ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات ما أخرجه ابن أبي حاتم: أن هذه الآيات، نزلت في النضر بن الحارث، وكان مجادلًا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على مَنْ بلي وصار ترابًا.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه البخاري - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل يقدم المدينة فيسلم، فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله.. قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولدًا ذكرًا ولم تنتج خيله.. قال: هذا دين سوء، فأنزل الله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ...﴾ الآية.
وأخرج ابن مردويه من طريق عطية عن ابن مسعود قال: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره وماله وولده، فتشآم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيرًا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فنزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ والظاهر أن الخطاب فيه عام لكل ناس، يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد، على ما تقرر في موضعه. ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي (٢): احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم بطاعته، فأطيعوه ولا تعصوه بفعل ما أمركم به من الواجبات، وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، فهو خطاب ينتظم فيه المكلفون حين النزول، ومن سيوجدون بعده إلى يوم القيامة. ثم علّل هذا الأمر بقوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾؛ أي: إن تحرك الأرض وزلزلتها، التي هي أحد أشراط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، عند قرب الساعة والقيامة، هذا قول الجمهور. وقيل: إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها،
(٢) روح البيان.
روي عن رسول الله - ﷺ -، في حديث الصور: أنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام لرب العالمين، وأنه عند نفخة الفزع، يسير الله الجبال، وترجف الراجفة تتبعها الرادفة، قلوب يومئذٍ واجفة، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح.
٢ - ثم بين شيئًا من أهوال هذا اليوم، فقال: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ انتصاب الظرف بما بعده، والضمير يرجع إلى الزلزلة؛ أي: وقت رؤيتكم تلك الزلزلة ﴿تَذْهَلُ﴾؛ أي: تشغل وتغفل دهشة وحيرة، ﴿كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾؛ أي: كل امرأة ملتبسة بإرضاع ولدها ﴿عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾؛ أي: عن ولدها الذي ترضعه، وهو أعز شيء لديها، فكيف بذهولها عن سواه، وهذا على جعل ﴿ما﴾ موصولًا اسميًا، وقال المبرد (٣): إن ﴿ما﴾ في ﴿عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ مصدرية؛ أي: تذهل عن إرضاعها، قال: وهذا يدل على، أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع إلا أن يقال: من ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال: هذا مثل كما يقال: {يَوْمًا يَجْعَلُ
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
وقوله: ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ﴾ معطوف على تذهل؛ أي: ويوم ترونها تضع وتسقط وتلقي كل صاحبة حمل وجنين، ﴿حَمْلَهَا﴾؛ أي: جنينها لغير تمام، من شدة ما غشيها من الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك. والحمل بالفتح: ما كان في البطن أو على رأس الشجر، وبالكسر ما كان على الظهر. وقوله: ﴿وَتَرَى النَّاسَ﴾ معطوف أيضًا على تذهل؛ أي: يوم ترونها.. ترى أيها المخاطب أو يا محمد الناس؛ أي: أهل الموقف، ﴿سُكَارَى﴾ جمع سكران؛ أي: تراهم أنهم سكارى، من شدة الهول والفزع، ﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ حقيقة؛ أي؛ من الشراب. وإفراد الخطاب هنا بعد جمعه في ترونها؛ لأن الزلزلة يراها الجميع، لكونها أمرًا مغايرًا للناس، بخلاف الحالة القائمة بهم من أثر السكر، فإن كل واحد لا يرى إلا ما قام بغيره. والسكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب، وقد يعترى من الغضب والعشق والخوف والفزع، ومنه سكرات الموت، قال جعفر - رحمه الله تعالى -: "أسكرهم ما شاهدوا من بساط العز والجبروت، وسرادق الكبرياء، حتى ألجأ النبيين إلى أن قالوا: "نفسي نفسي". والمعنى: ترى الناس كأنهم من ذهول عقولهم، لشدة ما يمر بهم، يضربون اضطراب السكران من الشراب. وقرأ الجمهور: (٢) ﴿تذهل كل﴾ بفتح التاء والهاء ورفع ﴿كل﴾، وابن أبي عبلة واليماني يضم التاء وكسر الهاء؛ أي ﴿تُذهِل﴾ الزلزلة أو الساعة ﴿كل﴾ بالنصب.
(٢) البحر المحيط.
﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ فغشيهم هوله، وطير عقولهم وسلب تمييزهم؛ أي: فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم، واضطربت أفهامهم، فصاروا كالسكارى من الشراب.
﴿ولكن﴾ استدراك (٢) على محذوف تقديره: فهذه الأحوال، وهي الذهول والوضع ورؤية الناس شبه السكارى، هينة لينة، ولكن عذاب الله شديد؛ أي: ليس لينًا ولا سهلًا، فما بعد لكن، مخالف لما قبلها، اهـ من "أبي حيان".
٣ - فلما ذكر الله سبحانه وتعالى، أهوال يوم القيامة، ذكر من غفل عن الجزاء في ذلك، وكذب به، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ﴾ ويخاصم وينازع ﴿فِي اللَّهِ﴾؛ أي: في قدرته وصفاته وفي كتابه ونبيه وشؤونه، ويقول فيه ما لا خير فيه، من الأباطيل، حالة كون ذلك المجادل ملابسًا، ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ وبرهان وحجة؛ أي: يجادل
(٢) الفتوحات.
والمعنى: أنه (٢) يخاصم في قدرة الله تعالى، فيزعم أنه غير قادر على البعث، بغير علم يعلمه، ولا حجة يستدل بها، ويتبع فيما يقوله ويتعاطاه، ويحتج به كل شيطان مرد، أي متمردٍ عاتٍ على الله تعالى.
والخلاصة: أي (٣) ومن الناس من يتبع في كل ما يأتي وما يذر من شؤونه وأهوائه شياطين من شياطين الإنس والجن، الذين يزينون له طرق الغواية، ويسلكون به الطرق التي تزلق به في المهاوي، ويقودونه إلى الأعمال التي تصل به إلى النار، من شرك بالله، وعبادة للأوثان والأصنام، وشرب للخمر، ولعب بالميسر إلى نحو ذلك، ممّا يحسنون له عمله، ويكونون له فيه القادة الذين لا يرد لهم قول، ولا يقبح منهم فعل.
وقرأ زيد بن علي (٤): ﴿ويتبع﴾ خفيفًا.
٤ - ثم وصف سبحانه ذلك الشيطان بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ﴾ بالبناء للمفعول؛ أي: كتب على ذلك الشيطان، من الجن والإنس في اللوح المحفوظ، وقضي وقدر عليه في علم الله تعالى، ونائب فاعله ﴿أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾؛ أي: أن الشأن من تولى ذلك الشيطان واتخذه وليًا وتبعه ﴿فإنه يضله﴾ بالفتح، على أنه خبر، مبتدأ محذوف؛ أي: فشأن ذلك الشيطان أن يضل من تولاه عن طريق الحق والجنة، ﴿وَيَهْدِيهِ﴾ ويدله ﴿إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ بحمله
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
قال في "التأويلات النجمية" (١): أما الشيطان الجني، فيضله بالوساوس والتسويلات والقاء الشبه، وأما الشيطان الإنسي، فبإيقاعه في مذاهب أهل الأهواء والبدع، والفلاسفة والزنادقة، المنكرين للبعث والمستدلين بالبراهين المعقولة، بالعقول المشوبة بشوائب الوهم والخيال، وظلمة الطبيعة، فيستدل بشبههم ويتمسك بعقائدهم، حتى يصير من جملتهم، ويعد في زمرتهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ ويهديه بهذه الاستدلالات والشبهات إلى عذاب السعير، سعير القطيعة والحرمان، انتهى.
والمعنى: أي قدر سبحانه أن من اتبع ذلك الشيطان، وسلك سبيله، أضله في الدنيا بما يوسوس له، ويدسي به نفسه، ويزين لها من اتباع الغواية والفجور، وسلوك سبيل المعاصي والآثام، التي توبقه في جهنم وبئس القرار.
وخلاصة ذلك: أنه يضله في الدنيا، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، بما يجترح من السيئات ويتركب من الآثام.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿كتب﴾ مبنيا للمفعول، وقرأ أبو عمران الجوني ﴿كتب﴾ بفتح الكاف؛ أي: كتب الله سبحانه، وقرأ الجمهور أنه بفتح الهمزة في موضع المفعول، الذي لم يسم فاعله ﴿فإنه﴾ بفتحها أيضًا، والفاء رابطة جواب من الشرطية إن جعلتها شرطية، أو داخلة في خبر من الموصولة، إن كانت موصولة، وقرأ أبو عمران الجوني ﴿أنه﴾ بفتح الهمزة ﴿فإنه﴾ بكسر الهمزة، وقرأ أبو مجلز وأبو العالية وابن أبي ليلى والضحاك وابن يعمر والأعمش والجعفي ﴿إنه﴾ ﴿فإنه﴾ بكسر الهمزة فيهما.
٥ - ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار، بعد فراغه من تلك المقدمة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ أي: يا أهل مكة، المنكرين للبعث {إِنَّ
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
وقرأ الجمهور (١): ﴿البعث﴾ بسكون العين، والكوفيون إسكان العين، عندهم تخفيف يقيسونه بما وسط حرف حلق، كالنهْر والنهَر والشعْر والشعَر، والبصريون لا يقيسونه، وما ورد من ذلك هو عندهم، مما جاء فيه لغتان، وقرأ الحسن ﴿من البعث﴾ بفتح العين، وهي لغة فيه، كالحلب والطرد في الحَلْب والطَرْد، والبعث (٢): الإخراج من الأرض والتسيير إلى الموقف، وجيء بإن مع كثرة المرتابين لاشتمال المقام على ما يقلع الريب من أصله، وتصوير أن المقام لا يصلح إلا لمجرد الفرض له، كما يفرض المحال. وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه؛ أي: إن كنتم في شك من إمكان الإعادة. وكونها مقدورة له تعالى، أو من وقوعها، ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ﴾ ليس جزاء للشرط؛ لأن خلقهم مقدم على كونهم مرتابين، بل هو علة للجزاء المحذوف، والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من إمكان الإعادة، أو من وقوعها، فانظروا إلى مبدأ خلقكم، ليزول عنكم الريب، ويرتفع الشك، وتدحض الشبهة الباطلة؛ لأنا خلقنا كل فرد منكم خلقًا إجماليًا ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ في ضمن خلق أبيكم آدم منه.
والخلاصة: إن شككتم في بعثكم، فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم، فإنكم لا تجدون في القدرة، فرقا بين الابتداء والإعادة. ﴿ثُمَّ﴾ خلقناكم خلقًا تفصيلياً ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾؛ أي: من منيّ، وهي الماء الصافي قل أو كثر، ويعبر بها عن ماء الرجل من نطف الماء إذا سال، أو من النطف وهو الصبّ، ﴿ثُمَّ﴾ خلقناكم ﴿مِنْ عَلَقَةٍ﴾؛ أي: من قطعة من الدم جامدة، مكوّنة من المني، ﴿ثُمَّ﴾ خلقناكم ﴿مِنْ مُضْغَةٍ﴾؛ أي: قطعة من اللحم، مكوّنة من العلق، وهي في الأصل، مقدار ما
(٢) روح البيان.
وعبارة أبي السعود: كان مقتضى الترتيب السابق، المبني على التدريج من المبادىء البعيدة على القريبة، أن يقدم غير المخلقة على المخلقة، وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة. اهـ. وقال القرطبي: قال ابن زيد: المخلقة: التي خلق الله فيها الرأس، واليدين والرجلين، وغير المخلقة: التي لم يخلق فيها شيء. أو يقال: إن الواو لا تقتضي ترتيبًا، فكأنه قال: غير مخلقة ومخلقة، وقد يقال: إن الإثبات مقدم على النفي؛ لأن غير مخلقة من قبيل النفي، وقيل غير ذلك. وفي "الفتوحات" أيضًا: تأمل (٢) في هذا الترتيب، فإنه يقتضي أن الإنسان الكامل خلق أولًا من نطفة، ثم ثانيًا من علقة، ثم ثالثًا من مضغة، مع أن أصل الخلق من نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم صارت العلقة مضغة، كما يصرح به قوله في آية أخرى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً...﴾ إلخ، إلا أن يقال: فإنّا صيرنا مادة خلقكم من تراب، ثم من نطفة إلخ، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿مخلقة﴾ بالنص ﴿وغير﴾ بالنصب أيضًا، نصبًا على الحال من النكرة المتقدمة، وهو قليل وقاسه سيبويه.
(٢) الفتوحات.
وقرأ ابن أبي عبلة (٢): ﴿ليبين لكم ويقر﴾ بالياء، وقرأ يعقوب وعاصم في رواية و ﴿نقر﴾ بالنصب عطفًا على ﴿لنبين﴾، وعن عاصم أيضًا ﴿ثم يخرجكم﴾ بنصب الجيم عطفًا على ﴿ونقر﴾ إذا نصب، وعن يعقوب ﴿وَنُقِرُّ﴾ بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه، وقرأ أبو زيد النحوي ﴿ويَقِرَ﴾ بفتح الياء والراء وكسر القاف، وقرأ الجمهور (٣): ﴿نقر﴾ بالرفع على الاستئناف؛ أي: ونحن نقر كما مر، قال الزجاج ﴿نُقر﴾ بالرفع لا غير؛ لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك، لنقر في الأرحام ما نشاء، وقرىء ﴿ليبين﴾ ﴿ويقر﴾ ﴿ويخرجكم﴾ بالتحتية
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وقيل (٢): إن ﴿ثُمَّ﴾ هنا، زائدة، والتقدير: ثم نخرجكم طفلًا لتبلغوا، إلخ، وقيل: إنه معطوف على نبين، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾ قبل بلوغ الكبر؛ أي: يقبض روحه ويموت بعد بلوغ الأشد أو قبله، والتوفي عبارة عن الموت، يقال توفاه الله إذا قبض روحه.
وقرىء ﴿يُتَوَفَّى﴾ بفتح الياء مبنيًا للفاعل؛ أي: يستوفي أجله، والجمهور بالضم مبنيًا للمفعول؛ أي: بعد الأشد وقبل الهرم، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ﴾ ويرجع ﴿إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾؛ أي: يبقى ويعمر إلى بلوغه أرذل العمر، وأخس الحياة وأدناها وأردأها، وهو الهرم والخرف والرذل والرذال المرغوب عنه لردائته، والعمر مدة عمارة البدن بالحياة، فيصير (٣) إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
وقوله: ﴿لِكَيْلَا﴾ متعلق بـ ﴿يُرَدُّ﴾؛ أي: لكيلا ﴿يَعْلَمَ﴾ ويعقل ذلك المردود إلى أرذل العمر ﴿من بعد علمه﴾ وفهمه وعقله الأشياء، أو من بعد علمه الكثير ﴿شَيْئًا﴾ من الأشياء، أو شيئًا من العلم، والمعنى (١): أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء، وفهم لها، لا علم له ولا فهم، وهو مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله، وإلا فهو يعلم بعض الأشياء كالطفل، فهذا الرد خاص، بغير قارىء القرآن والعلماء، أما قارىء القرآن والعلماء، فلا يردون في آخر عمرهم إلى الأرذل، بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم، اهـ شيخنا؛ أي: ليعود إلى ما كان عليه أوان الطفولية من ضعف البنية، وسخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما عمله، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدر عليه. وقال الزمخشري؛ أي: ليصير نسّاء، بحيث إذا كسب علمًا في شيء، لم ينشب أن ينساه ويزلَّ عنه علمه، حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك من هذا، فتقول فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، اهـ. وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر.
والمعنى: أي (٢) ومنكم من يتوفى على كمال قوته وكمال عقله، ومنكم من يبقى حتى يبلغ الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفولته، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم.
وخلاصة ذلك: أنه إما أن يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر، الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل. وفي "التأويلات النجمية": في الآية (٣) إشارة إلى
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ثم ذكر الاستدلال على إمكان البعث، بحال خلق النبات أيضًا، فقال: ﴿وَتَرَى﴾ أيها المجادل أو يا من شأنه الرؤية، وهو حجة أخرى على البعث، ﴿الْأَرْضَ هَامِدَةً﴾ أي: ميتة يابسة لا تنبت شيئًا، يقال: همدت النار إذا صارت رمادًا، ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا﴾؛ أي: على الأرض الهامدة، ﴿الْمَاءَ﴾؛ أي: ماء المطر والعيون والأنهار، ﴿اهْتَزَّتْ﴾؛ أي: تحركت بالنبات، والاهتزاز الحركة الواقعة على البهجة والسرور، فلا يكاد يقال اهتزّ فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع؛ أي: تحركت في رأي العين بسبب حركة النبات وظهوره. ﴿وَرَبَتْ﴾ أي: انتفخت وازدادت للنبات. من ربا يربو ربا، إذا زاد ونما، وربا الفرس ربواً، إذا انتفخ من عدو وفزع، كما في "القاموس". ﴿وَأَنْبَتَتْ﴾ أي: وأخرجت بالماء، ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾؛ أي: من كل نوع من أنواع النبات، ﴿بَهِيجٍ﴾؛ أي: حسن يسر ناظره، وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز، كما سيأتي؛ لأن المنبت هو الله سبحانه وتعالى.
وقرأ أبو جعفر (١) وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية ﴿وَرَبَأَتْ﴾ بالهمز هنا، وفي فُصِّلَتْ؛ أي: ارتفعت وأشرفت، يقال: فلان يربأ بنفسه عن كذا؛ أي: يترفع بها عنه.
والمعنى: أي (٢) وترى الأرض يابسة دارسة الآثار، من النبات والزرع، فإذا نحن أنزلنا عليها الماء، تحركت بالنبات، وازدادت وانتفخت، لما يتداخلها من الماء والنبات، ثم أنبتت أنواعًا يسرّ الناظرين ببديع منظرها، وجميل شكلها واختلاف طعومها، وروائحها ومقاديرها ومنافعها.
٦ - وبعد أن قرّر سبحانه، هذين
(٢) المراغي.
١ - ﴿ذَلِكَ﴾ الصنع البديع، وهو خلق الإنسان على أطوار مختلفة، وتصريفه في أطوار متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها حاصل بسبب، ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾؛ أي: الثابت بنفسه الذي به يتحقق الأشياء، أو المعنى (١): ذكرنا ذلك، لتعلموا بأن الله هو الحق، الثابت الموجود، إلخ. والحق هو الموجود، الذي لا يتغير ولا يزول، وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق أفعاله.
والمعنى: أي (٢) هذا الذي ذكرت لكم من بدئنا خلقم في بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده طفلًا وكهلًا وشيوخًا في حال الهرم، وتنبيهنا إياكم إلى فعلنا بالأرض الهامدة بما ينزل عليها من الغيث لتصدّقوا بأن الذي فعل ذلك هو الله الحق، الذي لا شك فيه، وأن ما تعبدون من الأوثان والأصنام فهو باطل؛ لأنها لا تقدر على فعل شيء من ذلك.
٢ - ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى﴾؛ أي: شأنه وفعله إحياء الموتى.
وحاصله (٣): أنه تعالى قادر على إحيائها بدأً وإعادة، وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرارًا بعد مرار، والمعنى؛ أي: ولتعلموا أن الذي قدر على هذه الأشياء البديعة لا يتعذر عليه أن يحيي الموتى بعد فنائها ودروسها في التراب.
٣ - ﴿وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ أي: مبالغ في القدرة، وإلّا لما أوجد هذه الموجودات؛ أي (٤) ولتعلموا أن فاعل ذلك قادر على كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فهو قادر على إيجاد جميع الممكنات، ومن ذلك إعادة الأجسام بعد موتها.
٤ - ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾؛ أي: القيامة ﴿آتِيَةٌ﴾ فيما سيأتي، لمجازاة المحسن
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
٧ - وقوله: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾ إلى آخره توكيد (١) لقوله: ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى﴾، والظاهر أن قوله: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾ ليس داخلًا في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفًا على ﴿أَنَّهُ﴾ الذي يليه، فيكون على تقدير: والأمر أن الساعة إلخ.
٥ - ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿يَبْعَثُ﴾ ويجمع بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف ﴿مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ من الموتى للمجازاة، جمع قبر وهو مقر الميت، "والبعث": هو أن ينشر الله الموتى من القبور، بأن يجمع أجزاءهم الأصلية، ويعيد الأرواح إليها، وأنكره الفلاسفة، بناء على امتناع إعادة المعدوم.
أي: ولتوقنوا بأن الله حينئذٍ، يبعث من في القبور أحياء إلى مواقف الحساب.
وخلاصة ذلك: أنكم إذا تأملتم في خلق الحيوان، والنبات، أمكنكم أن تستدلوا بذلك على وجود الخالق، وقدرته على إحياء الموتى وعلى غيرها من الممكنات، وأن الساعة آتية لا شك فيها، وأنه يبعث من في القبور للحساب والجزاء، ولولا ذلك، ما أوجد هذا العالم؛ لأن أفعاله تعالى مبنية على الحكم الباهرة، والغايات السامية.
وعبارة أبي السعود: أي هذه الآثار من آثار الألوهية، وأحكام شؤونه الذاتية والوصفية والفعلية، وإن إتيان الساعة وإتيان البعث اللذين ينكرون وجودهما، من أسباب تلك الآثار العجيبة، التي يشاهدونها في الأنفس والآفاق؛ أي: ذلك الصنيع البديع حاصل بسبب أنه تعالى، هو الحق وحده، في ذاته وصفاته وأفعاله، المحقق والموجد لما سواه من الأشياء، فهذه الآثار الخاصة،
٨ - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ﴾ هو أبو جهل أو النضر بن الحارث ﴿يُجَادِلُ﴾ ويخاصم وينازع ﴿فِي اللَّهِ﴾؛ أي: في شأنه ودينه وكتابه ونبيّه، حالة كون ذلك المجادل ملابسًا ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ضروري أو بديهي فطري، وهذا تكرير (١) لما تقدم للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة بقوله: ﴿وَلَا هُدًى﴾؛ أي: ولا استدلال ونظر صحيح هاد إلى المعرفة ﴿وَلَا كِتَابٍ﴾ من الله ﴿مُنِيرٍ﴾؛ أي: له نور، ولا وحي مظهر للحق.
والمعنى: ومن الناس (٢) من يخاصم في توحيد الله، والإقرار بالألوهية بغير علم منه بما يخاصم به، ولا برهان معه على ما يقول، ولا وحي من الله أتاه ينير حجته، بل يقول ما يقول من الجهل، ظنًا منه وتخرصاً.
وخلاصة ذلك: أنه يجادل بلا عقل صحيح، ولا نقل صويح، بل يجادل اتباعًا للرّأى والهوى.
وقيل: الآية عامة (٣) لكل من يتصدى لإضلال الناس وإغوائهم، وعلى كل حال، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ، وإن كان السبب خاصّاً، ومعنى اللفظ: ﴿ومن الناس﴾ فريق يجادل في الله، فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله، أو صفاته أو شرائعه الواضحة، حالة كونه بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير. والمراد بالعلم هو العلم الضروري، وبالهدى هو العلم النظري الاستدلالي، والأولى حمل العلم على العموم، وحمل الهدى على معناه اللغويِّ، وهو الإرشاد. والمراد بالكتاب المنير هو القرآن. والمنير: النيّر البيّن الحجة الواضح. وهو وإن دخل تحت قوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد الملائكة، وذلك لكونه الفرد الكامل، الفائق على غيره من أفراد العلم.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
٩ - وقوله: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ حال ثانية: من فاعل يجادل؛ أي: حالة كونه معرضًا بجانبه عن الحق متكبرا عنه، من ثنى العود إذا حناه. وعطفه لأنه ضم أحد طرفيه إلى الآخر. وعطف الإنسان بكسر العين، جانبه من رأسه إلى وركه أو قدمه. وفي "الجلالين": لاَوَى عنقه تكبراً. وفي "الإرشاد": عاطفاً بجانبه، وطاوياً كشحه معرضا متكبرًا: تقول العرب: جاءني فلان ثاني عطفه، إذا جاء متبختراً متكبرًا.
فالمراد (١): ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ﴾ وهو لاوٍ عنقه معرض عما يدعى إليه من الحق، متكبر عن قبوله. وقوله: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُجَادِلُ﴾، فإنه غرضه الإضلال عنه، وإن لم يعترف بأنه إضلال؛ أي: ليخرج المؤمنين عن الهدى إلى الضلال، أو ليثبت الكفرة عليه.
وقرأ الحسن (٢): ﴿ثاني عطفه﴾ بفتح العين؛ أي: تعطفه وترحّمه. وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية: ﴿ليَضل﴾ بفتح الياء؛ أي: ليضل في نفسه. والجمهور بضمها؛ أي: ليُضل غيره، وهو يترتب على إضلاله كثرة
(٢) البحر المحيط.
﴿وَنُذِيقُهُ﴾؛ أي: ونذيق ذلك المجادل ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: في الآخرة ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: العذاب المحرق، وهو النار، والحريق قيل طبقة من طباق جهنم، وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: العذاب الحريق؛ أي: المحرق، كالسميع بمعنى المسمع. وقرأ زيد بن علي ﴿فَأُذِيقُهُ﴾ بهمزة المتكلم؛ أي: وسيصلى في الآخرة عذاب النار، ويحرق بلهبها،
١٠ - ثم بين سبحانه، سبب هذا الخزي المعجل والعذاب المؤجل فقال ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب الدنيوي والأخروي ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾؛ أي: بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي؛ أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي في الدنيا، وعذاب الآخرة كائن بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي: وإسناده (٢) إلى يديه لما أن الاكتساب عادة بالأيدي. ويجوز أن يكون الكلام من باب الالتفات، لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد، فكأنه قال: ذلك بما قدمت يداه.
ومحل (أن) ومعموليها في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: والأمر والشأن أن الله سبحانه وتعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. وقيل: علة لمحذوف تقديره وقد فعلنا (٣) ذلك لأن الله لا يظلم عباده، فيعاقب بعض عبيده على جرم، ويعفو عن مثله عن آخر غيره،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
فإن قلت: الظاهر أن يقال: ليس (١) بظالم للعبيد، ليفيد نفي أصل الظلم، ونفي كونه مبالغًا مفرطًا في الظلم لا يفيد نفي أصله.
قلت: المراد نفي أصل الظلم. وذكر لفظ المبالغة مبني على كثرة العبيد، فالظالم لهم، يكون كثير الظلم، لإصابة كل منهم ظلمًا؛ لأن العبيد دال على الاستغراق، فيكون ليس بظالم لهذا ولا ذلك إلى ما لا يحصى. وأيضًا أن من عدله تعالى، أن يعذب المسيء من العبيد، ويحسن إلى المحسن، ولا يزيد في العقاب، ولا ينقص من الأجر، لكن بناء على وعده المحتوم، فلو عذب من لا يستحق العذاب، لكان قليلُ الظلم منه، كثيرًا لاستغنائه عن فعله، وتنزيهه عن قبحه.
وهذا كما يقال: زَلَّةُ العالم كبيرةٌ.
وعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ -، فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا" الحديث. أخرجه مسلم، ويقال من كثر ظلمه، واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه، وشر الناس من ينصر الظلوم ويخذل المظلوم. وفي الآية إشارة؛ إلى أن العبيد ظلّامون لأنفسهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بأن يضعوا العبادة، والطلب والاستغاثة في غير موضعها.
فصل في مبحث الجدال
واعلم: أن جدال المنافق، والمرائي وأهل الأهواء والبدع والخرافات مذموم. وأما من يجادل في معرفة الله، ودفع الشبه، وبيان الطريق إلى الله تعالى، بالعلم، وهدي نبيّه - ﷺ -، وشاهد نصّ كتابٍ منيرٍ، يظهر بنوره الحق من الباطل.. فجداله
وقال المولى الجامي - رحمه الله تعالى -: كلام أهل البدعة والأهواء، والخرافات كخوار العجل، فكما أن السامري ضل بذلك الخوار، وأضل كثيرًا من بني إسرائيل، فكذا كل من كان في حكمه، فإنه يغتر بأوهامه وخيالاته، ظنًّا أنها علوم صحيحة، فيدعو أهل الأوهام إليها فيضلهم، بخلاف من له علم صحيح وكشف صريح، فإنه لا يلتفت إلى كلمات الجهال، ولا يميل إلى خوازق العادات، التي تظهر على أيدي أهل البدع والخرافات، استدراجًا لهم التي يسمونها كرامة لهم، ألا ترى من ثبت على دين موسى عليه السلام، لم يصخ إلى الخوار، وعرف أنه ابتلاء من الله، تعالى للعباد، فويل للمجادل المبطل، وويل للسامع إلى كلامه، وقد ذمَّ هذا المجادل بالكبر، وهو من الصفات العائقة عن قبول الحق، ولا شيء فوقه من المذمة.
وعن أرسطو (١): من تكبر على الناس أحب الناس ذلته، وعنه بإصابة المنطق يعظم القدر، وبالتواضع تكثر المحبة، وبالحلم تكثر الأنصار، وبالرفق يستخدم القلوب، وبالوفاء يدوم الإخاء، وبالصدق يتم الفضل. نسأل الله سبحانه، التخلي عن الصفات القبيحة الرذيلة، والتحلي بالملكات الحسنة الجميلة.
١١ - ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ﴾؛ أي: وبعض الناس يعبد الله، سبحانه وتعالى،
وقيل: الحرف الشرط؛ أي: من الناس من يعبد الله على شرط، والشرط هو قوله: ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ﴾ وناله ﴿خَيْرٌ﴾؛ أي: دنيوي من الصحة والخصب والسعة ﴿اطْمَأَنَّ﴾ وثبت ﴿بِهِ﴾؛ أي: بذلك الخير في الدين، ولا يتزلزل عنه، ويرضى به. ومعنى اطمأن به ثبت على دينه، واستمر على عبادته أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه؛ أي (٢): ثبت على ما كان عليه ظاهرًا لا باطناً، إذ ليس له اطمئنان المؤمنين الراسخين، والاطمئنان: السكون بعد الانزعاج. ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾؛ أي: شيء يفتتن به، من مكروه يصيبه في نفسه أو أهله أو ماله، فالمراد بالفتنة: ما يستكرهه الطبع، ويثقل على النفس، كالجدري والمرض وسائر المحن، وإلا لما صح أن يجعل مقابلاً للخير؛ لأنه؛ أي: الخير أيضًا فتنة وامتحان، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ ولذلك قال بعضهم: وإنما لم يقل: وإن أصابه شرّ، مع أنه المقابل للخير؛ لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شرًّا في نفسه، بل هو سبب القربة، ورفع الدرجة، بشرط التسليم والرضا بالقضاء ﴿انْقَلَبَ﴾ وانكبّ ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾؛ أي: ارتدّ ورجع إلى جهته وحالته وطريقته التي كان عليها أولًا، من الكفر. والانقلاب الانصراف والرجوع. والوجه بمعنى الجهة والطريقة، وقال في "بحر العلوم": انقلب على وجهه؛ أي: تحوّل عن
(٢) روح البيان.
والثبات في الدين إنما يكون إذا كان الغرض منه إصابة الحق، وطاعة الرب، والخوف من عقابه، أما إذا كان المقصد منه الخير المعجّل، فإنه يظهر في السراء، ويختفى لدى الضراء، وهذا هو النفاق بعينه، كما يرشد إلى ذلك. قوله: في المنافقين ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ وقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾.
وخلاصة ذلك: أن من الناس من ليس له ثبات في أمر دينه، بل هو مرجحٌ مضطربٌ، مذبذبٌ، يعبد الله على وجه التجربة، انتظاراً للنعمة، فإن أصابه خير بقي مؤمنًا، وإن أصابه شر من سقم أو ضياع مال، أو فقد ولد.. ترك دينه وارتد كافرًا.
ثم بيَّن سبحانه، حاله بعد انقلابه علي وجهه، وسوء عاقبة عمله، فقال: ﴿خَسِرَ﴾ وحرم ذلك المنقلب ﴿الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ أي: خيري الدنيا والآخرة؛ أي: ضيعهما وفقدهما، فلا حظَّ له في الدنيا، من الغنيمة والثناء الحسن، ولا في الآخرة من الأجر، وما أعده الله للصالحين من عباده؛ أي (٢): ضيعهما بذهاب عصمته وحبوط عمله بالإرتداد والأظهر أن خسران الدنيا ذهاب أهله، حيث أصابته فتنة، وخسران الآخرة الحرمان من الثواب، حيث ذهب الدين ودخل النار مع الداخلين. وقال بعضهم: "الخسران في الدنيا ترك الطاعات ولزوم المخالفات، والخسران في الآخرة كثرة الخصوم والتبعات".
وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وبن مقسم ﴿خاسر الدنيا والآخرة﴾ اسم فاعل نصبًا على الحال.
(٢) روح البيان.
١٢ - ثم أكد عظم ذلك الخسران بقوله: ﴿يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ استئناف مبين لعظم الخسران، فيكون الضمير راجعًا إلى المرتد المشرك المنقلب على وجهه؛ أي: هذا المرتد الذي انقلب على وجهه ورجع إلى الكفر يدعو من دون الله؛ أي: يعبد متجاوزًا عبادة الله إلى عبادة الأصنام. ﴿مَا لَا يَضُرُّهُ﴾؛ أي: معبودًا لا يضره إن ترك عبادته. ﴿وَمَا لَا يَنْفَعُهُ﴾ إن عبده لكون ذلك المعبود جمادًا، لا يقدر على ضرّ ولا نفع؛ أي: يعبد جمادًا ليس من شأنه الضرّ والنفع، كما يلوح به تكرير كلمة ما. والإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو، وهو مبتدأ خبره قوله: ﴿هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾؛ أي: ذلك الدعاء هو الضلال البعيد عن الحق والهدى، والخطأ البعيد عن الصواب والرشاد، مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالًا عن الطريق، فطالت وبعدت مسافة ضلاله، فإن القرب والبعد من عوارض المسافة الحسية.
والمعنى (١): أي ذلك الارتداد وعبادة تلك الآلهة دون الله، هو السير على غير استقامة، والذهاب على غير هدى، فما مثله إلا مثل من أبعد في التيه ضالًا وبعدت مسافته في ضلاله، فلم يهتد إلى الصراط المستقيم السوي، ولم ينل ما يبتغي، وبلغت به الحيرة كل مبلغ.
١٣ - ثم زاد ما سلف توكيدًا وبين مآل دعائه، وعبادته غير الله تعالى، فقال: ﴿يَدْعُو﴾ وينادي ذلك الكافر، المنقلب يوم القيامة برفع صوت {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ
والمعنى: يقول ذلك الكافر يوم القيامة بنداء بناء ورفع صوت وصراخ، حين يرى تضرره بمعبوده، ودخوله النار بسببه، ولا يرى منه أثر النفع أصلًا لمن ضره أقرب من نفعه: والله، لبئس الناصر ولبئس الصاحب والمعاشر؛ أي: يقول في ذمه وبيان قبحه لمعبودي، الذي تضرري بعبادته أقرب من انتفاعي بها، أقسم في ذمه وبيان قبحه بقولي: والله، لبئس المولى والناصر هو؛ أي؛ معبودي، ولبئس العشير والصاحب هو؛ أي: معبودي.
وخلاصة ذلك: أيُّ عشير هذا، وأيُّ ناصر ذاك، الذي لا ينفع ولا ينصر من يعاشره، والله لبئس العشير، ولبس النصير. فالآية استئناف، مسوق لبيان مآل دعائه المذكور، وتقرير كونه ضلالًا بعيدًا، وإيراد صيغة التفضيل، مع خلوه عن النفع، بالكلية، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه. والظاهر أن اللام زائدة. و ﴿من﴾ مفعول ﴿يدعو﴾، و ﴿ضره﴾ مبتدأ و ﴿أقرب﴾ خبره، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة، ويؤيده القراءة بغير اللام؛ أي: يعبد من ضره بكونه معبوداً؛ لأنه يوجب القتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة - أقرب من نفعه، الذي يتوقع بعبادته في زعمهم، وهو الشفاعة والتوسل إلى الله. فإيراد كلمة (من) وصيغة التفضيل تهكم به، والجملة القسمية حينئذٍ مستأنفة، ويؤيِّد هذا الوجه قراءة عبد الله ﴿يدعو من ضره﴾ بإسقاط اللام. وقيل: إن يدعو بمعنى: يسمي، ومفعوله الثاني محذوف، واللام زائدة، تقديره: أي: يدعو ويسمي من ضره أقرب من نفعه إلهًا، وجملة القسم حيئنذٍ مستأنفة. فإن قلت: نفى (٢) سبحانه الضر والنفع عن الأصنام،
(٢) البحر المحيط.
قلت: أجيب عنه بأنها، لا تضر ولا تنفع بأنفسها، فنفاهما عنها، ولكن يحصل الضرر بسبب عبادتها، فنسب الضرر إليها، كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾، حيث أضاف الإضلال إليها، من حيث إنها كانت سبب الضلال اهـ، شيخنا.
وفي "البيضاوي": لا يضر بنفسه ولا ينفع، اهـ. وأشار بذكر نفسه إلى الجمع، بين نفي الضرر والنفع بمعبودهم هنا، وإثباتهما له، في قوله: ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ﴾.
