما ظنك بغيره؟ فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ:
أمهلتهم وأخرت عقوبتهم، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ: عَاقَبْتُهم على كفرهم، أي: أخذت كل فريق من فِرَقِ المكذبين، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقمًا، وبالحياة هلاكًا، وبالعمارة خرابًا، فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة.
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي: كثيرًا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها، وَهِيَ ظالِمَةٌ أي: والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي، فَهِيَ خاوِيَةٌ: ساقطة على عُرُوشِها، من خوى النجم: سقط. والمعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي: خربت سقوفُها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. ويجوز أن يكون «على عروشها» : خبرًا بعد خبر، أي: فهي خالية من السكان، وهي على عروشها، أي: قائمة مشرفة على السقوف الساقطة. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: وكم من بئر متروكة مهملة في البوادي والحواضر، لا يستسقى منها
وقال الضحاك: كانت هذه البئر المعطلة بحضر موت، في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح، ونجوا من العذاب، أتوا حضر موت، ومعهم صالح، فلما حضروا ذلك الموضع، مات صالح، فسمى حضر موت لأن صالحًا لما حضره مات، فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، فأقاموا دهرًا طويلاً، وتناسلوا حتى كثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له: «حنظلة بن صفوان»، فقتلوه فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم «١»
. هـ.
وحاصل المعنى: وكم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه، أي، أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن روادها. فالأظهر أن البئر والقصر على العموم.
الإشارة: ما سلّى به الرسل- عليهم السلام- تسلى به الأولياء- رضوان الله عليهم- فتكذيب أهل الخصوصية سُنة ماضية، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب. وقال القشيري:
(وبئر معطلة)، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم، (وقصر مشيد) الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد. هـ. قلت: وكأنه فسر القرية بالقلب، وهلاكه: خلاؤه من نور التوحيد، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم، المطموس نورها، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة، وأسرارهم خاربة من نور النظرة. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالاعتبار بمن سلف من القرون المهلكة والآبار المعطلة، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية، وديارهم الخربة، فيعتبروا. وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك. فَتَكُونَ لَهُمْ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس فإنهم أعرف بحالهم. قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة، وبقيت آثارهم خرابًا، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك. والسير في الأرض: إمَّا حسي، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير، أو قراءتها في الكتب. فقوله: (فتكون لهم قلوب) : راجع للسير الحسي، وقوله: (أو آذان) للسير المعنوي. هـ.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الحسية، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ عن التفكر والاعتبار، أي: ليس الخلل في مشاعرهم، ولكن الخلل في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وذكر الصدور للتأكيد، ونفي توهم التجوز لأن قلب الشيء: لبه، فربما يقال: إن القلب يراد به غير هذا العضو، ولكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه، وعينان في قلبه، وتسمى البصيرة، فإن انفتح ما في القلب، وعمي ما في الرأس فلا يضر، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع، والتحق بالبهائم، بل هو أضل.
ثم ذكر علامة عمى القلوب، وهو الاستهزاء بالوعد الحق، فقال: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: يستعجلون به، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد به، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه، ولو بعد حين. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي: كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدة طُوال. وقيل: تطول حقيقة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ خمسمائة سنة» «١».
الإشارة: عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور: إرسال الجوارح في معاصي الله، والانهماك في الغفلة عن الله، والوقيعة في أولياء الله، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله.
وفي الحِكَم: «اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك». وعلامة فتحها أمور: المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود في معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفي ذلك يقول المجذوب رضى الله عنه:
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ: في عمى البصيرة.... ومن نظر الكون بالمكون: صادق، علاج السريرة
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله: «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان». فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج:
قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ | تَرى مَا لا يُرى للنَّاظِرِينَا |
وأجنحةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ ريشٍ | إلَى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا |
وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي | تغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا |
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ | تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ |
قال القشيري: كانت لنبينا ﷺ سكتات، في خلال قراءته عند قراءة القرآن، عند انقضاء كل آية، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول. هـ. وقال ابن البنا: التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد، وما قال الزمخشري: قرأ تلك الغرانيق العلى، على جهة السهو والغلط، فباطل، لقول الله العظيم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٢»
، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي هـ.
