ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ قُرَيْشٍقَوْلُهُ تَعَالَى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
اخْتُلِفَ فِي اللَّامِ فِي «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ»، هَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَى أَيِّ مَعْنًى. أَمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا، وَعَلَى أَيِّ مَعْنًى.
فَمَنْ قَالَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، قَالَ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَعَلَ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [١٠٥ ٥].
وَتَكُونُ بِمَعْنَى لِأَجْلِ إِيلَافِ قُرَيْشٍ يَدُومُ لَهُمْ وَيَبْقَى تَعْظِيمُ الْعَرَبِ إِيَّاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، أَوْ بِمَعْنَى إِلَى أَيْ جَعَلْنَا الْعَدُوَّ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، هَزِيمَةً لَهُ وَنُصْرَةً لِقُرَيْشٍ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ، إِلَى نِعْمَةِ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
وَمَنْ قَالَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا، قَالَ «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ» الَّذِي أَلِفُوهُ أَيْ بِمَثَابَةِ التَّقْرِيرِ لَهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ، «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ». أَيْ أَثْبَتَهُ إِلَيْهِمْ وَحَفِظَهُ لَهُمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَدَ جَوَازَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فَصْلُ السُّورَتَيْنِ عَنْ بَعْضٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلتَّعَجُّبِ، أَيِ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِغَيْرِهِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقِرَاءَةِ السُّورَتَيْنِ مَعًا فِي الصَّلَاةِ فِي رَكْعَةٍ قَرَأَ بِهِمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَبِأَنَّ السُّورَتَيْنِ فِي أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُتَّصِلَتَانِ، وَلَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ أَحَدَهُمَا، وَلَا يَبْعُدِ اعْتِبَارُ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
أَلَّا تَرَى إِلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَفِيهَا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [١ ٦]، فَجَاءَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [٢ ٢]، وَبَعْدَهَا ذَكَرَ أَوْصَافَهُمْ وَقَالَ: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [٢ ٥]، فَأَيُّ ارْتِبَاطٍ أَقْوَى مِنْ هَذَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: الْهُدَى الَّذِي تَطْلُبُونَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَهُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنْ أَرَادَ اتِّصَالًا حَسًا بِعَدَمِ الْبَسْمَلَةِ، فَنَظِيرُهَا سُورَةُ بَرَاءَةٌ مَعَ الْأَنْفَالِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَهُمَا، اللَّهُمَّ إِلَّا مُصْحَفَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجْهٌ أَرْجَحَ مِنْ وَجْهٍ.
وَلِذَا لَمْ يُرَجِّحْ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، سِوَى ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَصِحَّةُ الْوَجْهَيْنِ أَقْوَى وَأَعَمُّ فِي الِامْتِنَانِ وَتَعْدَادِ النِّعَمِ.
وَالْإِيلَافُ: قِيلَ مِنَ التَّأْلِيفِ، إِذْ كَانُوا فِي رِحْلَتَيْهِمْ يَأْلَفُونَ الْمُلُوكَ فِي الشَّامِ وَالْيَمَنِ، أَوْ كَانُوا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُؤَلَّفِينَ وَمُجَمَّعِينَ، وَهُوَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا التَّجَمُّعِ وَالتَّأَلُّفِ، وَلَوْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ لَفَرَّقَهُمْ وَشَتَّتَهُمْ، وَأَنْشَدُوا:
أَبُونَا قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا | بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْر |
فَلِلْإِبْقَاءِ لَهُمْ عَلَى مَا أَلِفُوهُ.
وَقُرَيْشٌ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: عَلَمٌ عَلَى الْقَبِيلَةِ.
وَقِيلَ: أَصْلُهَا مِنَ النَّقْرَشِ، وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ أَوِ التَّكَسُّبُ وَالْجَمْعُ.
وَقِيلَ: مِنْ دَابَّةِ الْبَحْرِ الْمُسَمَّاةِ بِالْقِرْشِ وَهِيَ أَخْطَرُ حَيَوَانَاتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَابِهِ لِمُعَاوِيَةَ.
وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ | ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَاُُ |
تَأْكُلُ الرَّثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا | تَتْرُكُ فِيهَا لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشًا |
هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ | يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا |
وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ | يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ.
الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ: الْبَيْتُ الْحَرَامُ، كَمَا جَاءَ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
بِمَثَابَةِ التَّعْلِيلِ لِمُوجِبِ أَمْرِهِمْ بِالْعِبَادَةِ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي هَيَّأَ لَهُمْ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا سَبَبًا فِي تِلْكَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ وَاجِبِهِمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [٢٩ ٦٧] وَسَاقَ النُّصُوصَ بِهَذَا الْمَعْنَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
تَنْبِيهٌ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، رُبِطَ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَمُوجِبِهَا، كَالرَّبْطِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ.
فَفِيهِ بَيَانٌ لِمُوجِبِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَحَقِّهِ فِي ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ خَاصًّا بِقُرَيْشٍ.
وَهَذَا الْحَقُّ قَرَّرَهُ أَوَّلُ لَفْظٍ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ نِدَاءٍ فِي الْمُصْحَفِ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١ ٢]، كَأَنَّهُ يَقُولُ هُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ، لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَيْ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَرَاحِمُهُمْ إِلَى آخِرِهِ. ُُ
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُوجِبَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [٢ ٢١].
ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢].
فَهَذِهِ النِّعَمُ تُعَادِلُ الْإِطْعَامَ مِنْ جُوعٍ، وَالْأَمْنَ مِنْ خَوْفٍ، فِي حَقِّ قُرَيْشٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [١٠٨ ١ - ٢].
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشُّكْرَ يَزِيدُ النِّعَمَ وَالْكُفْرَ يُذْهِبُهَا، إِلَّا مَا كَانَ اسْتِدْرَاجًا، فَقَالَ فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [١٤ ٧].
وَقَالَ فِي الْكُفْرَانِ وَعَوَاقِبِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [١٦ ١١٢].
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، أَنْ يُقَابِلُوا نِعَمَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ، وَأَنْ يَشْكُرُوهَا بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَأَنْ يَحْذَرُوا كُفْرَانَ النِّعَمِ.
تَنْبِيهٌ آخَرُ
فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إِطْعَامِهِمْ مِنْ جُوعٍ وَأَمْنِهِمْ مِنْ خَوْفٍ، نِعْمَةٌ عُظْمَى لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْعَمُ وَلَا يَسْعَدُ إِلَّا بِتَحْصِيلِ النِّعْمَتَيْنِ هَاتَيْنِ مَعًا، إِذْ لَا عَيْشَ مَعَ الْجُوعِ، وَلَا أَمْنَ مَعَ الْخَوْفِ، وَتَكْمُلُ النِّعْمَةُ بِاجْتِمَاعِهِمَا.
وَلِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ: «مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَقَدِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا».
تَنْبِيهٌ آخَرُ
إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَجَابَةٌ ; لِأَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا لِأَهْلِ الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ [١٤ ٣٧].
سورة قريش
سورة (قُرَيش) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (التِّين)، وقد افتُتحت بتذكير قُرَيش بنِعَمِ الله عليهم؛ من التجارة، وجلبِ الخير لهم عن طريق رحلتَيِ الشِّتاء والصيف، وأن الله أطعَمهم بعد جوع، وأمَّنهم بعد خوف، ولَمَّ شملهم، وفي ذلك طلبٌ منهم أن يُوحِّدوا اللهَ ويُفرِدوه بالعبادة؛ لأنه - وحده - المستحِقُّ لذلك، لا أصنامُهم التي صنعوها بأيديهم.
ترتيبها المصحفي
106نوعها
مكيةألفاظها
17ترتيب نزولها
29العد المدني الأول
5العد المدني الأخير
5العد البصري
4العد الكوفي
4العد الشامي
4* سورة (قُرَيش):
سُمِّيت سورة (قُرَيش) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (قُرَيش) في مطلعها؛ قال تعالى: {لِإِيلَٰفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
نِعَمُ الله على قُرَيش، ودعوتُه لعبادته (١-٤).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /369).
أمرُ قُرَيشِ بتوحيد الله عزَّ وجلَّ وحده بعدما أنعَمَ عليهم بنِعَمٍ كثيرة، وأطعمهم بعد جوعٍ، وآمَنهم بعد خوفٍ .
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /554).