المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى عناد الكافرين من أهل مكة، وتكذيبهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واتهامهم له بافتراء القرآن، ذكر هنا قصة نوح مع قومه الكافرين لتكون كالعظة والعبرة لمن كذّب وعاند، ولتسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسرد قصص المرسلين وما جرى لهم مع أقوامهم.
اللغَة:
﴿الملأ﴾ أشراف القوم وسادتهم
﴿أَرَاذِلُنَا﴾ الأراذل هنا: المراد بهم الفقراء والضعفاء والسَّفَلة، وهو جمع أَرْذَل بمعنى السافل الذي لا خَلاَق له ولا يبالي بما يفعل
﴿فَعُمِّيَتْ﴾ عمي عن كذا، وعمي عليه كذا، بمعنى التبس عليه ولم يفهمه، وخفي عليه أمره
﴿جَادَلْتَنَا﴾ الجدل في كلام العرب: المبالغة في الخصومة
﴿تزدري﴾ تحتقر
﴿صْنَعِ الفلك﴾ السفينة ويطلق على المفرد والجمع
﴿التنور﴾ مستوقد النار
﴿مُرْسَاهَا﴾ رسا الشيء يرسو ثبت واستقر
﴿عَاصِمَ﴾ مانع يقال: / عصمه إذا منعه ومنه الحديث
«فقد عصموا مني دماءهم» ﴿غِيضَ﴾ غاض الماء نقص بنفسه وغضتُه أنقصته
﴿الجودي﴾ جبلٌ بقرب المَوْصل.
التفسِير:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ أي أرسلناه رسولاً إلى قومه بعد أن امتلأت الأرض بشركهم وشرورهم
﴿إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي بأني منذرٌ لكم ومخوّف من عذاب الله إن لم تؤمنوا
﴿أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾ أي أرسلناه بدعوة التوحيد وهي عبادة الله وحده
﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ أي إني أخاف عليكم إن عبدتم غيره عذاب يوم شديد مؤملم {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن
10
قِوْمِهِ} أي قال السادة والكبراء من قوم نوح
﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا﴾ أي ما نراك إلا واحداً مثلنا ولا فضل لك علينا قال الزمخشري: وفيه تعريضٌ بأنهم أحقُّ منه بالنبوة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحدٍ من البشر لجعلها فيهم
﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ أي وما اتبعك إلا سفلةُ الناس قال في التسهيل: وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلاً منهم واعتقاداً بأن الشرف هو بالمال والجاه، وليس الأمر كذلك، بل المؤمنون أشرف منهم على فقرهم وخمولهم
﴿بَادِيَ الرأي﴾ أي في ظاهر الرأي من غير تفكر أو رويّة
﴿وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ أي وما نرى لك ولأتباعك من مزية وشرف علينا يؤهلكم للنبوة، واستحقاق المتابعة
﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أي بل نظنكم كاذبين فيما تدعونه، أرادوا أن يحجوا نوحاً من وجهين: أحدهما: أن المتبعين له أراذل القوم ليسوا قدوة ولا أسوة، والثاني: أنهم مع ذلك لم يتَروَّوا في اتّباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا رويّة، وغرضُهم ألا تقوم الحجة عليهم بأن منهم من آمن به وصدّقه
﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي﴾ تلطف معهم في الخجطاب لاستمالتهم إلى الإِيمان أي قال لهم نوح: أخبروني يا قوم إن كنتُ على برهان وأمرِ جليٍّ من ربي بصحة دعوايَ
﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾ أي ورزقني هداية خاصة من عنده وهي النبوة
﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أي فخفي الأمر عليكم لاحتجابكم بالمادة عن نور الإِيمان
﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ أي أنكرهكم على قبولها ونجبركم على الإِهتداء بها والحال أنكم كارهون منكرون لها؟ والاستفهام للإِنكار أي لا نفعل ذلك لأنه لا إكراه في الدين
﴿وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً﴾ أي لا أسألكم على تبليغ الدعوة أجراً، ولا أطلب على النصيحة مالاً حتى تتهموني
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ أي ما أطلب ثوابي إلا من الله فإنه هو الذي يثيبني ويجازيني
﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا﴾ أي ولست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عن مجلسي، ولا بطاردهم عني كما طلبتم
﴿إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ﴾ أي إنهم صائرون إلى ربهم، وفائزون بقربه فكيف أطردهم؟
﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ أي ولكنكم قوم تجهلون قدرهم فتطلبون طردهم، وتظنون أنكم خير منهم
﴿وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ﴾ أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم وطردتهم؟
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي أفلا تتفكرون فتعلمون خطأ رأيكم وتنزجرون عنه؟
﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ أي لا أقول لكم عندي المال الوافر الكثير حتى تتبعوني لغناي
﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب حتى تظنوا بي الربوبية
﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ أي ولا أقول لكم إني من الملائكة أُرسلت أليكم فأكون كاذباً في دعواي
﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً﴾ أي ولا أقول لهؤلاء الضعفاء الذين آمنوا بي واحتقرتموهم لفقرهم لن يمنحهم الله الهداية والتوفيق [الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي أعلم بسرائرهم وضمائرهم
﴿إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين﴾ أي إني إن قلت ذلك أكون ظالماً مستحقاً للعقاب
﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ أي قال قوم نوح لنوحٍ عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرهم خصومتنا
﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي فائتنا بالعذاب الذي كنت تعدنا به إن كنت صادقاً في ما تقول {قَالَ إِنَّمَا
11
يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ} أي أمر تعجيل العذاب إليه تعالى لا إليَّ فهو الذي يأتيكم به إن شاء
﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي ولستم بفائتين الله هرباً لأنكم في ملكه وسلطانه
﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ﴾ أي ولا ينفعكم تذكيري إِياكم ونصحي لكم
﴿إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ أي إن أراد الله إضلالكم وهو جواب لما تقدم والمعنى ماذا ينفع نصحي لكم إن أراد الله شقاوتكم وإضلالكم؟
﴿هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي هو خالقكم والمتصرف في شئونكم، وإليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم على أعمالكم
﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ أي أيقول كفار قريش اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه
﴿قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ أي قل لهم يا محمد إن كنت قد افتريت هذا القرآن فعليَّ وزري وذنبي، ولا تؤاخذون أنتم بجريرتي
﴿وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾ أي وأنا بريءٌ من إجرامكم بكفركم وتكذيبكم، والآية اعتراضٌ بين قصة نوح للإِشارة إلى أن موقف مشركي مكة كموقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب
﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ أي أوحى الله إلى نوحٍ أنه لن يتبعك ويصدِّق برسالتك إلا من قد آمن من قبل
﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ أي فلا تحزن بسبب كفرهم وتكذيبهم لك فإني مهلكهم
﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ أي اصنع السفينة تحت نظرنا وبحفظنا ورعايتنا
﴿وَوَحْيِنَا﴾ أي وتعليمنا لك قال مجاهد: أي كما نأمرك
﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا﴾ أي لا تشفع فيهم فإني مهلكهم لا محالة
﴿إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ أي هالكون غرقاً بالطوفان
﴿وَيَصْنَعُ الفلك﴾ حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضارها في الذهن أي صنع نوحٌ السفينة كما علّمه ربُّه
﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ﴾ أي كلما مرَّ عليه جماعة من كبراء قومه هزءوا منه وضحكوا وقالوا: يا نوحُ كنتَ بالأمس نبياً، وأصبحتَ اليوم نجاراً!!
