هي مكية قاله ابن عباس والزبير والحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها. وقيل إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا – إلى قوله – فإن مصيركم إلى النار ﴾. وعن ابن عباس قال : هي مكية سوى آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين وهي اثنتان وخمسون آية.
ﰡ
(من الظلمات) أي من ظلمات الكفر والجهل والضلالة (إلى) ما صاروا إليه من (النور) أي نور الإيمان والعلم والهداية.
قال الرازي: فيه دليل على أن طريق الكفر والبدعة كثيرة، وطريق الحق ليس إلا واحداً لأنه عبر عنها بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الحق بالنور وهو لفظ مفرد جعل الكفر بمنزلة الظلمات والإيمان بمنزلة النور على طريق الاستعارة وقيل أن الظلمة مستعارة للبدعة والنور مستعار للسنة وقيل من الشك إلى اليقين، ولا مانع من إرادة جميع هذه الأمور وأسند الفعل إلى النبي ﷺ لأنه الداعي والهادي والمنذر.
ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ما هذا النور الذي أخرجهم إليه فقيل صراط العزيز الحميد لأنه نور في نفسه طريق للخلود في الجنة المؤبد، وإضافة الصراط إلى الله تعالى لأنه المظهر له وأفهم بتخصيص الوصفين أنه لا يزل سالكه ولا يخيب قاصده، والعزيز هو القادر الغالب الغني عن جميع الحاجات، والحميد هو الكامل في استحقاق الحمد.
ثم توعد من لا يعترف بربوبيته فقال (وويل للكافرين من عذاب شديد) معدّ لهم في الآخرة، وقد تقدم بيان معنى الويل وأصله النصب كسائر المصادر ثم رفع للدلالة على الثبات، قال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلكة فدعا سبحانه وتعالى بذلك على من لم يخرج من الكفار بهداية رسول الله ﷺ بما أنزله الله عليه مما هو فيه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قيل والويل هو نقيض لو أل أي النجاة وقيل الويل واد في جهنم، ومن بيانية وقيل الويل بمعنى التأوه فمن للتعدية أي يولولون ويضجون
ثم وصف هؤلاء الكفار بقوله
(ويصدون) أي يصرفون الناس (عن سبيل الله) أي عن دينه الذي شرعه لعباده (ويبغونها) أي السبيل (عوجا) أي يطلبون لها زيغاً وميلاً وعدولاً وانحرافاً عن الحق لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، وقيل الهاء راجعة إلى الدنيا أي يطلبونها على سبيل الميل عن الحق، والميل إلى الحرام والعوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان وقد سبق تحقيقه، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق فقال:
(أولئك) يعني من هذه صفته (في ضلال بعيد) عن طريق الحق، أي بالغ في ذلك غاية الغايات القاصية أو ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل ويبعد عن الطريق مكاناً قريباً وقد يضل بعيداً، والبعد وإن كان من صفة الضال لكنه يجوز وصف الضلال به مجازاً لقصد المبالغة كجد جدّه وداهية دهياء.
ثم لما منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر من كمال تلك النعمة أن ذلك المرسل بلسان قومه فقال:
وقال عثمان بن عفان: نزل القرآن بلسان قريش. وعن مجاهد مثله، وقد قيل في هذه الآية إشكال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى الناس جميعاً بل إلى الجن والإنس ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة وأجيب بأنه ﷺ وإن كان مرسلاً إلى الثقلين كما مر، لكن لما كان قومه العرب وكانوا أخص به وأقرب إليه، كان أرساله بلسانهم أولى من أرساله بلسان غيرهم وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فاهماً له كفهمهم إياه.
ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم وبينه رسول الله ﷺ لكل قوم بلسانه، لكان ذلك مظنةً للاختلاف، وفتحاً لباب التنازع، لأن كل أمة قد تدعي من المعاني في لسانها ما لا يعرفه غيرها، وربما كان ذلك أيضاً مفضياً إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون.
قال في الجمل والأولى أن يحمل القوم على من أرسل إليهم الرسول أياً كان وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد خصوص عشيرة رسولهم، وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من سائر القبائل وأصناف الخلق وهو ﷺ كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية لأنه لم يتفق أنه خاطب أحداً من أهلها، ولو خاطبه لكلمه بها، تأمل انتهى.
قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلاً للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه، يعني لا يجوز نصبه عطفاً على ما قبله لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا للضلال.
وقال الزجاج: ولو قرئ بنصبه على أن اللام لام العاقبة جاز، والمعنى على الأول وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها وفهموها، ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله عز وجل، والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله سبحانه واسطة وسبباً، وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدم عليها إذ هو إبقاء على الأصل، والهداية إنشاء ما لم يكن.
(وهو العزيز) الذي لا يغالبه مغالب في ملكه (الحكيم) الذي تجري أفعاله على مقتضى الحكمة في صنعه.
ثم لما بيَّن أن المقصود من بعثة نبينا ﷺ هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلا ذلك وخص موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة المحمدية فقال
(أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) المعنى قلنا لموسى أخرج، لأن الإرسال فيه معنى القول أو بأن أخرج بني إسرائيل بعد ملك فرعون من الكفر أو الجهل الذي قالوا بسببه اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إلى الإيمان أو العلم (وذكرهم بأيام الله) أي بوقائعه.
قال ابن السكيت: العرب تقول الأيام في معنى الوقائع، يقال فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعها.
