ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥)﴾.المناسبة
قوله تعالى في سورة هود: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم إن أعرضوا، حاق بهم عذاب يوم كبير.. بين في هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ...﴾ سبب نزولها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: كان أناس يستحيون أن ينخلوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾ قيل: إنها حروف مقطعة من أوائل الأسماء، فمعناها: أنا الله الرحمن، وقيل: إنها اسم للسورة، وقيل (١): إنها حرف تنبيه، كألا، وتقرأ (٢) كأسمائها ساكنةً فيقال: ﴿ألف لام راء﴾ وقيل معناه: أنا الله أرى. والراجح الأسلم من الأقوال الجارية في أمثال هذه، تفويض علمها إلى الله تعالى. هذا
(٢) المراغي.
فإن قلت (٢): كيف عم الآيات هنا بالإحكام، وخص بعضها بالإحكام في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾؟
قلتُ: إن الأحكام الذي عم به هنا، غير الذي خص به هناك، فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد، كإحكام البناء، فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه. والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ أن بعض آياته منسوخة؛ نسخها بآيات منه أيضًا لم ينسخها غيره. وقيل: أحكمت آياته؛ أي: معظم آياته محكمة، وإن كان قد دخل النسخ على البعض، فأجري الكل على البعض؛ لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامه، تقول: أكلت طعام زيد، وإنما أكلت بعضه. والتراخي المستفاد من ﴿ثُمَّ﴾ إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم بحسب النزول؛ لأنها أحكمت أولًا حين نزلت جملة واحدة، ثم فصلت ثانيًا على حسب المصالح والوقائع، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم.
(٢) الخازن.
قلتُ: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن معناها التراخي في الأخبار، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل، انتهى. يعني: إن ثم جاءت لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع في الزمان، والمعنى: أخبرنا الله بأن القرآن محكم أحسن الأحكام، مفصل أحسن التفصيل. وقرأ (١) عكرمة والضحاك والجحدري وزيد بن علي وابن كثير في رواية: ﴿ثم فصلت﴾ بفتحتين خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب "اللوامح": يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية فصلت بين المحق والمبطل من الناس. قال الزمخشري وقرىء ﴿أحكمت آياته ثم فصلت﴾، على بناء الفعل للمتكلم المعلوم؛ أي: أحكمتها أنا ثم فصلتها.
وقوله: ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ لف ونشر مرتب؛ أي: كتاب أحكمت آياته من عند حكيم في جميع أفعاله، ثم فصلت من عند خبير بأحوال عباده وما يصلحهم، عالم بمواقع الأمور، والمعنى: أحكمها حكيم وفصلها خبير؛ أي: شرحها وبينها.
ومعنى الآية (٢): أي هذا كتاب عظيم الشأن، جليل القدر، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف، واضحة المعاني، لا تقبل شكًّا ولا تأويلًا ولا تبديلًا، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل، وجعلت فصولا متفرقة في سورة تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ، وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد، فكأنها العقد المفصل بالفرائد، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده، ويعطيهم ما فيه الخير لهم، خبير بعواقب ذلك ومصادره وموارده.
٢ - والأحسن (٣) في قوله: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ أن تكون أن تفسيرية لوجود ضابطها، وهو تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه، وهو قوله: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ ويصح أن تكون مصدرية بتقدير الجار؛ أي: هذا كتاب أحكمت آياته وفصلت بأن
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
٣ - وقوله: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ معطوف على ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ والكلام في ﴿أَن﴾ هذه كالكلام في التي قبلها. وقوله: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ معطوف على ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾ وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة، لكونه وسيلة إليها؛ أي: اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك، ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص: لأن الاستغفار هو طلب الغفر، وهو الستر، والتوبة: الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك، فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة. وقيل معناه: استغفروا لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل. وقيل: استغفروا في الصغائر ثم توبوا إليه في الكبائر. وقال الفراء: ثم هنا بمعنى الواو؛ لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد.
والمعنى (١): واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون غيره، مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان.
فإن فعلتم ذلك، واستغفرتم من كل ذنب، وتبتم من الإعراض عن هدايته، وتنكب سننه.. ﴿يُمَتِّعْكُمْ﴾ في دنياكم ﴿مَتَاعًا حَسَنًا﴾؛ أي: يطول نفعكم في الدنيا
وهذه (١) سنة مطردة في ذنوب الأمم، وهي فيها أظهر من ذنوب الأفراد، فالمشاهد أن الأمم التي تصر على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران، حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها.
ومعنى ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾؛ أي: يعشكم (٢) عيشًا مرضيًّا إلى وقت مقدر عند الله تعالى، وهو آخر أعماركم، فمن أخلص لله في القول والعمل.. عاش في أمنٍ من العذاب وراحةٍ مما يخشاه، ومن اشتغل بمحبة الله.. كان انقطاعه عن الخلق أكمل، وسروره أتم؛ لأنه أمن من زوال محبوبه، ومن كان مشتغلًا بحب غير الله.. كان أبدًا في ألم الخوف من فوات المحبوب. وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي وابن محيصن ﴿يمتعكم﴾ بالتخفيف من أمتع.
﴿وَيُؤْتِ﴾؛ أي: يعط في الدنيا والآخرة ﴿كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ في الإِسلام والطاعة ﴿فَضْلَهُ﴾؛ أي: ثواب فضله وجزاءه؛ أي: وإن (٣) تجتنبوا الشرك، وتؤمنوا بالله وتستغفروه.. يمتعكم متاعًا حسنًا، تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله، أما في الآخرة فهو مطرد دائمًا، وأما في الدنيا فقد يكون ناقصًا مشوبًا بأكدارٍ، ولا يكون مطردًا لقصر أعمار الأفراد.
فإن قلت (٤): قد ورد في الحديث، أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله، فكيف الجمع بين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
(٤) الخازن.
قلتُ: أما قوله - ﷺ -: "الدنيا سجن المؤمن" فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم، فإنه في سجن في الدنيا، حتى يفضي إلى ذلك المعد له، وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم، الذي لا ينقطع، فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة. وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات، فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات، فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشةٍ حسنة، لأنه راضٍ عن الله في جميع أحواله. ثم توعدهم سبحانه على مخالفة الأمر فقال: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: وإن تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة ﴿فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ بموجب الشفقة ﴿عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾؛ أي: شديد عذابه، وهو يوم القيامة، ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير يوم بدر.
والمعنى: وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه، من عبادة الله وحده، وعدم عبادة غيره فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم، وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو قريب منه بعد الرسول والمؤمنين. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو مجلز وأبو رجاء ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ بضم التاء واللام وفتح الواو مضارع ولّى. والقراءة الأولى مضارع تولّى. وفي كتاب "اللوامح": وقرأ اليماني وعيسى البصري: ﴿وإن تولوا﴾ بثلاث ضمات مبنيًّا للمفعول. وقرأ الأعرج: ﴿تولوا﴾ بضم التاء واللام وسكون الواو مضارع أولى.
٤ - ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم بالموت ثم البعث ثم الجزاء ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾، ومن جملة ذلك تعذيبكم على عدم الامتثال؛ أي (١): إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم
٥ - ثم أخبر (١) الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجح فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدرًا لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم، وأنه ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه: ﴿أَلاَ﴾؛ أي: انتبه يا محمَّد ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن هؤلاء الكفار الكارهين لدعوة التوحيد ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾؛ أي: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما هو دأب المنافقين ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾؛ أي: ليختفوا من الله سبحانه وتعالى فلا يطلع عليه رسوله ولا المؤمنين، أو ليستخفوا من رسول الله، - ﷺ -، ثم كرر كلمة التنبيه مبينًا للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال: ﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾؛ أي: انتبه يا محمَّد إنهم يستخفون منه في وقت استغشاء الثياب والتغطية بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمَّد.. فمن يعلم بنا. وقيل معنى: حين يستغشون: حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون ثيابهم. وقيل: إنه حقيقة، وذلك إن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله، - ﷺ -، ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، لئلا يسمع كلام رسول الله، - ﷺ -. والعامل في قوله: ﴿حِينَ يَسْتَغْشُونَ﴾ مقدر وهو يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفًا ليعلم؛ أي: ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح ذكره في "الفتوحات"؛ أي: تنبه (٢) يا محمَّد إن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء. عن ابن عباس إن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه، من منافقي مكة، وكان رجلًا حلو المنطق، حسن المنظر، يظهر لرسول الله، - ﷺ -، المحبة، ويضمر في قلبه العداوة.
(٢) المراح.
وجملة ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله تعالى يعلم ما يسرونه في قلوبهم، أو في ذات بينهم وما يظهرونه بأفواههم، فالظاهر والباطن عنده سواء، والسر والجهر سيان. وجملة ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ تعليل لما قبلها وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور. وقيل: هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإظهار والإسرار، فلا يخفى عليه شيء من ذلك. والأوضح كما مر، أن يكون الظرف متعلقًا بـ ﴿يَعْلَمُ﴾؛ أي (٢): إن ثني صدورهم وتنكيس رؤوسهم، ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم، لا يغني عنهم شيئًا، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلًا، حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم، ثم ما يلعنون نهارًا، إنه سبحانه وتعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صدوركم الشك في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿يَثْنوُنَ﴾ بفتح الياء وضم النون، من ثنى يثني من باب رمى. وقرأ سعيد بن جبير: ﴿يثنون﴾ بضم الياء، مضارع أثنى الرباعي ﴿صُدُورَهُم﴾ بالنصب ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه: عرضوها للإثناء، كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع. وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه، زيد ومحمد، وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن أبزى والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو الأسود الدؤلي وأبو رزين والضحاك؛
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط والعكبري.
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ اَلْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا | وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازعُ؟! |
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾.
﴿الر﴾: إن كان مسرودًا على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور.. فلا محل له، وإن كان اسمًا للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ، خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الآتي سورة الر، وعلة بنائه شبهه بالحرف شبهًا وضعيًّا و ﴿كِتَابٌ﴾ يكون على هذا الوجه خبرًا لمبتدأ محذوف،
﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾.
﴿أَن﴾: مصدرية. ﴿لَّا﴾ ناهية ﴿تَعْبُدُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَّا﴾ الناهية. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به منصوب، والجملة الفعلية في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فصلت آياته لترك عبادة غير الله تعالى، أو فصلت بترك عبادة غير الله، ويجوز أن تكون ﴿أَن﴾ تفسيرية؛ لأن في تفصيل الكتاب معنى القول، فكأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا، إلخ وهذا أظهر الأوجه الجارية فيها؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار ذكره في "الفتوحات" ﴿إِنَّنِي﴾ ﴿إنَّ﴾ حرف نصب والنون نون الوقاية؛ لأنها تقي حركة بناء الحرف والياء ضمير المتكلم اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بكل من ﴿نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور حال منهما؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿نَذِيرٌ﴾ خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿وَبَشِيرٌ﴾ معطوف عليه وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)﴾.
﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)﴾.
﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر المبتدأ والجملة في محل النصب حال من الجلالة، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الخبر.
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
﴿أَلَاَ﴾: حرف تنبيه ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، وجملة ﴿يَثْنُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿لِيَسْتَخْفُوا﴾ اللام: حرف جر وتعليل ﴿يستخفوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾ مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لاستخفائهم منه الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَثْنُونَ﴾. ﴿ألاَ﴾: حرف تنبيه كررت للتأكيد. ﴿حِينَ﴾ منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿يستخفوا﴾ أو متعلق بـ ﴿يَعْلَمُ﴾ الآتي، وهو أوضح كما مر ﴿يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حِينَ﴾ ﴿يَعْلَمُ مَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾ والجملة مستأنفة. ﴿يُسِرُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يعلم ما يسرونه. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾: معطوف على ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره ﴿بِذَاتِ﴾ ﴿الصُّدُور﴾ متعلق بعليم وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ ماض مبني للمجهول، من أحكم الرباعي يحكم إحكامًا، إذا أتقنه، وإحكام البناء كالقصر والحصن: إتقانه حتى لا يقع فيه خلل. ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ مبني للمجهول أيضًا، من فصّل المضعف، يفصل تفصيلًا، وتفصيل العقد بالفرائد: جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر، وفي "السمين" قوله: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ الهمزة فيه يجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف؛ أي: صار حكيمًا بمعنى: جعلت حكيمة كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ ويجوز أن يكون من قولهم: أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحكمة لمنعها من الجماح، فالمعنى: إنها منعت من الفساد، ويجوز أن تكون لغير النقل من الإحكام، وهو الإتقان، كالبناء المحكم المرصف والمعنى: إنها نظمت نظمًا رصيفًا متقنًا، اهـ.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ والظاهر أن ﴿تَوَلَّوْا﴾ مضارع حذف منه التاء أي: وإن تتولوا؛ لأنه من باب، تفعل الخماسي. ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾ مضارع، متع المضعف يمتع تمتيعًا إذا أنعم، والمتاع اسم مصدر لمتع، والمتاع كل ما ينتفع به في المعيشة، وحاجة البيوت ومواعينه، والإمتاع أصله: الإطالة ومنه: أمتع الله بك؛ أي: يعيشكم معيشة طيبة ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ والأجل المسمى: هو العمر المقدر ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ من آتى الرباعي يؤتي إئتاءً، إذا أعطى، فهو يتعدى إلى مفعولين. ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ والمرجع مصدر ميمي؛ من رجع فهو بمعنى الرجوع ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ ثنى الشيء: عطف بعضه على بعض، فطواه وإثناء الثوب إطواؤه، وثناه عنه: لواه وحوله؛ وثناه عليه: أطبقه وطواه، ليخفيه فيه، وثنى عنانه عنّي: تحول وأعرض، وأصل ﴿يَثْنُونَ﴾ يثنيون (٢)؛ لأنه من ثنى يثني ثنيًا من باب رمى يرمي رميًا، فالمصدر الثني نقلت ضمة الياء إلى النون قبلها، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فوزنه يفعون كيرمون؛ لأن الياء المحذوفة هي لام الكلمة. ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾ والاستخفاء محاولة الخفاء، والمعنى: أنهم يفعلون ثني الصدر لهذه العلة، اهـ "سمين". {حِينَ يَسْتَغْشُونَ
(٢) الفتوحات.
البلاغة
تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة:
منها: جناس الاشتقاق بين قوله: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ وقوله: ﴿حَكِيمٍ﴾.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾؛ لأن المعنى أحكمها وفصلها خبير، كما في "الشوكاني".
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾؛ لأن ثني الصدور كناية عن الإعراض.
ومنها: إضافة العذاب إلى اليوم الكبير للتهويل والتفظيع.
ومنها: الطباق بين ﴿مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
العَبْدُ ذُو ضجَرٍ والربُّ ذُو قدَرٍ | والدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ والعِلْمُ مَقْسُوم |
والخَيْرُ أجْمعُ فيما اخْتار خالِقُنَا | وفي اختيار سواه اللُّومُ والشُّوم |
فَلَيْتَكَ تَحْلُو والحياةُ مَرِيْرَةٌ | وَلَيْتَكَ تَرْضَى والأنامُ غِضَابُ |
ولَيْتَ الذي بَيْنِي وبَيْنَكَ عَامِرٌ | وبَيْني وبَيْنَ العَالَمِين خَرَابُ |
فَزادِي قَلِيلٌ ما أُراه مُبلِّغي | على الزادِ أبكي أم لِبُعْدِ مَسافَتي |
أتَيْتُ بأعمالٍ قِبَاحٍ رَدِيئَةٍ | وَمَا في الوَرى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايتي |
جَزَى اللَّة خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ | وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ |
وَأصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ | وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ |
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى | وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ |
وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ | مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ |
وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ | وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ |
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ | وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَرَا |
يَا مَنْ مَلَكُوْتُ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِهْ | طُوْبَى لمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْرًا لِغَدِهْ |
أُطْلُبُوْا الأرْزَاقَ مِنْ أَسْبَابِهَا | أُدْخُلُوْا الأَبْيَاتَ مِنْ أَبْوَابِهَا |
أَلاَ إِنَّمْا الْقُرْآنُ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ | سَأُنْبِيْكَهَا فِيْ بَيْتِ شِعْرٍ بَلا مَلَلْ |
حَلاَلٌ حَرَامٌ مُحْكمٌ مُتَشَابِهٌ | بَشِيْرٌ نَذِيْرٌ قِصَّةٌ عِظَةٌ مَثَلْ |
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...﴾ الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّه لمَّا سبَق (١) قوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾.. ذَكر هنا أنه لا
قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ...﴾ الآيات، مناسبتُها لِما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يَؤُول إليه الكفار من النار.. ذَكَرَ ما يَؤُول إليه المؤمنون من الجنة، والفريقان هنا: المؤمنُ والكافرُ، ولمَّا كان قدَّم ذِكرَ الكفار، وأَعْقبَ بذكر المؤمنينَ جاء التمثيلُ هنا مبتدأً بالكافر، فقال: ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾.
وعبارةُ المراغي هنا: مناسبتُها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّن فيما سبق أنَّ الناس فريقانِ: فريقٌ يريدُ الدنيا وزينتَها، وفريق على بَيِّنَةٍ من ربه.. أرْدفَ ذلك ببيانِ حالِ كلِّ من الفريقين في الدنيا، وما يكون عليه في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ...﴾ الآيات، مناسبتُها لِمَا قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَرَ (١) بَعثة النبيّ الكريم، وأثْبتَ بالبرهان أنه رسول من رب العالمين، وأنَّ القرآنَ وَحْيٌ من الرحمن الرحيم.. أرْدفَ ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبينَ لقومه: أنَّ محمدًا - ﷺ - ليس بدعًا من الرسل، وإنه إنما بُعِثَ بمثلِ ما بعث به مَن قبله من الدعوةِ إلى عبادة الله تعالى وحده، والإيمان بالبعث والجزاء، فحالُه معهم كحال مَنْ قبله من الرسل عليهم السلام، مع أقوامهم جملةً وتفصيلًا، كما قال: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قَبْلَها: أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَر مقالتَهم وطَعْنَهم في نوح عليه السلام بتلك الشُّبه السالفة.. قَفَّى على ذلك بدَحْضِ نوح عليه السلام لها، وردِّ شبهات أخرى، قد تكون صَدَرَتْ منهم، ولم يَحْكِها لعِلْمِها من الرد عليها، ورُبَّما لم
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا...﴾ الآيات، مناسبتها لِمَا قَبْلَها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ شُبهَاتِهم في رَفْضِ نبوة نوح عليه السلام، ورَد نوحٍ عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون.. ذَكَرَ هنا مقالتَهم التي تَدُلُّ على العجز والإفحام، وأنَّ الحِيَلَ قد ضَاقَتْ عليهم، فلم يَجِدُوا للردِّ سبيلًا في ذلك إيماءً إلى أنَّ الجدال في تقرير أدلة التوحيد، والنبوة والمعاد، وفي إزالة الشبهات عنها هيَ وظيفة الأنبياء، والتقليد، والجهلُ والإصرار على الباطل والإنكار والجحودُ هو دَيْدَنُ الكفار المعاندين.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - والاستفهام في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ للإنكار؛ أي: لا أحَدَ أشدُّ ظلمًا لنفسه ولغيره ممن افترى واخْتَلَق على الله كذبًا في أقواله، أو أفعاله، أو أحكامه، أو صفاته، أو في اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه، أو في زعم أنه اتخذ له ولدًا من الملائكة كالعرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، أو في تكذيب ما جاء به رُسُلُه من دينه، لصد الناس عن سلوك سبيله.
واللفظ (١) وإن كان لا يقتضي إلا نفيَ وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقامُ يفيدُ نَفْيَ المساوي لهم في الظلم، فالمعنى على هذا لا أحد مِثْلَهم في الظلم فَضْلًا عن أن يُوجَد من هو أظلم منهم، والإشارةُ بقوله ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ؛ أي: أولئك المُفتَرُونَ على الله الكذبَ ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة للمحاسبة عرضًا تظهرُ به فضيحَتُهم؛ أي: يساقون إلى الأماكن المعدَّة للحساب، والسؤال، أو المعنى تعْرَضُ أعمالُ هؤلاء، وأقوالُهم على ربهم لمحاسبتهم ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾ الذين يقومون للشهادة
أي: يقولُ الأشهادُ عند العَرْضِ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ المُعرِضُون أو المعروضة أعمالُهم هم ﴿الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ بما نسبوه إليه، ولم يصرِّحوا بما كَذَبوا به كأنهُ كان أمرًا معلومًا عند أهلِ ذلك الموقف، وقولُهُ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ هذا من تمام كلام الأشهاد، أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله، وطرده على الظالمين الذين ظَلَمُوا أنفُسَهم بالافتراء على الله، وغيرهم بالصدِّ عن سبيل الله، يفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة، باللعنة الدالَّة على خروجهم من مُحيط الرحمة؛ ويجوز أن يكونَ من كلام الله سبحانَه قَالَه بعد ما قال الأشهاد ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾.
وقد جاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)﴾.
وفي حديث ابن عُمر في "الصحيحين" وغيرهما، سمعت رسولَ الله - ﷺ - يقول: "إن الله يدنِي المؤمنَ حتى يضَعَ كَنَفَه عليه ويَسْترُهُ من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرَف ذَنْبَ كذا؟ فيقول: رَبّ أعْرِفُ، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هَلَكَ؟ قال: فإني سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثُمَّ يُعْطيَ كتابَ حسناته، وأما الكافرُ، والمنافق فيقول: ﴿الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ ".
١٩ - ثمَّ وصفَ هؤلاء الظالمينَ الذينَ لعنوا بأنهم هم ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾؛ أي: يمنعون مَن قَدَرُوا على مَنْعِه ويصرفونهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن دينه القيم وصراطه المستقيم، والدخول فيه ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾؛ أي: يصِفُونَها بالاعوجاج، والالتواءِ والميل عن الحق لينفروا منها أو يَبْغُون أَهلها أن يكونوا معَوَّجِينَ بالخروج عنها إلى الكفر ﴿و﴾ الحال أنَّ ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ لا يؤمنون ببعث، ولا جزاء؛ أي: يصفونها بالعِوَج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدقين،
٢٠ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات السابقة يعني المفترينَ على الله الصادينَ عن سبيل الله ﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ﴾ الله ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ما كانوا يعجزون اللَّهَ في الدنيا، إن أرادَ عقوبتهم؛ أي: إن هؤلاء الذين يصُدون عن سبيل اللَّهِ لم يكونوا بالذين يعجزون رَبهم، بهربهم منه في الأرض، إذا أراد عِقَابَهم بل هم في قبضته وملكه لا يمتنعون منه إذا أرادهم، ولا يفوتونه هربًا إذا طلبهم ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزالِ بأسِه بهم؛ أي: ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه، وَيحُولُون بَيْنَهم وبَيْنَه إذا هو عذَّبهم، وجملة قوله: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾ من أجل ضلالهم وإضلالهم، مستأنفة لبيان أنّ تأخير العذاب والتراخيَ عن تعجيله لهم، ليكون عذابًا مضاعفًا يعني الرؤساءَ الصَّادِّين عن سبيل الله، وذلك لإضلالهم أتباعَهم، واقتداء غيرهم بهم؛ أي: إنَّ عدمَ (١) نزول العذاب ليسَ لأجْلِ أنهم قَدَرُوا على منع الله من إنزال العذاب بالفرار وغيره، ولا لأجل أن لهم ناصرًا يمنع العذابَ عنهم، كما زعموا أنَّ الأصْنَامَ شفعاؤُهُم عند الله، بل لأنه تعالى أمهلَهم كي يتوبوا عن كفرهم، فإذا أبوا إلَّا الثباتَ عليه، فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة كما قال تعالى: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: يُزَاد عذابهم بسبب صدِّهم عن سبيل الله، وإنكارهم البعثَ بعد الموت، فيعذبون في الآخرة على ضلالهم في أنفسهم، وعلى إضلالهم غيرَهم، وهذا غيرُ خارج عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد، ويعقوب (٢): ﴿يُضعَّف﴾ بلا ألف مع تشديد العين. ثمَّ بين علّةَ هذه المضاعفة بقوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾؛ أي: ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاءً لدعوة الحق، لاسْتحواذ الباطل على أنفسِهم، ورَيْنِ الكفر، والظلم على قلوبهم، كما حَكى الله عنهم
(٢) الشوكاني.
وإجمال المعنى (١): أنهم لشدة انهماكهم في الكفر، واتباع الهوى والشهوات، صاروا يكرهون الحقَّ والهدى فيثقل عليهم سماع ما يبيِّنه من الآيات السَّمعية، وما يثبته من الآيات البصرية، فهم قد خَتَم الله على سمعهم، وعلى أبصارهم، فلا يسمعون الحقَّ سماعَ منتفع، ولاَ يبصرون حُجَجَ الله إبصارَ مهتد.
والخلاصة: أنهم أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له حَتّى كأنَّهم لا يقدرون على الاستماع، ولا يقدرون على الإبصار، لِفرط تَعَامِيهم عن الصواب والحق.