﴿قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا﴾ أي إن تهزءوا منا اليوم
﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ أي فإنّا سنسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون مثل سخريتكم منا الآن، فأنتم أولى بالسخرية والاستهزاء
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وعيدٌ وتهديد أي سوف تعلمون عاقبة التكذيب والاستهزاء
﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي عذابٌ يُذلُّه ويهينه وهو الغرق
﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أي وينزل عليه عذاب دائم لا ينقطع وهو عذاب جهنم
﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي جاء أمرنا الموعود بالطوفان
﴿وَفَارَ التنور﴾ أي فار الماء من التنور الذي يوقد به النار قال العلماء: جعل الله ذلك علامة لنوح وموعداً لهلاك قومه، وقال ابن عباس: التنور وجهُ الأرض قال الطبري: والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، قيل له: إذا رأيتَ الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك في السفينة وقال ابن كثير: التنور وجه الأرض أي صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءً، وهذا قول
12
جمهور السلف والخلف
﴿قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ أي احمل في السفينة من كل صنفٍ من المخلوقات اثنين: ذكراً، وأنثى
﴿وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ أي واحمل قرابتك أيضاً أولادك ونساءك إلا من حكم الله بهلاكه، والمراد به ابنهُ الكافر
«كنعان» وامرأته
«واعلة» ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ أي واحمل معك من آمن من أتباعك
﴿وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ أي وما آمن بنوح إلا نزرٌ يسير مع طول إقامته بينهم وهي مدة تسعمائة وخمسين سنة، قال ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب: كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقيل: كانوا عشرة
﴿وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا﴾ أي وقال نوح لمن آمن به اركبوا في السفينة، باسم الله يكون جريُها على وجه الماء، وباسم الله يكون رسوُّها واستقرارها قال الطبري: المعنى بسم الله حين تجري وحين تُرسي، أي حين تسير وحين تقف
﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ساتر لذنوب التائبين، رحيمٌ بالمؤمنين حيث نجاهم من الغرق
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال﴾ أي والسفينة تسير بهم وسط الأمواج، التي هي كالجبل في العِظَم والارتفاع، بإذن الله وعنايته ولطفه قال الصاوي: رُوي أن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة، وخرج الماء من الأرض ينابيع كما قال تعالى
﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١١ - ١٢] وارتفع الماء على أعلى جبل أربعين ذراعاً حتى أغرق كل شيء
﴿ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ أي ونادى نوحٌ ولده
«كنعان» قبيل سير السفينة وكان في ناحيةٍ منها لم يركب مع المؤمنين
﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ أي اركب معنا ولا تهلكْ نفسك بالغرق
﴿وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾ أي فتغرق كما يغرقون
﴿قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء﴾ أي سأصعد إلى رأس جبل أتحصن به من الغرق، ظناً منه أن الماء لا يصل إلى رءوس الجبال
﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ أي قال له أبوه نوح: لا معصوم اليوم من عذاب الله ولا ناجي من عقابه إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾ أي حال بين نوحٍ وولده موجُ البحر فغرق
﴿وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ﴾ أي انشقي وابتعلي ما على وجهك من الماء
﴿وياسمآء أَقْلِعِي﴾ أي أمسكي عن المطر
﴿وَغِيضَ المآء﴾ أي ذهب في أغوار الأرض قال مجاهد: نقص الماء
﴿وَقُضِيَ الأمر﴾ أي تمَّ أمر الله بإغراق من غرق، ونجاة من نجا
﴿واستوت عَلَى الجودي﴾ أي استقرت السفينة على جبل الجودي بقرب الموصل
﴿وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ أي هلاكاً وخساراً لمن كفر بالله وهي جملة دعائية قال الألوسي: ولا يخفى ما في الآية من الدلالة على عموم هلاك الكفرة، بل على عموم هلاك أهل الأرض ما عدا أهل السفينة، ويدل عليه ما رُوي أن الغرقَ أصاب امرأة معها صبيٌّ لها فوضعته على صدرها، فلما بلغها الماء وضعته على منكبها، فلما بلغها الماء رفعته بيديها، فلو رحم الله أحداً من أهل الأرض لرحمها
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾ أي نادى نوح ربَّه متضرعاً إليه فقال: ربِّ إن ابني
«كنعان» من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم
﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق﴾ أي وعدك حقٌ لا خُلْف فيه
﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾ أي وأنت يا ألله أعدل الحاكيم بالحق {قَالَ
13
يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي قال له ربه: يا نوحُ إنَّ ولدك هذا ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر ولا ولاية بين المؤمن والكافر
﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ إي إنَّ عمله سيءٌ غير صالح
﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم أصوابٌ هو أم غير صواب؟
﴿إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ أي إني أنبهك وأنصحك خشية أن تكون من الجاهلين قال في التسهيل: وليس في ذلك وصفٌ له بالجهل، بل فيه ملاطفةٌ وإكرام
﴿قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ أي قال نوح معتذراً إلى ربه عمّا صدر عنه: ربّ إني أستجير بك من أن أسألك أمراً لا يليق بي سؤاله
﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين﴾ أي وإلا تغفر لي زلتي، وتتداركني برحمتك، أكنْ ممن خسر آخرته وسعادته
﴿قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا﴾ أي اهبط من السفينة بسلامة وأمن
﴿وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ أي وخيرات عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة، قال القرطبي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة
﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ أي وأمم أخرى من ذرية من معك نمتعهم متاع الحياة الدنيا وهم الكفرة المجرمون
﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ثم نذيقهم في الآخرة العذاب الأليم وهو عذاب جهنم
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ أي هذه القصة وأشباهها من أخبار الغيوب السالفة التي لم تشهدها
﴿نُوحِيهَآ إِلَيْكَ﴾ أي نعلمك بها يا محمد بواسطة الوحي
﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا﴾ أي لم يكن عندك ولا عند أحدٍ من قومك علمٌ بها من قبل هذا القرآن
﴿فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي فاصبر على أمر الله بتبليغ الدعوة كما صبر نوح، فإن العاقبة المحمودة لمن اتقى الله، وفيه تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أذى المشركين.