وحاصله: أنه لا ضرر له ولا نفع له بنفسه، وله ذلك بسبب معبوديته، كما أشار له بقوله: "بكونه معبودًا"، أما الضرر فظاهر، وأما النفع فبزعمهم اهـ. زكريا. وقال الشهاب: دفع التنافي، بأن النفي باعتبار ما في نفس الأمر، والإثبات باعتبار زعمهم الباطل اهـ. وقال أبو حيان: نفى الله سبحانه النفع والضر، في قوله: ﴿مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ﴾ وأثبتهما في قوله: ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ﴾، لاختلاف المتعلق. وذلك أن قوله: ﴿وَمَا لَا يَنْفَعُهُ﴾ هو الأصنام والأوثان، ولذلك أتى التعبير عنها، بـ ﴿ما﴾ التي لا تكون لآحاد من يعقل، وقوله: ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ﴾ هو من عبد باقتضاء، وطلب من عابديه من المدعين الإلهية، كفرعون وغيره، من ملوك بني عبيد، الذين كانوا بالمغرب، ثم ملكوا مصر، فإنهم كانوا يدعون الإلهية، ويطاف بقصرهم في مصر، وينادون بما ينادي به رب العالمين، من التسبيح والتقديس، فهؤلاء وإن كان منهم نفع ما، لعابديهم في دار الدنيا، فضررهم أعظم وأقرب من نفعهم، إذ هم في الدنيا مملوكون للكفار، وعابدون لغير الله، وفي الآخرة معذبون العذاب الدائم، ولهذا كان التعبير هنا. بـ ﴿مَن﴾ التي هي لمن يعقل، وعلى هذا، فتكون الجملتان من إخبار الله تعالى، عمن يدعو إلهًا غير الله تعالى اهـ.
١٤ - ولمَّا فرغ من ذكر حال المشركين، ومن يعبد الله على حرف، ذكر حال
ولمَّا بين سبحانه، حال الفريقين، ذكر أنه قادر على أن يفعل بهما ما يشاء، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ من إكرام من يطيعه، وإهانة من يعصيه، لا راد لحكمه، ولا مانع لقضائه، فهو يعطي المتقين ضروبًا من الفضل والإحسان، زيادة على أجورهم، كما قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ويدخل الكافرين نارًا وقودها الناس والحجارة، لما دَسُّوا به أنفسهم من أنواع الرجس والفسوق، وهذه الجملة تعليل لما قبلها؛ أي: يفعل ما يريده من الأفعال، لا يسأل عما يفعل، فيثيب من يشاء، ويعذب من يشاء.
١٥ - ﴿مَن﴾ شرطية ﴿كَانَ يَظُنُّ﴾ ويحسب ويتوهم من أعدائه وحاسديه، - ﷺ - {أَنْ
وقيل المعنى: من كان يظن، ويحسب أن لن ينصر الله، محمدًا - ﷺ -، حتى يظهره على الدين كله، فليمدد بسبب إلى جهة السماء والعلو؛ أي: فليشدد حبلًا في سقف بيته، ثم ليربط طرفه الأسفل في عنقه ثم ليقطع؛ أي: ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً به. ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾؛ أي: صنيعه وحيلته ﴿مَا يَغِيظُ﴾؛ أي: غيظه. و ﴿مَا﴾ مصدرية. والمعنى فليختنق غيظًا حتى يموت، فإن الله ناصره، ومظهره، ولا ينفعه غيظه. وقيل: إن الضمير في ينصره، يعود إلى ﴿مَن﴾ والمعنى من كان يظن، أن الله لا يرزقه، فليقتل نفسه، وبه قال أبو عبيدة. وقيل: إن الضمير إلى الدين؛ أي: من كان يظن أن لن ينصر الله دينه إلخ. والمعنى: أي (١) من كان يحسب، أن الله لن ينصر محمدًا، - ﷺ -، في الدنيا والآخرة.. فليمدد بحبل إلى سماء بيته، ثم ليختنق به، ثم ليصور في نفسه النظر، هل يذهبن ذلك الكيد الذي كاده، والفعل الذي فعله ما يغيظه من النصرة؟ كلَّا يعني أنه لا يقدر على دفع النصرة، وإن مات غيظًا.
وخلاصة المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدًا ولا كتابه ولا دينه، فليذهب وليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، كما
(٢) المراغي.
وتلخيص هذا (١): أيها الكاره لمحمد - ﷺ -، الذي أرسل لانقاذك، إنَّ نعم الله على عباده كثيرة، ولا سيما بعثة الأنبياء، فإذا كرهت ما أنعم الله به عليك، ببعثة محمد - ﷺ -... فكأنك تختنق؛ لأنك تكره النعم لنفسك، فتستبيح خنقها من حيث لا تشعر.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر (٢): ﴿ليقطع﴾ ﴿ثم ليقضوا﴾ بكسر اللام، زاد ابن عامر ﴿وليوفوا﴾ ﴿وَلِيَطَّوَّفُوْا﴾ بكسر اللام أيضًا. وكسر ابن كثير لام ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا﴾ فحسب. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون هذه اللامات، وكذلك في كل القرآن، إذا كان قبلها واو، أو فاء، أو ثم. قال الفرّاء: من سكن فقد خفّف. وكل لام أمر وصلت بواو أو فاء فأكثر، كلام العرب تسكينها، وقد كسرها بعضهم. قال أبو علي: الأصل الكسر، لأنك إذا ابتدأت قلت: ليقم زيد.
١٦ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: ومثل إنزالنا ما تقدم من الآيات، من أول السورة إلى هنا ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ أي: أنزلنا القرآن كله؛ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع، المنطوي على الحكم البالغة، أنزلناه؛ أي: أنزلنا القرآن الكريم كله حال كونه ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالة على معانيها اللطيفة، والأسرار العجيبة.
والمعنى: أي وكما بينت لكم حججي، على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه، وأوضحتها غاية الإيضاح، أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها.
(٢) زاد المسير.
تنبيه: ثم اعلم (٢) أن كون القرآن مشتملًا على متشابهات وغوامض، لا ينافي كون آياته بينات؛ لأنه ليس فيه ما لا يعلم معناه، لكن العلماء يتفاوتون في طبقات المعرفة، هدانا الله وإياكم، إلى ما هدى الله العلماء الراسخين إليه، وشرّفنا في كل غامض بالإطلاع عليه آمين.
١٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وبكل ما يجب أن يؤمن به، أو بما ذكر من
(٢) روح البيان.
﴿وَالصَّابِئِينَ﴾؛ أي: الذين صبؤوا عن الأديان كلها؛ أي: خرجوا واختاروا عبادة الملائكة والكواكب. من صبأ الرجل عن دينه، إذا خرج عنه إلى دين آخر. قال الراغب: الصابؤون: قوم كانوا على دين نوح. وقيل: لكل خارج من الدين إلى دين آخر صابىء، من قولهم: صبأ، ناب البعير إذا طلع. وقيل: وهم من جنس النصارى وليس بصحيح، بل هم فرقة معروفة، لا ترجع إلى ملة من الملل المنتسبة إلى الأنبياء، والصحيح المقرر في الفروع الصابؤون: فرقة من النصارى اهـ، شيخنا. والنصارى: هم المنتسبون إلى ملة عيسى، عليه السلام.
وقدم النصارى على الصابئين في سورة البقرة (١)، وأخرهم عنهم هنا، قيل: وجه تقديم النصارى هناك أنهم أهل كتاب دون الصابئين، فلهم شرف عليهم، ووجه تقديم الصابئين هنا أن زمنهم متقدم على زمن النصارى. ﴿وَالْمَجُوسَ﴾ هم قوم يعبدون النار، ويقولون إن للعالم أصلين، النور، والظلمة. وقيل: هم قوم يعبدون الشمس والقمر. وقيل: قوم يستعملون النجاسات. وقيل: هم قوم من النصارى، اعتزلوهم ولبسوا المسوح. وقيل: إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى، وليسوا (٢) من أهل الكتاب، ولذا لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل دبائحهم، وإنما أخذت الجزية منهم؛ لأنهم من العجم، لا لأنهم من أهل الكتاب. ﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ بالله سبحانه، وعبدوا الأوثان والأصنام وغيرها.
وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَفْصِلُ﴾ ويقضي ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
أحدهما: أن ﴿إن﴾ الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبر لـ ﴿أن﴾ الأولى. قال الزمخشري: أدخلت ﴿إن﴾ على كل واحد من جزأي الجملة، لزيادة التأكيد وحسن دخول ﴿إن﴾ في الخبر، طول الفصل بينهما بالمعاطيف.
والثاني: أن ﴿إن﴾ الثانية تكرير للأولى على سبيل التوكيد.
أي: يقضي بين (٢) المؤمنين وبين الفرق الخمسة، المتفقة في الكفر، بإظهار المحق من المبطل، بإثابة الأول وعقاب الثاني، بحسب الاستحقاق. يعني أن الله تعالى، يعامل كل صنف منهم يوم القيامة، على حسب استحقاقه، إما بالنعيم وإما بالجحيم. وعلم من الآية، أن الأديان ستة، واحد للرحمن، وهو دين المؤمنين الذي هو الإسلام، كما قال تعال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ وخمسة للشيطان، وهي ما عدا الإسلام؛ لأنها مما دعا إليها الشيطان، وزينها في أعين الكفرة.
وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ (٣) تعليل لما قبلها؛ أي: أنه سبحانه وتعالى على كل شيء من أفعال خلقه، وأقوالهم شهيد، لا يعزب عنه شيء منها. والمعنى؛ أي (٤): أن الله سبحانه، يقضي بين هذه الفرق، ويجازي كلاً بما يفعل، ويضعه في الموضع اللائق به، إذ ليس شيء من أحوالهم بغائب عنه، بل هو عليم بأقوالهم، مراقب لأفعالهم.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى يحكم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ويلقي من كفر به في جهنم، وبئس القرار. وهو الشهيد على أعمالهم، الحفيظ لأفعالهم، العليم بسرائرهم، وما تكنّه ضمائرهم.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
والمعنى: ألم تعلم أيها المخاطب، أن الله سبحانه وتعالى، ينقاد لتدبيره ومشيئته، من في السموات، من الملائكة، ومن في الأرض من الجن والإنس، مطيعًا كان أو عاصيًا، والشمس والقمر والنجوم بالسير والطلوع والغروب، لمنافع العباد، والجبال بإجراء الينابيع، وإنبات المعادن والشجر بالظل وحمل الثمار ونحوها، والدواب بعجائب التركيب ونحوها، فكل شيء ينقاد له سبحانه، على ما خلقه وعلى ما رزقه، وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه، فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواء.
وقوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ مرفوع بفعل محذوف، يدل عليه المذكور؛ أي: ويسجد له سبحانه كثير من الناس، سجود طاعة وعبادة. وقيل: مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، تقديره: وكثير من الناس يستحق الثواب، والأول أظهر، وإنما لم يرتفع (١) بالعطف على ﴿مَن﴾ لأنّ سجود هؤلاء الكثير من
قال في "التأويلات النجمية": أهل العرفان، يسجدون سجود عبادة، بالإرادة، والجماد وما لا يعقل، ومن لا يدين، يسجدون سجود خضوع للحاجة.
وخلاصة معنى الآية: ألم تعلم (١) أيها المخاطب بهذا أن هذه الخلائق مسخرة لقدرة بارئها، وجبروت منشئها، منقادة لإرادته طوعًا أو كرهًا، فهي مفتقرة في وجودها، وبقائها إليه، فهو الذي أنشأها ورتبها، وأكمل وجودها على النحو الذي أراده، والحكمة التي قدّرها لها في البقاء.
وأفرد الشمس وما بعدها بالذكر؛ لأنها قد عبدت من دون الله تعالى، فعبدت الشمس حِمير، والقمر كنانة، والشعرى لخم، والثريا طيءُ، والمصريون عبدوا العجل أبيس وعبدت العرَّى شجرة غطفان.
وأما قوله: ﴿وَكَثِيرٌ﴾ من الناس ﴿حَقَّ﴾ وثبت ﴿عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ بسبب كفره وامتناعه من السجود، وهو من لا يوحد الله تعالى، فقال الكسائي والفراء: إنه مرفوع بالابتداء وخبره ما بعده، وقيل: هو معطوف على ﴿كثير﴾ الأول، ويكون المعنى: وكثير من الناس يسجد وكثير منهم يأبى ذلك، وقيل المعنى: وكثير من الناس في الجنة، وكثير منهم حق عليهم العذاب، هكذا حكاه ابن الأنباري.
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: ومن أهانه الله سبحانه، وأذله، فكتب عليه الشقاء لسوء استعداده ﴿فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ يسعده ومعز يعزه، فيصير
تنبيه: هذه السجدة (١) من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها. وقرأ جناح بن حبيش (٢): ﴿وكبير حق﴾ بالباء الموحدة، وقرىء ﴿وكثير حقا﴾؛ أي: حق عليهم العذاب حقًا. وقرىء ﴿حُق﴾ بضم الحاء ومن مفعول مقدم بـ (يهن). وقرأ الجمهور (٣): ﴿من مكرم﴾ بصيغة اسم الفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر، أي: من إكرام.
قال الإمام النيسابوري - رحمه الله تعالى - في "كشف الأسرار" (٤): جعل الله الكفار أكثر من المؤمنين، ليريهم أنه مستغن عن طاعتهم، كما قال: "خلَقْتُ الخَلْق ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم" وقيل: ليظهر عز المؤمنين فيما بين ذلك؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، والشيء إذا قل وجوده عزَّ، ألا ترى أن المعدن، لعزته صار مظهراً للاسم العزيز. وقيل: ليرى الحبيب قدرته، بحفظه بين أعدائه الكثيرة، كما حفظ رسول الله - ﷺ -، وهو واحد، وأهل الأرض أعداء كلهم، ليتبين أن النصر من عند الله تعالى، والقليل يغلب الكثير بعونه وعنايته ومن أكرمه بالغلبة، لا يهان بالخذلان ألبتة.
فإن قيل: إن رحمته سبقت، وغلبت غضبه، فيقتضي الأمر، أن يكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب، وأهل الغضب، تسع وتسعون من كل ألف، واحد
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
قلنا: هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم، وأما أهل الرحمة بالنسبة إليهم وإلى الملائكة والحور والغلمان، فأكثر من أهل الغضب.
مشكلةٌ: فإن قلت: إن قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ يسجد مفهومه أن قليلًا منهم أبوا من السجود، فيناقض كثيرًا الثاني، وأن قوله: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ مفهومه أن قليلًا منهم يسجد، فيناقض كثيرًا الأول، فبين الكثيرين تناقض.
قلت: إن المراد بالكثير، الأول: كثرته في ذاته، فلا ينافي قلته بالنسبة إلى الكثير الثاني، وقد أشكلني هذا التناقض زمانًا، فبحثت عن جوابه في كتب التفاسير، فلم أجده، فظهر لي هذا الجواب بفضله، فلله الحمد، ثم رأيت ما يوافقه في تفسير "روح البيان"، ونص عبارته، يقول الفقير: الكثير الأول كثير في نفسه، قليل بالنسبة إلى الكثير الثاني، إذ أهل الجمال أقل من أهل الجلال، وهو الواحد من الألف، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن الواحد على الحق، هو السواد الأعظم. وعن بعضهم: قليل إذا عدوا، كثير إذا شدوا؛ أي: أظهروا الشدة انتهت.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد، زيدت تعويضاً عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿النَّاسُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾، أو بدل منها، وجملة النداء مستأنفة. ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به مبني على حذف النون، والجملة الفعلية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿شَيْءٌ﴾: خبره: ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ﴿شَيْءٌ﴾ والإضافة في ﴿زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله، فعلى الأول كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، وعلى الثاني على طريقة الاتساع في الظرف، وإجراءه مجرى المفعول به، كقوله تعالى: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿تَذْهَلُ﴾ الآتي، ولم يذكر الزمخشري غيره، الثاني: أنه منصوب بـ ﴿عَظِيمٌ﴾، الثالث أنه منصوب بإضمار أذكر، وقيل غير ذلك. ﴿تَرَوْنَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَذْهَلُ﴾ و ﴿ما﴾ موصولة أو مصدرية ﴿أَرْضَعَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الـ ﴿مُرْضِعَةٍ﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة والعائد محذوف، تقديره عن الذي أرضعته، أو صلة ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: عن إرضاعها. ﴿وَتَضَعُ كُلُّ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَذْهَلُ﴾، ﴿كُلُّ﴾ مضاف ﴿ذَاتِ﴾ مضاف إليه ﴿ذَاتِ﴾: مضاف ﴿حَمْلٍ﴾ مضاف إليه ﴿حَمْلَهَا﴾: مفعول به، ﴿وَتَرَى﴾: الواو عاطفة ﴿ترى﴾ فعل مضارع بصرية، معطوف على ﴿تَرَوْنَهَا﴾ وفاعله ضمير، يعود على أيِّ مخاطب، وإنما جمع الضمير في ﴿تَرَوْنَهَا﴾، وأفرد هنا لأن الرؤية الأولى علقت بالزلزلة أو الساعة، وكل الناس يرونها، أما الثانية فهي متعلقة يكون الناس ﴿سُكَارَى﴾ فلا بد من جعل كل أحد رائياً للباقي، بقطع النظر عن اتصافه بالسُّكر ﴿النَّاسَ﴾ مفعول به ﴿سُكَارَى﴾: حال من الناس ﴿وَمَا﴾ الواو حالية ﴿ما﴾ حجازية ﴿هُمْ﴾: في محل الرفع اسمها ﴿بِسُكَارَى﴾ الباء: زائدة ﴿سُكَارَى﴾: خبرها منصوب، بفتحة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة المجلوبة لحرف جر زائد، الممنوعة للتعذر، وجملة ﴿ما﴾ الحجازية في محل النصب، حال ثانية من ﴿النَّاسَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ﴾: الواو عاطفة ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك، ﴿عَذَابَ اللَّهِ﴾: اسمها ﴿شَدِيدٌ﴾: خبرها، والجملة استدراكية، معطوفة على محذوف، مخالف لما بعد ﴿لكن﴾ وهذا حكم مطرد فيها، والتقدير كما في "البحر" لأبي حيان، فهذه الأحوال وهي الذهول والوضع ورؤية الناس، شبه السكارى هينة لينة، ولكن
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣)﴾.
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: نكرة موصوفة حتمًا أو موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان من غفل عن الجزاء في ذلك اليوم، ﴿يُجَادِلُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صفة ﴿مَنْ﴾، تقدير ومن الناس فريق مجادل في الله، أو صلة لها؛ أي: ومن الناس الفريق الذي يجادل في الله لا تنفعهم العظات، ﴿فِي اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُ﴾. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حال من الفاعل في ﴿يُجَادِلُ﴾ موضحة لما تشعر به المجادلة من الجهل؛ أي: ملتبسًا بغير علم، ﴿وَيَتَّبِعُ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُجَادِلُ﴾ وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿كُلَّ شَيْطَانٍ﴾: مفعول به، ومضاف إليه ﴿مَرِيدٍ﴾ صفة.
﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)﴾.
﴿كُتِبَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿أَنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو اسم موصول مبتدأ ﴿تَوَلَّاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة في محل الجزم فعل شرط لـ ﴿مَنْ﴾، إن قلنا شرطية، أو صلة لها، إن قلنا موصولة. ﴿فَأَنَّهُ﴾: الفاء، رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية إن كانت شرطية، أو واقعة في خبر ﴿مَنْ﴾ الموصولة، إن كانت موصولة لـ ﴿ما﴾ في الموصول من رائحة الشرط، ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، والهاء: في محل النصب اسمها ﴿يُضِلُّهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الـ ﴿شَيْطَانٍ﴾ ﴿وَيَهْدِيهِ﴾: فعل ومفعول معطوف على يضله ﴿إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يهديه﴾، وجملة ﴿يُضِلُّهُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر، مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فهو مُضِلَّهُ وهاديه إلى عذاب السعير، والجملة الاسمية في محل الجزم، جواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية أو خبر ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وجملة الشرط، أو الموصول في محل
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾: يا: حرف نداء ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿والهاء﴾: حرف تنبيه ﴿النَّاسُ﴾: صفة لـ ﴿أيّ﴾ أو بدل منها، وجملة النداء مستأنفة ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾: جازم وفعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فِي رَيْبٍ﴾ خبر ﴿كان﴾ ﴿مِنَ الْبَعْثِ﴾: متعلق بـ ﴿رَيْبٍ﴾ أو صفة له، ﴿فَإِنَّا﴾ الفاء: رابطة للجواب ﴿إنا﴾: ناصب واسمه ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾، وجملة ﴿إِن﴾ في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، ولكنه على تأويل: فَمُزِيلُ رَيْبكم، إن تنظروا في بدء خلقكم، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾: جار ومجرور معطوف على قوله: ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾: وعطف فيه وفيما بعده بـ ﴿ثُمَّ﴾ للدلالة على وجود تراخ في تطور الخلق، وتدرجه من حال إلى حال ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ معطوف على ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾. ﴿ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ﴾ معطوف على ﴿مِنْ عَلَقَةٍ﴾، ﴿مُخَلَّقَةٍ﴾ صفة لـ ﴿مُضْغَةٍ﴾ ﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ معطوف على ﴿مُخَلَّقَةٍ﴾، والمراد تفصيل حال المضغة، وكونها أولًا قطعة، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا، ﴿لِنُبَيِّنَ﴾ اللام: حرف جر وتعليل، ﴿نبين﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا. بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿خلقنا﴾، ومفعول التبيين محذوف
﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿لِتَبْلُغُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿أَشُدَّكُمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة، في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لبلوغكم أشدكم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف، معطوف على نخرجكم، تقديره: ثم نخرجكم طفلًا، ثم نربيكم لبلوغكم أشدكم، وقيل: إنّ ﴿ثُمَّ﴾ زائدة، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿نُخْرِجُكُمْ﴾ ﴿وَمِنْكُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، ﴿يُتَوَفَّى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾: والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والتقدير: ومن يتوفي بعد بلوغ الأشد، وقبل الهرم كائن منكم، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ﴿وَمِنْكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مَنْ يُرَدُّ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُرَدُّ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿لِكَيْلَا﴾: اللام؛ حرف جر وتعليل، ﴿كي﴾ حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾ نافية ﴿يَعْلَمَ﴾: فعل مضارع
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب أن الله إلخ. والجملة مستأنفة ﴿أن الله﴾ ناصب واسمه ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل، ﴿الْحَقُّ﴾: خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كون الله هو الحق، ﴿وَأَنَّهُ﴾: ناصب واسمه وجملة ﴿يُحْيِ الْمَوْتَى﴾: خبره والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة ﴿أن﴾ الأولى، ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ و ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ الأولى أيضًا، والتقدير: ذلك كائن، بسبب كون الله هو الحق، وإحيائه الموتى وقدرته على كل شيء.
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)﴾.
﴿وَأَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية ﴿أن الساعة آتية﴾: ناصب واسمه
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩)﴾.
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: أولًا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾. ﴿يُجَادِلُ﴾: فعل وفاعل مستتر ﴿فِي اللَّهِ﴾ متعلق به ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: جار ومجرور حال. من فاعل ﴿يُجَادِلُ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب ﴿وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ﴾: معطوفان على علم ﴿مُنِيرٍ﴾ صفة كتاب ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾: حال من فاعل ﴿يُجَادِلُ﴾، وجاز نصبه على الحال، مع إضافته؛ لأن إضافته لفظية لا تفيد التعريف؛ لأنها في نية الانفصال، كما هو مقرر في محله ﴿لِيُضِلَّ﴾ اللام حرف جر وتعليل ﴿يضل﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على المجادل ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يضل﴾ والجملة الفعلية، مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإضلاله الناس عن سبيل الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُجَادِلُ﴾، ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿خِزْيٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿خِزْيٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿يضل﴾ أو مستأنفة ﴿وَنُذِيقُهُ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعل مستتر يعود على الله ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق به ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: ونقول له ذلك بما قدمت يداك. ﴿قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾. فعل وفاعل صلة الموصول والعائد محذوف، تقديره: قدمته يداك ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. واسمه ضمير يعود على الله ﴿بِظَلَّامٍ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾ والباء: زائدة ﴿لِلْعَبِيدِ﴾. متعلق بـ ﴿بِظَلَّامٍ﴾ وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في محل الجر، معطوفة على ﴿ما﴾ الموصولة، تقديره: ذلك حاصل بسبب ما قدمته يداك، وبسبب عدم كون الله ظلاماً للعبيد. ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَن﴾ اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ، مؤخر، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حال المرتابين، أو معطوفة على جملة قوله ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ ﴿يَعْبُدُ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على من ﴿عَلَى حَرْفٍ﴾ حال من فاعل ﴿يَعْبُدُ﴾ أي: حالة كونه مضطرباً مترجرجاً، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَن﴾ الموصولة أو الموصوفة.
﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.
﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل، ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿أَصَابَهُ﴾ فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها ﴿خَيْرٌ﴾ فاعل ﴿اطْمَأَنَّ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿أن﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ذلك العابد، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية، معطوفة على جملة ﴿يَعْبُدُ﴾ على كونها صلة الموصول، ﴿به﴾ متعلقان به ﴿وَإِنْ﴾: الواو: عاطفة ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ ﴿أن﴾ على كونه جوابًا لها وفاعله ضمير يعود على العابد ﴿انْقَلَبَ﴾ فعل ماض مبني على الفتح وفاعله يعود على العابد والجملة جواب الشرط. ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾ متعلق بـ ﴿انْقَلَبَ﴾، أو حال من فاعل ﴿انْقَلَبَ﴾ وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة
﴿يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)﴾.
﴿يَدْعُو﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على العابد، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿يَعْبُدُ﴾ في قوله: ﴿مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. جار ومجرور، حال من فاعل ﴿يَدْعُو﴾ أي: حالة كونه، متجاوزًا الله، بعبادته إلى غيره. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب. مفعول به لـ ﴿يَدْعُو﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَضُرُّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مِنْ﴾، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها. ﴿وَمَا لَا يَنْفَعُهُ﴾: معطوف على ما لا يضره ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل. ﴿الضَّلَالُ﴾ خبر ﴿الْبَعِيدُ﴾ صفة له، والجملة مستأنفة. ﴿يَدْعُو﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على العابد، و ﴿يَدْعُو﴾ هنا بمعنى يقول. ﴿لَمَنْ﴾: اللام: حرف ابتداء. ﴿من﴾ اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ. ﴿ضَرُّهُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿أَقْرَبُ﴾: خبر للمبتدأ الذي هو ﴿ضَرُّهُ﴾،. ﴿مِنْ نَفْعِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَقْرَبُ﴾، والجملة من هذا المبتدأ الأخير وخبره، صلة لـ ﴿مِنْ﴾ الموصولة. ﴿لَبِئْسَ﴾: اللام: موطئة للقسم ﴿بئس﴾: فعل ماض لإنشاء الذم. ﴿الْمَوْلَى﴾: فاعل والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هو؛ أي: ذلك المعبود، وهو مبتدأ، خبره جملة ﴿بئس﴾، أو خبر لمحذوف، تقديره: والمخصوص بالذم هو، وجملة ﴿بئس﴾ جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر لـ ﴿من﴾ الموصولة؛ أي: يقول ذلك العابد: لمن ضره أقرب من نفعه، لأقسم فيه، بقولي: بئس المولى هو. ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾: هو،
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يُدْخِلُ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول. وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصولة. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به ثان على السعة، أو نصب بنزع الخافض، وجملة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يَفْعَلُ مَا﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله، وجملة ﴿يُرِيدُ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد محذوف، تقديره: يريده، وجملة
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، أو الخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، كما مر مرارًا، أو موصولة في محل الرفع مبتدأ. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، واسمه ضمير مستتر يعود على ﴿مَن﴾. ﴿يَظُنُّ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر، يعود على ﴿مَنْ﴾، وجملة ﴿يَظُنُّ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ أي: أنه. ﴿لَنْ﴾ حرف نصب ﴿يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ فعل مضارع ومفعول وفاعل منصوب بـ ﴿لَنْ﴾. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ متعلق بـ ﴿يَنْصُرَهُ﴾. ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ معطوف على الدنيا، وجملة ﴿يَنْصُرَهُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾ المخففة، وجملة ﴿لَنْ﴾ المخففة في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي ﴿ظن﴾، تقديره: من كان يظن عدم نصر الله تعالى، محمدًا، - ﷺ -، في الدنيا والآخرة. ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾: الفاء، رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية، وجوبًا، لكون الجواب جملة طلبية، أو واقعة في خبر ﴿مَن﴾ الموصولة، لشبهها بالشرط في العموم. واللام: لام الأمر. ﴿يمدد﴾ فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على من ﴿بِسَبَبٍ﴾ متعلق بـ ﴿يمدد﴾ ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾: صفة لسبب؛ أي: بسبب واصل إلى السماء. والمراد بالسماء، سقف البيت، أو على حقيقتها على سبيل التقدير. وجملة ﴿يمدد﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، أو خبر ﴿من﴾ الموصولة، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية، أو الموصولة مستأنفة.
﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿لْيَقْطَعْ﴾: اللام: لام الأمر ﴿يقطع﴾: فعل مضارع، مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة في محل الجزم،
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كذلك﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به. ﴿آيَاتٍ﴾ حال من مفعول ﴿أنزلنا﴾. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: صفة لـ ﴿آيَاتٍ﴾: والتقدير، وأنزلنا القرآن كله، حالة كونه آيات بينات. إنزالًا مثل الآيات السابقة، من أول السورة إلى هنا، والجملة مستأنفة. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ الواو عاطفة، أو حالية. ﴿أن الله﴾ ناصب واسمه بـ ﴿يَهْدِي﴾. فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿مَن﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من يريد هدايته، وجملة ﴿يَهْدِي﴾ في محل الرفِع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر، معطوف على مفعول ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، والتقدير: وكذلك أنزلنا عليه القرآن كله. وهداية الله من يريد هدايته، أو في تأويل مصدر مرفوع، على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: والأمر هداية الله من يريد، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾. معطوف على الموصول الأول. وجملة ﴿هَادُوا﴾: صلته. ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. وكذلك قوله: ﴿وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ﴾: معطوفات على الموصول الأول. وجملة ﴿أَشْرَكُوا﴾: صلة الموصول الأخير. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يَفْصِلُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَفْصِلُ﴾، وكذلك يتعلق به الظرف في قوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ الثانية، وجملة ﴿إِنَّ﴾ الثانية، في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ الأولى. أعني قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ الأولى مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَهِيدٌ﴾ و ﴿شهيد﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾. وكأن قائلًا قال: أهذا الفصل عن علم، أو لا، فقيل: إن الله على كل شيء شهيد؛ أي: عالم، اهـ شيخنا.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: الهمزة: للاستفهام التقريري ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾ وفاعله ضمير، يعود على كل من يصلح للخطاب، وترى هنا علمية، كما مر في مبحث التفسير. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿يَسْجُدُ﴾ فعل مضارع ﴿لَهُ﴾ متعلق به ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، وجملة ﴿يَسْجُدُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر، سادّ مسدّ مفعولي ﴿تَرَ﴾، تقديره: ألم تر سجود من السموات ومن في الأرض، ومن بعدهما. لله سبحانه وتعالى. وجملة ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ جملة إنشائية مستأنفة. {فِي
التصريف ومفردات اللغة
﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ التقوى: التباعد عن كل ما يكسب الإثم، من فعل أو ترك. ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ الزلزلة: الحركة الشديدة، بحيث تزيل الأشياء من أماكنها، وقيل: الزلزلة: التحريك الشديد بطريق التكرير، كما يدل عليه تكرير الحروف؛ لأن زلزل مضاعف زل، ويحتمل في هذه الإضافة، أن تكون من إضافة
﴿مَنْ يُجَادِلُ﴾ الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمقاتلة، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت فتله، كأن المتجادلين يقتل كل واحد الآخر عن رأيه. ﴿مَرِيدٍ﴾ عات متجرد للفساد: يقال: مرد الشيء، إذا جاوز حدَّ مثله، وأصله العري يقال: غلام أمرد إذا عرى من الشعر والورق. قال: الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس، وقال في "القاموس" وشرحه: المارد العاتي المرتفع، يقال: بناء مارد؛ أي: مرتفع، وهو مجاز. وجمعه مردة وماردون ومراد، والمريد الشديد المرادة والخبيث الشرير، وجمعه مرد ومؤنثه مرداء، يقال: مرد على جرد؛ أي: شبان مرد على خيول جرد.
﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ﴾ الريب: الشك. والبعث: الإخراج من الأرض، والتسيير إلى الموقف. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ وأصل النطفة الماء العذب، ويراد بها هنا ماء الرجل. ﴿عَلَقَةٍ﴾ والعلقة: القطعة الجامدة من الدم. ﴿مِنْ مُضْغَةٍ﴾ المضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ. ﴿أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ والأجل المسمى: حين الوضع. ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين. وغير المخلقة التي لم يخلق فيها شيء.
﴿طِفْلًا﴾ والطفل: يطلق على الولد من حين الإنفصال إلى البلوغ، ويطلق
﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ الثني، اللي، وفي "القاموس" ثنى الشيء يثني، عطفه وطواه، ورد بعضه على بعض وكفه. والعطف بكسر العين الجانب، يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عن الإعراض عن الشيء، وهو عبارة عن التكبر، والعطف، بفتح العين: التعطف والرحمة والشفقة، والمعنى هنا، لاويًا جانبه: متكبرًا مختالًا ونحوه تصغير الخد. وليُّ الجيد. ﴿خِزْيٌ﴾ والخزي: الهوان والذل والفضيحة. ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: عذاب النار التي تحرق داخليها، فيحتمل أن يكون من إضافة المسبَّب إلى سببه، على أن يكون الحريق عبارة عن النار، وأن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل العذاب الحريق؛ أي: المحرق وهو النار.
﴿عَلَى حَرْفٍ﴾؛ أي؛ على طرف وشك في الدين. ﴿خَيْرٌ﴾ كل ما يستلذه
﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾؛ أي: ضيعهما إذ فاته فيهما ما يسره. ﴿يَدْعُو﴾ الأولى يراد به يعبد. و ﴿يَدْعُو﴾ الثانية يراد بها يقول. ﴿الْمَوْلَى﴾ الناصر. ﴿الْعَشِيرُ﴾ الصاحب والمعاشر. ﴿بِسَبَبٍ﴾ السبب: الحبل الذي تصعد به النخل؛ أي: ليربط بحبل إلى سقف بيته؛ لأن كل ما علاك فهو سماء. ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ قال في "القاموس": قطع فلان الحبل إذا اختنق به، ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾؛ أي: ليخنق انتهى. وسمى الاختناق قطعًا؛ لأن المختنق يقطع نفسه، بحبس مجاريه ﴿فَلْيَنْظُرْ﴾ المراد: تقدير النظر، وتصوره؛ لأن الأمر بالنظر بعد الاختناق، غير معقول؛ أي: فليتصور في نفسه، وليقدر النظر إن فعل. ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾؛ أي: فعل ذلك بنفسه، وسماه كيدا: لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره، أو على وجه الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسود، وإنما كاد به نفسه ﴿مَا يَغِيظُ﴾ الغيظ أشد غضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه؛ أي: ما يغيظه من النصرة لمحمد - ﷺ -.
﴿وَالنَّصَارَى﴾. جمع نصران ونصرانة، مثل: الندامى جمع ندمان وندمانة، ويستعمل بغير الياء فيقال: رجل نصران وامرأة نصرانة. ﴿وَالْمَجُوسَ﴾ قال في "القاموس": مجوس كصبور، رجل صغير الأذنين وضع دينًا، ودعا إليه، معرب، منج كوش ورجل مجوسيٌّ، جمعه مجوس، كيهودي ويهود اهـ. والأصل: نجوس بالنون، فأبدلت ميما اهـ "سمين".
﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ أي: ألم تعلم، والسجود: لغة التطامن والتذلل، ثم أطلق على التذلل لله وعبادته، وهو ضربان: سجود بالاختيار: وهو خاص بالإنسان وبه يستحق الثواب، وسجود بالتسخير والانقياد لإرادته سبحانه: وهو دال على الذلة والافتقار إلى عظمته جلت قدرته. ﴿وَالدَّوَابُّ﴾ جمع دابة، بتشديد الباء؛ لأنه مشتق من الدبيب، فأما من قرأ بتخفيف الباء، فقد حذفها كراهية التضعيف،
زَعَمَتْنِىْ شَيْخَاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ | إِنَّمَا الشَّيْخُ مَنَ يَدُبُّ دَبِيْبَا |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإسناد العقلي في قوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾؛ لأن إسناد الزلزلة إلى الساعة على سبيل المجاز العقلي؛ لأنها لما كانت من أشراطها أضيفت إليها.
ومنها: التشبيه البليغ المؤكد في قوله: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾؛ أي: تراهم كالسكارى من شدة الهول، حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، فقد شبه حال الناس في ذلك اليوم العصيب بحالة السكارى، الذين فقدوا التمييز، وأضاعوا الرشد، فالآية الكريمة بعد أن أثبتت السكر المجازي، نفت الحقيقة، أبلغ نفي مؤكد بالباء، والسر في تأكيده، التنبيه على أن هذا السكر، الذي هو بهم في تلك الحالة، ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله.
ومنها: أن في عدوله عن مرضع إلى مرضعة سرًا. قلّ من يتفطن له، وهو
ومنها: الاستعارة التصريحية، في قوله: ﴿شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ حيث استعار لفظ الشيطان لكل طاغية، متمرد على أمر الله.
ومنها: أسلوب التهكم، في قوله: ﴿وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾.
ومنها: الطباق، في قوله: ﴿يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ﴾.
ومنها: طباق السلب، في قوله: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾.
