﴿ بسم الله ﴾ الذي له جميع الكمال ﴿ الرحمن ﴾ ذي النعم والأفضال ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بالقرب والإجلال.
ﰡ
ثانيها : أنه مضمر، تقديره فعلنا ذلك، وهو إيقاعهم للإيلاف، وهو الفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم. وقيل : تقديره اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة رب هذا البيت.
ثالثها : أنه متعلق بقوله تعالى :﴿ فليعبدوا ﴾، أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين ؛ لأنهما أظهر نعمة عليهم، وهذا هو الذي صدر به الزمخشري كلامه، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه ؛ لأنّ التدبير كله له، يخفض من يشاء، وإن عز، ويرفع من يشاء وإن ذل، وقريش هم ولد النضر بن كنانة، ومن ولده النضر فهو قرشيّ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ. قال صلى الله عليه وسلم :«إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم »، وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«فضل الله قريشاً بسبع خلال : أني منهم، وأنّ النبوّة فيهم، وأنّ الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأنّ الحجابة والسقاية فيهم، وأنّ الله أنزل فيهم سورة من القرآن ». وسموا قريشاً من القرش، وهو التكسب والجمع، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش، أي : يكتسب، وهم كانوا تجاراً حرّاصاً على جمع المال، وقال أبو ريحانة : سأل معاوية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : لم سميت قريش قريشاً ؟ قال : لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار، يقال لها : القرش، ولا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، . قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم، فأنشده شعر الجمحي :
وقريش هي التي تسكن البح | ر بها سميت قريش قريشاً |
تأكل الغث والسمين فلا تت | رك فيه لذي الجناحين ريشاً |
هكذا في الكتاب حي قريش | يأكلون البلاد أكلاً كميشا |
ولهم آخر الزمان نبيّ | يكثر القتل منهمو والخموشا |
والإيلاف من قولك : آلفت المكان أولفه إيلافاً إذا بلغته فأنا مؤلف، والأصل رحلتي الشتاء والصيف، ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم. قال مالك : الشتاء نصف السنة والصيف نصفها.
وقال قوم : الزمان أربعة أقسام : شتاء وربيع وصيف وخريف، وقيل : شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي : الذي قاله مالك أصح ؛ لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف، وقال آخرون : كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة، إحداهما : في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم، ولولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر :
قل للذي طلب السماحة والندى | هلا مررت بآل عبد مناف |
هلا مررت بهم تريد قراهم | منعوك من ضر ومن اتلاف |
الرائشين وليس يوجد رائش | والقائلين هلم للأضياف |
والخالطين فقيرهم بغنيهم | حتى يكون فقيرهم كالكافي |
والقائلين بكل وعد صادق | والراحلين برحلة الإيلاف |
عمرو العلا هشم الثريد لقومه | ورجال مكة مسنتون عجاف |
سفرين سنهما له ولقومه | سفر الشتاء ورحلة الأصياف |
وعن ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضهم بعضاً، فأمنت قريش ذلك لمكان الحرم. وقيل : شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السفن، فحملوا فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأعانوهم بالأقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدّة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وقيل : إنّ قريشاً لما كذبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال :«اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف »، فاشتدّ القحط فقالوا : يا محمد، ادع الله لنا، فإنا مؤمنون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة وأخصب أهلها ». وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى :﴿ وآمنهم من خوف ﴾، أي : من خوف الحبشة. وقال عليّ :﴿ وآمنهم من خوف ﴾ أن تكون الخلافة إلا فيهم. قال الزمخشريّ : من بدع التفاسير ﴿ وآمنهم من خوف ﴾ أن تكون الخلافة في غيرهم اه. لكن إن ثبت ذلك عن علي كرم الله وجهه فليس كما قال، وقيل : كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك.