ﰡ
[تفسير سورة محمد]
سُورَةُ الْقِتَالِ، وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي حُزْنًا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ" «١» [محمد: ١٣]. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ هِبَةِ الله عن الضحاك وسعيد ابن جُبَيْرٍ. وَهِيَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً «٢». وَقِيلَ ثَمَانٍ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (٤٧): آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١)قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ كَفَرُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِنَهْيِهِمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:" عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" عَنْ بَيْتِ اللَّهِ بِمَنْعِ قَاصِدِيهِ. وَمَعْنَى" أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَبْطَلَ مَا عَمِلُوهُ فِي كُفْرِهِمْ بِمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ مَكَارِمَ، مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَفَكِّ الْأُسَارَى وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَحِفْظِ الْجِوَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ بِبَدْرٍ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رجلا: أبو جهل، والحارث ابن هِشَامٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُبَيٌّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ، وَمُنَبِّهٌ وَنُبَيْهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو الْبُخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ.
[سورة محمد (٤٧): آية ٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢)
(٢). من ب ل ن.
فَإِنْ تُقْبِلِي بِالْوُدِّ أُقْبِلْ بِمِثْلِهِ | وَإِنْ تُدْبِرِي أَذْهَبْ إِلَى حَالٍ بَالِيًا |
كَأَنَّ عَلَيْهَا بَالَةً لَطَمِيَّةً | لها من خلال الدأيتين أريج «٢» |
(٢). اللطمية: العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها. والداي: فقر الكاهل والظهر. [..... ]
فإن تقبَلي بالود أقبل بمثلِه | وإن تُدبري أذهب إلى حال باليا |
كأن عليها بالةً لطميةً | لها من خلال الدأيتينِ أريجُ١ |
[سورة محمد (٤٧): آية ٣]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ"" ذَلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ ذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْهُدَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمَا سَبَبُهُ هَذَا. فَالْكَافِرُ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ، وَالْمُؤْمِنُ اتَّبَعَ الْحَقَّ. وَالْبَاطِلُ: الشِّرْكُ. وَالْحَقُّ: التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ." كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ" أَيْ كَهَذَا الْبَيَانِ الَّذِي بُيِّنَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْرَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَالضَّمِيرُ فِي" أَمْثالَهُمْ" يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا.
[سورة محمد (٤٧): آية ٤]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ" لَمَّا مَيَّزَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ كِتَابِيٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ عَهْدٍ وَلَا ذِمَّةٍ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ." فَضَرْبَ الرِّقابِ" مَصْدَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ أَيْ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا. وَخَصَّ الرِّقَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِهَا. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ كَقَوْلِكَ يَا نَفْسُ صَبْرًا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ
وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ | إِذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حِمْلُ الْمَغَارِمِ |
(٢). راجع ج ٨ ص ٤٥ وما بعدها.
(٢). آية ٥٧ سورة الأنفال.
(٣). آية ٣٦ سورة التوبة.
(٢). راجع ج ٨ ص ٤٥ وما بعدها.
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا | رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَا |
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ يُحْدَى بِهَا | عَلَى أَثَرِ الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا «١» |
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ | تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عيرا فعيرا |
... على أثر العيس...
(٢). آية ٥٥ سورة ص.
الأولى- قوله تعالى :" فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس : الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال : وهو الصحيح لعموم الآية فيه. " فضرب الرقاب " مصدر. قال الزجاج : أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها. وقيل : نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة : هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل : التقدير اقصدوا ضرب الرقاب. وقال :" فضرب الرقاب " ولم يقل فاقتلوهم، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه.
الثانية- قوله تعالى :" حتى إذا أثخنتموهم " أي أكثرتم القتل. وقد مضى في " الأنفال " عند قوله تعالى :" حتى يثخن في الأرض " ١ [ الأنفال : ٦٧ ]. " فشدوا الوثاق " أي إذا أسرتموهم. والوثاق اسم من الإيثاق، وقد يكون مصدرا، يقال : أوثقته إيثاقا ووثاقا. وأما الوثاق ( بالكسر ) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط. قاله القشيري. وقال الجوهري : وأوثقه في الوثاق أي شده، وقال تعالى :" فشدوا الوثاق ". والوثاق ( بكسر الواو ) لغة فيه. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا. " فإما منا بعد وإما فداء " " فإما منا " عليهم بالإطلاق من غير فدية " وإما فداء ". ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام، و " منا " و " فداء " نصب بإضمار فعل. وقرئ " فدى " بالقصر مع فتح الفاء، أي فإما أن تمنوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم فداء.
روي عن بعضهم أنه قال : كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال : يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال :" فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء " في حق الذين كفروا، فوالله ما مننت ولا فديت ؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفُكُّهُم | إذا أثقل الأعناق حملَ المغارم |
الثالثة- واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال : الأول : أنها منسوخة، وهي في أهل الأوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى :" فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه " ٢ [ التوبة : ٥ ] وقوله :" فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم " ٣ [ الأنفال : ٥٧ ] وقوله :" وقاتلوا المشركين كافة " ٤ [ التوبة : ٣٦ ] الآية، قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبد الكريم الجوزي : كتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا.