ومنها: الاستعارة اللطيفة، في قوله: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ شبه الأرض بنائم لا حركة له، ثم يتحرك وينتعش، وتدب فيه الحياة، بنزول المطر عليه، ففيها استعارة تبعية.
ومنها: ائتلاف الطباق والتكافؤ في قوله: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ لمجيء أحد الضدين، أو أحد المتقابلين حقيقة، والآخر مجازًا، فهمود الأرض واهتزازها ضدان؛ لأن الهمود سكون فالاهتزاز هنا حركة خاصة، وهما مجازان، والربو والإنبات ضدان، وهما حقيقتان، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الأرض تربو حالة نزول الماء عليها، وهي لا تنبت في تلك الحالة، فإذا انقطعت مادة السماء، وجفّفَ الهواء رطوبة الماء، خمد الربو، وعادت الأرض، إلى حالها، من الاستواء، وتشققت وأنبتت، فصدر الآية تكافؤ، وما قابله في عجزها طباقٌ.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ فقد أسند الإنبات إلى الأرض، وهو مجاز عقلي؛ لأن المنبت في الحقيقة، هو الله تعالى.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾؛ لأنه كناية عن الإعراض والتكبر والخيلاء.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ حيث شبه المنافقين، وما هم فيه، من قلق واضطراب في دينهم، بمن يقف على شفا الهاوية، يريد العبادة والصلاة. ويا له من تمثيل رائع.
ومنها: المقابلة البديعة بين ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ و ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿يَضُرُّهُ﴾ و ﴿يَنْفَعُهُ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، في قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ لتأكيد الوعيد، وتشديد التهديد؛ لأن الأصل بما قدمت يداه.
ومنها: الاستعارة المصرحة في قوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ حيث استعار ضلال من أبعد في التيه ضالًّا، عن الطريق، فطالت وبدت مسافة ضلاله لخطأ، من أخطأ عن الحق والهدى، وبعد عنه، فإن القرب، والبعد من عوارض المسافة الحسية.
ومنها: إيراد صيغة المبالغة في قوله: ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ﴾ مع خلوه عن النفع بالكلية، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى﴾؛ لأن تسميته مولى تهكم به.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فإسناد الجرى إلى الأنهار من الإسناد الحكمي، كقولهم: سال الميزاب إذ الجريان من أوصاف الماء، لا من أوصاف النهر، والنهر مجرى الماء الفائض.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَدْعُو﴾ وفي قوله: ﴿لَبِئْسَ﴾.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ إلى قوله: {مَا
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾؛ أي: ويضل من يريد.
ومنها: تصدير الجملتين بـ ﴿إن﴾ زيادة في تأكيد الكلام في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ...﴾ إلخ بعد قوله: ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)﴾.
قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ...﴾ الآيات مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أنه سبحانه وتعالى، لما ذكر أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه.
وعبارة المراغي هنا: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أرباب الفرق الست، فيما سلف وذكر، أن الله تعالى، يفصل بينهم يوم القيامة، وهو العليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم.. قفى على ذلك، بذكر طرفي الخصومة، وتعيين موضع الخصومة، وتعيين موضع الخصومة، وبيان مآل كل من الفريقين، من الإهانة والكرامة والعذاب والنعيم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (٢) مآل كل فريق من الكفار، والمؤمنين.. أردف ذلك ببيان عظيم حرمة البيت، وأنكر على الكفار صدهم المؤمنين، عن شهوده وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات: أنَّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أنَّ كثيرًا من مشركي قريش، صدوا عن دين الله، وعن دخول المسجد الحرام، أردف بتأنيبهم وتوبيخهم على ما يفعلون، فبيّن أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، فإن أباهم إبراهيم الذي يفخرون به. وينتسبون إليه، هو الذي بناه وجعله مباءة للناس، وأمر بتطهيره من الشرك للطائفين والمصلين، وأن ينادي في الناس بالحج، ليأتوه من كل فج عميق، لما لهم في ذلك من منافع دينية ودنيوية، ويذكروا اسم الله في أيام النحر، على ما آتاهم من بهيمة الأنعام.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ...﴾
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) أن تعظيم الشعائر من أعظم دعائم التقوى، وأن محل نحرها هو البيت العتيق.. قفى على ذلك ببيان أن الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى، ليس بخاص بهذه الأمة، بل لكل أمة مناسك، وذبائح تذكر باسم الله حين ذبحها، والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر، فلإله واحد، والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، وبعدئذٍ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين، الخاشعين لله، الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم، بجنات تجري من تحتها الأنهار.
قوله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما حث على التقرب بالأنعام كلها، وبين أن ذلك من تقوى القلوب.. خص من بينها الإبل؛ لأنها أعظمها خلقًا، وأكثرها نفعًا، وأنفسها قيمة.
قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات (١): ما أخرجه الشيخان وغيرهما، عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ في ستة من قريش، علي، وحمزة، وعبيد بن الحارث وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وكان أبو ذر يقسم أن هذه الآيات نزلت في هؤلاء المتابرزين.
وروى البخاري وغيره عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وأنا أول من يجثوا في الخصومة على ركبتيه، بين يدي الله يوم القيامة.
وأخرج الحاكم عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، في مبارزتنا يوم بدر ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿الْحَرِيقِ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله تعالى منكم، وأقدم كتابًا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد - ﷺ -، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل الله تعالى من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فنزلت الآية: وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه، حين صدوا رسول الله - ﷺ -، وأصحابه عام الحديبية، عن المسجد الحرام، وقد كره، عليه الصلاة والسلام، أن يقاتلهم، وكان محرمًا بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
وأخرج (٢) ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بعث النبي - ﷺ - عبد الله بن أنيس مع رجلين، أحدهما مهاجر، والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصارى، ثم ارتد عن
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: "كانوا لا يركبون فأنزل الله ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ فأمرهم بالزاد، ورخص لهم الركوب والمتجر.
قوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي - ﷺ -: فنحن أحق أن نضمخ فأنزل الله ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٩ - ﴿هَذَانِ﴾ الجمعان، جمع المؤمنين وجمع الكفرة المنقسمة إلى الفرق الخمس. ﴿خَصْمَانِ﴾؛ أي: فريقان مختصمان. ﴿اخْتَصَمُوا﴾ وجادلوا وتنازعوا. ﴿فِي رَبِّهِمْ﴾؛ أي: شأنه أو في دينه، أو في ذاته وصفاته، أو في شريعته التي شرعها لعباده والكل من شؤونه، فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه، وبطلان ما عليه صاحبه، وبناء أقواله وأفعاله عليه، خصومة للفريق الآخر، وإن لم يجر بينهما التحاور والخصام، وكان مقتضى السياق أن يقول: اختصما، بألف الإثنين، ولكن جمع الضمير نظرًا إلى معنى الفريقين. فالمراد بالخصمين فريق المؤمنين وفريق الكافرين، والظاهر (١) أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء، الدالة على التعقيب في قوله: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولذلك قال علي - رضي الله عنه -: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة، بين يدي الله تعالى.
وقيل: المراد بالخصمين (٢): الجنة والنار، قالت الجنة: خلقني لرحمته، وقالت النار: خلقني لعقوبته، وقيل المراد بالخصمين، هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين، حمزة وعلي وعبيدة، ومن الكافرين، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذر - رضي الله عنه - يقسم أن هذه الآية، نزلت في
(٢) الشوكاني.
ثم فصَّل سبحانه، ما أجمله في قوله: ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ فقال: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بجميع مللهم. ﴿قُطِّعَتْ﴾ وقدرت ﴿لَهُمْ﴾: على مقادير جثتهم. ﴿ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾؛ أي: لباس من نيران هائلة، تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها، كما تقطع الثياب الملبوسة. قال الأزهري (٣): أي سوّيت وجعلت لبوسًا لهم، شبهت النار بالثياب؛ لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب. وعبر بالماضي عن المستقبل، تنبيهًا على تحقق وقوعه. وقيل إن هذه الثياب من نحاس، قد أذيب فصار كالنار، وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى. وقيل: المعنى: في الآية أحاطت بهم النار. وقرأ الزعفراني في "اختياره" (٤): ﴿قُطِّعَتْ﴾ بتخفيف الطاء.
ومعنى الآية (٥): أي إن أهل الأديان الستة، التي سبق ذكرها فريقان، فريق المؤمنين، وفريق الكافرين أرباب الديانات الخمس المتقدمة، جادلوا في دين الله، فكل فريق يعتقد أن ما هو عليه هو الحق، وأن ما عليه خصمه هو الباطل، وبنى على ذلك كل أقواله وأفعاله، وهذا كاف في تحقيق الخصومة، وان لم يحصل بينهما تحاور بالفعل.
ثم ذكر مآل كل فريق، وما يلقاه من الجزاء، بعد أن يفصل الله بينهما، وذكر من جزاء فريق الكافرين أمورًا ثلاثة:
١ - ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾؛ أي: فالكافرون أعدت لهم نيران تحيط بهم كأنها ثياب قدرت على قدر أجسامهم، ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التهكم بهم، واحتقار شأنهم، والتعبير بثياب للإشارة إلى تراكم
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
(٥) المراغي.
٢ - ﴿يُصَبُّ﴾ ويراق ﴿مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾؛ أي: الماء الحار الذي انتهت حرارته، لو قطرت قطرة منه على جبال الدنيا لأذابتها.
٢٠ - ﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾؛ أي: يذاب بذلك الحميم من فرط الحرارة. ﴿مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ من الأمعاء والأحشاء ﴿وَالْجُلُودُ﴾؛ أي: وتشوى جلودهم فتتساقط فهو معطوف على ﴿ما﴾؛ أي: يصهر به الجلود، وتأخيره عنه لمراعاة الفواصل؛ أي: إذا صب الحميم على رؤوسهم يؤثر، من فرط حرارته في باطنهم، نحو تأثيره في ظاهرهم، فيذاب به أحشاؤم، كما يذاب به جلودهم، ثم يعاد كما كان، فله أثر في الظاهر والباطن وقرأ الحسن وفرقة: ﴿يُصْهَرُ﴾ بفتح الصاد وتشديد الهاء، ذكره في "البحر".
٣ - ٢١ ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: وللكفرة؛ أي: ولتعذيبهم وجلدهم ﴿مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾؛ أي: سياط من حديد، تضرب بها رؤوسهم ووجوههم. جمع مقمعة، وهي آلة القمع. وفي الحديث "لو وضعت مقمعة منها في الأرض، فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها منها"؛ أي: رفعوها.
أي: يقمعون ويجلدون بها، ويردون إلى النار ردًّا عنيفًا إذا أرادوا الهرب منها،
٢٢ - وإلى هذا أشار بقوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا﴾ وحاولوا ﴿أَنْ يَخْرُجُوا﴾ وأشرفوا على الخروج ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من النار ودنوا إلى الخروج. وقوله: ﴿مِنْ غَمٍّ﴾ بدل اشتمال من ضمير منها، أعيد معه الجار وحذف الرابط لفهم المعنى؛ أي: من غمها؛ أي: من غم شديد من غمومها. ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾، أي: في قعرها بأن ردوا من أعلاها إلى أسفلها، من غير أن يخرجوا منها. ﴿و﴾ قيل لهم ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾؛ أي: باشروا العذاب المحرق وذوقوا ألمه. والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا مجاز عن إدراك الألم. وروي "أنها تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها، ضربوا بالمقامع، فهووا فيها سبعين خريفًا". وهو من ذكر البعض وإرادة الكل، إذا الخريف آخر الفصول الأربعة.
٢٣ - وبعد أن بين الله سبحانه، حال الكافرين.. أردف ذلك ببيان ما يناله المؤمنون، من الكرامة في المسكن والحلية والملبس وحسن القول والعمل. فقال:
١ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبرسله وبجميع ما جاؤوا به ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: اتصفوا بها فعلًا أو تركًا، ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين وحدائق ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿من تحت﴾ أشجار ﴿ها﴾ وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة. الماء واللبن والخمر والعسل، كما بينه في سورة محمد؛ أي: إن الله سبحانه، يدخل من آمن به وبرسله وعمل صالح الأعمال، التي تزكي نفوسهم، وتقربهم إلى ربهم، جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الوارفة الظلال، الأنهار الواسعة، يستمتعوا بها كما شاؤوا، ثم بين سبحانه، بعض ما أعد لهم من النعيم، بعد دخولهم الجنة، فقال:
٢ - ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾؛ أي: يلبسون في الجنة في أيديهم ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾؛ أي: بعض أساور، وهي جمع أسورة جمع سوار، وهي ما يلبس في الساعد. ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ بيان للأساور ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ عطف على محل من أساور. وقرىء بالجر، عطفًا على ذهب، على أن الأساور مرصعة بالذهب واللؤلؤ، أو على أنهم يسوَّرون بالجنسين، إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تجمع نساء الدنيا بن أنواع الحلى، وما أحسن المعصم إذا كان فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من لؤلؤ أبيض. واللؤلؤ ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ. ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مُصمَّت، كما أن فيها أساور من ذهب؛ أي: تحليهم الملائكة بأمره تعالى
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ بضم الياء وفتح الحاء وتشديد اللام؛ أي: يزينون. وقرى بضم الياء والتخفيف، وهو بمعنى المشدد. وقرأ ابن عباس ﴿يَحْلَون﴾ بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم حلي الرجل وحلت المرأة، إذا صارت ذات حلي، أي: يلبسون حليهم. وقرأ ابن عباس ﴿مِنْ أَسْوِر﴾ بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرفه؛ لأنه نقص بناؤه، فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودًا فمنعه من الصرف. وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب: ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ هنا، وفي فاطر بالنصب، وحمله أبو الفتح، على إضمار فعل، وقدره الزمخشري ويؤتون لؤلؤاً، ومن جعل ﴿مِن﴾ في ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾ زائدة جاز أن يعطف ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ على موضع ﴿أَسَاوِرَ﴾. وقيل: يعطف على ﴿من أساور﴾؛ لأنه يقدر ويحلون حليًا من أساور. وقرأ باقي السبعة (٢) والحسن أيضًا، وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة ﴿ولؤلؤٍ﴾ بالخفض عطفًا على ﴿أَسَاوِرَ﴾. أو على ﴿ذَهَبٍ﴾. وقرأ الفياض ﴿ولوليا﴾ قلب الهمزتين واوًا، صارت الثانية واوًا قبلها ضمة، فقلبت الواو ياء والضمة كسرة. وقرأ ابن عباس ﴿وليليا﴾ أبدل الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين، أتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة: ﴿ولول﴾ مجروراً عطفًا، على ما عطف عليه المهموز.
٣ - ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿حَرِيرٌ﴾؛ أي: إن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فلا يمكن عراؤهم منه؛ أي: (٣) ويلبسون الحرير الذي حرم عليهم لبسه في الدنيا، وكان فيها عنوان العزة والكرامة، فأوتوه في الآخرة إجلالًا، وتعظيمهاً لهم، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وكل منهم يعطى ما تشتهيه
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٤ - ٢٤ ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾؛ أي: وأرشدوا إلى القول الطيب، وهو قولهم حين دخول الجنة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ وقيل: هو لا إله إلا الله. وقيل: الحمد لله. وقيل: القرآن. وقيل: هو ما يأتيهم من الله سبحانه، من البشارات، وقد ورد في القرآن، ما يدل على هذا القول. المجمل هنا. وهو قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾.
٥ - ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ وهو إما من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: أرشدوا إلى الصراط المحمود، وهو طريق الجنة، أو إلى موصوف محذوف، بقيت صفته؛ أي: إلى صراط الله الحميد، أي: المحمود ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا، وهو دينه القويم، الذي هو الإسلام، والمعنى على الأول وأرشدوا إلى الطريق الحميد، الذي يجعل أقوالهم وأفعالهم مرضية عند ربهم محمودة لدى معاشريهم وإخوانهم، لما فيها مما يجمل في المعاشرة والاجتماع. وأخر (١) بيان الهداية لرعاية الفواصل.
٢٥ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَيَصُدُّونَ﴾؛ أي: ويمنعون الناس ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن طاعة الله تعالى، والدخول في دينه عطف (٢) المضارع على الماضي؛ لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصد، ومثل هذا قوله سبحانه ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾. والمراد بالصد هنا، الاستمرار، لا مجرد الاستقبال؛ أي: وصدوا عن سبيل الله، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في ﴿ويصدون﴾ واو الحال؛ أي: كفروا والحال أنهم يصدون، وقيل: الواو زائدة والمضارع خبر ﴿أَن﴾. والأولى أن يقدر خبر ﴿إن﴾ بعد قوله: ﴿وَالْبَادِ﴾. ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عطف على سبيل الله، قيل:
(٢) الشوكاني.
﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ﴾ صفة للمسجد؛ أي: صيرناه حال كونه معبدًا وقبلة ﴿لِلنَّاسِ﴾ كائنًا من كان، من غير فرق بين مكي وآفاقي. ﴿سَوَاءً﴾ مفعول ثان لـ ﴿جَعَلْنَا﴾؛ أي: جعلناه مستويًا فيه، ﴿الْعَاكِفُ فِيهِ﴾ الملازم له ﴿وَالْبَادِ﴾؛ أي: الواصل إليه من البادية. والمراد به الطارىء عليه، من غير فرق بين كونه من أهل البادية، أو من غيرهم. والعاكف مرتفع بسواء؛ لأنه بمعنى مستوٍ، وصف المسجد الحرام بذلك، لزيادة التشنيع والتقريع والتوبيخ للصادين عنه، وهذا على قراءة النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور (٢): برفع ﴿سواء﴾ على أنه مبتدأ وخبر، والجملة في موضع المفعول الثاني، والأحسن أن يكون العاكف والبادي. هو المبتدأ و ﴿سواء﴾ الخبر، وقد أجيز العكس. وقرأ فرقة، منهم الأعمش في رواة القطعي ويعقوب بنصب ﴿سواءً﴾، وجر العاكف على أنه صفة للناس؛ أي: جعلناه للناس العاكف والبادي سواء. وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفًا، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف.
واختلفوا في معنى الآية (٣)، فقيل: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ في تعظيم حرمته وقضاء النسك به، وإليه ذهب مجاهد والحسن، وجماعة قالوا: والمراد منه نفس المسجد الحرام. ومعنى التسوية: هو التسوية في تعظيم الكعبة، وفي فضل الصلاة فيه والطواف به.
وعن جبير بن مطعم، أن النبي - ﷺ - قال: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قالوا: والمراد بالمسجد الحرام، جميع الحرم. وعلى القول الأول، الأقرب إلى الصواب، أنه يجوز بيع دور مكة وإجارتها، وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وإليه ذهب الشافعي واحتج الشافعي في ذلك بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أضاف الديار إلى مالكيها، وقال النبي - ﷺ -، يوم فتح مكة: "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن" فنسب الديار إليهم نسبة ملك، واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بمكة، بأربعة آلاف درهم، فدلت هذه النصوص على جواز بيعها.
والحاصل: أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين:
الأصل الأول: ما في هذه الآية هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه، أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص، كما ذكرناه مفصلًا.
والأصل الثاني: هل كان فتح مكة صلحًا أو عنوة، وعلى فرض أن فتحها كان عنوة، هل أقرها النبي - ﷺ - في يد أهلها على الخصوص، أو جعلها لمن نزلها على العموم. وخبر أن محذوف؛ أي: معذبون، كما يدل عليه آخر الآية.
وقيل (٣): المفعول محذوف، والجار والمجرور في الموضعين، حالان من فاعل يرد؛ أي: ومن يرد فيه مرادًا ما حال كونه مائلاً عن القصد والعدل ملتبسًا بظلم. وقرأت فرقة ﴿ومن يرد﴾ بفتح الياء من الورود، وحكاها الكسائي والفرَّاء، ومعناه: ومن أتى به بإلحاد ظالمًا ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ جواب ﴿مَن﴾ الشرطية؛ أي: ومن يرد فيه أن يميل إلى الظلم في المسجد الحرام، فيعصي الله ويخالف أوامره.. يذقه يوم القيامة العذاب الموجع له.
وخلاصة ذلك: أن الله سبحانه وتعالى توعد الكفار الذين يصدون عن الدين، ويمنعون الناس عن اعتناقه، ويحولون بين الناس ودخول مكة، بالعذاب المؤلم لهم يوم القيامة، كما توعد بذلك من يرتكب الذنوب والآثام في المسجد الحرام.
وقد اختلف (٤) في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل: هو الشرك، وقيل: هو الشرك والقتل، وقيل: صيد حيواناته وقطع أشجاره. وقيل: هو الحلف فيه بالأيمان الفاجرة، وقيل: المراد المعاصي فيه على العموم، وقيل المراد بهذه
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
٢٦ - ولما ذكر سبحانه (١) حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام، وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد.. ذكر حال أبيهم إبراهيم، وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه؛ من كفرهم باتخاذ الأصنام، وامتنانه عليهم بإيفاد العالم إليهم، فقال: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله وعن دخول المسجد الحرام، إذ بوأنا وبيَّنا لإبراهيم الخليل عليه السلام مكان البيت؛ أي: أذكر لهم الوقت الذي بينا فيه لإبراهيم مكان البيت، وأريناه أصله وأساسه ليبنيه، وكان البيت (٢) قد درس بالطوفان، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام.. أمره الله ببنائه، فجاء إلى موضعه، وجعل يطلب أثرًا، فبعث الله له ريحًا هفافةً، فكشفت عن أساس آدم، فرتب قواعده عليه. وقيل: بعث الله تعالى سحابة بقدر البيت، فقامت بحيال البيت، وفيها رأس يتكلم: يا إبراهيم! ابن على دوري فبنى عليه. اهـ. "خطيب".
وكانت الأنبياء بعد رفعه يحجون مكانه، ولا يعلمونه حتى بوأه الله وبينه لإبراهيم، فبناه على أساس آدم، وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعهم، وأدخل الجحر في البيت، ولم يجعل له سقفًا، وجعل له بابًا، وحفر له بئرًا، يلقى فيها ما يهدى للبيت، وبناه قبله شيث، وقبل شيث آدم، وقبل آدم الملائكة، ثم بعد إبراهيم بنته قريش، وكان بناؤه هذه المرة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، ثم بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ثم بناه الحجاج، وهو البناء الموجود الآن.
وقال المحدث الكازروني في "مناسكه": إنَّ هذا (٣) البيت خامس خمس
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
والمراد بذكر الوقت (١): ذكر ما وقع فيه من حوادث جسام؛ ليتذكروا فيقلعوا عن غيهم، ويرعووا إلى رشدهم، ويستبين لهم عظيم ما ارتكبوا من خطأ، وكبير ما اجترحوا من جرم، بصدهم الناس عن بيت بناه أبوهم، وجعله الله قبلةً للناس في الصلاة، ومكانًا للطواف حين أداء شعيرة الحج: و ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ زائدة، والجملة مقول لقول محذوف؛ أي: وقلنا له لا تشرك بي في بناء البيت شيئًا من الأغراض، ولا تجعل لي في العبادة شريكًا من خلقي من الأوثان وغيرها، أو المعنى: واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ ومرجعًا للعمَّارة وللعبادة؛ بأن يكون موحداً بقلبه لرب البيت عن الشريك، مشتغلًا بجسده بعمارة البيت وتنظيفه عن الأوثان، وذلك أن جرهمًا والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك (٢): ﴿أن لا يشرك﴾ بالياء؛ أي: وأمرناه أن لا يشرك بي شيئًا ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾؛ أي: وقلنا له طهر بيتي من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات؛ أي: نزهه عن أن يعبد فيه صنم، وهذا أمر بإظهار التوحيد. وقرأ نافع وحفص وهشام ﴿بَيْتِيَ﴾ بفتح الياء. ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ حوله ﴿وَالْقَائِمِينَ﴾؛ أي: وللمصلين إليه، ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ جمع راكع وساجد؛ أي: وللمصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود. وصرح بهذه الثلاثة لكونها أعظم أركان الصلاة. والمراد بالقائمين هنا، هم المصلون، وذكر الركع السجود بعده لبيان أركان الصلاة، دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه.
(٢) البحر المحيط.
٢٧ - ﴿و﴾ قلنا له ﴿أذن﴾؛ أي: ناد ﴿فِي النَّاسِ﴾ بدعوة ﴿الحج﴾ والأمر به وقرأ الجمهور ﴿وَأَذِّنْ﴾ بالتشديد من أذن من باب فعل المضعف؛ أي: ناد. روي أنه صعد أبا قبيس، فقال: يا أيها الناس، حجوا بيت ربكم. وقرأ الحسن وابن محيصن ﴿وَأَذِّنْ﴾ بمد الهمزة وتخفيف الذال من آذن، من باب أفعل كأكرم؛ أي: أعلم. وقرأ الجمهور ﴿بِالْحَجِّ﴾ بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها.
قال الواحدي (٢): قال جماعة من المفسرين: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا رب من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعلي البلاغ، فعلا المقام فأشرف به، حتى صار كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينًا وشمالًا وشرقًا وغربًا، وقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت، فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء.. لبيك اللهم لبيك.
وقال ابن عباس (٣): وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذٍ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم عليه السلام يومئذٍ. زاد غيره: فمن لبى مرة.. حج مرة، ومن لبى مرتين.. حج مرتين، ومن أكثر.. حج بقدر تلبيته.
قال في "أسئلة الحكم": فأجابوه من ظهور الآباء، وبطون الأمهات في عالم الأرواح.
وفي "الخصائص الصغرى": وافترض على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل، وهو الوضوء والغسل من الجنابة والحج والجهاد. وما وجب في حق نبي.. وجب في حق أمته، إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية.
(٢) الشوكاني.
(٣) قسطلاني.
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ معطوف على ﴿رِجَالًا﴾؛ أي: يأتونك حالة كونهم مشاة على أرجلهم، وركباناً على كل بعير ضامر؛ أي: مهزول أتعبه بُعدُ السفر. ﴿يَأْتِينَ﴾ تلك الضوامر، صفة لضامر باعتبار المعنى؛ لأن المعنى على ضوامر من جماعة الإبل يأتين. ﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ﴾؛ أي: طريق واسع ﴿عَمِيقٍ﴾؛ أي: بعيد.
وقرأ الجمهور (١): ﴿رِجَالًا﴾ بكسر الراء مع التخفيف. وقرأ ابن أبي إسحاق ﴿ورجالا﴾ بضم الراء وتخفيف الجيم، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع كـ: ظُؤار.
وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم، ﴿رُجَّالا﴾ وعن عكرمة أيضًا ﴿رَجَالى﴾ على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة. وقرأ مجاهد ﴿رُجالى﴾ على وزن فعالى مثل كُسالى. وقرأ الجمهور: ﴿يأتين﴾ بضمير الإناث اعتبارًا بمعنى الضامر. وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة ﴿يأتون﴾ على أنه صفة لرجالًا. وقر ابن مسعود ﴿معيق﴾ وهو بمعنى (٢): بعيد يقال: بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى.
والمعنى: أي وقلنا له: ناد الناس داعيًا لهم إلى الحج، وزيارة هذا البيت،
(٢) البيضاوي.
٢٨ - ثم بين السبب في هذه الزيارة فقال: ﴿لِيَشْهَدُوا﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتُوكَ﴾، وقيل: بقوله: وأذن الشهود هو الحضور؛ أي: ليحضروا ﴿مَنَافِعَ﴾ كائنة ﴿لَهُمْ﴾ من المنافع الدينية والدنيوية، وهي العفو والمغفرة والتجارة في أيام الحج، فتنكيرها؛ لأن المراد بها نوع من المنافع، مخصوص بهذه العبادة، لا يوجد في غيرها من العبادات. وقيل: المراد بها المناسك. وقيل: المغفرة. وقيل: التجارة كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وعن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج، فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
﴿وَيَذْكُرُوا﴾ معطوف على يشهدوا؛ أي: وليذكروا عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها ﴿اسْمَ اللَّهِ﴾ تعالى، وفي جعله (١) غاية للإتيان، إيذان بأنه الغاية القصوى دون غيره. ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ هي أيام النحر، يوم العيد وأيام التشريق، كما يفيد ذلك قوله: ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾؛ أي: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ أي: لأجل ما رزقهم وهي الإبل والبقر والغنم، وقيل: عشر ذي الحجة. و ﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ هي الأنعام، فالإضافة فيه. كالإضافة في مسجد الجامع. والأنعام جمع نعم، وهو مختص بالإبل، وتسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة، لكن الأنعام يقال: للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها، أنعام حتى يكون في جملتها الإبل.
والمراد بالذكر (٢): ما وقع عند الذبح، علق الفعل بالمرزوق، وبينه بالبهيمة تحريضًا على التقرب، وتنبيهًا على مقتضى الذكر، والبهيمة اسم لكل ذات أربع في البحر والبر، فبينت بالأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم؛ لأن الهدي والذبيحة لا يكونان من غيرها.
(٢) روح البيان.
وفي "الخطيب": ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾؛ أي: من لحومها أمر إباحة، وذلك أن الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئًا، فأمر الله تعالى بمخالفتهم. واتفق العلماء، على أن الهدى، إذا كان تطوعًا يجوز للمهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع، واختلفوا في الهدى الواجب بالشرع، مثل دم التمتع والقران والدم الواجب بإفساد الحج، وفوته وجزاء الصيد، هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئًا؟، قال: الشافعي - رحمه الله -: لا يأكل منه شيئًا، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر. وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما سوى ذلك، وبه قال: أحمد وإسحاق، وقال مالك: يأكل من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه، إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر، وعن أصحاب أبي حنيفة، أنه يأكل من دم التمتع والقران، لكونها دم الشكر لا دم الجناية، ولا يأكل من واجب سواهما، اهـ. وكذا لا يأكل أولاده وأهله وعبيده وإماؤوه، وكذا الأغنياء إذ الصدقة الواجبة حقٌّ للفقراء.
والأمر في قوله: ﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ﴾ للوجوب؛ أي: وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس وشدة وزمانة، ﴿الْفَقِيرَ﴾؛ أي: المحتاج، فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح. فالبائس الشديد الفقر، والفقير المحتاج الذي أضعفه الإعسار ليس له غنى، أو البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون
٢٩ - قوله: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ عطف على يذكروا؛ أي: ثم بعد خروجهم من الإحرام، ليقطعوا أدرانهم، ويزيلوا أوساخهم، بحلق الرأس وقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال؛ أي: الخروج من الإحرام. فالتفث الوسخ، يقال للرجل: ما أتفثك، وما أدرنك؛ أي: وما أوسخك، وكل ما يستقذر من الشعث، وطول الظفر ونحوهما تفث.
﴿وَلْيُوفُوا﴾؛ أي: وليؤدوا ﴿نُذُورَهُمْ﴾؛ أي: ما أوجبوه على أنفسهم من أعمال البر، في أيام الحج مما لا يقتضي الحج وجوبه من الضحايا وغيرها، والنذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب. وقرأ (١) أبو بكر وشعبة عن عاصم ﴿وَلْيُوفُّوا﴾ بفتح الواو وتشديد الفاء وتسكين اللام.
﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ طواف الركن الذي يتم به التحلل، فإنه قرينة قضاء التفث ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾؛ أي: القديم، فإنه أول بيت وضع للناس، أو المعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فعصمه الله، وأما الحجاج الثقفي، فإنما قصد إخراج ابن الزبير - رضي الله عنهما - حين تحصن به، لا التسلط عليه، ولما قصد التسلط عليه أبرهة، فعل به ما فعل.
فصل
واعلم: أن طواف الحجاج ثلاثة:
الأول: طواف القدوم: وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعًا، يرمل
والثاني: طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق، ويسمى أيضًا طواف الزيارة، وهو ركن لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.
والثالث: طواف الوداع، لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعًا، فمن تركه فعليه دم، إلا المرأة الحائضة، فإنه يجوز لها ترك طواف الوداع، ثم إن الرمل يختص بطواف القدوم، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع.
والمعنى: أي ثم ليزيلوا ما علق بهم من الأوساخ، فيحلقوا الشعر ويقلموا الأظفار ويأخذوا من الشوارب والعارضين، وليوفوا ما نذروه من أعمال البر، وليطوفوا طواف الإفاضة أو الوداع بالبيت العتيق، إذ هو أقدم بيت للعبادة في حياة البشر. وفي قراءة (١) أبي عمرو تحريك اللامات الثلاثة بالكسر، وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين، وفي قراءة الباقين بإسكان الكل.
٣٠ - وقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أي: الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من قوله: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا﴾ إلى قوله: ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ فإن هذه الآية مشتملة على الأحكام المأمور بها، والمنهي عنها، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين، أو بين وجهي كلام واحد، أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: ذلك الأمر المذكور لازمٌ لكم، أو مفعول لمحذوف، أي: احفظوا ذلك ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ أي: جميع تكاليف الله تعالى، من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه، جمع (٢) حرمة، وهي ما لا يحل هتكه، وهو خرق الستر عما وراءه؛ أي: يعظم أحكامه وفرائضه وسننه، وسائر ما لا يحل هتكه، كالكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام، بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه. ﴿فَهُوَ﴾؛ أي: التعظيم المفهوم من يعظم ﴿خَيْرٌ لَهُ﴾ ثوابًا {عِنْدَ
(٢) روح البيان.
وقيل: إن صيغة التفضيل هنا (١) لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به، فهي عدة بخير، أي: فالتعظيم خير له عند ربه، أي: قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها. وفي الآية، إشارة (٢) إلى أن تعظيم حرمات الله، هو نفس تعظيم الله تعالى، في ترك ما حرمه الله عليه، وفعل ما أمره به. يقال: بالطاعة يصل العبد إلى الجنة، وبالحرمة يصل إلى الله، ولهذا قال: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ يعني تعظيم الحرمة، والتكاليف، خير للعبد، في التقرب إلى الله، من تقربه بالطاعة. ويقال: ترك الخدمة يوجب العقوبة. وترك الحرمة يوجب الفرقة. ويقال: كل شيء من المخالفات، فالعفو فيه مساغ وللأمل فيه طريق، وترك الحرمة على خطر أن لا يغفر ذلك، وذلك بأن يؤدي شؤمه لصاحبه إلى أن يختل دينه وتوحيده. والمعنى؛ أي: هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت، هو الفرض الواجب عليكم أيها الناس في حجكم، ومن يجتنب ما أمر باجتنابه في حال إحرامه تعظيمًا منه لحدود الله، أن يواقعها، وحرمه أن يستحلها فهو خير له عند ربه في الآخرة، بما يناله من رضاه وجزيل ثوابه.
﴿وَأُحِلَّتْ﴾؛ أي: جعلت حلالاً وهو من حل العقدة، ﴿لَكُمُ﴾؛ أي: لمنافعكم ﴿الْأَنْعَامُ﴾ وهي الأزواج الثمانية على الإطلاق، من الضأن اثنين، أي: الذكر والأنثى، ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فالخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام. ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى﴾ ويقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ تحريمه في آية ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ في سورة المائدة.
أي: وأحل لكم (٣) أيها الناس، أن تأكلوا الأنعام إذا ذكيتموها، فلم يحرم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والفاء في قوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ تفريعية (١) على قوله: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ فلما حث على المحافظة على حدود الله، وترك الشرك تفرع عنه هذا، اهـ. "شهاب".
أي: وابتعدوا عن الرجس الذي هو الأوثان واتركوا عبادتها، فإنها سبب الرجس الذي هو العذاب، أو هي الرجس الذي هو النجس؛ لأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات؛ أي: فاجتنبوا عبادة الرجس والنجس الذي هو الأوثان. والرجس الشيء القذر، يقال: رجل رجس ورجال أرجاس والرجس يكون على أربعة أوجه، إما من حيث الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشريعة، وإما من كل ذلك، كالميتة فإنها تعاف طبعًا وعقلًا وشرعًا. والرجس من جهة الشرع: الخمر والميسر والأوثان، وهي جمع وثن، وهو حجارة كانت تعبد، كما في "المفردات" وقال بعضهم (٢): الفرق بينه وبين الصنم: أن الصنم هو الذي يؤلف من شجر، أو ذهب، أو فضة في صورة الإنسان. والوثن هو الذي ليس كذلك، وأصله من وثن الشيء؛ أي: أقام في مقامه، وسمي الصليب وثنًا؛ لأنه ينصب ويركز في مقامه، فلا يبرح عنه.
قال في "الإرشاد": قوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا...﴾ إلخ، مرتب على ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ من وجوب مراعاتها والاجتناب عن هتكها،
(٢) روح البيان.
٣١ - ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾ حال من واو فاجتنبوا؛ أي؛ حال كونكم مائلين عن كل دين، زائغ إلى الدين الحق مخلصين له ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ شيئًا من الأشياء، كما يفيده الحذف من العموم، فيدخل في ذلك الأوثان دخولًا أوليًا، وهو حال أخرى من الواو، لكن الأولى مؤسسة، والثانية مؤكدة، فدل ذلك، على أن المكلف ينوي بما يأتيه من العبادة، الإخلاص لله بها لا غيره. والمعنى: أي (٢): فابتعدوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، فإن ذلك رجس، واتقوا قول الكذب والفرية على الله، كقولكم في الآلهة ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ وقولكم: الملائكة بنات الله، ونحو هذا من القول، فإن ذلك كذب وزور، وشرك بالله، وقوله: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾؛ أي: تمسكوا بهذه الأمور على وجه العبادة لله وحده، دون إشراك أحد سواه معه. ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان، وقول الزور.. ضرب مثلًا للمشرك فقال: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ سبحانه غيره تعالى، قولًا
(٢) المراغي.