٢١ - ﴿أُولَئِكَ﴾ المتصفون بتلك الصفات هم ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بعبادة غير الله تعالى؛ أي: اشتَروا عبادةَ الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم، أعظم خسران ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: ذَهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم، ولم يبقَ بأيديهم إلا الخسران. والمعنى: أي: أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبَنُوا أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله بافترائهم عليه، واشتراء الضلالة بالهدى، وبطل كذبهُم بادعاء أنَّ له شركَاءَ وشفعاء، يُقربونهم إليه زلفى ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون الله غيرَ مسلكهم، إذ سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلهتهم عَدَمًا؛ لأنها كانت في الدنيا أحجارًا أو خشبًا أو نحاسًا، وذلك هو ضلالهم وبعدُهم عنهم.
٢٢ - والخلاصة: وبَطَل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله، وادعاؤهم أنَّ الملائكةَ والأصنامَ تشفع لهم، وكلمة لا في قوله ﴿لَا جَرَمَ﴾ زائدة كما في "الإتقان"، وجَرَم فعل ماض بمعنى: حق، وثَبَتَ، وجملةُ قوله ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لجرم؛ أي: حقَّ وثبَتَ كونهم في الآخرة أشدَّ الناس خسرانًا إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب
وفي "الفتوحات": كلمةُ ﴿لَا جَرَمَ﴾ ورَدَتْ (١) في القرآن في خمسة مواضع متلوةً بأنَّ واسمها، ولم يجيء بعدها فعل، واختلف فيها، فقيل: ﴿لا﴾ نافية لما تقدمَ، وقيل: زائدةٌ، قاله في "الإتقان"، اهـ "كرخي".
وعبارة "أبي السعود" ﴿لَا جَرَمَ﴾ فيها ثلاثة أوجه:
الأول: أن (لا) نافية لما سبق، و (جرم) فعل ماض بمعنى حقَّ وثَبَتَ، و (أنَّ) وما في حيزها فاعله؛ أي: حقَّ وثبَتَ كونُهم في الآخرة هم الأخسرين، وهذا مذهب سيبويه.
والثاني: أنَّ ﴿جَرَمَ﴾ بمعنى كَسَبَ وما بعده مفعولُه، وفاعله ما دلَّ عليه الكلام؛ أي: كَسَب ذلكَ خسرانهم، والمعنى ما حَصَل من ذلك إلا ظهورُ خسرانهم.
والثالث: أنَّ (لا جرم) بمعنى لا بدَّ؛ أي: لا بدَّ أنهم في الآخرة هم الأخسرون، اهـ.
وفي "الخطيب" ما نصه: قال الفراء: إن ﴿لَا جَرَمَ﴾ بمنزلة قولنا: لا بُدَّ ولا محالةَ ثم كَثُرَ استعمالُها حتى صارت بمنزلة حقًّا، تقول العرب: لا جَرمَ أنك مُحْسِنُ، على معنى حقًّا أنك محسن، اهـ وسيأتي بقية مباحثها في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
٢٣ - وبعد أن بيَّنَ حالَ الكافرينَ وأعمالَهم ومآلهم.. بيَّنَ حالَ المؤمنين، وعاقبةَ أمرهم، فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا الله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا﴾ في الدنيا ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ أي الأعمال الصالحة فأتوا بالطاعات وتركوا المنكرات ﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: خشعت نفوسُهُم واطمأنت إلى ربهم؛ أي (٢): إنَّ الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمانُ به، وأتَوا بالأعمال الصالحات، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، واطمأنَّتْ قلوبُهُم عند أداء الأعمال إلى ذكر الله، فارغةً عن الالتفات
(٢) المراح.
والإخْبَاتُ (١) في اللغة هو: الخشوع، والخضوع، وطمأنينة القلب، ولفظ الإخبات يتعدى بإلَى، وباللام فإذا قُلتَ: أَخْبَتَ فلان إلى كذا، فمعناه: اطمأنَّ إليه، وإذا قلتَ: أخبت له، فمعناه: خَشَعَ وخَضَعَ له، فقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إشارة إلى جميع أعمال الجوارح، وقوله ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ إشارة إلى أعمال القلوب، وهي الخضوع، والخشوع لله عز وجل، يعني: أنَّ هذه الأعمال الصالحة لا تنفعُ في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب، وهي الخشوع، والخضوع، وإذا فسَّرْنَا الإخبات بالطمأنينة، كان معنى الكلام أنهم يأتون بالأعمال الصالحة، مطمئِنّين إلى صدق وعد الله بالثواب، والجزاء على تلك الأعمال، أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى، وإذا فسَّرنا الإخباتَ بالخشوع، والخضوع.. كان معناه: أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفينَ وَجِلينَ، أنْ لا تكونَ مقبولة، وهو الخشوع والخضوع،
٢٤ - وقولُه: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ ضَرَب (٢) به مثلًا للفريقين، وهو تشبيهُ فريق الكافرينَ بالأعمى، والأصم، وتشبيهُ فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أنَّ كلَّ فريق شُبِّه بشيئَين أو شبِّه بمَنْ جَمَع بين الشيئين، فالكافر شُبِّه بمنْ جمَعَ بين العَمَى والصمم، والمؤمن شبِّه بمَنْ جَمَعَ بين السمع والبصر، وعلى هذا تكونُ (الواو) في ﴿وَالْأَصَمِّ﴾ وفي ﴿وَالسَّمِيعِ﴾ لعطف الصفة على الصفة، كما في قول الشاعر:
إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ اَلْهُمَامْ | وَلَيْثِ الْكَرِيْهَةِ فيْ الْمُزْدَحَمْ |
(٢) الشوكاني.
والمعنى: مَثَلُ (٢) فريقَيْ الكافرين والمؤمنين، وصفتهما الحِسيَّةُ التي تطابق حالَهما كمثل الأعمى الفاقدِ لحاسَّةِ البصر في خِلْقَتِهِ والأصم الفاقد لحاسةِ السمع الذي حُرِمَ وَسَائِلَ العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية، ومَنْ هو كاملُ حَاستَي السمع والبصر، فهو يستمد العِلْمَ من آيات الله في خَلقِهِ بما يسمعُ من القرآن، وبما يَرَى في الأكوان، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان.
والاستفهام في قوله ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ للإنكار، وهذه الجملة مقررةُ لِمَا تقدم من قوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾؛ أي: هل يستوي الفريقان صفةً وحالًا ومآلًا؟ كلَّا، إنهما لا يَستويان، و (الهمزةُ) في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)﴾ للتوبيخ داخلةٌ على محذوف، و (الفاءُ) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتَغْفُلُون عن ذلك المَثَلِ الجَليِّ الواضح وتَشكُّون في عدم الاستواء، فلا تَتَذكَّرون ما بينهما من التَّباين والاختلاف، فتعتبرُوا به؛ أي أفلا تذكرون في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يَخْفى على مَنْ له تذكُرٌ وعنده تأمُّلٌ، والهمزةُ لإنكارِ عدم التذكر، وابتعاد صدورِه من المخاطبين.
وإجمالُ المعنى: أنه شَبَّهَ الكافرين بالعُمْي الذين لا يستعملون أبْصَارهم فيما يفضلون به الحيوانَ الأعجم من فَهْمِ آيات الله التي تزيدُهم عِلْمًا وهُدًى وبالصم الذين لا يَسْمَعون داعِيَ الله إلى الرشاد والهدى فيجيبونه، ويهتدون به، وشبه المؤمنين الذين انْتَفَعُوا بأسماعهم وأبصارهم، واهتدوا إلى الجنة، وتركوا مَا كَانوا خابطينَ فيه من كفر وضلال، بحال مَنْ هو سميع بصير، فيهتدي بِسَمْعِهِ إلى ما يبعدُه من مواضع الهلاك، ويهتدي ببصرِه بواسطة النور حين السير في الظلام، وقرأ الجمهور: ﴿أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ﴾ بإدغام التاء الثانية في الأصل في الذال، وفي قراءة سبعية: ﴿تَذَكَّرُون﴾ بحذف إحدى التائَين تخفيفًا.
٢٥ - ولمّا أورد سبحانه على
(٢) المراغي.
فصل فيما حوته قصص القرآن
إنَّ في قصص (١) القرآن لأَشِعَّةٌ من ضياء العلم والهدى، جاءَتْ على لسان رَجْلٍ أمّيّ لم يكن منشئًا، ولا راويةً، ولا حافظًا، ويمكن أن نَجْعَلَ أغراضَها فيما يلي:
١ - بيان أُصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله، وتوحيده، وعلمه، وحكمته، وعدله، ورحمته، والإيمان بالبعث والجزاء.
٢ - بيانُ أنَّ وظيفة الرسل تَبْليغُ وَحْيِ الله تعالى لعباده فحَسْبُ، ولا يملكون وَراءَ ذلِكَ نَفْعًا، ولا ضَرًّا.
٣ - بيانُ سُنن الله في استعدادِ الإنسان النفسيّ والعقليّ لكلّ من الإيمان، والكفر، والخير، والشر.
٤ - بيان سُنَنِ الله في الاجتماع، وطباع البشر، وما في خلقه للعالم من الحكمة.
٥ - آياتُ الله وحججه على خلقه في تأييد رسله.
٦ - نصائح الأنبياء ومواعظُهم الخاصَّة بكل قوم بحسَبِ حَالِهم كَقَوْمِ نوح في غِوَايتهم، وغرورهم، وقوم فرعون، ومَلَئِهِ في ثَرْوَتِهم، وعُتوِّهم، وقوم عاد في قُوَّتِهم وبطشهم، وقوم لوط في فحشهم.
٧ - تسلية للنبي - ﷺ - حيث يَعْلَمُ ما وقع لغيره من الأنبياء.
القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ إلخ.
القصة الثانية: قصة هود عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾.
القصة الثالثة: قصة صالح عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ إلخ.
القصة الرابعة: قصة إبراهيم عليه السلام، مع الملائكة، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾.
القصة الخامسة: قصة لوط عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ إلخ.
القصة السادسة: قصة شعيب المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ إلخ.
القصة السابعة: قصة موسى المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ إلخ، وهي آخر القصص.
وتقدَّم أنَّ نوحًا اسمه عَبْدُ الغفار، ونوحُ لقبه، قال ابن عباس (٢): بُعث نوح بعد أربعينَ سنةً، ولبِثَ يدعو قومَه تسع مئة سنة وخمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنةً، فكان عُمْرُه ألف سنة وخمسين سنة، وقال مقاتل: بُعِثَ، وهو ابن مئة سَنَةٍ، وقيل: وهو ابن خمسين سنة، وقيل: وهو ابنُ مئتين وخمسين سنة، ومكَثَ يَدْعُو قَوْمَه تسع مئة سنةٍ وخمسين سنةً، وعاش بعد الطوفان مئتين وخمسين سنةً، فكان عمره ألفَ سنة وأربع مئة سنة وخمسين سنة، اهـ "خازن".
(٢) الخازن.
أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه قائلًا لهم: إني لكم نذير من الله أنْذركم بأْسَه على كفركم به فآمنوا به، وأطيعوا أمْرَه.
وقرأ النحويان (١) أبو عَمرو، والكسائي، وابن كثير: (أَنَّي) بفتح (الهمزة)؛ أي: بأني وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول
٢٦ - ثم فسَّر هذا الإنذار بقوله: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ بدل (٢) من ﴿إني لكم..﴾ إلخ. على قراءة الفتح ومجرور بالباء المقدرة التي للتعدية المتعلِّقة بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأن لا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وكانوا أولَ مَنْ أشْركَ بالله، واتخذوا الأندادَ، وكان هو أوَّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ثم علل هذا بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: إن لم تخصوه بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد، وتخلعوا ما دونه من الأنداد، والأوثان.. أخَف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عِقَابُه وعذابه، لمن عذب فيه، وهو يوم القيامة أو يوم الطوفان، ووصفَه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغةً، وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضةٍ ظنًّا منهم أنها تكفي في رد دعوته، وهذا الجواب يتضمَّن الطعنَ منهم في نبوته من ثلاثِ جهات:
٢٧ - الجهة الأولى: ما ذكره بقوله ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ﴾؛ أي: الأشراف، والرؤساء الذين كفروا من قومه؛ أي: من قوم نوح، ووصفهم بالكفر ذمًّا لهم، وفيه دليلٌ على أنَّ بعضَ أشرافِ قومه لم يكونوا كفرةً ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾؛ أي: ما نعلمك إلا آدمِيًّا مثلنا، ليس فيك مزية تخصك بوجوب الطاعة علينا؛ أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم يكن لك علينا مزيةٌ تستحق بها النبوةَ دُوننا؟
(٢) المراح.
والجهة الثانية: ما ذكره بقوله ﴿وَمَا نَرَاكَ﴾ يا نوح ﴿اتَّبَعَكَ﴾، وأطاعك في دعوتك ﴿إِلَّا﴾ الأقوام ﴿الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ وأخساؤنا كالحجَّامين والنساجين والأساكفة، ولم يَتْبَعْكَ أحد من الأشراف، فليس لك علينا مزية باتباع هؤلاء الأراذل لك، وانتصاب ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ على الظرفية، والعامل فيه اتبعك؛ أي: اتبعوك في ظاهر رأيهم، وابتداء فكرهم من غير تعمق، ولا تأمل فيه، ولو احتاطُوا في الكفر ما اتبعوك؛ أي: وإنَّا لم نَرَ متبعيك إلّا الأَخساء والفقراء كالزراع والصناع، ومن في حكمهم في المكَانَة الاجتماعية باديَ الرأي قبل التأمل في عواقبه، والنظر في مستنده، وترجيح العقل له، وهذا مما يرجِّح ردَّ الدَّعوة، والتولي عنها.
والجهة الثالثة من جهات طعنهم في نبوته: ما ذكره بقوله: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾؛ أي: لا نرى لك، ولمن اتَّبعك من الأراذل فضْلًا علينا لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجَدَل تتميزون به عنا، وتستحقون به ما تدعونه، خاطبوه في الوجهَين الأولَين منفردًا، وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه.
والمعنى: وما نَرى لك، ولمن اتبعك أدْنَى امتياز عنا من قوة أو كثرة علم، أو أصالة رَأي يَحْمِلُنا على اتباعكم، ويَجْعَلُنا ننزِل عن جاهِنا ومالِنا، ونكون نحنُ وأنتم سواءَ، ثم أضرَبوا عن الثلاثةِ المَطَاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان، الذي لا مستندَ له إلا مجردَ العصبية، والحسد، واستبقاءَ ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، وهذا هو الجوابُ الرابعُ فقالوا ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ فيما تدَّعُون؛ أي: بل إنَّا نُرَجِّحُ الحكم عليك، وعليهم بالكذب، فأنت كاذب في دعوى النبوة، وهم كاذبون في تَصْدِيقك؛ أي: بل نَظَنُّك يا نوح كاذبًا في دعوى النبوة، ونظن أصحابكَ كَاذِبينَ في تصديق نبوتك.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي (١): ﴿بادئ الرأي﴾ من بَدأ يبدأ، ومعناه:
أحدُهما: أنْ يريد: اتبعوك في ظاهرِ أمرهم، وعسى أن تكونَ بواطنهم ليسَتْ معك.
والمعنى الثاني: أن يُريد: اتبعوكَ بأوَّلِ نظر، وبالرأي البادىء دون تثبت، ولو تثبتوا.. لم يتبعوك، وإذا كان العاملُ أراذلنا فمعناه الذين هم أراذِلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يُعْلَمُ ذلك منهم. ذكره أبو حيان.
٢٨ - ثمَّ ذَكَر سبحانه ما أجاب به نوحٌ عليهم فقال ﴿قَالَ﴾ نوحٌ ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي؛ أَخْبِرُوني ﴿إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾؛ أي: على برهان من ربي في النبوة، يدل على صحتها، ويُوجب عليكم قبولَها مع كون ما جعلتموه قادحًا ليس بقادح في الحقيقة، فإنَّ المساواةَ في صفة البشرية لا تمنعُ المفارقةَ في صفة النبوة، واتباعُ الأراذل كما تزعمون ليس ما يمنع من النبوة، فإنهم مثلكم في البشرية، والعقل، والفهم، فاتباعهم لي حجةٌ عليكم لا لكم، ويجوز أنْ يُرِيدَ بالبينة المعجزةَ ﴿وَآتَانِي﴾؛ أي: أعطاني ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: نبوَّة ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾؛ أي: من فضله سبحانه وتعالى وقيَّدَ الرحمة بكونها من عنده تأكيدًا، وفائدتُهُ رَفْعُ الاشتراك، ولو بالاستعارةِ. ذكره أبو حيان. وقيل: الرحمةُ المعجزةُ، والبينةُ النبوةُ ﴿فَعُمِّيَتْ﴾؛ أي: خَفِيَتْ كُلُّ واحدة من البينة، والرحمة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وصار ذلك البرهانُ مشكوكًا في عقولكم، والإفرادُ في ﴿عميت﴾ على إرادة كلّ واحدة منهما، أو على إرادة البينة، لأنَّها هي التي تَظْهَر لِمَنْ تَفَكَّر، وتَخْفى على مَنْ لم يَتَفَكَّرْ.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (١): ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ بضم العين،
والمعنى (١): أي قال نوحُ ﴿يَا قَوْمِ﴾ أخْبِرُوني ماذا تَرون، وماذا تقولون، إن كنتُ على حجة فيما جئتكم به من ربي يَتَبيَّن لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي، ومن كسبي البشري الذي تُشاركُونني فيه، وآتاني رحمةً من عنده، وهي النبوةُ وتعاليمُ الوحي التي هي سبَبُ رحمةٍ خاصَّةٍ لِمن يَهتدِي بِهَا، فحَجَبَها عنكم جهلكم، وغروركم بالمال والجاه، فلم تتبينوا منها ما تَدُلُّ عليه من التفرقة بيني وبينكم، فمنعتم فَضْلَ الله عني بحرماني من النبوة، والاستفهامُ في قوله ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ للإنكار؛ أي: أنُكْرِهُكُم على قبولها، والاهتداء بها، والمرادُ إلزام الجبر بالقَتْلِ ونحوه لا إلزام الإيجاب، إذ هو حاصلٌ كما في "البيضاوي" ﴿وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾؛ أي: وأنتم عنها معرضون غير متدبرين لها، كلّا إنَّا لا نفعل ذلك بل نَكِلُ أمركم إلى الله، حتى يقْضي في أمركم ما يَرى ويشاء، وما عليَّ إلا البلاغُ وهذا أوّلُ نصٍّ في دين الله على أنه لا ينبغي أن يكون الإيمانُ بالإكراه.
والخلاصة: أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، إلّا أنها خَافِيةٌ عليكم أيُمْكِنُنَا أن نَضْطَرَّكم إلى العلم بها، والحال أنكم كارهون لها غير متدبرين فيها، فإنَّ ذلك لا يَقْدِرُ عليه إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ؛ أي: أخْبِروني بجواب هذا الاستفهام، وهو أني لا أقْدِر على إجْباركم.
وحَكى الكِسَائي (٢)، والفراء إسكان الميم الأولى في ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ تخفيفًا كما في قول امرئ القيس:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ | إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ |
(٢) الشوكاني.
وفي هذه الآية (٢) إثباتٌ لنبوته عليه السلام، وردٌّ لإنكارهم لها، وتكذيبِه ومن معه فيها، وإبطالُ لشبهتهم في أنه بشرٌ مثلهم، وقد فاتهم أنَّ المساواة في البشرية لا تقتضي استواءَ أفرادِ الجنس في الكمالات، والفضائل، فالمشاهدَةُ والتجاربُ، تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرَّأي، والأخلاق والأعمال حتى إنّ الواحِدَ منهم ليأتي بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل، يَعْجزُ عن مثلها الأُلُوفُ من الناس في أَجْيالٍ كثيرة:
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ | وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أمْرٌ عَرَا |
٢٩ - وقال نُوحٌ أيضًا ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا﴾؛ أي: لا أطْلُب مِنكم مالًا، وجُعْلًا على تبليغي دَعْوةَ الرِّسالةِ، وعلى نصيحتي لكم، ودعوتي إياكم إلى توحيد الله، وإلى إخلاص العبادة له، فأكُونُ مُتَّهَمًا فيه عندكم، لمكانة حبِّ المال من أنفسكم، واعتزازكم به عليَّ، وعلى الفقراء من أتباعي، وما أريد بذلك إلا خَيْرَكم، ومصلحتكم، ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: فما أَجْرِي على ذلك إلَّا على الله، الذي أرْسَلَنِي، فهو الذي يجازيني، ويثيبُني عليه، وإن ظننتم أنّي إنما اشتغلت بهذا التبليغ لأجل أخذ أموالكم، فهذا الظنُّ منكم خَطأٌ، وإنما أسْعَى في طلب الدين، لا في طلب الدنيا، وهذا يوجب فضلي عليكم، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
ومثْل هذه المقالة قد صدَرَتْ من جميع الأنبياء بعده، فجَاءت على لسان هُود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، كما ترى ذلك في
(٢) المراغي.
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ وحده، وصدَّقوا برسالتي عن مجلسي بسبب قولكم اطْرُدهم عنك نتبعك؛ أي: ليس من شأني، ولا بالذي يكون مني أن أبعد من يؤمن بي، وأنحيه عني احتقارًا له على أيِّ حال كانَتْ صفتُه، وفي هذا إيماءٌ إلى الجواب عن قولهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ وقد روي أنهم قالوا له: يا نوح! إن أحبَبْتَ أن نتبعك، فاطردْ هؤلاء، فإنَّا لن نَرْضَى أن نكون نحن وهم في الأمر سواءً، وقرىء ﴿بطاردٍ﴾ بالتنوين، قال الزمخشري: على الأصل، يعني أن اسمَ الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله: أن يَعْمَلَ، ولا يُضَافُ وهذا ظاهر كلام سيبويه، ذكره أبو حيان ثُمَّ علَّل الامتِناع من طردهم بقوله:
﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾؛ أي: إنَّ هؤلاء الذين تسألونَني طردَهم صائرون إلى ربهم، وهو سائلهم عمَّا كانوا يعملون في الدنيا، ولا يسألهم عن حَسَبهم وشَرَفهم؛ أي: إنهم فائِزون في الآخرة بلقاء الله تعالى، فإنْ طردتهم.. استَخْصَمُوني في الآخرة عنده، فأُعاقبُ على طَرْدِهِم.
والمعنى: لا أطردهم فإنَّهم ملاقونَ يومَ القيامة ربَّهم، فهو يجازيهم على إيمانهم، لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عندَه سبحانه، وكأنَّه قال هذا على وَجْه الإعظام لَهم، ويحتمل أنَّه قاله خوفًا من مخاصمتهم له عند ربهم، بسببِ طرده لهم، ثمَّ بيَّنَ لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طَلَبُوها منه، والعلل التي اعتلُّوا بها عن إجابته، فقال ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ كل ما ينبغي أن يُعْلَمَ، ومن ذلك استرذالُهم للذين اتبعوه، وسؤالُهُم له أن يطردَهم، أي: تجهلون ما يَمْتَازُ به البشر بعضُهم عن بعض من اتباع الحقِّ، والتَحلِّي بالفضائل، وعملِ البر، والخير، وتظنون أنَّ الميزةَ إنما تكون بالمال والجاه.
وقد جاءَ هذا المعنى في قصته من سورة الشعراء: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)﴾.
٣٠ - ثم أكد عدمَ جوازِ طردِهم
٣١ - ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ بادّعائي للنبوة والرسالة ﴿عِنْدِي خَزَائِنُ﴾ رزق ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى أي أنواع (١) رزقه التي يَحْتَاجُ إليها عبادُهُ للإنفاق منها، أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخَّرة لسائر الناس، فأنفق على نفسي، وعلى من تَبِعَني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري في الكسب سواء، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة، ولا من خصائص النبيّ، ولو كَانَ كذلك لاتبع الناس الرُّسلَ لأجلها، بل الغاية من بعْثِ الرسل تزكية الأنْفُس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها لِمَثُوبتِهِ في دَارِ كرامته، ورضاه عنها يومَ لا ينفعُ مالُ ولا بنون.
وقال ابن الأنباري (٢): أراد بالخزائن: عِلْمَ الغيب المَطْوِيِّ عن الخَلْق لأنهم قالوا له: إنما اتَّبَعَكَ هؤلاء في الظَّاهِر، وليسوا مَعَك فقال لهم: ليس عندي خزائن غيوب الله، فأعلمَ ما تَنْطوِي عليه الضمائر، وإنما قيل للغيوب خزائنُ لِغُموضها عن الناس، واستتارها عنهم. قال سفيان بن عيينة: إنما آيات القرآن خزائن، فإذا دَخَلْتَ خزانة.. فاجْتَهد أن لا تَخْرُجَ منها حتى تعرف ما فيها.
(٢) زاد المسير.