وقال الزجاج: بنعم الله عليهم وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود، والمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وأخرج النسائي والبيهقي وغيرهما عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ قال
وقال الربيع بوقائع في القرون الأولى، ويترجح تفسير أيام الله ببلائه ونعمه وفي تفسير ابن جرير بأيام الله، أي بأنواع عقوباته الفائضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه، وفي القاموس وأيام الله نعمه ويوم أيوم شديد، وآخر يوم في الشهر، وفي المختار وربما عبروا عن الشدة باليوم.
(إن في ذلك) التذكير بأيام الله أو في نفس أيام الله (لآيات) أي لدلالات عظيمة دالة على التوحيد وكمال القدرة (لكل صبار) كثير الصبر على المحن والمنح (شكور) كثير الشكر للنعم التي أنعم الله بها عليه لأنه إذا سمع بما نزل على من قبله من البلاء وأفيض عليهم من النعماء اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر وقيل المراد بذلك كل مؤمن، وعبر عنه بالوصفين لأنهما ملاك الإيمان وعنوان المؤمن، وقدم الصبار على الشكور لكون الشكر عاقبة الصبر.
قال قتادة في الآية: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر، وإنما خص الصبار والشكور وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم.
(ويذبحون أبناءكم) المولودين لقول بعض الكهنة أن مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملك فرعون، وعطف (يذبحون) على (يسومونكم سوء العذاب) وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدة ومع طرح الواو كما في الآية الأخرى يكون التذبيح تفسيراً لسوء العذاب.
(ويستحيون نساءكم) أي يتركونهن في الحياة لإهانتهن وإذلالهن، ولذلك عدَّ من جملة البلاء، وزاد الكرخي كانوا يستخدمونهن بالاستعباد ويفردونهن عن الأزواج وذلك من أعظم المضار.
(وفي ذلكم) أي في إنجائكم أو في أفعالهم المذكورة (بلاء) أي ابتلاء لكم بالتنعم أو بالعذاب، فالله تعالى يختبر عباده تارة بالنعم وتارة بالشدائد، كما قال (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) (من ربكم عظيم) وقد تقدم تفسير هذه الآيات في البقرة مستوفى.
وقيل هو من قول الله سبحانه أي أذكر يا محمد إذ تأذن ربكم وقرئ وإذ قال ربكم والمعنى واحد كما تقدم واللام في.
(لئن شكرتم) هي الموطئة للقسم والخطاب لبني إسرائيل وقوله (لأزيدنكم) سادّ مسد جوابي الشرط والقسم والمعنى لئن شكرتم إنعامي عليكم بما ذكر وما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لأزيدنكم نعمة إلى نعمة تفضلاً مني، وقيل من طاعتي قاله الحسن؛ وقيل من الثواب والأول أظهر فالشكر سبب المزيد.
قال الربيع: أخبرهم موسى عن ربه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم من الرزق وأظهرهم على العالم، وقال سفيان الثوري في الآية: لا تذهب أنفسكم إلى الدنيا فإنها أهون عند الله من ذلك ولكن يقول لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي.
ولعله عليه السلام إنما قال هذا عندما عاين منهم دلائل العناد ومخائل الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب.
أخرج البخاري في تاريخه والضياء في المختار عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ " من ألهم خمسة لم يحرم خمسة " وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة. وعن أبي هريرة مرفوعاً " من أعطى الشكر لم يمنع الزيادة " أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر، ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة بل الظاهر من الآية العموم كما يفيده جعل الزيادة جزاء الشكر، فمن شكر الله على ما رزقه وسَّع الله عليه في رزقه ومن شكر الله على ما أقدره
(قوم نوح وعاد وثمود) بدل من الموصول أو عطف بيان (والذين من بعدهم) أي من بعد هؤلاء الأمم الماضية الثلاثة (لا يعلمهم) أي لا يحصى عددهم ومقاديرهم ولا يحيط بهم علماً (إلا الله) سبحانه والجملة معترضة وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم أي هذه الأمور لا يعلمها إلا الله ولا يعلمها غيره أو يكون راجعاً إلى ذواتهم أي أنه لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلا الله سبحانه ولم يبلغنا خبرهم أصلاً.
وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ويقول كذب النسابون، وعن عمرو بن ميمون مثله، وعن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب أنا أنسب الناس قال إنك لا تنسب الناس، فقال بلى، فقال له عليّ أرأيت قوله عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً قال أنا أنسب ذلك الكثير قال أرأيت قوله والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله، فسكت، وعن عروة بن الزبير قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معدَّ بن عدنان، وعن ابن عباس قال: ما بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون.
وقيل أن المعنى أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات أي اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيباً لهم ورداً لقولهم، وقيل المعنى أنهم أشاروا إلى ألسنتهم وما يصدر عنها من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أي لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتنا هذه، قيل وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجباً كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه.
وقيل المعنى ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم، فالضمير الأول للرسل، والثاني للكفار، وقيل جعلوا أيديهم في أفواه الرسل رداً لقولهم؛ فالضمير الأول على هذا للكفار، والثاني للرسل، وقيل معناه أومأوا إلى الرسل أن اسكتوا، وقيل أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم، والمراد بهما على هذا هاتان الجارحتان المعلومتان.