البَلاَغَة: ١ -
﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ شبّه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه، بمن سلك مفازةً لا يعرف طرقها ومسالكها، واتبع دليلاً أعمى فيها على سبيل الاستعارة التمثيلية.
٢ - ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ الاستفهام للإنكار والتقريع.
٣ - ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ الأمر يراد به التهكم والاستهزاء.
٤ - ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ مجاز بالحذف أي عقوبة إجرامي وجاء ب
﴿إِنِ﴾ الدالة على الشك لبيان أنه على سبيل الفرض
﴿إِنِ افتريته﴾ بخلاف إجرامهم فإنه محقّق
﴿وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾.
٥ - ﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ الأعين كناية عن الرعاية والحفظ يقال للمسافر
«صحبتك عين الله» أي رعاية الله وحفظه.
٦ - ﴿ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي﴾ بين الأرض والسماء طباقٌ، وبين ابلعي وأقعلي جناسٌ ناقص، وكلاهما من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: قال ابن عباس في قوله تعالى
﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن
14
مؤمناً، وما بغت امرأة نبيٍّ قط ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
أقول: نبهت الآية على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، فمن لا صلاح له لا نجاة له، ومدار الأهلية القرابة الدينية، لا القرابة البدنية.
أبي الإِسلام لا أبَ لي سواه | إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم |
لطيفَة: روي أن أعرابياً سمع هذه الآية ﴿وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي... ﴾ الآية فقال: هذ كلام القادرين لا يشبه كلام المخلوقين، ويروى أن «ابن المقفع» - وكان أفصح أهل زمانه - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاماً، وجعله مفصلاً، وسمّاه سوراً، فمرَّ يوماً بصبي فسمعه يقرأ الآية فرجع إلى بيته ومحا ما كان قد بدأ به، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارض أبداً، وما هو من كلام البشر.
تنبيه: هذه الآية بلغت من أسرار الإِعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها، وجمعت من المحاسن اللفظية والمعنوية ما يضيق عنه نطاق البيان، وقد اهتم بإظهار لطائفها وأسرارها العلاّمة أبو حيان حيث قال رَحِمَهُ اللَّهُ وطيَّب ثراه: في هذه الآية أحد وعشرون نوعاً من البديع: المناسبةُ في قوله
﴿أَقْلِعِي﴾ و
﴿ابلعي﴾ والمطابقةُ بذكر الأرض والسماء، والمجازُ في
﴿ياسمآء﴾ المراد مطر السماء، والاستعارةُ في
﴿أَقْلِعِي﴾ والإِشارة في
﴿وَغِيضَ المآء﴾ فإنها إشارة إلى معانٍ كثيرة، والتمثيلُ في
﴿وَقُضِيَ الأمر﴾ عبّر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإِرداف في
﴿واستوت عَلَى الجودي﴾ فلفظ واستوت كلام تامٌ أردفه بلفظ
﴿عَلَى الجودي﴾ قصداً للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليلُ في
﴿وَغِيضَ المآء﴾ فإنه علة للاستواء، والاحتراسُ في
﴿بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ وهو أيضاً ذم لهم، والإِيجاز وهو ذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمَّة، وعدَّد بقية الوجوه وهي: الإِيضاحُ، والمساواة، وحسنُ النَّسق، وصحة التقسيم، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والتسهيم، والمقابلة، والتهذيب، والوصف.
«مقتطفات من تفسير سيد قطب في ظلال القرآن»
وننقل هنا فقراتٍ من تفسير شهيد الإسلام
«سيد قطب» عليه الرحمة والرضوان حيث قال ما نصه: «وعند هذا المقطع من قصة نوح يلتفت السياقُ لفتةً عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة التي تشبه أن تكون قصَّتهم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص
﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ﴾ فالافتراء إجرام وعليَّ تبعته، وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعدٌ أن أرتكبه، وهذا الاعتراضُ لا يخالف سياق القصة في القرآن لأنها إنما جاءت لتأدية غرض معيَّن، ثم يمضي السياقُ في قصة نوح يعرض مشهداً ثانياً، مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره
﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ أي برعايتنا وتعليمنا
﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ فقد
15
تقرر مصيرهم، وانتهى الإِنذار، وانتهى الجدل.
والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهدُ نوح يصنع الفلك
﴿وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ﴾ والتعبير بالمضارع هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدَّته، فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير، وقومه المتكبرون يمرون به فيسخرون، يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم إنه رسول ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً، والمشهد الرابع: مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة
﴿حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين..﴾ ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾ إن الهول هنا هولان: هولٌ في الطبيعة الصامتة، وهولٌ في النفس البشرية يلتقيان. وإننا بعد آلاف السنين لنمسك أنفسنا - ونحن نتابع السياق - والهولُ يأخذنا كأننا نشهد المشهد،
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال﴾ ونوحٌ الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾ وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب، وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن، وتهدأ العاصفة، ويخيّم السكون، ويقضى الأمر، ويوجه الخطاب إلى الأرض والسماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل، فتبلع الأرض وتكف السماء
﴿وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾.
16
المنَاسَبَة: هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله في هذه السورة الكريمة، وهي قصة هود مع قومه عاد، وقد ذكرها تعالى بالإسهاب، ولهذا سميت السورة
«سورة هود» ثم أعقبها بالحديث عن ثمود وهي القصة الثالثة في هذه السورة، ثم قصة إبراهيم وبشارة الملائكة له بإسحاق وهي القصة الرابعة.
اللغَة:
﴿مِّدْرَاراً﴾ كثيراً متتابعاً من درَّت السماء تدرُّ إذا سكبت المطر بسخاء، والمدرارُ: الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة
﴿إِلاَّ اعتراك﴾ أصابك
﴿نَاصِيَتِهَآ﴾ الناصيةُ: منبت الشعر في مقدم الرأس
﴿جَبَّارٍ﴾ الجبار: المتكبر
﴿عَنِيدٍ﴾ العنيد «الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيدة: العنيد والمعاند: المعارضُ بالخلاف
﴿استعمركم فِيهَا﴾ جعلكم عمَّارها وسكانها
﴿تَخْسِيرٍ﴾ تضليل وإبعاد عن الخير
﴿حَنِيذٍ﴾ مشوي يقال: حنذتُ الشاة أحنِذُها حنْذاً أي شويتها
﴿نَكِرَهُمْ﴾ أنكرهم يقال: نكره وأنكره واستنكره بمعنى واحد وهو أن يجده على غير ما عهده قال الشاعر:
وأنكرتْني وما كان النذي نكِرت | من الحوادث إلا الشيبَ والصَّلَعا |
فجمع الشاعر بين اللغتين
﴿أَوْجَسَ﴾ استشعر وأحسَّ
﴿بَعْلِي﴾ زوجي.
التفسِير:
﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد نبياً منهم اسمه هود
﴿قَالَ ياقوم اعبدوا الله﴾ أي اعبدوا الله وحده دون الآلهة والأوثان
﴿مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي ليس لكم معبودٌ غيره يستحق العبادة
﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ﴾ أي ما أنتم في عبادتكم غير الله إلا كاذبون عليه جل وعلا، لأنه لا إله سواه
﴿ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ أي لا أطلب منكم على النصح والبلاغ جزاءً ولا ثواباً
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني﴾ أي ما ثوابي وجزائي إلا على الله الذي خلقني {أَفَلاَ
17
تَعْقِلُونَ} أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون أن من يدعوكم إلى الخير دون إرادة جزاءٍ منكم هو لكم ناصح أمين؟ والاستفهام للإنكار والتقريع
﴿وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ﴾ أي استغفروه من الكفر والإشراك
﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ أي ارجعوا إليه بالطاعة والإِستقامة على دينه والتمسك بالإِيمان والتوحيد
﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾ أي يرسل عليكم المطر غزيراً متتابعاً، رُوي أن عاداً كان حُبس عنهم المطر ثلاث سنين حتى كادوا يهلكون، فأمرهم هودٌ بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بنزول الغيث والمطر، وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار، سببٌ للرحمة ونزول الأمطار
﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ﴾ أي ويزدكم عزاً وفخراً فوق عزكم وفخاركم قال مجاهد: شدة إلى شدتكم، فإنهم كانوا في غاية القوة والبطش حتى قالوا
﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: ١٥] ؟
﴿وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾ أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مصرّين على الإِجرام، وارتكاب الآثام
﴿قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ أي ما جئتنا بحجةٍ واضحة تدل على صدقك قال الآلوسي: وإنما قالوه لفرط عنادهم، أو لشدة عَمَاهم عن الحق
﴿وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾ أي لسنا بتاركين عبادة الأصنام من أجل قولك
﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي لسنا بمصدقين لنبوتك ورسالتك، والجملة تقنيطٌ من دخولهم في دينه، ثم نسبوه إلى الخبل والجنون فقالوا
﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾ أي ما نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاةً، غلاظ الأكباد، لا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وقد دلَّ قولهم الأخير على جهلٍ مفرط، وبلَهٍ متناهٍ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم
﴿قَالَ إني أُشْهِدُ الله﴾ أي قال هودٌ إني أُشهدُ الله على نفسي
﴿واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ﴾ أي وأشهدكم أيضاً أيها القوم أنني بريءٌ مما تشركون في عبادة الله من الأوثان والأصنام
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ أي فاحتالوا في هلاكي أنتم وآلهتكم ثم لا تمهلوني طرفة عين قال أبو السعود: وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه السلام كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير من عتاة عاد، الغلاظ الشداد، وقد حقّرهم وهيّجهم بانتقاص آلهتهم، وحثهم على التصدّي له فلم يقدروا على مباشرة شيء، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً وقال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يُواجه بهذا الكلام رجلٌ واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوسٍ واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ومثله قول نوح
﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١]
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ أي إني لجأت إلى الله وفوضت أمري إليه تعالى مالكي ومالككم
﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾ أي ما من نسمةٍ تدبُّ على وجه الأرض إلا هي في قبضته وتحت قهره، والأخذُ بالناصية تمثيلٌ للملك والقهر، والجملةُ تعليلٌ لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق
﴿إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي إن ربي عادل، يجازي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحداً شيئاً
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾ أي فإن تُعرضوا عن قبول
18
دعوتي فقد أبلغتكم أيها القوم رسالة ربي، وما على الرسول إلا البلاغ
﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ أي فسوف يهلككم الله ويستخلف قوماً آخرين غيركم، وهذا وعيدٌ شديد
﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً﴾ أي لا تضرون الله شيئاً بإشراككم
﴿إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ أي إنه سبحانه رقيبٌ على كل شيء، وهو يحفظني من شركم ومكركم
﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي ولما جاء أمرنا بالعذاب، وهو ما نزل بهم من الريح العقيم
﴿نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ أي نجينا من العذاب هوداً والمؤمنون بفضل عظيم ونعمة منا عليهم
﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أي وخلصانهم من ذلك العذاب الشديد، وهي الريح المدمرة التي كانت تهدم المساكن، وتدخل في أنوف أعداء الله وتخرج من أدبارهم، وتصرعهم على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية
﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ الإِشارة لآثارهم أي تلك آثار المكذبين من قوم عاد انظروا ماذا حلّ بهم حين كفروا بالله، وأنكروا آياته في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته؟
﴿وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ أي عصوا رسوله هوداً، وجمعه تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لكلمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد
﴿واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي أطاعوا أمر كل مستكبر على الله، حائدٍ عن الحق، لا يُذعن له ولا يقبله، يريد به الرؤساء والكبراء
﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً﴾ أي وأُلحقوا باللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا
﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ أي ويوم القيامة أيضاً تلحقهم اللعنة قال الرازي: جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة الإِبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير
﴿ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ﴾ هذ تشنيعٌ لكفرهم وتهويلٌ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي أبعدهم الله من الخير، وأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهي جملة دعائية بالهلاك واللعنة
﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ أي ولقد أرسلنا إلى قوم ثمود نبيا منهم وهو صالح عليه السلام
﴿قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي اعبدوا الله وحده ليس لكم ربٌّ معبود سواه
﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض﴾ أي هو تعالى ابتدأ خلقكم من الأرض، فخلق آدم من تراب ثم ذريته من نطفة
﴿واستعمركم فِيهَا﴾ أي جعلكم عمَّارها وسكانها تسكنون بها
﴿فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة
﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ أي إنه سبحانه قريب الرحمة مجيب الدعاء
﴿قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا﴾ أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً قبل تلك المقالة فلما قلتها انقطع رجاؤنا فيك
﴿أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ أي أتنهانا يا صالح عن عبادة الأوثان التي عبدها آباؤنا؟
﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ أي وإننا لشاكون في دعواك، وأمرُك مريب يوجب التهمة
﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي﴾ أي أخبروني إن كنتُ على برهانٍ وحجة واضحةٍ من ربي
﴿وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾ أي وأعطاني النبوة والرسالة
﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ أي فمن يمنعني من عذاب الله إن عصيت أمره؟
﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ أي فما تزيدونني بموافقتكم وعصيان
19
أمر الله غير تضليل وإبعاد عن الخير قال الزمخشري:
﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ يعني تخسرون أعمالي وتبطلونها
﴿وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾ أضاف الناقة إلى الله تشريفاً لها لأنها خرجت من صخرة صماء بقدرة الله حسب طلبهم أي هذه الناقة معجزتي لكم وعلامة على صدقي
﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ أي دعوها تأكل وتشرب في أرض الله فليس عليكم رزقها
﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ أي لا تنالوها بشيءٍ من السوء فيصيبكم عذاب عاجل لا يتأخر عنكم
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ﴾ أي ذبحوا الناقة فقال لهم صالح: استمتعوا بالعيش في بلدكم ثلاثة أيام ثم تهلكون قال القرطبي: إنما عقرها بعضهم وأضيف إلى الكل لأنه كان برضى الباقين، فعقرت يوم الأربعاء فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وآتاهم العذاب يوم الأحد
﴿ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ أي وعدٌ حق غير مكذوب فيه
﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ أي فلما أمرنا بإهلاكهم نجينا صالحاً ومن آمن به
﴿بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ أي بنعمةٍ وفضلٍ عظيم من الله
﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ أي ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذُلّة
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز﴾ أي القوي في بطشه، العزيز في ملكه، لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر
﴿وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي أخذتهم صيحةٌ من السماء تقطعت لها قلوبهم، فأصبحوا هامدين موتى لا حرَاك بهم كالطير إذا جثمت
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ أي كأن لم يقيموا في ديارهم ولم يَعْمُروها
﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾ أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن ثمود كفروا بآيات ربهم فسحقاً لهم وبُعْداً، وهلاكاً ولعنة
﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ هذه هي القصة الرابعة وهي قصة لوط وهلاك قومه المكذبين أي جاءت الملائكةُ الذين أرسلناهم لإِهلاك قوم لوط إبراهيمَ بالبشارة بإسحاق، قال القرطبي: لما أنزل الله الملائكة لعذاب قوم لوط مرّوا بإبراهيم فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قاله ابن عباس، وقال السدي: كانوا أحد عشر ملَكاً على صورة الغلمان الحسان الوجوه
﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ أي سلموا عليه سلاماً
﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ أي قال لهم إبراهيم: سلام عليكم قال المفسرون: ردَّ عليهم التحية بأحسن من تحيتهم لأنه جاء بها جملة اسميّة وهي تدل على الثبات والاستمرار
﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ أي فما أبطأ ولا تأخر مجيئه حتى جاء بعجلٍ مشويٍّ فقدمه لهم قال الزمخشري: والعجل: ولد البقرة ويسمى
«الحسيل» وكان مال إبراهيم عليه السلام البقر، والحنيذ: المشوي بالحجارة المحماة في أخدود وقيل: الذي يقطر دسمه ويدل عليه
«بعجلٍ سمين» ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾ أي فلما رآهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام ولا يأكلون منه أنكرهم
﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ أي أحسَّ منهم الخوف والفزع قال قتادة: كان العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه جاء يحدث نفسه بشرّ
﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ أي قالت الملائكة: لا تخف فإنا ملائكة ربك لا نأكل، وقد
20
أُرسلنا لإِهلاك قوم لوط
﴿وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾ أي وامرأة إبراهيم واسمها
«سارة» قائمة وراء الستر تسمع كلامهم فضحكت استبشاراً بهلاك قوم لوط
﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ أي بشرتها الملائكة بإِسحاق ولداً لها ويأتيه مولودٌ هو يعقوب ابناً لولدها
﴿قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ أي قالت سارة متعجبة: يا لهفي ويا عجيب أألد وأنا امرأة مسنّة وهذا زوجي إبراهيم شيخ هرم أيضاً فكيف يأتينا الولد؟
﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ أي إن هذا الأمر لشيء غريب لم تجر به العادة قال مجاهد: كانت يومئذٍ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة
﴿قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله﴾ أي أتعجبين من قدرة الله وحكمته في خلق الولد من زوجين هرمين؟ ليس هذا بمكان عجب على قدرة الله
﴿رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت﴾ أي رحمكم الله وبارك فيكم يا أهل بيت إِبراهيم
﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ إي إنه تعالى محمود ممجدّ في صفاته وذاته، مستحقٌ للحمد والتمجيد من عباده، وهو تعليل بديع لما سبق من البشارة.
البَلاَغَة: ١ -
﴿يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً﴾ المراد بالسماء المطر فهو مجاز مرسل لأن المطر ينزل من السماء ولفظ
«مدراراً» للمبالغة أي كثير الدر.
٢ - ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ أمرٌ بمعنى التعجيز.
٣ - ﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾ استعارة تمثيلية شبّه الخلق وهم في قبضة الله وملكه وتحت قهره وسلطانه بالمالك الذي يقود المقدور عليه بناصيته كما يقاد الأسير والفرس بناصيته.
٤ - ﴿إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ استعارة لطيفة عن كمال العدل في ملكه تعالى فهو مطلع على أمور العباد لا يفوته ظالمن ولا يضيع عنده معتصم به.
٥ - ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ الأمر كناية عن العذاب.
٦ - ﴿نَجَّيْنَا هُوداً... وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ التكرار في لفظ الإِنجاء لبيان أن الأمر شديد عظيم لا سهل يسير، ويسمى هذا الإطناب.
٧ - ﴿وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ أي عصوا رسولهم هوداً وفيه تفظيع لحالهم وبيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين، وهو مجاز مرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
٨ - ﴿ألا إِنَّ عَاداً... أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ﴾ تكرير حرف التنبيه وإعادة لفظ
«عاد» للمبالغة في تهويل حالهم.
تنبيه: لم يقل هود عليه السلام: إني أُشهد الله وأشهدكم وإِنما قال:
﴿إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ وذلك لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فأين شهادة الله العلي الكبير من شهادة العبد الحقير؟!
21
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة ضيوف إِبراهيم، وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإِهلاك قوم لوط، وبشروه بالبشارة السارة بولادة غلام له، وقد ذكرت الآيات مرورهم
22
على لوط وما حلَّ بقومه من النكال والدمار، وهي القصة الخامسة، ثم ذكرت قصة شعيب مع أهل مدين، وقصة موسى مع فرعون، وفي جميع هذه القصص عبرٌ وعظات.
اللغَة:
﴿الروع﴾ الخوف والفزع
﴿مُّنِيبٌ﴾ الإِنابة: الرجوع والتوبة
﴿عَصِيبٌ﴾ شديد في الشر قال الشاعر:
وإِنك إلاّ تُرض بكرَ بن وائلٍ | يكنْ لك يومٌ بالعراق عصيب |
﴿يُهْرَعُونَ﴾ يسرعون قال الفراء: الإِهراع الإِسراع مع رِعدة يقال أُهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب
﴿تُخْزُونِ﴾ أخزاه: أهانه وأذله قال حسان:
فأخزاكَ ربي يا عُتَيْبَ بن مالكٍ | ولقَّاك قبل الموتِ إِحدى الصَّواعق |
﴿سِجِّيلٍ﴾ السّجيل والسّجين: الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة، وقال الفراء: طينٌ طبخ حتى صار كالآجر
﴿مَّنْضُودٍ﴾ متتابع بعضه فوق بعض في النزول
﴿مُّسَوَّمَةً﴾ معلَّمة من السِما وهي العلامة
﴿شقاقي﴾ الشقاق: العداوة قال الشاعر:
ألاَ من مبلغٌ عني رسولاً | فكيف وجدتم طعم الشقاق |
﴿رَهْطُكَ﴾ رهط الرجل: عشيرته التي يتقوى بهم
﴿الورد﴾ المدخل
﴿الرفد﴾ العطاء والإِعانة.
التفِسير:
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾ أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة
﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ أي جاءته البشارة بالولد
﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون قال المفسرون: لما قالت الملائكة:
﴿إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية﴾ [العنكبوت: ٣١] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فقال لهم
﴿إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ [العنكبوت: ٣٢]
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه
﴿أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله
﴿ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ﴾ أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم
﴿إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ﴾ أي جاء أمر الله بإِهلاكهم
﴿وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع
﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ﴾ أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه
﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار
﴿وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ أي شديد في الشر
﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً
﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم
23
إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين قال القرطبي: وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم: إن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه
﴿قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية
﴿فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي
﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح؟
﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب.
وليس لنا رغبة فيهن
﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها
﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب
«لو» محذوف تقديره لبطشتُ بكم وفي الحديث
«رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد» يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده القوي قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار
﴿قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ﴾ أي قالت الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾ أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل
﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك﴾ أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نُهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها
﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ﴾ أي إنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك
﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح﴾ أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ
﴿أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ﴾ استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما قال تعالى
﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: ٣٧] ثم إن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط - وهي خمسٌ - من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى
﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ أي فلما
24
جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها
﴿مَّنْضُودٍ﴾ أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض
﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ﴾ أي معلَّمة بعلامة قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي: وقوله
﴿عِندَ رَبِّكَ﴾ دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض
﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾ أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك
«كفار قريش» فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف ب
«البحر الميت» لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم
«بحيرة لوط» والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً
﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال
«أخاهم» ﴿قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه
﴿وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾ أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن
﴿إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ أي إني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم
﴿وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة
﴿وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾ أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد
﴿بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم
﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر
﴿قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إن هذا لا يصدر عن عاقل
﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان.
قال الإمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله
﴿مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ﴾ إِشارة إِلى التوحيد،
﴿نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا﴾ إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم
﴿أصلاوتك تَأْمُرُكَ﴾ السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟
﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ أي
25
إنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري: يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام
﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهان من ربي وهو الهداية والنبوة
﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ أي أعطاني المال الحلال، فقد كان عليه السلام كثير المال قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقين من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك
﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي
﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت﴾ أي لا أُريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إِصلاحكم أمركم بقدر استطاعتي
﴿وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله﴾ أي ليس التوفيق إلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة
﴿وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي﴾ أي لا يكسبنكم عداوتي
﴿أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة وقال الحسن المعنى: لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار
﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون وتعتبرون!؟
﴿واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً
﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب
﴿قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾ أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به قال الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء)
﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً﴾ أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا
﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار
﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك
﴿قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله﴾ ؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه
﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ قال الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها
﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها
﴿وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ﴾ تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا
26
على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة
﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه
﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ أي وتعلمون من هو الكاذب
﴿وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم
﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم
﴿وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾ أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم
﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي موتى هامدين لا حراك بهم قال ابن كثير: وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك
﴿أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزات قاهرة، وبينات قاهرة، كالعصا واليد
﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي إلى فرعون وأشراف قومه
﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله
﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة﴾ أي يتقدم أمامهم إلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا
﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ أي أدخلهم نار جهنم
﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾ أي بئس المدخل المدخول هي.
﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً﴾ أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا
﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة
﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾ أي بئس العونُ الُمعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في الدارين.
البَلاَغَة: ١ -
﴿ذَهَبَ الرَّوْعُ.. وَجَآءَتْهُ﴾ بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ﴾ كناية عن العذاب الذي قضاه الله لهم.
٣ - ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ الاستفهام للتعجب والتوبيخ.
٤ - ﴿أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ قال الشريف الرضي: وهذه استعارة والمراد بها قومه وعشيرته جعلهم ركناً له لأن الإنسان يلجأ إِلى قبيلته، ويستند إلى أعوانه كما يستند إِلى ركن البناء الرصين، وجاء جواب
«لو» محذوفاً تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هاهنا أبلغ لأنه يوهم بعظيم الجزاء وغليظ النكال.
٥ - ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ بينهما طباقٌ.
27
٦ - ﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ فيه مجاز عقلي أسند الإِحاطة لليوم مع أن اليوم ليس بجسم باعتبار العذاب يكون فيه، فهو إِسنادٌ للزمان.
٧ - ﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾ فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر ولا يكترث به.
٨ - ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ فيه استعارة مكنية لأن الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستسقاء منه، فتشبّه النار بماءٍ يورد وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورد، وشبّه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إِلى الماء ليكسر العطش وقوله
﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾ تأكيد له لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار إلهابٌ للعطش وتقطيع للأكباد، نعوذ بالله من جهنم.
28
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى بعض قصص المرسلين، وما حلَّ بأممهم من النكال والدمار، ذكر هنا العبرة من سرد هذه القصص، وهي أن تكون شاهداً على تعجيل العقوبة للمكذبين والانتقام العاجل منهم وبرهاناً على تأييد الله ونصرته لأوليائه وأنبيائه، وقد ذكرت الآيات يوم القيامة وانقسام الناس فيه إِلى فريقين: سعداء، وأشقياء، وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالصبر على الأذى، والتوكل على الحي القيوم.