قيل: إنما قالَ لهم هذا، لأنَّ أرضَهم أجْدَبَتْ فسألوه متى يَجِىءُ المطر، وقيل: بل سألوه متى يجيء العذابُ، وقوله: ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ جوابُ لقولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾؛ أي: ولا أقول لكم إني مَلَكُ من الملائكة، أُرْسِلْتَ إليكم، فَأكون كاذبًا فيما أدَّعِي، بل أنا بشر مثلكم، أمرتُ بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
وفي هذا (١): دحض لشبهَتهم إذ زعموا أنَّ الرَّسولَ من الله إلى البشر، يجب أن يفضُلَهم، ويمتازَ عنهم، ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بأن يكون مَلَكًا يَعلمُ ما لا يعلمه البشر، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر.
والحاصلُ: أنكم (٢) اتخذتم فقدانَ هذه الأمور الثلاثة ذريعةً إلى تكذِيبي، والحالُ أنِّي لا أدَّعي شيئًا من ذلك، والذي أدَّعِيه لا يتعلق بشيء منها، وإنما يتعلَّقُ بالفضائل النفسانية التي بها تتَفاوَتُ مقاديرُ البشرِ.
فصل في الاستدلال على تفضيل الملائكة على الأنبياء
استدلَّ بعضُهم بهذه الآية (٣) على تفضيل الملائكة على الأنبياء، قال: لأن نوحًا عليه السلام قال: ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ لأنَّ الإنسان إذا قَالَ: أنا لا أدَّعِي كذا وكذا، لا يحسن إلا إذا كَانَ ذلك الشيء أشرف وأفضل من أحوال ذلك القائل، فلَمَّا قال نوح عليه السلام هذه المقالة، وجب أن يكون ذلكَ المَلَكُ
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
وقال الشوكاني: وقد استدلَّ بهذا مَنْ قال: إنَّ الملائكةَ أفضل من الأنبياء، والأدلَّة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجةً، فليست مما كلَّفنا الله سبحانه وتعالى بعلمه.
﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي﴾ ـهم وتحتقِرُهم ﴿أَعْيُنُكُمْ﴾ وتنظرهم نَظْرَةَ احتقار ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ولن يعطِيَهم ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: هدايةً وأجْرًا، بل آتاهم الخير العظيم، بالإيمان به، واتباع نبيه، فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافِعُهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرهم احتقارُكم لهم شيئًا.
أي: ولا أقولُ للذين اتبعوني، وآمنوا باللهِ وحده، وأنتم تنظرون إليهم نَظْرةَ استصغارٍ، واحتقارٍ، فتزدريهم أعينُكم لفقرهم، ورَثَاثَةِ حالهم: لن يؤتيهم الله خيرًا، وهو ما وعدوه على الإيمان والهُدى من سعادة الدنيا والآخرة، ولا يُبْطِلُ احتقَارُكم إيَّاهُمْ أجْرَهم، وليس لي أن أطَّلِعَ على ما في نفوسهم فأقْطَعَ عليهم بشيء.
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من الإيمان به، والإخلاص له فَيُجازِيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء؛ أي: بل الله سبحانه وتعالى أعْلَمُ بما في قلوبهم، وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة، ومن اتباع رسوله بإخلاصٍ وصدق سريرة، لا كَمَا زَعمتم من اتباعهم إيايَ باديَ الرأي، بلا بصيرة ولا علم.
﴿إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لهم: إن فعلْتُ بهم ما تُريدونه أو من الظالمينَ لأنفسهم إن فعلتُ ذلك بهم؛ أي: إنّي إذا قَضَيْتُ على سرائرهم، بخلاف ما أبْدَتْه لي ألسنتهم على غير علم مني بما في نفوسهم، أكُونَ ظالمًا لهم بهضم
٣٢ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قومُ نوح له؛ أي: جاوبوه بغير ما تقدم مِنْ كلامهم وكلامِه عجزًا عن القيام بالحجة، وقصورًا عن رتبة المناظرة، وانْقِطاعًا عن المباراة بقولهم: ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾؛ أي: خاصَمْتَنَا بأنواع الخصام، وحاجَجْتَنَا بضروب الحجج، ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾؛ أي: خصومَتَنا، ودفاعنا بكل حجة لها مدخل في المقام، واستقصيت فيه، فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا، ولم يَبْقَ لنا في هذا الباب شيءٌ من الجواب، فقد ضاقَتْ علينا المسالك، وانسدَّتْ أبوابُ الحِيَلِ، ولم يَبْقَ لدَيْنا شيء نَقُولُه كما قال في سورة نوح حكايةً عنه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦)﴾ قال أبو السعود: فَأكْثَرْتَ جِدَالنا؛ أي: شَرَعْتَ في الجدال، فأكثرت، أو جادلْتَنا؛ أي: أرَدتَ جِدالَنا فأكثرتَ جِدَالَنا، فلا بُدَّ من أحد هذين التأويلين لِيَصِحَّ العطف، انتهى. ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾؛ أي: بالذي تعدناه، وتُخْبِرَنا به من عذاب الله الدنيوي الذي تَخَافُه علينا، وهو الذي أراده بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾، ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما تقولُه لنا؛ أي: إن كنتَ صادقًا في دَعْواكَ أنَّ اللَّهَ يعاقبنا على عصيانه في الدنيا قبلَ عقابِ الآخرة.
وإنَّما كثرت مُجَادَلتُهُ لهم؛ لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألْفَ سنة إلا خمسينَ عامًا، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله، وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم، وقرأ (١) ابن عباس: ﴿فأكثرت جدلنا﴾ كقوله: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾. قال أبو البقاء: قوله تعالى: ﴿قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ الجمهور على إثبات الألف، وكذلك: ﴿جدلتنا﴾ فأكثرتَ جدلنا بغير ألف فيهما، وهو بمعنى غلبتنا بالجَدَل، انتهى.
٣٣ - ﴿قال﴾ نوح لقومه حين استعجلُوه بإنزال العذاب يا قوم ﴿إِنَّمَا﴾ ذلكم العذاب بيد الله لا أملكه، وهو الذي ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ﴾؛ أي: إن تعلقت مشيئته به في الوقت الذي تَقتضيه حكمتُه، فإن قضَتْ مشيئته، وحكمته بتعجيله.. عَجَّلَهُ لكم،
٣٤ - ولمّا قالوا (١) قَدْ جَادَلْتَنَا، وطلبوا تعجيلَ العذابِ، وكانَ مجادلَتُهُ لهم، إنما هو على سبيل النصح، والإنقاذ من عذاب الله قال: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾ وقرأ عيسى بن عُمَر الثقفي: (نَصْحِي) بفتح النون، وهو مصدر، وقرأه الجمهور بضمها، فاحتملَ أن يكونَ مصدرًا كالشكر، واحتمل أن يكونَ اسمًا.
أي: ولا ينفعكم، ولا يفيدكم إنذاري، وتحذيري إياكم عقوبتَه، ونزولَ العذاب بكم ﴿إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ﴾ وجوابُ هذا الشرط محذوف، دَلَّ عليه ما قبله، تقديره: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي الذي أبذُلُه لكم، وأستكثر منه قيامًا مني بحقِّ النصيحة لله، بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق، وبيان بطلان ما أنتم عليه ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ويضلكم عن طريق الهدى والتوحيد، فلا ينفعكم نصحي بمجرد إرادتي له فيما أدْعُوكم إليه، بل يتوقف نَفْعُه على إرادة الله تعالى له، وقد مضت سنته كما دلَّت عليه التجارب، أنَّ النُّصْحَ إنما يقبله المستعد للرشاد، ويرفضه مَنْ غَلَبَ عليه الغيُّ والفسادُ باجتراحه أسْبَابَه من غُرور بِغنًى أو جاهٍ، أو باتباع هَوًى وحبِّ شهوات تمنع من طاعة الله تعالى.
فمعنى الآية (٢): لا ينفعكم نصحي، إن كان الله يريد أنْ يُضِلَّكُم عن سبيل الرشاد، ويَخْذلكم عن طريق الحق.
والخلاصة (٣): أنَّ معنى إرادة الله إغواءَهم: اقتضاءُ سننه فيهم أن يكونوا من
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
الإعراب
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿مَن﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، ﴿مِمَّنِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾، ﴿افْتَرَى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾، ﴿كَذِبًا﴾ مفعول به ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿يُعْرَضُونَ﴾ فعل ونائب فاعل ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبرُ المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُعْرَضُونَ﴾، ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت: قلتَ: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾، ﴿كَذَبُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق به ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه ﴿عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول القول.
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿الظَّالِمِينَ﴾، ﴿يَصُدُّونَ﴾ فعل وفاعل صلةُ الموصول ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق به، ﴿وَيَبْغُونَهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَصُدُّونَ﴾، ﴿عِوَجًا﴾ حال من (الهاء) في ﴿يبغونها﴾، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ متعلق
﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿مُعْجِزِينَ﴾ ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة (ما) نافية ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، حال ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ﴿مِن﴾ زائدة ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ اسم ﴿كاَنَ﴾ مؤخر؛ أي: وما كان أولياء كائِنينَ لهم من دون الله، وجملة ﴿كاَنَ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لَمْ يَكُونُوا﴾، ﴿يُضَاعَفُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿لَهُمُ﴾ متعلق به ﴿الْعَذَابُ﴾ نائب فاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿لَمْ يَكُونُوا﴾، ﴿ما﴾ نافية ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كاَنَ﴾، والجملة مستأنفة مسوقةٌ لتعليل مضاعفة العذاب، ﴿وَمَا﴾ (الواو) عاطفة (ما) نافية ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه، وجملة ﴿يُبْصِرُونَ﴾ خبره، وجملة (كان) معطوفة على جملة ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَضَلَّ﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلقان بالفعل ﴿ضل﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل رفع فاعل ﴿ضل﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ماض ناقص، والواو: اسمها في محل رفع ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل مضارع والجملة في محل نصب خبر كان، والجملة الاسمية صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يفترونه. ﴿لَا﴾: زائدة ﴿جَرَمَ﴾
فصل في لا جرم
وقد مر لك بعض المباحث في جرم في مبحث التفسير، وفي "السمين": وفي هذه اللفظة خلاف بين النحويين، وتلخَّص من ذلك وجوه.
أحدُها: وهو مذهب الخليل، وسيبويه، أنهما مركَّبتان من ﴿لا﴾ النافية و ﴿جَرَمَ﴾ وبُنِيَتا على تركيبهما تركيبَ خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل، وهو حقَّ، فعلى هذا يرتفع ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾؛ أي: حقَّ وثَبَت كون النار لهم، أو استقرارُها لهم.
الوجه الثاني: أنَّ ﴿لَا جَرَمَ﴾ بمعنى لا رَجُل في كون ﴿لا﴾ نافية للجنس، وجرمَ اسمها مبني معها على الفتح، وهي واسمها في محلّ رفع بالابتداءِ، وما بعدهما خبر ﴿لا﴾ النافية للجنس، وصار معناها، لا محالةَ في أنهم في الآخرة هم الأخسرون؛ أي: في خسرانهم.
الوجه الثالث: أنَّ ﴿لا﴾ نافية لكلام قد تقدم تكلم به الكفرةُ، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله: ﴿لا﴾ كما ترد لا هذه قبلَ القسم في قوله لا أُقسِمُ وقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وقد تقدَّم تَحْقِيقُه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي جرم أنَّ لهم كذا وجَرَم فعل ماض معناه كسب وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، وأنَّ وما في حيزها في موضع المفعول به؛ لأنَّ ﴿جَرَمَ﴾ يتعدى إذا كان بمعنى كسَبَ، وعلى هذا فالوَقْف على قوله: ﴿لا﴾ ثم يبتدىءُ بـ ﴿جَرَمَ﴾ بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الرابع: أنَّ معناه لا حَدَّ، ولا منعَ، ويكون ﴿جَرَمَ﴾ بمعنى القَطْعِ
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ إلى ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق به ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾ وجملة ﴿إِن﴾ مستأنفة ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾، ﴿خَالِدُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مؤكِّدة لما قَبْلَها.
﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤)﴾.
﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، ﴿كَالْأَعْمَى﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، ﴿وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ معطوفات على ﴿الأعمى﴾، ﴿هَلْ﴾ حرف للاستفهام الإنكاري ﴿يَسْتَوِيَانِ﴾ فعل وفاعل ﴿مَثَلًا﴾ تمييز محول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثَلُها، والجملة مستأنفة ﴿أَفَلَا﴾ (الهمزة) للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، (لا) نافية ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتشكون في عدم الاستواء، فلا تذكَّرون ما بَيْنَهما من التباين.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية واللام موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق {أَرْسَلْنَا
﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)﴾.
﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿لَا﴾ ناهية جازمة ﴿تَعْبُدُوا﴾ فعل وفاعل في محل نصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر ومجرور بحرف جر محذوف تقديره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بعدم عبادة غير الله تعالى، ويصح كونُ أنْ مخففة، وكونُها تفسيرية ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَخَافُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة ﴿يَوْمٍ﴾ على سبيل التجوز، أو صفة ﴿عَذَابَ﴾ مجرور بالجوار نظير هذا جحر ضب خرب، وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ﴾ ولقوله: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ إلخ كما في "الجمل".
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾.
﴿فَقَالَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿قَالَ الْمَلَأُ﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿الْمَلَأُ﴾، ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿ما﴾ نافية ﴿نَرَاكَ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلَأُ﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿بَشَرًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿نَرَاكَ﴾ إن كانت علمية أو حال من الكاف إن كانت بصرية ﴿مِثْلَنَا﴾ صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل وفاعله ضمير يعود على نوحٍ، والجملة مستأنفة ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتَ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل وفاعل، وهو: يتعدى إلى مفعولين، والأول محذوف، لدلالة ما بعده عليه، تقديره: أرأيتم البَيِّنة من ربي إن كنتُ عليها أنلزمكموها، والمفعولُ الثاني: جملة الاستفهام الآتية ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعلَ شرط لها ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كان﴾، ﴿مِنْ رَبِّي﴾ صفة لـ ﴿بَيِّنَةٍ﴾، ﴿وَآتَانِي﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتَانِي﴾ لأنه بمعنى أعْطَى ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، وجملة ﴿آتاني﴾ في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿كان﴾، ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿عميت﴾ فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم معطوف على ﴿آتاني﴾ ونائب
﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على ﴿وَيَا قَوْمِ﴾ الأول ﴿لَا﴾ نافية ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿مَالًا﴾ مفعول ثان، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونه جوابَ النداء ﴿إن﴾ نافية ﴿أَجْرِيَ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿أَنَا﴾ مبتدأ ﴿بِطَارِدِ الَّذِينَ﴾ خبر، ومضاف إليه و ﴿الباء﴾ زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ خبره ومضاف إليه، وجملة إن في محل النصب مقول لـ ﴿قَالَ﴾ على كونها معلّلةً لما قبلها ﴿وَلَكِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَرَاكُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿قَوْمًا﴾ مفعول ثان، وجملة ﴿تَجْهَلُونَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾ وجملة ﴿أَرَاكُمْ﴾
﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على ﴿وَيَا قَوْمِ﴾ الأول. ﴿مَن﴾ اسم للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ ﴿يَنْصُرُنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿من﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية جواب النداء على كَوْنِهَا مقول القول، ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿طَرَدْتُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قَبْلَهَا، والتقدير: إن طردتهم فمن ينصرني، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قال﴾ ﴿أَفَلَا﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي داخلةٌ على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾ نافية ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: ما ينبغي تذكره من أحوالهم، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، تقديره: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تذكرون؟ والجملة المحذوفة مع ما عُطِفَ عليهَا مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿أَقُولُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ﴾ على كونهَا جوابَ النداءِ ﴿لَكُم﴾ متعلق بـ ﴿أَقُولُ﴾ ﴿عِنْدِي﴾ خبر مقدم ﴿خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿أقول﴾.
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فعل ومفعولٌ به، لأنَّ عَلِم هنا بمعنى عَرَفَ، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملةُ الفعلية معطوفة على جملة ﴿عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ على كَوْنِهَا مقولَ أقول؛ أي: ولا أقول لكم إني أعلم
﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَا نُوحُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا نُوحُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداءِ في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محلِّ النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونهَا جوابَ النداء، ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَادَلْتَنَا﴾، ﴿فَأْتِنَا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَكْثَرْتَ﴾، ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أتنا﴾، ﴿تَعِدُنَا﴾ فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: تعدناه، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كَوْنِهِ فعلَ شرط لها ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ خبره، وجواب ﴿إِن﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتَ من الصادقين.. فأتنا بما تعدنا، وجملةُ ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)﴾.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)﴾.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾: ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿أَرَدْتُ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعلَ شرطِ لها ﴿أَنْ أَنْصَحَ﴾ ناصب وفعل منصوب ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن أردت النصح لكم، وجوابُ ﴿إن﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن أردت النصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿كَانَ اللَّهُ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه فِعْلَ شرط لها، ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل النصب خبرُ ﴿كَانَ﴾، ﴿أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ ﴿يُرِيدُ﴾ تقديره: يريد إغواءه إياكم، وجواب هذا الشرط الثاني: هو الشرط الأول، وجوابه تقديره: إن كان الله يريد أن يُغْويكم.. فإن أردتُ أن أنْصَحَ لكم.. فلا ينفعكم نصحي، وذلك لأنه إذا اجتمع في الكلام شرطان وجواب، يُجعل الشرط الثاني
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ﴿أَظْلَمُ﴾ اسم تفضيل من ظلم يظلم، من باب: ضرب: ظلمًا، والظلم وضع الشيء في غير محله، وهو ضد العدل، والافتراءُ: اختلاق الشيء من عند نفسه، من غير أن يكون له أساس ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: للمحاكمة عرضًا تظهر به فضيحتهم على ربهم؛ أي: على من يحسن إليهم، ويَمْلِكُ نواصِيَهم وكانوا جَديرينَ أن لا يكذبوا عليه ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾، والأشهاد: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف، والأشهادُ الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالَهم في الدنيا أو الأنبياءُ أو هما والمؤمنون، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم، أقوالٌ، واللعنة الطرد من الرحمة، والصدُّ عن سبيل الله الصرف عن دينه، والمنع من الدخول فيه ﴿يبغونها عوجًا﴾؛ أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيرًا للناس عنها، والعِوج: الالتِواءُ، وعدمُ الاستِواء يقال: بَغَيْتُك شرًّا؛ أي: طلبته لك.
وفي "المختار": عوج - من باب طرب - فهو أعوج، والاسمُ العِوَجُ بكسر العين، فما كان في حائط أو عُود أو نحوهما، مما ينتصب فهو عَوَج بفتح العين، وما كان في أرض أو دين أو معاش فهو عِوَجٌ بكسر العين، واعوجَّ الشيء اعوجاجًا، فهو معوَّج بوزن محمَّد، وعصا معوجة أيضًا؛ أي: غيرَ مستقيمة. اهـ.
﴿مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لا يمكنهم أنْ يهربوا مِنْ عذابه ﴿وَضَلَّ﴾؛ أي: غابَ ﴿لَا جَرَمَ﴾ قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بُدَّ، ولا محالةَ
﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ والإخبات في اللُّغة هو: الخشوعُ، والخضوع، وطمأنينة القلب، ولفظُ الإخبات يتعدَّى بإلى وباللام، فإذا قُلْتَ: أخْبَت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأنَّ إليه، وإذا قلتَ: أخْبَتَ له فمعناه: خَشَعَ، وخضع له، ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ بمعنى: خشعوا، وخضعوا، وأصْلُه من الخبت، وهو الأرضُ المطمئنة ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾، و ﴿الأعمى﴾ هو من قام به العَمَى، والعَمى بفتحتين ذهابُ البصر، خِلْقةً أوْ لاَ يقال: عَمِيَ من باب صَدِي فهو أعمى، وقوم عُمْيٌ ﴿وَالْأَصَمِّ﴾ هو من قام به الصمم، والصمم ذَهابُ السمع خِلقة أَوْ لا، يقال: أصمّه الله فصم يصم بالفتح صممًا، وأصمَّ أيضًا بمعنى صَمَّ؛ أي: حَصَلَ له الصممُ، ورَجب شهر الله الأصمُّ، قال الخليل: إنما سمى بذلك؛ لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال، ولا قعقعةُ سِلاح، لأنه من الأشهر الحُرُم. اهـ "مختار".
﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ فيه إدغامُ التاء الثانية في الأصل، في الذال على قراءة التشديد، وقرىء في السبعة: تذكرون بتخفيف الذال وتشديد الكاف بحذف إحدى التائين على حدِّ قول ابن مالك - وما بتاءين ابتدى قَدْ يُقْتَصَرُ - إلخ.
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ﴾ الملأُ: الأشرافُ، والرؤساءُ، والزعماء ﴿هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾، وفي "السمين": الأراذل فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع الجمع، فهو جمع أرذل بضم الذال، جمع رذل، بسكونها مثل أكالب، وأكلب، وكلب.
ثانيهما: أنه جمع مفرد، فالأراذل جمع الأرذل، كأكابر وأكبر، وأساود وأسود، وأباطح وأبطح، وأبارق وأبرق، وجمع على هذه الزنة، وإن كان وصفًا؛ لأنه غلبت عليه الاسمية، فصارَ كالأسماء، ومعنى غَلَبَتِهِ أنّه لا يكاد يذكر الموصوف معه، وهو مثل الأبطَح، والأبرق. ذَكَره أبو البقاء، والأرذل: الخسيس
﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ يقرأ (١) بهمزة بعد الدال، وهو من بَدَأَ يبدأُ إذا فَعَلَ الشيءَ أولًا، ويقرأ بياءِ مفتوحة، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الهمزةَ أبدِلَتْ ياءً لانكسار ما قبلها.
والثاني: أنه من بدا يبدو إذا ظَهَرَ وبادِيَ هُنَا ظَرفُ، وجاء على فاعل كما جاءَ على فعيل نَحْو: قريب، وبعيد، وهو مصدرُ مِثْلُ العافية، والعاقبة، وفي العامل فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: نراك أي فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا فإن قيل ما قبل إلّا إذا تمَّ لا يعمل فيما بعدها كقولك، ما أعطيتُ أحدًا إلا زيدًا دينارًا، لأنَّ إلّا تُعدِّي الفعلَ ولا تعديه إلا إلى واحد كالواو في باب المفعول معه قيل جاز ذلك هنا، لأنَّ بادِيَ ظرف أو كالظرف، مثل جَهْد رأيي إنك ذاهب؛ أي: في جهدِ رأيي، والظروف يتوسع فيها.
والوجه الثاني: إن العاملَ فيه: أتبعكَ؛ أي: اتبعوك في أول الرّأي، أو فيما ظهَر منه من غير أن يبحثوا.
والوجه الثالث: أنه من تمام أراذلنا؛ أي: الأراذل في رَأينا.
والرابعُ: أنَّ العاملَ فيه محذوف؛ أي: يقول ذاك في بادي الرأي به، والرأي مهموز، وغير مهموز، ﴿تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ والازدراء مأخوذٌ من أزرى عليه إذا عَابه،
يُبَاعِدُهُ الصَّدِيْقُ وَتَزْدَريهِ | حَلِيْلَتُهُ وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيْرُ |
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فتَزْدَرِيهِ | وَفِيْ أثْوَابِهِ أسَدٌ هَصُوْرُ |
﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ يقال: عُمِّي عن كذا، وعمِّي عليه كذا بمعنى التبسَ عليه، ولم يَفْهَمْهُ، وخفيَ عليه أمرُهُ.
﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ أصل الجدال، هو: الصراعُ، وإسقاطُ المرء صَاحِبَه على الجدالة، وهي الأرضُ الصلبة، ثم استُعمل في المخاصمة، والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾ والنصحُ بضم النون، وفتحها مع سكون الصاد فيهما، مصدر نَصَح من بابَ فَتَحَ، والنصحُ معناه: تحري الخير، والصلاح للمنصوح له، والإخلاص فيه قولًا وعملًا. ﴿أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ من أغوى الرباعي يُغْوِي إغواءً بمعنى أضله، والإغواء الإيقاع في الغي، وهو الفسادُ الحِسيُّ والمعنويُّ ثلاثيُّهُ غوى الرجل يَغْوِي إذا ضَلَّ وأَخطأ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهامُ الإنكاريُّ في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى﴾.
ومنها: التحقيرُ في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ إشارةٌ إلى تحقيرهم، وإصْغَارِهم بسوء مرتكبهم، وفي قوله ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: على مَنْ
ومنها: تكريرُ الضمير في قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به حتى كان كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم.
ومنها: التشبيه المرسلُ المجمل في قوله: ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ لوجود أداة التشبيه، وحذف وَجْهِ الشبه؛ أي: مَثَلُ الفريق الكافر ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ في عدم البصر والسمع. ومثلُ الفريق المؤمن كالسميع والبصير، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس فأعمى البصيرة أصمها، شبِّهَ بأَعْمى البصرِ أصم السَّمْعَ ذلك في ظلمات الضلالات متردد تَائِهٌ، وهذا في الطرقاتِ متحيِّرٌ لا يهتدي إليها.