وقيل أن الأيدي هنا النعم أي ردوا نعم الرسل بأفواههم أي بالنطق والتكذيب، والمراد بالنعم هنا ما جاءوهم به من الشرائع، وقال أبو عبيدة ونعم ما قال هو ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت قد رد يده في فيه، وهكذا قال الأخفش.
واعترض على ذلك القتيبي فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به، وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنقاً وغيظاً، وهذا هو القول الذي قدمناه على جميع هذه الأقوال، وبه قال ابن مسعود وهو
(وقالوا) أي الكفار للرسل (إنا كفرنا بما أرسلتم به) من البينات على زعمكم (وإنا لفي شك) عظيم (مما تدعوننا إليه) من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه (مريب) أي موجب للريب، يقال أربته إذا فعلت أمراً أوجب ريبة وشكاً، والريب قلق النفس وعدم سكونها وأن لا تطمئن إلى شيء.
وقد قيل كيف صرحوا بالكفر ثم بنوا أمرهم على الشك وأجيب بأنهم أرادوا أنّا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنّا نشك في صحة نبوتكم ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم، وقيل كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت، وقيل أن كفرهم بالمعجزات وشكهم في التوحيد فلا تخالف.
(يدعوكم) إلى الإيمان به وتوحيده أو إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم مما تدعوننا إليه (ليغفر لكم من ذنوبكم) أي لأجل غفران ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم أو اللام للتعدية كقولك دعوتك لزيد.
قال أبو عبيدة: من صلة زائدة في الإيجاب، ووجه ذلك قوله في موضع آخر (إن الله يغفر الذنوب جميعًا) وأجازه الأخفش وقال سيبويه: هي للتبعيض ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع.
وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد ﷺ غفران جميعها لغيرهم، وبهذه الآية احتج من جوز زيادة (من) في الإثبات، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها إلا في النفي إذا
(قالوا إن) أي ما (أنتم إلا بشر مثلنا) في الهيئة والصورة، تأكلون وتشربون كما نأكل ونشرب، فلا فضل لكم علينا ولستم ملائكة (تريدون أن تصدونا) وصفوهم بالبشر أولاً ثم بإرادة الصدّ لهم (عما كان يعبد آباؤنا) أي آباؤهم ثانياً أي تريدون أن تصرفونا عن معبودات آبائنا من الأصنام ونحوها (فأتونا) إن كنتم صادقين بأنكم مرسلون من عند الله (بسلطان مبين) أي حجة ظاهرة واضحة تدل على صحة ما تدعونه من المزية أو النبوة وقد جاؤوهم بالسلطان المبين والحجة الظاهرة ولكن هذا نوع من تعنتاتهم ولون من تلوناتهم.
(وما كان) أي ما صح (لنا) ولا استقام (أن نأتيكم بسلطان) أي بحجة من الحجج، وقيل المراد بالسلطان هنا هو ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت، وقيل أعم من ذلك فإن ما شاء الله كان وما لم يشأه لم يكن (إلا بإذن الله) أي بمشيئته وإرادته وليس ذلك في قدرتنا، وقيل بأمره لنا بالإتيان أي إذنه لنا فيه والأول أولى.
(وعلى الله) وحده (فليتوكل المؤمنون) في دفع شرور أعدائهم عنهم وفي
الصبر على معاداتهم وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه وكان الرسل قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصداً أولياً ولهذا قالوا:
وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة (و) الله (لنصبرن على ما آذيتمونا) من وقوع التكذيب لنا منكم والعناد والاقتراحات الباطلة وغير ذلك مما لا خير فيه وما مصدرية أو موصولة اسمية (وعلى الله) وحده دون من عداه (فليتوكل المتوكلون) قيل المراد بالتوكل الأول استحداثه وإنشاؤه، وبهذا السعي في بقائه وثبوته فالتوكلان مختلفان.
وقيل معنى الأول إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم
وقد قيل أن (أو) بمعنى حتى أو بمعنى إلا أن كما قاله بعض المفسرين، ورد بأنه لا حاجة إلى ذلك بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين، قيل والعود هنا بمعنى الصيرورة، أي لتصيرن داخلين في ديننا أي في الشرك لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأعراف (فأوحى إليهم) أي إلى الرسل بعد هذه المخاطبات والمحاورات (ربهم لنهلكن الظالمين) الكافرين
(من بعدهم) أي بعد هلاكهم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) وقال (وأورثكم أرضهم وديارهم).
عن ابن عباس قال: كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويكذبونهم ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا على الله وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم، فأنجز لهم ما وعدهم واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا.
وعن قتادة قال: وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فبيّنَ الله
(ذلك) أي ما تقدم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم (لمن خاف مقامي) أي موقفي، وذلك يوم الحساب فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة وبالضم فعل الإقامة، وقيل إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام، أي لمن خاف قيامى عليه ومراقبتي له كقوله تعالى (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) وقال الأخفش مقامي بمعنى عذابي.
(وخاف وعيد) أي خشي وعيدي بالعذاب، وقيل بالقرآن وزواجره، وقيل هو نفس العذاب الموعود للكفار، والوعيد اسم من الوعد، وهذه الآية تدل على أن الخوف من الله غير الخوف من وعيده لأن العطف يقتضي التغاير، قاله الكرخي.
(وخاب) أي خسر وقيل هلك (كل جبار) هو المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة.