ومعنى الآية: أن (١) من أشرك مع الله غيره، فقد أهلك نفسه هلاكًا، ليس وراءه هلاك، وكانت حاله أشبه بحال من سقط من السماء، فتخطفه الطير، ففرقت أجزاءه في حواصلها إربًا إربًا، أو عصفت به الريح، فهوت به في المهاوي البعيدة، التي لا رجعة له منها.
وقيل (٢): شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء؛ لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة؛ إما باستلاب الطير لحمه، أو بسقوطه في المكان السحيق.
وقرأ نافع (٣): ﴿فَتَخَطَّفَه﴾ بفتح الخاء والطاء مشددة. وقرأ الجمهور: ﴿فَتَخْطَفُهُ﴾ بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش: بكسر التاء والخاء والطاء مشددة. وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضًا: ﴿تَخْطَفُهُ﴾ بغير فاءٍ وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة. وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع.
٣٢ - وقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، كما مر نظيره؛ أي: الأمر والشأن ذلك الذي ذكر، من أن تعظيم حرمات الله خير، وأن الاجتناب عن الشرك، وقول الزور أمر لازم، امتثلوا ذلك واحتفظوا عليه ولا تتهاونوا في الحرص عليه، والسير على نهجه.
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ ومعالم دينه التي منها الهدايا المشعرة، فإنها من
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: أي (٢) ومن يعظم البدن التي يهديها للحرم، بأن يختارها عظيمة الأجسام سمينة غير هزيلة، غالية الثمن، ويترك المكاس حين شرائها.. فقد اتقى الله حقًا، فإن تعظيمها باب من أبواب التقوى، بل هو من أعظم أبوابها. وقرىء ﴿القلوبُ﴾ بالرفع على الفاعلية، بالمصدر الذي هو تقوى. روي أن النبي - ﷺ - أهدى مئة بدنة، فيها جمل لأبي جهل في أذنه برة (حِلَقٌ) من ذهب. وأنَّ عمر أهدى نجيبة (ناقة) طلبت منه بثلاث مئة دينار وقد سأل رسول الله - ﷺ - أن يبيعها، ويشتري بثمنها بهماً، فنهاه عن ذلك، وقال: بل أهداها. وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي - ثياب مصرية غالية الثمن - فيتصدق بلحومها وبجلالها.
٣٣ - ﴿لَكُمْ﴾ أيها السائقون للهدايا إلى الحرم ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الهدايا المشعرة ليعرف أنها هدى ﴿مَنَافِعُ﴾ في درها ونسلها وصوفها وظهرها، فإن للمهدي أن ينتفع بهديه إلى وقت النحر، إذا احتاج إليه. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ووقت معين معلوم هو وقت نحرها والتصدق بلحمها، والأكل منه. ﴿ثُمَّ﴾ بعد تلك المنافع المذكورة ﴿مَحِلُّهَا﴾؛ أي: مكان حل نحرها ﴿إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾؛ أي: عند البيت، فإلى بمعنى عند، كما في "الفتوحات"؛ أي: عند الحرم
(٢) المراغي.
والمعنى (١): أي لكم في تلك الهدايا منافع، كركوبها حين الحاجة، وشرب ألبانها حين الضرورة إلى أن تنحر، ويؤكل منها، ويتصدق بلحومها، ثم مكان حل نحرها عند البيت العتيق؛ أي: عند الحرم جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت كما مر آنفًا. وقيل: المعنى: ثم بعد انتفاعكم بها محلها؛ أي: حلول تلك الهدايا، ونزولها ونهاية أمرها وحياتها إلى حرم البيت العتيق؛ لأنها تذبح في الحرم. والعتيق (٢) المتقدم في الزمان والمكان والرتبة. أخرج البخاري في "تاريخه"، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، وابن جرير والطبري وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنما سماه الله البيت العتيق؛ لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط" وإلى هذا ذهب قتادة، وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشير إليه أن يكف عنه، وقيل له: "إن له ربا يمنعه"، فتركه وكساه، وهو أول من كساه. وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه.
٣٤ - ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم، لا لبعض منهم دون بعض، فالتقديم للتخصيص. ﴿جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾؛ أي: متعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله تعالى، والمراد به إراقة الدماء لوجه الله تعالى. والمعنى: شرعنا لكل أمة مؤمنة أن ينسكوا له تعالى. يقال: نسك ينسك ونسوكاً ومنسكاً بفتح السين إذا ذبح القربان. وقرأ الجمهور (٣): ﴿منسَكا﴾ بفتح السين على القياس مطلقًا؛ لأنه من باب نصر، كما سيأتي في مبحث التصريف، وقرأ بكسرها على الشذوذ الأخوان حمزة والكسائي وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو، ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه، قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ، ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من بعض العرب اهـ.
والأمة الجماعة المجتمعة على مذهب واحد. والمعنى: وجعلنا لكل أهل
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ وحده دون غيره، ويجعلوا نسكهم خالصًا لوجهه الكريم، علَّل (١) الجعل به تنبيهًا على أن المقصود الأصلي من المناسك تذكر المعبود. ﴿عَلَى﴾ ذبح ﴿مَا رَزَقَهُمْ﴾ وإعطائهم ﴿مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾؛ أي: عند ذبحها. وفي تبيين (٢) البهيمة بإضافتها إلى الأنعام، تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام، وأما البهائم التي ليست من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، فلا يجوز ذبحها في القرابين، وإن جاز أكلها، وسماها بهيمة؛ لأنها لا تتكلم. والمعنى؛ أي: وإنما شرعنا لهم ذلك كي يذكروا الله حين ذبحها، ويشكروه على ما أنعم به عليهم، إذ هو المقصود الأعظم.
وفي "الصحيحين": عن أنس أنه أُتي رسول الله - ﷺ - بكبشين أملحين فيهما بياض يخالطه سواد أقرنين، فسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما. وروى أحمد عن زيد بن أرقم قال: قلت: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: "سنة أبيكم إبراهيم". قالوا: ما لنا منها؟ قال: "بكل شعرة حسنة". قالوا: فالصوف؟ قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة".
ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له. فقال ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ والفاء فيه لترتيب ما بعدها، على ما قبلها من الجعل المذكور، وتعليله. والخطاب للكل تغليباً للمخاطبين على غيرهم؛ أي: جعلنا لكل أمة منسكًا، فإن إلهكم إله منفرد يمتنع أن يشاركه شيء في ذاته وصفاته، وإلا لاختل النظام في العالم؛ أي (٣): فإن معبودكم واحد، وإن اختلفت العبادات بحسب الأزمنة والأمكنة، ونسخ بعضها بعضًا، فما المقصد منها جميعًا إلا عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ثم أمرهم بالإسلام له والانقياد لطاعته وعبادته فقال: ﴿فَلَهُ﴾ سبحانه لا لغيره؛ لأن تقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر، والفاء فيه للأفصاح؛ أي: فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا فله ﴿أَسْلِمُوا﴾؛ أي: استسلموا لحكمه، وانقادوا له في جميع ما كفلكم به، وأخلصوا له العمل، واجعلوا التقرب أو الذكر خالصًا لوجهه الكريم، ولا تشوبوه بالإشراك. وفي "التأويلات النجمية": والإسلام يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات. ثم تصفيه الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال من الإلتفاتات، ثم تصفية الأنفاس من الأغيار انتهى.
ثم أمر رسوله - ﷺ - أن يبشر المخبتين، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾؛ أي: وبشر أيها الرسول الكريم، الخاضعين لله بالطاعة، المذعنين له بالعبودية، المنيبين إليه بالتوبة، بما أعد لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه. مأخوذٌ من الخبت، وهو المنخفض من الأرض. وقيل: إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم، وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا، ولا يخفى حسن التعبير بالمخبتين هنا، من حيث إن نزول الخبت مناسب للحجاج، لما فيهم من صفات المتواضعين، كالتجرد عن اللباس، وكشف الرأس، والغربة عن الأوطان، ولذا وصفهم بالصبر، وذكر إقامة الصلاة؛ لأن السفر مظنة التقصير فيها. اهـ. "شهاب".
٣٥ - ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين، وبين علاماتهم فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: ذكروه أو ذكره غيرهم ﴿وَجِلَتْ﴾؛ أي: خافت منه تعالى. ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ وحذرت مخالفته لإشراق أشعة جلاله عليها، وطلوع أنوار عظمته لها، وحصول الوجل منهم، عند الذكر له سبحانه، دليل على كمال يقينهم وقوة إيمانهم. ووصفهم أيضًا بالصبر، فقال: ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ من المصائب والنوائب، ومن التكاليف والمحن في طاعة الله تعالى.
قال في "بحر العلوم": الذين صبروا على البلايا والمصائب من مفارقة أوطانهم، وعشائرهم، ومن تجرع الغصص والأحزان، واحتمال المشاق والشدائد
والمعنى: أي وينفقون بعض ما آتاهم الله، من طيب الرزق في وجوه البر، وعلى أهليهم وأقاربهم، وعلى الخلق كافة، ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون في أثمانها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ﴾ بالخفض على الإضافة، وحذفت النون لأجلها وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية ﴿الصلاة﴾ بالنصب على توهم بقاء النون وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن مسعود والأعمش ﴿والمقيمين﴾ بالنون ﴿الصلاة﴾ بالنَّصْب. وقرأ الضحاك ﴿والمقيم الصلاة﴾.
وناسب (٣) تبشير من اتصف بالإخبات هنا؛ لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة، والتلبس بأفعال شاقةٍ، لا يعلم معناها إلا الله تعالى، مؤذن بالاستسلام المحض، والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى، والصبر على ما أصابهم من المشاق، وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلا المؤمنون المصطفون،
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
٣٦ - ﴿وَالْبُدْنَ﴾ منصوب بمضمر يفسره ما بعده، كقوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ﴾؛ أي: وجعلنا البدن ﴿جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾؛ أي (١): من أعلام دينه التي شرعها الله لكم، مفعول ثان للجعل، ولكم ظرف لغو متعلق به؛ أي: لأجلكم. والبدن جمع بدنة، وهي الإبل والبقر، مما يجوز في الهدي والأضاحي، سميت بها لعظم بدنها. والبدن هي الشعائر المذكورة في قوله أولًا: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ﴾.
قال في "بحر العلوم": البدنة في اللغة من الإبل خاصة، وتقع على الذكر والأنثى، وأما في الشريعة فللإبل والبقر، لاشتركهما في البدانة. والبدانة السمن. ولذا ألحق النبي - ﷺ - البقر بالإبل في الإجزاء عن السبعة، كما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة"، وأضيف الشعائر إلى اسم الله تعظيمًا لها، كبيت الله، فإن المضاف إلى العظيم عظيم.
﴿لَكُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في البدن ﴿خَيْرٌ﴾؛ أي: نفع كثير في الدنيا من درها، ونسلها، وصوفها، وظهرها، وأجر عظيم في العقبى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَالْبُدْنَ﴾ بإسكان الدال، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها، وهي الأصل، ورويت عن أبي جعفر ونافع. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا بضم الباء والدال وتشديد النون، فاحتمل أن يكون اسمًا مفردًا، بني على فعل كعتل، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف. والجمهور على نصب. ﴿والبدن﴾ على الاشتغال؛ أي: وجعلنا البدن كما مر آنفًا، وقرىء بالرفع على الابتداء.
﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾؛ أي: على نحرها بأن تقولوا عند ذبحها: الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر اللهم منك وإليك؛ أي: عطاءٌ منك، ونتقرب بها إليك، حالة كونها ﴿صَوَافَّ﴾؛ أي: قائمات قد صففن أيديهن اليمنى وأرجلهن،
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور ﴿صواف﴾ بتشديد الفاء ونصبها بلا تنوين، كدواب، جمع صافة، كدابة في دواب. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي ﴿صَوافِيَ﴾ كروابي، جمع صافية؛ أي: خوالص لوجه الله تعالى، لا تشركوا بالله أحدًا في التسمية على نحوها، وخوالص من العيوب. وقرأ عمرو بن عبيد ﴿صوافيا﴾ بالتنوين عوضًا عن حرف الإطلاق عند الوقف، قاله الزمخشري، والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف، ولا سيما الجمع المتناهي. وقرأ الحسن أيضًا ﴿صَوافٍ﴾ مثل عوارٍ، وهو على قول من قال: فكسوت عار لحمه، يريد عاريًا، وقولهم أعط القوس باريها. وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه ﴿صوافن﴾ بالنون جمع صافنة، والصافنة من الإبل هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل، لئلا تضطرب، ومن الخيل ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم، ومنه قوله تعالى: ﴿الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ﴾.
﴿فَإِذَا وَجَبَتْ﴾ وسقطت ﴿جُنُوبُهَا﴾؛ أي: جنوب البدن على الأرض بعد نحرها، وذلك عند خروج روحها، وهو كناية عن موتها، جمع جنب. ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾؛ أي: من لحومها إن شئتم إذا كانت تطوعًا، بأن لم تكن دم الجناية، والكفارة، والنذر. والأمر فيه للندب، كما ذهب إليه الجمهور. وللوجوب في قوله: ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ﴾؛ أي: الراضي بما عنده، وبما يدفع إليه من غير مسألة. ﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾؛ أي: الذي يعتر ويتعرض بالسؤال بالسلام عليك، ولا يسألك بل يرى نفسه للناس كالزائر. وقال مجاهد (١): القانع الجار وإن كان غنيًا، وقال قتادة: القانع من القناعة، والمعتر المتعرض للسؤال. وقيل: المعتر الصديق
والمعنى: أي (١) فإذا سقطت وزهقت أرواحها، ولم يبق لها حركة، فكلوا منها، وأطعموا القانع المستغني بما يعطونه، وهو في بيته بلا مسألة. والمعتر الذي يتعرض لكم، ويأتي إليكم لتطعموه من لحمها.
وخلاصة ذلك: كلوا وأطعموا.
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: تسخيرًا مثل ذلك التسخير البديع، المفهوم من قوله: صواف ﴿سَخَّرْنَاهَا﴾، أي: سخرنا البدن وذللناها ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: لمنافعكم مع كمال عظمها، ونهاية قوتها، فلا تستعصي عليكم حتى تأخذوها منقادةً، فصارت منقادة لكم إلى مواضع نحرها، فتعقلونها، وتحبسونها صافة قوائمها، ثم تطعنون في لباتها؛ أي: مناحرها من الصدور، ولولا تسخير الله لم تطق. ولم تكن أعجز من بعض الوحوش، التي هي أصغر منها جرمًا وأقل قوة، وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحصل عليها، والركوب على ظهرها، والحلب لها، ونحو ذلك.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: لكي تشكروا إنعامنا عليكم، بالتقرب والإخلاص في أعمالكم،
٣٧ - ولما كان أهل الجاهلية ينضحون البيت؛ أي: الكعبة بدماء قرابينهم، ويشرحون اللحم ويضعونه حوله، زاعمين أن ذلك قربة، قال: نهيًا للمسلمين ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ﴾؛ أي: لن يصعد إليه، ولن يبلغ ويدرك رضاه، ولا يكون مقبولًا عنده ﴿لُحُومُهَا﴾ المأكولة، والمتصدق بها ﴿وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ المراقة بالنحر، من حيث إنها لحوم ودماء ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ﴾ سبحانه ﴿التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ وهو قصد الائتمار، وطلب الرضى، والاحتراز عن الحرام والشبهة. وفيه دليل على أنه لا يفيد العمل بلا نية وإخلاص. والمعنى؛ أي: لن ينال رضا الله اللحوم المتصدق بها، ولا الدماء المراقة بالنحر، ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة،
والخلاصة: لن يرضي اللَّهَ المضحون، والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء، إلا إذا أحسنوا النية، وأخلصوا له في أعمالهم، فإذا لم يراعوا ذلك، لم تُغْنِ عنهم التضحية، والتقرب بها شيئًا، وإن كثر ذلك. فقد جاء في الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
قال الزجاج (١): أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله، ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم.
ثم كرر سبحانه التنبيه على عظم تسخيرها لافتاً أنظارهم إلى ما أوجب عليهم، بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: تسخيرًا مثل ذلك التسخير المذكور ﴿سَخَّرَهَا﴾؛ أي: سخر الله سبحانه البدن ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: لأجل منافعكم، كرره للتذكير وللتعليل بقوله: ﴿لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ سبحانه؛ أي (٢): لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحدوه بالكبرياء ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ ﴿عَلَى﴾ متعلقة بـ ﴿تكبروا﴾ لتضمنه معنى الشكر. و ﴿مَا﴾ مصدرية؛ أي: لتشكروه على هدايته إياكم إلى معالم دينه، ومناسك حجه، فتقولوا: الله أكبر على ما هدانا، ولله الحمد على ما أولانا، أو موصولة؛ أي: لتشكروه على ما هداكم إليه، وأرشدكم من معالم دينه وقضاء نسكه، وذبح قرابينه.
والمراد قول الناحر (٣): الله أكبر عند النحر، فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها. وذكر هنا: التكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير. وقيل: المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء، كما مرت الإشارة إليه آنفًا، ثم وعد من امتثل بقوله: ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمد ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
قال ابن الشيخ (١): هم الذين يعبدون الله، كأنهم يرونه، يبتغون فضله، ورضوانه، لا يحملهم على ما يأتونه، وما يذرونه إلا هذا الابتغاء، وإمارة ذلك، أن لا يستثقل ولا يتبرم بشيء مما فعله، أو تركه، والمقصود منه، الحث والتحريض على استصحاب معنى الإحسان، في جميع أفعال الحج.
وقرأ مالك بن دينار والأعرج ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وابن أبي عبلة ويعقوب والزعفراني (٢): ﴿لن تنال الله لحومها﴾ بالتاء ﴿ولكن تناله التقوى﴾ بالتاء أيضًا. وقرأ زيد بن علي: ﴿لحومها ولا دماءها﴾ بالنصب ﴿ولكن يناله﴾ بضم الياء، فمن قرأ: ﴿تناله التقوى﴾ بالتاء، فإنه أنث للفظ التقوى، ومن قرأ ﴿يناله﴾ بالياء، فلأن التقوى والتقى واحدٌ. قال المفسرون (٣): ومعنى الآية، لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها، وإنا يرفع إليه التقوى، وهو ما أريد وجهه منكم؛ أي: لا يرفع نفس اللحم والدم، وإنما يرفع العمل الصالح، ومنه التصدق باللحم، فالتصدق من عمل العبد فيرفع إلى الله، وأما نفس اللحم المتصدَّق به فلا يرفع. والمعنى: أنه لا يثيبكم على لحمها، إلا إذا وقع موقعًا من وجوه الخير اهـ. شيخنا.
الإعراب
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)﴾.
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
(٣) زاد المسير.
﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢)﴾.
﴿كُلَّمَا﴾: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بالجواب. ﴿أَرَادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿كُلَّمَا﴾، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَنْ يَخْرُجُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل. ﴿مِنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿يَخْرُجُوا﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية، في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: كلما أرادوا الخروج منها. ﴿مِنْ غَمٍّ﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله، بدل اشتمال؛ لأنها تشمل عليه. ويجوز أن تكون من للتعليل، فتتعلق بـ ﴿يَخْرُجُوا﴾ أيضًا؛ أي: أن يخرجوا من النار، لأجل الغم الذي لحق بهم. ﴿أُعِيدُوا﴾: فعل ماض ونائب فاعل. ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية جواب كلما، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كُلَّمَا﴾ مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في النار. ﴿وَذُوقُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، والقول المحذوف معطوف على ﴿أُعِيدُوا﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها. ﴿يُدْخِلُ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول
﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤)﴾
﴿وَهُدُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿هدوا﴾. فعل ونائب فاعل، معطوف على
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب، واسمه ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾ على تأويله بالماضي لعطفه على الماضي. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿وَيَصُدُّونَ﴾. ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: معطوف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وخبر ﴿إِنَّ﴾ محذوف، تقديره: خسروا، أو هلكوا، وقدره الزمخشري ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة معطوفة في المعنى على جملة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول في محل الجر، صفة ثانية لـ ﴿المسجد﴾. ﴿جَعَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة صلة الموصول. ﴿لِلنَّاسِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في ﴿سَوَاءً﴾؛ لأنه كان صفة وتقدم، ﴿سَوَاءً﴾: بالنصب مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾، إن جعلناه متعدياً لاثنين، وإن كانت متعدية لواحد، أعربت سواءً حالًا من هاء ﴿جَعَلْنَاهُ﴾. ﴿الْعَاكِفُ﴾ فاعل لـ ﴿سَوَاءً﴾: لأنه مصدر بمعنى مستو. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿الْعَاكِفُ﴾: أو بـ ﴿سَوَاءً﴾. ﴿وَالْبَادِ﴾: معطوف على ﴿الْعَاكِفُ﴾. مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، تبعًا لرسم المصحف العثماني، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. وقد انفرد حفص بقراءة النصب في ﴿سَوَاءً﴾. والجمهور على رفعها، على أنه خبر مقدم، و ﴿الْعَاكِفُ﴾ و ﴿وَالْبَادِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾، أو حال من هاء ﴿جَعَلْنَاهُ﴾. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُرِدْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُرِدْ﴾. ﴿بِإِلْحَادٍ﴾. الباء: زائدة ﴿إلحاد﴾ مفعول به. ﴿بِظُلْمٍ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يُرِدْ﴾، أو
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا إذ بوأنا، الجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿بَوَّأْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿لِإِبْرَاهِيمَ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ مفعول ﴿بَوَّأْنَا﴾، واختار أبو البقاء، وغيره، أن تكون اللام: زائدة؛ أي: أنزلناه مكان البيت، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وأما على القول الأول، فيكون معنى ﴿بَوَّأْنَا﴾ هيأنا. ﴿أَنْ﴾ زائدة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة ﴿تُشْرِكْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿بِي﴾ متعلق بـ ﴿تُشْرِكْ﴾ ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به لـ ﴿تُشْرِكْ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، تقديره: قائلين له لا تشرك بي شيئًا، ويصح أن تكون ﴿أَنْ﴾ مفسرة، لوقوعها بعد قول مقدر؛ أي: قائلين أن لا تشرك. ﴿وَطَهِّرْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿إبراهيم﴾. ﴿بَيْتِيَ﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تُشْرِكْ﴾. ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ متعلق بـ ﴿طهر﴾. ﴿وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ﴾ معطوفان على ﴿الطائفين﴾. ﴿السُّجُودِ﴾ صفة لـ ﴿الركع﴾. والأولى أن تجعل الكلمتان، بمثابة الكلمة الواحدة؛ لأنهما عملان في عمل واحد، وهو الصلاة. ﴿وَأَذِّنْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير
﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)﴾
﴿لِيَشْهَدُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل ﴿يشهدوا﴾. فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد (لام كي). و ﴿الواو﴾ فاعل. ﴿مَنَافِعَ﴾ مفعول به ﴿لَهُمْ﴾ صفة لـ ﴿مَنَافِعَ﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لشهودهم منافع لهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَأْتُوكَ﴾ ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ فعل وفاعل ومفعول به. معطوف على ﴿يشهدوا﴾. ﴿فِي أَيَّامٍ﴾: متعلق بـ ﴿يذكروا﴾. ﴿مَعْلُومَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿أَيَّامٍ﴾. ﴿رَزَقَهُمْ﴾ صفة لـ ﴿أَيَّامٍ﴾ ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يذكروا﴾ أيضًا، وعلى تعليلة هنا. ﴿رَزَقَهُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول من ﴿مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾، متعلق بـ ﴿رَزَقَهُمْ﴾. ﴿فَكُلُوا﴾ الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فاذكروا اسم الله على ضحاياكم، عند ذبحها فكلوا منها ﴿كلوا﴾: فعل وفاعل معطوف على تلك الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة، ويصح أن تكون الفاء: للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم تذكرون اسم الله عليها، وعرفتم بيان ما تفعلون بها بعد الذبح..
﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿لْيَقْضُوا﴾ اللام، لام الأمر. ﴿يقضوا﴾. فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر. ﴿تَفَثَهُمْ﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على جملة ﴿يذكروا﴾. ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر، معطوف على ﴿يقضوا﴾. ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، معطوف على ﴿يقضوا﴾ أيضًا ﴿بِالْبَيْتِ﴾: متعلق بـ ﴿يطوفوا﴾. ﴿الْعَتِيقِ﴾ صفة لـ ﴿البيت﴾.
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر والشأن ذلك المذكور، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: ذلك الأمر الذي ذكرته. وقيل: في موضع نصب بمحذوف، تقديره: امتثلوا ذلك. وعلى كل التقادير فالجملة مستأنفة. وهذا مثل فعل من يكتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر، يقول: هذا وقد كان كذا، وفائدة هذا، أنه يذكر للفصل بين كلامين، أو بين وجهي كلام واحد. ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ﴾ الواو استئنافية: ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ: والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر، يعود على ﴿مَن﴾ مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها: ﴿فَهُوَ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿هُوَ خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾ ظرف متعلق بمحذوف، حال من الضمير المستكن في خير؛ أي: حال كونه مدخرًا له عند
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١)﴾.
﴿حُنَفَاءَ﴾: حال مؤسسة من ضمير ﴿اجتنبوا﴾. ﴿لِلَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿حُنَفَاءَ﴾ ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ﴾: حال مؤكدة منه. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿مُشْرِكِينَ﴾. ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ﴾ الواو استئنافية. ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُشْرِكْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَن﴾، على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُشْرِكْ﴾. ﴿فَكَأَنَّمَا﴾ الفاء رابطة الجواب جوازًا. ﴿كأن﴾ حرف نصب وتشبيه، ولكن بطل عملها لدخول ما الكافة عليها. ﴿مَا﴾ كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿خَرَّ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ متعلق بـ ﴿خَرَّ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية مستأنفة مسوقة لضرب المثل لمن يشرك بالله.
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر والشأن، ذلك المذكور السابق، والجملة مستأنفة، وهو نظير ما سبق في أوجه الإعراب السابقة وفي فائدته. ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ﴾ الواو استئنافية. ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يُعَظِّمْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿شَعَائِرَ اللَّهِ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿فَإِنَّهَا﴾ الفاء رابطة الجواب وجوبًا. ﴿إن﴾ حرف نصب، والهاء اسمها ﴿مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. والعائد على ﴿من﴾ محذوف، تقديره منهم أو منه، نظرًا للفظ ﴿من﴾، ومن جوز إقامة ألْ مقام الضمير، وهم الكوفيون أجاز ذلك هنا، والتقدير من تقوى قلوبهم، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾ حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿مَنَافِعُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير فإنها. ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿مَنَافِعُ﴾. ﴿مُسَمًّى﴾ صفة لِـ ﴿أَجَلٍ﴾. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ. ﴿مَحِلُّهَا﴾ مبتدأ. ﴿إِلَى الْبَيْتِ﴾ خبر. ﴿الْعَتِيقِ﴾ صفة لـ ﴿البيت﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾. ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ الواو استئنافية. ﴿لكل أمة﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف مفعول ثان، لـ ﴿جَعَلْنَا﴾ مقدم عليه. ﴿جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير التشريع الخاص بكل أمة، ونوع التعبد الذي يتقربون به إلى الله.
﴿لِيَذْكُرُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿اسْمَ اللَّهِ﴾ مفعول به ﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يذكروا﴾. ﴿رَزَقَهُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ متعلق بـ ﴿رَزَقَهُمْ﴾، وجملة ﴿رَزَقَهُمْ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، وجملة ﴿يذكروا﴾ مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لذكرهم اسم الله. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿فَإِلَهُكُمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنا جاعلون منسكًا لكل أمة، وأردتم بيان إلهكم، فأقول لكم إلهكم إله واحد. ﴿إلهكم﴾ مبتدأ. ﴿إِلَهٌ﴾ خبره. ﴿وَاحِدٌ﴾ صفة إله، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَلَهُ﴾، الفاء: حرف عطف وتفريع، ويصح كونها فصيحة كما مر في مبحث التفسير. ﴿له﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَسْلِمُوا﴾. ﴿أَسْلِمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿إلهكم﴾. ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَسْلِمُوا﴾.
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿الْمُخْبِتِينَ﴾، أو بدل منه. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿ذُكِرَ اللَّهُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فعل وفاعل. والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا صلة الموصول، والعائد ضمير قلوبهم. ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ معطوف على الموصول. ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿الصابرين﴾. ﴿أَصَابَهُمْ﴾. فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ﴾ معطوف على الموصول أيضًا. ﴿الصَّلَاةِ﴾: مضاف
﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾.
﴿وَالْبُدْنَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿وَالْبُدْنَ﴾ مفعول لفعل محذوف وجوبًا. يفسره المذكور بعده، على سبيل الاشتغال، تقديره: وجعلنا البدن جعلنا فعل وفاعل، البدن مفعوله، والجملة مستأنفة. ﴿جَعَلْنَاهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنَاهَا﴾. ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلْنَاهَا﴾ التي هي بمعنى التصيير، والجملة الفعلية جملة مفسرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿خَيْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر؛ والجملة في محل النصب حال إما من هاء جعلناها، وإما من شعائر الله. وهذان مبنيان على أن الضمير في فيها، هل هو عائد على البدن، أو على شعائر؟ والأول قول الجمهور. اهـ "سمين".
﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
﴿فَاذْكُرُوا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن البدن من شعائر الله، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: اذكروا اسم الله. ﴿اذكروا اسم الله﴾ فعل وفاعل ومفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿اذكروا﴾. ﴿صَوَافَّ﴾ حال من الهاء في عليها، ولم ينون؛ لأنه اسم لا ينصرف؛ لأنه على صيغة منتهى المجموع. ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ﴾ الفاء:
﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)﴾.
﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا﴾: ناصب وفعل ومفعول وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿وَلَا دِمَاؤُهَا﴾: معطوف على لحومها. ﴿وَلَكِنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك. ﴿يَنَالُهُ التَّقْوَى﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من ﴿التَّقْوَى﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف. ﴿سَخَّرَهَا﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿سَخَّرَهَا﴾، والجملة مستأنفة، والتقدير: سخرها الله سبحانه لكم، تسخيرًا، مثل ذلك التسخير المذكور. ﴿لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ اللام: حرف جر وتعليل ﴿تكبروا الله﴾ فعل وفاعل ومفعول به، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره لتكبيركم إياه، الجار والمجرور متعلق بسخرها. ﴿عَلَى﴾ حرف جر. ﴿مَا﴾ مصدرية، أو
التصريف ومفردات اللغة
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ واحده خصم، وهو من له رأي غير رأيك في موضوع ما، وكل منهما يحاج صاحبه فيه. وفي "السمين" الخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبًا، وعليه قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١)﴾ ويجوز أن يثنى ويؤنث، وعليه هذه الآية. ولما كان كل خصم فريقًا يجمع طوائف، قال: اختصموا بصيغة الجمع، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ فالجمع مراعاة للمعنى.
﴿قُطِّعَتْ لَهُمْ﴾؛ أي: قدرت لهم على قدر جثثهم؛ لأن الثياب الجدد تقطع وتفصل على مقدار بدن من يلبسها، فالتقطيع مجاز عن التقدير بذكر المسبب، وهو التقطيع. وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين، كما سيأتي في مبحث البلاغة. ﴿الْحَمِيمُ﴾: قال الراغب: الحميم، الشديد الحرارة، وسمي العرق حميمًا على التشبيه، واستحم الفرس إذا عرق، وسمي الحمام حمامًا، إما لأنه يعرق، وإما لما في من الماء الحار، وسميت الحمى بذلك، إما لما فيها من الحرارة المفرطة، وإما لما يعرض فيها من الحميم؛ أي: العرق، وإما لكونها من إمارات الحمام؛ أي: الموت.
﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الحميم من فرط الحرارة، يقال: صهرت الشيء فانصهر؛ أي: أذبته فذاب فهو صهير. والصهر إذابة الشيء، والصهارة ما ذاب منه، يقال: صهرت الشحم من باب قطع إذا أذبته، والصهارة الألية المذابة، وصهرته الشمس أذابته. ﴿مَقَامِعُ﴾ جمع مقمعة بكسر الميم، وهي آلة القمع، يقال: قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره ويذله. والمقمعة المطرقة،
﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ والمراد به مكة، وعبر به عنها؛ لأنه المقصود المهم منها ﴿بِإِلْحَادٍ﴾ وفي "المختار" ألحد في دين الله؛ أي: حاد عنه وعدل، ولحد من باب قطع لغة فيه، وألحد الرجل ظلم في الحرم.
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ﴾ يقال: بوأه منزلا: أي: أنزله فيه. ﴿مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم أطلق على كل مأوى متخذ من حجر، أو مدر، أو صوف، أو وبر، والمراد به هنا الكعبة، وقد بنيت عدة مرات في أوقات مختلفة.
﴿رِجَالًا﴾؛ أي: مشاة على أرجلهم، جمع راجل، كقيام جمع قائم، قال الراغب: اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي، يقال رجل يرجل بفتح الجيم رجلًا بفتحتين سار على رجليه لا راكبًا، ويقال هذا رجل؛ أي: كامل في الرجال بين الرجولية والرجولية. ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾؛ أي: وركبانًا على كل بعير ضامر؛ أي: مهزول، يقال ضمر الفرس والبعير من باب دخل إذا أتعبه بعد السفر فهزل، قال الراغب: الضامر من الفرس: الخفيف اللحم من الأصل لا من الهزال، وتضمير الفرس أيضًا، أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت، وذلك في أربعين يومًا. ﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ﴾ والفج بفتح الفاء: الطريق الواسع، قال الراغب: الفج طريق يكتنفها جبلان، ويجمع على فجاج بكسر الفاء، والفجاج بضم الفاء: الطريق الواسع الواضح بين الجبلين. ﴿عَمِيقٍ﴾ بعيد، وأصل العمق البعد سفلًا، يقال بئر عميق إذا كانت بعيدة القعر. ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾؛ أي: أوساخهم، وقضاء التفث، المراد به قص الأظافر، ونتف الإبط قال الراغب: أصل التفث،
﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ يقال وفي بعهده، وأوفى إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه، كما دل عليه الغدر، وهو الترك. ﴿والنذور﴾ أن توجب على نفسك ما ليس بواجب، والمراد بالنذور ما نذروه من أعمال البر في أيام الحج، فإن الرجل إذا حج واعتمر، فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره. ما لولا إيجابه لم يكن الحج تقتضيه، وإن كان على الرجل نذور مطلقة، فالأفضل أن يتصدق بها على أهل مكة.
﴿حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ الحرمات بضمتين، ويقال في الجمع أيضًا حرمات بضم ففتح، وحرم بضم ففتح، جمع حرمة بضم فسكون، وحرمة بضمتين وحرمة بضم ففتح، وهي الذمة والمهابة، وما وجب القيام به من حقوق الله، والتكاليف الدينية من مناسك الحج وغيرها. وتعظيمها العلم بوجوبها، والعمل على موجب ذلك. ﴿الرِّجْسَ﴾ بتشديد الراء المكسورة وسكون الجيم، والرجس بتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم، والرجس بتشديد الراء المفتوحة وكسر الجيم القذر والأوساخ، وسمى الأوثان رجسًا على طريق التشبيه؛ لأنها قذر معنوي. ﴿الزُّورِ﴾ الشرك بالله والباطل والكذب، ومن معانيه العقل والقوة، يقال ماله زور ولا صيور؛ أي: لا قوة له ولا مرجع إليه، وهو من الزور، أو الإزورار وهو الانحراف. ﴿فَتَخْطَفُهُ﴾ في "القاموس" خطف يخطف من باب تعب، خطفًا خطف الشيء إذا استلبه بسرعة، وخطف البرق البصر ذهب به بسرعة.
﴿شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ جمع شعيرة، أو شعارة بالكسر بوزن قلادة، وفي "المصباح" والشعائر أعلام الحج وأفعاله، الواحدة شعيرة أو شعارة بالكسر، والمشاعر مواضع المناسك، والمراد بها الهدايا من الإبل وغيرها، وتعظيمها أن تختار حسانًا سمانًا غالية الأثمان. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهو أن تنحر وتذبح. و ﴿مَحِلُّهَا﴾ مكان نحرها.
﴿بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ سمَّاها بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين، وإن جاز أكله اهـ "خازن". وفي "القاموس" البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والجمع بهائم. والأبهم الأعجم، واستبهم استعجم فلم يقدر على الكلام اهـ.
﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾؛ أي: المطيعين المتواضعين، وهذا أصل معناه؛ لأن الإخبات نزول الخبت، وهو المكان المنخفص، وهو من أخبت الرجل إذا سار في الخبت، وهو المطمئن من الأرض. وفي "القاموس" الخبت المتسع من بطون الأرض، والجمع أخبات وخبوت اهـ.
﴿وَالْبُدْنَ﴾ بضم الباء جمع بدنة، سميت بذلك لعظم بدنها، وهي خاصة بالإبل، كما قال الأزهري، أو هي تشمل الإبل والبقر، كما قال صاحب "الصحاح" قال القسطلاني: البدن عند الشافعي خاصة بالإبل، وعند أبي حنيفة من الإبل والبقر، فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري، وكلام الحنفية موافق لكلام "الصحاح". وأما الهدي فيشمل الإبل والبقر والغنم.
﴿صَوَافَّ﴾؛ أي: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، جمع صافةٍ، وقرىء ﴿صوافن﴾ من صفن الفرس. إذا قام على ثلاث، وينصب الرابعة على طرف سنبكه؛ لأن البدنة تعقل إحدى يديها.
فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ مِنْ ذَا وَقَدْ غَرَبَتْ | وَالشَّمْسُ وَاجِبَةٌ مِنْ ذَا وَلَمْ تَجِبِ |
﴿الْقَانِعَ﴾؛ أي: الراضي بما عنده وبما يعطي من غير مسألة قال لبيد:
فَمِنْهُمْ سَعِيْدٌ آخِذٌ بِنَصِيْبِهِ | وَمِنْهُمْ شَقِىٌّ بِالْمَعِيْشَةِ قَانِعُ |
﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾: المعترض بسؤال، وعره وعراه بمعنى واحد، وقيل: القانع: السائل، والمعتر: المتعرض للسؤال من غير طلب، يقال: عره واعتره وعراه واعتراه، إذا تعرض للمعروف من غير مسألة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾، بذكر المسبب، وهو التقطيع وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين. وفيه أيضًا استعارة تمثيلية تهكمية، حيث شبه إعداد النار وإحاطتها بهم بتفصيل الثياب، وتقطيعها على قددهم، مع التهكم الذي ينطوي عليه. وجمع الثياب؛ لأن النار لتراكمها عليهم، كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض، وهذا أبلغ من جعلها من مقابلة الجمع
ومنها: الإرداف في قوله: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾؛ لأنه لمّا كانت الثياب تشمل جميع الجسد غير الرأس، أفرد الرؤوس بالذكر بقوله: يصب الخ. ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾؛ أي: في دين ربهم، فهو على حذف مضاف.
ومنها: رعاية الفواصل في قوله: ﴿وَالْجُلُودُ﴾ حيث أخَّره عن قوله: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ مع أن ملابستها بالجلود أسبق من ملابستها بالباطن، إشعارًا بغاية شدة الحرارة، بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها بالعكس.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾؛ لأن الإرادة هنا مجاز عن القرب، والمراد: أنها ترفعهم وترميهم إلى أعلاها فلا خروج لهم. لقوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ ولهذا قال: ﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾ دون إليها. وبعضهم أبقى الإرادة على حقيقتها، وأجاب عن قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ بأنهم لا يستمرون على الخروج، وبأن العود قد يتعدى بفي، للدلالة على التمكن والاستمرار، وذكر الإرادة للدلالة على رغبتهم في الخروج، اهـ. من "الشهاب".
ومنها: تغيير الأسلوب في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الخ. حيث لم يقل والذين آمنوا إلخ عطفًا على الذين كفروا تعظيمًا لشأن المؤمنين، اهـ.. شيخنا. وفي قوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ غير الأسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريرًا، للمحافظة على الفواصل؛ لأنه لو قال، من ذكر، لكان في آخر الفاصلة الألف في الكتابة والوقف، بخلاف البقية، كما مر في مبحث التفسير. وفي "الكرخي" غير أسلوب الكلام فيه، حيث لم يقل ويلبسون حريرًا للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى
ومنها: الطباق بين ﴿الْعَاكِفُ، وَالْبَادِ﴾ لأن العاكف المقيم في المدينة، والبادي القادم من البادية.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ كقوله: ﴿ناقة الله وروح الله﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ لأن القضاء في الأصل القطع والفصل، فأريد به هنا الإزالة مجازًا.
ومنها: التعميم بعد التخصيص في قوله: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ فإن عبادة الأوثان رأس الزور.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ فإنه تأكيد لقوله: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾.
ومنها: التشبيه المركب والتمثيلي، في قوله: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾. وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد، وبيان ذلك، أنه انقسمت فيه حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما:
الأول: منهما المتذبذب الشاك المتمادي على الشك، وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين شبه بمن اختطفه الطير، وتوزعته، فلا يستولي طائر على مزعة منه، إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب، لا يلوح له خيال إلا أتبعه، ونزل عما كان عليه.
والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل، لو نشر بالمناشير لم يتراجع عن تصميمه، لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج
وأجاز الزمخشري أن كون هذا التشبيه من المركب والمفرق، فقال: إن كان تشبيهًا مركبًا، فكأنه قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكًا ليس بعده هلاك، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء، فاختطفته الطير متفرقًا موزعًا في حواصلها، وعصفت به الريح، حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة، وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح ويذهب به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي عصفت به، في بعض المهاوي المتلفة.
ومنها: الطباق بين ﴿الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾؛ لأن القانع المتعفف، والمعتر السائل.
ومنها: العدول إلى صيغة المضارع في قوله: ﴿فَتَخْطَفُهُ﴾ مع عطفه على الماضي وهو ﴿خَرَّ﴾ لتصوير هذه الحالة الهائلة، التي اجترأ عليها المشرك للسامعين، التي هي كونه موزعًا في حواصل الطير.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)﴾
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) صد المشركين عن دين الله وعن المسجد الحرام، ثم أردفه بذكر مناسك الحج، وبين ما فيها من منافع في الدين والدنيا.. قفى على ذلك، ببيان ما يزيل الصد عنه، ويؤمن معه من التمكن من أداء تلك الفريضة على أتم الوجوه.
وعبارة أبي حيان هنا: ومناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج، وكان المشركون قد صدوا رسول الله - ﷺ -، عام الحديبية، وآذوا من كان بمكة من المؤمنين.. أنزل الله تعالى هذه الآيات، مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم، ومشيرة إلى نصرهم، وإذنه لهم في القتال، وتمكينهم في الأرض بردهم إلى ديارهم، وفتح مكة، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى. وقال تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
قوله: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بيَّن (٣) فيما سلف أن المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأنه أذن لهم في مقاتلتهم، وضمن لهم النصرة عليهم.. أردف هذا تسلية لرسوله - ﷺ -، على ما يرى من قومه، وتصبيره على أذاهم وتكذيبهم إياه، فأبان له أن هذا التكذيب ليس بدعًا في الأمم، فكثير منها قد كذبت رسلها، فحل بها من البوار ما فيه عبرة لمن اعتبر، وتذكر مما يشاهدونه رأي العين في حلهم وترحالهم، وفي غدوهم، ورواحهم، فلا تحزن على ما ترى، واصبر فإن العاقبة للمتقين.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في الآيات السالفة، أن قومه قد كذَّبوه بوسائل شتى من التكذيب، فقالوا تارة: إنه ساحر، وأخرى: إنه شاعر، وثالثة: إن القرآن أساطير الأولين، ثم سلاه على هذا، بأنه ليس بدعًا من الرسل، فكثير قبله قد كذبوا، ثم ذكر أنهم لعظيم استهزائهم به وتهكمهم بما يبلغهم عن ربه، طلبوا منه استعجال العذاب الذي يعدهم به.. أردف ذلك بذكر نوع آخر من التكذيب، وهو إلقاؤهم الشبه والأوهام فيما يقرؤه على أوليائه من القرآن، ليجادلوه بالباطل، ويردوا ما جاء به من الحق، ويكون في ذلك فتنة لضعاف الإيمان، وللكافرين، وليزداد المؤمنون إيمانًا ويقينًا بأنه الحق من ربهم، فتخبت له قلوبهم، وأن هذه حالهم حتى يموتوا، أو يأتيهم عذاب لا يبلغ الوصف كنه حقيقته، وعندئذٍ يحكم الله بين عباده، فيدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين جنات النعيم.. أردف ذلك ذكر وعده الكريم للمهاجرين في سبيله، بأنه يرزقهم الرزق الحسن ويدخلهم مدخلًا يرضونه، ثم ذكر وعده لمن قاتل مبغيًا عليه بأن اضطر إلى الهجرة، ومفارقة الوطن، بأنه ينصره وهو قدير على ذلك.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس، أنه قال: لما أخرج النبي - ﷺ - من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن القوم فأنزل الله ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)﴾ قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. وقيل (٢): نزلت هذه الآية في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فاعترضهم مشركو مكة، فأذن الله لهم في قتال الكفار، الذين يمنعونهم من الهجرة، بسبب أنهم مظلومون بالإيذاء. وقيل: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - ﷺ - أذى شديدًا، وكانوا يأتونه - ﷺ -، من بين مضروب ومشجوج يشكون إليه فيقول لهم اصبروا، فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان - رضي
(٢) المراغي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد - ﷺ - ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ...﴾ الآية. قال: لولا دفع الله بأصحاب محمد - ﷺ - عن التابعين لهدمت صوامع.
التفسير وأوجه القراءة
٣٨ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُدَافِعُ﴾ غوائل المشركين وضررهم وكيدهم ﴿عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه؛ أي: يبالغ في دفع شر الأشرار، وكيد الفجار عنهم، ويحميهم أشد الحماية من أذاهم، ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، ويكتب لهم الفلج عليهم، والظفر بهم، كما قال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾.
وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع (١): ﴿يدافع﴾ و ﴿لولا دفاع الله﴾. وقرأ أبو عمرو وابن كثير ﴿يَدْفَع﴾ ﴿ولولا دَفْع﴾. وقرأ الكوفيون وابن عامر ﴿يدافع﴾ ﴿ولولا دفع﴾ وصيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصليِّ، وهو وقوع الفعل من الجانبين، كما تدل عليه القراءة الأخرى. ففاعل هنا بمعنى المجرد، نحو جاوزت وجزت؛ لأن هذه (٢) الصيغة قد ترد ولا يراد بها معناها الأصلي كثيرًا، نحو عاقبت اللصُّ. وقيل: إن إيراد هذه الصيغة هنا للمبالغة. وقيل: للدلالة على تكرر الواقع، والمعنى يبالغ في دفع ضرر المشركين عن المؤمنين. وقيل: يُعْلي حجتهم. وقيل: يوفقهم، والجملة مستأنفة، لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين، وأنه المتولى للمدافعة عنهم. وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُحِبُّ﴾؛ أي: يبغض ﴿كُلَّ خَوَّانٍ﴾؛ أي: كثير الخيانة في أمانة الله
(٢) الشوكاني.
أي: وإنما (٢) دفعهم وقهرهم؛ لأنهم خانوا أمانة الله، وهي أوامره ونواهيه، وكفروا أنعمه التي يسديها إليهم بكرةً وعشيًا، وعبدوا غيره مما لا يضر ولا ينفع، وفي هذا إيماء إلى أن المؤمنين هم أحباء الله. قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله، وتقرب إلى الأصنام بذبيحة، فهو خوان كفور، وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع، لا لإخراج من خان دون خيانتهم، أو كفر دون كفرهم. واعلم (٣) أن الكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا وأن الخيانة والنفاق واحد؛ لأن الخيانة تقال اعتبارًا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارًا بالدين، ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الأمانة ومن الخيانة الكفر، فإنه إهلاك للنفس التي هي أمانة الله عند الإنسان. وتجري الخيانة في الأعضاء كلها. قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ وتجري في الصلاة والصوم ونحوهما، وإما بتركها، أو بترك شرط من شرائطها الظاهرة والباطنة، فأكل السحور مع غلبة الظن بطلوع الفجر، أو الإفطار مع الشك بالغروب خيانة للصوم، ومن أكل السحور فنام عن صلاة الصبح، حتى طلعت الشمس، فقد كفر بنعمة الله التي هي السحور، وخانه بالصلاة أيضًا، فترك الفرض لأجل السنة تجارة خاسرة.
ثم إن المؤمن الكامل، منصور على كل حال، فلا يضره كيد الخائنين، فإن الله لا يحب الخائنين، فإذا لم يحبهم لم ينصرهم، ويحب المؤمن فينصره.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وهذه الجملة مقررة أيضًا لمضمون قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ﴾ فإن إباحة القتال لهم، هي من جملة دفع الله عنهم. والباء في ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ للسببية؛ أي: رُخّص للمؤمنين، وأبيح لهم أن يقاتلوا المشركين، بسبب أنهم ظلموا، بما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب، وطرد.
وقرأ (١) نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة ﴿أُذِنَ﴾ مبنيًا للمفعول، وفتح باقي السبعة مبنيًا للفاعل. وقرأ نافع وابن عامر وحفص ﴿يُقَاتَلُونَ﴾ بفتح التاء مبنيًا للمفعول والباقون بكسرها مبنيًا للفاعل. والمأذون فيه محذوف؛ أي: في القتال، كما مر، لدلالة يقاتلون عليه. وعلى كلا القراءتين فالإذن من الله تعالى لعباده المؤمنين، بأنهم إذا صلحوا للقتال، أو قاتلهم المشركون قاتلوهم.
ثم وعدهم الله سبحانه بالنصر، والغلبة على المشركين، بعدما وعدهم بدفع أذاهم وتخليصهم من أيديهم، فقال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿عَلَى نَصْرِهِمْ﴾؛ أي: نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيله ﴿لَقَدِيرٌ﴾؛ أي: لقادر وقد فعل، فأعزهم، ورفعهم، وأهلك عدوهم، وأذلهم بأيديهم. وفي هذا الأسلوب مبالغة عظيمة، زيادة في توطين عزائم المؤمنين وتثبيتهم على الجهاد في سبيله.
والقدير (٢): هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدًا عليه، ولا ناقصًا عنه. ولذلك لا يصح أن يوصف به غير الله تعالى.
(٢) روح البيان.
٤٠ - ثم وصف سبحانه هؤلاء المؤمنين بقوله: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾؛ أي: أولئك المظلومون هم الذين أخرجهم المشركون من ديارهم وبلدهم مكة إلى المدينة ظلمًا. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ بغير استحقاق خروج؛ أي: أخرجوا بغير موجب استحقوا الخروج به، وعذبوا بعضهم، وسبوا بعضًا آخر، وما كان لهم من إساءةٍ إليهم، ولا ذنب جنوه ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾؛ أي: إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له. قال سيبويه: الاستثناء منقطع؛ أي: لكن لقولهم ربنا الله؛ أي: أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم، لكن لقولهم ربنا الله. وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل، والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق، إلا بأن يقولوا: ربنا الله، فيكون مثل قوله سبحانه: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا﴾ وقول النابغة:
وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
لاَهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا | وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا |
فَأَنْزِلَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا | وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا |
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا | إِذَا أَرَادُوْا فِتْنَةً أَبَيْنَا |
ثم حرض المؤمنين على القتال، وبيَّن أنه أجرى العادة به في الأمم الماضية، لينتظم أمر الجماعات وتقوم الشرائع، وتصان بيوت العبادة من الهدم فقال:
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ﴾ قرأ نافع: ﴿ولولا دفاع﴾ وقرأ الباقون ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ﴾ كما مر. ﴿بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾؛ أي: بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين في كل عصر وزمان. والمراد ببعضهم، الكافرون. وببعض، المؤمنون. والمراد بالدفع، أذن الله لأهل دينه في مجاهدة الكفار، فكأنه قال: ولولا دفع الله أهل الشرك، بالمؤمنين، بالإذن لهم في جهادهم، لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان، وعطلوا مواضع العبادة، والمراد بهذه المواضع، مواضع عبادات المؤمنين منهم. ﴿لَهُدِّمَتْ﴾؛ أي: لخربت باستيلاء المشركين عليها. ﴿صَوَامِعُ﴾ معبد الرهبان للنصارى. ﴿وَبِيَعٌ﴾ للنصارى، وذلك في زمان عيسى عليه السلام، والهدم إسقاط البناء. والتهديم للتكثير. ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾؛ أي: كنائس لليهود في زمن شريعة موسى عليه السلام. سميت بالصلوات؛ لأنها يصلى فيها. ﴿وَمَسَاجِدُ﴾ للمسلمين في أيام شريعة محمد - ﷺ -.
والمعنى (١): ولولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء. لاستولى أهل الشرك، وذهبت مواضع العبادة من الأرض، باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل. وقيل: المعنى: لولا هذا الدفع، لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد - ﷺ - المساجد. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وقيل: المعنى: ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقيل: لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار. وقيل: غير ذلك.
والصوامع جمع صومعة، وهي معبد الرهبان المتخذ في الصحراء، وهو بناء مرتفع خارج عن العمران. ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام.
وقدم (٢) ما سوى المساجد عليها في الذكر لكونها أقدم في الوجود بالنسبة إليها، أو ليكون الانتقال فيها من شربف إلى أشرف، وفي "الأسئلة المقحمة" تقديم الشيء بالذكر لا يدل على شرفه، كقوله تعالى: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾.
وقرأ (٣) الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش، والزعفراني ﴿لهدمت﴾ مخففًا. وباقي السبعة وجماعة مشددًا. لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع، فتكرر الهدم لتكثيرها. وقرأ الجمهور ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ جمع صلاة. وقرأ جعفر بن محمد: ﴿وصُلُوات﴾ بضم الصاد واللام. وحكى عنه ابن خالويه: ﴿صِلْوات﴾ بسكون اللام وكسر الصاد. وحكيت عن الجحدري: ﴿صَلَوات﴾ بضم الصاد وفتح اللام. وحكيت عن الكلبي وأبو العالية بفتح الصاد وسكون اللام ﴿صلوات﴾. والحجاج بن يوسف والجحدري أيضًا: ﴿وصُلُوَتٌ﴾ بضمتين من غير ألف، ومجاهد كذلك، إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها. والضحاك والكلبي: ﴿صلُوث﴾ بضمتين من غير ألف وبثاءٍ منقوطة بثلاث. وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلا أنه بعد الثاء ألف. وقرأ عكرمة ﴿وصِلْوِيْثَا﴾ بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث، بعدها ألف. والجحدري أيضًا: ﴿صُلْوَاثٌ﴾ بضم الصاد وسكون اللام وفتح الواو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط. وحكى ابن مجاهد، أنه قرىء كذلك، إلا أنه بكسر الصاد. وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري ﴿صُلُوب﴾ بالباء الموحدة على وزن
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وروى هارون عن أبي عمرو ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ كقراءة الجماعة، إلا أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله، وكأنه علم فمنعه من الصرف للعلمية والعجمية. وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة ذكره في "البحر المحيط".
وقوله: ﴿يُذْكَرُ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك المساجد ﴿اسْمَ اللَّهِ﴾ سبحانه بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وغيرها عند الصلاة. ﴿كَثِيرًا﴾؛ أي: ذكرا كثيرًا ووقتًا كثيرًا، صفة مادحة للمساجد خصت بها (١) دلالة على فضلها وفضل أهلها. ويجوز أن يكون صفة للأربع؛ لأن الذكر في الصوامع والبيع والصلوات كان معتبرًا قبل انتساخ شرائع أهلها.
والمعنى: أي (٢) فليقاتل المؤمنون الكافرين، فلولا القتال، وتسليط المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان، لهدمت في شريعة كل نبي معابد أمته، فتهدم صوامع النصارى وبيعهم وصلوات اليهود ومساجد المسلمين، التي يذكرون فيها اسم الله كثيرًا.
وفي هذا ترق، وانتقال من الأقل إلى الأكثر، حتى انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمَّارًا، وأكثر عبادًا، وهم ذووا القصد الصحيح.
والخلاصة: أنه لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، وإقامة حدود الأديان.. لاستولى أهل الشرك على مواضع العبادة، وهدموها، وقد يكون المراد لولا هذا الدفع، لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد - ﷺ - المساجد.
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ واللام: فيه موطئة لقسم محذوف؛ أي: وعزتي وجلالي لينصرن الله سبحانه وليعينن من يقاتل في سبيله، لتكون كلمته العليا،
(٢) المراغي.
وقيل: الممتنع الذي لا يرام ولا يدافع ولا يمانع. وفي (٢) "بحر العلوم" غني بقدرته وعزته في إهلاك أعداء دينه عنهم، وإنما كلفهم النصر باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة الأعداء، وبذل الأرواح، والأموال لينتفعوا به، ويصلوا بامتثال الأمر فيها، إلى منافع دينية ودنيوية. فإن قلت (٣): فإذا كان الله قوياً عزيزًا غالبًا غلبة لا يجد معها المغلوب نوع مدافعة وانفلات، فما وجه انهزام المسلمين في بعض المغازي وقد وعدهم الله تعالى النصر؟
قلت: إن النصرة والغلبة منصب شريف، فلا يليق بحال الكافر، لكن الله تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار، وأخرى على المؤمنين؛ لأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات، لحصل العلم الاضطراري، بأن الإيمان حق، وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف، والثواب، والعقاب. فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان، وأخرى على أهل الكفر، لتكون الشبهات باقية، والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل في صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله، ولأن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي. فيكون تشديد المحنة عليه في الدنيا كفارة له في الدنيا، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضبًا من الله، كالطاعون مثلًا. فإنه رحمة وطهرة للمؤمنين، ورجز - أي: عذاب - وغضب للكافرين.
روي: أنَّ عامرًا مرَّ برجل قد صلبه الحجاج، فقال: يا رب إن حلمك على الظالمين أضر بالمظلومين، فرأى في منامه كأن القيامة قد قامت، وكأنه دخل
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
واعلم: أن الله تعالى يدفع في كل عمر مدبرًا بمقبل، ومبطلًا بمحق، وفرعونًا بموسى، ودجالًا بعيسى، وأبا جهل بمحمد، فلا تستبطىء ولا تتضجر.
والخلاصة: أن الله سبحانه لقوي على نصر من جاهد في سبيله من أهل طاعته، منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. ونحو الآية قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)﴾
٤١ - والموصول (١) في قوله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ في موضع نصب صفة لـ ﴿مِن﴾ في قوله: ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ قاله الزجاج، وقال غيره هو في موضع جر صفة لقوله: ﴿لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾. وقيل: المراد بهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. وقيل: أهل الصلوات الخمس. وقيل: ولاة العدل، وقيل غير ذلك. وفيه إيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على من مكنه الله في الأرض، وأقدره على القيام بذلك.
أي: ولينصرن الله الذين إن مكناهم في الأرض، وأعطيناهم زمام الأحكام. ﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ لتعظيمي؛ أي: أدوها بحقوقها، وشرائطها. قال الراغب (٢): كل موضع مدح الله بفعل الصلاة، أو حث عليه ذكر بلفظ الإقامة، ولم يقل المصلين، إلا في المنافقين، نحو ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)﴾ وإنما (٣) خص لفظ الإقامة تنبيهًا على أن المقصود من فعلها، توفية حقوقها وشرائطها، لا الإتيان بهيأتها فقط، ولهذا روى أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل. ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ لمساعدة عبادي؛ أي: أدوا وأعطوا زكاة أموالهم في مصارفهما. ﴿وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بكل ما عرف حسنه شرعًا، وعرفًا من التوحيد وأصناف الواجبات، والمندوبات. ﴿وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾؛ أي: عن كل ما استقبحه الشرع
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي (١) هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم. هم الذين إن مكنا لهم في البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها أطاعوا الله، فأقاموا الصلاة على النحو الذي طلبه، وأعطوا زكاة أموالهم التي حباها لهم، ودعوا الناس إلى توحيده، والعمل بطاعته، وأمروا بما حثت عليه الشريعة، ونهوا عن الشرك واجتراح السيئات.
وخلاصة ذلك: أنهم هم الذين كملوا أنفسهم باستحضار المعبود، والتوجه إليه في الصلاة على قدر الطاقة، وكانوا عونًا لأممهم بإعانة فقرائهم، وذوي الحاجة منهم، وكملوا غيرهم فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم، ومنعوا المفاسد التي تعوق غيرهم عن الوصول إلى الرقي الخلقي، والأدب السامي.
وعن ابن عباس (٢) - رضي الله عنهما - رفعه إلى النبي - ﷺ - "إن من أشراط الساعة، إماتة الصلوات واتباع الشهوات، والميل إلى الهوى، ويكون أمراء خونة، ووزراء فسقة" فوثب سلمان، فقال: بأبي وأمي إنَّ هذا لكائن؟ قال: "نعم يا سلمان، عندها يذوب قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، ولا يستطيع أن يغير" قال: أو يكون ذلك؟ قال: "نعم يا سلمان، إن أذل الناس يومئذٍ المؤمن، يمشي بين أظهرهم بالمخالفة، إن تكلم أكلوه، وإن سكت مات بغيظه". قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - عليه السلام -: أخبرني عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟ فقال: "ظل الله في الأرض، فإذا أحسن فله الأجر، وعليكم الشكر، وإذا أساء فعليه الإصر، وعليكم الصبر". وفي الحديث: "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة".
(٢) روح البيان.
٤٢ - ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ يا محمد (١) وصيغة المضارع في الشرط مع تحقيق التكذيب، لما أن المقصود تسليته عليه السلام، عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع؛ أي: وإن تحزن على تكذيب قومك إياك، فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك، ﴿فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل تكذيبهم إياك ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحًا. ﴿و﴾ كذبت ﴿عاد﴾ هوداً. ﴿و﴾ كذبت ﴿ثمود﴾ صالحًا.
٤٣ - ﴿و﴾ كذبت ﴿قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ﴾ إبراهيم ﴿و﴾ كذبت ﴿قَوْمُ لُوطٍ﴾ لوطًا.
٤٤ - ﴿و﴾ كذب ﴿أَصْحَابُ مَدْيَنَ﴾ شعيبًا. ومدين كان ابنا لإبراهيم عليه السلام، ثم صار علمًا لقرية شعيب. وعدل عن قوم شعيب؛ لأن أصحاب مدين أعرق من أصحاب الأيكة في التكذيب، فلذلك خصهم بالذكر.
وفيه (٢) إرشاد له - ﷺ - إلى الصبر على قومه، والاقتداء بمن قبله من الأنبياء في ذلك. وقد تقدم ذكر هذه الأمم، وما كان منهم ومن أنبيائهم، وكيف كانت عاقبتهم. وإنما غير النظم في قوله: ﴿وَكُذِّبَ مُوسَى﴾ فجاء بالفعل مبنيًا للمفعول؛ لأن قوم موسى لم يكذبوه، وإنما كذبه غيرهم من القبط. وفي "المختار" القبط بوزن القسط، أهل مصر، وهم أصلها. واحدهم قبطي اهـ.
أي: كذبه (٣) القبط، وأصروا إلى وقت الهلاك. وأما بنوا إسرائيل فإنهم وإن قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ونحوه، فما استمروا على العناد، بل كلما تجددت لهم المعجزة، جددوا الإيمان. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقال. وغير النظم بذكر المفعول، وبناء الفعل له، للإيذان بأن تكذيبهم له كان في غاية الشناعة، لكون آياته في كمال الوضوح. ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي: أمهلت للكافرين، وأخرت عنهم العقوبة إلى أجلهم المسمى. والفاء لترتيب الإمهال على
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والنكير اسم من المنكر. قال الزجاج: أي: ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر. وأثبت ياء نكير، حيث وقع في القرآن، وَرْشٌ في الوصل، وحذفها في الوقف. والباقون يحذفونها وصلًا، ووقفًا اهـ "سمين".
والمعنى: أي (١) فإن يكذبك هؤلاء المشركون بالله على ما آتيتهم به من الحق، وما يعدهم به من العذاب على كفرهم به.. فلست بأوحدي في ذلك، فتلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية، المكذبة لرسلها، وذلك منهاج من قبلهم، فلا يصدنك ذلك فإن العذاب من ورائهم، ونصري إياك وأتباعك عليهم آت لا محالة، كما أتى عذابي على أسلافهم، من الأمم من قبلهم، بعد الإمهال. فقد أمهلت أهل الكفر من هذه الأمم، فلم أعاجلهم بالنقمة، والعذاب، ثم أحللت بهم عقابي بعدئذٍ. فانظر أيها الرسول كيف كان تغييري، ما كان بهم من نعمة، وتنكري لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم، ألم أبدلهم بالكثرة قلة، وبالحياة موتًا وهلاكًا، وبالعمارة خرابًا. فكذلك سأفعل بمكذبيك من قريش، وإن أمليت لهم
٤٥ - ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ قال. المولى الجامي (١): في "شرح الكافية" من الكناية كأين، وإنما بني لأن كاف التشبيه دخلت على أيّ، وأيُّ كان في الأصل معربًا، لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي فصار المجموع كاسم مفرد، بمعنى كم الخبرية، فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة، كما في من، لا تنوين تمكن، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط. انتهى. والمعنى: فكثير من القرى. وهو مبتدأ، وقوله: ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ خبره. وقوله: ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ جملة حالية من مفعول ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾. والمراد ظلم أهلها بالكفر والمعاصي، وهو بيان لعدله، وتقدسه عن الظلم، حيث أخبر أنه لم يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم. وقرأ (٢) أبو عمرو وجماعة: ﴿أهلكتها﴾ بتاء المتكلم، على وفق قوله: فأمليت ثم أخذت. وقرأ الجمهور ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ بنون العظمة.
أي: فكثير من أهل القرى أهلكناهم، والحال أن أهلها ظالمون بالإشراك والمعاصي وجملة قوله: ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ معطوفة على ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾. والمراد (٣) بضمير القرية حيطانها، والخواء بمعنى السقوط، من خوى النجم إذا سقط؛ أي: ساقطة حيطان تلك القرية. ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾؛ أي: على سقوفها، بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف. فالعروش السقوف؛ لأن كل مرتفع أظللت فهو عرش، سقفًا كان، أو كرمًا، ظلة أو نحوها.
﴿وَبِئْرٍ﴾ معطوف على قرية؛ أي: وكم من بئر عارمة في البوادي؛ أي: فيها الماء ومعها آلات الاستقاء ﴿مُعَطَّلَةٍ﴾: أي: متروكة مخلاة، لا يستقى منها
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): وكم من قرية ﴿أهلكناها﴾، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وكم قصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك لدلالة معطلة عليه. وإنما بني ﴿مشيد﴾ هنا من شاده. وفي النساء من شيده؛ لأنه هناك وقع بعد جمع، فناسب التكثير. وهنا وقع بعد مفرد، فناسب التخفيف؛ ولأنه رأس آية وفاصلة، اهـ "سمين".
وقيل (٢): إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن، أما القصر فعلى قُلَّةِ جبل، والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم، كانوا في نعمة، فكفروا، فأهلكهم الله تعالى، وبقي البئر والقصر خاليين، وقيل: إن هذه البئر كانت بحضرموت، في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب، أتوا إلى حضرموت ومعهم صالح، فلما حضروه مات صالح، فسمي المكان حضرموت لذلك. ولما مات صالح بنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلًا منهم، فأقاموا دهرًا، وتناسلوا حتى كثروا، وعبدوا الأصنام، وكفروا فأرسل الله تعالى إليهم نبيًا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمالًا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله تعالى، وعطلت بئرهم، وخرب قصرهم. قال الإمام السهيلي: قيل: أن البئر الرس. وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك عدل حسن السيرة يقال له العَلَسُ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها، وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب، والغنم، والبقر، وغير ذلك. وقال الثعلبي: وأما القصر، فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضًا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنس، وإفقاره بعد العمران.
والمعنى (٣): أي فكثير من القرى أهلكناها، إذ كان أهلها يعبدون غير من
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
٤٦ - ثم أكد لهم صدق وعيده، وأحالهم على ما يشاهدون بكرة وعشيا. فقال:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: (١) أغفل أهل مكة فلم يسافروا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ في اليمن والشام ليروا مصارع المهلكين. ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ﴾ بسب ما يشاهدونه من مواد الاعتبار. وقرأ مبشر بن عبيد ﴿فيكون﴾ بالياء. والجمهور بالتاء. وهو منصوب على جواب الاستفهام، وهو في التحقيق منفي. ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ ما يجب أن يعقل من التوحيد. ﴿أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ ما يجب أن يسمع من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس، فإنهم أعرف منهم بحالهم، وهم وإن كانوا قد سافروا فيها ولكنهم حيث لم يسافروا للاعتبار جعلوا غير مسافرين، فحثوا على ذلك فالاستفهام للإنكار.
﴿فَإِنَّهَا﴾؛ أي: فإن القصة، فالضمير فيه للقصة. وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث، وهي التاء في ﴿لا تعمى﴾، ويجوز في الكلام التذكير. وقرأ به عبد الله، ﴿فإنه لا تعمى﴾، ذكره في "البحر". ﴿لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾؛ أي: أبصار العيون. ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ أي: ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى، والانهماك في الغفلة؛ أي: لا تدرك عقولهم مواطن الحق، ومواضع الاعتبار. قال الفراء والزجاج: إن قوله: ﴿الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام، كقوله: عشرة كاملة، ويقولون بأفواههم، ويطير بجناحيه. وللتنبيه على
٤٧ - ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾؛ أي: ويطلب منك يا محمد هؤلاء المشركون من أهل مكة المكذبون بالله وكتابه ورسوله، واليوم الآخر ﴿بِالْعَذَابِ﴾؛ أي: بمجيء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه عجلة إنكارًا منهم لوقوعه، واستهزاء بحلوله، وتعجيزًا له، واستبعادًا لمجيئه.
أي: يطلبون عجلتك بالعذاب؛ أي: أن تأتيهم به عاجلًا. وكانوا يقولون له كما تقول الأمم السابقة لأنبيائهم ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. ثم بين أنه آت لا محالة، فقال: ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَعْدَهُ﴾؛ أي: لن يترك وفاء ما وعده لك من نصرك عليهم، وإنزال العذاب لهم في الدنيا. وقد أنجز الله وعده يوم بدر، فقتل منهم سبعون، وأسر منهم سبعون.
(٢) المراغي.
وقيل معناه (٢): أن يومًا عنده وألف سنة في الإمهال سواء؛ لأنه قادر متى شاء أخذهم، لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره.
ومعنى ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾؛ أي (٣): وكيف ينكرون مجيء ذلك العذاب، وقد وعد الله به، وما وعد به كائن لا محالة، وهو كما فعل بمن قبلهم، يفعل بهم؛ لأن ذلك هو نهجه الثابت، وصراطه المستقيم، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم.
ومعنى ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾؛ أي: وإن قلتم: إن العهد قد طال، ولم يحل بنا العذاب، فأين هو؟ قلنا: إن الله سبحانه حليم، وألف سنة عندكم كيوم عنده، فهو سينفد وعده بعد أمد طويل عندكم، قريب عنده، كما قال: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)﴾ فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدًا طويلًا فلا يكون في ذلك إخلاف للوعد، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يومًا عندكم.
والخلاصة (٤): أن سنتي لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين، أممًا وأفرادًا، في الدنيا والآخرة، أو عذابهم في الآخرة فحسب مع
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
وقال أبو حيان (١): واختلفوا في هذا التشبيه، فقيل: في العدد؛ أي: اليوم عند الله ألف سنة من عددكم. وفي الحديث الصحيح: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمس مئة عام". فالمعنى: وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. وقيل: التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه والشدة؛ أي: وإن يومًا من أيام عذاب الله، لشدة العذاب فيه وطوله، كألف سنة من عددكم، إذ أيام الترحة مستطالة، وأيام الفرحة مستقصرة. وكان ذلك اليوم كألف سنة من سني العذاب والمعنى: أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه. وقيل: التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته، وإنفاذ ما يريد كألف سنة. وقال ابن عيسى: يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد واقتصر في التشبيه على الألف؛ لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار. انتهى.
وقيل المعنى (٢): وإن يومًا من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياسًا. وجملة قوله: ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ محلها النصب على الحال؛ أي: والحال أنه لا يخلف وعده أبدًا، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه حتمًا، أو هي اعتراضية مبينة لما قبلها. وعلى الأول تكون جملة ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ﴾ إلخ مستأنفة، وعلى الثاني تكون معطوفة على الجملة التي قبلها، مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال.
وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: ﴿مما يعدون﴾ بالتحتية. واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب. ﴿وتستعجلون بالعذاب﴾ واختارها أبو حاتم. ويكون فيه التفات. فعلى (٣) العاقل أن يلاحظ أن كل آت قريب، ولا يغتر بالإمهال، فإن بطش الله شديد، وعذابه لا
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
٤٨ - ثم أكد ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد، فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾؛ أي: وكثير من أهل قرية ﴿أَمْلَيْتُ لَهَا﴾؛ أي: أمهلتها بتأخير العذاب، كما أمهلت لهؤلاء ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾؛ أي: والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة لها، كدأب هؤلاء ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾ وأهلكتها بالعذاب بعد طول الإمهال. ﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: إلى (١) حكمي ومجازاتي مرجع الكل، لا إلى أحد غيري، لا استقلالًا ولا شركة، فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم. وفيه إشارة إلى أن الإمهال يكون من الله تعالى، والإهمال لا يكون منه، فإنه يمهل ولا يهمل، ويدع الظالم في ظلمه، ويوسع له الحبل، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه يفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي أراد. ويأخذه من حيث لا يرتقب، فيعلوه ندامة ولات حينه. وكيف يستبقي بالحياة ما حق في التقدير عدمه، وإلى الله مرجعه، فالظلم من العبد سبب للأخذ من الله، فلا يلومن إلا نفسه.
وجملة قوله: ﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ تذيلية، ذكرت لتقرير ما قبلها. والمعنى؛ أي: وكم (٢) من قرية أخرت إهلاكها مع استمرارها على ظلمها، فاغترت بذلك التأخير، ثم أنزلت بها بأسي، وشديد انتقامي، وحسابها بعد مدخر ليوم الحساب، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد.
فائدة: فإن قلت (٣): لم كرر التكثير بكأين من القرى؟
قلت: لا تكرار فيه؛ لأن الثانية أفادت غير ما أفادت الأولى؛ لأنه ذكر في الأولى القرية التي أهلكها بدون إملاء وإمهال، بل أعقب الإهلاك بعد التذكير.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط بتصرف.