ومنها: التنبيه بقوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ على أنه يُمْكِنُ زوالُ هذا العَمَى وهذا الصممُ المعقولُ فيجب على العاقل أن يتذكَّر ما هو فيه، ويَسْعَى في هداية نفسه، ويمكن أن يكونَ من باب تشبيه اثنين باثنين، فقُوبِل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصمُّ بالسميع وهو طباق أيضًا، والعمى والصمم، آفتان تمنعان من البصر والسمع، ولَيْسَتَا بِضِدَّين لأنه لا تَعاقُبَ بينهما، ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه، فيكون من عطف الصفات، كما قال الشاعر:
إِلى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامْ | وَلَيْثِ الْكَرِيْهَةِ في الْمُزْدَحَمْ |
ومنها: المجازُ العقليُّ في قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم﴾ لأنَّ نسبة الإيلام إلى اليوم مجاز عقلي نظير قولهم: نَهَارُه صائم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ شبه خَفَاءَ الدليل بالعَمى في أنَّ كُلًّا يمنع الوصولَ إلى المقاصد، فاشتقَّ من العمى بمعنى الخفاء، ﴿عميت﴾ بمعنى خفيت على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، ويمكن أن يكون
ومنها: الاستفهامُ التوبيخيٌّ المضمن للإنكار في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
ومنها: التهكمُ والاستهزاء في قوله: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾.
ومنها: الحذفُ والزيادة في عِدَّةِ مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٤٦) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ...﴾ الآية، قال مقاتل وغيره: هذه الآية معترضة في قصة نوح عليه السلام حكايةً لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص، وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد:
منها: تنبيهُ الأذهان، ومنعُ السآمة، وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر، والتشويقُ إلى سماع بقية الكلام، ومن المتوقع هنا أن يَخْطُرَ في بال
قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا أخبر أنَّ نوحًا قد أكثرَ في حجاجهم وجدالهم، وأنه كلما ازدادَ في ذلكَ زَادُوا عتوًّا وطغيانًا حين تعجَّلوا منه العذابَ، وقالوا له: ائتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين.. أرْدَفَ ذلك بذكر ما أَيْأسَه من إيمانهم، وأعلمه بأنَّ ذلك كالمحال الذي لا يكون، فالجدالُ والحجاجُ معهم عبث ضائع؛ فلن يؤمن إلا من قد حَصَلَ منه إيمان من قبل، فإِيَّاك أن تَغْتَمَّ على ما كان منهم من تكذيب في تلك الحقبة الطويلة، فقد حَانَ حِينُهُم، وأزِفَ وقت الانتقام منهم.
قولُه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ...﴾ الآيات، هذه الآيات غايةٌ لما ذكر قبلها من الاستعدادِ لهلاكهم، ومقابلةِ السخرية بغير ابتئاسٍ ولا ضجرٍ.
قوله تعالى ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ...﴾ الآيات الثلاث الأُولى تبيِّنُ أنَّ حُكْمَ الله في خلقه العدل بلا محاباة لولي ولا نبيٍّ وأنَّ الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، ويعد ذلك ذنبًا بالنظر إلى مقامهم الرفيع، ومعرفتهم بربهم، وذلك مَا عرض له نوحُ عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلَّف عن السفينة فَكَانَ من المغرقين، كما أنَّ في الآية الأخيرةِ استدلالًا على نبوة محمدِ - ﷺ - وطلب صبره على أذى قومه.
التفسير وأوجه القراءة
٣٥ - و ﴿أَمْ﴾ في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ منقطعة تقدر ببَلْ الإضرابية، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أيقول مشركو مكة: إنَّ محمدًا - ﷺ - افتراه؛ أي: اختلق خبر قوم نوح عليه السلام، وجاءَ به من عند نفسه، أو اختلقَ القرآنَ، وافتراه من عندِ نفسه، فأمره الله سبحانه وتعالى أنْ يجيبهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم
فعلى هذا التفسير تكون هذه الآيةُ (١): دَخيلة في أثناء قصة نوح ومعترضة بين أجزائها؛ لأجل تنشيط السامع لسماع بقية القصة، وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من جملة قصة نوح، كما هو ظاهرُ السِّياق والمعنى عليه ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾؛ أي (٢): بل أيقول قوم نوح ﴿افْتَرَاهُ﴾؛ أي: إن نوحًا افترى بما أتانا به من عند نفسه مسندًا إلى الله تعالى ﴿قُلْ﴾ لهم يا نوح ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾؛ أي: إن اختلقت الوحيَ الذي بلغته إليكم من تلقاء نفسي.. ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾؛ أي: فعليَّ عقاب اكتسابي للذنب، وإن كنتُ صادقًا، وكذبتموني.. فعليكم عقاب ذلك التكذيب ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾؛ أي: من عقاب كسبكم الذنبَ بإسناد الافتراء إليَّ، وقرأ الجمهور ﴿إجرامي﴾ بكسر الهمزة، وهو مصدر أجرم، وهو الفاشي في الاستعمال، ويجوز (جرم) ثلاثيًّا، وقرىء شاذًا: (أجرامي) بفتح (الهمزة) جمع جرم كأقفال جمع قفل، اهـ "سمين".
٣٦ - ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ﴾؛ أي: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح بعد أن استعجلَ قومه بالعذاب، ودعا عليهم دعوتَه التي حَكَاهَا الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾؛ أي: أَوْحَى الله تعالى إليه
(٢) المراح.
والمعنى (١): فلا يشتدَّ عليكَ البؤس والحزن بعد اليوم بما كانوا يفعلون في السنين الطوال، من العناد والإيذاء، والتكذيب لك، ولمَنْ آمن مَعَكَ فَأَرِحْ نَفْسَكَ بعد الآن من جِدَالِهم، ومن إِعراضِهِم، واحْتِقارِهم فَقَد آنَ زَمَن الانتقام، وحَانَ حين العذاب.
قال ابن عباس (٢): إنَّ قومَ نوح كانوا يضربونَ نوحًا حتى يَسْقُطَ فيلفُّونَه في لبد، ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مَاتَ، فيخرج في اليوم الثاني، ويدعوهم إلى الله، ويروى أنَّ شيخًا منهم جَاءَ متكئًا على عصاه، ومعه ابنه فقال: يا بنيَّ لا يَغُرنك هذا الشيخُ المجنون، فقال: يا أبت أمكنّي مِن العَصا فأَخَذَها من أبيه، وضرب بها نوحًا عليه السلام، حتى شجَّه شجَّةً منكرةً فأوحى الله إليه إنه لن يُؤْمِنَ مِن قومك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ.
وحكى محمَّد بن إسحاق عن عبد الله بن عُمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يَبْسطون نُوحًا فيخنِقُونه حتى يغْشَى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادَوا في المعصية، واشتدَّ عليه منهم البلاء، وهو ينتظر الجيلَ بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنحس مِنَ الذي قبله، ولقد يأتي القرنُ الآخِر منهم فيقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجْدادِنا هكذا مجنونًا، فلا يقبلون منه شيئًا فشكا نوحٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ الآيات حتى بلغ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.
٣٧ - ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى لما أخبره أَنهم لا يؤمنونَ ألبتة عرفه وجهَ
(٢) الخازن.
والمراد بقوله (١): ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بحِراسَتِنَا لك، وحفظِنَا لك، وعَبَّر عن ذلك بالأَعْيُن لأنها آلةُ الرؤية، والرؤية هي التي تكونُ بها الحراسةُ والحفظ في الغالب، وجَمَع الأعْيُنَ للتعظيم لا للتكثير، لئلا يناقض قولَه تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾، وقيل: المعنى: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بأعين ملائكتنا الذين جعَلْناهم عُيونًا على حفظك، وقيل: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ بِعِلمنا، وقيل: بأمرنا، ومعنى بِوَحْيِنا؛ أي: بما أوْحَيْنا إليك من كيفية صنعتها.
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾؛ أي: ولا تُراجعني ﴿فِي﴾ شيءٍ من أَمْر ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسَهم بالإشراك بدفع العذاب عنهم، وطلبِ الرحمة لهم، فقد حقَّتْ كلمة العذاب عليهم؛ أي: لا تطلب إمهالَهم فقد حان وَقْتُ الانتقام منهم، وجملةُ قوله: ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ بالطوفان للتعليل؛ أي: لا تطلب منَّا إمهالَهم، فإنه محكوم منا عليهم بالإغراق، وقد مضى به القضاء، فلا سبيلَ إلى دَفْعِهِ، ولا إلى تأخيره، وقيل: المعنى: ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم، فإنَّهم مغرقون في الوقتِ المضروب، لذلك لا يتأخر إغراقُهم عنه، وقيل: المراد بالذين ظلموا: امرأتُهُ وابنُه.
والخلاصة: لا تأخذنَّك بهم رأفةٌ ولا شفقةٌ، وقرأ (٢) طلحة بن مصرف: (بأعيُنَّا) مدغمةً
٣٨ - ﴿و﴾ شَرَعَ نوح عليه السلام ﴿يصنع﴾، ويعمل ﴿الْفُلْكَ﴾ والسفينةُ
(٢) البحر المحيط.
رُوي أنهم قالوا له: أتحولت نَجَّارًا بعد أنْ كُنْتَ نَبيًّا، وليس ذلك بالغريب منهم، فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكْتبَ له النجاح.
وفي وجه سخريتهم منه قولان:
أحدُهما: أنهم كانوا يرونه يَعْمل السفينةَ، فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا.
والثاني: أنهم لَمَّا شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قال: أمشِي بها على الماء، فعجبوا من قوله، وسَخِرُوا به.
وقال ابن عباس (١): اتَّخذَ نُوحٌ السفينةَ في سنتين، فَكَانَ طولها ثلاث مئة ذراع، وعَرْضُها خمسينَ ذراعًا، وطُولُها في السماء ثلاثينَ ذراعًا، وكانت مِن خشب السَّاجِ وجَعَلَ لها ثلاثة بطون فَجَعَل في البطن الأسفل الوحوش، والسباع، والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب، والأنعام، ورَكبَ هو ومن معه في البطن الأعلى، وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره، قال قتادة: وكان بابها في عَرْضِها. انتهى.
وقال كعب الأحبار (٢): عمل نوح عليه السلام السفينةَ في ثلاثين سنة، ورويَ أنها ثلاثة أطباق: الطبقة السفلى: للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى: للإنس، والطبقة العليا: للطير، فلما كثرت أرواث الدواب: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنبَ الفيل، فغَمَزَه فوَقَع منه خنزيرٌ وخنزيرة، ومَسَح على الخنزير فوقع منه الفأر والفأرة، فأقبلوا على الروث، فأكلوه فلما أفسد الفأر في
(٢) الخازن.
٣٩ - ثم هدَّدَهم بقوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وتَرَون ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾؛ أي: أينا يأتيه عذاب في الدنيا يهينه ويذله، وهو عذابُ الغرق، ومَنْ هو أحق بالسخرية، ومَنْ هو أَحْمَدُ عاقبةً ﴿و﴾ تعلمون من ﴿يحل﴾ وينزل ﴿عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: دائم؛ أي: وسوفَ تعلمون أينا ينزل عليه النار الدائم في الآخرة.
والمعنى (١): فإن كنتم لا تعلمون اليومَ فائدةَ ما نعمل، وما له من عاقبة محمودة، فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه، ويَجْلِب له العارَ، والخِزيَ في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب دائم في الآخرة بعد ذلك، وكل ما في الدنيا فهو هيِّن ليِّنٌ بالنسبة إلى ما يكون في الآخرة لانقضائه وزواله، وبقاء ذَاكَ ودَوامِهِ.
فإن قُلتَ (٢): السخريةُ لا تَلِيقُ بمنصب النبوة، فكيف قال نوح عليه السلام: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
قلتُ: إنما سَمَّى هذا الفعلَ سخريةً على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام، كما في قوله ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ والمعنى: إنا نَرى غِبَّ سخريتكم بِنا إذا نزل بكم العذاب.
والتشبيه في قوله (٣): ﴿كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ لمجرد التحقق، والوقوع، أو التجدد
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
٤٠ - وحكى الزهراويُّ أنه يقرأ (١): (وَيحُلُّ) بضم الحاء، ويَحِل بكسرها بمعنى ويَجِبُ، وحتى في قوله ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ ابتدائية، دخلَتْ على الجملة الشرطية، وجُعلت غايةً لقوله ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾؛ أي: وكان يَصْنَعُ الفلكَ حتى إذا جاء وَقْتُ أمْرِنا وقضائنا بهلاكهم، ووَقْتُ عذابنا الموعود به ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾؛ أي: نَبَعَ الماءُ من التنور؛ أي: من وَجْه الأرض أو من تنور الخُبْز، وارتفعَ بشدة، كما تَفُور القدر بغليانها، وكانَ ذلِكَ علامةً لنوح عليه السلام، رُوي (٢) أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيتَ الماء يفور من التنور، فَارْكَب ومن مَعَك في السفينة، فلما نَبَعَ الماء أخبرته امْرَأته.. فرَكِبَ، وقيل: كانَ التنور لآدم، وكانت حواء تقمر فيه الخبز، فصار إلى نوح، وكانَ من حجارةٍ وهو بالكوفة على يمين الداخل، مِمَّا يلي باب كندة في المسجد، والأقرب أن يكونَ المراد من التنور وجه الأرض، ويكون المعنى حتى إذا نَبَع الماء من وجه الأرض ﴿قلنا﴾ لنوح آنئذ: ﴿احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾؛ أي: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين، ذكرًا وأنثى، لِيبقى ذلك النوع بعد غرق سائر الأحياء، فيتناسل وَيبْقَى على الأرض.
وقرأ حفص (٣): ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ بتنوين ﴿كلٍ﴾، ﴿زوجين﴾ مفعول به و ﴿اثنين﴾ نعت توكيد؛ أي: احمل من كل حيوان، زوجين اثنين كل منهما زوج للآخر، وقرأ باقي السبعة بالإضافة؛ أي: احمل من كل فردين متزاوجين اثنين، بأن تحمل من الطير ذكرًا وأنثى، ومن الغنم ذكرًا وأنثى، وهكذا، وتترك الباقي، والمرادُ من الحيوانات التي تنفعُ، والتي تلد وتبيض، فتخرج المضرات، والتي تَنْشَأ من العفونات والتراب كالدود، والقمل، والبق، والبعوض. قال البغوي: وروي عن بعضهم: أنَّ الحيَّة والعقربَ أَتيَا نوحًا عليه السلام، فَقَالتا: إحمِلنا معَك،
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
وقوله: ﴿وَأَهْلَكَ﴾ معطوف على زوجين على قراءة حفص، وعلى اثنين على قراءة غيره؛ أي: واحمل فيها أهلَ بيتك ذكرانًا وإناثًا ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾، والقضاءُ بأنهم من المغْرَقِين بسبب ظلمهم، كما قال: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ والمرادُ (١) به: ابنه كَنعَان، وأمه واعلة أم كنعان، فإنهما كَانَا كافرين، فحَمَل في السفينة زوجتَه المؤمِنةَ وأولادَها الثلاثةَ مع نسائهم: سامًا، وحامًا، ويافثًا، فسامُ أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك، وإفرادُ الأهلِ منهم لمزيد العناية بهم، أو للاستثناء منهم، وقوله: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ معطوف على زوجين، أو على اثنين على اختلاف القراءة؛ أي: واحمِل معك مَنْ آمن، وصَدَّقَكَ واتبعك من غير أهلك.
﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ من قومه، قيل: إنهم كانوا ثمانية: نوحًا عليه السلام، وأبناءه الثلاثة، وأزواجهم. وعن ابن عباس (٢) قال: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانًا، نصفهم رجال، ونصفُهم نساءٌ. وقال مقاتل: في ناحية الموصل قريةٌ يقال لها: قرية الثمانين، سميت بذلك؛ لأنَّ هؤلاء لَما خرجوا من السفينةِ بَنَوْها فسُمِّيَتْ بهذا الاسم.
ولكن لم يبين (٣) الله سبحانه وتعالى لَنَا ورَسولُه - ﷺ - عَدَدَهم فحصره في عدد معين من قبيل الحدس والتخمين، كما لَمْ يبيَّنِ لنا أنواعَ الحيوان التي حملها، ولا كيف حَمَلها، وأدْخلها السفينة، وقد فصل ذلك في سفر التكوين من التوراة.
٤١ - وقوله: ﴿وَقَالَ﴾ معطوف على محذوف تقديره، فحَمَلهم نوحٌ، وقال: ﴿ارْكَبُوا فِيهَا﴾؛ أي: في جوف السفينة، والخطابُ فيه للإنس، وأما غيرهم من
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
إِلَى الْحَوَلِ ثُمَّ اسْم السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا
وهذا تعليم من الله لعباده أنه ينبغي لهم أن يستعينوا بالله تعالى، وقد يكون المعنى أنَّ نوحًا أمرهم بأن يقولُوها كما يقولُها على تقدير اركبوا فيها قائلينَ باسم الله؛ أي: بتسخيره، وقدرته، مجْراها حين تَجْرِي ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا بقوتنا، ويحتمل أن يكونَ مجْريها ومُرْسَاهَا اسمي مكان أو زمان، أي: اركبوا فيها ذاكرينَ اسمَ الله، وقتَ جريانها أو إرسائِهَا، أو مكانهما.
وقرأ مجاهدٌ والحسنُ وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر (٢): ﴿مُجراها﴾ بضم الميم، وقَرأ حمزةُ والكسائِيّ وحَفْصٌ بفتحها، وكلهم ضمَّ ميم ﴿مُرساها﴾، وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفيَّ وزيد بن علي والأعمش: ﴿مجراها ومرساها﴾ بفتح الميمين ظرفيْ زمان، أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة، وقرأ الضَّحاك، والنخعيُّ، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جندب، والكلبيُّ، والجحدري: ﴿مجريها، ومرسيها﴾ سمي فاعل من أجرى وأَرْسى على البدل من اسم الله، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتَين.
﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَغَفُورٌ﴾؛ أي: سَتُورٌ عليكم ذنوبَكم، بتوبتكم وإيمانكم ﴿رَحِيمٌ﴾ لكم إذ نَجَّاكم من الغرق، ولولا مغفرتُه تعالى ورحمته إياكم، لما نجَّاكم لأنكم لا تنفكون عن أنواع الزَّلَّات؛ أي: إنَّ ربِّي لواسع المغفرة لعباده حيثُ لم يهلكهم بذنوبهم، بل يهلك الكافرينَ الظالمينَ منهم، رحيم بهم إذ
(٢) البحر المحيط.
وأخرج الطبرانيُّ (١) وغيره عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنَّه قَالَ: قال رسول الله - ﷺ -: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن الرحيم بسم الله مجريها" الآية.
٤٢ - قوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ هذه الجملة (٢) متصلة بجملة محذوفة دلَّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير فركبوا مُسَمِّينَ وهي تَجْري بهم، والموج جمع مَوْجَةٍ وهي ما ارتفعَ مِن جملةِ الماء الكثير عند اشتدادِ الريح، وشبَّهَها بالجبال المرتفعة على الأرض.
أي: فركبوها، والحال أنها تَجْرِي بهم في موج يشبه الجبالَ، في عُلُوهِ وارتفاعه وامتداده، ومَنْ كابد ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياحُ الشديدة.. عَرَفَ أنَّ المبالغةَ في هذا التشبيه غير بعيدة، فإنَّ السفينة لترى كأنها تهبط في غور عميق كَوادٍ سحيق يُرَى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليهَا، وبعد هنيهة يرى أنَّها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنَّها في شاهق جبلٍ تُريدُ أن تنقضَّ منه، والملَّاحُون يَرْبِطُون أنْفُسُهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيضُ من الموج عليها.
وهذه الجملةُ تدُلُّ على وجود الرياح الشديدة في ذلك الوقت، قال علماءُ (٣) السير: أرسلَ الله تعالى المطَرَ أربعين يومًا وليلةً، وخرج الماء من الأرض، وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعًا، وقيل: خَمْسَةَ عَشَر ذِراعًا حتى أغرَق كل شيء.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
أي: ونادى نوح ابنه كنعانَ قَبْلَ سَيْرِ السَّفينَةِ ﴿و﴾ الحال أنه ﴿كان في معزل﴾؛ أي: في مكان بعيد عزل وبعد وفصل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقرابته وقومه، بحيث لم يَبْلُغه الخطاب بارْكَبُوا؛ أي: قول نوح لمَنْ آمَن ﴿اركبوا﴾ وقيل: ﴿في معزل﴾ عن دين أبيه، وقيل: من السفينة، قيل: وكان هذا النداء قبل أنْ يَسْتَيْقِنَ الناسُ الغرَقَ بل كان في أوَّلِ فور التنور.
وقرأ الجمهورُ (٣): بكسر تنوين ﴿نوحٍ﴾، وقرأ وكيع بن الجراح بضمه أتبع حركتَه حركةَ الإعراب في الحاء، قال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تُعْرَف، وقرأ الجمهور بوصل (هَاءِ) الكناية، بواو، وقرأ ابن عباس: ﴿ابنَهْ﴾ بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل، وأبو الفضل الرازي، وهذا على لغة الأزد الشراة يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر:
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب، وعُقيل، وقرأ السدي: ﴿ابناهْ﴾ بألف وهاء السكت، قال أبو الفتح: ذلك على النداء، وذهبَتْ فرقة إلى أنه على الندبة والرثاءِ.
وقرأ علي وعروة وعلي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنُه جعفر (١): ﴿ابنه﴾ بفتح الهاء من غير ألف، أي: ابنها مضافًا لضمير امرأته، فاكتفي بالفتحة عن الألف، قال ابن عطية: وهي لغةٌ ومنه قول الشاعر:
إِمَّا تَقُوْدُ بِهَا شَاةً فَتَأْكُلُهَا | أَوْ أنْ تَبِيْعَهَ فِيْ بَعْضِ الأَرَاكِيْبِ |
وقرأ عاصم: ﴿يا بنيَّ اركب معنا﴾ بفتح الياء، ووجه على أنه اجتزأَ بالفتحة عن الألف، وأصله يا بُنيا، كيا غلامًا ثُمَّ حذفت، وبقيت الفتحة لِتَدُلَّ عليه، أو على أنَّ الألِفَ انحذفت لالتقائها مع راءِ اركب، وقرأ باقي السبعة بكسر الياء اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة، أو حذِفَت لالتقاء الساكنين.
وقرأ أبو عمرو والكسائي وحفص (٢): ﴿ارْكَبْ مَعَنَا﴾ بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج، وقَرأَ الباقون بعدم الإدغام.
والمعنى: ونادَى نوحٌ ابنه حينَ الركوب في السفينة، وقبل أنْ تجرِيَ بهم، وكان في مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومَنْ آمن من قومه يا بنيَّ اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الذين قضي عليهم بالهلاك، نَهَاه عن الكون مع الكافرين؛ أي: خَارجَ السفينةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ بالكون معهم الكونَ على دينهم.
٤٣ - ثمَّ حكى الله سبحانه وتعالى ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال: ﴿قَالَ﴾ ابن نوح جوابًا لأبيه، ظانًّا أنَّ ذلك المطرَ والتَّفْجِيرَ على العادة ﴿سَآوِي﴾ وألتجىء من وصول الماء إليَّ ﴿إِلَى جَبَلٍ﴾ أتحصن به من الماء ﴿يَعْصِمُنِي﴾ أي
(٢) الشوكاني.
﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: مِن عذاب الله الذي قضاه على الكافرين، فليس الأمر أمر ماء يتقى بالأسباب العادية، وإنما هو انتقامٌ من أشرار العباد الذين أشركوا بالله، وظلموا أنْفُسَهم، وظلموا الناسَ بطغيانهم في البلاد. والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ منقطع بمعنى لكن؛ أي: لا عاصم اليومَ من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو المعصوم، لأنَّ المستثنى هو المعصوم، والمستثنى منه هو العاصم؛ أي: لكن مَنْ عصمه الله سبحانه وتعالى ورحمه، فهو المعصومُ المرحوم، وقد اختص بهذه الرحمة والعصمةِ مَنْ حَمَلَهُم في السفينة.
والمعنى: لا مانِعَ (١) من أمر الله وعذابه اليومَ فإنه يوم قد حق فيه العذاب، وجف القلم بما هو كائن فيه، نفى جنسَ العاصم، فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجًا أوليًّا، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا لأمره، والاستثناء هنا قال الزجاج: هو منقطعٌ؛ أي: لكن مَنْ رَحِمَهُ الله فهو يعصمه فيكون ﴿مَنْ رَحِمَ﴾ في مَوْضع نصب، ويجوز أن يكونَ الاستثناء متصلًا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم؛ أي: لا مَعْصُومَ اليومَ من أمر الله إلّا مَنْ رحمه الله مثل: ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ بمعنى مدفوق و ﴿عيشة راضية﴾ بمعنى مَرْضِيَّةٍ، وقول الشاعر:
بَطِيْءُ الْقِيَامِ رَخِيْمُ الْكَلاَمْ | أَمْسَى فُؤَادِيْ بِهِ فَاتِنَا |
وذكر صاحب "الانتصاف" (١): أنَّ الاحتمالات الممكنة هنا أربعةٌ: لا عَاصمَ إلّا راحم، لا معصومَ إلا مرحوم، لا عاصمَ إلا مرحوم، لا معصومَ إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران استثناء من غير الجنس، فيكون منقطعًا؛ أي: لكنِ المرحومُ يُعْصمُ على الأول ولكن الراجح يَعْصِمُ مَنْ أراد على الثاني، اهـ "زاده" و"شهاب".