وقيل من تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها، وهو صفة ذم في
قال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي. وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه، وقيل المراد به العاصي، وقيل الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله. قاله قتادة، وقيل العنيد الناكب عن الحق. قاله إبراهيم النخعي، وقال مقاتل: المتكبر، وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق.
وقيل هو المعجب بما عنده، وقيل هو الذي يعاند ويخالف، ومعنى الآية أنه خسر وهلك من كان متصفاً بهذه الصفة.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان أي في طلبه.
وقال النحاس: من ورائه أي من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى أي استتر فصارت جهنم من ورائه لأنها لا ترى وحكى مثله ابن الأنباري وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أو قدامك.
(ويسقى من ماء صديد) أي يلقى فيها ويسقى، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم واشتقاقه من الصد لأنه يصد الناظرين عن رؤيته وهو دم مختلط بقيح يسيل من جلد الكافر ولحمه.
وقال عكرمة: هو القيح والدم. وقال محمد بن كعب القرظي: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر والصديد صفة لماء أو بدل منه، وقيل عطف بيان له
وقيل لا يكاد يدخله في جوفه، وعبر عنه بالإساغة لما أنها المعهودة في الأشربة وقيل أنه يسيغه بعد شدة وإبطاء كقوله (وما كادوا يفعلون) أي يفعلون بعد إبطاء كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى (يصهر به ما في بطونهم) قيل كاد صلة، وقال الزمخشري للمبالغة؛ وقيل معناه لا يجيزه.
أخرج أحمد والترمذي واستغربه والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم في الحلية وصححه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله
(ويأتيه الموت) أي أسبابه (من كل مكان) أي من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، أو من كل موضع من مواضع بدنه.
وقال الأخفش: المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتا لشدتها.
وقال ابن عباس: يعني أنواع العذاب وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت لأن الله يقول لا يقضى عليهم فيموتوا.
وقال ميمون بن مهران: المعنى من كل عظم وعرق وعصب. وعن محمد بن كعب نحوه، وعن إبراهيم التيمي قال: من موضع كل شعرة في جسده.
(وما هو بميت) أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح. وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا، ومثله قوله (لا يموت فيها ولا يحيى).
وقيل المعنى وما هو بميت لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه، والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه (لا يموت فيها
(ومن ورائه) أي من أمامه أو من بعده أو من بين يديه، قاله البيضاوي. وقيل الضمير عائد على كل جبار كما في السمين (عذاب غليظ) أي شديد يستقبل في كل وقت عذاباً أشد مما هو عليه، قيل هو الخلود في النار، قال إبراهيم التيمي وقيل حبس الأنفاس، قاله فضيل بن عياض.
(أعمالهم) الصالحة. كالصدقة وصلة الأرحام وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين ونحو ذلك أو عبادتهم الأصنام في عدم الانتفاع بها أو الأعمال التي أشركوا فيها غير الله تعالى.
(كرماد) أي باطلة غير مقبولة، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء، وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد احتراقه بالنار وجمعه في الكثرة على رمد؛ وفي القلة على أرمد.
(اشتدت به الريح) حملته بشدة وسرعة فنسفته وطيَّرته ولم تبق منه شيئاً (في يوم عاصف) العصف شدة الريح وصف به زمانها مبالغة كما يقال يوم حار ويوم بارد والبرد والحر فيهما لا منهما والإسناد فيه تجوز، ووجه الشبه أن الريح العاصفة تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى له أثر، فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم واحبطها بحيث لا يبقى لها أثر.
وقد بيَّن محصله بقوله (لا يقدرون مما كسبوا) من تلك الأعمال الباطلة
(ذلك) أي ما دل عليه التمثيل من هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها (هو الضلال) الهلاك (البعيد) عن طريق الحق المخالف لمنهج الثواب أو عن فعل الثواب، ولما كان هذا خسراناً لا يمكن تداركه ولا يرجى عوده سماه بعيداً
ثم بيَّن كمال قدرته سبحانه واستغنائه عن كل أحد من خلقه فقال: (إن يشأ يذهبكم) أيها الناس (ويأت بخلق جديد) سواكم فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين؛ ويهلك العصاة، ويأتي بمن يطيعه من خلقه، لأن القادر لا يصعب عليه شيء وأنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر.
وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه كما هو مقرر في علم المعاني وإنما قال وبرزوا لله مع كونه سبحانه عالماً بهم لا يخفى عليه شيء من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا لأنهم كانوا يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى، فالكلام خارج على ما يعتقدونه.
(فقال الضعفاء للذين استكبروا) أي قال الاتباع الضعفاء في الرأي للرؤساء الأقوياء المتكبرين بما هم فيه من الرياسة (إنا كنا لكم تبعاً) في الدنيا
قال الزجاج: جمعهم في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع فقال الضعفاء للذين استكبروا من أكابرهم وقادتهم عن عبادة الله إنا كنا لكم تبعاً.
(فهل أنتم) في هذا اليوم، والاستفهام للتوبيخ (مغنون) أي دافعون (عنا) يقال أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى وأغناه إذا أوصل إليه النفع (من عذاب الله من شيء) أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله، فمن الأولى للبيان والثانية للتبعيض قاله الزمخشري، وقيل هما للتبعيض معاً قاله في الكشاف أيضاً وقيل الأولى تتعلق بمحذوف والثانية مزيدة.