قلت: فتحصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم ينطق بتلك الكلمات قط، لا سهوًا ولا عمدًا، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه- عليه الصلاة والسلام- من المقاربة. ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا، فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم، وهم عدول، لا سيما حبر هذه الأمة، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول، فإن لم يمكن، قدَّم المنقول، إن ثبتت صحته، وحكم على العقل بالعجز. هذا مذهب المحققين من الصوفية- رضى الله عنهم- ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى.
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يَذهب به ويُبطله، أو يُرشد إلى ما يزيحه، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي:
يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بما يوحى إلى نبيه، حكيم في وحيه، لا يدع الباطل يأتيه مِن بين يديه ولا من خلفه.
(٢) الآيتان: ٣- ٤ فى سورة النجم.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالله أَنَّهُ أي: القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: النازل من عنده فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي: بالقرآن فَتُخْبِتَ: تطمئن، أو تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد إليه والإذعان لما فيه، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالنظر الموصل إلى الحق الصريح، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا، لما أشكل منه، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه. فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه، وهكذا. وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلاً يقول: يا سعترا بري. فسمع أحدهم: اسْعَ تَر بري، وسمع الآخر: الساعة ترى بري... وسمع الثالث: ما أوسع بري، فالأول: طالب للوصول، فقال له: اسع تر بري، والثاني: سائر مستشرف على الوصول، فقال له: الساعة ترى بري، والثالث: واصل قد اتسع عليه ميدان النعم، فقال له: ما أوسع بري. وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع بحسب ما عنده فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضد الذين أوتوا العلم الذين تحققوا بحقية القرآن، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
ثم بيّن حكمه فيهم، فقال: فَالَّذِينَ آمَنُوا بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن وشكوا فيه، أو بالبعث والجزاء، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، يُهينهم ويُخزيهم.
ثم خص قومًا من الفريق الأول بفضيلة، فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: خرجوا من أوطانهم مجاهدين، ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد، أَوْ ماتُوا حتف أنفهم، لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان. ومراتب الحسن متفاوتة، فيجوز تفاوت حال المرزوقين، حسب تفاوت أرزاق الجنة.
رُوي أن بعض أصحاب النبي ﷺ قالوا: يا نَبِي الله هؤُلاَءِ الذين قُتِلُوا في سَبِيل اللهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أعْطَاهُمُ الله مِن الخَيْرِ، ونَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَما جَاهَدُوا، فَمَا لَنَا مَعَكَ؟ فنزلت: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا... ) الآيتين. وقيل: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة، فتبعهم المشركون فقتلوهم.
ثم قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فإنه يرزق بغير حساب، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وهو الجنة لأنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، قيل: لَمَّا ذكر الرزق ذكر المسكن، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدًا، حليم بإمهال من قاتلهم معاندًا.
الإشارة: من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام، حتى يلقى الله بقلب سقيم، فيُفضي إلى الهوان المقيم. والذين هاجروا في طلب محبوبهم لتكميل يقينهم، ثم قتلوا قبل الوصول، أو ماتوا بعد الوصول، ليرزقنهم الله جميعًا رزقًا حسنًا، وهو لذة الشهود والعيان، في مقعد صدق مع
ولمّا ذكر ثواب من هاجر وقتل في سبيل الله، أو مات، أخبر أنه لا يدع نصرتهم فى الدنيا على من بغى عليهم، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
قلت: (ذلك) : خبر، أي: الأمر ذلك. و (مَن عاقب) : شرط سدّ مسد جوابه، أي: من عاقب بمثل ما عوقب به ينصره الله.
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ أي: الأمر ذلك، كما أخبرتك في بيان الفريقين، ثم استأنف فقال:
وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي: لم يزد في القصاص على ما فُعل به، وسمى الابتداء عقابًا للمشاكلة ولملابسته له، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه. ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي: من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم، ثم ظُلم، بعد ذلك، وبُغي عليه بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يمحو آثار الذنوب، غَفُورٌ يستر أنواع العيوب.