وقُرِىءَ (٢): ﴿إِلَّا مَنْ رُحِمَ﴾ بضم الراء، بالبناء للمفعول، وهذا يدل على أنَّ المراد بِمَنْ في قرَاءة الجمهور الذين فتحوا الراءَ هو المرحومُ لا الراحمُ.
﴿و﴾ كان الماء يتزايدَ ويرتفع أثناء المحادثةِ والمراجعة بينهما حتى ﴿حال بينهما﴾؛ أي: بين الولد ووالده ﴿الْمَوْجُ فَكَانَ﴾ الولدُ ﴿مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ بالفعل الهالكين بالطوفان، فتعذَّر خَلاصُه مِن الغرق، قيل كَانَا يتَراجَعَانِ الكلامَ فما استتمَّت المراجعةُ حتى جاءت موجة عظيمةٌ، وكان راكبًا على فرس قد بَطِرَ وأعجب بنفسه، فالتقمته وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق وقال الفراء (٣): بَيْنَهُما؛ أي: بين نوح والجبل الذي ظنَّ أنه يعصمه، والأول أولى لأن تَفَرُّعَ ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ عليه يدل على الأول لا على الثاني، لأنَّ الجبلَ ليس بعاصم.
٤٤ - ثُمَّ ذَكَر ما حدث بعد هلاكهم مبيِّنًا قُدْرَتَه تعالى فقال: ﴿وَقِيلَ﴾؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾؛ أي: أنشفي ما على وَجْهك من ماء الطوفان، ﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾؛ أي: أمسكي عن إرسال المطر، وقدَّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداءِ الطوفان منها ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾؛ أي: ونقَصَ ما بين السماء والأرض من الماء، وفي "القرطبي"، وقيل: ميز الله بين الماءين فَمَا كَانَ من ماء
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وفي "القرطبي": رُوِيَ أنْ الله تعالى أُوحى إلى الجبال أنَّ السفينةَ تُرْسَى إلى واحد منها، فتطاولت وبقي الجودي لم يتطاول تواضعًا لله تعالى، فَاسْتَوَتْ السفينة عليه، وبقيت على أعوادها، وفي الحديث: أنَّ النبي - ﷺ - قال: "لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة". اهـ.
رُوي (١) أنه عليه السلام رَكِبَ في الفلك في عاشر رجب، ومرَّتْ بالبيت الحرام، فطافَتْ به سبعًا، ونَزَل عن الفلك عَاشِرَ المحرم، فصام ذَلِك اليومَ وأمر من معه بصيامه شكرًا لله تعالى، وبَنَوا قريةً بقُربِ ذلك الجبلِ فسمَّوها قريةَ الثَّمانِين، فهي أوَّل قرية عمِّرت على الأرض بعد الطوفان، وقَرأ الأعمش، وابن أبي عَبْلَةَ على ﴿الجوديْ﴾ بسكون الياء مخففةً، قال ابن عطية: وهما لغتان، وقال صاحب "اللَّوامح": هو تخفيفُ ياء النسب، وهذا التخفيفُ بابُهُ الشعرُ لشذوذه ذَكَرَه أبو حيان. ومعنى الآيةِ وجاء نداء (٢) من الملأ الأعلى خُوطِبَتْ به الأرضُ والسماء: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ الذي عليك، والذي تفجرَ من باطنِك، ويا سماء كُفِّي عن المطر، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالًا للأمر، وقضي الأمر بإهلاك الظالمين، واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي، ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: بعدًا من رحمتي، وهَلاكًا بعذابِي قضيت وأثبت للقوم الظالمين بما كَانَ من ظلمهم، وفقدهم الاستعدادَ للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والقائل هو سبحانه وتعالى كما فسَّرنا ليناسب صَدْرَ الآية، وقيل: هو نوحٌ وأصحابه.
(٢) المراغي.
فإنْ قلتَ (١): كيف اقتضَتْ الحكمة الإلهية، والكرمُ العظيم إِغراقَ مَنْ لم يبلغوا الحلم من الأطفال، ولم يَدْخلوا تحت التكليف بذنوبِ غيرهم؟
قلت: الجواب الشافي عن هذا أنْ يقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى متصرِّف في خَلْقِهِ، وهو المالك المطلقُ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يُسْألُ عما يفعل، وهم يسألون، لا ما قيل: من أن الله عَزَّ وَجَلَّ أعْقَمَ أَرْحَامَ نسائهم أربعين سنة، فلَمْ يُولد لهم ولد في تلك المدَّة، لأنَّ هذا الجواب ليس بقويٍّ لأنه يَرِدُ عليه إغراقَ جميع الدواب والهوام والطير.
قال العلماء بالسير (٢): لمَّا استقرت السفينةُ بَعَثَ نوحٌ الغرابَ ليأتِيَه بخبر الأرض، فوقع على جيفة، فلم يرجع إليه، فبَعَثَ الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها، ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوحٌ أن الماءَ قد ذهَبَ، فدعا على الغراب بالخوفِ فلذلك لا يألف البيوتَ، وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها، ودعا لها بالأمان فمن ثم تَأْلَفُ البيوت.
٤٥ - ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة، ودَعاهُ إليها فلم يستجب، ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي﴾ هذا ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ الذي وعدَتنِي بنجاتهم، إذ أمرتني بحَمْلهم في السفينة ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ الذي لا خلف فيه ﴿وَأَنْتَ﴾ يا إلهي ﴿أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾؛ أي: خير الحاكمينَ بالحق، وأفضلُهم كما قلتَ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، فلا يعرض له الخطأ، ولا الحَيف، ولا الظلم.
(٢) الخازن.
قُضَاةُ زَمَانِنَا صَارُوْا لُصُوْصَا | عُمُوْمًا فيْ الْقَضَايَا لاَ خُصُوْصَا |
خَشِيْنَا مِنْهُمُ لَوْ صَافَحُوْنَا | لَلَصُّوْا مِنْ خَواتِمِنَا فُصُوْصَا |
وهذا الدعاء من نوح عليه السلام في غاية التلطُّف، وهو مِثْلُ دعاءِ أيوب عليه السلام ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
والخلاصة: أن نوحًا كانَ يريد أن ينجوَ ابنه الذي تخلَّفَ عن السفينة من الغرق، بعد أَن دعاهُ إليهَا، ومن البَيِّنِ أنَّ هذا الدّعاءَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بعد المحاورة مَعَ ابنِه قبل أن يَحُولَ بينهما الموج، ومعنى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ﴾؛ أي: أراد أن يناديه، ولذلك أَدْخَلَ الفاء؛ إذ لو كان أراد حقيقةَ النداءِ والإخبار عن وقوعه منه لم تَدْخُل (الفاء) في ﴿فقال﴾ ولسقَطَتْ كما لم تَدْخُل في قوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ﴾ و (الواو) في هذه الجملة لا ترتب أيْضًا، وذلك أنَّ هذه القِصَّةَ كانت أوَّلَ ما ركب نوحُ السفينةَ، ويظهر من كلام الطبري أنَّ ذلك مِنْ بعدِ غَرْق الابن
٤٦ - ﴿قال﴾ الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ ابْنَكَ هَذَا ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ الذين أمرتك أنْ تحملهم في الفلك لإنجائهم، وقد بَيَّن سبحانه سبَبَ ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ ابْنك هذا ﴿عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾؛ أي: ذو عمل غير صالح؛ لأنه عَمِلَ عملًا غير مرضيٍّ، وهو الشركُ والفسادُ والتكذيب.
قال الزَّمخشري (١): فإنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قيل: إنه عمل فاسد؟
قلتُ: لمَّا نفاه من أهله نَفَى عنه صِفَتَهم بكلمة النفي التي يُستنفى بها معها لفظ المنفي، وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم لا لأنهم
والظاهر (١): أن الضمير في أنه عائد على ابن نوح، لا على النداءِ المفهوم من قوله: ﴿وَنَادَى﴾ المتضمّن سؤالَ ربَّهِ، وجعَلَه نفس العمل مبالغة في ذمِّهِ هذا على قراءة جمهور السبعة عمل بلفظ المصدر، وقرأ الكسائي: ﴿عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ﴾ على جعله فعلًا ناصبًا ﴿غير صالح﴾ وهي قراءة عليّ وأنس، وابن عباس، وعكرمة، ويعقوب، وعائشة، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي - ﷺ - وهذا يُرَجِّحُ أن الضميرَ يعود على ابن نوح، قيل: ويرجِّح كونَ الضمير في أنه عائدًا على نداءِ نوح المتضمن السؤالَ أنَّ في مصحف ابن مسعود: ﴿إنه عملٌ غيرُ صالح أن تسألني ما ليس لك به علم﴾ وقيل: يعودُ الضمير في هذه القراءةِ على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمَّنه سؤالُ نوح.
المعنى: أن كونَه مع الكافرين، وتركَه الركوبَ مع المؤمنين، عمل غيرُ صالح، وكون الضمير في أنه عائدًا على غير ابن نوح عليه السلام تكلفٌ وتعسفٌ لا يليق بالقرآن، ذكره أبو حيان.
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: إذا وقَفْتَ على جَلِيَّةِ الحال، فلا تَطْلُب مني مطلبًا لا تَعْلَمُ يقينًا أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة، ولمَّا بيَّنَ له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرَّع على ذلك النهي عَنِ السؤال، وهو وإنْ كان نَهْيًا عامًّا بحيث يشمل كُلَّ سؤال لا يعلمُ صاحبه أنَّ حصولَ مطلوبه منه صواب، فهو يَدْخُلُ تحته سؤاله هذا دُخولًا أوليًّا.
أي: فلا تسألني يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح، وقد سمَّى دعاءَه سؤالًا لتضمنه معنى السؤال؛ لأنه تضمَّن ذكر الوعد بنجاة أهله، وما رتَّبه عليه من طلب نجاة ولده.
وفي الآية (٢): إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله في خلقه، بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي، ولا بطلب ما هو محرَّمٌ شرعًا،
(٢) المراغي.
أي: إني أنهَاكَ أن تكون من زُمرةِ مَنْ يجهلون فيسألونَه تعالى أن يبطِلَ حكمتَه، وتقديرَه في خلقه إجابة لشهواتهم، وأهْوائِهم في أنفسهم، أو أهليهم، أو مُحِبِّيهم، وفي ذلك (١) دليلٌ على أنَّ منْ أكبر الجهالات أنْ تسأل بعضَ الصَّالحِينَ والأولياء ما نهى الله عنه نَبِيًّا من أولي العزم مِنْ رسله أن يَسْألَهُ إيَّاه، فإنَّ ذَلِك يقتضي بأن الله يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله.
قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله، وموعظة يرفع بها نوحًا عن مقام الجاهلين، ويُعْلِيه بها إلى مقام العلماء العاملين.
وقرأ الصاحبان (٢) - نافع وابن عامر -: ﴿تَسْألنِّ﴾ بتشديد النون مكسورةً، وقرَأ أبو جعفر، وشيبة، وزيد بن عليّ كذلكَ إلا أنهم أثبتوا (الياء) بعد (النون)، وابنُ كثير بتشديدها مفتوحةً، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ الحسن، وابن أبي مليكة ﴿تسالنِي﴾ من غير همز من سال يسال، وهما يتساولان، وهي لغة سائرة، وقَرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام، وكسر النون، وتخفيفِها وأثْبتَ الياء في الوصل وَرْشٌ، وأبو عمرو، وحَذَفَها الباقون.
٤٧ - قال الزمخشري: المعنى فلا تلتمس ملتمسًا أو التماسًا لا تعلمُ أصَواب هو أم غير صواب؟ حتى تَقِفَ على كنهه، ثمَّ لمَا عَلِمَ نوح بأنَّ سؤاله لم يطابق الواقع، وأنَّ دعاءَه ناشيء عن وهم كانَ يتوهمه، بادَرَ إلى الاعتراف بالخَطَأ، وطلب المغفرة والرحمة فـ ﴿قال﴾ نوح ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ﴾ وألتجِىءُ إليكَ وأحتمي بك من ﴿أَنْ أَسْأَلَكَ﴾ بعد الآن ﴿مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: شَيئًا لا
(٢) البحر المحيط.
والعبرة في الآية من وُجوهٍ (١):
١ - أنَّ ما سأله نوح لابنه لم يكن معصيةً لله تعالى، خَالَفَ فيها أمْرَه أو نَهْيَهُ، وإنما كَانَ خَطأً في اجتهاد بنية صالحةٍ، وعَدَّ هذا ذَنْبًا لأنه ما كان ينبغي لِمِثْلِهِ من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، ومِثلُ هذا الاجتهاد لم يُعْصَم منه الأنبياء، فهم يقعون فيه أحيانًا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم، وتكميله إياهم حينًا بعد حين.
٢ - أنه لا علاقةَ للصلاح بالوراثةِ والأنساب، بل يختلفُ ذلك باختلاف استعداد الأفراد، وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات، ولو كَانَ للوراثة تأثير كبيرٌ.. لكان جميع أولاد آدم سواء، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين.
٣ - أنه تعالى يجزي الناسَ في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم، ولا يحابِي أحدًا منهم لأجل الآباء والأجداد، وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين.
٤ - أنه من يغتر بنسبه، ولا يعمل ما يرضي ربَّه، ويزعم أنه أفضلُ من العلماء العاملين، والأولياءِ الصالحين فهو جاهل بكتاب ربِّه الذي لا يأتيه الباطل
٤٨ - ﴿قِيلَ﴾؛ أي: قال الذي (١) بيده ملكوت كل شيء ومدبر أمر العالم كلّه لنوح بعد أن انتهى الطوفان، وأقلعت السماء عن المطر، وابْتَلَعَت الأرْضُ ماءَها، وصَارَت السكنى على الأرض، والعملُ عليها سَهْلًا مُمْكِنًا، ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ﴾ وانزل من الجودي الذي استوَتْ عليه السفينة، وقرىء ﴿اهبط﴾ بضم الباء ممتعًا ﴿بِسَلَامٍ﴾؛ أي: بسلامةٍ وتحية وأمن ﴿مِنَّا﴾ كما قال تعالى ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩)﴾، وذلك أنَّ الغَرَق لما كان عَامًّا في جميع الأرض، فعندما خَرَجَ نوح عليه السلام من السفينة عَلِمَ أنه ليس في الأرض شيءٌ مما ينتفع به من النبات والحيوانات، وقيل: فكان كالخائف في أنه كيف يَعِيش، وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلَمَّا قَالَ الله له: اهبط بسلام مِنَّا زَالَ عَنْهُ الخَوْفُ؛ لأن ذلك يَدُلُّ على حصول السلامة، وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق ﴿وَبَرَكَاتٍ﴾ في المعايش والأرزاق، وقيل: أي: ونعم ثابتة، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته، ومغفرة زلته، وحَكَى عبد العزيز بن يحيى ﴿وبركة﴾ على التوحيد عن الكسائي؛ أي: وبركات فائضة ﴿عَلَيْكَ﴾ وعلى مَن مَعَكَ في السفينة، ﴿وَعَلَى أُمَمٍ﴾ مؤمنة ناشئة ﴿مِمَّنْ مَعَكَ﴾ في السفينة؛ أي: وعلى ذريات يتناسلون منهم، ويتفرقون في الأرض، فيكونون أُمَمًا مستقلًا بعضها من بعض، يعني بهؤلاء المؤمنين من ذرياتهم، ولم يُعْقِبْ أحدٌ منهم إلَّا أولادَ نوح الثلاثةَ، فانحصر النوع الإنسانيُّ بعد نوح في ذريته، ﴿وَأُمَمٌ﴾ كافرة متناسلة ممن معك ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ في الدنيا بالأرزاق، والبركات، ولا يصيبهم لطفٌ من ربهم ورحمة كما يصيب المؤمنين، فإنَّ الشَّيْطانَ سيغويهم، ويزين لهم الشرك، والظلمَ، والبغْيَ ﴿ثُمَّ﴾ بعد رجوعهم إلى ربهم ﴿يَمَسُّهُمْ مِنَّا﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وَجيع، فيكون جزاؤُهم فيها دارَ البوار، وبئس القرار.
٤٩ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه - ﷺ - أنَّ هذا قصَصٌ من عالم الغيب لا يعرفه هو، ولا قوْمُه من قبل، فقال: ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾؛ أي: من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى
الإعراب
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة مقدرة ببل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري، ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿افْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على نوح على الخلاف في معنى الآية، كما سبق، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على نوح، والجملة مستأنفة ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم، بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَعَلَيَّ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة ﴿عليَّ﴾ خبر مقدم ﴿إِجْرَامِي﴾ مبتدأ مؤخر والجملة الإسمية في محل الجزم بـ (إن) على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول القول ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ﴾ مبتدأ وخبرٌ، والجملة
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.
﴿وَأُوحِيَ﴾ الواو: استئنافية ﴿أوحي﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿إِلَى نُوحٍ﴾ متعلق به، ﴿أَنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾ ناصب وفعل منصوب ﴿مِنْ قَوْمِكَ﴾ متعلق به ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿يُؤْمِنَ﴾، ﴿قَدْ آمَنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ الموصولة، والجملة الفعلية صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، وجملة قوله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾ في محل الرفع خبر أنَّ وجملة أنَّ في تأويل مصدر مرفوع على كونه نائِبَ فاعل لأُوحي تقديره وأُوحي إلى نوح عدمُ إيمان قومه، وجملة أوحي مستأنفة ﴿فَلَا﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع، لا: ناهية جازمة ﴿تَبْتَئِسْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾، ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَبْتَئِسْ﴾، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ صلةٌ لما أو صفة لها.
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)﴾.
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ﴾ والتقدير: أوحي إلى نوح أن اصنع الفلك، ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿اصنع﴾ ﴿وَوَحْيِنَا﴾ معطوف عليه، والتقدير: واصنع الفلكَ حالةَ كونك محروسًا بأعيننا، ومعلمًا بوحينا ﴿وَلَا﴾ (الواو) عاطفة (لا) ناهية جازمة ﴿تُخَاطِبْنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿فِي الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اصنع﴾ ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ ناصب واسمه، وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي.
﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْك﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿وَكُلَّمَا﴾ (الواو) حالية ﴿كلما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿سَخِرُوا﴾، ﴿مَرَّ﴾ فعل ماض ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿مَلَأٌ﴾ فاعل ﴿مَرَّ﴾، ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ صفة لـ ﴿ملأ﴾ والجملة الفعلية فعلُ شرط لـ ﴿كلما﴾ لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿سَخِرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿كلما﴾، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به وجملة ﴿كلما﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿يصنع﴾.
﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿مِنَّا﴾ متعلق به ﴿فَإِنَّا﴾ (الفاء) رابطة ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿نَسْخَرُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ومن معه ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إنَّ) في محل الجزم بـ (إن) الشرطيةِ على كونها جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول (قال) ﴿كَمَا﴾ و ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه (ما) مصدرية ﴿تَسْخَرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة (ما) المصدرية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كسخريتكم ﴿مِنَّا﴾ الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: نسخر منكم سخريةً كسخريتكم منا.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩)﴾.
﴿فَسَوْفَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيانَ عاقبتِنا، وعاقبتكم.. فأقول لكم ﴿سوف تعلمون﴾ ﴿سوف﴾ حرفُ تنفيس للاستقبال البعيد، ﴿تَعْلَمُونَ﴾ فعل
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠)﴾.
﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، وابتداء ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعلَ شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَ﴾، ﴿قُلْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا مَحَلَّ لها منَ الإعراب ﴿احْمِلْ فِيهَا﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ﴾ مقول محكي، والجملة الفعلية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ الغائية، والتقدير: ويصنع الفلك إلى قولنا: احمل فيها وَقْتَ مجيء أمرنا وفوران التنور، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يصنع﴾ وسميت ﴿حَتَّى﴾ غائية لكونها غاية لما قبلها، أعني قوله: ﴿وَيَصْنَعُ﴾ وما بينهما اعتراض، وابتدائية، لدخولها على الجملة، وإن شئت قلت: ﴿احْمِلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْنَا﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿احْمِلْ﴾، ﴿مِنْ كُلٍّ﴾ بالتنوين جار ومجرور حال من ﴿زَوْجَيْنِ﴾ لأنه صفة نكرة قُدمت عليها، ﴿زَوْجَيْنِ﴾ مفعول به لـ ﴿احْمِلْ﴾، ﴿اثْنَيْنِ﴾ صفة مؤكدة لـ ﴿زَوْجَيْنِ﴾؛ أي: احمل فيها زوجين اثنين حالةَ كونهما مِنْ كل حيوان، وعلى قراءة الإضافة الجار
﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فحمل غير الإنس، وقال للإنس: اركبوا. ﴿ارْكَبُوا فِيهَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئتَ قلت: ﴿ارْكَبُوا﴾ فعل وفاعل ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَجْرَاهَا﴾ مبتدأ مؤخر ﴿وَمُرْسَاهَا﴾ معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال مقدرة من (الواو) في ﴿ارْكَبُوا﴾ تقديره: اركبوا فيها حالةَ كونكم مُسمين اللهَ أو قائلينَ بسم الله، وَقْتَ جَرَيَانِها وإرْسَائِها، أو حال مقدرة مِن (الهاء) في ﴿فِيهَا﴾ كما ذكره أبو البقاء، ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه ﴿لَغَفُورٌ﴾ خبره ﴿رَحِيمٌ﴾ صفة ﴿غَفُورٌ﴾ أو خبر ثان، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها تعليلةً.
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)﴾.
﴿وَهِيَ﴾ الواو: حالية ﴿هِيَ﴾ مبتدأ ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على السفينة ﴿بِهِمْ﴾ متعلق به، وكذا قوله: ﴿فِي مَوْجٍ﴾ يتعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من شيء محذوف، تضمنته جملة محذوفة، دلَّ عليها سياق الكلام، تقديره: فركبوا فيها
﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الابن والجملة مستأنفة ﴿سَآوِي﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الابن، والجملة في محل النصب مقول (قال) ﴿إِلَى جَبَلٍ﴾ متعلق به ﴿يَعْصِمُنِي﴾ فعل مفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على ﴿جَبَلٍ﴾، ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو يعصمني، والجملة الاسمية في محل الجر صفة لـ ﴿جَبَلٍ﴾.
﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿لاَ﴾ نافية تعمل عمل إنَّ ﴿عَاصِمَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿أَمْرِ اللَّهِ﴾، ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾، والتقدير: لا عاصم كائن من أمر الله اليوم، كما ذكره أبو البقاء. وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿مَن﴾ اسم موصول، في محل النصب على الاستثناء، والاستثناء متصل إن كان ﴿عَاصِمَ﴾ بمعنى معصوم، ومنقطع إن كان على معناه،
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)﴾.
﴿وَقِيلَ﴾ الواو: استئنافية ﴿قيل﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي﴾ إلى ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ نائب فاعل محكي، والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَرْضُ﴾ منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل الرفع نائِبُ فاعل ﴿ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ فعل أمر، وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع نائب فاعل على كونها جوابَ النداء، ﴿وَيَا سَمَاءُ﴾ منادى نكرة مقصودة معطوف على قوله: ﴿يَا أَرْضُ﴾. ﴿أَقْلِعِي﴾ فعل وفاعل جواب لنداء ﴿يا سماء﴾، ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿وَقِيلَ﴾، ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿وَغِيضَ﴾، ﴿وَاسْتَوَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْفُلْكَ﴾ بمعنى السفينة، والجملة معطوفة على جملة ﴿قضي﴾. ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾ متعلق بـ ﴿استوت﴾. ﴿وَقِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ نائب فاعل محكي، والجملة معطوفة على وقيل الأول، وإن شئت قلت: ﴿بُعْدًا﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أبعد بعدًا، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لِلْقَوْمِ﴾ متعلق بالفعل المحذوف ﴿الظَّالِمِينَ﴾ صفة ﴿لِلْقَوْمِ﴾.
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥)﴾.
