بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجهذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله ' هذان خصمان١ ' إلى تمام ثلاث آيات. قاله ابن عباس ومجاهد وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله ' عذاب الحريق ' وقال الضحاك هي مدنية وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله ' وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته٢ ' إلى قوله ' عذاب يوم عقيم ' فهن مكيات وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك٣ وروي عن أنس بن مالك أنه قال نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه فقال أتدرون أي يوم هذا فبهتوا فقال يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فاغتم الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل الحديث. ٤
٢ من الآية (٥٢) من هذه السورة (الحج)..
٣ لأن فيها ﴿يا أيها الناس﴾ وهو مكي، و ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وهو مدني، قال الغرنوي: "هي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، وسفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، ناسخا ومنسوخا، محكما ومتشابها، مختلف العدد"..
٤ أخرجه عبد بن حميد، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أنس رضي الله عنه، وأخرج نحوه سعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن الحسن وغيره، عن عمران ابن حصين. وكذلك أخرج نحوهما البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وحديث (بعث النار) أخرجه أيضا البخاري عن أبي سعيد الخدري في تفسير هذه السورة (الحج)، وفي الأنبياء، وفي الرقاق، وفي التوحيد، وأخرجه مسلم في الإيمان، وفي الفتن..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحجهذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله هذانِ خَصْمانِ [الحج: ١٩] إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس ومجاهد، وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج: ٩]، وقال الضحاك هي مدينة، وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: ٢٥] إلى قوله عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج: ٥٥] فهن مكيات، وعدّ النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات، وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك. وروي عن أنس بن مالك أنه قال: نزل أول السورة في السفر على رسول الله ﷺ فنادى بها فاجتمع الناس إليه، فقال «أتدرون أي يوم هذا؟» فبهتوا، فقال: «يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» قال: فاغتم الناس فقال رسول الله ﷺ «أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل» الحديث.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)صدر الآية تحذير لجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر زَلْزَلَةَ القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئا» إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا.
وهي معدومة إذ اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي إذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها إذا كانت فهي حينئذ شيء عظيم، والزلزلة التحريك العنيف وذلك مع نفخة الفزع ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر: [الخفيف]
يعرف الجاهل المضلل أن | الدهر فيه النكراء والزلزال |
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا | وأرى ثيابك باليات همدا |
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦ الى ١٠]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى كون ما تقدم ذكر ف ذلِكَ ابتداء، وخبره بِأَنَّ أي هو بِأَنَّ اللَّهَ تعالى «حق» محيي قادر وقوله وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ليس بسبب لما ذكر لكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض أو على تقدير: والأمر أن الساعة، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ الآية، الإشارة بقوله وَمِنَ النَّاسِ إلى القوم المتقدم ذكرهم، وحكى النقاش عن محمد بن كعب أنه قال نزلت الآية في الأخنس بن شريق وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول فهذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان وَمِنَ النَّاسِ مع ذلك مَنْ يُجادِلُ فكأن الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي هاهنا مكررة للتوبيخ، وثانِيَ حال من ضمير في يُجادِلُ ولا يجوز أن تكون من مِنَ لأنها ابتداء والابتداء إنما عمله الرفع لا النصب وإضافة ثانِيَ غير معتد بها لأنها في معنى الانفصال إذ تقديرها ثانيا عطفه، وقوله ثانِيَ عِطْفِهِ عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره، ع: وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عما يتكبر عنه فهو يرد وجهه يصعر خده ويولي صفحته ويلوي عنقه ويثني عطفه وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف الجانب وقرأ الحسن «عطفه» بفتح العين والعطف السيف لأن صاحبه يتعطفه أي يصله بجنبه، وقرأ الجمهور «ليضل» بضم الياء، وقرأ مجاهد وأهل مكة بفتح الياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، و «الخزي» الذي توعد به النضر بن الحارث في أسره يوم بدر وقتله بالصفراء، و «الحريق» طبقة من طبقات جهنم، وقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ بمعنى يقال له ونسب التقديم إلى اليدين إذ هما آلتا الاكتساب واختلف في الوقف على قوله يَداكَ فقيل لا يجوز لأن التقدير: وبأن الله أي وَأَنَّ اللَّهَ هو العدل فيك بجرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله تعالى لَيْسَ بِظَلَّامٍ و «العبيد» هنا ذكروا في معنى مكسنتهم وقلة قدرتهم فلذلك جاءت هذه الصيغة.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