ومناسبة الوصفين لما قبلهما: أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله، بقوله: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «١»
، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «٢»
، فحين لم يفعل ذلك، وانتصر لنفسه، فكأنه مُذنب، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه، وعَرَّضَ، مع ذلك، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين.
(٢) الآية ٤٣ من سورة الشورى.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الواجب لذاته، الثابت في نفسه، الواحد في صفاته وأفعاله، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات، عالمًا بكل المعلومات. وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق، وعبادته حق، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ «١»
مِنْ دُونِهِ إلها هُوَ الْباطِلُ أي: المعدوم في حد ذاته. أو الباطل ألوهيته، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي: المتعالي عن مدارك العقول، وعن سمات الحدوث، أو المرتفع على كل شيء بقهريته، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء إذ كل شيء يصغر دون كبريائه، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا لأن له الوجود المطلق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدَّبها في أيام اليقظة، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت في أيام الغفلة، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته لينصرنه الله عليها، حتى يغلبها ويملكها، فكلما هاجت عليه هجم عليها، حتى يملكها ذلك بأن الله يُولج ليلَ المعصية في نهار الطاعة، ويولج نهار الطاعة في ليلِ المعصية، أي: يدخل أحدهما على الآخر، فلا يزال العبد يعصي ويطيع حتى يمنَّ عليه بالتوبة النصوح. أو يولج ليل المعصية في نفس الطاعة، فتنقلب الطاعة معصية، إذا صحبها علو واستكبار. ويولج نهار الطاعة في عين المعصية، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار. ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما دونه باطل.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
قلت: (فتصبح) : عطف على «أنزل»، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بتجدد أثر الإنزال، وهو الاخضرار واستمراره، أو لاستحضار صورة الاخضرار، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار، فينقلب في النصب إلى نفيه، كما تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره، وشكوت من تفريطه، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو يا مَن يسمع، أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء مطرا فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات، بعد ما كانت مسودة يابسةً، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ بعباده، أو في ذاته لا يدرك، خَبِيرٌ بمصالح خلقه ومنافعهم، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير، الخبير بكل جليل وحقير، قليل وكثير. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم قدرةً وعلمًا، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، الْحَمِيدُ: المحمود بنعمته، قبل ثناء من في السموات والأرض عليه، أو المستحق للحمد، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ من الأنعام لتأكلوا منها، ومن البهائم لتركبوها في البر، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ: بقدرته وإذنه، أي: وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أي: يحفظها من السقوط، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك، إِلَّا بِإِذْنِهِ: إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد لا ستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم، وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أنواع المضار، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، فله الحمد وله الشكر.
التوحيد الخاص، فإذا نزل على أرض النفوس، اهتزت وربت، واخضرت بالعلوم والمعارف، إن الله لطيف خبير، لطيف لسريان معانيه اللطيفة في كل شيء، خبير ببواطن كل شيء، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه في كل شيء، وبكل شيء، حيي قلبه بمعرفة الله، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف، ألم تر أن الله سخر لَكُم مَّا في الأَرْضِ، يكون عند أمركم ونهيكم، وفلك الفكرة تجري في بحر التوحيد بأمره، ويُمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه، بعد الرسوخ في معرفته، والتمكين من الفهم عنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم حيث فتح لهم باب العلوم، وهيأ لهم أسباب الفهوم، وهي الرياضة والتأديب.
ثم ذكر دليلاً آخر على قدرته، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٦]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادًا، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام، حسبما فُصل في صدر السورة، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند مجيء آجالكم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند البعث، لإيصال جزائكم، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ: لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود، وهو التنعم في جوار الملك الودود، فله الحمد دائمًا وله الشكر.
الإشارة: وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة، وبالعلم بعد الجهل، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها، ثم يُحييكم بالمعرفة به، حياةٌ لا موت بعدها، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.