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿فَقَالَ﴾ (الفاء) عاطفة ﴿قال﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة ﴿نادى﴾، ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت:
﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾ والجملة مستأنفة ﴿يَا نُوحُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا نُوحُ﴾ منادى مفرد العلم ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لَيْسَ﴾، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جَوَابَ النداء ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَمَلٌ﴾ خبره، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: ذو عمل ﴿غَيْرُ﴾ صفة لـ ﴿عَمَلٌ﴾ ﴿صَالِحٍ﴾ مضاف إليه، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مُعلّلةً لما قبلها، ﴿فَلَا﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع (لا) ناهية جازمة ﴿تَسْأَلْنِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت و (النون) نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول أول ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ (سأل)، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة (إن) على كونها مفرعةً عليها ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿لك﴾ خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾ ﴿به﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾، ﴿عِلْمٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَعِظُكَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كَوْنِها مُعَلَّلَةً لما قبلها ﴿أَنْ تَكُونَ﴾ ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على نوح
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة، ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول (قال)، ﴿إِنِّي﴾ ناصب، واسمه ﴿أَعُوذُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿بِكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جَوَاب النداء ﴿أَنْ أَسْأَلَكَ﴾ ناصب وفعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ (سأل) ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لِي﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾، ﴿عِلْمٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة ﴿سأل﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إني أعوذ بك من سؤالي إياك ما ليس لي به علم، ﴿وإلا﴾ (الواو) عاطفة (إلا) (إن) حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في (لام) (لا)، (لا) نافية ﴿تَغْفِرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ (إن) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على اللَّه ﴿لِي﴾ متعلق به، ﴿وَتَرْحَمْنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية معطوف على ﴿تَغْفِرْ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿أَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص مجزوم بـ (إن) الشرطية على كونه جوابًا لها، واسمها ضمير يعود على نوح ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ خبرها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة (إن) على كونها مقول (قال).
﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨)﴾.
﴿قِيلَ﴾ فعل ماض ﴿يَا نُوحُ﴾ إلى آخر الآية نائب فاعل محكي، والجملة
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)﴾.
﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿نُوحِيهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب حال ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ والعامل فيه ما في الإشارة من معنى الفعل، ﴿مَا﴾ نافية ﴿كُنتَ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿تَعْلَمُهَا﴾ فعل ومفعول به، لأن علم هنا: بمعنى عرف، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿أَنْتَ﴾ تأكيد للضمير المستتر في الفعل ليعطف عليه ﴿وَلَا قَوْمُكَ﴾ معطوف على ضمير الفاعل ﴿مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ (تعلم) وجملة ﴿تعلم﴾ في محل النصب خبر (كان) وجملة (كان) مستأنفة ﴿فَاصْبِرْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما أوحينا إليك من قصة قوم نوح، وإذايتهم له، وأردت بيانَ ما هو الأصلحُ لك.. فأقول لك: اصبر إن العاقبة للمتقين ﴿اصبر﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد،
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ الإجرام والجرم بمعنى، وهو اكتساب الذنب، وفي "المصباح" جرم جرمًا من باب: ضرب إذا أذنب، واكتسب الإثم، وبالمصدر سُمِّيَ الرجلُ، والاسم منه الجُرم بالضم، والجريمة مثله، وأجرمَ إجرامًا كذلك، اهـ.
﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾ يقال: ابتأس فلانُ إذا بَلَغَه ما يَكْرَه، اهـ "سمين"، وفي "المختار": فلا تبتئس؛ أي: لا تَحْزَن ولا تشتك، والمبتئسُ: الكَارِهُ الحزينُ، اهـ. ويقال: ابْتَأَس إذا اشتد بُؤْسُه وحُزْنُه ﴿الْفُلْكَ﴾ السفينةُ، ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ وعلى المفرد كما هنا، ويذكر بمعنى المركب، ويؤنَّث بمعنى السفينة ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾، والمرادُ بالأعين هنا شدة الحِفاظ والحراسة، وفي "الكرخي": قوله: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بمرأى منَّا، وحفِظَنا، فلا يمكن إجراؤُه على ظاهره، لوجوه:
منها: أنَّه يقتضي أن يكونَ لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قولَهُ تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾.
ومنها: أنه يقتضي أن يُصْنَعَ الفلك بتلك الأعين كقولك: قطعتُ بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أنَّ ذلك باطلٌ إلى غير ذلك ﴿سَخِرُوا مِنْهُ﴾ يقال: سَخِرَ منه إذا استهزأ به، ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: يذله ويفضحه، ويَحِلُّ التلاوةُ بكسر الحاء، ويجوزُ لغةً ضَمُّها. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: عذابُنا أو وقته، اهـ "زاده". فهو واحد الأمور، لا الأوامر، ويصح أن يُرادَ الثاني على معنى: جاء أمْرُنا بركوب السفينة، اهـ "شهاب".
﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ الفور والفَوران: الارتفاع القويُّ يقال في الماء إذا نَبَعَ وجرى، وإذا غلا وارتفع، والمرادُ منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم، والتنور ما يُخْبَزُ
﴿وَأَهْلَكَ﴾؛ أي: واحمل أهلك، وأهلُ بيتِ الرجل: نساؤه وأولاده وأزواجَهم، ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا﴾، والركوبُ: العلو على شيء متحرك، ويتعدَّى بنفسه، واستعماله هنا بكلمة (في) ليس لأجل أنَّ المأمورَ به كونهم في جوفها، لا فوقَها؛ كما ظنَّ فإنَّ أَظْهَرَ الروايات أنه عليه السلام جَعَلَ الوُحُوشَ ونظائِرَها في البطن الأسفل، والأنعام في الأوسط، ورَكِبَ هو ومن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية، والمكانية في الفلك، والسر فيه أنَّ معنى الركوب العلو على شيءٍ له حركة إمَّا إراديَّةٌ كالحيوان، أو قسرِيَّةٌ كالسفينةِ، والعَجَلَة ونحوهما، فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل، فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾، وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة (في) فيقال: ركبتُ في السفينة، وعليه الآية الكريمة وقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾، وقوله: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾ اهـ، "أبو السعود".
﴿مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ بفتح الميم فيهما إما مصدران، الأول من جَرَتْ تَجْري جَرْيًا، والثاني: من رَسَتْ تَرْسُو رسُوًّا من باب سما أو رَسْوًا من باب عدا ومرسىً إذا ثبتَتْ؛ أي: جَرَيانُهَا ورسُوّها، أو اسمَا زمان؛ أي: زمان جَرْيها ورُسوها، أو مكان؛ أي: مكان جريها ورسوها.
أحدهما: أنه أبْدلَ الكسرةَ فتحةً فانقلبت ياءُ الإضافة ألِفًا، ثُمَّ حذفت الألِفُ كما حُذفت الياءُ مع الكسرة؛ لأنها أصلُها.
والثاني: أنَّ الألِفَ حذفت من اللفظ لالتقاء الساكنين ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾ والموج جمع موجة، وهي ما ارتفعَ عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي﴾ يقال: بَلَعَ الماءَ يبلعه مثل مَنَعَ يمنَع وبلع يَبلَع مثل حَمِدَ يَحْمَدَ لغتان؛ حكاهما الكسائِي، والفراء، والبَلَعُ الشرب، ومنه البَالُوعَةُ: وهي الموضع الذي يُشْرَب منه الماء، وبئر ضيِّقُ الرأس، يجري إليها مَاءُ الغُسَالة ﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ الإقلاع الإمساك، يقال: أقلع المطر إذا انقطع، ومنه أقْلَعَت الحُمَّى، وقيل: أقلع عن الشيء إذا تركه، وهو قريب من الأوّل ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾؛ أي: نقص يقال: غاض الماء وغضته، وهو هنا مبنيٌّ للمجهول إذ يستعمل لازمًا ومتعديًا، وعبارة "السمين": الغَيْضُ: النقصانُ، وفعله لازمٌ ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى: ﴿وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ﴾؛ أي: تَنْقُص، وقيل: بل هو هنا متعدٍ أيضًا؛ لأنه لا يبنى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه، اهـ "سمين". وفي "المختار": غاض الماء إذا قَلَّ ونَضَبَ؛ أي: ذَهَب في الأرض، وبابه بَاعَ وانغَاضَ مثله وغيضَ الماء: فعِل به ذلك، وغَاضَ الله يتعدَّى وَيلْزَمُ، وأغَاضَه الله أيضًا، وغيض الماء تَغْيِيضًا نَقَصه، وحبَسَه ويقال: غَاض الكرام؛ أي: قلوا، وفَاضَ اللئَامُ؛ أي: كَثُرُوا، اهـ. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: أحكم، وفرغ منه يعني أهلك قومُ نوح علَى تَمَامِ، وإحكام اهـ "قرطبي" ﴿بُعْدًا﴾ يقال: بَعِدَ بكسر العين بُعْدًا بضم فسكون، وبَعَدًا بفتحتين: إذا بَعُدَ بُعْدًا بعيدًا بحيث لا يُرجى عوده، اهـ "بيضاوي".
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ﴾ يقرأ بتشديد النون مع فتح اللام قبلَها، فالنون المشددة للتوكيد،
﴿وَبَرَكَاتٍ﴾ وهي عبارة عن بقاء النعمة ودَوامِها، وثَباتِها مشتق من بروك الجَمَل، وهو ثبوته، ومنه البُرْكَةُ لثبوت الماءِ فيها ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ والأنباءُ جمع نبأ وهو الخبر الذي له شَأن.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: مجاز بالحذف في قوله: ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾؛ أي: عقوبةُ إجرامي.
ومنها: جناس الاشتقاق بين إجرامي، وتجرمون.
ومنها: الإتيان، بـ (إن) الدالة على الشك في قوله: ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ لبيان أنه على سبيل الفرض بخلاف إجرامهم، فإنه محقق.
ومنها: الجناسُ المماثل بين قوله: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾، وقوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾، لأنَّ حقَّ العبارة أنْ يقال: ويصنعها.
ومنها: حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة في قوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ فالمضارع بمعنى الماضي، أي وصَنَعَها.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ إذ السخرية لا تليق بمقام الأنبياء، وقيل: لجزائهم من جنس صنيعهم، فلا يَقْبُحُ كما في "الشهاب".
ومنها: الطباق بين الأرض والسماء، والجناس الناقص بين ﴿ابْلَعِي﴾ و ﴿أَقْلِعِي﴾ في قوله: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ وكلاهما من المحسنات البديعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ابْلَعِي﴾ شبَّهَ تغويرَ الماء وشُرْبَه في بطنها ببلع الحيوان؛ أي: إزدراده لطعامه وشرابه في جوفه بجامع الوصول إلى الجوف في كلٍّ، فاشتق منه ابلعي بمعنى غوري على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، واستُعير البلع الذي هو من فعلِ الحيوانَ للنَّشَفِ دلالةً على أنَّ ذلك ليس كالنَّشَفِ المعتاد الكائن على سبيل التدريج.
ومنها: التفخيم في قوله: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ عَبَّر عن الغرق بأمر الله تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره.
ومنها: الإبهام ثُمَّ التفسيرُ في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾؛ أي: إلا الراحمَ، وهو الله تعالى تفخيمًا لشأنه الجليل بالإبهام ثمّ التفسير، وبالإجمال ثُمَّ التفصيل، وإشعارًا بعلية رحمته في ذلك بموجب سبقها على غضبه.
ومنها: حكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها، في قوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾، وحقُّ العبارة أن يقال، وهي جَرَت بهم.
ومنها: التشبيهُ في قوله: ﴿فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ شبَّه كلَّ موجة من ذلك بالجبل في عِظَمِها وارْتِفاعِها على الماء وتراكمها.
ومنها: التعرُّض لوَصف الظلم في قوله: ﴿لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ للإشعار بعِلِّيَّتِهِ للهلاك، ولتذكير ما سَبَق مِنْ قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عِدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا...﴾ الآيات، هذا القصصُ ذكِرَ في سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا، وفي كل منهما من العظة والعبرة ما
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ...﴾ الآية، مناسبتُها لما قبلها: لَمَّا ذَكَرَ تبليغَ هود عليه السلام قومَه دعوةَ ربه.. ذَكَر هنا رَدَّ قومه لتلك الدعوة في جحودهم للبينة، ثم إنذاره لهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر سبحانه وتعالى إصرارَ قوم هود على العنادِ، والعتو وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات... ذكَرَ هنا عاقبةَ أمْرِه وأمْرِهِم، وأنه تعالى أصابَه برحمة مِن لدنه، وأنْزلَ بهم العذابَ الغليظَ كِفاءَ كفرِهم بآياتِه وعصيان رسله.
قولُه تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا...﴾ الآيات، جاء هذا القصص في بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردِّهم لها بعد احتجاجه عليهم، وصالحُ هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته - الحجر - وهي بين الحجاز والشام، وسيأتي ذِكْرُ قصصهم في سورة الشعراء، والنمل، والقمر، والحجر، وغيرها، وفي كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يُغني عنه غيره.
قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبتُها لِمَا قبلها: أنه تعالى لَمَّا ذَكَر أن قومه قالوا له: إننا لفي شك مما تدعونَا إليه، وسألُوه الآية على ما دعاهم إليه.. ذَكر هنا أنه قال لهم: إنَّ آيتَه على رسالته هي الناقة، وأنَّ مَنْ يَمَسُّها بسوء يُصيبه عذابٌ أليم.
التفسير وأوجه القراءة
٥٠ - قوله: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ معطوف على ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾؛ أي: وأرسلنا إلى عاد الأُولى أخاهم في النسب، والوَطنِ لا في الدين. هودًا أي واحدًا منهم يسمى هودًا، وقوم عاد كانوا عبدة أوثان، وقيل: هم عاد الأُولى وعاد الأخرى، فهؤلاء عاد الأولى، وعادُ الأخرى هم: شدادٌ ولقمانُ وقومُهما
٥١ - و ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على تبليغ ما أدْعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وحده، والبراءة من الأوثان ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: مالًا مَجْعولًا لي في مقابلة التبليغ، فتَتَّهموني بأني أريد المنفعةَ لنفسي، خاطب بهذا كل نبي قَوْمَه إزاحة للتهْمةِ، وتمحيضًا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامَتْ مَشُوبةً بالمطامع، وقرأ ابن محيصن: (يا قوم) بضم الميم كقراءة حفص ﴿وقل رب احكُم﴾ بالضم، وهي لغةٌ في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره، ذكره أبو حيان ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما ثوابي الذي أرْجُوهُ على تبليغي إياكم ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي﴾؛ أي: إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة مبرأً من هذه البدَعِ الوثنيَّةِ التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيلَ لحفظِ ذِكرى الصالحين، فزَيَّن لهم الشيطانُ تعظيمَ هذه التماثيل، فَعَبَدُوها، وإنما جعل (١) الصلةَ فِعلَ الفطرة لكونه أقدمَ النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر.
وإنما قال (٢) فيما تقدم في قصة نوح: ﴿مَالًا﴾، وهنا قال: ﴿أَجْرًا﴾ لذكر
(٢) الشوكاني.
و (الهمزة) في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للتوبيخ داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أي أتغفلون عن هذه القصة فلا تعقلونَها أو أفلا تعقلونَ أنّ أجْرَ الناصحين، إنما هو من رب العالمين، أو أفلا تعقلون ما يقال لكم: فتميزوا بين ما يضرُّ وما ينفع، وإني لكم ناصح أمين، فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه.
٥٢ - ثمَّ أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: سَلُوهُ أن يغفرَ لكم ما تقدَّم من شرككم ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ من بعد التوحيد بالندم على ما مضى، وبالعزم على أن لا تعودوا لمثله، وفي "الخازن": ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: آمنوا (١) به، فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان؛ لأنه هو المطلوب أولًا ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ يعني من شرككم، وعبادتكم غيره، ومن سالف ذنوبِكم، انتهى. وفي "روح البيان" واللَّائِحُ (٢) للبال أن المعنى: اطْلُبُوا مغفرةَ الله تعالى لذنوبكم السالفةِ من الشرك، والمعاصي بأنْ تُؤمنوا به، فإنَّ الإيمانَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ أي يقطع، ثم ارْجِعُوا إليه بالطاعة؛ فإنَّ التحليةَ - بالمهملة - بعد التخلية - بالمعجمة -، فتكون ثُمَّ على بابها في التراخي، انتهى.
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: يُنْزِل المطرَ عليكم حالةَ كونه ﴿مِدْرَارًا﴾؛ أي: كثيرَ الدرور والنزول مُتَتابعًا مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه، وذلك (٣) أنَّ بِلاَدَهم كانت مخصبةً كثيرة الخير والنعم، فأمسك الله عنهم المطر مُدَّةَ ثلاث سنين، فأجْدَبَتْ بلادهم وقحطت بسبب كفرهم، فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إنْ آمنوا باللهِ وصدقوا رسوله أَرْسَلَ اللَّه إليهم المطرَ فأحيا به بلادهم كما كانت أولَ مرَّةٍ.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
وعن الحسن (٢) بن علي رضي الله عنهما أنه وَفَد على معاويةَ فلَمَّا خَرَجَ قال لَهُ بَعضُ حُجّابه: إنّي رَجلٌ ذُو مال ولا يُولد لي، علِّمني شيئًا لَعَلَّ الله يرزقني ولدًا، فقال الحسنُ: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى رَبَّما استغفر في يوم واحد سبع مئة مرة، فوُلد له عشر بنين فبلغ ذلك معاويةَ فقال: هلَّا سأَلْتَه مِمَّن قال ذلك، فوَفَدَ وَفْدةً أخرى فسأله الرجلُ فقال: ألَم تَسْمَعْ قولَ هود: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ وقول نوح: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾.
٥٣ - ثم أجابه قومه بما يَدُل على فَرْطِ جهالتهم، وعظيم غباوتهم، فـ ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾؛ أي: ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول، ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي﴾ عبادة ﴿آلِهَتِنَا﴾ وأصْنَامنا التي نَعْبُدُها، وأصله تاركينَ سقطت النونُ للإضافة، وقولُه: ﴿عَنْ قَوْلِكَ﴾ حال مِنَ الضمير في ﴿تاركي﴾ (٣) كأنه قِيلَ: وما نَتْرُكُ آلهتنا صَادِرينَ عن قولك؛ أي: صادرًا تركنا عن قولك بإسناد حال الوصف إلى الموصوف، ومعناه: التعليل، على أَبْلِغ وَجْهٍ لدلالته على كونه عِلَّةً فاعليَّةً،
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بمصدَقين فيما تَدعُونا إليه من التوحيد، وتركِ عبادةِ الآلهة وهو إقناطٌ له من الإجابة والتصديق.
٥٤ - ﴿إِنْ نَقُولُ﴾؛ أي: ما نقول في شأنك شيئًا ﴿إِلَّا﴾ قولَنا ﴿اعْتَرَاكَ﴾ وأصَابَك ﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾؛ أي: بجُنون فقوله: ﴿اعْتَرَاكَ﴾ جملة (١) مفسِّرة لمصدر محذوف، تقديره: ما نقولُ في شأنك إلّا قَوْلَنا اعتراك؛ أي: أصَابَكَ، من عراه يعروه إذا أصابه ﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾؛ أي: بجنون لسبك إياها، وصدِّك عنها، وعداوتك مكافأةً لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين، وتهذي بهذيان المرسمين.
والخلاصة (٢): أنَّ ما تقولُه لا يصدر إلا عَمَّنْ أصيب بشيءٍ اقتضى خروجه عن قانون العقل، فلا يُعْتَدُّ به؛ لأنه مِنْ قبيل الخرافات، والهذيانات التي لا تصدر إلا عَن المجانين، فكيف نؤمن بك، فأجابهم بما يَدُلُّ على عدم مبالاته بهم، وعلى وثوقه بربه، وتوكله عليه، وأنَّهم لا يقدرون على شيءٍ مما يريده الكفار، بل الله سبحانه وتعالى هو الضار النافع، فـ ﴿قَالَ﴾ لهم هودٌ ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ سبحانَه وتعالَى على براءتي من إشراككم ﴿وَاشْهَدُوا﴾ أنتم؛ أي: وأقولُ اشْهَدُوا؛ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر ﴿أَنِّي بَرِيءٌ﴾ تنازع فيه أُشْهِدُ اللَّهَ واشهدوا؛ أي: واشهدوا أنتم على أنّي بريء ﴿مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾؛ أي: من إشراككم
٥٥ - ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ سبحانَه وتعالَى أو ﴿مِمَّا﴾ تشركونه به من آلهة غير الله، فـ (ما) إما مصدرية أو موصولة وإشهادُ الله تعالى حقيقةٌ وإشهادهم استهزاءٌ بهم، واستهانةٌ؛ إذ لا يقولُ أحد لِمَنْ يعاديه أُشْهِدُكَ على أنِّي بريء منك إلّا وهو يريد عَدَم المبالاة ببراءته، والاستهانةَ بعداوته. واعلم: أنهم لمَّا سموا أصنامَهم آلِهةً وأثبتوا لها الضررَ.. نفى هود بقوله: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ الآيةَ كونَهم آلهةً رأسًا ثُمَّ نَفى
(٢) المراغي.
والكيد (١) إرادةُ مضرة الغير خفيةً، وهو من الخَلْقِ: الحِيلةُ السيئةُ، ومن الله التدبيرُ بالحقِّ، لمجازاة أعمال الخلق؛ أي: إن صحَّ ما تفوهتم به من كون آلهتكم مما تَقْدِر على إضرار من يَسُبُّها، ويَصُدُّ عن عبادتها، فإنِّي بَريءٌ منها، فكونوا أنتم وآلهتكم ﴿جَمِيعًا﴾ حال من ضمير ﴿كيدوني﴾ على قصد إهلاكي، بكل طريق ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾؛ أي: لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، (فالفاء) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما.
قال الزمخشري (٢): فإن قلت: هلَّا قيل: إني أُشهدُ الله وأشهدكم؟
قلت: لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهادٌ صحيح، ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تَهاونٌ بدِينهم، ودَلالة على قلة المبالاة بهم فحَسْبُ، فَعَدَلَ به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيءَ به على لفظ الأمر بالشهادة، انتهى. وقولُه: ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ هذا من (٣) معجزاته الباهرة؛ لأنَّ الرَّجُلَ الواحدَ إذا أَقْبَل على القوم العظام، وقال لهم: بَالِغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجِّلوني، فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقًا من الله بأنه يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداء،
٥٦ - وهذا هو المُرادُ بقوله: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ﴾، واعتمدتُ {عَلَى
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
والغرض من هذا الكلام: الدلالة على عظمته تعالى وجَلالة شأنه وكبرياء سلطانه، وباهر قدرته، وأنَّ كُلَّ مقدور، وإن عَظُم وجَلَّ في قوته وجثته، فهو مستصغرٌ إلى جنب قدرته، مقهور تحت قهره وسلطانه، منقاد لتكوينه فيه ما يشاء غَيْرُ ممتنع عليه ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إنه سبحانه وتعالى، وإن كان قادرًا على عباده، لكنَّه لا يظلمهم، ولا يفعلُ بهم إلا ما هو الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به.
وقولُ هود عليه السلام: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يتضمَّن جملةَ أُمورٍ (٢):
١ - البراءة من إشراكهم الذي اقْتَرَفُوه، ولا حقيقةَ له.
٢ - إشهاد الله على ذلك ثِقَةً منه بأنه على بينةٍ من ربه.
٣ - إشهادهم أيضًا على ذلك إعلامًا منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره.
٤ - طَلَبهُ منهم أن يجمعوا كُلُّهم على الكيد له، والإيقاع به بلا إمهال، ولا
(٢) المراغي.
وفي هذا دليل واضح على أنه لا يخافُهم، ولا يخافُ آلهتهم.
٥ - عدم الخوف منهم ومن آلهتهم إذ وكل أمْر حفظه وخِذْلانِهم إلى ربه وربهم، ومالك أمره وأمرهم المتصرف في كل ما دبَّ على وجه الأرض، والمسخِّر له، وهو سبحانه وتعالى مطلع على أمور العبادة، مجازٍ لهم بالثواب والعقاب، كافٍ لمَن اعتصَمَ به، وهو لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق مِنْ رسله، ولا يفوته ظالم.
٥٧ - ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن تتولَّوا، بحذف إحدى التائين؛ أي: وإن تستمروا على التولي، والإعراض عن الإيمان، والتوبة، فلا تفريطَ مِنّي في الإبلاغ ﴿فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: لأنَّي قد أدَّيْتُ ما عليَّ من الإبلاغ، وإلزام الحجة، وكنتم محجوجينَ، بأن بلغكم الحقُّ فأَبَيْتُم إلا التكذيب، والجحود، فالمذكور دليل الجواب المحذوف.
وقال الزمخشري (١): فإن قلتَ: الإبلاع كان قبل التولي، فكيف وَقَعَ جزاءً للشرط؟
قلت: معناه: فإن تَولَّوا لم أُعاقَبْ على تفريط في الإبلاع، فإنَّ ما أرسلت به قد بَلَغَكُم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة، وعداوة الرسول.
وقرأ الجمهور فإن ﴿تَوَلَّوْا﴾؛ أي: تتولوا مضارع تولَّى، وقرأ الأعرج، وعيسى الثقفي، ﴿تَوَلَّوْا﴾ بضم التاء واللام مضارع ولَّى قوله: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ كلام مستأنف، أي: ويهلككم الله، ويجيء بقوم آخرين، يَخْلُفونكم في دياركم وأموالكم.