الثاني : أنها في الكفار جميعا. وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد. قالوا : إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة، لأنها لا تقتل. والناسخ لها :" فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : ٥ ] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين. ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة " فإما منا بعد وإما فداء " قال : نسخها " فشرد بهم من خلفهم ". وقال مجاهد : نسخها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : ٥ ]. وهو قول الحكم.
الثالث : أنها ناسخة، قاله الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك :" فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة : ٥ ] قال : نسخها " فإما منا بعد وإما فداء ". وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء :" فإما منا بعد وإما فداء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى، كما قال الله عز وجل. وقال أشعث : كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو " فإما منا بعد وإما فداء ". وقال الحسن أيضا : في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال :" حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ". وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل : إما أن يمن، أو يفادي، أو يسترق.
الرابع : قول سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله تعالى :" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " ٥ [ الأنفال : ٦٧ ]. فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. الخامس : أن الآية محكمة، والإمام مخير في كل حال، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. وهو الاختيار ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك، قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا، وفادى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين، وهبط عليه عليه السلام قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم، وقد من على سبي هوازن. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقد مضى جميعه في ( الأنفال )٦ وغيرها. قال النحاس : وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور عنه ما قدمناه، وبالله عز وجل التوفيق.
الرابعة- قوله تعالى :" حتى تضع الحرب أوزارها " قال، مجاهد وابن جبير : هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضا : أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب. ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. قال الكسائي : حتى يسلم الخلق. وقال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي : حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن : حتى لا يعبدوا إلا الله. وقيل : معنى الأوزار السلاح، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح. وقيل : معناه حتى تضع الحرب، أي الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. ويقال للكراع أوزار. قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها | رِماحًا طوالا وخيلا ذكورَا |
ومن نسج داود يحدى بها | على أثر الحي عيراً فعيرا٧ |
قوله تعالى :" ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم " " ذلك " في موضع رفع على ما تقدم، أي الأمر ذلك الذي ذكرت وبينت. وقيل : هو منصوب على معنى افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ، المعنى ذلك حكم الكفار. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام، وهو كما قال تعالى :" هذا وإن للطاغين لشر مآب " ٨ [ ص : ٥٥ ]. أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا. ومعنى :" لا انتصر منهم " أي أهلكهم بغير قتال. وقال ابن عباس : لأهلكهم بجند من الملائكة. " ولكن ليبلو بعضكم ببعض " أي أمركم بالحرب ليبلو ويختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين والصابرين، كما في السورة نفسها. " والذين قتلوا في سبيل الله " يريد قتلى أحد من المؤمنين " فلن يضل أعمالهم " قراءة العامة " قاتلوا " وهي اختيار أبي عبيد. وقرأ أبو عمرو وحفص " قتلوا " بضم القاف وكسر التاء، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة " قتلوا " بفتح القاف والتاء من غير ألف، يعني الذين قتلوا المشركين. قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون : اعل هبل. ونادى المسلمون : الله أعلى وأجل. وقال المشركون : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( قولوا لا سواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ). فقال المشركون : إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون : الله مولانا ولا مولى لكم. وقد تقدم ذكر ذلك في ( آل عمران )٩.
٢ آية ٥ سورة التوبة..
٣ آية ٥٧ سورة الأنفال..
٤ آية ٣٦ سورة التوبة..
٥ آية ٦٧ سورة الأنفال..
٦ راجع ج ٨ ص ٤٥ وما بعدها..
٧ هذه رواية البيت في الأصول. وروايته في كتاب " الأعشين":
ومن نسج داود موضونة | تساق مع الحي عيرا فعيرا |
٨ آية ٥٥ سورة ص..
٩ راجع ج ٤ ص ٢٣٤..
[سورة محمد (٤٧): آية ٥]
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو" قُتِلُوا" بَعِيدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ" وَالْمَقْتُولُ لَا يُوصَفُ بِهَذَا. قَالَ غَيْرُهُ: يَكُونُ الْمَعْنَى سَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ سَيَهْدِي مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، أَيْ يُحَقِّقُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ. وَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: سَيَهْدِيهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي الْقَبْرِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ تَرِدُ الْهِدَايَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَسَالِكِ الْجِنَانِ وَالطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُجَاهِدِينَ: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ" «٢» [الصافات: ٢٣] معناه فاسلكوا بهم إليها.
[سورة محمد (٤٧): آية ٦]
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)
(٢). آية ٢٣ سورة الصافات.
عَرُفَتْ كإِتْبٍ عرَّفته اللطائمُ٣
يقول : كما عرف الإتب، وهو البَقِيرُ والبَقِيرة، وهو قميص لا كُمَّيْن له تلبسه النساء. وقيل : هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، يقال حرير معرف، أي بعضه على بعض، وهو من العرف المتتابع كعرف الفرس. وقيل :" عرفها لهم " أي وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل : عرف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. وقيل : عرف المطيعين أنها لهم.
٢ زيادة عن صحيح البخاري..
٣ اللطائم (جمع لطيمة): قطعة مسك..