الاختبار، وقوله تعالى: انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ عبارة للمولي عن الأمور وخسارته الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، أما الدُّنْيا فبالمقادير التي جرت عليه، وأما الْآخِرَةَ فبارتداده وسوء معتقده، وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «خاسرا الدنيا والآخرة» نصبا على الحال، وقوله تعالى: ما لا يَضُرُّهُ يريد الأوثان، ومعنى يَدْعُوا يعبد، ويدعو أيضا في ملماته، واختلف الناس في قوله تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ فقالت فرقة من الكوفيين اللام مقدمة على موضعها وإنما التقدير «يدعو من لضره»، ويؤيد هذا التأويل أن عبد الله بن مسعود قرأ «يدعو من ضره»، وقال الأخفش يَدْعُوا يمعنى يقول، و «من» مبتدأ وضَرُّهُ مبتدأ، وأَقْرَبُ خبره، والجملة صلة، وخبر مِنْ محذوف والتقدير يقول لمن ضره أقرب منه نفعه إله وشبه هذا، يقول عنترة: «يدعون عنتر والرماح كأنها» ع وهذا القول فيه نظر فتأمل إفساده للمعنى إذ لم يعتقد الكافر قط أن ضر الأوثان أقرب من نفعها واعتذار أبي علي هنا مموه، وأيضا فهو لا يشبه البيت الذي استشهد به، وقيل المعنى في يَدْعُوا يسمى، وهذا كالقول الذي قبله، إلا أن المحذوف آخرا مفعول تقديره إلها، وقال الزجاج يجوز أن يكون يَدْعُوا في موضع الحال وفيه هاء محذوفة والتقدير ذلك هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد يدعو أو يدعوه، فيوقف على هذا، قال أبو علي ويحسن أن يكون ذلك بمعنى الذي، أي الذي هو الضلال البعيد يَدْعُوا فيكون قوله ذلك موصولا بقوله ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ويكون يَدْعُوا عاملا في قوله ذلِكَ ع كون ذلِكَ بمعنى الذي غير سهل وشبهه المهدوي بقوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: ١٧] وقد يظهر في الآية أن يكون قوله يَدْعُوا متصلا بما قبله، ويكون فيه معنى التوبيخ كأنه قال يَدْعُوا من لا يضر ولا ينفع. ثم كرر يَدْعُوا على جهة التوبيخ غير معدى إذ عدي أول الكلام ثم ابتدأ الإخبار بقوله لَمَنْ ضَرُّهُ واللام مؤذنة بمجيء القسم والثانية التي في لَبِئْسَ لام القسم وإن كان أبو علي مال إلى أنها لام الابتداء والثانية لام اليمين، ويظهر أيضا في الآية أن يكون المراد يدعو من ضره ثم علق الفعل باللام وصح أن يقدر هذا الفعل من الأفعال التي تعلق وهي أفعال النفس كظننت وخشيت، وأشار أبو علي إلى هذا ورد عليه، والْعَشِيرُ القريب المعاشر في الأمور، وذهب الطبري إلى أن المراد بالمولى والعشير هو الإنسان الذي يعبد الله على حرف ويدعو الأصنام، والظاهر أن المراد ب الْمَوْلى والْعَشِيرُ هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد والله أعلم.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٤ الى ١٧]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
لما ذكر تبارك وتعالى حالة من يعبده عَلى حَرْفٍ [الحج: ١١] وسفه رأيهم وتوعدهم بخسارة الآخرة عقب ذلك بذكر مخالفيهم من أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به من إدخاله إياهم الجنة، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين وإسلامهم إلى رأيهم وإحالتهم على ما فيه عنتهم وليس فيه راحتهم كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا أن الله تبارك وتعالى لن ينصر محمدا وأتباعه ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ وليختنق ولينظر هل يذهب بذلك غيظه، قال هذا المعنى قتادة وهذا على جهة المثل السائر قولهم دونك الحبل فاختنق، يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه، و «السبب» الحبل، و «النصر» معروف، إلا أن أبا عبيدة ذهب به إلى معنى الرزق كما قالوا أرض منصورة أي ممطورة وكما قال الشاعر: [الطويل]
وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه | ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره |
قال القاضي أبو محمد: و «القطع» على هذا التأويل ليس بالاختناق بل هو جزم السبب، وفي مصحف ابن مسعود «ثم ليقطعه» بهاء، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق، وقال الخليل: وقطع الرجل إذا اختنق بحبل أو نحوه ثم ذكر الآية، وتحتمل الآية معنى آخر وهو أن يراد به الكفار وكل من يغتاظ بأن ينصره الله ويطمع أن لا ينصر قيل له من ظن أن هذا لا ينصر فليمت كمدا هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيظا وكمدا ويؤيد هذا أن الطبري والنقاش قالا: ويقال نزلت في نفر من بني أسد وغطفان قالوا نخاف أن ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع، والمعنى الأول الذي قيل فيه للعابدين عَلى حَرْفٍ [الحج: ١١] ليس بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن أن محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله، وقال مجاهد: الضمير في
إن الخليفة إن الله سربله | سربال ملك به ترجى الخواتيم |
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)أَلَمْ تَرَ تنبيه من رؤية القلب، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف مَنْ فِي السَّماواتِ الملائكة، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من عبد من البشر، وَالشَّمْسُ كانت تعبدها حمير وهم قوم بلقيس، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس، وكانت تميم تعبد الدبران، وكانت لخم تعبد المشتري، وكانت طيّىء تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعرى، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت ربيعة تعبد المرزم، وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ منها النار وأصنام الحجارة والخشب، وَالدَّوَابُّ فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه، و «السجود» في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر كما قال الشاعر «ترى الأكم فيه سجدا للحوافر». وهذا مما يتعذر فيه السجود المتعارف، وقال مجاهد: سجود هذه الأشياء هو بظلالها، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها. ع: وهذا وهم وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة، وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم، أي وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ يسجد، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ونحو ذلك، قاله مجاهد، وقال: سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء مقطوعا مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرم» بكسر الراء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل، وقرأ الجمهور «والدوابّ» مشددة الباء، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة: [البسيط]
كأن إبريقهم ظبي على شرف | مفدم بسبا الكتان ملثوم |
حتى إذا ما لم أجد غير الشر | كنت امرأ من مالك بن جعفر |
العبارة قلقة، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر «تصهره الشمس ولا ينصهر» وإنما يشبه فيمن قال يعصر.
أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته، وقد روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه، ثم يعاد كما كان، وقرأ الجمهور «يصهر» وقرأت فرقة «يصهّر» بفتح الضاد وشد الهاء، و «المقمعة» بكسر الميم مقرعة من حديد يقمع بها المضروب، وقوله:
أَرادُوا روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فيضربون ب «المقامع» وتردهم الزبانية و «من» في قوله مِنْها الابتداء الغاية، وفي قوله مِنْ غَمٍّ يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية أيضا وهي بدل من الأولى. وقوله: وَذُوقُوا هنا محذوف تقديره ويقال لهم: ذُوقُوا والْحَرِيقِ فعيل بمعنى مفعل أي محرق، وقرأ الجمهور «هذان» بتخفيض النون، وقرأ ابن كثير وحده «هذانّ» بتشديد النون، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب في المبهمات، كاللذان، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى، وقال: ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، قال ابن سابط: وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وقال جمهور من الأمة منهم مالك: ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد، وعلى هذا هو العمل اليوم، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة كما روي عن مالك والأوزاعي، أو صلح كما روي عن الشافعي، فمن رآها صلحا فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحدا وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر قول النبي ﷺ «وهل ترك لنا عقيل منزلا»، يقتضي أن لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية دارا للسجن بأربعة آلاف، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح، وقوله تعالى: بِإِلْحادٍ قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر:
بواد يمان ينبت الشت صدره | وأسفله بالمرخ والشبهان |
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ الناس بِإِلْحادٍ و «الإلحاد» الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس: «الإلحاد» في هذه الآية الشرك، وقال أيضا: هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد: هو العمل السيّء فيه، وقال عبد الله بن عمرو: قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة «ومن يرد» من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، ومَنْ شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على الَّذِينَ والله المستعان.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)المعنى واذكر إِذْ بَوَّأْنا، و «بوأ» هي تعدية باء بالتضعيف، و «باء» معناه رجع فكأن المبوّئ يرد المبوأ إلى المكان، واستعملت اللفظة بمعنى سكن، ومنه قوله تعالى: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤] وقال الشاعر:
كم من أخ لي صالح... بوأته بيديّ لحدا
واللام في قوله تعالى: لِإِبْراهِيمَ قالت فرقة هي زائدة، وقالت فرقة بَوَّأْنا نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب بَوَّأْنا محذوفا تقديره الناس أو العالمين، ثم قال لِإِبْراهِيمَ بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا، والْبَيْتِ هو الكعبة، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبدا لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشف له عن أساس آدم، فرفع قواعده عليه. وقوله أَنْ لا تُشْرِكْ هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك، وقرأ عكرمة «ألا يشرك» بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له، قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون «أن» في قراءة الجمهور مفسرة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد، وأنتم لم تفوا بل أشركتم، وقالت فرقة: الخطاب من قوله أَنْ لا تُشْرِكْ لمحمد ﷺ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك لإبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك، و «القائمون»، هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة: أعظمها. وهي القيام والركوع والسجود، وقرأ جمهور الناس «وأذّن» بشد الذال، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن «وآذن» بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنها «وأذن» فعل ماض وأعرب عن ذلك بأن جعله عطفا على بَوَّأْنا، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني؟ فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى: أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير، وقرأ جمهور الناس «بالحج» بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها، ورِجالًا، جمع راجل كتاجر وتجار، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز وجعفر بن محمد «رجّالا» بضم الراء وشد الجيم، ككاتب وكتاب، وقرأ عكرمة أيضا وابن أبي إسحاق «رجالا» بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية
ومنه قول الأعشى:
عهدي بها في الحي قد ذرعت | هيفاء مثل المهرة الضامر |
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة | يمد بها في السير أشعث شاحب |
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى: لْيَقْضُوا وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا» وتسكين الاثنين وقد تقدم في قوله: فَلْيَمْدُدْ [الحج: ١٥، مريم: ٧٥] بسبب توجيه جميع ذلك، و «التفث» ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوفّوا» بفتح الواو وشد الفاء، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى، وأوفى أكثر. و «النذور» ما معهم من هدي وغيره، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك، قال مالك: هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوداع إذ المستحسن أن يكون ولا بد، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فقال: هو طواف الوداع، وقال مالك في الموطأ واختلف المتألون في وجه صفة البيت ب الْعَتِيقِ، فقال مجاهد والحسن الْعَتِيقِ القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء، قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال: سمي عتيقا لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن النبي ﷺ ولا نظر مع الحديث، وقالت فرقة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط، وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا يرده التصريف، وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن جبير، ويحتمل أن يكون الْعَتِيقِ صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال
هذا وليس كمن يعطي بخطته | وسط الندى إذا ما قائل نطقا |
«من السماء تخطفه» بغير فاء وعلى نحو قراءة الجماعة وعطف المستقبل على الماضي لأنه بتقدير فهو تخطفه الطير، وقرأ أبو جعفر، «الرياح»، و «السحيق» البعيد ومنه قولهم أسحقه الله ومنه قوله عليه السلام «فسحقا فسحقا» ومنه نخلة سحوق للبعيدة في السماء.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
التقدير في هذا الموضع الأمر ذلك، و «الشعائر» جمع شعيرة وهي كل شيء لله تعالى، فيه أمر أشعر به وأعلم، قالت فرقة: قصد ب «الشعائر» في هذه الآية الهدي والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها تسميتها والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة، وعود الضمير في «إنها» على التعظمة والفعلة التي يتضمنها الكلام، وقرأ «القلوب» بالرفع على أنها فاعلة بالمصدر الذي هو تَقْوَى، ثم اختلف المتألون في قوله لَكُمْ فِيها مَنافِعُ الآية، فقال مجاهد وقتادة: أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هديا فإذا بعثها فهو «الأجل المسمى»، وقال عطاء بن أبي رباح: أراد في الهدي المبعوث منافع من الركوب والاحتلاب لمن اضطر، و «الأجل» نحرها وتكون ثُمَّ لترتيب الجمل، لأن المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند هاتين الفرقتين ثُمَّ مَحِلُّها إلى موضع النحر فذكر الْبَيْتِ لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره، وقال ابن زيد وابن عمر والحسن ومالك:
«الشعائر» في هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك، وفي الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر، و «المنافع» التجارة وطلب الرزق، ويحتمل أن يريد كسب الأجر والمغفرة، وبكل احتمال قالت فرقة و «الأجل» الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله، مَحِلُّها مأخوذ من إحلال المحرم ومعناه ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة ب الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ف الْبَيْتِ على هذا التأويل مراد بنفسه، قاله مالك في الموطأ، ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة مَنْسَكاً أي موضع نسك وعبادة وهذا على أن المنسك ظرف كالمذبح ونحوه، ويحتمل أن يريد به المصدر، كأنه قال عبادة ونحو هذا، والناسك العابد، وقال مجاهد: سنة في هراقة دماء الذبائح، وقرأ معظم القراء «منسكا» بفتح السين وهو من نسك ينسك بضم السين في المستقبل، وقرأ حمزة والكسائي «منسكا» بكسر السين قال أبو علي: الفتح أولى لأنه إما المصدر وإما المكان وكلاهما مفتوح والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون مفعل من فعل يفعل مثل مسجد من سجد يسجد، ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب. وقوله لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك، ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه فالإله واحد لجميعكم بالأمر كذلك في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له، وأَسْلِمُوا معناه لحقه ولوجهه ولإنعامه آمنوا وأسلموا، ويحتمل أن يريد الاستسلام ثم أمر تعالى نبيه ﷺ أن يبشر بشارة على الإطلاق وهي أبلغ من المفسرة لأنها مرسلة مع نهاية التخيل،
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين، وقال مجاهد: هم المطمئنون بأمر الله، ووصفهم تعالى بالخوف والوجل عند ذكر الله، وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، وقرأ الجمهور «الصلاة» بالخفض، وقرأ ابن أبي إسحاق «الصلاة» بالنصب على توهم النون وأن حذفها للتخفيف، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الأعمش «والمقيمين الصلاة» بالنون والنصب في «الصلاة»، وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة»، وروي أن هذه الآية، قوله وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
البدن جمع بدنة وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن، وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل، وقالت فرقة الْبُدْنَ جمع بدن بفتح الدال والباء ثم اختلفت، فقال بعضها الْبُدْنَ مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر، ويقال للمسلمين من الرجال بدن، وقال بعضها الْبُدْنَ جمع بدنة كثمرة وثمر، وقرأ الجمهور «والبدن» ساكنة الدال، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق «البدن» بضم الدال، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه الْبُدْنَ، وقد تقدم القول في «الشعائر»، و «الخير» قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة، وقوله، عَلَيْها يريد عند نحرها، وقرأ جمهور الناس «صوافّ» بفتح الفاء وشدها جمع صافّة أي مصطفة في قيامها، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك، وقرأ الحسن أيضا «صواف» بكسر الفاء وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لكن حدفت الياء تخفيفا على غير قياس وفي هذا نظر، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي «صوافن» بالنون جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، والصافن من الخيل الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجنيه ومنه قوله تعالى: الصَّافِناتُ الْجِيادُ [ص: ٣١].
وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه... مقلدة أعنتها صفونا
لمال المرء يصلحه فيغني | مفاقره أعف من القنوع |
لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا | لنمنعه بالضائع المتهضم |
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
قال القاضي أبو محمد: فحسن في الآية يُدافِعُ لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم، وحكى الزهراوي أن دفاعا مصدر دفع كحسبت حسابا، ثم أذن الله تعالى في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله أُذِنَ وصورة الإذن مختلفة بحسب القراءات فبعضها أقوى من بعض، فقرأ نافع وحفص عن عاصم «أذن» بضم الألف «يقاتلون» بفتح التاء، أي في أن يقاتلهم فالإذن في هذه القراءة ظاهر أنه في مجازات، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحسن والزهري «أذن» بفتح الألف «يقاتلون» بكسر التاء، فالإذن في هذه القراءة في ابتداء القتال، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «أذن» بفتح الألف «يقاتلون» بكسر التاء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف والتاء جميعا، وهي في مصحف ابن مسعود «أذن للذين يقاتلون في سبيل الله» بكسر التاء، وفي مصحف أبي «أذن» بضم الهمزة «للذين قاتلوا»، وكذلك قرأ طلحة والأعمش إلا أنهما فتحا همزة «أذن» وقوله بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا معناه كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريج: وهذه الآية أول ما نقض الموادعة، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة النبي ﷺ إلى المدينة، وقال أبو بكر الصديق لما سمعتها علمت أنه سيكون قتال، وقال مجاهد الآية في مؤمنين بمكة أرادوا الهجرة إلى المدينة فمنعوا وما بعد هذا في الآية يرد هذا القول لأن هؤلاء منعوا الخروج لا أخرجوا، ثم وعد تعالى بالنصر في قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ يريد كل من نبت به مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوا بإذايتهم طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة، ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض تقرير الذنب وإلزامه، وقوله إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ استثناء منقطع ليس من الأول هذا قول سيبويه ولا يجوز عنده فيه البدل وجوزه أبو إسحاق، والأول أصوب، وقوله وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الآية تقوية للأمر بالقتال وذكر الحجة بالمصلحة فيه وذكر أنه متقدم في الاسم وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال أذن في القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، ثم ما قيل بعد من مثل الدفاع تبع للجهاد، وقال مجاهد وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا، ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم وهذا كله فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق بما تقدم من الآية، وقالت فرقة
النصارى، وقرأ الجحدري والحجاج بن يوسف «وصلوب» بضم الصاد واللام وبالباء على أنه جمع صليب، وقرأ الضحاك والكلبي «وصلوث» بضم الصاد واللام وبالثاء منقوطة ثلاثا قالوا وهي مساجد اليهود، وقرأت فرقة «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأت فرقة «صلوات» بضم الصاد واللام حكاها ابن جني، وقرأت فرقة «صلوثا» بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء، وحكى ابن جني أن خارج باب الموصل بيوتا يدفن فيها النصارى يقال لها «صلوت»، وقرأ عكرمة ومجاهد «صلويثا» بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء قال القاضي: وذهب خصيف إلى أن هذه الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، و «الصوامع» للرهبان ع وقيل للصابئين، و «البيع» للنصارى، و «الصلوات» لليهود و «المساجد» للمسلمين والأظهر أنها قصد بها المبالغة بذكر المتعبدات وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بانصارى في عرف لغة العرب، ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر ولم يذكر في هذه المجوس ولا أهل الاشتراك لأن هؤلاء ليس لهم ما تجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع، وقوله يُذْكَرُ فِيهَا الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد الله تعالى بنصره نصرة دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقا إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤)
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
«كأين» هي كاف التشبيه دخلت على «أي» قاله سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ [آل عمران: ١٤٦]، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاما، وحكى الفراء «كأين مالك»، وقرأت فرقة «أهلكناها»، وقرأت فرقة «أهلكتها»، بالإفراد والمراد أهل القرية وظالِمَةٌ معناه بالكفر، وخاوِيَةٌ، معناه خالية ومنه خوى النجم إذا خلا من النور، ونحوه ساقطة عَلى عُرُوشِها، والعروش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي
شاده مرمرا وجلله كلسا | فللطير في ذراه وكور |
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