وقرأ الجمهورُ: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ﴾ بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف، وقرأ حفص في رواية هبيرة بجزمها عطفًا على موضع الجزاء، وقرأَ عبد الله كذلك، ويجزمُ ﴿ولا تضرُّوه﴾ وقرأ الجمهورُ ﴿وَلَا تَضُرُّونَهُ﴾ سبحانه وتعالى بتوليكم
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾؛ أي: رقيب مهيمن عليه، يحفظه من كل شيء، فلا يَخْفى عليه أعمالكم، ولا يَغْفَلُ عن مجازاتكم، قيل: (وعلى) بمعنى اللام فيكون المعنى: إنَّ ربي لكل شيء حفيظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء قرأ عبد الله: (ولا تنقصونه شيئًا).
٥٨ - ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: عذابنا، فيكون مصدرَ أمر ﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ من قومه، وكانوا أربعةَ آلاف ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ عظيمة كائنةٍ ﴿مِنَّا﴾ لهم؛ أي: نجَّيْنَاهم بمجرد رحمة وفضل لا بأعمالهم؛ لأنه لا يَنْجُو أحدٌ، وإن اجتهد في الأعمال، والعمل الصالح، إلا برحمة الله تعالى كما هو مذهبُ أهل السنة، وذلك أنَّ العذابَ إذا نزل قدْ يَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، فلما أَنْجَى الله المؤمنينَ مِنْ ذلك العذابِ كان برحمته وفضله وكرمه، وقيل: الرحمة هي الإيمان.
﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ﴾؛ أي: ونجينا هودًا والذين آمنوا معه ﴿مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾؛ أي: شديد، وهو تكرير لبيان ما نجيناهم منه؛ أي: كانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وهي السموم التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة، وتخرج من أدبارهم، فتقطعهم إرَبًا إربًا، وفيه (١) إشارة إلى أنَّ العذاب نوعان: خفيف، وغليظ؛ فالخفيفُ هو: عذاب الشَّقَاوةِ المقدَّرة قبل خلق الخلق، والغليظ هو عذابُ الشقيّ بشقاوة معاملات الأشقياء، التي تَجْرِي عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود، وقيل (٢): المراد بالعذاب الغليظ هو عذابُ الآخرة، وهذا هو الصحيح ليحصل الفرقُ بين العذابين.
رُوي (٣): أنَّ الله تعالى لما أهلك عادًا، ونجَّى هودًا، والمؤمنين معه، أتَوا مكة، وعبدوا الله تعالى فيها حتى ماتوا، قال في "إنْسان العيون"، كُلُّ نبيّ من
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
٥٩ - ﴿وَتِلْكَ﴾ القَبِيلَة التي كذبت هودًا فأهلكْناهم، والخطابُ لقوم محمَّد - ﷺ - ﴿عاد﴾؛ أي: قبيلة تسمَّى عادًا بالصرف، قال الكسائي؛ إنَّ من العرب من لا يصرف عادًا، ويجعلُه اسمًا للقبيلة ﴿جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: كفروا بها، وكذَّبوها، وأنكروا المعجزات ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ تعالى، هودًا وَحْدَه؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جَمَع هنا؛ لأنَّ مَنْ كَذَّب رسولًا فقد كَذَّب جميعَ الرسل، لاتفاق كلمتهم على التوحيد، وأُصول الشرائع، وقيل: إنهم عصوا هودًا ومَنْ كان قَبْلَه من الرسل أو كانوا بحيثُ لو بَعَث الله إليهم رُسُلًا متعددين.. لكذَّبُوهم.
وهذا الجحودُ والعصيانُ شامل لكل فرد منهم؛ أي: لرؤسائهم وأسافلتهم، ﴿وَاتَّبَعُوا﴾؛ أي: الأسافِلُ ﴿أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ﴾؛ أي: أمر كل شخص متعظم في نفسه، متكبر على العباد ﴿عَنِيدٍ﴾؛ أي: كثير العناد، والمعارضة للحق، أي: واتبع السفلة أمْرَ رؤسائهم الدُّعاةِ إلى الضلال، وإلى تكذيب الرسل، والمعنى: عَصَوْا مَنْ دعاهم إلى الإيمان، وما يُنْجِيهم، وأطاعُوا مَنْ دعاهم إلى الكفر، وما يُرْدِيهم، وقال في "التبيان": الجبار المتعظم في نفسه، المتكبر على العباد، والعنيد الذي لا يقول الحقَّ، ولا يقبَله
٦٠ - ﴿وَاتَّبَعُوا﴾؛ أي: أتبع الرؤساءُ والمرؤوسون منهم، وأرْدِفوا ﴿فِي هَذِهِ﴾ الدار ﴿الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ تَتْبَعُهم، وتلحقهم وتنصرف معهم؛ أي: أتبعوا كلهم في الدنيا إبعادًا، وطردًا عن الرحمة، وعن كل خير على لسان الأنبياء، فما جاء نَبِيٌّ بَعْدَهم إلَّا لعنهم؛ أي: جُعلت (١) اللعنة من الناس تابعةً لهم، ولازمة تكبهم في العذاب كَمَنْ يأتي خَلْفَ شخص فيدفعه من خلف، فيكبُّهَ، وإنما عبَّر عن لزوم اللعنة لهم بالتبعية للمَبَالغَةِ، فكأنها لا تفارقهم، وإن ذَهَبوا كلّ
وإنما كرَّر ألا ودعاءَه عليهم، وأعادَ ذِكرهم تهويلًا لأمرهم، وتفظيعًا له، وحثًّا على الاعتبار بهم، والحَذَرِ من مثل حالهم، وفي "الخازن" فإنَّ (١) قلت: اللعنة معناها الإبعادُ والهلاكُ، فما الفائدة في قوله: ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ﴾؛ لأنَّ الثانيَ هو الأولُ بعينه؟ قلتُ: الفائدةُ فيه: أنَّ التكرارَ بعبارتين مختلفتين، يدُلُّ على نهاية التأكيد، وأنَّهم كانوا مستحقّين له.
٦١ - وقولُه: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ متعلق بمحذوف كما مَرَّ نظيره أي: وأرسلنا إلى ثمود، وهي قبيلةٌ من العرب، سُمُّوا باسم أبيهم الأكبر، ثمودَ بن عاد بن إرم بن سام، وقيل: إنما سُمُّوا بذلك لقلةِ مائهم من الثَّمد، وهو الماءُ القليلُ، وقرأ ابن وثاب، والأعمش (٢) ﴿وإلى ثمودٍ﴾ بالصرف على إرادة الحيّ، والجمهورُ على منع الصرف ذهابًا إلى القبيلة، وفي "تفسير أبي الليث": إنما لم ينصرفْ لأنه اسمُ قبيلة، وفي الموضع الذي ينصرف جعله اسمًا للقوم ﴿أَخَاهُمْ﴾؛ أي: واحدًا منهم
(٢) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
٦٢ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قومُ صالح بعد دعوتهم إلى الله تعالى، وعبادته ﴿يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا﴾؛ أي: مأمولًا؛ أي: كُنَّا نرجوا أن تكونَ فِينَا سَيِّدًا مطاعًا ننتفع برأيك، ونَسْعَدُ بسيادتك ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ الذي أظهرته لنا من ادعائك النُّبوَّةَ ودعوتك إلى التوحيد، أو قَبْلَ (١) هذا الوقت، وهو وقت الدعوة، كانَتْ تلوح فيك مخايل الخير، وأمارات الرشد والسداد، فإنَّكَ كنت تعطفُ على فقرائنا، وتعِينَ ضُعَفَاءنا، وتعود مَرْضَانَا فقَوِيَ رجاؤُنا فيك، فكنَّا نَرْجوك أنْ تكون لنا سَيِّدًا ننتفع بك ومستشارًا في الأمور، ومسترشدًا في التدابير، فلما سَمِعْنَا منك هذا القَول انقطع رجاؤُنا عنك، وعَلِمْنا أن لا خَيْرَ فيك.
والخلاصة (٢): أي قَدْ كنت عِندنا موضعَ الرجاءِ لِمَهامِّ أمورِنا؛ لمَا لَكَ من رجاحة عقل، وأصالَة رأي، ولحسبك ونَسبِك قبل هذه الدعوة، التي تَطلُب بها إلينا أن نبدل ديننا، زَعْمًا منك أنه باطل، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك، ثُمَّ ذَكَروا أسباب انْقِطَاع رَجائِهم بقولهم متعجِّبين تعجّبًا شديدًا ﴿أَتَنْهَانَا﴾، و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري التعجبي؛ أي: أتمنعنا من ﴿أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: ما عَبَدُوه من الأوثان، والعدول فيه إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
أي: عجيب منك أن تَنْهانا عن عبادة ما كان يعبدُ آباؤنا من قبلنا، وقد سِرْنا نحن على نهجهم، ولم ينكره أحدٌ علينا، ولم يستقبحه فكيف تُنْكِرُه؟ ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ من التوحيد، وترك عبادة الأوثان ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: موقع في الريبة، أي: في اضطراب القلوب، وانتفاء الطمأنينة من أرابَه إذا أوقعه في الريبة، وإسنادُ الإرابة إلى الشك، وهو أن يبقى الإنسانُ متوقِّفًا بين النفي والإثبات مجازي لأنَّ الريبَ هو انتفاء ما يرجح أحد طرفي النسبة، أو تعارض الأدلة لا نفس الشك.
(٢) المراغي.
والخلاصة: إننا لفي شك مِمَّا تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان موقع في الريب، و (إنا) و (إننا) (١) لغتان لقريش قال الفراء: مَنْ قال إنَّنا أَخْرج الحرفَ على أصله؛ لأنَّ كناية المتكلمين (نا) فاجتمعت ثلاث نونات، ومن قال: (إنا) استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثةَ، وأبْقَى الأولتين، انتهى. والذي أختاره أنَّ (نا) ضمير المتكلمين، لا تكون المحذوفة؛ لأنَّ في حذفها حَذْف بَعْضِ اسم، وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية من (إنَّ) فحذفت لاجتماع الأمْثال، وبقي من الحرف (الهمزة) والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف، وأيضًا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمينَ، ولم يُعْهَدْ حذف نون (نا) فكان حَذْفُها من إنَّ أوْلَى،
٦٣ - فأجابهم صالح فـ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخْبِرُوني عن حالي معكم، ﴿إِن كُنْتُ﴾ في الحقيقة ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾؛ أي: على بصيرة، وبرهان صادر ﴿مِنْ رَبِّي﴾ ومالك أمري ﴿وَآتَانِي﴾؛ أي: أعطاني ﴿مِنْهُ رَحْمَةً﴾ تعالى؛ أي: من قِبَله رِحمةً خاصةً من عنده، جَعَلني بها نبيًّا مرسلًا إليكم، وهذه الأُمورُ (٢)، وإن كانت متحققةَ الوقوع، لكنَّها صدرت بكلمة الشك، اعتبارًا بحال المخاطبين؛ لأنهم في شك من ذلك، كما وَصَفوه عن أنفسهم، والاستفهام في قوله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾ استفهام إنكار بمعنى النفي؛ أي: فمن يمنعني، ويُنْجِيني ويحفظني من عذاب الله ﴿إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ تعالى، وخالَفْتُه بالمساهلة في تبليغ الرسالة، وفي المَجاراة معكم؛ أي: فَمَنْ يَنصُرَني منجيًا من عذابه تعالى، أي لا ناصرَ لي يمنعني من عذاب الله ﴿إِنْ عَصَيْتُهُ﴾، وخالفته في تبليغ الرسالة، وراقبتكم، وفترت عما يجِبُ عليّ من البلاغ ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي﴾ بتثبيطكم إياي {غَيْرَ
(٢) الشوكاني.
٦٤ - ﴿وَيَا قَوْمِ﴾؛ أي: ويا قومي ﴿هَذِهِ﴾ البهيمةُ التي خَرَجَتْ من الصخرة ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾ الإضافة فيه للتشريف، كبيت الله؛ لأنه أخرجها لهم من صخرة في جوف الجبل حاملًا من ذكر على تلك الصورة دفعة واحدة وقد حصل منها لبنٌ كثيرٌ يكفي الخلقَ العظيمَ؛ أي: هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترَوْن من أكْلِها وشربها، وجميع شؤونِها، قد جعلها الله سبحانه وتعالى ﴿لَكُمْ آيَةً﴾ بينة منه، ومعجزةً باهرةً تدل على صدقي، وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها ﴿فَذَرُوهَا﴾؛ أي: فاتركوها، وخلوها ﴿تَأْكُلْ﴾ وتَشْرَبُ فهو من باب الاكتفاء نظيرَ قوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبردَ مِمَّا ﴿فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، من المراعِي والمياه، تَرْعَ نباتَها وتشرب ماءها، فليس عليكم كلفة في مؤونتها، وكانت هي تنفعهم، ولا تَضُرُّهم، لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها، وقرأَتْ (١) فرقة (تأكُلُ) بالرفع على الاستئناف أو على الحال ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾؛
٦٥ - فشَقَّ عليهم ذلك ﴿فَعَقَرُوهَا﴾؛ أي: عَقَرها، وقَتلَها قُدارُ بن سالف بأمرهم، ورضاهم فَضرَبها في رجليها، فأوقَعها، فذَبَحُوها، وقسَمُوا لَحْمَها على جميع القرية على ألْفٍ وخمس مئةٍ دارٍ ﴿فَقَالَ﴾ لهم صالح بعد قتلهم لها ﴿تَمَتَّعُوا﴾؛ أي: استمتعوا بحياتكم، وعِيشُوا ﴿فِي دَارِكُمْ﴾؛ أي: في بلادِكم ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ من العَقْر: الأربعاءَ، والخميسَ، والجمعةَ، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرابع، يوم السبت، وإنما أقاموا ثلاثةَ أيام؛ لأنَّ الفَصِيلَ بَقِيَ يَنُوح على أمه ثلاثةَ أيام، وانفجَرتْ له الصخرة بعد تلك المدَّة فدَخَلها، ولما عقروا الناقَةَ.. أنذرهم صالح بنزول العذابِ، ورَغَّبَهم في الإيمان، فقالوا: يا صالحُ، وما علامةُ العذاب؟ فقال: تصبح وجوهكم في اليوم الأول مصفرة، وفي الثاني محمرةً، وفي الثالث مسودةً، وفي الرابع يأتيكم العذاب صَبِيحَتُه ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: نزولُ العذاب عقبَ ثلاثَةِ أيام ﴿وَعْدٌ﴾ من الله سبحانه وتعالى وَعَدكم حين انقضائِها بالهلاك ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ فهو لم يكذبكم فيه مَنْ أعلمكم ذلك، أو وعد غَيْرُ كذبٍ كالمجلود بمعنى الجلد الذي هو الصلابة، والمفتون بمعنى الفتنة.
رُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال (١): "إنَّ صَالِحًا لمَّا دعا قومَه إلى الله تعالى كذَّبوه، فضاق صدره، فسأل ربَّه أنْ يأذن له في الخروج من عندهم، فأذن له فَخَرَج، وانتهى إلى ساحل البحر، فإذا رجل يمشِي على الماء، فقال له صالح: ويْحَكَ من أنت؟ فقال: أنا من عباد الله، كنت في سفينة كانَ قومها كفَرة غيري، فأهلكهم الله تعالى، ونجاني منهم، فخَرَجْتُ إلى جزيرة أتعَبَّدُ هناكَ فأَخْرُجُ أحيانًا، وأطلب شيئًا من رزق الله، ثم أرجع إلى مكاني فمضى صالح، فانتهى إلى تل عظيمٍ، فرَأى رجلًا فانتهى إليه، وسَلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، فقال له صالِحٌ: مَنْ أنتَ؟ قال: كانت ههنا قريةٌ، كان أهلها كفارًا غيري، فأهلكهم الله
٦٦ - ثُمَّ ذَكَرَ وقوعَ ما أوعِدوا به، فقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: جَاءَ ثمودَ
ثم بين عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد الذي فَعَلَ هذا بقوم صالح، ﴿هُوَ الْقَوِيُّ﴾؛ أي: القادر على أنْ
(٢) البحر المحيط والمراح.
٦٧ - ثمَّ ذَكَر مآلَ أمرهم وشديدَ عقابه بهم فقال: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفُسَهم بالكفر والتكذيب؛ أي: أهلكتهم ﴿الصَّيْحَةُ﴾؛ أي: صيحةُ جبريل مع الزلزلة في اليوم الرابع من عَقر الناقة، وذكَّر الفعلَ لأنَّ الصيحة، والصياح، واحد مع كون التأنيث غير حقيقي، وللفصل بينهما بالمفعول، والصيحة فعلةٌ تدل على المرة من الصياح، وهو الصوت الشديد، يقال: صاح يَصِيح صياحًا؛ أي صوت بقوة قيل: هي صيحة جبريل، فقد صاح عليهم، وقيل: صيحة من السماء، فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطَّعَتْ قلوبهم في صدورهم، فماتوا جميعًا، وتقدَّم في الأعراف، فأخذَتْهم الرجفةُ قيل: ولعلَّها وقعت عَقِبَ الصيحة، ﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: صاروا ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ وبلادهم، وفي مساكنهم: ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: ساقطينَ على وجوههم ميتين، لا يتحركون، ولا يضطربون عند نزول العذاب، قد لَصِقُوا بالتراب كالطير، إذا جثمت حَالةَ كَوْنِهِم
٦٨ - ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾؛ أي: كأنهم لم يقيموا في بلادهم، فإنهم صاروا رمادًا، أي: أصْبَحُوا جاثمين، حالَ كونهم مماثلينَ لمن لم يوجد، ولم يقم في مكان قط، ولا يَخْفَى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ، وسرعته. اللهم إنَّا نعوذ بك من حلول غضبك.
وقوله: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر، لزيادة البيان، وصرَّح بكفرهم مع كونه معلومًا تعليلًا للدعاء عليهم بقوله: ﴿أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾؛ أي: جَحَدُوا بوحدانية الله تعالى، فهذا تَنْبِيه وتخويفٌ لِمَنْ بَعْدَهم، وقوله: ﴿أَلَا بُعْدًا﴾ مَصْدَرُ (١) وُضعَ موضع فِعْلِه،
الإعراب
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠)﴾.
﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: وأرسلنا إلى عاد، والجملة المحذوفة معطوفةً على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ عطفَ قصة على قصة، ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول به لـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ المحذوف ﴿هُودًا﴾ عطف بيان له، أو بدل منه، ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ سائلًا قال: ماذا قال لهم؟ فأجابه بقوله، قال: يا قوم اعبدوا اللَّه. ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إلى آخرِ الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت:
(٢) روح البيان.
﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١)﴾.
﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإنْ شئتَ قلتَ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول (قال) ﴿لا﴾ نافية ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ فعل ومفعول أول ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿أَجْرًا﴾ مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة الفعلية في محل النصب مقول (قال) على كَوْنِهَا جوابَ النداء ﴿إِنْ﴾ نافية ﴿أَجْرِيَ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه ﴿إِلَّا﴾، أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى الَّذِي﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿فَطَرَنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملةُ صلة الموصول ﴿أَفَلَا﴾ (الهمزة) للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف تقديره: أتغفلون عن هذه القصة و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾ نافية ﴿تَعْقِلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملةُ معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على المنادى الأول ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كَوْنِها جَوابَ النداء، ﴿ثُمَّ تُوبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على
أحدها: أن المراد بـ ﴿السَّمَاءَ﴾ السحاب أو المطر، فذكَّر الحال على المعنى.
والثاني: أنَّ مِفعالًا للمبالغة، فيستوي فيه المذكر والمؤنث، مثل فَعُولٍ كصبور، وشكور، وفعيل كجريح.
والثالث: أنَّ الهاءَ حُذِفَتْ عن مفعال على طريق النسب قاله مكي، اهـ "سمين". ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾، ﴿إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قُوَّةً﴾ تقديره: قوة مضافة إلى قوتكم، ﴿وَلَا تَتَوَلَّوْا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية ﴿مُجْرِمِينَ﴾ حال من ﴿الواو﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ على كونها مقول القول.
﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا هُودُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿مَا﴾ نافية ﴿جِئْتَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿بِبَيِّنَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿جِئْتَنَا﴾ والجملة في محل النصب، مقول ﴿قال﴾ على كونها جوابَ النداء، ﴿وَمَا﴾ (الواو) عاطفة (ما) نافية أو حجازية، ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ أو في محل الرفع اسم (ما) ﴿بِتَارِكِي آلِهَتِنَا﴾ خبر المبتدأ، أو خبر (ما) ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿عَنْ قَوْلِكَ﴾ متعلق ﴿بِتَارِكِي﴾ فـ ﴿عَن﴾ للتعليل، وهذا هو الأولى، أو حال من الضمير في
﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥)﴾.
﴿إن﴾ نافية ﴿نَقُولُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على قوم هود، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿اعْتَرَاكَ﴾ فعل ماض، ومفعول ﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿بِسُوءٍ﴾ متعلق بـ ﴿اعْتَرَاكَ﴾ وجملة ﴿اعْتَرَاكَ﴾ في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ما نقول في شأنك إلا قولَنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة إنَّ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿وَاشْهَدُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة (إن) على كونها مقول ﴿قال﴾، ﴿أَنِّي بَرِيءٌ﴾ ناصب واسمه وخبره ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بريء﴾ وجملة (أن) في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تنازع فيه الفعلان قبله، ولكن أعمل فيه الثاني؛ أي: واشهدوا براءتي مما تشركون ﴿تُشْرِكُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلةُ لـ (ما) أو صفة لها، والعائدُ أو الرابط محذوف تقديره: مما تشركونه، ويحتمل كونُ (ما) مصدرية ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المحذوف من ﴿تُشْرِكُونَ﴾ ﴿فَكِيدُونِي﴾. الفاء: رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كانت آلهتكم كما قلتم من أنها تنفع، وتضر.. فكيدوني ﴿كيدوني﴾ فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية ﴿جَمِيعًا﴾ حال من (واو) الفاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم على كونها جوابًا للشرط المحذوف، والشرط المحذوف في محل النصب مقول القول، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف ﴿لا﴾ ناهية
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾.
﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق به ﴿رَبِّي﴾ بدل من الجلالة، ﴿وَرَبِّكُمْ﴾ معطوف على ﴿رَبِّي﴾، وجملة ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ في محل الرفع خبر، (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقولُ القول على كَوْنِها مَسُوقة لتعليل مَا قَبلها ﴿مَا﴾ نافية ﴿مِن﴾ زائدة ﴿دَابَّةٍ﴾ مبتدأ أول، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ثان ﴿آخِذٌ﴾ خبرٌ للمبتدأ الثاني ﴿بِنَاصِيَتِهَا﴾ متعلق بـ ﴿آخذ﴾ وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب مقول القول على كونها مسوقةً لتعليل ما قبلها ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه ﴿عَلَى صِرَاطٍ﴾ خبره ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ صفة ﴿صِرَاطٍ﴾ وجملة (إن) مستأنفة في محل النصب مقول القول.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيانَ حُكم ما إذا توليتم.. فأقول لكم ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ (إن) حرف شرط جازم ﴿تَوَلَّوْا﴾ فعل مضارع وفاعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، أصله (تتولوا) حذفت إحدى التاءين لتوالي الأمثال، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا أبالي بكم، ولا مؤاخذةَ عليّ، وجملة الشرط في محل النصب مقولٌ لجوَابِ إذا المقدَّرة ﴿فَقَدْ﴾ (الفاء) تعليلية (قد) حرف تحقيق ﴿أَبْلَغْتُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها
﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية (لما) حرف شرط غير جازم ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لمّا)، ﴿نَجَّيْنَا هُودًا﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿هُودًا﴾ والجملة الفعلية جواب (لما)، وجملة (لمَّا)، مستأنفة ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من فاعل ﴿آمَنُوا﴾ ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾، ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿بِرَحْمَةٍ﴾، ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ عَذَابٍ﴾ متعلق به ﴿غَلِيظٍ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٍ﴾ والجملة الفعلية مستأنفة لا معطوفة على ﴿نَجَّيْنَا﴾ الأول لأنَّ الأول مقيد بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ إلخ، والثاني لا يتقيد به، اهـ "فتوحات".
﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾.
﴿وَتِلْكَ عَادٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿جَحَدُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق به، والجملة مستأنفة سيقت للإخبار عن حالهم، وليسَتْ حالًا ممَّا قبلها كما في "الجمل" ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَحَدُوا﴾، ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَحَدُوا﴾ {أَمْرَ كُلِّ
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ متعلق بمحذوف معطوف على قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾، ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول ﴿أَرْسَلْنَا﴾ المحذوف ﴿صَالِحًا﴾ عطف بيان له ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول القول على كَوْنِهَا جَوابَ النداء ﴿ما﴾ نافية، ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ مبتدأ مؤخر و ﴿من﴾ زائدة ﴿غَيْرُهُ﴾ صفة لـ ﴿إِلَهٍ﴾ والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾.