عرفت كاتب عرفته اللطائم «٤»
يقول: كَمَا عُرِّفَ الْإِتْبُ، وَهُوَ الْبَقِيرُ وَالْبَقِيرَةُ، وَهُوَ قَمِيصٌ لَا كُمَّيْنِ لَهُ تَلْبَسُهُ النِّسَاءُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَضْعِ الطَّعَامُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْ كَثْرَتِهِ، يُقَالُ: حَرِيرٌ مُعَرَّفٌ، أَيْ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مِنَ الْعُرْفِ الْمُتَتَابِعِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ. وَقِيلَ:" عَرَّفَها لَهُمْ" أَيْ وَفَّقَهُمْ لِلطَّاعَةِ حَتَّى اسْتَوْجَبُوا الْجَنَّةَ. وَقِيلَ: عَرَّفَ أَهْلَ السَّمَاءِ أَنَّهَا لَهُمْ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ فِيهَا. وَقِيلَ: عَرَّفَ المطيعين أنها لهم.
[سورة محمد (٤٧): آية ٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧)
(٢). زيادة عن صحيح البخاري.
(٣). زيادة عن صحيح البخاري. [..... ]
(٤). اللطائم (جمع لطيمة): قطعة مسك.
[سورة محمد (٤٧): آية ٨]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا" يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبَ بِمَا يُفَسِّرُهُ" فَتَعْساً لَهُمْ" كَأَنَّهُ قَالَ: أَتْعَسَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَ" تَعْسًا لَهُمْ" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِسَبِيلِ الدُّعَاءِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، مِثْلُ سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا. وَهُوَ نَقِيضُ لَعًا «٨» لَهُ. قَالَ الْأَعْشَى:
فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعًا «٩»
وَفِيهِ عَشْرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- بُعْدًا لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ. الثَّانِي- حُزْنًا لَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّالِثُ- شَقَاءٌ لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الرَّابِعُ- شَتْمًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْخَامِسُ- هَلَاكًا لَهُمْ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. السَّادِسُ- خَيْبَةٌ لَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. السَّابِعُ- قُبْحًا لَهُمْ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. الثَّامِنُ- رغما لهم، قاله الضحاك أيضا. التاسع-
(٢). راجع ج ٧ ص (٣٧١ ٣٧٧)
(٣). راجع ج ٧ ص (٣٧١ ٣٧٧)
(٤). ما بين المربعين ساقط من ز ك ل.
(٥). آية ١١ سورة السجدة.
(٦). آية ٤٠ سورة الروم.
(٧). آية ٢ سورة الملك.
(٨). لعا: كلمة يدعى بها للعاثر معناه الارتفاع.
(٩). في اللسان وكتاب الاعشين:" أدنى" بدل" أولى". وصدره:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت
واللوث (بالفتح): القوة". عفرناة: قرية.
تَقُولُ وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا مِنْ خَلِيلِهَا | تَعِسْتَ كَمَا أَتْعَسْتِنِي يَا مُجَمِّعُ |
[سورة محمد (٤٧): آية ٩]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
أَيْ ذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْإِتْعَاسُ، لِأَنَّهُمْ" كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" مِنَ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ." فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ" أَيْ مَا لَهُمْ مِنْ صُوَرِ الْخَيْرَاتِ، كَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَأَصْنَافِ الْقُرَبِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ الْعَمَلَ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ. وَقِيلَ: أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم.
[سورة محمد (٤٧): آية ١٠]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠)
(٢). قوله" شيك" أي أصابته شوكة. و" فلا انتقش" أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش.
[سورة محمد (٤٧): آية ١١]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (١١)
أَيْ وَلِيَّهُمْ وَنَاصِرَهُمْ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا". فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره. قال:
فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّهُ | مَوْلَى الْمَخَافَةِ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا» |
[سورة محمد (٤٧): آية ١٢]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
(٢). راجع ص ٢٣٠ من هذا الجزء. [..... ]
[سورة محمد (٤٧): آية ١٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ في" كأين" في (آل عمران) «١». وهي ها هنا بِمَعْنَى كَمْ، أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ قَوْلَ لَبِيدٍ:
وَكَائِنْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ | وَمِفْتَاحِ قَيْدٍ لِلْأَسِيرِ الْمُكَبَّلِ |
[سورة محمد (٤٧): آية ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" الْأَلِفُ أَلِفُ تَقْرِيرٍ. وَمَعْنَى" عَلى بَيِّنَةٍ" أَيْ عَلَى ثَبَاتٍ وَيَقِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَبُو الْعَالِيَةِ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْبَيِّنَةُ: الْوَحْيُ." كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" أَيْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ وَالْكُفَّارُ.
(٢). ساقط من ك.
[سورة محمد (٤٧): آية ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ" لَمَّا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ" [الحج: ١٤] وَصَفَ تِلْكَ الْجَنَّاتِ، أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُتَّقِينَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي" الرَّعْدِ" «١». وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ" مِثَالُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ"." فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ" أَيْ غَيْرَ مُتَغَيِّرِ الرَّائِحَةِ. وَالْآسِنُ مِنَ الْمَاءِ مِثْلُ الْآجِنِ. وَقَدْ أَسَنَ الماء يأسن ويأسن] أسنا و [أسونا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ. وَكَذَلِكَ أَجَنَ الْمَاءُ يَأْجُنُ وَيَأْجِنُ أَجْنًا وَأُجُونًا. وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا: أَجِنَ وَأَسِنَ يَأْسَنُ وَيَأْجَنُ أَسْنًا وَأَجْنًا، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَأَسِنَ الرَّجُلُ أَيْضًا يَأْسَنُ (بِالْكَسْرِ «٢» لَا غَيْرَ) إِذَا دَخَلَ الْبِئْرَ فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ مِنْ رِيحِ الْبِئْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ أَوْ دَارَ رَأْسُهُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
قَدْ أَتْرُكُ «٣» الْقَرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ | يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ الْمَائِحِ الْأَسِنْ |
(٢). أي في الماضي.
(٣). وفية رواية أخرى:" يغادر القرن".
[سورة محمد (٤٧): الآيات ١٦ الى ١٧]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ" أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، وَزُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ: عَبْدُ اللَّهِ بن أبي ابن سَلُولٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ وَزَيْدُ بْنُ الصَّلِيتِ «١» وَالْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَمَالِكُ بْنُ دَخْشَمٍ، كَانُوا يَحْضُرُونَ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا أَعْرَضُوا عَنْهُ، فَإِذَا خَرَجُوا سَأَلُوا عَنْهُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: كَانُوا يَحْضُرُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْهُ مَا يَقُولُ، فَيَعِيَهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَعِيَهُ الْكَافِرُ." حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ" أَيْ إِذَا فَارَقُوا مَجْلِسَكَ." قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ مِمَّنْ يُسْأَلُ، أَيْ كُنْتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ. وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُمُ الصَّحَابَةُ." مَاذَا قالَ آنِفاً" أَيِ الْآنَ، عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. أَيْ أَنَا لَمْ أَلْتَفِتْ إِلَى قوله. و" آنِفاً" يُرَادُ بِهِ السَّاعَةَ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ إِلَيْكَ، مِنْ قَوْلِكَ: اسْتَأْنَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا ابْتَدَأْتَ بِهِ. وَمِنْهُ أَمْرٌ أُنُفٌ، وَرَوْضَةٌ أُنُفٌ، أَيْ لَمْ يَرْعَهَا أَحَدٌ. وَكَأْسٌ أُنُفٌ: إِذَا لَمْ يشرب منها شي، كَأَنَّهُ اسْتُؤْنِفَ شُرْبُهَا مِثْلُ رَوْضَةٍ أُنُفٍ. قَالَ الشاعر: «٢»
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ | وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ القصاع |
(٢). هو الحطيئة.
إِنَّ الشِّوَاءَ وَالنَّشِيلَ وَالرُّغُفَ | وَالْقَيْنَةَ الْحَسْنَاءَ وَالْكَأْسَ الْأُنُفَ |
وَقَالَ امْرُؤُ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه «٣»
أَيْ فِي أَوَّلِهِ. وَأَنْفُ كُلِّ شَيْءٍ أَوَّلُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ: النَّاسُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ فَانْتَفَعَ بِمَا سَمِعَ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا سَمِعَ. وَكَانَ يُقَالُ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَسَامِعٌ عَامِلٌ، وَسَامِعٌ عَاقِلٌ، وَسَامِعٌ غَافِلٌ تَارِكٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ" فَلَمْ يُؤْمِنُوا." وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ" فِي الْكُفْرِ." وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا" أَيْ لِلْإِيمَانِ زَادَهُمُ اللَّهُ هُدًى. وَقِيلَ: زَادَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُدًى. وَقِيلَ: مَا يَسْتَمِعُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ هُدًى. أَيْ يَتَضَاعَفُ يَقِينُهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: زَادَهُمْ إِعْرَاضُ الْمُنَافِقِينَ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ هُدًى. وَقِيلَ: زَادَهُمْ نُزُولُ النَّاسِخِ هُدًى. وَفِي الْهُدَى الَّذِي زَادَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا- زَادَهُمْ عِلْمًا، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. الثَّانِي- أَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا سَمِعُوا وَعَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّالِثُ- زَادَهُمْ بَصِيرَةً فِي دِينِهِمْ وَتَصْدِيقًا لِنَبِيِّهِمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. الرَّابِعُ- شَرَحَ صُدُورَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ." وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ" أَيْ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهَا. وَقِيلَ: فِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا- آتَاهُمُ الْخَشْيَةَ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. الثَّانِي- ثَوَابُ تَقْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّالِثُ- وَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. الرَّابِعُ- بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، قَالَهُ ابْنُ زِيَادٍ وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا. الْخَامِسُ- أَنَّهُ تَرْكُ الْمَنْسُوخِ وَالْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ، قَالَهُ عطية. الماوردي: ويحتمل. سادسا-
(٢). في الأصول:" حنف" والتصويب عن اللسان مادة" قطف". وقد ورد هذا الشطر في اللسان مادة" نشل":" للضاربين الهام والخيل قطف". وقطفت الدابة: أساءت السير وأبطأت.
(٣). تمامه:
لا حق الأيطل محبوك ممر
[سورة محمد (٤٧): آية ١٨]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً" أَيْ فَجْأَةً. وَهَذَا وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ." فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها" أَيْ أَمَارَاتِهَا وَعَلَامَاتِهَا. وكانوا قد قرءوا في كتبهم أن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَبَعْثُهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَأَدِلَّتِهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ [وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَيُرْوَى] بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ [. وَقِيلَ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَسْبَابُهَا الَّتِي هِيَ دُونَ مُعْظَمِهَا. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلدُّونِ مِنَ النَّاسِ: الشَّرَطُ. وَقِيلَ: يَعْنِي عَلَامَاتِ السَّاعَةِ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَالدُّخَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَثْرَةُ الْمَالِ وَالتِّجَارَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَقِلَّةُ الْكِرَامِ وَكَثْرَةُ اللِّئَامِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابٍ" التَّذْكِرَةِ" مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَوَاحِدُ الْأَشْرَاطِ شَرَطٌ، وَأَصْلُهُ الْأَعْلَامُ. وَمِنْهُ قِيلَ الشُّرَطُ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا. وَمِنْهُ الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
فَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ بِالصُّرْمِ بَيْنَنَا | فَقَدْ جَعَلْتِ أَشْرَاطَ أَوَّلِهِ تَبْدُو |
فَأَشْرَطَ نَفْسَهُ فِيهَا وَهُوَ مُعْصِمٌ | وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وتوكلا |
[سورة محمد (٤٧): آية ١٩]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ" قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِيهِ- وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ عَالِمًا بِاللَّهِ- ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: يَعْنِي اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَكَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. الثَّانِي- مَا عَلِمْتَهُ اسْتِدْلَالًا فَاعْلَمْهُ خَبَرًا يَقِينًا. الثَّالِثُ- يَعْنِي فَاذْكُرْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فعبر عن الذكر بالعلم
(٢). الجربة (بالفتح والتشديد): القطيع من حمر الوحش. وقد يقال للأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين: جربه. [..... ]
«٢» [الأنفال: ٢٨]. ثم قال بعد:" فَاحْذَرُوهُمْ" «٣» [التغابن: ١٤]. وَقَالَ تَعَالَى:" وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" «٤» [الأنفال: ٤١]. ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَمَلِ بَعْدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- يَعْنِي اسْتَغْفِرِ اللَّهَ أَنْ يَقَعَ مِنْكَ ذَنْبٌ. الثَّانِي- اسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِيَعْصِمَكَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ لَهُ حَالَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ، أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْحَذَرِ عَمَّا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُمَّةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُوجِبُ الْآيَةُ اسْتِغْفَارَ الْإِنْسَانِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضِيقُ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ يَكْشِفُ مَا بِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِأَحَدٍ سِوَاهُ. وَقِيلَ: أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمَّةُ." وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" أَيْ وَلِذُنُوبِهِمْ. وَهَذَا أَمْرٌ بِالشَّفَاعَةِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مِنْ طَعَامِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! فَقَالَ لَهُ صَاحِبِي: هَلِ اسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نِعْمَ، وَلَكَ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ" ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، جُمْعًا «٥» [عَلَيْهِ «٦» [خِيلَانٌ كَأَنَّهُ الثَّآلِيلُ." وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ" فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ فِي تَصَرُّفِكُمْ وَإِقَامَتِكُمْ. الثَّانِي-" مُتَقَلَّبَكُمْ" فِي أَعْمَالِكُمْ نَهَارًا" وَمَثْواكُمْ" فِي لَيْلِكُمْ نياما. وقيل
(٢). آية ٢٨ سورة الأنفال.
(٣). فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" آية ١٤ سورة التغابن.
(٤). آية ٤١ سورة الأنفال.
(٥). يريد مثل جمع الكف، وهو أن يجمع الأصابع ويضمها.
(٦). زيادة عن صحيح مسلم. والخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد. والثآليل: وهو ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد.
[سورة محمد (٤٧): الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا" أَيِ الْمُؤْمِنُونَ المخلصون." لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ" اشْتِيَاقًا لِلْوَحْيِ وَحِرْصًا عَلَى الْجِهَادِ وثوابه. ومعنى" لَوْلا" هَلَّا." فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ" لَا نَسْخَ فِيهَا. قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَ فِيهَا الْجِهَادُ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهِيَ أَشَدُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْدَثَةٌ" أَيْ مُحْدَثَةُ النُّزُولِ." وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ" أي فرض فيها الجهاد. وقرى" فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ وَذَكَرَ فِيهَا الْقِتَالَ" عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْقِتَالِ." رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" أَيْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ." يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" أَيْ نَظَرُ مَغْمُوصِينَ مُغْتَاظِينَ بِتَحْدِيدٍ وَتَحْدِيقٍ، كَمَنْ يَشْخَصُ بَصَرُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِجُبْنِهِمْ عَنِ الْقِتَالِ جَزَعًا وَهَلَعًا، وَلِمَيْلِهِمْ فِي السِّرِّ إِلَى الْكُفَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَوْلى لَهُمْ. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ"" فَأَوْلَى لهم" قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهدد وَوَعِيدٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى | وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ |
فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا | وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ |
فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ | وَلَكِنَّ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا |
[سورة محمد (٤٧): الآيات ٢٢ الى ٢٤]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" إِنْ تَوَلَّيْتُمْ" فَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْوِلَايَةِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ الْحُكْمَ فَجُعِلْتُمْ حُكَّامًا أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِأَخْذِ الرِّشَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَمْرَ الْأُمَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ. وَقَالَ كَعْبٌ: الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ الْأَمْرَ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّيْءِ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ الْحَرَامِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. وَقِيلَ:" فَهَلْ عَسَيْتُمْ" أَيْ فَلَعَلَّكُمْ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَفَارَقْتُمْ أَحْكَامَهُ أَنْ تُفْسِدُوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرى بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" الْقَوْلُ فِيهِ مُسْتَوْفًى «١». وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا عُنِيَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ. وَقَالَ ابْنُ حَيَّانَ: قُرَيْشٌ. وَنَحْوَهُ قَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ وَالْفَرَّاءُ، قَالَا: نَزَلَتْ فِي بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي هَاشِمٍ، وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ"- ثُمَّ قَالَ- هُمْ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِنْ وَلُوا النَّاسَ أَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا يَقْطَعُوا أَرْحَامَهُمْ [. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ" إِنْ تُوُلِّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ" بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهَا رُوَيْسٌ عَنْ
لَمَّا أَتَاكَ يَابِسًا قِرْشَبَّا | قُمْتَ إِلَيْهِ بِالْقَفِيلِ ضَرْبَا |
(٢). آية ٩٣ سورة الأنبياء.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٤٦ وج ٣ ص ٢٤٤.
(٤). راجع ج ١ ص ٢٤٦ وج ٣ ص ٢٤٤.
(٥). ج ٣ ص ٤ (٢٤٤) الأزب (بالفتح والتشديد): الكثير الشعر.
(٢). آية ١١ سورة لقمان.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ وَعَهْدُهُ غَيْرُ مَنْقُوضٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّحِمِ:] أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ [. وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبُهُ بِذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكُهُ ثُمَّ يَكُبُّهُ فِي النَّارِ على وجهه [.
[سورة محمد (٤٧): آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)
قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما عَرَفُوا نَعْتَهُ عِنْدَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، قَعَدُوا عن القتال بعد ما عَلِمُوهُ فِي الْقُرْآنِ." الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ" أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ." وَأَمْلى لَهُمْ" أَيْ مَدَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَمَلِ وَوَعَدَهُمْ طُولَ الْعُمُرِ، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْلَى لَهُمْ فِي الْأَمَلِ وَمَدَّ فِي آجَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُفَضَّلُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنًى" أَمْلى لَهُمْ" أَمْهَلَهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْلَى لَهُمْ بِالْإِمْهَالِ فِي عَذَابِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ" وَأَمْلى لَهُمْ" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاءَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنَا أُمْلِي لَهُمْ. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: لِأَنَّ فتح الهمزة يوهم أن الشيطان
(٢). الخفارة (بالضم والكسر): الذمام.
[سورة محمد (٤٧): آية ٢٦]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا" أَيْ ذَلِكَ الْإِمْلَاءُ لَهُمْ حَتَّى يَتَمَادَوْا فِي الْكُفْرِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ." لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نزل الله" وَهُمْ مُشْرِكُونَ" سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ" أَيْ فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّدٍ وَالتَّظَاهُرِ عَلَى عَدَاوَتِهِ، وَالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مَعَهُ وَتَوْهِينِ أَمْرِهِ فِي السِّرِّ. وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ سِرًّا فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" أَسْرَارَهُمْ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سِرٍّ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ" إِسْرارَهُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، نَحْوُ قوله تعالى:" وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً" «٢» [نوح: ٩] جمع لاختلاف ضروب السر.
[سورة محمد (٤٧): آية ٢٧]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَكَيْفَ" أَيْ فَكَيْفَ تَكُونُ حَالُهُمْ." إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ" أَيْ ضَارِبِينَ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْدِيدُ، أَيْ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَإِلَى انْقِضَاءِ العمر. وقد مضى في" الأنفال والنحل" «٣». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُتَوَفَّى أَحَدٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا بِضَرْبٍ شَدِيدٍ لِوَجْهِهِ وَقَفَاهُ. وَقِيلَ: ذلك عند القتال نصرة لرسول الله
(٢). آية ٩ سورة نوح.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٨ وج ١٠ ص ٩٩
[سورة محمد (٤٧): آية ٢٨]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ" أَيْ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ." بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَضْمَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ." وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ" يَعْنِي الْإِيمَانَ." فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ" أَيْ مَا عَمِلُوهُ مِنْ صَدَقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، على ما تقدم.
[سورة محمد (٤٧): الآيات ٢٩ الى ٣٠]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" نِفَاقٌ وَشَكٌّ، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ." أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ" الْأَضْغَانُ مَا يُضْمَرُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: غِشَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَسَدَهُمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: عَدَاوَتَهُمْ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
قُلْ لِابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتُ بِمَنْطِقٍ | سَاءَ الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الْأَضْغَانَا |
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضِّغْنِ يَفْشُو | عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا |
إِذَا اضْطَغَنْتُ سِلَاحِي عِنْدَ مَغْرِضِهَا | وَمِرْفَقٍ كَرِئَاسِ السَّيْفِ إِذْ شَسَفَا «١» |
وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا كَانَ لَحْنًا
أَيْ مَا عُرِفَ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يُصَرَّحْ بِهِ. مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّحْنِ فِي الْإِعْرَابِ، وَهُوَ الذَّهَابُ عَنِ الصَّوَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ [أَيْ أَذْهَبُ بِهَا فِي الْجَوَابِ لِقُوَّتِهِ عَلَى تَصْرِيفِ الْكَلَامِ. أبو زيد:
(٢). راجع ج ٨ ص ١٩٦.
(٣). آية ١٠٥ سورة النساء.
(٤). في نسخ الأصل:" يشكونهم".
وَحَدِيثٍ أَلَذُّهُ هُوَ مِمَّا | يَنْعَتُ النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنَا |
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا | نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا |
وَلَقَدْ وَحَيْتُ «١» لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا | وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ |
وَلَحَنْتُ لَحْنًا فِيهِ غِشٌّ وَرَابَنِي | صُدُودُكِ تُرْضِينَ الْوُشَاةَ الْأَعَادِيَا |
[سورة محمد (٤٧): آية ٣١]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" أَيْ نَتَعَبَّدَكُمْ بِالشَّرَائِعِ وَإِنْ عَلِمْنَا عَوَاقِبَ الْأُمُورِ. وَقِيلَ: لَنُعَامِلَنَّكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبَرِينَ." حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" حَتَّى نَعْلَمَ" حَتَّى نُمَيِّزَ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ." حَتَّى نَعْلَمَ" حتى نرى. وقد مضى
[سورة محمد (٤٧): آية ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
يَرْجِعُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَوْ إِلَى الْيَهُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُطْعِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. نَظِيرُهَا" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [الأنفال: ٣٦] الْآيَةَ «٢»." وَشَاقُّوا الرَّسُولَ" أَيْ عَادَوْهُ وَخَالَفُوهُ." مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى " أَيْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ بِالْحُجَجِ وَالْآيَاتِ." لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً" بِكُفْرِهِمْ." وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ" أَيْ ثَوَابَ مَا عملوه.
[سورة محمد (٤٧): آية ٣٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ" لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْكُفَّارِ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ فِي أَوَامِرِهِ وَالرَّسُولِ فِي سُنَنِهِ." وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ" أَيْ حَسَنَاتِكُمْ بِالْمَعَاصِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بِالْكَبَائِرِ. ابْنُ جريج: بالرياء والسمعة.
(٢). آية ٣٦ سورة الأنفال.
الأولى- قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. " ولا تبطلوا أعمالكم " أي حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن. وقال الزهري : بالكبائر. ابن جريج : بالرياء والسمعة. وقال مقاتل والثمالي : بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان.
الثانية- احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الإمام الشافعي وغيره - : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل : يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم.
[سورة محمد (٤٧): آية ٣٤]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤)
بَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ يُوجِبُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" الْكَلَامُ «١» فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أصحاب القليب «٢». وحكمها عام.
[سورة محمد (٤٧): آية ٣٥]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا تَهِنُوا" أَيْ تَضْعُفُوا عَنِ الْقِتَالِ. وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ وَقَدْ وَهَنَ الْإِنْسَانُ وَوَهَنَهُ غَيْرُهُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. قَالَ:
إنني لست بموهون فقر «٣»
(٢). المراد به قليب بدر.
(٣). هذا عجز بيت لطرفة، وصدره:
وإذا تلسنني ألسنها
" أَيْ لَنْ يَنْتَقِصَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ فِي الْبَيْتِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. الْفَرَّاءُ:" وَلَنْ يَتِرَكُمْ" هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَلَنْ يفردكم بغير ثواب.
(٢). آية ٦١ سورة الأنفال
. (٣). راجع ج ٨ ص ٦٩
(٤). ٣٩ سورة العنكبوت.
الأولى-قوله تعالى :" فلا تهنوا " أي تضعفوا عن القتال. والوهن : الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال :
إنني لستُ بمَوْهُون فَقْر١
ووهن أيضا ( بالكسر ) وهنا أي ضعف، وقرئ " فما وهنوا " بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في ( آل عمران )٢.
الثانية- قوله تعالى :" وتدعوا إلى السلم " أي الصلح. " وأنتم الأعلون " أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل : وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل : المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
الثالثة- واختلف العلماء في حكمها، فقيل : إنها ناسخة لقوله تعالى :" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " ٣ [ الأنفال : ٦١ ]، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل : منسوخة بقوله تعالى :" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ". وقيل : هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل : إن قوله :" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " مخصوص في قوم بأعيانهم، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى٤. " والله معكم " أي بالنصر والمعونة، مثل :" وإن الله لمع المحسنين " ٥ [ العنكبوت : ٦٩ ] :" ولن يتركم أعمالكم " أي لن ينقصكم، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه : وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام :[ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى :" ولن يتركم أعمالكم " أي لن ينتقصكم في أعمالكم، كما تقول : دخلت البيت، وأنت تريد في البيت، قاله الجوهري. الفراء :" ولن يتركم " هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فكان المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب.
٢ راجع ج ٤ ص ٢٣٠..