القرآن، أو كادوه بالتكذيب وسائر أقوالهم، وقرأت فرقة، «معاجزين»، ومعناه مغالبين كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعلة، وعبر بعض الناس في تفسير مُعاجِزِينَ بظانين أنهم يفلتون الله وهذا تفسير خارج عن اللفظة، وقرأت فرقة «معجّزين» بغير ألف وبشد الجيم ومعناه معجزين الناس أي جاعلوهم بالتثبيط عجزة عن الإيمان وقال أبو علي: «معجزين» ناسبين أصحاب النبي إلى العجز كما تقول فسّقت فلانا وزنيته إذا نسبته إلى ذلك، وقوله وَما أَرْسَلْنا الآية تسلية للنبي عليه السلام عن النازلة التي ألقى الشيطان فيها في أمنية النبي عليه السلام، وتَمَنَّى معناه المشهور أراد وأحب، وقالت فرقة هو معناها في الآية، والمراد أن الشيطان ألقى ألفاظه بسبب ما تمناه رسول الله ﷺ من مقاربة قومه وكونهم متبعين له قالوا: فلما تمنى رسول الله من ذلك ما لم يقضه الله وجد الشيطان السبيل، فحين قرأ رسول الله ﷺ النجم في مسجد مكة وقد حضر المسلمون والمشركون بلغ إلى قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٢٠] ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى قال الكفار هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد وفرحوا بذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف فإنه أخذ قبضة من تراب ثم رفعها إلى جبهته وقال يكفيني هذا، قال البخاري: هو أمية بن خلف، وقال بعض الناس: هو الوليد بن المغيرة، وقال بعض الناس: هو أبو أحيحة سعيد بن العاصي ثم اتصل بمهاجرة الحبشة أن أهل مكة اتبعوا محمدا ففرحوا بذلك وأقبل بعضهم فوجد ألقية الشيطان قد نسخت وأهل مكة قد ارتبكوا وافتتنوا، وقالت فرقة تَمَنَّى معناه تلا والأمنية التلاوة ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليلة | وآخرها لاقى حمام المقادر |
«أهلا بصائدة الغرانق» وقوله لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ الآية، اللام في قوله لِيَجْعَلَ متعلقة بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ و «الفتنة» الامتحان والاختبار، والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم، عامة الكفار، والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبي جهل والنضر وعقبة، و «الشقاق»، البعد عن الخير، والضلال والكون في شق الصلاح، وبَعِيدٍ، معناه أنه انتهى بهم وتعمق فرجعتهم منه غير مرجوة، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم أصحاب محمد رسول الله عليه السلام، والضمير في أَنَّهُ عائد على القرآن و «تخبت» معناه تتطامن وتخضع وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض، وقرأت فرقة «لهاد» بغير ياء بعد الدال، وقرأت فرقة: «لهادي» بياء، وقرأت فرقة «لهاد» بالتنوين وترك الإضافة وهذه الآية معادلة لقوله، قبل وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
أَلَمْ تَرَ تنبيه وبعده خبر أَنَّ اللَّهَ تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فظلت الْأَرْضُ تخضر عنه، وقوله فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ بمنزلة قوله فتضحي أو فتصير عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ورفع قوله فَتُصْبِحُ من حيث الآية خبر والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جوابا لقوله أَلَمْ تَرَ فاسد المعنى، وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة ومعنى هذا أنه أخذ قوله فَتُصْبِحُ مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر.
قال القاضي أبو محمد: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر بعد قحط وأصبحت تلك الأرض التي تسقيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق، وقرأ الجمهور «مخضرة»، و «اللطيف» المحكم للأمور برفق، واللام في لَهُ ما فِي السَّماواتِ لام الملك والمعنى الذي لا حاجة به إلى شيء هكذا هو على الإطلاق، وقوله سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يريد من الحيوان والمعادن وسائر المرافق، وقرأ الجمهور «والفلك» بالنصب، وذلك يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما أن يكون عطفا على ما بتقدير وسخر الفلك، والآخر أن يكون عطفا على المكتوبة بتقدير وإن الفلك وقوله، تَجْرِي على الإعراب الأول. في موضع الحال، وعلى الإعراب الثاني في موضع الخبر. وقرأت فرقة «والفلك» بالرفع فتجري خبر على هذه القراءة. قوله: بِإِذْنِهِ يحتمل أن يريد يوم القيامة كأن طيّ السماء ونقض هذه الهيئة كوقوعها، ويحتمل أن يريد بذلك الوعيد لهم في أنه إن أذن في سقوط لكسفها عليهم سقطت، ويحتمل أن
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
الإحياء والإماتة في هذه الآية ثلاث مراتب وسقط منها الموت الأول الذي نص عليه في غيرها إلا أنه بالمعنى في هذه، و «المنسك» المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة، وهو أيضا موضع النسك، وقرأت فرقة بفتح السين وفرقة بكسرها وقد تقدم القول فيه في هذه السورة وقوله هُمْ ناسِكُوهُ يعطي أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقيل هم ناسكون فيه، وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين تأكلون ما ذبحتم فهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله من الميتة فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة، وقوله فَلا يُنازِعُنَّكَ هذه البينة من الفعل والنهي تحتمل معنى التخويف، وتحتمل معنى احتقار الفاعل وأنه أقل من أن يفاعل وهذا هو المعنى في هذه الآية، وقال أبو إسحاق: المعنى فلا تنازعهم فينازعوك ع وهذا التقدير الذي قدر إنما يحسن مع معنى التخويف، وإنما يحسن أن يقدر هنا فلا يد لهم بمنازعتك، فالنهي إنما يراد به معنى من غير اللفظ، كما يراد في قولهم لا أرينك هاهنا أي لا تكن هاهنا، وقرأت فرقة «فلا ينزعنّك»، وقوله فِي الْأَمْرِ معناه على التأويل أن المنسك الشرعة لا ينازعنك في الدين والكتاب ونحوه، وعلى أن المنسك موضع الذبح على ما روت الفرقة المذكورة من أن الآية نزلت في الذبائح يكون الأمر الذبح، و «الهدى» في هذه الآية الإرشاد، وقوله وَإِنْ جادَلُوكَ الآية موادعة محضة نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد.
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخبر بأن
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
الخطاب بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ قيل هو خطاب يعم العالم، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه خطاب يعم جميع الناس.