ولا يمكن الوقوف على هذه النعم والقيام بشكرها، إلا بالتمسك بالشرع والوحي الإلهى، الذي أنزل الله على كل أمة، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
والفاء في قوله: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص، يجب اتباعه، يوجب اتباع هؤلا الموجودين لرسول الله ﷺ وعدم منازعتهم له في أمر الدين، أي: فلا يجادلنك في أمر الدين، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي. أو: فلا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر، أي: أمر الدين أو أمر الذبائح. قيل: نزلت حين قال المشركون للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعني: الميتة، فأمر الله بالغيبة عنهم، وعدم الالتفات إلى قولهم. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي: دُم على الدعاء إلى الله، والتمسك بدينه القويم إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ: طريق قويم موصل إلى الحق.
وَإِنْ جادَلُوكَ بعد ظهور الحق مِراء وتعنتًا، كما يفعله السفهاء، بعد اجتهادك ألاَّ يكون بينك وبينهم تَنازع وجدال، فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي: فلا تجادلهم، وادفعهم بهذا القول، والمعنى: إن الله عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء، فهو يُجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين، يُجيب به العاقلُ كلَّ متعنت سفيه. قال تعالى: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، وهو خطابٍ من الله تعالى للمؤمنين والكافرين، تسلية لرسول الله ﷺ مما كان يلقى منهم.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، الاستفهام للتقرير، أي: قد علمت أن الله يعلم كل ما يحدث في السماء والأرض، ولا يخفى عليه شيءٍ من الأشياء، ومِن جملتها: ما تقوله الكفرة وما يعملونه، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ في اللوح المحفوظ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: علمه بجميع ذلك عليه يسير، فلا يخفى عليه
الإشارة: كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار، وقد تقدم عند قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «١»
. وجملتها ترجع إلى الهمة والحال، وبهما كانت التربية في الصدر الأول، فكانت الملاقاة والصحبة تكفي، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة. وذلك في زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث لقربهم من النور النبوي. فلما بَعُد الأمر، وأظلمت القلوب، أحدثوا تربية الاصطلاح، وهو التزيي بزي مخصوص، كالمرقعة وحمل السبحة في العنق، والركوة، وغير ذلك من مسائل التجريد، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب، واستعمال أوراد مخصوصة، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح. وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح، إذا رآه ينجع فيه ذلك، فبقي الأمر كذلك إلى القرن التاسع، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مُدَّعُون، لا همة لهم ولا حال، فقال الحضرمي حسمًا لهذه الدعوى: قد انقطعت التربية بالاصطلاح، وما بقي إلا الهمة والحال، فعليكم بالكتاب والسنة، أي:
بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان، يعني طريق الأحوال والاصطلاح. ومراده بذلك: قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال. وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح.
والحاصل: أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته لِمَا رأى من الفساد الذي دخل في التربية. وقد وُجد بعده رجال مُربون بالاصطلاح مع الهمة والحال. والمراد بالهمة: العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وبالحال: إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله لقوله- عليه الصلاة والسلام- «خَيْرُكُمْ مَنْ إِذا رُؤوا ذُكر اللهُ». ولا بد من إذن خاص من الشيخ، أو من يقوم مقامه، وإلا فلا تنجح تربيته، ولا ينهض حاله. والله تعالى أعلم.
فإِن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي: لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري: قوله: (وَإِنْ جادَلُوكَ... ) إلخ، أي:
ثم ذكر وصفا آخر لأهل الإنكار، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٢]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
قلت: (وَإِذا تُتْلى) : عطف على «يعبدون»، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي: على المشركين آياتُنا القرآنية، حال كونها بَيِّناتٍ: واضحات الدلالة على العقائد الحقية، والأحكام الصادقة، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي: الإنكار بالعبوس والكراهة، فالمُنكَر: مصدر بمعنى الإنكار. يَكادُونَ يَسْطُونَ: يبطشون، والسطو: الوثب والبطش، أي. يثبون على الذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا من فرط الغيظ والغضب، والتالون هم: النبي ﷺ وأصحابه. قُلْ لهم: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر، بسبب ما يتلى عليكم، هو النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مثلكم، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار، التي ترجعون إليها مخلدين.