(قالوا) أي قال المستكبرون مجيبين عن قول المستضعفين (لو هدانا الله) إلى الإيمان في الدنيا (لهديناكم) إليه ولكن لما أضلنا وضللنا دعوناكم إلى الضلالة وأضللناكم واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، والجملة مستأنفة كأنه قيل كيف أجابوا، وقيل المعنى لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها، وقيل لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه.
(سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) أي مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده وبقطعه عنه والهمزة وأم لتأكيد التسوية كما في قوله تعالى (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
(ما لنا من محيص) أي منجاة ومهرب من العذاب من الحيص وهو العدول على جهة الفرار يقال حاص فلان عن كذا أي فرَّ وزاغ يحييص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن مالك يرفعه إلى النبي ﷺ قال " يقول أهل النار هلموا فلنصبر فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا هلموا فلنجزع فبكوا خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ".
والظاهر أن هذه المراجعة كانت بينهم بعد دخولهم النار كما في قوله تعالى (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد).
قال الفراء: وعد الحق هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم مسجد الجامع؛ وقال البصريون وعدكم وعد اليوم الحق.
(ووعدتكم) وعداً باطلاً بأنه لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار
(إلا أن دعوتكم) أي مجرد دعائي لكم إلا الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان ودعوته لهم ليست من جنس السلطان حتى يستثنى منه بل الاستثناء منقطع أي لكن دعوتكم وقيل المراد بالسلطان هنا القهر أي ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلا إجابتي وقيل هذا الاستثناء هو من باب " تحية بينهم ضرب وجيع " مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من سلطان وليس منه قطعاً.
(فاستجبتم لي) أي فسارعتم إلى إجابتي (فلا تلوموني) بما وقعتم فيه بسبب وعدى لكم بالباطل وإخلافي هذا الموعد فإن من صرح بالعداوة لا يلام بأمثال ذلك (ولوموا أنفسكم) باستجابتكم لي بمجرد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجه فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوي الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى ولمارنه قطع ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة وموعدى الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وهو الحق ودعوته لكم إلا دار السلام مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل ولا تلتبس إلا على مخذول.
وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله ولما في سنة رسوله ﷺ ويؤثرها على ما فيهما فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقم عليه حجة، ولا دل عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المقلدين لهم، المتنكبين عن طريق الحق بسوء اختيارهم، اللهم غفراً.
(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ) يقال صرخ فلان إذا استغاث يصرخ صراخاً وصرخاً واستصرخ بمعنى صرخ والمصرخ المغيث والمستصرخ
قال ابن الأعرابي: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث، ومعنى الآية ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي ولا منقذي مما أنا فيه وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب، محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه.
قال ابن عباس: المعنى ما أنا بنافعكم وما أنتم بنافعي، وقال الشعبي في هذه الآية: خطيبان يقومان يوم القيامة إبليس وعيسى؛ فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول القول المذكور في الآية، وأما عيسى فيقول (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) وقال قتادة: المعنى ما أنا بمعينكم. (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) قد ذهب جمهور المفسرين إلى أن ما مصدرية أي بإشراككم أياي مع الله في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر، كما يطاع الله في أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته، أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه وقيل موصولة على معنى إني كفرت بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم.
ولما كشف لهم القناع بأنه لا يغنى عنه من عذاب الله شيئاً ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الربوبية من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكاً.
أولا أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه، وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها.
ثم أوضح لهم ثانيا بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول، ولا يتفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره.
ثم أوضح لهم ثالثاً بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء.
ثم نعى عليهم رابعاً ما وقعوا فيه ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل.
ثم أوضح لهم خامساً بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة.
ثم صرح لهم سادساً بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب.
وإذا كان جملة (إن الظالمين لهم عذاب أليم) من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به. فأثبت لهم الظلم ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم لا على قول من قال إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه وتعالى.
ولما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة فقال
(تحيتهم فيها) أي تحية الملائكة في الجنة (سلام) بإذن ربهم، وقد تقدم تفسير هذا في سورة يونس.
ولما ذكر سبحانه مثل أعمال الكفار وأنها كرماد اشتدت به الريح، ثم ذكر نعيم المؤمنين وما جازاهم الله به من إدخالهم الجنة خالدين فيها وتحية الملائكة لهم، ذكر تعالى هاهنا مثلا للكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام أي لا إله إلا الله أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الخير، وذكر مثلاً للكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الشر، فقال مخاطباً لرسوله ﷺ أو لمن يصلح للخطاب:
ثم وصف الشجرة بقوله (أصلها ثابت) أي راسخ آمن من الانقلاع بسبب تمكنها من الأرض بعروقها (وفرعها في السماء) أي في أعلاها ذاهب إلى جهة السماء مرتفع في الهواء. ثم وصفها سبحانه بأنها
وأخرج أحمد وابن مردويه، قال السيوطي بسند جيد عن عمر عن النبي ﷺ قال " هي التي لا تنقص ورقها النخلة ".
وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لأصحابه " أي شجرة من الشجر لا يطرح ورقها مثل المؤمن؟ قال فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت حتى قال رسول الله ﷺ هي النخلة " (١) وفي لفظ للبخاري " أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها وتؤتى أكلها كل حين " فذكر نحوه (٢).