اللغَة:
﴿حَصِيدٌ﴾ مستأصل كالزرع المحصود
﴿تَتْبِيبٍ﴾ التباب: الهلاك والخسران قال لبيد:
فلقد بَلييتُ وكلُّ صاحب جِدَّةٍ | لبِلىً يعودُ وذاكُمُ التَّتْبيبُ |
﴿زَفِيرٌ﴾ الزفير: إِخراج النَّفَس من شدة الجري
﴿وَشَهِيقٌ﴾ الشهيقُ: ردُّ النَّفَس وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره من النَّفَس في حال الغمّ الشديد ويخرجه، والشهيقُ أن يخرج ذلك النَّفَس بشدة وقال بعض أهل اللغة: الزفير مثلُ أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره
﴿مَجْذُوذٍ﴾ مقطوع من جَّه يجذه إِذا قطعه
﴿تركنوا﴾ الركون: الميلُ إِلى الشيء والرضا به
﴿زُلَفاً﴾ الزُّلف: جمع زُلفة وهي الطائفة من أول الليل قال ثعلب: هي أول ساعات الليل، وأصلها من الزلفى وهي القربة
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة﴾ [الشعراء: ٩٠] قُرِّبت
﴿أُتْرِفُواْ﴾ التَّرف: البطر يقال فلان مترف أي أبطرته النعمة وسعة العيش
﴿مِرْيَةٍ﴾ شك وريب.
سَبَبُ النّزول: عن ابن مسعود أن رجلاً جاء إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إِني عالجتُ امرأةً في أقصى المدينة، وإِني أصبتُ منها من دون أن أمسَّها، وأنا هذا فاقض فيَّ ما شئتَ! فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يردَّ عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً، فانطلق الرجل ونزلت هذه الآية
﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ فأتبعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً فدعاه فتلاها عليه.
التفسِير:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ أي ذلك القصص من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم وتكذيبهم الرسل، نقصه عليك يا محمد ونخبرك عنه بطريق الوحي
﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ أي من هذه القرى ما هو عامر قد هلك أهلُه وبقي بنيانُه، ومنها ما هو خراب قد اندثر بأهله فلم يبق له أثر كالزرع المحصود
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ أي وما ظلمناهم بإِهلاكهم بغير ذنب، ولكنْ ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فاستحقوا عذاب الله ونقمته
﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي ما نفعتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله، ولا دفعت
29
عنهم شيئاً من عقاب الله وعذابه
﴿لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي حين جاء قضاء الله بعذابهم
﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ أي وما زادتهم تلك الآلهة غير تخسير وتدمير
﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي مثل ذلك الأخذ والإِهلاك الذي أخذ الله به أهل القرى الظالمين المكذبين، يأخذ تعالى بعذابه الفجرة الظلمة قال الألوسي: وفي الآية من إِنذار الظالم ما لا يخفى كما قال عليه السلام
«إن الله ليُملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ الأية
﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ أي إن عذابه موجع شديد، وهذا مبالغة في التهديد والوعيد
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة﴾ أي إن في هذه القصص والأخبار لعظة وعبرة لمن خاف عذاب الله وعقابه في الآخرة
﴿ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾ أي يجتمع فيه الخلائق للحساب والثواب والعقاب
﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ أي يشهده أهل السماء والأرض، والأولون والآخرون قال ابن عباس: يشهده البر والفاجر
﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ أي ما نؤخر ذلك اليوم - يوم القيامة - إِلا لزمنٍ معيَّن سبق به قضاء الله، لا يتقدم ولا يتأخر
﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي يوم يأتي ذلك اليوم الرهيب لا يتكلم أحدٌ إِلا بإِذن الله تعالى
﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ أي فمن أهل الموقف شقيٌّ، ومنهم سعيد كقوله
﴿فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير﴾ [الشورى: ٧]
﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ أي فأما الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة فإِنهم مستقرون في نار جهنم، لهم من شدة كربهم
﴿زَفِيرٌ﴾ وهو إخراج النَّفَس بشدة
﴿وَشَهِيقٌ﴾ وهو ردُّ النَّفَس بشدة، وقال بعض المفسرين: شبِّه صراخهم في جهنم بأصوات الحمير قال الطبري: في روايته عن قتادة: صوتُ الكافر في النار صوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق
﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾ أي ماكثين في جهنم أبداً على الدوام ما دامت السماوات والأرض قال الطبري: إِن العرب إِذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت: هذا دائمٌ دوام السماوات والأرض بمعنى أنه دائمٌ أبداً، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم قال ابن زيد: أحدهما أن تراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد، والثاني أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع
﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ الاستثناء في أهل التوحيد، لأن لفظة
﴿شَقُواْ﴾ تعم الكفار والمذنبين، فاستثنى الله من خلود أهل الشقاوة العصاة من المؤمنين، فإِنهم يطهرون في نار جهنم ثم يخرجون منها بشفاعة سيد المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدخلهم الله الجنة ويقال لهم:
﴿طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]
﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ أي يفعل ما يريد يرحمْ ويعذب كما يشاء ويختار، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه
﴿وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ هذا بيانٌ لحال الفريق الثاني
«أهل السعادة» اللهم اجعلنا منهم أي وأما السعداء الأبرار
30
فإِنهم مستقرون في الجنة، لا يُخْرجون منها أبداً، دائمون فيها دوام السماوات والأرض، أو ما دامت سماوات الجنة وأرض الجنة حسب مشيئته تعالى، وقد شاء تعالى لهم الخلود والدوام
﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ أي عطاءً غير مقطوع عنهم، بل هو ممتد إلى غير نهاية
﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء﴾ أي لا تكن في شكٍ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال بمعنى لا تشك في فساد دينهم
﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ﴾ أي هم متبعون لآبائهم تقليداً من غير حجة ولا برهان، وهذه تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدٌ له بالانتقام منهم، إِذ حالُهم حالُ من سبقهم من الضالين المكذبين، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم فسينزل بهم مثله
﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾ أي وسنعطيهم جزاءهم من العذاب كاملاً غير منقوص وقال ابن عباس: ما قُدِّر لهم من الخير والشر
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾ قال الطبري: يقول تعالى مسلياً نبيه في تكذيب مشركي قومه له: لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك، فلقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب، فكذَّب به بعضُهم، وصدَّق به بعضُهم، كما فعل قومك
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي ولولا حكم الله السابق بتأخير الحساب والجزاء إِلى يوم القيامة لقُضي بينهم في الدنيا فجوزي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، ولكن سبق القدر بتأخير الجزاء إِلى يوم الحساب
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ أي وإن الكفار قومك لفي شك من هذا القرآن مُريب لهم، إِذ لا يدرون أحقٌ هو أم باطل؟
﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي وإنَّ كلا من المؤمنين والكافرين لمَّا ينالوا جزاء أعمالهم وسيوفيهم ربُّك جزاءها في الآخرة
﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عليمٌ بأعمالهم جميعاً، صغيرها وكبيرها، وسيجازيهم عليها
﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾ أي استقم يا محمد على أمر الله واثبُت وداوم على الاستقامة كما أمركَ ربُّك
﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ أي ومن تاب من الشرك والكفر وآمن معك
﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾ أي لا تجاوزوا حدود الله بارتكاب المحارم
﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي إنه تعالى مطلّع على أعمالكم ويجازي عليها
﴿وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار﴾ أي لا تميلوا إلى الظلمة من الولاة وغيرهم من الفسقة الفجرة فتمسكم نار جهنم قال البيضاوي: الركونُ هو الميل اليسير أي لا تميلوا إِليهم أدنى ميل فتمسكم النار بركونكم إِليهم، وإِذا كان الركونُ اليسير إِلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك، فما ظنك بالركون إِلى الظالمين الموسومين بالظلم، والميل إِليهم كلَّ الميل؟!