٣ آية ٦١ سورة الأنفال. راجع ج ٨ ص ٣٩..
٤ آية ٦١ سورة الأنفال. راجع ج ٨ ص ٣٩..
٥ ٦٩ سورة العنكبوت..
[سورة محمد (٤٧): الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ" تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ" «١»." وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ" شرط وجوابه." وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" أَيْ لَا يَأْمُرُكُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِهَا فِي الزَّكَاةِ، بَلْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ، قَالَهُ ابْنُ عيينة وغيره. وقيل:" لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ لِيَرْجِعَ ثَوَابُهُ إِلَيْكُمْ. وقيل:" لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ" إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ لَهَا وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: وَلَا يَسْأَلْكُمْ مُحَمَّدٌ أَمْوَالَكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. نَظِيرُهُ" قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" «٢» [الفرقان: ٥٧] الآية." إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ" يُلِحُّ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ: أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالْحَفِيُّ الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَالِ، وَكَذَلِكَ الْإِحْفَاءُ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْكَلَامِ وَالْمُنَازَعَةُ. وَمِنْهُ أَحْفَى شَارِبَهُ أَيِ اسْتَقْصَى فِي أَخْذِهِ." تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ" أَيْ يُخْرِجُ الْبُخْلُ أَضْغَانَكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي سُؤَالِ الْمَالِ خُرُوجَ الْأَضْغَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ" وَتَخْرُجُ" بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ." أَضْغانَكُمْ" بِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ الْفَاعِلَ. وَرَوَى الْوَلِيدُ عَنْ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ" وَنُخْرِجُ" بِالنُّونِ. وَأَبُو مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو" وَيُخْرِجُ" بِالرَّفْعِ فِي الْجِيمِ عَلَى الْقَطْعِ وَالِاسْتِئْنَافِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ" وَيُخْرِجُ" كَسَائِرِ الْقُرَّاءِ، عَطْفٌ عَلَى مَا تقدم.
[سورة محمد (٤٧): آية ٣٨]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
(٢). آية ٥٧ سورة الفرقان.
.
[تفسير سُورَةُ الْفَتْحِ]
سُورَةُ الْفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً. وَنَزَلَتْ لَيْلًا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَا: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ، نَزَرْتَ «١» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ «٢» أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:] لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ- ثُمَّ قَرَأَ-" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً" [. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً- إِلَى قَوْلِهِ- فَوْزاً عَظِيماً" مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُمْ يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ:] لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا [. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ شَتَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" «٣» [الأحقاف: ٩] وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ رَجُلًا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ! فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ". وَنَحْوَهُ قال مقاتل(٢). أي ما لبثت وما تعلقت بشيء.
(٣). راجع ص ١٨٥ من هذا الجزء.
ختمت السورة بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأطهار.
سورة محمد
سورة (مُحمَّد) أو سورة (القِتال) من السُّوَر المدنية، وقد نزلت بعد سورة (الحديد)، وحثَّتْ على الجهاد؛ لحفظِ بيضة هذا الدِّين، ولإعلاء كلمة الله بهذه الوسيلة المشروعة، وقد بيَّنتْ حقيقةَ الصراع بين الكفر والإيمان، وبين مَن يُقِيم العدلَ والطُّمأنينة ومن يُقِيم الجَوْرَ والخوف، ولا يكون ذلك إلا بما شرعه اللهُ من الوسائل.
ترتيبها المصحفي
47نوعها
مدنيةألفاظها
542ترتيب نزولها
96العد المدني الأول
39العد المدني الأخير
39العد البصري
40العد الكوفي
38العد الشامي
39* سورة (مُحمَّد):
سُمِّيت سورة (مُحمَّد) بهذا الاسم؛ لأنَّه جاء فيها اسمُ النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها؛ قال تعالى: {وَاْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٖ وَهُوَ اْلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2].
* سورة (القِتال):
سُمِّيت بهذا الاسم؛ لأنه جاء فيها هذا اللفظُ؛ قال تعالى: {وَيَقُولُ اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٞ مُّحْكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا اْلْقِتَالُ رَأَيْتَ اْلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اْلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اْلْمَوْتِۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ} [محمد: 20]، ولأنها بيَّنتْ أحكامَ قتالِ الكفار ومشروعيَّتَه.
1. تعريف لطرَفَيِ الصراع، وحثُّ المؤمنين على القتال (١-٦).
2. سُنَّة الله التي لا تتبدل في المؤمنين والكافرين (٧-١٥).
3. التعريف بالمنافقين، والموازنة بينهم وبين المؤمنين (١٦-٣٠).
4. تهديد الضالِّين، ودفعُ المؤمنين لتحمُّل تكاليف الإيمان (٢٩-٣٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /234).
مقصدُ هذه السورة هو دعوةُ المؤمنين إلى حفظِ حظيرة الدِّين؛ بإقامة الجهاد وإدامته؛ فلا بد من الاستعداد الجيد، والتضحية لنشر هذا الدِّين بكل الوسائل المشروعة المطلوبة؛ ومن ذلك: الجهاد في سبيل الله؛ دفعًا للشر، ودعوة إلى الخير، ومن ذلك: تسميتُها بسورة (القِتال).
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /487).