وفي لفظ لابن جرير وابن مردويه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " هل تدرون ما الشجرة الطيبة ثم قال هي النخلة " وروى نحو هذا جماعة من الصحابة والتابعين، وقيل غيرها؛
_________
(١) مسلم ٢٨١١ - البخاري ٥٤.
(٢) البخاري كتاب الأدب باب ٨٩.
وقيل المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين، وقيل كل غدوة وعشية، وقيل الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة، وقيل كل شهر، وقيل كل ستة أشهر قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والحسن يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها، وقال علي بن أبي طالب ثمانية أشهر، وقيل أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكهما، وقال سعيد بن المسيب شهران.
قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلا من شذّ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره. وقد ورد الحين في بعض المواضع يراد به أكثر كقوله (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) وقد تقدم بيان أقوال العلماء في الحين في سورة البقرة. وقال الزجاج: الحين الوقت طال أم قصر.
عن ابن عباس في قوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين) قال يكون أخضر ثم يكون أصفر، وعنه قال كل حين جداد النخل، وقد روي عن جماعة من السلف في هذا أقوال كثيرة.
ووجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق أن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل ثابت وفرع نابت، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان والأركان وقيل غير ذلك؛ وعن ابن عباس: الكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله والشجرة الطيبة المؤمن، وأصلها الثابت قول لا إله إلا الله ثابت في القلب وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) أحوال المبدأ والمعاد
وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته، وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني وتقريب لها من الحس ومواعظ لمن تذكر واتعظ.
(اجتثت) أي استؤصلت واقتلعت وقطعت من أصلها، قال المؤرج أخذت جثتها وهي نفسها وذاتها والجثة شخص الإنسان قاعداً ونائماً يقال جثه قلعه واجتثه اقتلعه كأنها اجتثت وكأنها غير ثابتة بالكلية وكأنها ملقاة على وجه الأرض ومعنى (من فوق الأرض) أنه ليس لها أصل راسخ وعروق متمكنة من الأرض.
(ما لها) أي لهذه الشجرة (من قرار) أي من استقرار، وقيل من ثبات لأنها ليس لها أصل ثابت تغوص في الأرض بل عروقها في وجهها ولا فرع لها صاعد إلى السماء بل ورقها يمتد على الأرض كشجرة البطيخ وثمرها رديء كما أن الكافر وكلمته لا حجة له ولا ثبات فيه ولا خير يأتي منه أصلاً. ولا يصعد
قال ابن عباس: الكلمة الخبيثة الشرك والشجرة الخبيثة الكافر يعني الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملاً، وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
(وفي الآخرة) أي في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب، قاله الجمهور وقيل يوم القيامة عند البعث والحساب، وقيل المراد بالحياة الدنيا وقت المسألة في القبر وفي الآخرة وقت المسألة يوم القيامة والمراد أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم (٢) ولا تردد ولا جهل، كما يقول من لم يوفق لا أدري فيقال له لا دريت ولا تليت.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب أن رسول الله ﷺ قال " المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " فذلك قوله (يثبت الله الذين آمنوا) الآية (٣)، وعن البراء قال " إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا من ربك فقال ربي الله، وقالا وما دينك قال ديني الإسلام، وقالا من نبيك قال نبي محمد صلى
_________
(١) النسائي كتاب الجنائز باب ١١٤.
(٢) التلعثم، التوقف أهـ، قاموس أهـ منه.
(٣) مسلم ٢٨٧١ - البخاري ٧٢٥.
وأخرج البزار عنها أيضا قالت: قلت يا رسول الله تبتلى هذه الأمة في قبورها فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟ قال (يثبت الله الذين آمنوا) الآية.
وعن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " (٢) أخرجه أبو داود، وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره وفي جوابه عليهم وفي عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضع بسطها وهي معروفة، نسأل الله التثبيت في القبر وحسن الجواب وتسهيله بفضله إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
(ويضل الله الظالمين) راجع للمثل الثاني، أي يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم في قبورهم ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا، قيل والمراد بالظالمين هنا الكفرة، وقيل كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة فإنه لا يثبت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق.
(ويفعل الله ما يشاء) من التثبيت للمؤمنين والخذلان للظالمين لا راد لحكمه ولا اعتراض عليه. قال الفراء: أي لا تنكر له قدرة ولا يسأل عما يفعل والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة.
_________
(١) أبو داود كتاب السنة باب ٢٤ - الترمذي تفسير سورة ١٤.
(٢) أبو داود كتاب الجنائز الباب ٦٩.
فالتبديل على الأول تغيير في الوصف والنعمة باقية لكنها موصوفة بالكفران وعلى الثاني تغيير في الذات والنعمة زائلة مبدلة بالكفر، فإنهم لما كفروها سلبت عنهم، فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها، ولفظ ابن عباس هم كفار أهل مكة، أخرجه البخاري والنسائي وبه قال جمهور المفسرين.
قيل نزلت في الذين قاتلوا رسول الله ﷺ يوم بدر، قال عليّ: هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر، أخرجه النسائي. وقد روى عنه في تفسير هذه الآية من طرق نحو هذا، وعن عمر بن الخطاب قال: هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، وعن عليّ نحوه أيضاً، وعن ابن عباس قال: هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، أخرجه ابن أبي حاتم وفيه نظر فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلا في خلافة عمر بن الخطاب؛ وقيل أنها عامة في جميع المشركين.
(وأحلوا) أي أنزلوا (قومهم) بسبب ما زينوه لهم من الكفر (دار البوار) وهي جهنم قيل هم قادة قريش أحلوهم يوم بدر دار الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به والأول أولى لقوله.
وحسن استعمال لام العاقبة هنا لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز، وقرئ بضم الياء أي ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أنداداً والقراءتان سبعيَّتان، ثم هددهم سبحانه فقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (قل تمتعوا) في الدنيا بما أنتم فيه من الشهوات وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس أياماً قلائل.
وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به (فإن مصيركم) أي مردكم ومرجعكم في الآخرة (إلى النار).
ولما كان هذا حالهم وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وإنهماكهم فيه لا يقلعون عنه ولا يقبلون فيه نصح الناصحين، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي عن قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بد لهم من تعاطي الأسباب المقتضية لذلك، فجملة فإن مصيركم إلى النار تعليل للأمر بالتمتع وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره، أو المعنى فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار والأول أولى والنظم القرآني عليه أدل كما يقال لمن سعى في مخالفة السلطان اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف.
(الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم) لما أمره بأن يقول للمبدلين نعمة الله كفراً الجاعلين له أنداداً ما قاله لهم، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم وهي طائفة المؤمنين هذا القول، والمقول محذوف دل عليه المذكور، أي قل لهم أقيموا الصلاة الواجبة، وإقامتها إتمام أركانها، وأنفقوا أي أخرجوا الزكاة المفروضة، وقيل أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر، والحمل على العموم أولى ويدخل فيه الزكاة دخولاً أولياً.
(سراً وعلانية) قال الفراء: أي مسرين ومعلنين أو إنفاق سر وعلانية أو وقت سر وعلانية فالانتصاب على الحال أو المصدر أو الظرف. قال الجمهور السر ما خفي والعلانية ما ظهر، وقيل السر التطوع والعلانية الفرض، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله (إن تبدو الصدقات فنعما هي).
(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) قال أبو عبيدة: البيع
وقال أبو علي الفارسي: جمع خلة مثل قلة وقلال وبرمة وبرام وعلبة وعلاب، والمعنى أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخالة حتى يشفع الخليل لخليله وينقذه من العذاب.
فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله سبحانه ما داموا في الحياة الدنيا، قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، وممكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة، وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء.
قيل هذه الآية الدالة على نفي الخلة محمولة على نفيها بسبب ميل الطبيعة وشهوة النفس، والآية الدالة على حصول الخلة وثبوتها كقوله سبحانه في الزخرف (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة الله، ألا تراه أثبتها للمتقين فقط ونفاها عن غيرهم.
وقيل أن ليوم القيامة أحوالاً مختلفة؛ ففي بعضها يشتغل كل خليل عن خليله وفي بعضها يتعاطف الأخلاء بعضهم على بعض إذا كانت تلك المخالة لله تعالى في محبته، وقد تقدم تفسير البيع والخلال.
(فأخرج به) أي بذلك الماء (من الثمرات) المتنوعة (رزقاً لكم) أي لبني آدم يعيشون به، ومن للبيان كقولك انفقت من الدراهم وقيل للتبعيض لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم ومنها ما هو ليس برزق لهم وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر وقد يقع على الزرع أيضاً كقوله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) وقيل المراد به ما يشمل المطعوم والملبوس.
(وسخر لكم الفلك) أي السفن الجارية على الماء فجرت على إرادتكم لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات وغيرها من بلد إلى بلد آخر، فاستعملتموها في مصالحكم، ولذا قال (لتجري في البحر) كما تريدون على ما تطلبون بالركوب والحمل ونحو ذلك (بأمره) أي بأمر الله ومشيئته وإذنه، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة.
(وسخر لكم الأنهار) بكل فائدة قاله مجاهد: أي ذللها لكم بالركوب عليها والإجراء لها إلى حيث تريدون، وهو من أعظم نعم الله على عباده.
ومعنى دائبين يجريان دائما في إصلاح ما يصلحانه من النبات والحيوان
قال ابن عباس: دؤبهما في طاعة الله، والمعنى يجريان إلى يوم القيامة ولا يفتران ولا ينقطع سيرهما في فلكهما، وهو السماء الرابعة للشمس، وسماء الدنيا للقمر إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها (وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم، والليل لتسكنوا فيه كما قال سبحانه (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) ولم يقتصر على النعم المتقدمة بل.
قال عكرمة: أي من كل شيء رغبتم إليه فيه، وعن مجاهد مثله، وعن الحسن من كل الذي سألتموه، وقرئ (من كل) بتنوين، وعلى هذا ما نافية حرفية، أي آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له، أو مصدرية أو موصولة اسمية.
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أي وإن تتعرضوا لتعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم إجمالاً فضلاً عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال.
وفي السمين: النعمة هنا بمعنى النعم به، وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها.
قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره وكلفهم الشكر على قدرهم وعن بكر بن عبد الله المزني قال: يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك.
وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه، وعن أبي أيوب القرشي قال: قال داود عليه السلام: رب أخبرني ما أدنى نعمتك عليَّ؟ فأوحى إليه يا داود فتنفس فتنفس، فقال هذا أدنى نعمتي عليك.