﴿وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي ليس لكم من يمنعكم من عذابه ثم لا تجدون من ينصركم من ذلك البلاء قال القرطبي: والآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي فإن صحبتهم كفرٌ أو معصية إذ الصحبةُ لا تكون إِلا عن مودَّة، وأما صحبة الظالم على التقيَّة فمستثناةٌ من النهي بحال الاضطرار
﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار﴾ أي أقم الصلاة المكتوبة على تمامها وكمالها أول النهار وآخره، والمراد صلاة الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار {وَزُلَفاً مِّنَ
31
اليل} أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار، والمراد بهما المغرب والعشاء
﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ أي إن الأعمال الصالحة ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب الصغائر، لحديث
«الصلواتُ الخمسُ كفارةٌ لما بينهما ما اجتُنبت الكبائرُ» قال المفسرون: المراد بالحسنات الصلواتُ الخمسُ واستدلوا على ذلك بسبب النزول، وهذا قول الجمهور، والأظهر أن المراد بها العموم وهو اختيار ابن كثير حيث قال: المعنى إن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث
«ما من مسلم يُذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غُفر له» ﴿ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾ أي ذلك المذكور من الاستقامة والمحافظة على الصلاة، عظةٌ للمتعظين وإرشادٌ للمسترشدين
﴿واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي اصبر يا محمد على ما تلقى من المكاره ومن أذى المشركين، فإنَّ الله معك وهو لا يضيع ثواب المحسنين
﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض﴾ أي فهلاَّ كان من الأمم الماضية قبلكم أُولُو عقل وفضل، وجماعةٌ أخيارٌ ينهون الأشرار عن الإِفساد في الأرض
﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ استثناء منقطع أي لكنْ قليلاً منهم، نهَوْا عن الفساد فَنَجَوْا قال في البحر:
«لولا» في الآية للتحضيض صحبها معنى التأسف والتفجع مثل قوله
﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] والغرضُ التأسف على تلك الأمم التي لم تهتد كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره
﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ﴾ أي واتَّبع أولئك الظلمة شهواتهم، وما نُعّموا به من الاشتغال بالمال واللذات وآثروها على الآخرة
﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ أي وكانوا قوماً مصرِّين على الإِجرام
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ أي ما جرت عادة الله تعالى أن يهلك القرى ظلماً وأهلُها مصلحون في أعمالهم، لأنه تعالى منزّه عن الظلم، وإِنما يهلكهم بكفرهم ومعاصيهم
﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين مهتدين على ملة الإِسلام، ولكنَّه لم يفعل ذلك للحكمة
﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى، وملل متعددة ما بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، إلا ناساً هداهم الله من فضله وهم أهل الحق
﴿ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ اللام لامُ العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم ما بين شقي وسعيد قال الطبري: المعنى وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، فريق في الجنة، وفريقٌ في السعير
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ أي تمَّ أمر الله ونفذ قضاؤه بأن يملأ جهنم من الجنّ والإِنس من الكفرة الفجرة جميعاً قال الألوسي: والجملة متضمنة معنى القسم ولذا جيء باللام في
﴿لأَمْلأَنَّ﴾ وكأنه قال: واللهِ لأملأن جهنم من أتباع إِبليس من الإِنس والجن أجمعين
﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ أي كل هذه الأخبار التي قصصناها عليك يا محمد من أخبار الرسل السابقين، إِنما هي بقصد تثبيتك على أداء الرسالة، وتطمين قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة فتصبر كما صبروا
﴿وَجَآءَكَ فِي هذه الحق﴾ أي جاءك في هذه الأنباء التي قصها الله عليك النبأ اليقيني الصادق
﴿وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وجاءك في هذه الأخبار أيضاً ما فيه عظة وعبرة للمعتبرين، وخصَّ المؤمنين بالذكر
32
لانتفاعهم بمواعظ القرآن
﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾ أي اعملوا على طريقتكم ومنهجكم إِنا عاملون على طريقتنا ومنهجنا، وهو أمرٌ ومعناه التهديد والوعيد
﴿وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ تهديدٌ آخر أي انتظروا ما يحلُّ بنا إِنا منتظرون ما يحل بكم من عذاب الله
﴿وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ أي علمُ ما غاب وخفي فيهما، كلُّ ذلك بيده وبعلمه
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ﴾ أي إِليه يردُّ أمر كل شيء، فينتقم ممن عصى، ويثيب من أطاع وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديد للكفار بالانتقام منهم
﴿فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ أي اعبد ربَّك وحده، وفوّضْ إِليه أمرك، ولا تعتمدْ على أحدٍ سواه، فإنه كافي من توكُّل عليه
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ويجازي كلاً بعمله.
البَلاَغَة: ١ -
﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ شبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وشبَّه ما هلك مع أهله ولم يبق له أثر بالزرع المحصود بالمناجل على طريق الاستعارة المكنية.
٢ - ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ فيه طباق السلب.
٣ - ﴿إِذَا أَخَذَ القرى﴾ مجازٌ عن الأهل أي أخذ أهل القرى.
٤ - ﴿شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
٥ - ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ | وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ﴾ فيه لفٌ ونشر مرتب. |
٦ - ﴿فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر.
٧ - ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾ بينهما طباقٌ.
٨ - ﴿ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾ بينهما جناس الاشتقاق.
تنبيه: خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثابتٌ مقطوعٌ به بالنصوص العديدة، وأما الاستثناء بالمشيئة في هذه السورة فقد استعمل في أسلوب القرآن للدلالة على الثبوت والاستمرار، والنكتة في ذكره بيان أنَّ هذه الأمور إِنما كانت بمشيئته تعالى ولو شاء لغيَّرها، وليس شيء خارج عن مشيئته، فالإِيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والخلود والخروج كلها بمشيئته تعالى.
فَائِدَةَ: أشار الشهاب إِلى لطيفةٍ من البلاغة القرآنية، وهي أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِن كانت عامة في المعنى
﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ، وَأَقِمِ الصلاة، واصبر﴾ وفي المنهيات جمعت للأمة
﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ، وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ﴾ كذا في العناية.
33