الإشارة: من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب، فما قيل لكبراء الكفار يجرُ ذيله على من تشبّه بهم من المؤمنين.
ولمّا كان دعواهم الشريك لله تعالى جارية فى الغرابة والشهرة مجرى الأمثال السائرة، ضرب لها الحق تعالى مثلا، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أي: يُبين لكم حالٌ مستغربة، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مَثَلاً، وتنشر في الأمصار والأعصار، فَاسْتَمِعُوا لَهُ لضرب هذا المثل استماع تدبر وتفكر، وهو: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ، وعن يعقوب: بياء الغيبة، أي: إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي: لن يقدروا على خلقه أبدًا، مع صغره وحقارته. و «لن» : لتأبيد النفي، فتدل على استحالته، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي: الذباب. ومحله: نصب على الحال، كأنه قال: لا يقدرون على خلقه مجتمعين له، متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟! وهذا أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش، حيث وَصَفوا بالألوهية- التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات، والإحاطة بكل المعلومات- صُورًا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا له.
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً من الطيب وغيره، لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي: هذا الخلق الأرذل الأضعف، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا، وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنهم كانوا يطلُونها بالعسل والطيب، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذبابُ من الكُوِي «١»
فيأكله، فتعجز الأصنام عن أخذه. ضَعُفَ الطَّالِبُ: الصنمُ بطلب ما سُلب منه، وَالْمَطْلُوبُ: الذباب بما سَلَب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت لوجدت الطالب أضعفَ وأضعفَ فإنَّ الذباب حيوان والصنم جماد.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: ما عَرفُوه حق معرفته، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكًا له، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: قادر غالب، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيهًا له! أو: لقوي ينصر أولياءه، عزيز ينتقم من أعدائه. بَعْدَ أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرًا حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته، وسموه باسمه مع عجزه. ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم وهي القوة والغلبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من تعلق في حوائجه بغير الله أو ركن بالمحبة إلى شيء سواه، فقد أشرك مع الله أضعف شيء وأقله. فماذا يجدي تعلقُ العاجزُ بالعاجز، والضعيف بالضعيف، ضَعف الطالبُ والمطلوب. فما قَدَر الله حقَ قدره من تعلق في أموره بغيره. قال الورتجبي: بيَّن سبحانه- بعد ذكر عجز الخلق والخليقة- جلال قدره الذي لا يعرفه غيره، بقوله: (ما قدروا الله حق قدره)، قال: وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به، فذكر
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ يَصْطَفِي: يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يرسلهم إلى صفوة خلقه، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم، وَمِنَ النَّاسِ، كإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يُعرِّفون بجلال الله ومعرفة قدره، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره فإنَّ الله تعالى لا يمكن لأحد أن يقدرُه حق قدره. قال سيد العارفين: «لا أُحصي ثناء عليك، أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نفسك». وقيل: نزلت ردًا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيانًا أن رُسل الله على ضربين: ملك وبشر. وقيل: نزلت في قولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «١»
. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي: سميع لقولهم، بصير بمن يختاره للرسالة. أو سميع لأقوال الرسل، بصير بأحوال الأمم في الردِّ والقبول. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما مضى، وَما خَلْفَهُمْ: ما يأتى، أو ما عملوا وما سيعملونه، أو أمر الدنيا وأمر الآخرة، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: إليه مرجع الأمور كلها، ليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدبيره واختياره مَن شاء من رُسلِه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: شرب الخمرة، وهي المحبة الحقيقية والمعرفة الكاملة، لا تكون إلاَّ على أيدي الوسائط، والنادر لا حكم له، فالأنبياء وسائطهم الملائكة، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء، وهم أهل العلم بالله الذوقي العِيَاني. وقال الورتجبي- إثر ما تقدم عنه-: فالملائكة وسائط الأنبياء، والأنبياء وسائط العموم، والأولياء للأولياء خاصة. هـ.
وتوسيط الأنبياء للعموم في مطلق المحبة، وتعليم ما يقرب إليها، وأما المحبة الحقيقية فهي خاصة بالأولياء للأولياء، كما قال. وبالله التوفيق.