فإن قلت: لم عطفت الأولى بالفاء، والثانية بالواو، فما الفرق بينهما؟
قلت: الأولى وقعت بدلًا من قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ فناسبتها الفاء، والثانية وقعت بعد الجملتين المعطوفتين بالواو. أعني قوله: ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ وقوله: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾ فناسبها العطف بالواو، كما ذكره الزمخشري.
٤٩ - ثم أبان لهم عظيم خطأهم في طلب تعجيل العذاب من الرسول بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، لهؤلاء المشركين المستعجيلن للعذاب ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أنذركم إنذارًا بينًا بما أوحي إلى من أخبار الأمم المهلكة، من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما توعدونه من العذاب، حتى تستعجلوني به.
فإن قلت: لِمَ اقتصر (١) هنا على الإنذار فقط، مع أنه بين حال الفريقين فيما بعد؟
قلت: لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين وعقابهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم فيما بعد زيادة في غيظهم.
والمعنى: قل يا أيها المشركون المستعجلون مجيء العذاب: ليس ذلك إلى، وإنما أرسلني ربي نذيرًا لكم، بين يدي عذاب شديد، وليس إلى من حسابكم من شيء، بل أمر ذلك إلى الله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء آخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب وينيب إليه. ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
٥٠ - ثم فصل هذا الإنذار بذكر الوعد للمتقين، والوعيد للكافرين، فقال: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وحده وصدقوا رسوله، وقبلوا ما جاء به. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الخيرات بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ﴿لَهُمْ﴾ عند ربهم ﴿مَغْفِرَةٌ﴾؛ أي: ستر وتجاوز عن ذنوبهم ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: نعيم دائم لا ينقطع أبدًا في الجنة.
٥١ - ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾ واجتهدوا ﴿فِي﴾ إبطال ﴿آيَاتِنَا﴾ ورد دعوتنا وتكذيب رسولنا وثبطوا الناس عن متابعته حالة كونهم ﴿مُعَاجِزِينَ﴾؛ أي: ظانين عجزنا عن أخذهم، أو سبقهم عذابنا، ظنا منهم أنهم يعجزوننا، وأنهم لا يبعثون. أو معارضين المؤمنين، فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. يقال (٢): عاجزه إذا سابقه؛ لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه، قاله الأخفش. وقيل: معنى معاجزين ظانين ومقدرين أن يعجزوا الله سبحانه، ويفوتوه فلا يعذبهم. قاله الزجاج. وقيل: معاندين. قاله الفراء. ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالسعي والمعاجزة ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾؛ أي: ملازموا النار الموقدة، مقيمون فيها لا يخرجون منها أبدًا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني (٣): ﴿مُعجزين﴾ بالتشديد هنا، وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن؛ أي: مثبطين. وقرأ باقي السبعة ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ بألفٍ. وقرأ ابن الزبير ﴿مُعْجِزين﴾ بسكون العين وتخفيف الزاي، من أعجزني، إذا سبقك ففاتك. قال صاحب "اللوامح": لكنه هنا، بمعنى ﴿مُعَاجِزِينَ﴾؛ أي: ظانين أنهم يعجزوننا. وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون. وقيل في معاجزين: بمعنى معاندين، ومعجزين بالتشديد. بمعنى: مثبطين الناس عن الإسلام، ومعجزين بالتخفيف، بمعنى: ناسبين أصحاب النبي - ﷺ - إلى العجز. كما تقول: فسقت فلانًا. إذا نسبته إلى الفسق. قاله أبو علي الفارسي.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
وخلاصة ذلك (١): أن الله سبحانه وتعالى حين أنزل القرآن، وقرأه الرسول - ﷺ -، قال المشركون: فيه ما قالوا من تلك الشبهات السابقة، ثم لما استبان الحق، وجاءت غزوة بدر، ونصر الله المسلمين الذين بشرهم، كتابه بالنصر على أعدائهم ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ استتب لهم الأمر ودخل أعداؤهم في دينهم أفواجاً. ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ وما مثل هذا إلا مثل النباتات الطفيلية، التي تنبت في الأرض بجانب ما يزرع فيها من حنطة وفول، وعدس، وحمص، وغيرها مما يحتاج إليه الناس، ولا تزال تلك الطفيلية تتغذى من الأرض، وتأخذ غذاء النبات
وما أشبه الليلة بالبارحة، فإنك الآن لترى أهل أوربا يرسلون الجيوش، والمبشرين من القساوسة، التي تفتح المدارس في بلاد الشرق وغيرها، ويقولون: للمسلمين إن دينهم محشو بالخرافات، والأكاذيب، ويشككون فيه من تعلموا في تلك المدارس، ويصدق بعض غوغائهم تلك الأباطيل، حتى لقد قيل: إن هذا الدين لا يعيش في ظل العلم، ولا يقبل الأفكار والآراء، وهو والعلم عدوان لا يجتمعان.
ومما جعل لهم بعض المعذرة فيما يقولون: حال المسلمين من الخمول، وسوء الأحوال، وقبيح المعتقدات والأعمال، مما جعلهم مضغة في أفواه الأمم المتمدنة. ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾.
وإن الله لينسخ تلك الوساوس ويزيل هذه الأوهام، فقد تصدى كثير من ذوي المعرفة لدحض تلك المفتريات، فقام العالم الحكيم محمد عبده، وألف كتابه "الإسلام والنصرانية" ودفع كثيرًا من مطعان أولئك المبشرين. وقام بعده كثير من أهل الفقه بالدين، فاحتذوا حذوه، وواصلوا الليل بالنهار، في دحض تلك الشبه، وان الله لناصر دينه ولو كره الكافرون.
هذا وقد دس (١) بعض الزنادقة في تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة، لم ترد في كتاب من كتب السنة "الصحيحة" وأصول الدين تكذبها، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها. وأنها ليست من الحق في شيء، وهي مما تشكك المسلمين في دينهم وتجعلهم في حيرة من أمر الوحي، وكلام الرسول، فيجب على العلماء طرحها وراءهم ظهريًا. وأن لا يضيعوا الزمن في تأويلها وتخريجها، وأن لا يسرفوا الأوراق والحبر في كتابتها ولا سيما بعد أن نص الثقات من المحدثين على وضعها وكذبها، لمصادمتها لأصول الدين التي لا تقبل شكًا ولا امتراء.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وقال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بما أوحى إليه، وبما ألقى الشيطان ﴿حَكِيمٌ﴾؛ أي: ذو الحكمة البالغة في تمكينه من ذلك الإلقاء، يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الإيمان من المتزلزل فيه؛ أي: والله عليم بكل شيء، ومن ذلك ما يصدر عن الشيطان وأوليائه، فيجازيهم عليه أشد الجزاء. حكيم في أفعاله، ومن ذلك أن يمكن الشيطان من إلقاء الشبهات، ليحاج أولياءه بها، فيتمكن المؤمنون من ردها، ودحض المفتريات التي يتشدقون بها، ويرجع الحق إلى نصابه، فتظهر الحقيقة ناصعة بيضاء، من بين تلك الظلمات، فتمحو الظلام الذي كان عالقًا بنفوس الذين في قلوبهم مرض، وتضيء آفاق العقول السليمة، وتهديهم إلى طريق الرشاد.
٥٣ - وإلى الفريقين أشار بقوله:
١ - ﴿لِيَجْعَلَ﴾ وهذه الجملة علة للإلقاء؛ أي: ذلك الإلقاء من الشيطان لكي يجعل سبحانه وتعالى ﴿مَا يُلْقِي﴾ ﴿الشَّيْطَانُ﴾ في قلوب أوليائه من تلك الشبهات ﴿فِتْنَةً﴾ واختبارًا ﴿لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي: شك ونفاق؛ لأنه مرض قلبي، مؤد إلى الهلاك الروحاني. كما أن المرض القلبي مؤد إلى الهلاك الجسماني. ﴿و﴾ فتنة لـ ﴿الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: فتنة للذين قست قلوبهم، وغلظت عن قبول التوحيد، وهم المشركون؛ لأن قلوبهم لا تلين للحق أبدًا، ولا ترجع إلى
أي: ذلك الإلقاء ليجعل ما يلقيه الشيطان في قلوب أوليائه فتنة، وضلالة للمنافقين، الذين في قلوبهم مرض، ونفاق. وللكافرين الذين قست قلوبهم فلا تلين لقبول الحق، ولا ترعوي عما هي فيه من الغي والضلال. ثم (١) سجل سبحانه على هاتين الطائفتين، وهما من في قلبه مرض، ومن في قلبه قسوة، بأنهم ظالمون. فقال: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسهم بحرمانها من سعادة الدارين يعني المنافقين والمشركين، ففيه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا عليهم اسم الظلم. ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾ وخلاف ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحق والصواب؛ أي: لفي عداوة شديدة، ومخالفة تامة. ووصف الشقاق بالبعد، مع أن الموصوف به حقيقة من قام به للمبالغة.
أي: وإن (٢) هذين الصنفين من الضلال لفي عداوة لأمر الله، وبعد عن الرشاد والسداد بما لا مطمع لهما معه في النجاة، والفوز برضا الله تعالى.
٥٤ - ولما بيَّن سبحانه، أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشرك، بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به، سبب لحصول العلم لهم، بأن القرآن حق وصدق فقال:
٢ - ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾؛ أي: ولكي يعلم الذين رزقوا العلم بالله وبآياته، بنسخ ما يلقي الشيطان في قلوب أوليائه من تلك الشبهات وبإحكام آياته ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن القرآن المقروء للرسول هو ﴿الْحَقُّ﴾ النازل ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: من عند ربهم ﴿فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾؛ أي: فيصدقوا به. أي: (٣) يثبتوا على الإيمان به، أو يزدادوا إيمانًا برد ما يلقي الشيطان. وهو عطف على قوله ليعلم. ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ﴾ أي: للقرآن؛ أي: تخشع وتتواضع له ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ أي: قلوب الذين أوتوا العلم وتذعن للإقرار به نفوسهم، وتنقاد له، وتعمل بما فيه من عبادات، وآداب،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ثم بين حسن مآلهم، وفوزهم بسعادة العقبى. فقال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في الأمور الدينية خصوصًا في المداحض، والمشكلات التي من جملتها هذا الإلقاء ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إلى نظر صحيح موصل إلى الحق الصريح.
أي: وإن الله سبحانه لمرشد الذين آمنوا به وصدقوا برسوله، وموفقهم إلى الحق الواضح بنسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسوله حين تلاوة الوحي، وحفظ أصول الدين الصحيحة في نفوسهم، والعمل بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وخلاصة ذلك: أن الله ليهدي الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابه من الدين، وتفصيل ما أجمل منه بما تقتضيه الأصول المحكمة، فلا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، ولا تزلزل أقدامهم ترهات المبطلين.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالإضافة. وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين ﴿لهادٍ﴾.
٥٥ - ثم أردفه ببيان مآل الفريق الأول، فقال: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ﴾؛ أي: في شك ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: مما ألقى الشيطان في قلوبم من تلك الشبهات والخرافات حين قراءة الرسول القرآن عليهم ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾؛ أي: (٢) حتى يأتيهم الموت فجأة، وهم في بيوتهم آمنون. ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾؛ أي: أو يشتبكوا مع المؤمنين في قتال يهلك فيه أبطالهم، وصناديدهم، كما حدث يوم بدر. وقد جعل هذا اليوم عقيمًا؛ لأن المقاتلين يسمون أبناء الحرب، فإذا هم قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم.
أو المعنى (٣): ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾؛ أي: القيامة ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ وهو يوم القيامة؛ لأنه لا يوم بعده، فكان بهذا الاعتبار عقيمًا. والعقيم
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
وخلاصة هذا: أنه لا مطمح في إيمانهم ولا لزوال المرية من قلوبهم، فهم لا يزالون كذلك حتى يهلكوا.
٥٦ - وبعد أن بين سبحانه حال الفريقين في الدنيا، أرشد إلى حالهم في الآخرة. فقال: ﴿الْمُلْكُ﴾؛ أي: السلطان القاهر، والاستيلاء التام، والتصرف على الإطلاق. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تأتيهم الساعة، أو العذاب ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وحده لا منازع له فيه، ولا مدافع له عنه. وجملة قوله: ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا يصنع بهم حينئذٍ، فقيل: يحكم بين فريقي المؤمنين بالقرآن، والمجادلين فيه بالمجازاة اللائقة بكل منهما.
أي: إذا جاء (١) يوم القيامة.. حكم ربهم بينهم بالحق، وجازى كلا منهما بما هو له أهل، وبما أعد نفسه له في الدنيا من عمل صالح، زكى به نفسه، وطهر به روحه، أو عمل سيء دسَّاها به، فرانت على قلبه غشاوة الشكوك والأوهام، واجترام المعاصي والآثام.
ثم فسر هذا الحكم والمحكوم عليهم، وفصله بقوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالقرآن ولم يجادلوا فيه، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الخيرات بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه مستقرون ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ لا يموتون فيها، ولا يخرجون؛ أي: فالذين آمنوا بهذا القرآن وبمن أنزله، وبمن جاء به، وعمل بما فيه من أوامر ونواه، يثيبهم ربهم جنات النعيم، يستمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جزاء وفاقًا على ما زكوا به أرواحهم، وأخلصوا له في أعمالهم، وراقبوه في السر والعلن، وخافوا عذابه في ذلك اليوم
٥٧ - ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: أصروا على ذلك، واستمروا. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ خبره جملة قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛ أي: عذاب ذو إهانة، يذهب بعزهم وكبرهم رأساً، وبالكلية، ويلحقهم من الخزي والصغار ما لا يحيط به الوصف، و (١) إدخال الفاء في خبر الثاني، دون الأول، تنبيه على أن إثابة المؤمنين بطريق التفضل، لا لإيجاب الأعمال الصالحة إياها وأن عقاب الكافرين بسبب أعمالهم السيئة.
والمعنى: أي (٢) والذين كفروا بالله وكذبوا رسوله، وجحدوا بآيات كتابه، وقالوا إنما هو إفك افتراه محمد، وأعانه عليه قوم آخرون، أولئك لهم عذاب عند ربهم، يذلهم، ويخزيهم، كفاء استكبارهم عن النظر فيها، وجحودهم بها عنادًا، وقد كان لهم فيها - لو تأملوا حق التأمل - ما يكون صادًا لهم عن غيهم، ورادعا لهم عن ضلالهم.
واعلم (٣): أن الفصل والحكومة العادلة كائن لا محالة، وإن كان الكفار في شك من القرآن، وما نطق به من البعث، والمجازاة. روي أن لقمان وعظ ابنه وقال: يا بني إن كنت في شك من الموت فادفع عن نفسك النوم، ولن تستطيع ذلك، وإن كنت في شك من البعث، فإذا نمت فادفع عن نفسك الانتباه، ولن تستطيع ذلك، فإنك إذا فكرت في هذا، علمت أن نفسك بيد غيرك، فإن النوم بمنزلة الموت، واليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، فإذا عرف العبد مولاه قبل أمره، ونال به عزة لا تنقطع أبدًا، وهي عزة الآخرة التي تستصغر عندها عزة الدنيا.
وروي أن عابدًا رأى سليمان عليه السلام، في عزة الملك فقال: يا ابن داود لقد آتاك الله ملكًا عظيمًا. فقال سليمان: لتسبيحة واحدة خير مما فيه سليمان تبقى، وملك سليمان يفنى. فإذا كانت التسبيحة الواحدة أفضل من ملك
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٥٨ - ثم أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر، تخصيصًا لهم بمزيد الشرف، فقال: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ وفارقوا أوطانهم، وتركوا عشائرهم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وطاعته، وجهاد أعدائه، طلبًا لرضاه سبحانه.
وقال بعض المفسرين (١): هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: هم الذين هاجروا من الأوطان في سرية، أو عسكر، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكل من سبيل الله. ﴿ثُمَّ قُتِلُوا﴾ أي: قتلهم أعداء الله في الجهاد. قرأ ابن عامر وأهل الشام ﴿ثم قتِّلوا﴾ بالتشديد على التكثير. وقرأ الباقون بالتخفيف. ﴿أَوْ مَاتُوا﴾ في حال المهاجرة في سفر، أو حضر من غير قتل. واللام في قوله: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ جواب قسم محذوف، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾. وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبرًا للمبتدأ؛ أي: وعزتي وجلالي ليثيبنهم الله تعالى ثوابًا جزيلًا لا ينقطع أبدًا، هو نعيم الجنة، جزاء ما ناضلوا عن دينه، وأخلصوا في الذود عنه.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وأفضل المعطين، وأجود الأكرمين، يعطي من يشاء بغير حساب، ويرزق الخلق كافَّةً، بارهم وفاجرهم، وكل رزق يجري على يد العباد بعضهم لبعض فهو منه سبحانه، لا رزاق سواه، ولا معطي غيره. وجملة ﴿إن﴾ تذييلية مقررة لما قبلها. والرزق العطاء الجاري دنيويًا كان أو أخرويًا.
٥٩ - وجملة قوله: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ﴾؛ أي: ليدخلن الله سبحانه وتعالى المهاجرين. واللام فيه للقسم. ﴿مُدْخَلًا﴾ اسم مكان أريد به الجنة. قرأ أهل المدينة: مدخلًا بفتح الميم، والباقون بضمها. وانتصابه على أنه مفعول ثان، أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور. جملة مستأنفة، أو بدل من جملة ليرزقنهم الله؛ أي:
والمعنى: أي والله ليدخلن الله المقتولين في سبيله، والموتى مهاجرين في طاعة ربهم، وذودًا عن دينه جنات النعيم، ويكرمون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لما لا ينالهم فيها مكروه، ولا أذى. كما قال: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦)﴾ ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿لَعَلِيمٌ﴾ بدرجات العالمين، ومراتب استحقاقهم ﴿حَلِيمٌ﴾ عن تفريط المفرطين منهم، لا يعاجلهم بالعقوبة.
والمعنى: أي وإن الله الذي عمت رحمته، وعظمت نعمته لعليم بمقاصدهم، وأعمالهم، وأعمال أعدائهم، حليم فلم يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة جزاء تكذيبهم ومقاومتهم دعوة الدين مع غاية الاقتدار.
روي: "أن إبراهيم عليه السلام، رأى عاصيًا في معصيته فدعا عليه، وقال اللهم أهلكه ثم رأى ثانيًا وثالثًا ورابعًا فدعا عليه، فقال الله تعالى: يا إبراهيم لو أهلكنا كل عبد عصى ما بقي إلا القليل، ولكن إذا عصى أمْهَلْناه فإن تاب قبلناه، وإن استغفر أخرنا العذاب عنه، لعلمنا أنه لا يخرج عن ملكنا".
الإعراب
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يُدَافِعُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿عَنِ الَّذِينَ﴾ متعلق به ومفعول يدافع محذوف، تقديره: عوادي المشركين وغوائلهم. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتأكيد البشرى. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا﴾ نافية ﴿يُحِبُّ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. {كُلَّ
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾.
﴿أُذِنَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والمأذون فيه محذوف لعلمه؛ أي: في القتال، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لبيان الإذن في قتال المشركين. ﴿يُقَاتَلُونَ﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ الباء: حرف جر وسبب. ﴿أنهم﴾ ناصب واسمه. ﴿ظُلِمُوا﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بسبب ظلمهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أُذِنَ﴾ ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿إن الله﴾ ناصب واسمه. ﴿عَلَى نَصْرِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قدير﴾ ﴿لَقَدِيرٌ﴾ اللام: حرف ابتداء ﴿قدير﴾ خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة للوعد لهم بالنصر، على طريق الرمز والكناية. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر نعت، أو بدل من ﴿الذين يقاتلون﴾، أو في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف. ﴿أُخْرِجُوا﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ متعلق بأخرجوا. ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه حال من واو ﴿أُخْرِجُوا﴾؛ أي: حالة كون إخراجهم ملتبسًا بغير حق، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء منقطع ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل ﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُوا﴾، وجملة ﴿يَقُولُوا﴾ في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكنه على تقدير حرف الجر، كما في المستثنى منه؛ أي: ما أخرجوا بشيء من الأشياء إلا بقولهم ربنا الله. واختار الزمخشري وغيره: أن يكون الاستثناء مفرغًا لوجود النفي بغير، فـ ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر. و ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ في محل جر على الإبدال من ﴿حَقٍّ﴾؛ أي: بغير موجب سوى التوحيد، الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين، لا موجب الإخراج والتسيير. ﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لولا﴾ حرف امتناع لوجود متضمن
﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
﴿لَهُدِّمَتْ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿هُدِّمَتْ صَوَامِعُ﴾ فعل مغير ونائب فاعل. ﴿وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ معطوفات على ﴿صَوَامِعُ﴾. والجملة الفعلية جواب ﴿لولا﴾، لا محل لها من الإعراب. وجملة ﴿لولا﴾ مستأنفة. ﴿يُذْكَرُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿فِيهَا﴾ متعلق به. ﴿اسْمُ اللَّهِ﴾ نائب فاعل لـ ﴿يُذْكَرُ﴾. ﴿كَثِيرًا﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرا كثيرًا، أو صفة لظرف محذوف؛ أي: وقتا كثيرًا. والجملة الفعلية في محل الرفع صفة للمواضع المذكورة. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ﴾ الواو استئنافية. واللام: موطئة للقسم. ﴿ينصرن﴾ فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم. في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿اللَّهُ﴾ فاعل ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف. وجملة القسم مستأنفة. ﴿يَنْصُرُهُ﴾: فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَقَوِيٌّ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿قوي﴾ خبر أول لأن. ﴿عَزِيزٌ﴾ خبر ثان لها وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل النصر.
﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿الَّذِينَ﴾ قبلها، أو نعت ثان لـ ﴿الَّذِينَ﴾ الأولى، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو بدل من ﴿مَنْ﴾ الموصولة في قوله: ﴿مَنْ يَنْصُرُهُ﴾؛ أي:
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿يُكَذِّبُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف النون. ﴿فَقَدْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بقد. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كَذَّبَتْ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿قَبْلَهُمْ﴾ متعلق به. ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾: فاعل ومضاف إليه ﴿وَعَادٌ﴾ معطوف على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿وَثَمُودُ﴾ معطوف عليه أيضًا. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ﴾ معطوف على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. وكذا قوله: ﴿وَقَوْمُ لُوطٍ﴾ ﴿وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ﴾. معطوفان عليه. و ﴿مَدْيَنَ﴾: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي كزينب.
﴿وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾.
﴿وَكُذِّبَ مُوسَى﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كُذِّب موسى﴾: فعل ونائب فاعل. والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾. ﴿فَأَمْلَيْتُ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿أمليت﴾: فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على
﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)﴾.
﴿فَكَأَيِّنْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿كأين﴾ خبرية بمعنى عدد كثير في محل الرفع، مبتدأ مبني على السكون لشبهها بالحرف، شبها معنويًا لتضمنه معنى رب التكثيرية. ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ تمييز لـ ﴿كأين﴾ مجرور بـ ﴿مِنْ﴾ الزائدة. ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿كأين﴾. والجملة الاسمية مستأنفة، ويجوز نصب ﴿كأين﴾ على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾، فتكون جملة ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ مفسرة، ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾. ﴿فَهِيَ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿هي خاوية﴾ مبتدأ وخبر. والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾. ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَاوِيَةٌ﴾. ﴿وَبِئْرٍ﴾ معطوف على ﴿قَرْيَةٍ﴾. ﴿مُعَطَّلَةٍ﴾ صفة لـ ﴿بئر﴾. ﴿وَقَصْرٍ﴾ معطوف أيضًا على ﴿قَرْيَةٍ﴾. ﴿مَشِيدٍ﴾ صفة ﴿قصر﴾.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: أغفل أهل مكة فلم يسيروا في الأرض. ﴿لم﴾ حرف نفي وجزم. ﴿يَسِيرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
﴿فَإِنَّهَا﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية ﴿إنَّ﴾ حرف نصب. الهاء: ضمير القصة في محل النصب اسمها ﴿لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ فعل وفاعل. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ مفسرة لضمير الشأن. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَلَكِنْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك. ﴿تَعْمَى الْقُلُوبُ﴾ فعل وفاعل. والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لَا تَعْمَى﴾ على كونها خبرًا ﴿لأن﴾ ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿الْقُلُوبُ﴾. ﴿فِي الصُّدُورِ﴾: جار ومجرور صلة الموصول.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)﴾.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يستعجلونك﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿بِالْعَذَابِ﴾: متعلق به. ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ﴾ الواو: حالية ﴿لن﴾ حرف نفي ونصب. ﴿يُخْلِفَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿لن﴾. ﴿وَعْدَهُ﴾ مفعول به. والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يستعجلونك﴾، والرابط محذوف،
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿كأين﴾: خبرية في محل الرفع مبتدأ. ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: تمييز لها في محل النصب مجرور بـ ﴿مِنْ﴾. ﴿أَمْلَيْتُ﴾ فعل وفاعل. والجملة في محل الرفع خبر ﴿كأين﴾. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿يستعجلونك﴾. ﴿لَهَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَمْلَيْتُ﴾. ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب حال من ضمير لها. ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾ فعل وفعل ومفعول معطوف على ﴿أَمْلَيْتُ﴾. ﴿وَإِلَيَّ﴾ خبر مقدم. ﴿الْمَصِيرُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير ﴿أَخَذْتُهَا﴾؛ أي: ثم أخذتها حال، كون مصيرها إلى، لا إلى غيري.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي. وإن شئت قلت: ﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أَيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾ حرف تنبيه ﴿النَّاسُ﴾: بدل لـ ﴿أي﴾. وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر. ﴿أَنَا﴾ مبتدأ. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بما بعده ﴿نَذِيرٌ﴾ خبر المبتدأ ﴿مُبِينٌ﴾ صفة له، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ﴿قُلْ﴾ على كونها جواب النداء.
﴿فَالَّذِينَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت لهم: يا أيها الناس، إنما أنا لكم بشير ونذير، وأردت بيان مآلهم.. فأقول لك: الذين آمنوا. ﴿الذين﴾ مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ مبتدأ ثان مؤخر. ﴿وَرِزْقٌ﴾ معطوف على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾. ﴿كَرِيمٌ﴾ صفة لـ ﴿رزق﴾، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره. في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الذين﴾: مبتدأ أول. ﴿سَعَوْا﴾ فعل وفعل صلة الموصول. ﴿فِي آيَاتِنَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿سَعَوْا﴾. ﴿مُعَاجِزِينَ﴾: حال من فاعل ﴿سَعَوْا﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ثان ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ خبره. والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية: ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿رَسُولٍ﴾ مفعول به لـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿وَلَا نَبِيٍّ﴾ معطوف على الرسول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من عام الأوقات ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿تَمَنَّى﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على رسول أو نبي، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب إذا لا محل لها من الإعراب. وجملة إذا من فعل شرطها وجوابها في محل النصب على الاستثناء من
﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)﴾.
﴿لِيَجْعَلَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يجعل﴾: منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مَا﴾ في محل النصب مفعول أول لـ ﴿جعل﴾. ﴿يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ فعل وفاعل صلة لما، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما يلقيه الشيطان. ﴿فِتْنَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾، وجملة يجعل مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لجعل الله ما يلقي الشيطان فتنة، للذين في قلوبهم مرضٌ. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُحْكِمُ﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿لِيَجْعَلَ﴾ في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها متعلق بـ ﴿يُحْكِمُ﴾.
والثاني: أنها متعلق بـ ﴿ينسخ﴾، وهذا الوجه ظاهر أيضًا.
والثالث: أنها متعلق بـ ﴿أَلْقَى﴾، وليس بظاهر، انتهى. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فِتْنَةً﴾، أو متعلق به. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالْقَاسِيَةِ﴾ معطوف على الذين. ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ فاعل القاسية. ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ الواو حالية، أو استئنافية. ﴿إن الظالمين﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِي﴾ اللام حرف ابتداء. ﴿في شقاق﴾ جار ومجرور خبر ﴿إن﴾. ﴿بَعِيدٍ﴾ صفة ﴿شِقَاقٍ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)﴾.
﴿وَلِيَعْلَمَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل ﴿يعلم الذين﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، الجار والمجرور معطوف على الجال والمجرور في قوله: ﴿لِيَجْعَلَ﴾، وقد تقدم لك بيان متعلقه. ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ فعل ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ ناصب واسمه وخبره ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور حال من ﴿الْحَقُّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعول ﴿يعلم﴾؛ أي: كونه الحق من ربهم. ﴿فَيُؤْمِنُوا﴾: الفاء عاطفة. ﴿يؤمنوا﴾، فعل وفاعل مطعوف على ﴿ليعلم﴾ منصوب بأن مضمرة. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يؤمنوا﴾. ﴿فَتُخْبِتَ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿تخبت﴾ فعل مضارع معطوف على ﴿يؤمنوا﴾، منصوب بأن مضمرة. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تخبت﴾. ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ فاعل لـ ﴿تخبت﴾. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ الواو: استئنافية. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهَادِ﴾ اللام: حرف ابتداء ﴿هاد﴾: خبر ﴿إن﴾ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص وحذفت خطًّا تبعًا للفظ. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿هاد﴾؛ لأنه اسم فاعل، ويجوز فيه الإضافة، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفعل صلة الموصول. ﴿إِلَى صِرَاطٍ﴾ متعلق بـ ﴿هاد﴾. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾: صفة صراط.
﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَزَالُ﴾: فعل مضارع ناقص من أخوات كان. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الرفع اسمها ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة
﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧)﴾.
﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف إلى مثله، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿يَحْكُمُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، كأنه قيل: إذا كان الملك لله سبحانه، فماذا يصنع بهم. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿يَحْكُمُ﴾. ﴿فَالَّذِينَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه يحكم بينهم، وأردت بيان كيفية الحكم بينهم.. فأقول لك: ﴿الذين﴾ مبتدأ ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ أول. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَكَذَّبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على كفروا. ﴿بِآيَاتِنَا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بكذبوا. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ، لما في المبتدأ من رائحة الشرط. ﴿أولئك﴾ مبتدأ ثان. ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ ثالث مؤخر. ﴿مُهِينٌ﴾
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الذين﴾ مبتدأ. ﴿هَاجَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق به. ﴿ثُمَّ قُتِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿هَاجَرُوا﴾ ﴿أَوْ مَاتُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿قُتِلُوا﴾. ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ﴾ اللام، موطئة للقسم. ﴿يرزقنهم﴾: فعل ومفعول في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. ﴿اللَّهُ﴾ فاعل. ﴿رِزْقًا﴾ مفعول مطلق. ﴿حَسَنًا﴾ صفة له، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿لَهُوَ﴾ اللام، حرف ابتداء. ﴿هو﴾ ضمير فصل. ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها.
﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)﴾.
﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يدخلنهم﴾: فعل مضارع ومفعول به. في محل الرفع، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية جوابا القسم، وجملة القسم بدل من قوله: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ﴾، أو مستأنفة. ﴿مُدْخَلًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿يَرْضَوْنَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول صفة لمدخلًا. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَعَلِيمٌ﴾: اللام: حرف ابتداء. ﴿عليم﴾: خبر أول لأن. ﴿حَلِيمٌ﴾ خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة القسم أو مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يُدَافِعُ﴾؛ أي: يدفع فالمبالغة ليست على بابها. قال الراغب: الدفع إذا عدى بإلى اقتضى معنى الإنالة، نحو قوله تعالى: ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾. وإذا
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ والمراد بديارهم: مكة المكرمة. وتسمى البلاد الديار؛ لأنه يدار فيها للتصرف. يقال: ديار بكر لبلادهم، وتقول العرب: الذي حوالي مكة، نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. قال الراغب: "الدار المنزل اعتبارًا بدورانها الذي لها بالحائط". وقيل: دارة وجمعها ديار، ثم تسمى البلدة دارًا. اهـ. "روح البيان".
﴿لَهُدِّمَتْ﴾ الدم: إسقاط البناء، والتهديم للتكثير؛ أي: لخربت باستيلاء المشركين عليها. ﴿صَوَامِعُ﴾ جمع صومعة وصومع، وهو جبل أو مكان مرتفع يسكنه الراهب، أو المتعبد قصد الإنفراد. ثم أطلقت الكلمة على الدير والصومعة أيضًا العقاب والبرنس وأعلى كل جبل، إذا كان منتدق الرأس. وفي "السمين" الصومعة: البناء المرتفع المحدب الأعلى. ووزنها فوعلة، كدحرجة. وهي متعبد الرهبان. وقيل: متعبد الصابئين.
﴿بيع﴾ جمع بيعة بكسر الباء، المعبد للنصارى واليهود، والجمع بيه بكسر الباء وفتح الياء، وبيعات بكسر الباء وسكون الياء. ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾: بفتح الصاد واللام، جمع صلاة. وسميت الكنيسة صلاة، لأنه يصلي فيها. وقيل: هي كلمة معربه، أصلها بالعبرانية: صلوثا بفتح الصاد والثاء المثلثة، كما في "الخفاجي على البيضاوي"، وبه قرىء في الشواذ.
ومعناه في لغتهم: المصلى فلا يكون مجازًا. ﴿وَمَسَاجِدُ﴾ جمع مسجد، وهو معبد المسلمين.
﴿فَأَمْلَيْتُ﴾ أمهلتهم إلى أجلهم ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ قال الراغب: الأخذ: وضع الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول. نحو ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾ وتارة بالقهر ومنه الآية. ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، كالنذير بمعنى الإنذار، فالمراد بالإنكار: التغييير بالضد بأن غير حياتهم بإهلاكهم وموتهم، وعمارتهم بالخراب. وليس بمعنى الإنكار اللساني والقلبي، اهـ. شيخنا. وفي "المراغي"، والنكير والإنكار على الشيء: أن تفعل فعلًا به يزجر المنكر عليه على ما فعل. ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾؛ أي: ساقطة. ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾؛ أي: سقوفها.
﴿وَبِئْرٍ﴾ البئر في الأصل: حفيرٌ يستر رأسها لئلا يقع فيها من مر عليها. وفي "المختار" بأر يبأر بأرًا بهمزة بعد الباء إذا حفرها، وبابه قطع، وقد تبدل همزته ياء والبئر فعلٌ بمعنى مفعول، كالذبح بمعنى المذبوح، حفرة في الأرض عظيمة، يستقى منها الماء، والجمع آبار وأبائر، وبئار وأبؤر، وهي مؤنثة. وفي "الأساس" الفاسق من ابتأر، والفويسق من ابتهر، يقال ابترت الجارية إذا قال: فعلت بها وهو صادق، وابتهرتها إذا قال: ذلك وهو كاذبٌ، ومنه التأبير، وهو شق كيزان طلع الإناث، وذر طلع المذكور فيه.
﴿مُعَطَّلَةٍ﴾؛ أي: متروكة بموت أهلها، معطلة عن منافعها، مع أنها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستقاء. ﴿وَقَصْرٍ﴾ يقال: قصرت كذا ضممت بعضه إلى بعض، ومنه سمي القصر. قال في "القاموس": القصر خلاف الطول وخلاف المد والمنزل، وكل بيت من حجر. ﴿مَشِيدٍ﴾؛ أي؛ مبني بالشيد وهو الجص. وقيل: مشيد؛ أي: مطول مرفوع البنيان وفي "القاموس" شاد الحائط يشيده إذا طلاه بالشيد، وهو ما طلي به حائط من جصٍّ ونحوه. والمشيد المعمول به، وكمؤيد المطول انتهى.
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله، ويحوز كمالاته.
و ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ الجحيم: النار الموقدة، وقيل: اسم دركة من دركاتها ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾؛ أي: قرأ، قال في "القاموس": تمنَّى الكتاب، قرأه، والحديث اخترعه وافتعله. اهـ.
وقال الراغب: التمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، والأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء. وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾.
معناه إلا تلاوةً مجردة عن المعرفة، من حيث إن التلاوة بلا معرفة المعنى: تجري عند صاحبها مجرى أمنية تمناها على التخمين، اهـ. "روح البيان".
وإنما سميت القراءة أُمنيةً؛ لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة، تمنى حصولها، وإذا انتهى إلى آية عذاب، تمنى أن لا يبتلى به، اهـ من الرازي. وفي "المختار" والأمنية، واحد الأماني، تقول منه تمنى الكتاب إذا قرأه، اهـ.
﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ﴾؛ أي: يزيل ويبطل، فالمراد بالنسخ هو النسخ اللغوي، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام. ﴿وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ من القسوة وهو غلظ القلب، وأصله من حجر قاس، والمقاساة معالجة ذلك. وأل في القاسية موصولة، والصفة صلتها، وقلوبهم فاعل بها، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول. وأنث الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي، ولو وضع فعل موضعها لجاز تأنيثه. والقاسية عطف على الذين، كما سبق في مبحث الإعراب؛ أي: فتنة للذين في قلوبهم مرض، وفتنة للقاسية قلوبهم، اهـ. "سمين" - والمراد بهم الكفار المجاهرون بالكفر.
﴿بَغْتَةً﴾ فجأة. ﴿السَّاعَةُ﴾؛ أي: القيامة أو الموت. ﴿يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾؛ أي: منفرد عن سائر الأيام، لا مثيل له في شدته. والمراد الحرب الضروس. وأصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل.
﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ قال الراغب: النعيم، النعمة الكثيرة، اهـ. ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾؛ أي: أفضل المعطين، فأفعل التفضيل على بابه، ومعلوم أن كل الرزق من عنده تعالى، فالتفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص، بأن يرزق لما لا يقدر عليه غيره. وقيل: إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه، إما لأجل خروجه عن الواجب، أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء، أو لأجل الرقة الجنسية، وأما الحق سبحانه وتعالى، فإن كماله صفة ذاتية له، فلا يستفيد من شيء كمالًا زائدًا، فالرزق الصادر منه لمحض "الإحسان" اهـ. كرخي.
﴿ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا﴾ والقتل: إزاة الروح عن الجسد، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال له قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال له موتٌ.
﴿مُدْخَلًا﴾ بضم الميم من أدخل يدخل مدخلًا؛ أي: إدخالًا فيكون مدخلًا اسمًا لمصدر الفعل الذي قبله، فيكون المفعول به محذوفًا؛ أي: ليدخلنهم الجنة إدخالًا يرضونه، وقراءة نافع بفتحها موضع الدخول، فيكون المدخل مصدر، دخل يدخل دخولًا ومدخلًا فيكون مفعولًا للفعل قبله، ليدخلنهم مكانًا يرضونه، اهـ. كرخي.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: حذف مفعول يدافع اختصارًا لدلالة المقام على تعيينه؛ أي: غوائل المشركين. قال أبو حيان: لم يذكر الله ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم.
ومنها: حذف مفعول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ لدلالة السياق عليه؛ أي: أذن لهم في القتال بعد الهجرة.
ومنها: التعبير عن الماضي بلفظ المضارع في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا﴾؛ أي: بسبب قولهم إشارة إلى استمرار ذلك القول. ودوامه لهم.
ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ زيادة في التشنيع عليهم. وللنداء عليهم بصفة الكفر، وحق العبارة أن يقال: فأمليت لهم.
ومنها: الاستفهام التقريري التعجبي في قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ من إسناد ما للحال إلى المحل؛ لأن الظلم من وصف أهلها، لا من وصف القرية.
ومنها: تأنيث ضمير الشأن في قوله: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ وحسن التأنيث في الضمير، كونه وليه فعل بعلامة تأنيث، ولو ذكر في الكلام فقيل: فإنه لجاز، وهي قراءة مروية عن عبد الله، والتذكير باعتبار الأمر والشأن، والتأنيث باعتبار القصة، اهـ. "سمين".
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ بدليل التعميم المذكور
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق، في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿ينسخ ثم يحكم﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلًا عليهم ونداءً باسم الظلم، في قوله: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ بأن شبه ما لا خير فيه من الزمان بالنساء العقيم، كما شبهت الريح التي لا تحمل السحاب، ولا تلقح الأشجار بهن، تشبيهًا مضمرًا في النفس، وإثبات العقم تخيل، فإن الأيام بعضها نتائج لبعض، فكل يوم يلد مثله، اهـ. من "الشهاب". أو لأن يوم الحرب يقتل فيه أولاد النساء فيصرن كأنهن عقم لم يلدن.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)﴾
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها واضحة، وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل ومات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم وهو قديرٌ على ذلك إذ من قدر على إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل بأن يزيد من أحدهما ما ينقصه من الآخر.. يقدر على نصره وهو الثابت الإلهية وحده إذ لا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل الحلم وأن ما سواه باطل لا يقدر على شيء.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) ما دلّ على قدرته الباهرة، من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وهما أمران مشاهدان بمجيء الظلمة والنور، ذكر أيضًا ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي، وهو نزول المطر وإنبات الأرض، وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيّان.
قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدّم (٢) ذكر نعمه، وأنه رؤوف بعباده رحيم بهم، وأنّ الإنسان كفور بطبعه، ومن ثمّ جحد الخالق لهذه النعم، أتبعه بزجر معاصريه - ﷺ - من أهل الأديان السماوية، عن منازعته بذكر خطأهم فيما تمسكوا به من الشرائع، وبيان أنّ لكل أمة شريعة خاصّة. ثمّ أمره بالثبات على ما هو عليه من الحقّ، وأنه لا يضره عناد الجاحدين، فالله هو الحكم بينهم وبينه يوم القيامة. وفي "الفتوحات": مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه مشتملة على النعم التكليفية، والتي قبلها مشتملة على نعم غير تكليفية، اهـ. انتهت.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآيات،
(٢) المراغي.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر أنّه يحكم بين عباده يوم القيامة، ويجازي كلاًّ من المسيء والمحسن بما هو له أهل.. أعقب هذا ببيان أنّه العليم بما يستحقّه كلًّا منهم، فيقع حكمه بينهم بالعدل.
ثمّ أرشد إلى أنّه على وضوح الدلائل وعظيم النعم عليهم عبدوا غيره مما لم يقم الدليل على وجوده، وأنّهم مع جهلهم إذا نبّهوا إلى الحقّ، وعرضت عليهم المعجزة، وتلي عليهم الكتاب الكريم، ظهر في وجوههم الغيظ والغضب، وهمّوا أن يبطشوا بمن يذكّرهم بآيته إنكارًا منهم لما خوطبوا به. ثمّ أبان لهم أنّ ما ينالهم من النار التي يقتحمونها بأفعالهم وأقوالهم، أعظم مما ينالهم من الغمّ والغيظ حين تلاوة هذه الآيات.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أنّ الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته، لا من سمع ولا من عقل، ويتركون عبادة من خلقهم.. ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقلّ الأشياء، بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقلّ منه، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم، حيث عبدوا من هذه صفته.
مناسبة (٢) هذه الآيات لما قبلها واضحة: وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل، أو مات في سبيل الله، أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا، على من بغى عليهم، وهو قادر على ذلك، إذ من (٣) قدر على إدخال الليل في النهار، وإدخال النهار في الليل، بأن يزيد في أحدهما ما ينقصه من الآخر يقدر على
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وعبارة المراغي هنا: لما ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم عليه من الوحي، ولا دليل عليه من العقل.. أردف هذا بما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية وما ينبغي أن يكون لها من إجلال وتعظيم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه سبحانه يصطفي من الملائكة والناس لرسالته من يشاء، وهو العليم بمن يختار ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ ولما ذكر (١) تعالى أنه اصطفى رسلًا من البشر إلى الخلق، أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف، وهو الصلاة. قيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع، ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات، ثم في النبوات، أتبعها بالكلام في الشرائع والأحكام.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ...﴾ الآية، سبب (٢) نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل "أنها نزلت في سرية بعثها النبي - ﷺ -، فلقوا المشركين لليلتين بقيتا من المحرم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة وذكروهم بالله أن لا يتعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، ونصروا عليهم، فنزلت هذه الآية".
التفسير وأوجه القراءة
٦٠ - والإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما تقدم، فهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي:
(٢) لباب النقول.
والمعنى: أي (٢) ذلك الرزق الحسن والمدخل الكريم، لمن قتلوا في سبيل الله، أو ماتوا، ولهم أيضًا النصر في الدنيا على أعدائهم. وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَمَنْ عَاقَبَ﴾ وجازى الظالم ﴿بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾؛ أي: بمثل ما ظلمه، ولم يزد في الاقتصاص على ذلك المثل، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به، ولم يزد عليه، والعقوبة (٣) في الأصل اسم لما يعقب الجرم من الجزاء، وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو جزاء الجناية؛ أي: مع أنه ليس بجزاء يعقب الجريمة للمشاكلة، كقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ وكقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ أو على سبيل المجاز المرسل، فإنه ما وقع ابتداءً سببٌ لما وقع جزاء وعقوبة، فسمي السبب باسم المسبب.
﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: اعتدى عليه؛ أي: إن الظالم في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى. قيل: المراد بهذا البغي هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم، بعد أن كذبوا نبيهم، وآذوا من آمن به. واللام في قوله: ﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لينصرن الله المبغي عليه؛ أي: المظلوم على الباغي؛ أي: الظالم لا محالة وهو خبر من.
وقيل (٤): إن معنى ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: ثم كان المجازي مبغيًا عليه؛ أي: مظلوماً ومعنى (ثم) تفاوت الرتبة؛ لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم، كما
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
والمعنى: أي (١) وإن من جازى من المؤمنين بمثل ما عوقب به ظلمًا من المشركين، فقاتلهم كما قاتلوه، ثم بغي عليه باضطراه إلى الهجرة، ومفارقة الوطن.. لينصرنه الله الذي لا يغالب، ولينتقمن له من أعدائه، ولينكلن بهم، ويمكننه منهم، ويجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
والخلاصة: أنه تعالى كما يدخلهم مدخلًا كريماً، يعدهم بالنصر على أعدائهم، إذا هم قاتلوهم، وبغوا عليهم، وأخرجوهم من ديارهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ الذي أحاطت قدرته بكل شيء ﴿لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾؛ أي: لكثير العفو والغفران للمؤمنين، فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل: العفو والغفران لما وقع من المؤمنين، من ترجيح الانتقام على العفو؛ أي: ليعفو عن المؤمنين فيغفر لهم ما أمعنوا فيه من الانتقام، وما أعرضوا عنه مما ندب من العفو؛ بمثل قوله: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)﴾ وقوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿وأن تعفو أقرب للتقوى﴾ وهم بفعلهم هذا تركوا ما كان أجدر بهم وأحرى بمثلهم.
والخلاصة: كأنه سبحانه قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها لهم؛ لأني أذنت بها.
وفي "بحر العلوم" (٢): ﴿لَعَفُوٌّ﴾؛ أي: محاء للذنوب بإزالة آثارها من ديوان الحفظة والقلوب بالكلية كي لا يطالبهم بها يوم القيامة، ولا يخجلوا عند تذكرها، وبأن يثبت مكان كل ذنب عملًا صالحًا، كما قال: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ ﴿غَفُورٌ﴾؛ أي: مريد لإزالة العقوبة عن مستحقها، من الغفر، وهو الستر؛ أي: ستور عليهم، وقدم العفو؛ لأنه أبلغ لأنه يشعر بالمحو الذي هو أبلغ من الستر، وفيه إشارة إلى أن الأليق بالمنتصر، والأقرب بحاله، أن يعفو
(٢) للسمرقندي.
وقال بعضهم (١): الإنسان الكامل كالبحر، فمن آذاه واغتابه، أو قصد إليه بسوء، فإنه لا يتكدر به بل يعفو عنه، ألا ترى أن البول إذا وقع في البحر، فالبحر يطهره، وكذا من أجنب، إذا دخل البحر، واغتسل، فإنه يطهر، ولا يتغير البحر لا بالبول ولا بدخول الجنب. وقال في "الخلاصة" في كتاب الحدود: رجل قال لآخر: يا خبيث هل يقول له: بل أنت، الأحسن: أن يكف عنه ولا يجيب، ولو رفع الأمر إلى القاضي ليؤدب يجوز، ومع هذا لو أجاب لا بأس به. وفي "مجمع الفتاوى" في كتاب "الجنايات" لو قال: لغيره يا خبيث فجازاه بمثله جاز؛ لأنه انتصار بعد الظلم وذلك مأذون فيه قال الله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ والعفو أفضل. قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. وإن كانت تلك الكلمة موجبة للحد لا ينبغي له أن يجيبه بمثلها، تحرزا على إيجاب الحد على نفسه. انتهى. كما قال في "التنوير": لو قال لآخر: يا زاني، فقال الآخر: أنت الزاني.. حد، بخلاف ما لو قال له مثلًا: يا خبيث، فقال أنت، تكافأا. وفي "التنوير" أيضًا ضرب غيره بغير حق، وضربه المضروب يعزران، ويبدؤوا في إقامة التعزير بالبادىء.
٦١ - ثم قرر نصره لعباده المؤمنين، وأكده بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ النصر الذي أنصره لمن بغي عليه، وهو مبتدأ خبره قوله: ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ والباء فيه سببية؛ أي: كائن بسبب أن الله سبحانه وتعالى ﴿يُولِجُ﴾ ويدخل ﴿اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾؛ أي: يدخل بعض ساعات الليل في النهار، فيزيد النهار بقدر ما نقص من الليل. {وَيُولِجُ
أي: ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالإيلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر. والمراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في محل الآخر؛ أي: إنه يحصل ظلمة الليل في مكان ضياء النهار، بتغييب الشمس وضياء النهار في مكان ظلمة الليل، بإطلاعها وجعلها طالعة، أو يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات.
والمعنى (١): أي ذلك النصر الذي أنصره لمن بغي عليه، لأني أنا القادر على ما أشاء، ألا ترونني أدخل ما ينقص من ساعات الليل في ساعات النهار، وأدخل ما ينقص من ساعات النهار في ساعات الليل، وبهذه القدرة التي تفعل ذلك أنصر محمدًا وصحبه على الذين قد بغوا عليهم، وأخرجوهم من ديارهم، وأموالهم، وآذوهم أشد الأذى على إيمانهم بي وحدي. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿سَمِيعٌ﴾ يسمع قول العاقب والمعاقب ﴿بَصِيرٌ﴾ يرى أفعالهما، فلا يهملهما.
والمعنى: أي وبسبب أن الله تعالى سميع للأقوال، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات بصير بما يعملون، لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه شيء، وإن كان مثقال ذرة.
٦٢ - ولمَّا وصف نفسه بما لا يقدر عليه، غيره علل ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾؛ أي: ذلك الاتصاف بكمال القدرة، وكمال العلم بسبب أن الله هو الثابت لذاته، وأنه لا مثيل له، ولا شريك. ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: وأن الذين يعبدون من دونه تعالى من الآلهة ﴿هُوَ الْبَاطِلُ﴾ في ألوهيته المعدوم في حد ذاته، لا يقدر على صنع شيء، بل هو المصنوع الموجد بعد
وخلاصة ذلك (١): أفتتركون أيها الجهال عبادة من بيده النفع والضر، وهو القادر على كل شيء، وكل شيء دونه، وهو فوق كل شيء، وتعبدون من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا وضرًا.
وعبارة الشوكاني هنا: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾؛ أي: هو سبحانه ذو الحق فدينه حق، وعبادته حق، ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ﴾؛ أي: العالي على كل شيء بقدرته المتقدس عن الأشباه، والأنداد، والمنزه عما يقول الظالمون من الصفات ﴿الْكَبِيرُ﴾؛ أي: ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته، وتفرده بالإلهية. انتهت.
وقرأ الجمهور: (٢) ﴿وَأَنَّ مَا﴾ بفتح الهمزة. وقرأ الحسن بكسرها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأخوان حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم ﴿يَدْعُونَ﴾ بياء الغيبة هنا وفي لقمان على الخبر. واختار هذه القراءة أبو عبيدة. وقرأ باقي السبعة ﴿تَدْعُونَ﴾ بتاء الخطاب للمشركين واختار هذه القراءة أبو حاتم.
والمعنى: وأن الذين تدعونهم آلهة، وهي الأصنام، هو الباطل الذي لا ثبوت له، وكلا هاتين القراءتين الفعل فيهما مبني للفاعل. وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري ﴿يُدْعَون﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، والواو عائدة على ﴿ما﴾. على معناها، و ﴿ما﴾ الظاهر أنها أصنامهم. وقيل الشياطين. والأولى العموم في كل مدعو دون الله سبحانه وتعالى.
٦٣ - والاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ للتقرير. والرؤية هنا إما علمية كما قاله الرازي، أو بصرية. والخطاب فيه للنبي - ﷺ -، أو لكل من تتأتى منه الرؤية ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ أي: مطرًا ﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾؛
(٢) البحر المحيط.
وقرىء ﴿مُخْضَرَّةً﴾ على وزن مفعلة ومسبعة. قال الزمخشري: فإن قلت (٢): هلا قيل: فأصبحت، ولم صرف إلى لفظ المضارع؟
قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، كما تقول: أنعم عليَّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرًا له. ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع، اهـ. قال ابن عطية (٣): ولا يكون هذا الإخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة، والظاهر أن المراد بالإخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها، كما في قول تعالى: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾.
وقال أبو عبد الله الرازي في "تفسيره الكبير" قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾ ذكر هنا من آثار قدرته ستة أشياء:
أولها: إنزال المطر الناشىء عنه اخضرار الأرض، وفسر الرؤيا بالعلم دون الإبصار؛ لأن الماء وإن كان مرئيًا إلا أن كون الله منزلًا له من السماء غير مرئي. وقال: ﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ﴾ دون أصبحت لإفادته بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان.
الثاني: قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ومن جملته خلق المطر،
(٢) الكشاف.
(٣) البحر المحيط.
الثالث: تسخير ما في الأرض؛ أي: ذلل لكم ما فيها كالحجر والحديد، والنار لما يراد منها، والحيوان للأكل والركوب، والحمل عليه، والنظر إليه.
الرابع: تسخير الفلك بالماء والرياح، فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف.
الخامس: إمساك السماء؛ لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به، والسماء جرم ثقيل، وما كان كذلك، لا بد له من السقوط، لولا مانع يمنع منه، وهو القدرة. فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع فتبطل النعم التي أمتن بها علينا.
سادسها: الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء، نبه بهذا على أن هذه النعم لمن أحياه الله، فنبه بالإحياء الأول على إنعامه في الدنيا بكل ما تقدم، ونبه بالإماتة والإحياء ثانيًا على إنعامه علينا في الآخرة. ولما فصل تعالى هذه النعم، قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾؛ أي: لهذه النعم. اهـ. من "الرازي".
والمعنى: أي ألم تبصر، أو ألم تعلم أيها الرائي، أن الله تعالى ينزل من السماء مطرًا فيحيي به الأرض، فتنبت ضروبًا مختلفة من النبات، بديعة الألوان، والأشكال، ذات خضرة سندسية، تبهر العين بحسن منظرها، وبديع تنسيقها. ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾: يصل علمه إلى كل دقيق، وجليل. وقيل: لطيف بأرزاق عباده. وقيل: لطيف باستخراج النبات. ﴿خَبِيرٌ﴾؛ أي: ذو خبرة بتدبير عباده، وما يصلح لهم. وقيل: خبير بما ينطوون عليه من القنوط واليأس عند تأخير المطر، وقيل: خبير بحاجتهم وفاقتهم.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
٦٤ - ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره. ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي:
٦٥ - ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ أي: ألم تعلم أيها المخاطب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَخَّرَ لَكُمْ﴾ وذلل ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: جعل جميع ما فيهما مذللة لكم، معدة لمنافعكم، تتصرفون فيها كيف شئتم، فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد، ولا أهيب من النار، وهي مسخرة منقادة لكم.
أي: إنه تعالى (١) سخر ما في ظاهر الأرض وباطنها، لينتفع بها الإنسان في مصالحه ومرافقه المختلفة، ويصرفه فيما أراد من شؤون معايشه ولا يزال العلم يهديه إلى غريب الأمور، مما لم يكن يخطر لأسلافه على بال، مما لو حدث به السالفون لقالوا: إنه ترهات، وأباطيل، وما صدقه بشر. ولا يزال العلم يولد كل يوم جديدًا. ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ويهتدي العقل إلى ما هو أشبه بالمعجزات، لولا أن سدت أبواب النبوات.
ونحو الآية قوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ ﴿وَالْفُلْكَ﴾ عطف على ﴿مَا﴾، أو على اسم ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: بمشيئته وتيسيره، حال من الفلك؛ أي: وسخر لكم السفن تجري في البحار برفق، وتؤدةٍ حاملةً ما تريدون، من نائي الأصقاع، وبعيد المسافات من سلع، وحيوان، وأناسي، وبذلك يتم تبادل مرافق الحياة بالأخذ والعطاء. وإنما أفردها بالذكر، وإن اندرجت بطريق العموم تحت ما في قوله: ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾ لظهور
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالْفُلْكَ﴾ بالنصب، وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن، وانتصب عطفًا على ﴿مَا﴾. وجوز أن يكون معطوفًا على الجلالة، بتقدير وأن الفلك، وهو إعراب بعيد عن الفصاحة. وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وجملة تجري خبره.
﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ﴾؛ أي: وإن الله سبحانه يمسك السماء من ﴿أَنْ تَقَعَ﴾ وتسقط ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾ بأن خلقها متداعية إلى الاستمساك. يقال: أمسك الشيء إذا أخذه والوقوع السقوط. ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ أي: إلا بمشيئته، وإرادته.
قال الراغب: الإذن في الشيء: الإعلام بإجازته، والرخصة فيه، انتهى. وذلك يوم القيامة. وفيه رد لاستمساكها بذاتها، فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط، كقبول غيرها، والمعنى؛ أي: وإن الله يمسك أجرام الكواكب من شمس، وقمر، وكواكب نيرات بنظام الجاذبية، إذ جعل لكل منها مداراً خاصًا بها، لا تعدوه بحالٍ، ولا تزال كذلك ما بقيت الحياة الدنيا، حتى إذا اقتربت الساعة اختل نظامها. وانتثرت في الفضاء، كما ألمع إلى ذلك سبحانه بقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢)﴾ الآية. ولولا هذا النظام الخاص لاصطدمت الكواكب العظيمة بعضها ببعض. وفسد العالم الأرضي ولم يعش على ظهر البسيطة إنسان، ولا حيوان.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: كثير الرأفة والرحمة، حيث سخر هذه الأمور لعباده، وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم، تفضلاً منه على عباده، وإنعاماً عليهم، وفتح لهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار، وأوضح لهم مناهج الاستقلال بالآيات التكوينية، والتنزيلية. والرؤوف (٢) بمعنى الرحيم، إذ الرأفة أشد الرحمة، أو أرقها. كما في "القاموس". قال في "بحر العلوم". ﴿الرؤوف﴾؛ أي: المريد
(٢) روح البيان.
٦٦ - ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ بعد أن كنتم نطفًا جمادًا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء أعماركم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ عند البعث للثواب والعقاب.
والمعنى: أي وهو سبحانه، هو الذي أنعم عليكم بهذه النعم، وجعلكم أجسامًا حيةً بعد أن كنتم ترابًا، ثم يميتكم حين انقضاء آجالكم، ثم يحييكم بالبعث والنشور إلى عالم آخر، تلقون فيه حسابكم وجزاءكم من نعيم أو جحيم.
ثم بين طبيعة الإنسان التي فطر عليها، فقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾؛ أي: كثير الجحد، لنعم الله عليه مع كونها ظاهرةً غير مستترة، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد، لأن المراد وصف جميع الجنس، بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغةً، وهو المشرك كُدَيْل بن ورقاء الخزاعي، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبي بن خلف، وغيرهم.
والمعنى: أي (١) إن الإنسان لم يوجه همه إلى كل هذه الآلاء التي يتقلب فيها ليلًا ونهارًا بل جحدها، وجحد خالقها على وضوح أمرها، وعبد غيره، وجعل له الأنداد من الأصنام والأوثان. ونحو الآية قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾.
٦٧ - ثم عاد سبحانه، إلى بيان أمر التكاليف مع الزجر لمعاصري رسول الله - ﷺ - من أهل الأديان عن منازعته، فقال: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ معينة من الأمم الماضية والباقية. والأمة جماعة أرسل إليهم رسول. ﴿جَعَلْنَا﴾؛ أي: وضعنا وشرعنا ﴿مَنْسَكًا﴾؛ أي: شريعة خاصة بهم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها، إلى شريعة أخرى، على معنى عيّن كل شريعة لأمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطاها إلى شريعة أخرى، لا استقلالًا ولا اشتراكًا. وجملة قوله: {هُمْ
والنهي إما على حقيقته، أو كناية عن نهيه - ﷺ - عن الالتفات إلى نزاعهم له. قال الزجاج: إنه نهي له - ﷺ - عن منازعتهم؛ أي: لا تنازعهم أنت، كما تقول: لا يخاصمك فلان؛ أي: لا تخاصمه، وكما تقول: لا يضاربنك فلان؛ أي: لا تضاربه. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنًا.
والمعنى: أي (٢) فلا ينبغي لهم أن ينازعوك في أمر هذا الدين، فإن تعيينه تعالى لكل أمة شريعة خاصة، موجب لطاعة هؤلاء لك، وعدم منازعتهم إياك في
(٢) المراغي.
والخلاصة: أثبت أيها الرسول على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك منه، ليزيلوك عنه. والمراد بذلك: تهييج حميته - ﷺ -، وإلهاب غضبه لله ولدينه ومثل هذا كثير في كتاب الله، وكأنه قد قيل له: تأس بالأنبياء قبلك في مشاركة القوم الظالمين، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم.
وقال: ابن جرير الطبري (١) (١٧/ ١٩٩): يقول تعالى: فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله، يا محمد، في ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله، فإنك أولى بالحق منهم؛ لأنك محق وهم مبطلون. وذلك أن كفار قريش وخزاعة خاصموا رسول الله - ﷺ - في أمر الذبيحة، فقالوا: كيف تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله يعنون الميتة.
وقرىء ﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ﴾ بالنون الخفيفة. وقرأ أبو مجلز ﴿فلا ينزعنك في الأمر﴾ من النزع، بمعنى فلا يقلعنك من دينك، فيحملوك إلى أديانهم من نزعته من كذا، أو لا يستخفنك ولا يغلبنك على دينك، وقرأ الباقون: ﴿يُنَازِعُنَّكَ﴾ من المنازعة، بمعنى المخاصمة والمجادلة.
فائدة: وإنما (٢) قال: فيما سبق ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ بواو العطف، وقال: هنا ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾؛ لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآية الواردة في أمر المناسك، فعطفت على أخواتها، وأمَّا هذه فواقعة مع أباعد عن معناها، فلم تجد معطفًا. قاله الزمخشري. ﴿وَادْعُ﴾ هؤلاء المنازعين، أو ادع الناس كافة، ولا تخص أمة دون أمة بالدعوة، فإن كل الناس أمتك ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾؛ أي: إلى توحيد ربك، وعبادته
(٢) البحر المحيط.
٦٨ - ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ﴾؛ أي: وان جادلك هؤلاء المشركون في نسكك، وخاصموك مراءً وتعنتا بعد أن ظهر الحق، ولزمتهم الحجة، كما يفعله السفهاء ﴿فَقُلِ﴾ لهم على سبيل التهديد، والوعيد، والإنذار. ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عليم بأعمالكم، وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم بها. وعليم بأعمالنا فمجاز لنا بها. ونحو الآية قوله: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وقوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
٦٩ - وبعد أن أمر رسوله - ﷺ - بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديد الوقع على النفس، سلاه بأن الله سيجازيهم لا محالة يوم القيامة، على ما يقولون ويفعلون. فقال ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾؛ أي: يفصل ويقضي بين المؤمنين منكم والكافرين ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بالثواب والعقاب، كما فصل بينكم في الدنيا بالحجج والآيات. ﴿فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدين، فيتبين المحق من المبطل.
وقصارى ما سلف (١): ادع إلى شريعتك، ولا تخص بالدعاء أمة دون أمة، فكلهم أمتك، وانك لعلى طريق واضحة الدلالة، تصل بمن اتبعها إلى سبيل السعادة، فإن عدلوا عن النظر في الأدلة إلى المراء، والتمسك بالعادات، وبما وجدوا عليه الآباء والأجداد.. فدعهم في غيهم يعمهون. فقد أنذرت وما عليك إلا البلاغ، وقيل لهم، مهددًا منذرًا: الله يحكم بيننا وبينكم يوم القيامة، ويتبين المحق من المبطل ويجازي كلا بما يستحق.
والمعنى: أي قد علمت يا محمد، أن علم الله محيط بما في السموات وما في الأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة، على علم منه، بما عملوه في الدنيا، فمجازي المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته. ثم أكد علمه بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الذي في السماء والأرض من معلوماته ﴿فِي كِتَابٍ﴾؛ أي: مكتوب عنده في أم الكتاب، واللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، قبل أن يخلقه، فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به. وحفظنا له. ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾؛ أي: إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿يَسِيرٌ﴾؛ أي: سهل غير عسير، أو إن إحاطة علمه بما في السماء والأرض وإثباته في اللوح المحفوظ يسير عليه، إذ لا يخفى عليه شيء، ولا يتعسر عليه مقدور.
٧١ - ثم حكى سبحانه بعض أباطيل المشركين، وأحوالهم الدالة على سخافة عقولهم، فقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون بالله ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾؛ أي: أصناماً لم ينزل الله بجواز عبادتها ﴿سُلْطَانًا﴾؛ أي: حجة وبرهانًا من السماء في كتاب من كتبه، التي أنزلها على رسله ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: ويعبدون ما ليس لهم علم، من ضرورة العقل، بجواز عبادته، أو بأنه إله. وهي الأصنام المذكورة، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بغير حجة ولا برهان.
والخلاصة (٢): ويعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من الوحي، ولا
(٢) المراغي.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: وليس للمشركين، الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم، ﴿مِنْ نَصِيرٍ﴾؛ أي: ناصر يدفع عنهم العذاب، الذي يعتريهم بسبب ظلمهم. وفي "التأويلات النجمية" (١) يشير سبحانه، إلى أن من كان من جملة خواصه أفرده، ببرهان وأيده ببيان، وأعزه بسلطان، وما لأهل الخذلان سلطان، فيما عبدوه من أصناف الأوثان، ولا برهان على ما طلبوه، وما لهم نصرة من الله، بل خذلان.
٧٢ - وجملة قوله: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ معطوفة على يعبدون؛ أي: وإذا قرئت على هؤلاء المشركين ﴿آيَاتِنَا﴾ من القرآن حالة كونها ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالة على العقائد الحقية، والأحكام الإلهية. وجملة قوله: ﴿تَعْرِفُ﴾ جواب ﴿إذا﴾. أي: تعرف أيها المخاطب ﴿فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إظهار في مقام الاضمار ﴿الْمُنْكَرَ﴾؛ أي (٢): الأمر المنكر، وهو غضبهم وعبوسم عند سماعها، أو المراد بالمنكر الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام؛ أي: تعرف في وجوههم إنكارها، وترى فيها علامته من العبوس والكراهة. وقيل: هو التجبر والتكبر. وقرأ عيسى بن عمر ﴿يعرف﴾ مبنيًا للمفعول ورفع المنكر.
واعلم: أنَّ (٣) الوجوه كالمرآة، فكل صورة من الإقرار والإنكار تظهر فيها، فهي أثر أحوال الباطن، وكل إناء يترشح بما فيه، كتلون وجوه قوم صالح، فما ظهر عليهم في ظاهرهم، إلا حكم ما استقر في باطنهم.
والمعنى: أي (٤) وإذا تتلى على هؤلاء المشركين العابدين من دون لله، ما لم ينزل به سلطانًا. آيات القرآن ذوات الحجج والبينات، بدت وظهرت على وجوههم
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
وهكذا (٢): ترى أهل البدع المضلة والخرافات المحدثة، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم السني عليهم، من آيات الكتاب وأحاديث الرسول "الصحيحة" مخالفًا لما اعتقدوه من الباطل والضلالة.. رأيت في وجهه من المنكر ما لو تمكن من أن يسطو بذلك العالم، لفعل به ما لا يفعله بالمشركين. وقد رأينا وسمعنا من أهل البدع، ما لا يحيط به الوصف. والله ناصر الحق، ومظهر الدين، وداحض الباطل، ودامغ البدع، وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس، ما نزل إليهم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم ذكر لهم أن هذا الغيظ الكمين في نفوسهم ليس بشيء، إذا قيس بما سيلاقونه من العذاب يوم القيامة، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
(٢) الشوكاني.
والمعنى: أي (١) النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، ومما تنالون منهم، إن نلتم بإرادتكم واختياركم. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: وبئس النار موئلًا ومقامًا لهؤلاء المشركين بالله. ونحو الآية قوله: (﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦)﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿النار﴾ رفعًا على إضمار مبتدأ كان قائلًا يقول قال: وما هو؛ قال: النار؛ أي: نار جهنم. وجملة وعدها، إما حال من النار، وإما خبر بعد خبر وإما مستأنفة. وأجاز الزمخشري أن تكون ﴿النار﴾ مبتدأ، وجملة ﴿وعدها﴾ خبرًا عنها. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي: ﴿النارَ﴾ بالنصب على الاختصاص. قال: الزمخشري: ومن أجاز في الرفع أن تكون النار مبتدأ، فقياسه أن يجيز النصب على الاشتغال. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة ﴿النار﴾ بالجر على البدل من ﴿شر﴾، فتكون جملة ﴿وعدها﴾ مستأنفة.
والظاهر أن الضمير في ﴿وعدها﴾ هو المفعول الأول، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قولها: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ ويجوز أن
(٢) البحر المحيط.
٧٣ - قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ كلام متصل بقوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾؛ أي: يا أهل مكة ضرب مثل؛ أي: (١) بين لكم حالة مستغربة أو قصة بديعة حقيقية، بأن تسمى مثلًا، وتسير في الأمصار والأعصار ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾؛ أي: لذلك المثل استماع تدبر، وتدبروه حق تدبر، فإن الاستمتاع بلا تدبر وتعقل لا ينفع. قال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل لما يعبدونه من دونه مثلًا، قال وهذا من أحسن ما قيل فيه؛ أي: بين الله لكم شبهًا ولمعبودكم. وأصل (٢) المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول مسيرة في الناس، مستغربة عندهم. وجعلوا مضربها مثلًا لموردها، كـ (الصيف ضيعتَ اللبن)، ثم قد يستعيرونها للقصة، أو الحالة، أو الصفة المستغربة، لكونها مماثلة لها في الغرابة، كهذه القصة المذكورة في هذه الآية.
فإن قلت (٣): الذي جاء به، ليس بمثل، فكيف سماه مثلًا؟
قلت: لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة، جاز أن يسمى كل كلام، كان كذلك مثلًا. وقال في "الكشاف": قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلًا، تشبيهًا لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مسيرةً عندهم مستحسنةً مستغربة.
والمعنى: جعل لي شبيها وشبه بي الأوثان؛ أي: جعل المشركون الأصنام أشباهي وشركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾؛ أي: إن الأصنام التي تعبدونها ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين عبادة الله، وهو بيان للمثل وتفسير له.
﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾؛ أي: لن يقدروا على خلق ذبابٍ واحدٍ أبدًا مع صغره
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
وقرأ الجمهور: ﴿تدعون﴾ بالتاء. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمر ﴿يدعون﴾ بالياء، وكلاهما مبني للفاعل، وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنيًا للمفعول.
﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا﴾؛ أي: وإن يأخذ الذباب منهم شيئًا ويخطفه ﴿لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾؛ أي؛ لا يستردوه من الذباب مع غاية ضعفه لعجزهم. قيل: كانوا يطيبون الأصنام بالطيب والعسل، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
أي: وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرمًا، وأشد منه قوة أعجز وأضعف. ثم عجيب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب. فقال: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ قال ابن عباس: الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب هو الصنم. وقيل: الطالب الصنم، من حيث إنه يطلب خلق الذباب، أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب وقيل: الطالب عابد الصنم، والمطلوب الصنم. وقال الضحاك؛ أي: ضعف العابد والمعبود، ولو حققت وجدت الصنم أضعف من الذباب، وعابده أجهل من كل جاهل وأضل من كل ضال. قال ابن جرير الطبري: والصواب عندنا من التأويلات المذكورة، تأويل ابن عباس؛ لأن ذلك في سياق الخبر عن الآلهة والذباب، فلأن يكون ذلك خبرًا
(٢) الخازن.
٧٤ - ثم بين الله سبحانه، أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهةً، عاجزةً، إلى هذه الغاية في العجز، ما عرفوا الله حق معرفته فقال: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: ما قدر المشركون الله، وما عظموه ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾؛ أي: حق عظمته، وما عرفوه حق معرفته وما وصفوه حق صفته، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب، ولا ينتصر منه، وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء منه مناسبةً. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَقَوِيٌّ﴾ على خلق كل شيء. ﴿عَزِيزٌ﴾ غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة المشركين. فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضر، ولا تقدر على شيء.
وحاصل معنى الآيتين (١): يا أيها الناس، يعني: المؤمنين جعل المشركون لي أشباهًا وأندادًا، وهي الآلهة التي يعبدونها معي، فأنصتوا وتفهموا حال ما جعلوهم لي، في عبادتهم إياهم أشباهًا وأمثالًا، وحال هؤلاء الأشباه، أنه لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة، على صغر حجمها، وحقارة شأنها.. ما قدروا، وما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
روي عن أبي هريرة، أن النبي - ﷺ -، قال: قال الله عز وجل: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي!؟ فَلْيخَلْقُوا ذُرةً، فليخلقوا شعيرة!! ".
وإن يسلب الذباب الآلهة والأصنام شيئًا، مما عليها من طيب وما أشبهه، لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه.
والخلاصة: أنهم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أعجب من ذلك أنهم عاجزون عن مقاومته، والانتصار منه لو سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه.
وفي ذلك إشارة إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة، وأشركوا بالله القادر على كل شي آلهتهم من الأصنام والأوثان، التي لا تقدر على خلق أحقر المخلوقات وأصغرها وهو الذباب، ولو اجتمعت له. ولا تستطيع أن تنتصر منه لو سلبها
وقصارى هذا: أنه سبحانه، وصف هذه الآلهة بما وصف للدلالة على مهانتها وضعفها، تقريعاً منه لعبدتها من مشركي قريش؛ وكأنه قيل لهم كيف تجعلون لي مثلًا في العبادة، وتشركون معي فيها، ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ منه الذباب شيئًا، لم يقدر أن ينتصر منه، وأنا الخالق لما في السموات والأرض، المالك لجميع ذلك، المحيي لما أردت، والمميت له، إن فاعل ذلك بالغ غاية الجهل وعظيم السفه. ثم زاد هذا الإنكار توكيدًا، فقال: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾؛ أي: ما عظموه حق التعظيم، الذي هو إفراده بالعبادة، إذ عبدوا معه غيره، من هذه الأصنام، التي لا تقاوم الذباب لضعفها، ولا تنتصر منه إن سلبها شيئًا.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾؛ أي: إنه تعالى قوي لا يتعذر عليه شيء، وبقدرته خلق كل شيء. عزيز لا يغالب لعظمته وسلطانه، ولا يقدر شيء أن يسلبه من ملكه شيئًا وليس كآلهتكم التي تدعونها من دون الله تعالى.