متى نظره أحد في عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل، ضُرِبَ، من هو فقالت فرقة: المعنى ضُرِبَ أهل الكفر مثلا لله أصنامهم وأوثانهم فاستمعوا أنتم أيها الناس لأمر هذه الآلهة، وقالت فرقة: ضُرِبَ الله مثلا لهذه الأصنام وهو كذا وكذا، فالمثال والمثل في القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى، والمثال في التأويل الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام، ومعنى ضُرِبَ أثبت وألزم وهذا كقوله ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران: ١١٢]،
قوله عز وجل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
روي أن هذه الآية إلى قوله الْأُمُورُ نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا الآية فأخبر اللَّهُ تعالى أنه يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء وغيرهم حسبما ورد في الأحاديث وَمِنَ النَّاسِ وهم الأنبياء المبعثون لإصلاح الخلق الذين اجتمعت لهم النبوءة والرسالة.
وقوله ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ عبارة عن إحاطة علمه بهم وحقيقتها ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم، والْأُمُورُ، جمع أمر ليس يراد به المصدر ثم أمر الله تعالى المؤمنين بعبادته وخص «الركوع والسجود» بالذكر تشريفا للصلاة، واختلف الناس هل في هذه الآية سجدة؟ ومذهب مالك أنه لا يسجد هنا، وقوله وَافْعَلُوا الْخَيْرَ، ندب، فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع، وقوله لَعَلَّكُمْ ترجّ في حق المؤمنين كقوله لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] و «الفلاح» في هذه الآية نيل البغية وبلوغ الأمل.
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٨]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
قالت فرقة: هذه آية أمر الله تعالى فيها بالجهاد في سبيله وهو قتال الكفار، وقالت فرقة: بل هي أعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكافرين وجهاد الظلمة وغير ذلك، أمر الله تعالى عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله ع والعموم حسن وبين أن عرف اللفظة تقتضي القتال في سبيل الله، وقال هبة الله وغيره:
إن قوله حَقَّ جِهادِهِ وقوله في الأخرى، حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢]، منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة ع ومعنى الاستطاعة في هذه الأوامر هو المراد من أول الأمر فلم يستقر تكليف بلوغ الغاية شرعا ثابتا فيقال إنه نسخ بالتخفيف، وإطلاقهم النسخ في هذا غير محدق، واجْتَباكُمْ معناه تخيركم، وقوله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ معناه من تضييق يريد في شرعة الملة، وذلك أنها حنيفية سمحة ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا مما كثر عده، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ورفع الحرج لجمهور هذه الأمة ولمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، وقوله مِلَّةَ، نصب بفعل مضمر تقديره بل جعلها أو نحوه من أفعال الإغراء، وقال الفراء هو نصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة وقيل هو كما ينصب المصدر، وقوله هُوَ سَمَّاكُمُ، قال ابن زيد الضمير ل إِبْراهِيمَ والإشارة إلى قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨]، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله تعالى، ومِنْ قَبْلُ، معناه في الكتب القديمة وَفِي هذا، في القرآن، وهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير، ل إِبْراهِيمَ ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف، وقوله لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أي بالتبليغ، وقوله وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم، وأسند الطبري إلى قتادة أنه قال: أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي، كان يقال للنبي أنت شهيد على أمتك وقيل لهذه وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وكان يقال للنبي ليس عليك حرج وقيل لهذه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وكان يقال للنبي سل تعط وقيل لهذه ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] ثم أمر تعالى ب الصَّلاةَ المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها، وب الزَّكاةَ أن تؤدى كما أنعم عليكم، فافعلوا كذا ثم أمر ب «الاعتصام بالله» أي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه، ورفض التوكل على سواه، والْمَوْلى في هذه الآية الذي يليكم نصره وحفظه، وباقي الآية بين.
سورة الحج
سورةُ (الحَجِّ) من السُّوَر المدنيَّة، ومع ذلك فإنها جاءت على ذِكْرِ كثيرٍ من موضوعات السُّوَر المكِّية؛ مثل: بيان مسائلِ الاعتقاد والتوحيد، وما يَتعلَّق بمَشاهِدِ يوم القيامة وحسابِ الله عز وجل للخَلْقِ، إلا أن مِحوَرَها الرئيس كان حول رُكْنِ (الحَجِّ)، وما يتعلق به من أحكامٍ تشريعية، ودَوْرِ هذا الرُّكن في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بأحكامٍ تشريعية تتعلق بالجهاد وقتال المشركين؛ فقد مزَجتِ السورةُ بين موضوعات السُّوَر المكِّية والمدنيَّة، إلا أن مِحوَرَها تشريعيٌّ؛ كما أشرنا.
ترتيبها المصحفي
22نوعها
مدنيةألفاظها
1281ترتيب نزولها
103العد المدني الأول
76العد المدني الأخير
76العد البصري
75العد الكوفي
78العد الشامي
74* قوله تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ فَاْلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ اْلْحَمِيمُ} [الحج: 19]:
عن قيسِ بن عُبَادٍ، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «أنا أوَّلُ مَن يجثو بين يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ».
قال قيسٌ: «وفيهم نزَلتْ: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اْخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْۖ}، قال: هم الذين بارَزوا يومَ بَدْرٍ: عليٌّ، وحَمْزةُ، وعُبَيدةُ، وشَيْبةُ بنُ ربيعةَ، وعُتْبةُ بنُ ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتْبةَ». أخرجه البخاري (٤٧٤٤).
* قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا خرَجَ النبيُّ ﷺ من مكَّةَ، قال أبو بكرٍ: أخرَجوا نبيَّهم! إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون! لَيَهلِكُنَّ؛ فنزَلتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ اْللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، قال: فعرَفْتُ أنَّها ستكونُ».
قال ابنُ عباسٍ: «فهي أوَّلُ آيةٍ نزَلتْ في القتالِ». أخرجه ابن حبان (٤٧١٠).
* سورة (الحَجِّ):
سُمِّيت سورة (الحَجِّ) بذلك؛ لأنها جاءت على ذِكْرِ رُكْنِ (الحَجِّ).
* فُضِّلتْ سورةُ (الحَجِّ) بأنها السورةُ الوحيدة من سُوَرِ القرآن الكريم التي جاء فيها سجدتانِ:
عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، فُضِّلتْ سورةُ الحَجِّ بأنَّ فيها سجدتَيْنِ؟ قال: «نَعم، ومَن لم يسجُدْهما فلا يَقرَأْهما». أخرجه الترمذي (٥٧٨).
جاءت سورة (الحَجِّ) على ذِكْرِ الكثير من الموضوعات؛ وهي:
1. الأمر بالتقوى، والإيمان بالساعة (١-٢).
2. المجادلة بغير علم (٣-٤).
3. الأدلة على البعث (٥-٧).
4. المجادلة بغير علم (٨-١٦).
5. الفصل بين الأُمَم، والاعتبار (١٧-٢٤).
6. الصد عن سبيل الله والمسجدِ الحرام (٢٥-٣٧).
7. الإذن بالقتال والدفاع عن المؤمنين (٣٨-٤١).
8. الاعتبار بهلاك الأُمَم السابقة (٤٢-٤٨).
9. إحكام الوعيِ للنبي صلى الله عليه وسلم (٤٩ - ٦٠).
10. من دلائلِ قدرة الله تعالى (٦١-٦٦).
11. بطلان شريعة ومنهاج المشركين (٦٧-٧٦).
12. أوامر الله للمؤمنين (٧٧-٧٨). ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /87).
ويقول شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ: «سورة الحَجِّ فيها مكِّيٌّ ومدَنيٌّ، وليليٌّ ونهاريٌّ، وسفَريٌّ وحضَريٌّ، وشِتائيٌّ وصَيْفيٌّ.
وتضمَّنتْ منازلَ المسيرِ إلى الله؛ بحيث لا يكون منزلةٌ ولا قاطع يَقطَع عنها.
ويوجد فيها ذِكْرُ القلوبِ الأربعة: الأعمى، والمريض، والقاسي، والمُخبِتِ الحيِّ المطمئنِّ إلى الله.
وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ - على اختصارها - ما هو بَيِّنٌ لمَن تدبَّرَه.
وفيها ذِكْرُ الواجبات والمستحَبَّات كلِّها؛ توحيدًا، وصلاةً، وزكاةً، وحَجًّا، وصيامًا؛ قد تضمَّنَ ذلك كلَّه قولُه تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْرْكَعُواْ وَاْسْجُدُواْۤ وَاْعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩} [الحج: 77]، فيدخُلُ في قوله: {وَاْفْعَلُواْ اْلْخَيْرَ} كلُّ واجبٍ ومستحَبٍّ؛ فخصَّصَ في هذه الآيةِ وعمَّمَ، ثم قال: {وَجَٰهِدُواْ فِي اْللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ} [الحج: 78]، فهذه الآيةُ وما بعدها لم تترُكْ خيرًا إلا جمَعَتْهُ، ولا شرًّا إلا نفَتْهُ». "مجموع الفتاوى" (15 /266).
وهذه السورةُ مِن أعاجيبِ السُّوَرِ؛ كما ذكَر ابنُ سلامةَ البَغْداديُّ، وأبو بكرٍ الغَزْنويُّ، وابنُ حزمٍ الأندلسيُّ، وابنُ تيميَّةَ.
ومِن عجائبِ هذه السورةِ الكريمة: أنه اجتمَع فيها سجودانِ، وهذا لم يحدُثْ في سورةٍ أخرى، بل قال بعضُ العلماء: «إن السجودَ الثاني فيها هو آخِرُ سجودٍ نزَل في القرآنِ الكريم». انظر: "الناسخ والمنسوخ" للبغدادي (ص126)، و"الناسخ والمنسوخ" لابن حزم (ص46)، و"تفسير القرطبي" (21/1)، و"مجموع الفتاوى" (15/266)، و"بغية السائل" (ص548).
جاءت سورة (الحَجِّ) بمقصدٍ عظيم؛ وهو دورُ رُكْنِ (الحَجِّ) العظيمُ في بناء الأمَّة ووَحْدتها، وجاءت بالحثِّ على التقوى، وخطابِ الناس بأمرهم أن يتَّقُوا اللهَ ويَخشَوْا يومَ الجزاء وأهوالَه، والاستدلالِ على نفيِ الشرك، وخطابِ المشركين بأن يُقلِعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية، وعن المجادلة في ذلك اتباعًا لوساوسِ الشياطين، وأن الشياطينَ لا تُغني عنهم شيئًا، ولا ينصرونهم في الدنيا ولا في الآخرة.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /296)، والتحرير والتنوير (17 /184).