ثم ذكر سببها، وما يقرب إليها، فقال:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)قلت: (ملة أبيكم) : منصوب بمحذوف، أي: اتبعوا ملة إبراهيم.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا في صلاتكم، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أنَّ الأعمال ليست من الإيمان، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة، قاله النسفي. وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ أي: واقصدوا بعبادتكم وجه الله، وأخلصوا فيها، أو هو عطف عام على خاص فإن العبادة أعم. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كله. قيل: لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص لقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «١»
، ثم إلى العبادة بغير الصلاة، كالصوم والحج، ثم عم بالحث على سائر الخيرات. وقال ابن عرفة: وافعلوا الخير: راجع للعبادة المتعدية، وما قبله يختص بالقاصرة. قال المحشي: وفيه نظر لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع، كتعليم العلم، والصدقة، ونحو ذلك، بل أمر أولاً بالصلاة، وهي نوع من العبادة، وثانيًا بالعبادة، وهي نوع من فعل الخير، وثالثًا بفعل الخير، وهو أعم من العبادة. فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم. هـ. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: كي تفوزوا، أي: افعلوا هذا كله، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين، فلا تتكلوا على أعمالكم.
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي: في ذات الله ومن أجله حَقَّ جِهادِهِ، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر، ومنه: كلمة حق عند أمير جائر. قال- عليه الصلاة السلام-: «أعمال البر كلها، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنفثة إلى جنب البحر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي، كنفثة في جنب بحر لجيّ». وهذا على معنى الخبر الذي جاء: «جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «٢»
. يعني: مجاهدة النفس. قاله في القوت.
(٢) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (تسديد القوس، باب القاف، قدمت من الجهاد الأصغر)، والخطيب البغدادي فى تاريخ بغداد (١٣/ ٥٢٣) من حديث جابر، بألفاظ مقاربة، وآخره: «وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه». وإسناده ضعيف. راجع الفتح السماوي (٢/ ٨٥١)، وكشف الخفاء (١/ ٥١١).
، ومما هو ظاهر في الآية: الذب عن دينه وتغيير المناكر. هـ.
هُوَ اجْتَباكُمْ: اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه، وهو تأكيد للأمر بالجهاد، أي: وجب عليكم أن تجاهدوا لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ: ضيقٍ، بل وسع عليكم فى جميع ما كلفكم به، من الطهارة، والصلاة والصوم والحج، بالتيمم والإيماء، وبالقصر في السفر، والإفطار لعذر، وعدم الاستطاعة في الحج. فاتبعوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «جئتكم بالحنيفية السمحة» «٢»
، وسماه أبًا، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها لأنه أبو رسول الله ﷺ فكان أبًا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ» «٣».
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ أي: الله، بدليل قراءة أُبي: «الله سماكم» أو إبراهيم لقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «٤» مِنْ قَبْلُ أي: سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة، وَفِي هذا أي: القرآن، فقد فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم الأكرم، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أنه قد بلغكم رسالة ربكم، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم. وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بواجباتها، وَآتُوا الزَّكاةَ لشرائطها، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي ثقوا به وتوكلوا عليه، لا بالصلاة والزكاة. أو: ثقوا به في جميع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه. هُوَ مَوْلاكُمْ: مالككم وناصركم ومتولي أموركم، فَنِعْمَ الْمَوْلى حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم، وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي: الناصر حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم.
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٥/ ٢٦٦)، والطبراني فى الكبير (٨/ ٢٥٧ رقم ٧٨٦٨) من حديث أبى أمامة بلفظ: «إنى لم أبعث باليهودية ولا النصرانية، ولكنى بعثت بالحنيفية السمحة».
(٣) بعض حديث أخرجه أبو داود فى (الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة)، والنسائي فى (الطهارة، باب النهى عن الاستطابة بالروث)، وابن ماجة فى (الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة)، والدارمي فى (الطهارة، باب الاستنجاء بالأحجار) عن أبى هريرة رضى الله عنه.
(٤) من الآية ١٢٨ من سورة البقرة.