ونحو الآية قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)﴾
٧٥ - وبعد أن ذكر ما يتعلق بالإلهيات، ذكر ما يتعلق بالنبوات فقال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَصْطَفِي﴾ ويختار ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي، كجبريل وميكائيل، وإسرافيل. فإن قلت: إن قوله من الملائكة، يقتضي أن تكون الرسل بعض الملائكة لا كلهم فيناقض قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ قلت: يدفع هذا التناقض، بأن المراد بما هنا من كان رسولًا من الملائكة إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة كجبريل، وعزرائيل والحفظة. وبأن المراد من قوله: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾؛ أي: بعضهم رسلًا إلى البعض. اهـ "جمل".
﴿و﴾ يصطفي ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ رسلًا يدعون عباده إلى ما لا يرضيه، ويبلغونهم
٧٦ - ﴿يَعْلَمُ﴾ سبحانه ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: ما كان بين أيدي ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم. ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾؛ أي: ويعلم ما هو كان بعد فنائهم. وعبارة العمادي: ما بين أيديهم ما مضى، وما خلفهم ما لم يأت.
وخلاصة ذلك: يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وقيل: يعلم ما عملوه وما سيعملونه من أمور الدنيا. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ لا إلى أحد غيره، لا اشتراكًا ولا استقلالًا ﴿تُرْجَعُ﴾ وترد من (١) الرجع القهقرى ﴿الْأُمُورُ﴾ كلها في الآخرة؛ لأنه مالكها بالذات، ولا أمر ولا نهي لأحد سواه. وهو يجازي كلا بما عمل إن خيرًا، وإن شرًا. لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره، وهم يسألون. وفي هذا إشارة إلى التفرد بالإلهية، والحكم، وإلى الزجر عن المعصية.
٧٧ - ولمَّا تضمن ما ذكره من أنّ الأمور ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله وصدقوها ﴿ارْكَعُوا﴾؛ أي: اخضعوا لله ﴿وَاسْجُدُوا﴾؛ أي: خروا له سجدًا. وقيل: ارجعوا (٢) من تكبر قيام الإنسانية إلى تواضع الحيوانية، وذلة النباتية. قال: ابن عباس: إن الناس كانوا في أول الإسلام يركعون ولا يسجدون، حتى نزلت هذه الآية. قال أبو الليث: كانوا يسجدون بغير ركوع، فأمرهم الله بأن يركعوا ويسجدوا. وقال بعضهم: كانوا يركعون بلا سجود، ويسجدون بلا ركوع.
والمعنى: صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم. عبر عن الصلاة بهما؛ لأنهما أعظم أركانها. وخص الصلاة بالذكر؛ لأنها أشرف عبادات البدن. وقال الإمام
(٢) المراح.
﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ الذي أمركم بفعله، من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. وقيل: فعل (١) الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى، وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله، ويدخل فيه البر والمعروف، والصدقة وحسن القول وغير ذلك من أعمال البر. ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تسعدوا وتفوزوا من ربكم بما تأملون من الثواب والرضوان والجنة؛ أي: افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الإفلاح، غير متيقنين له واثقين بأعمالكم.
فصل في حكم سجود التلاوة هنا
لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة، واختلفوا في السجدة الثانية. فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا: في الحج سجدتان. وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: "نعم. ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما". أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج، فسجد فيها سجدتين، وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ.
وذهب قوم إلى أن في الحج سجدة واحدة، وهي الأولى وليست هذه بسجدة. وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك، بدليل أنه قرن السجود بالركوع، فدل ذلك على أنها سجدة
واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة، فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، إلى أنها أربع عشرة سجدة، لكن قال الشافعي: في الحج سجدتان، وأسقط سجدة ﴿ص﴾ وقال أبو حنيفة في الحج سجدة واحدة، وأثبت سجدة ﴿ص﴾. وبه قال: أحمد في إحدى الروايتين عنه، فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة.
وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود. ويروى ذلك عن أبي بن كعب وابن عباس وبه قال مالك. فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة. يدل عليه ما روي عن أبي الدراء أن النبي - ﷺ - قال: "في القرآن أحد عشرة سجدة". أخرجه أبو داود، وقال: إسناده واهٍ. ودليل من قال: في القرآن خمس عشرة سجدة؟ ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله - ﷺ - القرآن خمس عشرة سجدة. منها: ثلاثة في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود. وصح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سجدنا مع رسول الله - ﷺ - في إقرأ، وإذا السماء انشقت. أخرجه مسلم.
وسجود التلاوة سنة للقارىء والمستمع. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة هو واجب. ولا يصح سجود التلاوة إلا بتكبيرة الإحرام والسلام خلافًا لأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. ولا يجزىء الركوع عن سجود التلاوة. وقال: أبو حنيفة يجزىء. ولا يسجد المستمع إذا لم يسجد التالي. نص عليه أحمد. وتكره قراءة السجدة في صلاة الإخفات خلافًا للشافعي. ذكره ابن الجوزي.
٧٨ - ﴿وَجَاهِدُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿فِي اللَّهِ﴾؛ أي: في (١) سبيله وطاعته، ونصر دينه على أعداء دينه الظاهرة والباطنة، من أهل الضلال والبدع والهوى والنفس.
ومعنى: ﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾ المبالغة (١) في الأمر بهذا الجهاد؛ لأنه أضاف الحق إلى الجهاد. والأصل إضافة الجهاد إلى الحق؛ أي: جهادًا خالصًا لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة. وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعًا أو لاختصاصه به سبحانه، من حيث كونه مفعولًا له، ومن أجله. وقيل: المراد بحق جهاده، هو أن لا يخافوا في الله لومة لائم. وقيل: المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله.
وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ كما أن قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ منسوخ بذلك. ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ.
ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: ﴿هُوَ﴾ سبحانه لا غيره ﴿اجْتَبَاكُمْ﴾؛ أي (٢): اختاركم من سائر الأمم، وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع. وقيل: اختاركم للاشتغال بطاعته من بين سائر البريات. وقيل: اختاركم لدينه، ونصرته لا غيره. وفيه (٣) تنبيه على ما يقتضي الجهاد، ويدعو إليه. قال ابن عطاء: الاجتبائية أورثت المجاهدة، لا المجاهدة أورثت الاجتبائية، انتهى.
وفيه تشريف لهم عظيم، ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال: ﴿وَمَا جَعَلَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيتها الأمة المحمدية ﴿فِي الدِّينِ﴾ الذي تعبّدكم به ﴿مِنْ حَرَجٍ﴾؛ أي: من ضيق وشدة وصعوبة
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وعبارة الشوكاني هنا: وقد اختلف العلماء في هذا الحرج، الذي رفعه الله، فقيل: هو ما أحله الله من النساء، مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين. وقيل: المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر، والصلاة بالإيماء، على من لا يقدر على غيره، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة. وكذا في الفطر والأضحى. وقيل: المعنى أنه سبحانه وتعالى ما جعل عليهم حرجًا بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج، فلم يتعبدهم بها، كما تعبد بها بني إسرائيل. وقيل: المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجًا. بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار، والتكفير فيما شرع فيه الكفارة، والأرش أو القصاص في الجنايات، ورد المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه.
والظاهر: أن الآية أعم من هذا كله، فقد حط الله سبحانه، ما فيه مشقة، من التكاليف على عباده، إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل، لا مشقة فيه، أو مشروعية التخلص من الذنب بالوجه الذي شرعه، وما أنفع هذه الآية، وأجل موقعها وأعظم فائدتها. ومثلها قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ وقوله: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾.
فالجواب: المراد بالدين التوحيد، ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف، فإنه يكفر ما قبله من الشرك وإن امتد، ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معين، أو أن كل ما يقع فيه الإنسان من المعاصي، يجد له في الشرع مخرجًا بتوبةٍ، أو كفارةٍ، أو رخصةٍ.
أو المراد نفي الحرج الذي كان في زمن بني إسرائيل، من الإصر والتشديد، والتضييق بتكليف ما لا يطيقون، فلا يرد نحو المخاطرة بالنفس والمال في الحج والغزو اهـ. كرخي.
وفي "القرطبي": قال العلماء (٢): رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسم، بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجًا، من إلزام ثبات رجلٍ لاثنين في سبل الله، لكنه مع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج، اهـ.
وانتصاب ملة في قوله: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله، تقديره: وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا أظهر ما ذكروه هنا من الأوجه، كما قاله الزمخشري. أو منصوب بـ ﴿اتبعوا﴾ مضمرًا قاله الحوفي، وتبعه أبو البقاء. أو منصوب على الاختصاص؛ أي: أعني بالدين ملة أبيكم. أو منصوب بـ (جعل) مقدرًا. قاله ابن عطية؛ أي: جعل لكم ملة أبيكم دينا، أو منصوب بنزع الخافض، تقديره: ملتكم كملة أبيكم إبراهيم في السهولة.
فإن قلت: لم يكن إبراهيم أبًا للأمة كلها، فكيف سماه الله سبحانه، أبا، في قوله: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾؟
(٢) القرطبي.
والضمير في قوله: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ عائد إلى الله، بدليل قراءة أبي ﴿الله سماكم﴾ والمعنى: هو سبحانه وتعالى سماكم المسلمين، في الكتب القديمة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ نزول القرآن. وقيل: عائد على إبراهيم، يعني أن إبراهيم سماكم المسلمين في زمنه، من قبل هذا الوقت، كما حكاه تعالى في قوله: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ فاستجاب الله دعاءه فينا.
﴿و﴾ سماكم الله سبحانه مسلمين ﴿في هذا﴾ القرآن بقوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. وقيل: الله سماكم المسلمين في الأزل، من قبل أن خلقكم، وبعد أن خلقكم، أو سماكم إبراهيم مسلمين في هذا القرآن. وتسميته إياهم (١) مسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كان بسبب تسميته من قبل في قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾. وقيل: التقدير في قوله: ﴿وَفِي هَذَا﴾ أي: وفي هذا القرآن بيان تسميته إياكم مسلمين.
ثم علل سبحانه ذلك بقوله: ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ﴾ متعلق بـ ﴿سَمَّاكُمُ﴾، واللام فيه، لام العاقبة؛ أي: ليكون الرسول محمد - ﷺ - يوم القيامة ﴿شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ بأنه قد بلغكم رسالة ربكم، فيدل هذا على قبول شهادته لنفسه اعتمادًا على عصمته، أو بطاعة من أطاعه منكم، وعصيان من عصاه ﴿وَتَكُونُوا﴾ أنتم أيتها الأمة المحمدية ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾؛ أي: على الأمم الماضية، بأن رسلهم قد بلغتهم.
والمعنى: أي (٢) إنما جعلكم هكذا أمة وسطًا عدولًا مشهودًا بعدالتكم بين الأمم، ليكون محمد - ﷺ - شهيدًا عليهم يوم القيامة، بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا شهداء على الناس، بأن رسلهم قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم.
وإنما قبلت شهادتهم على الناس لسائر الأنبياء لأنهم لم يفرقوا بين أحد
(٢) المراغي.
ولما ندبهم لأداء الشهادة على الأمم جميعًا، طلب منهم دوام عبادته، والاعتصام بحبله المتين، فقال: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: فداوموا أيها المؤمنون، على إقامة الصلوات الخمس، وأدائها بحقوقها وشروطها في أوقاتها. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾؛ أي: وداوموا على إيتائها وأدائها لمستحقيها، وتقربوا إليه بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل العظيم، والشرف الجسيم، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر، من بين أنواع الطاعات، لفضلها على غيرهما، فإن الأولى تدل على تعظيم أمر الله تعالى. والثانية على الشفقة على الخلق، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: واحتفظوا بالله مما تحذرون وتخافون منه، واعتمدوا عليه، والتجؤوا إليه، وثقوا به في مجامع أموركم دينًا ودنيا، وانتصروا به على أعدائكم، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه تعالى. ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَوْلَاكُمْ﴾؛ أي: ناصركم وحافظكم ومتولي أحوالكم. وقيل: المراد بقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: تمسكوا بدين الله تعالى.
والمعنى: أي فقابلوا هذه النعم العظيمة، بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم، بطاعته فيما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة، التي هي صلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم، واستعينوا بالله في جميع أموركم، وهو ناصركم على من يعاديكم.
ثم علل الاعتصام به بقوله: ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى﴾ مولاكم، لا مماثل له في الولاية لأموركم ﴿وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ ناصركم، لا مماثل له في النصرة لكم؛ أي: إن من تولاه كفاه، كل ما أهمه، وإذا نصر أحدًا، أعلاه على كل من خاصمه، إذ لا ناصر في الحقيقة سواه، ولا ولي غيره، فله الحمد، وهو رب العالمين.
﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك، من إنجاز الوعد للمهاجرن الذين قتلوا أو ماتوا. وفي الخطيب ذلك؛ أي: الأمر المقرر من صفات الله تعالى، الذي قصصنا عليك. اهـ. والجملة مستأنفة. ﴿وَمَنْ عَاقَبَ﴾: الواو استئنافية. ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما، أو موصولة مبتدأ. ﴿عَاقَبَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونها شرطية، أو صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة على كونها موصولة. وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بِمِثْلِ مَا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عَاقَبَ﴾، والباء سببية هنا لا باء الآلة. ﴿عُوقِبَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿عُوقِبَ﴾، وجملة ﴿عُوقِبَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب. ﴿بُغِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، معطوف على ﴿عاقب﴾ على كونها فعل شرط لـ ﴿من﴾ إن كانت شرطية، أو على كونها صلة لها؛ إن كانت موصولة. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور نائب فاعل لـ ﴿بُغِيَ﴾. ﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ اللام: موطئة للقسم، ﴿ينصرن﴾ فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبنيٌّ على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والهاء: مفعول به ولفظ الجلالة فاعل. والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وعزتي وجلالي لينصرنه الله. وجملة القسم في محل الجزم جواب ﴿مَن﴾ الشرطية، أو في محل الرفع خبر ﴿مَن﴾ الموصولة، وجملة ﴿من﴾ الشرطية، أو الموصولة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره. واللام: حرف ابتداء. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر ثان لـ ﴿إِنَّ﴾، جملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾: جار ومجرور خبره والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير دليل آخر، إلى جانب الدليل الأول، وهو القدرة على جميع الممكنات، وهو كونه تعالى حقًا ثابتًا، وما عداه معدوم وزائل. ﴿أن﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل ﴿الْحَقُّ﴾: خبرها، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء ﴿وَأَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أن﴾: حرف نصب. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب، اسم ﴿أن﴾ ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يدعونه ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، حال من فاعل: ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْبَاطِلُ﴾: خبر ﴿أن﴾. وجملة ﴿أن﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَلِيُّ﴾: خبر أول لـ ﴿أن﴾. ﴿الْكَبِيرُ﴾. خبر ثان لها، وجملة ﴿أن﴾ معطوفة على جملة ﴿أن﴾ الأولى.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري. ﴿لم تر﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير مستتر، يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق به. ﴿مَاءً﴾ مفعول به. وجملة ﴿أَنْزَلَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾؛ لأنها علمية، أو سادة مسد مفعولها، إن كانت بصرية. ﴿فَتُصْبِحُ﴾: الفاء: عاطفة، لا سببية؛ لأن الاستفهام تقرير مؤول بالخبر؛ أي: قد رأيت، والخبر لا جواب له، وأيضًا لا تصح السببية هنا، فإن الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض، بل إنما يوجبه إنزال الماء، بعد أن تصبح جهة تصبح فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿الْأَرْضُ﴾: اسمها. ﴿مُخْضَرَّةً﴾ خبرها. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر ثانٍ. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)﴾
﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿مَا﴾ الأولى. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُوَ﴾ اللام: حرف ابتداء. ﴿هو﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَنِيُّ﴾: خبر أول لـ ﴿أَنَّ﴾. ﴿الْحَمِيدُ﴾: خبر ثان لها وجملة ﴿أَنَّ﴾ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾.
﴿أَلَمْ تَرَ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة مستأنفة ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿سَخَّرَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿سَخَّرَ﴾ وجملة ﴿سَخَّرَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾. لأنها
﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾ معطوف على ﴿سخر﴾ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿تَقَعَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على السماء. ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور، بإضافة المصدر المقدر المعلِّل، للجملة الفعلية، تقديره: كراهية وقوعها على الأرض، أو في تأويل مصدر مجرور بمن المقدرة، تقديره: ويمسك السماء من وقوعها على الأرض. واختار أبو البقاء، وغيره، أن تكون بدل اشتمال من السماء؛ أي: ويمسك وقوعها على الأرض بمعنى يمنعه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وهو لا يقع في الكلام الموجب، إلا أن قوله: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ﴾: في قوة النفي؛ أي: لا يتركها، تقع في حالةٍ من الأحوال، إلا في حالة كونها ملتبسة بإذن الله ومشيئته. فالباء للملابسة. اهـ. زاده. ﴿بِإِذْنِهِ﴾: جار ومجرور. ومضاف إليه. متعلق بمحذوف حال من فاعل تقع؛ أي: لا تقع على الأرض إلا حالة كونها ملتبسة بإذنه تعالى. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿بِالنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿رؤوف﴾. ﴿لَرَءُوفٌ﴾: خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾. واللام حرف ابتداء. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿أَحْيَاكُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر عائد على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾:
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧)﴾.
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، مفعول ثان مقدم لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿مَنْسَكًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلْنَا﴾ والجملة الفعلية مستأنفة، استئنافًا نحويًا، لا محل لها من الإعراب. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿نَاسِكُوهُ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لمنسكًا. ﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد، أنا جعلنا لكل أمة منسكًا وأردت بان ما هو اللازم لمعاصريك.. فأقول: لك لا ينازعنك من يعاصرك من أهل الملل. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿ينازعن﴾. فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامته جزمه حذف النون، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، والكاف مفعول به، والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة، ولم تؤثر هنا في بناء المضارع، لأنها لم تباشره. ﴿فِي الْأَمْرِ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَازِعُنَّكَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَادْعُ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يُنَازِعُنَّكَ﴾. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَعَلَى هُدًى﴾: خبره، واللام حرف ابتداء. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾. صفة ﴿هُدًى﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)﴾.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)﴾
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري. ﴿لم تعلم﴾: جازم ومجزوم وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿تَعْلَمُ﴾. ﴿يَعْلَمُ﴾ مضارع والجملة خبر ﴿أن﴾ ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول. ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السماء ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿فِي كِتَابٍ﴾: جار ومجرور خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرٌ﴾. ﴿يَسِيرٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها أيضًا.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
﴿وَيَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل يعبدون؛ أي: حالة كونهم متجاوزين الله. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿لَمْ يُنَزِّلْ﴾: جازم وفعل مضارع، مجزوم وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿سُلْطَانًا﴾؛ لأنه في الأصل صفة نكرة. قدمت عليها. ﴿سُلْطَانًا﴾: مفعول به، وجملة ينزل صلة الموصول. ﴿وَمَا﴾: معطوف على ما الأولى. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ناقص. ﴿لَهُمْ﴾: خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾ ﴿عِلْمٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الواو: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿نَصِيرٍ﴾: مبتدأ مؤخر؛ أي: وما نصير كائن للظالمين. والجملة الاسمية معطوفة على جملة يعبدون.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿تُتْلَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به. ﴿آيَاتُنَا﴾: نائب فاعل ومضاف إليه. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: حال من الآيات، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿تَعْرِفُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، يعود على أي مخاطب أو على محمد ﴿فِي وُجُوهِ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَعْرِفُ﴾. وجملة ﴿تَعْرِفُ﴾ جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصولة ﴿الْمُنْكَرَ﴾: مفعول به لـ ﴿تَعْرِفُ﴾. ﴿يَكَادُونَ﴾: فعل مضارع ناقص واسمها. ﴿يَسْطُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِالَّذِينَ﴾: متعلق به، وجملة ﴿يَسْطُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿يَكَادُونَ﴾. وجملة ﴿يَكَادُونَ﴾ في محل النصب حال من الموصول قبله. وإن كان مضاف إليه؛ لأن المضاف جزؤه، ويجوز أن يكون
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾.
﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿النَّاسُ﴾، صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة. ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَاسْتَمِعُوا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، من ضرب المثل، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: استمعوا ما أقول لكم. ﴿استمعوا﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف، تقديره: ما
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: تدعونهم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من فاعل ﴿تَدْعُونَ﴾؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله. ﴿لَنْ يَخْلُقُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل، منصوب بحذف النون ﴿ذُبَابًا﴾: مفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مفسرة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها مسوقة لتفسير المثل. ﴿وَلَوِ﴾: الواو: عاطفة. ﴿لو﴾ حرف شرط. ﴿اجْتَمَعُوا﴾ فعل وفاعل ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿اجْتَمَعُوا﴾. والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾، وجوابها محذوف، معلوم مما قبلها، تقديره: ولو اجتمعوا له لن يخلقوا ذبابًا. وجملة ﴿لو﴾ الشرطية في محل النصب على الحال، معطوفة على جملة محذوفة، وقعت حالًا من فاعل ﴿يَخْلُقُوا﴾، والتقدير: إن الذين تدعون من دون الله، لن يخلقوا ذبابًا، لو انفردوا في خلقه لن يخلقوه، ولو اجتمعوا له لن يخلقوه. والمعنى: إن الذين تدعون من دون الله، لن يخلقوا ذبابًا، حالة كونهم منفردين في خلقه، وحالة كونهم مجتمعين على خلقه. ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ﴾: الواو: عاطفة. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿يَسْلُبْهُمُ﴾ فعل ومفعول أول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿الذُّبَابُ﴾: فاعل. ﴿شَيْئًا﴾ مفعول ثان له. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَسْتَنْقِذُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق به. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل الرفع، معطوفة على جملة قوله: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾،: على كونها خبرًا لـ ﴿إنَّ﴾. ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ﴾ فعل وفاعل. ﴿وَالْمَطْلُوبُ﴾: معطوف على ﴿الطَّالِبُ﴾. والجملة الفعلية: إما حال من فاعل يستنقذون؛ أي: حالة كونهما ضعيفين، أو
﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿يَصْطَفِي﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾: حال من رسلًا؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ولك أن تعلقه بيصطفى. ﴿رُسُلًا﴾: مفعول به. ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: معطوف على ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾، وحذف من الثاني، لدلالة الأول عليه؛ أي: ويصطفي من الناس رسلًا، وجملة يصطفي في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتقرير اصطفائه تعالى الرسل. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾: ناصب واسمه وخبره الأول. ﴿بَصِيرٌ﴾: خبره الثاني، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثالث لـ ﴿أن﴾، أو مستأنفة. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿مَا﴾. ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: معطوف على ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾: الواو: عاطفة، أو استئنافية. ﴿إلى الله﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُرْجَعُ﴾. ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَعْلَمُ﴾، أو مستأنفة. ﴿يَا﴾ حرف نداء، ﴿أيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾. وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل. صلة الموصول.
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾.
﴿وَجَاهِدُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ أيضًا. ﴿فِي اللَّهِ﴾: متعلق به ولا بد من حذف مفعول ﴿جاهدوا﴾؛ أي: جاهدوا أعداءكم في ذات الله ومن أجله ففي للسببية. و ﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾: مفعول مطلق. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿اجْتَبَاكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب حال من الجلالة. ﴿وَمَا جَعَلَ﴾: الواو: عاطفة ﴿ما﴾: نافية. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الرفع معطونة على ﴿اجْتَبَاكُمْ﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿فِي الدِّينِ﴾: حال ﴿مِنْ حَرَجٍ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿حَرَجٍ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف معلوم من مضمون ما تقدمها، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصب انتصابه. والجملة المحذوفة مستأنفة. قال الزمخشري: وهذا أحسن الأوجه في هذا المقام. ويجوز نصبها على الاختصاص؛ أي: أخص بالدين ملة أبيكم، أو بتقدير فعل مضمر، تقديره: اتبعوا ملة أبيكم. وهناك أوجه أخرى، لا تخرج عن هذه الأوجه. ﴿أَبِيكُمْ﴾ مضاف إليه. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: بدل من ﴿أَبِيكُمْ﴾. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿سَمَّاكُمُ﴾: فعل
﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.
﴿لِيَكُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿الرَّسُولُ﴾ اسمها. ﴿شَهِيدًا﴾: خبرها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾. وجملة ﴿يكون﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لكون الرسول شهيدًا. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سَمَّاكُمُ﴾. وفي "الفتوحات" واللام فيه للعاقبة؛ لأن التعليل، غير ظاهر هنا كما قيل. والظاهر أنه لا مانع منه، فإن تسمية الله، أو إبراهيم لهم به حكم بإسلامهم وعدالتهم، وهو سبب لقبول شهادة الرسول، الداخل فيهم دخولًا أوليًا، وقبول شهادتهم على الأمم اهـ. "شهاب" ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ﴾. ﴿عَلَى النَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿شُهَدَاءَ﴾. ﴿فَأَقِيمُوا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن الله سماكم المسلمين، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم أقيموا الصلاة. ﴿أَقِيمُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول به. والجملة في محل النصب مقول لجواب إذ المقدرة. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَقِيمُوا﴾. ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَقِيمُوا﴾ أيضًا. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿اعْتَصِمُوا﴾. ﴿هُوَ مَوْلَاكُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى﴾: الفاء استئنافية. ﴿نِعْمَ﴾ فعل ماض لإنشاء المدح. ﴿الْمَوْلَى﴾: فاعل.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَنْ عَاقَبَ﴾ والعقاب: مأخوذ من التعاقب، وهو مجيء الشيء بعد غيره، وحينئذٍ فتسمية ما عوقب به عقابًا، من باب المشاكلة كما سبق ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ يقال: بغى عليه بغيًا إذا علا وظلم.
قال الراغب: البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه، أو لم يتجاوزه، فتارة يعتبر في القدرة التي هي الكمية، وتارة يعتبر في الوصف، الذي هو الكيفية، يقال: بغيت الشيء إذا طلبت أكثر ما يجب. ﴿مُخْضَرَّةً﴾ قال الراغب: الخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد، وهو إلى السواد أقرب، ولهذا يسمى الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقيل: سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة. ﴿وَالْفُلْكَ﴾: يطلق على الواحد والجمع بهذه الصيغة، فالواحدة يقال، لها: ذلك، فتكون حركته حينئذٍ كحركة قفل، والجمع يقال له: ذلك فتكون حركته حينئذٍ كحركة بدن. اهـ شيخنا.
﴿مَنْسَكًا﴾ بفتح السين وكسرها؛ أي: شريعة ومنهاجًا؛ لأنه مأخوذ من النسيكة، وهي العبادة، وقد تقدم الكلام على هذه المادة مستوفى. ﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ﴾ يقال: نزع الشيء إذا جذبه من مقره كنزع القوس عن كبده، والمنازعة المخاصمة.
﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ﴾؛ أي: خاصموك بعد ظهور الحق، وأصله من جدلت الحبل؛ أي: حكمت قتله، فكان المجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه. ﴿الْمُنْكَرَ﴾ بوزن اسم المفعول مصدر ميمي، بمعنى الإنكار وهو على حذف مضاف؛ أي: أثر الإنكار من العبوس ﴿يَسْطُونَ﴾؛ أي: يبطشون. يقال: سطا عليه إذا بطش به، والسطو: الوثب والبطش، ولذلك عدى بالباء، وإلا فهو يتعدى بعلى، يقال: سطا عليه، وأصله القهر والغلبة. وقيل: هو إظهار ما يهول
﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ المثل في الأصل، بمعنى: المثل، ثم خص بما شبه مضربه بمورده من الكلام السائر، فصار حقيقة عرفية فيه، ثم استعير لكل حال غريبة، أو قصة من الكلام فصيح غريبة، لمشابهتها له في ذلك، اهـ "شهاب" ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ والذباب: من الذب وهو المنع؛ لأنه يذب؛ أي: يمنع ويدفع. قال في "المفردات": الذباب يقع على الحيوان المعروف من الحشرات الطائرة، وعلى النحل، والزنابير. وفي قوله: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ﴾ فهو المعروف. وفي حياة الحيوان في الحديث (الذباب في النار إلا النحل) وهو يتولَّد من العفونة، لم يخلق لها أجفان لصغر أحداقها، ومن شأن الأجفان أن تصقل مرأة الحدقة من الغبار، فجعل الله لها يدين تصقل بهما مرآة حدقتها، فلهذا ترى الذباب أبدًا يمسح بيديه عينيه، وإذا بخر البيت بورق القرع. ذهب منه الذباب، اهـ. دُمَيري. وهو اسم جنس واحده ذبابة، يقع على المذكر والمؤنث، ويجمع على ذباب بالكسر كغربان وذباب بالضم كقضبان وعلى أذبة كأغربة، وهو أجهل الحيوانات؛ لأنه يرمي نفسه في المهلكات، ومدة عيشه أربعون يومًا، وأصل خلقته من العفونات، ثم يتوالد بعضه من بعض، يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذب إذا طرد وآب إذا رجع، لأنك تدبه فيرجع عليك، اهـ. شيخنا.
﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ﴾؛ أي: يختطف منهم بسرعة. ﴿لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ الاستنقاذ استفعال بمعنى الإفعال، يقال: أنقذه منه بكذا؛ أي: أنجاه منه وخلصه. اهـ "سمين".
﴿يَصْطَفِي﴾ قال في "المفردات": أصل الصفاء خلوص الشيء من الشوب، والاصطفاء تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جبايته، واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالى إياه صافيًا عن الشوب
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ﴾ الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب، مجاهدة العدو الظاهر كالكفار، مجاهدة الشيطان، مجاهدة النفس والهوى وهذه أعظمها.
﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ قال الراغب: الملة كالدين، وهو اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء، ليتوصلوا به إلى جوار الله تعالى، والفرق بينها وبين الدين، أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي، الذي تسند إليه، نحو اتبعوا ملة إبراهيم، واتبعت ملة آبائي. ولا يكاد يوجد مضافًا إلى الله تعالى، ولا إلى آحاد أمة النبي، ولا يستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، ولا يقال: ملة الله، ولا ملتي وملة زيد، كما يقال: دين الله وأصل الملة من مللت الكتاب، ويقال الملة اعتبارًا بالنبي الذي شرعها، والدين يقال: اعتبارًا بمن يقيمه إذا كان معناه الطاعة، هذا كله في مفردات الراغب. قال ابن عطاء ملة إبراهيم هو السخاء، والبذل وحسن الأخلاق والخروج عن النفس، والأهل والمال والولد.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ والفلاح: الظفر، وإدراك البغية وذلك ضربان: دنيويٌّ وأخرويٌّ، فالدنيويُّ: الظفر بالسعادات التي يطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء، والغنى، والعز. والعلم، والأخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة.
و ﴿اجْتَبَاكُمْ﴾؛ أي: اختاركم. ﴿حَرَجٍ﴾؛ أي: ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: استعينوا به وتوكلوا عله. ﴿مَوْلَاكُمْ﴾ ناصركم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المشاكلة والإزدواج في قوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ﴾ الخ. حيث سمى
ومنها: إيراد صيغة المضارع بدل الماضي حيث قال: ﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ بدل أصبحت لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان.
ومنها: الامتنان بتعداد النعم في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي...﴾ إلخ. وكذلك الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾.
ومنها: وصف ﴿مَنْسَكًا﴾ بقوله: ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ تأكيدًا للقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور على الفعل، في قوله: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾.
ومنها: النهي الذي يراد منه نفي الشيء في قوله: ﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ﴾؛ أي: لا ينبغي لهم منازعتك، فقد ظهر الحق وبان.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ﴾ حيث شبه الخصومة الواقعة بينه وبينهم بجدل الحبل، وفتله؛ لأن أصل الجدل فتل الحبل، فكان المجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: قد علمت.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ تسجيلًا
ومنها: إيقاع الظاهر موقع المضمر في قوله: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ للشهادة عليهم بوصف الكفر، اهـ "سمين". وفيه الاستعارة اللطيفة؛ أي: تستدل من وجوههم على المكروه، وإرادة الفعل القبيح، مثل قولهم عرفت في وجه فلان الشر.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية، حيث أستعير المثل لصفة غريبة، وقصة عجيبة، تشبيهًا لها ببعض الأمثال، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم. كما في "الخازن".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: صلوا؛ لأن الركوع والسجود من أركان الصلاة.
ومنها: ذكر العام بعد الخاص، لإفادة العموم مع العناية بشأن الخاص، في قوله: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ بدأ بخاص، ثم بعام، ثم بأعم.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: رسلًا حيث حذف من الثاني لدلالة الأول عليه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
جملتها سبعة عشرة
١ - وصف حال يوم القيامة، وما فيه من شدائد وأهوالٍ تشيب منها الولدان.
٢ - جدال عبدة الأصنام والأوثان، بلا حجة وبرهان.
٣ - إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه.
٤ - وصف المنافقين المذبذبين في دينهم، وعدم ثباتهم على حال واحدة.
٥ - ما أعد الله لعباده المؤمنين، من الثواب المقيم، في جنات النعيم.
٦ - بيان أن الله ناصر نبيه، ومظهر دينه على سائر الأديان.
٧ - بيان أن الله يحكم يوم القيامة بين عباده، من أرباب الديانات المختلفة، ويجازي كلا بما يستحق.
٨ - إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض، وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته.
٩ - أمر المؤمنين بقتال المشركين، الذين أخرجوهم من ديارهم، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق في كل زمان ومكان، وأن الله ينصر من يدافع عنه.
١٠ - تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه، وأنهم ليسوا بدعًا في الأمم، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم، ثم كانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، والعبر ماثلةٌ في حلهم وترحالهم.
١١ - بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق، ليزلزلوا عقائد المؤمنين، لكنها لا تلبث أن تزول، وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل.
١٢ - الثواب على الهجرة لله ورسوله، سواء قتل المهاجر أو مات.
١٤ - بيان أن الله يرسل رسلًا من الملائكة، ورسلًا من البشر، وأن الله عليم بمن يصلح لهذه الرسالة.
١٥ - أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة، وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد في سبيل الحق.
١٦ - بيان أن الدين يسرٌ لا عسرٌ، وأنه كمِلَّة إبراهيم سمح لا شدة فيه.
١٧ - بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة، وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة، بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الله وما قصروا في ذلك.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعل الأمر مشتبهًا علينا، فإذًا نضيع. امين امين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (١).
* * *
اللهم يا ربنا كما يسرت لي ما مضى من هذا التفسير، وبشرتني بالفراغ من هذا المجلد، فأكرمني بالفراغ من كل الكتاب وإكماله، واجعل البركة لي في عمري مع صرف العوائق والمعائق عني إلى تمامه، وتقبَّل اجتهادي فيه، وسائر أعمالنا، إنك أنت السميع القريب المجيب.
وكان الفراغ منه بمكة المكرمة في المسفلة حارة الرشد، جوار الحرم الشريف. في تاريخ ٢١/ ١٠/ ١٤١٢ هـ وكان الفراغ من تصحيح هذا المجلد بيد مؤلفه في تاريخ ٢٢/ ٦/ ١٤١٧ هـ.
يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا مَنْ لاَ شَرِيْكَ لَهُ | يَا سَامِعَ الأصْوَاتِ يَا مَنْ جَلَّ عَنْ صَمَمِ |
يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا ذَا الْجُوْدِ يَا أَمَلِيْ | يَا ذَا الْجَلاَلِ وَيَا ذَا اللُّطْفِ في الأُمَمِ |
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى | وَنِعِمْ مَا أُوْلَى فَنِعْمِ الْمَوْلَى |
بُوْرِكَ تَفْسِيْرُ الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ | كَمَا بُوْرِكَ جَنَا الزَّيْتُوْنِ وَالرُّمَّانِ |
كِتَابٌ لَوْ يُبَاعُ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا | لَكَانَ البَائِعُ فِيْهِ الْمَغْبُوْنَا |
حَوَى مِنْ عُلُوْمِ التَّفسِيْرِ أفْنَانًا | فَالْحَمْدُ لِلْمَوْلَى عَلَى مَا حَبَانَا |
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَّى | وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ |
وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ | مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ |
وَإِذَا طَلَبْتَ إلى كَرِيْمٍ حَاجَةً | فَلِقَاؤُهُ يَكْفِيْكَ وَالتَّسْلِيْمُ |
فَإِذَا رَآكَ مُسَلِّمًا عَرَفَ الَّذيْ | حَمَّلْتَهُ فَكَأَنَّهُ مَلْزُوْمُ |
أَأذْكُرُ حَاجَتِيْ أمْ قَدْ كَفَانِيْ | حَيَاؤُكَ إِنَ شِيْمَتَكَ الْحَيَاءُ |
آخرُ
سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ | أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أَمَّ حِمَارُ |
لِكُلِّ دَوَلَةٍ أَجَلُ | ثمَّ يُتَاحُ لَهَا حِوَلُ |
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتْ | نَسْخُهُ مِنْ عَنْكَبُوْت |