(إن الإنسان لظلوم) لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وقيل الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه، وظاهره شمول كل إنسان، وقال الزجاج: أن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة، كما قال إن الإنسان لفي خسر، وقيل يريد أبا جهل والأول أولى.
(كفار) أي شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها غير شاكر لله سبحانه عليها كما ينبغي ويجب عليه. عن عمر بن الخطاب قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر، قال إن الإنسان لظلوم كفار، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.
(رب اجعل هذا البلد) أي مكة (آمناً) أي ذا أمن إلى قرب القيامة وخراب الدنيا، وقدَّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدنيا والدين، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمنا) والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هاهنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن.
وفي الجمل فسر الشارح البلد هنا بمكة، وفي سورة البقرة بالمكان فيقتضي أن هذا الدعاء وقع مرتين مرة قبل بنائها ومرة بعده، ولذلك كتب
وقال الزمخشري: سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا انتهى.
قلت والمعاني متقاربة والمراد من الدعاء جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على تخريبها وأن أغار جماعة من الجبابرة عليها وأخافوا أهلها، وقيل هو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين من الحبشة على ما في الصحيحين فلا تعارض بين النصين.
أو المراد جعل أهل هذا البلد آمنين، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين وغيرهم، وهذا الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها إلى الآن قال السيوطي: وقد أجاب الله دعاءه فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه.
(واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) يقال جنبته كذا وأجنبته أي باعدته عنه ثلاثياً ورباعياً وهي لغة نجد، وجنبه إياه مشدداً وهي لغة الحجاز وهو المنع وأصله من الجانب كأنه سأله أن يبعده عن جانب الشرك بألطاف منه وأسباب خفية والمعنى باعدني وباعد بني عن عبادة الأصنام قيل أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية، وقيل أراد من كان موجوداً حال دعوته من بنيه وبني بنيه، وقيل أراد جميع ذريته ما تناسلوا.
قيل ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنماً، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها
وقيل هذا مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله في آخر الآية فمن تبعني فإنه مني وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، وعن مجاهد قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته، واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ويقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه، قيل هو دعاء لنفسه في مقام الخوف أو قصد به الجمع بينه وبين بنيه ليستجاب لهم ببركته والمراد طلب الثبات والدوام على ذلك.
(ثم قال: (فمن تبعني) أي من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً (فإنه مني) أي من أهل ديني جعل أهل ملته كنفسه مبالغة.
(ومن عصاني) فلم يتابعني ولم يدخل في ملتي (فإنك غفور رحيم) قادر على أن تغفر له قيل قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك قاله ابن الأنباري، قيل المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك قاله مقاتل، وقيل أن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك، قاله السدي، وقيل تغفر له بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب والأول أولى:
ثم قال
وسمي محرماً لأن الله حرَّم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه، وقيل أنه محرَّم على الجبابرة، وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة.
أخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه قال كانت سارة تحت إبراهيم فمكثت تحته دهراً لا ترزق منا ولداً فلما رأت ذلك وهبت له هاجر، أَمَة لها قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها وعتبت على هاجر فحلفت أن يقطع منها ثلاثة أطراف فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبري يمينك قالت: كيف أصنع قال: اثقبي أذنيها واخفضيها والخفض هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً فقالت سارة: أراني إنما زدتها جمالاً فلم تضارُّه على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها.
ثم قال (ربنا ليقيموا الصلاة) اللام لام كي أي ما أسكنتهم بهذا الوادي الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة فيه متوجهين إليه متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعل تكرير النداء
(فاجعل أفئدة) الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب عبر به عن جميع البدن لأنه أشرف عضو فيه، وقيل هو جمع وفد والأصل أوفده فكأنه قال واجعل وفوداً (من الناس تهوي إليهم) من للتبعيض، وقيل زائدة ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى لدخولهم تحت لفظ الناس، لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى الحج، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه، وقيل من للابتداء كقوله القلب مني سقيم تريد قلبي، ومعنى تهوي إليهم تنزع إليهم؛ وقيل تسرع وتميل وتحن إليهم لزيارة بيتك لا لذواتهم وأعيانهم.
وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم، يقال هوى نحوه إذا مال وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى تجيء إليهم أو تسرع إليهم وقيل تحن وتطير وتشتاق إليهم، وأصله أن يتعدى باللام وإنما تعدى بإلى لأنه ضمن معنى تميل.
قال السدي: أي أمل قلوبهم إلى هذا الموضع، وقيل تريدهم، قاله الفراء وقيل تنحط إليهم وتنحدر وتنزل، وهذا قول أهل اللغة والمعاني
_________
(١) بفتح الثاء أي هناك.
(وارزقهم) أي ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو إياهم ومن يساكنهم من الناس (من) أنواع (الثمرات) التي تنبت فيه كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكون المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار أو المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة لقوله تعالى (تجبى إليه ثمرات كل شيء) وهذا أولى (لعلهم يشكرون) نعمتك التي أنعمت بها عليهم.
قال محمد بن مسلم: إن إبراهيم لما دعا للمحرم نقل الله الطائف من فلسطين، وعن الزهري قال:
إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم، وأما إجابة قوله فاجعل أفئدة | الخ فقد حصلت بجرهم، وقد استمر قصد الحجاج والعمار لهذا البيت كل عام إلى آخر الزمان. |