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة، من غير تشديد ولا تعقيد، لقوله: (وما جعل عليكم في الدين من حَرج) لأن مبني الشرع الكريم على السهولة، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه». كما في الحِكَم.
وقال الورتجبي: (وَما جَعَلَ..) الآية، أي: إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال: (ملة أبيكم إبراهيم)، ومن ملته: الاستسلام والانقياد، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم، يا أسباط خليلي، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم، قبل وجودكم بنور النبوة، فسماكم المسلمين، أي: منقادين بين يديَّ، عارفين بوحدانيتي. وفيما ذكرنا من أوصافكم، حبيبي شاهد عليكم، يعرف هذه الفضائل منكم، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم. ثم قال: اطلبوا الاعتصام مني، استعينوا لأقويكم في طاعتي. ثم قال: (فنعم المولى) حيث لا مولى غيره، (ونعم النصير) حيث لا يُخذل من نصره فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر في قوله: (حق جهاده) : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا، كما لم يختر عليك لقوله: (هو اجتباكم). هـ.
وقوله تعالى: (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ... ) الآية: أي: اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين، لتكونوا مرضيين عدولاً، تشهدون على الأمم، كما يشهد محمد ﷺ عليكم ويزكيكم، فهو كقوله تعالى: جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ... «١» الخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه، فهو خير ولي وناصر، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
سورة الحج
سورةُ (الحَجِّ) من السُّوَر المدنيَّة، ومع ذلك فإنها جاءت على ذِكْرِ كثيرٍ من موضوعات السُّوَر المكِّية؛ مثل: بيان مسائلِ الاعتقاد والتوحيد، وما يَتعلَّق بمَشاهِدِ يوم القيامة وحسابِ الله عز وجل للخَلْقِ، إلا أن مِحوَرَها الرئيس كان حول رُكْنِ (الحَجِّ)، وما يتعلق به من أحكامٍ تشريعية، ودَوْرِ هذا الرُّكن في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بأحكامٍ تشريعية تتعلق بالجهاد وقتال المشركين؛ فقد مزَجتِ السورةُ بين موضوعات السُّوَر المكِّية والمدنيَّة، إلا أن مِحوَرَها تشريعيٌّ؛ كما أشرنا.
ترتيبها المصحفي
22نوعها
مدنيةألفاظها
1281ترتيب نزولها
103العد المدني الأول
76العد المدني الأخير
76العد البصري
75العد الكوفي
78العد الشامي
74* قوله تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ فَاْلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ اْلْحَمِيمُ} [الحج: 19]:
عن قيسِ بن عُبَادٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «أنا أوَّلُ مَن يجثو بين يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ».
قال قيسٌ: «وفيهم نزَلتْ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ}، قال: هم الذين بارَزوا يومَ بَدْرٍ: عليٌّ، وحَمْزةُ، وعُبَيدةُ، وشَيْبةُ بنُ ربيعةَ، وعُتْبةُ بنُ ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتْبةَ». أخرجه البخاري (٤٧٤٤).
* قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا خرَجَ النبيُّ ﷺ من مكَّةَ، قال أبو بكرٍ: أخرَجوا نبيَّهم! إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون! لَيَهلِكُنَّ؛ فنزَلتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، قال: فعرَفْتُ أنَّها ستكونُ».
قال ابنُ عباسٍ: «فهي أوَّلُ آيةٍ نزَلتْ في القتالِ». أخرجه ابن حبان (٤٧١٠).
* سورة (الحَجِّ):
سُمِّيت سورة (الحَجِّ) بذلك؛ لأنها جاءت على ذِكْرِ رُكْنِ (الحَجِّ).
* فُضِّلتْ سورةُ (الحَجِّ) بأنها السورةُ الوحيدة من سُوَرِ القرآن الكريم التي جاء فيها سجدتانِ:
عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، فُضِّلتْ سورةُ الحَجِّ بأنَّ فيها سجدتَيْنِ؟ قال: «نَعم، ومَن لم يسجُدْهما فلا يَقرَأْهما». أخرجه الترمذي (٥٧٨).
جاءت سورة (الحَجِّ) على ذِكْرِ الكثير من الموضوعات؛ وهي:
1. الأمر بالتقوى، والإيمان بالساعة (١-٢).
2. المجادلة بغير علم (٣-٤).
3. الأدلة على البعث (٥-٧).
4. المجادلة بغير علم (٨-١٦).
5. الفصل بين الأُمَم، والاعتبار (١٧-٢٤).
6. الصد عن سبيل الله والمسجدِ الحرام (٢٥-٣٧).
7. الإذن بالقتال والدفاع عن المؤمنين (٣٨-٤١).
8. الاعتبار بهلاك الأُمَم السابقة (٤٢-٤٨).
9. إحكام الوعيِ للنبي صلى الله عليه وسلم (٤٩ - ٦٠).
10. من دلائلِ قدرة الله تعالى (٦١-٦٦).
11. بطلان شريعة ومنهاج المشركين (٦٧-٧٦).
12. أوامر الله للمؤمنين (٧٧-٧٨). ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /87).
ويقول شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ: «سورة الحَجِّ فيها مكِّيٌّ ومدَنيٌّ، وليليٌّ ونهاريٌّ، وسفَريٌّ وحضَريٌّ، وشِتائيٌّ وصَيْفيٌّ.
وتضمَّنتْ منازلَ المسيرِ إلى الله؛ بحيث لا يكون منزلةٌ ولا قاطع يَقطَع عنها.
ويوجد فيها ذِكْرُ القلوبِ الأربعة: الأعمى، والمريض، والقاسي، والمُخبِتِ الحيِّ المطمئنِّ إلى الله.
وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ - على اختصارها - ما هو بَيِّنٌ لمَن تدبَّرَه.
وفيها ذِكْرُ الواجبات والمستحَبَّات كلِّها؛ توحيدًا، وصلاةً، وزكاةً، وحَجًّا، وصيامًا؛ قد تضمَّنَ ذلك كلَّه قولُه تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْرْكَعُواْ وَاْسْجُدُواْۤ وَاْعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩} [الحج: 77]، فيدخُلُ في قوله: {وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ} كلُّ واجبٍ ومستحَبٍّ؛ فخصَّصَ في هذه الآيةِ وعمَّمَ، ثم قال: {وَجَٰهِدُواْ فِي اْللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ} [الحج: 78]، فهذه الآيةُ وما بعدها لم تترُكْ خيرًا إلا جمَعَتْهُ، ولا شرًّا إلا نفَتْهُ». "مجموع الفتاوى" (15 /266).
وهذه السورةُ مِن أعاجيبِ السُّوَرِ؛ كما ذكَر ابنُ سلامةَ البَغْداديُّ، وأبو بكرٍ الغَزْنويُّ، وابنُ حزمٍ الأندلسيُّ، وابنُ تيميَّةَ.
ومِن عجائبِ هذه السورةِ الكريمة: أنه اجتمَع فيها سجودانِ، وهذا لم يحدُثْ في سورةٍ أخرى، بل قال بعضُ العلماء: «إن السجودَ الثاني فيها هو آخِرُ سجودٍ نزَل في القرآنِ الكريم». انظر: "الناسخ والمنسوخ" للبغدادي (ص126)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن حزم (ص46)، و"تفسير القرطبي" (21/1)، و"مجموع الفتاوى" (15/266)، و"بغية السائل" (ص548).
جاءت سورة (الحَجِّ) بمقصدٍ عظيم؛ وهو دورُ رُكْنِ (الحَجِّ) العظيمُ في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بالحثِّ على التقوى، وخطابِ الناس بأمرهم أن يتَّقُوا اللهَ ويَخشَوْا يومَ الجزاء وأهوالَه، والاستدلالِ على نفيِ الشرك، وخطابِ المشركين بأن يُقلِعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية، وعن المجادلة في ذلك اتباعًا لوساوسِ الشياطين، وأن الشياطينَ لا تُغني عنهم شيئًا، ولا ينصرونهم في الدنيا ولا في الآخرة.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /296)، والتحرير والتنوير (17 /184).