﴿هُوَ﴾ مبتدأ ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾ فعل ومفعول ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾ فعل ومفعول معطوف على ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ (الفاء) عاطفة تفريعية، ﴿استغفروه﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية معطوفةٌ مفرعة على الجملة الاسمية في قوله: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ﴾، ﴿ثُمَّ تُوبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾؛ ﴿إِلَيْهِ﴾
﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿يَا صَالِحُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا صَالِحُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملةُ النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿قَدْ كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿فِينَا﴾ متعلق بـ ﴿مَرْجُوًّا﴾، ﴿مَرْجُوًّا﴾ خبر كان ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ (كان)، وجملة ﴿كاَنَ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جوابَ النداء، ﴿أَتَنْهَانَا﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري ﴿تنهانا﴾، فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَنْ نَعْبُدَ﴾ ناصب وفعل منصوب، وفاعله ضمير يعود على قوم صالح، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره أتنهانا عن عبادة ما يعبد آباؤنا ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿نَعْبُدَ﴾، ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يعبده آباؤنا ﴿وَإِنَّنَا﴾ ناصب واسمه ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ جار ومجرور خبر (إن) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة (إن) معطوفة على جملة ﴿كان﴾ على كونها جوابَ النداء، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ (شك)، ﴿تَدْعُونَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على صالح ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة ﴿شَكٍّ﴾ والجملة الفعلية صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿إِلَيْهِ﴾.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة مستأنفة ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول ﴿قال﴾، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل
﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على ﴿يَا قَوْمِ﴾ الأول ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال) على كونها جوابَ النداء، ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور حال من ﴿آيَةً﴾ لأنه نعت نكرة قدمت عليها ﴿آيَةً﴾ حال من ﴿نَاقَةُ﴾، ﴿فَذَرُوهَا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم هذه ناقةَ الله، وأردتم بيانَ ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم ﴿ذروها﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول ﴿قال﴾، ﴿تَأْكُلْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الناقة ﴿فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَأْكُلْ﴾، ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا﴾
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)﴾.
الفاء: عاطفة ﴿عقروها﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة معطوفة على جملة ﴿قال﴾ ﴿فَقَالَ﴾ الفاء عاطفة، (قال) فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة معطوفة على جملة (عقروها). ﴿تَمَتَّعُوا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَمَتَّعُوا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول (قال) ﴿فِي دَارِكُمْ﴾ متعلق به. ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تَمَتَّعُوا﴾ ﴿ذَلِكَ وَعْدٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ صفة ﴿وَعْدٌ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال).
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال لهم صالح، وأردتَ بيانَ حال المؤمِنينَ بهِ، وحال المكذبين له بعد ما جاء العذابُ فأقول لك: ﴿لما﴾ حرف شرط. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب (لما) وجملة (لما) في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿صَالِحًا﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مَعَهُ﴾ متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾ أو بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ (رحمة). ﴿وَمِنْ خِزْيِ﴾ متعلق بمحذوف تقديره ونجيناهم وذلك المحذوف معطوف على ﴿نَجَّيْنَا﴾ وقال بعضهم: إنه متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾ الأول، و (الواو)
﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)﴾.
﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿الصَّيْحَةُ﴾ فاعل لـ (أخذ)، والجملة معطوفة على ﴿نَجَّيْنَا﴾ على كونها جواب (لما). ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ (الفاء) عاطفة، ﴿أصبحوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿جَاثِمِينَ﴾ ﴿جَاثِمِينَ﴾ خبر ﴿أصبحوا﴾ وجملة ﴿أصبح﴾ معطوفة على جملة ﴿أخذ﴾ ﴿كَأَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف تقديره: كأنهم ﴿لَمْ يَغْنَوْا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿كَأَنْ﴾ وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل النصب حال من واو ﴿أصبحوا﴾ تقديره: فأصبحوا جاثمينَ، حالَ كونهم مماثلينَ لمن لم يوجد، ولم يقم في مكان قط ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿إِنَّ ثَمُودَ﴾ ناصب واسمه ﴿كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿بُعْدًا﴾ مصدر نائب مناب فعله منصوبٌ بفعله المحذوف تقديره: ألا بعدوا بعدًا ﴿لِثَمُودَ﴾ متعلق بـ ﴿بُعْدًا﴾ وزيدت اللام لبيان المدعو عليهم كـ (لام) سُقيًا لك.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾؛ أي: جعلًا، ورشوة، ومعناه: لست بطامع في أموالكم. ﴿مِدْرَارًا﴾ من (١) أبنية مبالغة الفاعل، يستوي فيه المذكر والمؤنث،
﴿جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ وجَحَد يتعدى (١) بنفسه، ولكنه ضمِّن معنى كَفَرَ، فتعدى بحرف الجر، كما ضمِّن كفر معنى جحد، فتعدى بنفسه في قوله: ﴿بعد ذلك﴾ ﴿كفروا ربَّهم﴾. وقيل: إن كَفَرَ كشكر في تعديته بنفسه تارةً، وبحرف الجر أخرى، اهـ "سمين". ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ أصله عصيوا؛ لأنه من عَصَى يَعْصِي كرمى يرمي، تحركت الياء وانفتحَ ما قبلها، قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألِفُ لبقاءِ دَالها فصار عَصَوا بوزن رَمَوا.
﴿وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا. والعنيد: الطاغي المتجاوز في الظلم، من قولهم: عَنَدَ يعند، من باب: جَلَسَ إذا حادَ عن الحق من جانب إلى جانب، ومنه عند الذي هو ظرف لأنه في معنى جانب في قولك: عندي كذا؛ أي: في جانبي، وعند أبي عبيد: العنيد، والعنود،
إِنِّيْ كَبِيْرٌ لاَ أُطِيْقُ الْعَنَدْ
وفي "المختار" عند من باب جلس؛ أي: خَالفَ ورد الحقّ، وهو يعرفه فهو عنيد، وعاند، اهـ. ﴿لَعْنَةً﴾؛ أي: طردًا وبعدًا عن كل خير.
﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ أي: لا زالوا (١) مبعدينَ من رحمة الله تعالى. والبعد: الهلاك، والبعدُ التباعد من الخير، يقال: بَعُدَ يبعد من باب: كرم بعدًا، إذا تأخر، وتَبَاعد، وبَعِدَ يبعد، من باب: طَرِب، بعدًا إذا هلكَ. ومنه قول الشاعر:
لاَ يَبْعُدَنْ قَوْمِي الَّذِيْنَ هُمُ | سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفةُ الْجُزُرِ |
فَلاَ تَبْعُدَنْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ | وَكُلُّ امْرِىءٍ يَوْمًا بِهِ الْحَالُ زَائِلُ |
مَا كَانَ يَنْفَعُنِيْ مَقَالُ نِسَائِهِمْ | وَقتلتُ دُوْنَ رِجَالِهِمْ لاَ تَبْعَدِ |
(٢) الفتوحات وروح البيان.
أحدهما: غير مكذوب فيه، ثُمَّ حذف حرف الجر، فاتصل الضمير مرفوعًا مستترًا في الصفة، ومثله يوم مشهود.
والثاني: أنه جَعَلَ هو نفسَه غير مكذوب؛ لأنه قد وَفَى به، وإذا وَفى به.. فقد صَدَقَ، اهـ. والوعد خبر موقوت كأنَّ الواعدَ قال للموعود: إنّني أفِي به في وقته، فإنْ وفى.. فقد صَدَقَ، ولم يكذبه. ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾، وأصلُ الأخذ: التناولُ باليد، ثم استعمل في الأشياء المعنوية، كأخذ الميثاق، والعهد، وفي الإهلاك، وحُذفت تاء التأنيث من الفعل إما لكون المؤنث مجازيًّا، أو للفصل بالمفعول، أو لأن الصيحةَ بمعنى الصياح، والصيحةُ فعلة تَدُلُّ على المرة
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجازُ المرسل في قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾؛ لأنَّ المرادَ بالسماءِ المطر، فهو من إطلاق المحل، وإرادة الحال؛ لأنَّ المطر ينزل من السماء.
ومنها: المبالغة في ﴿مِدْرَارًا﴾ لأن مفعالَ من صيغ المبالغة؛ ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا﴾.
ومنها: التعجيز في قوله: ﴿فَكِيدُونِي﴾ لأنَّ المرادَ من هذا الأمر التعجيز.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾؛ لأنَّ الأخذَ بالناصية عبارة عن الغلبة والقهر، أو فيه استعارة تمثيليَّة، شبَّهَ الخلقَ، وهم في قبضة الله، وملكه وتحت قهره وسلطانه، بالمالك الذي يقودَ المقدورَ عليه بناصيته، كما يقاد الأسيرُ والفرس بناصيته.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ لأن الأمرَ كناية عن العذاب.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ لبيان أنَّ الأمرَ شديد عظيم، لا سهلٌ يسيرٌ.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾؛ أي: عصَوا رَسولَهم هودًا من باب إطلاق الكل وإرادة البعض، وفيه: تفظيع لحالهم، وبيان أنَّ عصيانَهم له، عصيانٌ لجميع الرسل، السابقين، واللاحقين.
ومنها: المبالغة في التهويل والتفظيع في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ عَادًا﴾، ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ﴾ لأنَّ في تكرير حرف التنبيه، وتكرير لفظ عاد من المبالغة في التهويل من حالهم ما لا يخفى.
ومنها: القصر في قوله: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ﴾؛ أي: هو سبحانه لا غيره أنشأكم وخلَقَكم؛ لأنه فاعل معنوي، وتقديمه يدل على القصر ذكره في "روح البيان".
ومنها: الإسناد المجازي في قوله ﴿لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾، فإسناد الريب إلى الشك مجاز، لأن الموقع في الريب بمعنى القلق والاضطراب، هو الله سبحانه وتعالى لا الشك، ولكن أسنده إليه للمبالغة كجد جده.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من يمنعني، ويحفظني من عذاب الله؛ لأن النصرةَ هنا مستعملة في لازم معناها، وهو المنع والحفظ.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾ كبيت الله بمعنى أنها لا اختصاصَ لأحد بها.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾؛ أي: ترع نباتَهَا وتشرب
ومنها: المجاز المرسل، في قوله: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ لأنَّ العاقرَ واحد منهم، وهو قدار بن سالف، فأطْلَقَ ما للبعض على الكل، لرضاهم بفعله، وأمرهم له.
ومنها: حكاية الحال الماضيةِ استحضارًا لها في قوله: ﴿مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: ما عَبَد آباؤنا.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ﴾ لزيادة البيان.
ومنها: تكرار حرف التنبيه، ولفظ ثمود مبالغةً في التهويل مِنْ حالهم.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾.
ومنها: الطباقُ بين ﴿نَجَّيْنَا﴾ ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ لأن معنى أَخَذَ أهلك.
ومنها: الزيادة، والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى...﴾ الآيات، وأعلم أنَّ ترتيب (١) قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئًا من أخبار
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذَكَرَ بَعضَ ما جرى بين إبراهيم والملائكة، وَصَل به بعضًا آخر كالتتمة له.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن ما يدل على أن لوطًا كان قلقًا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم، وذلك قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ ذَكَرَ هنا أنَّ الرُّسلَ بشروه بأن قومَه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأنَّ اللَّهَ تعالى مهلِكُهُم ومنجيه مع أهله من العذاب.
قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا...﴾ الآية، تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف، وذكرت هنا مرة أخرى، وقد جاء في كل منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس في الآخر، مع الإحكام في السبك، وحسن الرصف، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت.
التفسير وأوجه القراءة
٦٩ - ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاءت رسلُنَا من الملائكة جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، على ما قاله ابن عباس وعطاء في صورة الغلمان، الذين يكونون في غاية الحُسنِ والبهاءِ والجمالِ، إلى إبراهيم عليه السلام حالةَ كونهِم متلبسينَ بالبشارة له بالولد من سارةَ بدليل ذكره في سورة أخرى، ولأنه أطلق البشرَى هنا، وقيَّد في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ والمطلق محمول على المقيد، وهذا شروع (٢) في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، لكنها مذكورة هنا توطئةً لقصة لوط لا استقلالًا، ولذا لم يذكرهما على أسلوب ما قبلها وما بعدها، فلم يقل وأَرْسَلنا إبراهيمَ إلى كذا كما قال ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾، {وَإِلَى
(٢) الفتوحات.
و ﴿رُسُلَنَا﴾ يقرأ بسكون السين وضمها حيثما وقع مضافًا للضمير بخلاف ما إذا أضيف إلى مظهر، فليس فيه إلا ضمها، والرسل: هم الملائكة كما مر، واختلفوا في عددهم. فقال ابن عباس، وعطاء، كانوا: ثلاثةً جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ. وقال الضحاك: كانوا تسعةً. وقال مقاتل: كانُوا اثني عشر مَلَكًا. وقال محمَّد بن كعب القرظي كان جبريلُ، ومعه سبعة أملاك. وقال السدي: كانوا أحَدَ عَشَرَ مَلَكًا على صور الغلمان الحسان الوجوه.
وقول ابن عباس هو الأولى؛ لأن أقلَّ الجمع ثلاثةٌ. وقوله: ﴿رُسُلَنَا﴾ جمع فيحمل على الأقل، وما بعده غير مقطوع به، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحي، ولم يثبت شيء منه في عددهم. والبشرى هي: البشارة بإسحاقَ ويعقوبَ. وقيل: بإهلاك قوم لوط وإنجائه. والأول أظهر. وقوله: ﴿قَالُوا﴾ استئناف بياني؛ أي: قالت الرسلُ لإبراهيم. ﴿سَلَامًا﴾؛ أي: سلمنا عليك سلامًا أو نسلم عليك سلامًا، هذه تحيتهم التي وَقَعَتْ منهم، وهي لفظ سلامًا، وهو مصدر معمول لفعل محذوف وجوبًا؛ أي: سلمنا سلامًا ﴿قَالَ﴾ إبراهيم عليكم ﴿سَلَامٌ﴾ هذه تحيته الواقعةُ منه جوابًا، وهي لفظ سلام، وهو مبتدأ خبره محذوف كما قَدَّرنا، فقد حيَّاهم بالجملة الاسمية في جواب تحيتهم بالفعلية، ومن المعلوم أنَّ الاسمية أبلغُ من الفعلية؛ لأن الجملةَ الاسمية دالة على الثبات والاستمرار، والفعليةَ دالة على التجدد والحدوث، فكانَتْ تحيتُه أحسنَ من تحيتهم كما قال: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾.
وفي "السمين": ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به، ثمَّ هو محتمل لأمرين:
١ - أن يُرادَ: قالوا هذا اللفظَ بعينه، وجاز ذلك؛ لأنه يتضمن معنى الكلام.
وثاني الوجهين: أن يكونَ منصوبًا على المصدر بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصبٍ بالقول، تقديره: قالوا: سلمنا سلامًا، وهو من باب: ما نابَ فيه المصدر عن العامل فيه، وهو واجبُ الإضمار، وقوله: ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ في رفعه وجهان:
١ - أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: سلام عليكم.
٢ - أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: أمري، أو قولي سلام، وقد تَقَدَّم أول هذا الموضوع، أن الرفعَ أدل على الثبوت من النصب، والجملةُ بأسرها، وإن كان أحدُ جزأيها محذوفًا في محل نصب بالقول. وقرأ الأخوان حَمزةُ والكسائيّ: ﴿قال سلم﴾ هنا، وفي سورة الذاريات: بكسر السين، وسكون اللام، ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف. فقيل: هما لغتان كحِرْم، وحرام، وحِلٍ وحَلاَل. وقيل: السِّلْمُ، بالكسر، ضدُّ الحرب، وناسبَ ذلك، لأنه نكرهم فكأنه قال: أنَّا مُسَالِمكم غيرُ محارب لكم، اهـ.
ولفظةُ (ما) في قوله: ﴿فَمَا لَبِثَ﴾ نافية، و ﴿لبث﴾ فعل ماض بمعنى أَبْطأَ، وجملة: ﴿أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ فاعله؛ أي: فما أبطأ (١) وتأخَّر عنهم مجيء إبراهيم بعجل حنيذ؛ أي: بولد بقر مشويّ بحجارة محماة في حفرة من الأرض من غير أن تمسه النار، فوضَعَه بين أيديهم، وكان مِنْ فعلِ أهل البادية، وكان سَمينًا يسيل منه الوَدَكُ. قال قتادة: وإنما جاءهم بعجل؛ لأنه كان عامَّة مال إبراهيم البقر، وقيل: مُكَثَ إبراهيم عليه السلام خَمَسَ عشرة ليلةً لم يأته ضيف، فاغتم لذلك، وكان يحب الضيف، ولا يأكل إلا معه، فلما جاءت الملائكة رأى أَضيافًا لم يرَ مِثْلُهُم قطُّ فَعَجَّلَ قراهم، فجاءهم بعجل سمينٍ مشويٍّ.
وقال أكثر النحويينَ (٢): (أنْ) هنا بمعنى حتى. والمعنى: فما لَبِث إبراهيم
(٢) الشوكاني.
وقد (١) اهتدى البشر إلى شَيِّ اللحم مِنْ صيدٍ وغيره على الحجارة المُحَمَّاة بِحَرِّ الشمس قديمًا قبل الاهتداء إلى إنضَاجِه بالنار. وجاء في سورة الذاريات: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧)﴾. وفي هذا دليل على أنه كان مَشْوِيًّا مُعَدًّا لِمَنْ يجيء من الضُّيوف، وربما كان قد شَوِيَ عند وصولهم بلا إبْطاءٍ.
٧٠ - فلما قرب إليهم، ووضع بين أيديهم كفوا عنه ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ إبراهيم ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾؛ أي: أيدي الرسل ﴿لَا تَصِلُ إِلَيْهِ﴾؛ أي: لا تمتد إلى الطعام الذي قَدَّم إليهم ﴿نَكِرَهُمْ﴾؛ أي: أنكر إبراهيم ذلك منهم، ووجده على غير ما يعهد من الضيوف، ولم يعرف سبب عدم تناولهم منه، وامتناعهم عنه، فالعادة قد جرت أنَّ الضيفَ إذا لم يطعم مما قدم إليه.. ظنَّ أنه لم يَجِىء بخير، وأنه يُحْدِّثَ نَفْسُه بشرٍّ، ﴿وَأَوْجَسَ﴾ إبراهيم؛ أي: أحس وأدرك إبراهيم ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من جهتهم ﴿خِيفَةً﴾؛ أي: خوفًا في نفسه؛ أي: أحسَّ وعلم في نفسه فزعًا وخوفًا منهم حين شعر أنهم ليسوا بشرًا، ووقع في نفسه أنهم ملائكة، وأنَّ نزولَهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه.
والوجس رعب القلب (٢)، وإنما خاف إبراهيمُ عليه السلام منهم؛ لأنه كان
(٢) الخازن.
٧١ - ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ سارة بنت هاران بن ناخور، وهي ابنة عمه ﴿قَائِمَةٌ﴾ وراءَ الستر بحيث تسمع محاوراتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، وكانت نساؤهم لا تحجب كعادة الأعراب، ونازلة البوادي والصحراء، ولم يكن التبرج مكروهًا، وكانت عجوزًا، وخدمة الضيفان مما يعدُّ من مكارم الأخلاق.
وجاء في شريعتنا مثل هذا في حديث أبي أسيد الساعدي، وكانت امرأته عروسًا فكانت خَادِمَة الرسول - ﷺ -، ومن حضر معه من أصحابه. والجملة الاسمية حال من ضمير قالوا: أي: قالوا لإبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته. ﴿فَضَحِكَتْ﴾ امرأة إبراهيم سرورًا بالأمن من الخوف، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة. قال الجمهور: هو الضحك المعروف، فقيل: هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه، وسرورها بنجاة أخيها وهلاك قومه. وقال مجاهد، وعكرمة، فضحكت، حَاضَتْ عند فرحها بالسلامة من الخوف، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد. قال الزمخشري (١): وفي مصحف عبد الله:
واعلم: أنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر، تمَنَّتْ سَارةُ أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبُشِّرَت بولد يكون نبيًّا، ويلد نبيًّا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولدَ ولدها، وإنما بشروها دونَه؛ لأن المرأَة أعجل فرحًا بالولد، ولأن إبراهيمَ بشروه، وأمنوه من خوفه، فأتبعوا بشارَتَه ببشارتها. وقال في "التبيان" (١): أي بشروها بأنها تلد إسحاق، وأنها تعيش إلى أن ترى وَلَد الولد، وهو يعقوب ابن إسحاق. والاسمان (٢) يحتمل وقوعهما في البشارة، كيحيى حيث سمي به في البشارة قال الله تعالى: ﴿إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾. ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا بإسحاق ويعقوب، وتوجيه البشارة إليها لا إليه، مع أنه الأصلُ في ذلك للدلالة على أنَّ الولدَ المبشرَ به يكون منها، ولأنها كانت عَقِيمَةً حريصةً على الولد، وكان لإبراهيم ولدُه إسماعيل من هاجر، ولأنَّ المرأةَ أشدُّ فرحًا بالولد.
وقال ابن عباس ووهب: فضحكت تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها، وسن زوجها، وعلى هذا تكون الآية من التقديم والتأخير، تقديره: وامرأته قائمةٌ فبشرناها بإسحاق، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوب، فضحكت كما في "بحر
(٢) روح البيان.
٧٢ - وقوله: ﴿قَالَتْ﴾ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قالت إذ بشِّرت بذلك، فقيل: قالت سارة لما بشرت بإسحاق ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ وقرأ الحسن: ﴿ياويلتي﴾ بالياء، وهي كلمة تقال عند التعجب؛ أي: يا عجبًا. وأصله (٢): ﴿يا ويلتي﴾ بالياء فأبدل من الياء الألف، ومن كسرة التاء الفتحة، لأنَّ الألفَ مع الفتحة أخفُّ من الياءَ مع الكسرة، وأصل هذه الكلمة في الشر؛ لأنَّ الشَّخْصَ ينادي ويلته، وهي هلكته يقول لها تعالي واحضري فهذا أوان حضورك، ثمَّ أطلق في كل أمر عجيب، كقولك: يا سبحانَ الله، وهو المراد هنا. قال سعدي المفتِي أصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفسَ، ثم استعمل في عَجَب يدهم النَّفْسَ، والاستفهام في قوله: ﴿أَأَلِدُ﴾ استفهام تعجب، أي: قالت سارة لما بشرت بإسحاق، يا
(٢) روح المعاني.
والإشارة بهذا إلى الولادة، أو البشارة بها تعجبتْ من حدوث ولد بين شيخين هرمين، واستغربت ذلك من حيث العادة، لا إنكارًا لقدرة الله تعالى. ﴿إِنَّ هَذَا﴾؛ أي (٢): حصولَ الولد من هرمين مثلنا، ﴿لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ بالنسبة إلى سنة الله المسلوكة فيما بين عباده، ومقصدها استعظام نعمة الله عليها في ضمن الاستعجاب العاديّ، لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرة الله تعالى؛ لأن التعجبَ من قدرة الله يوجب الكفرَ، لكونه مستلزمًا للجهل بقدرة الله تعالى.
وقدَّمَتْ بيانَ حالها على بيان حال بعلها؛ لأن مُباينة حَالها لِمَا ذُكر من الولادة أكثر، إذ رُبَّما يُولد للشيوخ من الشَّواب، ولا يولد للعجائز من الشبان.
٧٣ - والاستفهام في قوله: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ للإنكار لعَجَبِهَا؛ أي: قالت الملائكة لسارة منكرينَ عليها لعجبها، أتعجبين يا سارة من أمر الله وشأنه،
(٢) روح البيان.
﴿رَحْمَتُ اللَّهِ﴾ التي وسعت كلَّ شيء، واستبقت كلَّ خير ﴿وَبَرَكَاتُهُ﴾؛ أي: خيراته النامية المتكاثرة في كل باب، التي من جملتها هبة الأولاد حالتان ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لازمتان لكم لا تفارقكم. وحكى سيبويه ﴿عليكم﴾ بكسر الكاف، لمجاورة الياء كما في "القرطبي". يا ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾؛ أي: يا أهلَ بيت النبوة، ويراد بالبيت، بيت السكنى كما ذكره أبو حيان. أرادوا أنَّ هذه، وأمثالَها مما يكرمكم به ربّ العزة، ويخصكم بالإنعام يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عَجَبٍ.
والمعنى: رحمة (١) الله الواسعةُ لكل شيء، وخيراته الفائضة منه بواسِطَة تلكَ الرحمة، لازمة لكم لا تفارقكم يا أهلَ بيت إبراهيم، فإذا رأيتم أنَّ الله خَرَق العاداتِ في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية، فكيفَ يليق به التعجبُ، وما تلك بأُولَى آية لإبراهيم، فقد نجَّاه الله من نار قومه الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بَارَكَ فيها للعالمين، وهذه الجملة مستأنفة. فقيل: خبر، وهو الأظهر. وقيل: دعاء. وقيل: الرحمة: النبوة، والبركات: الأسباط من بني إسرائيل؛ لأنَّ الأنبياء منهم، وكُلُّهم من ولد إبراهيم عليه السلام. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿حَمِيدٌ﴾ الفعال؛ أي: فاعل ما يستوجب به الحمدَ من عباده، لا سيما في حقها، ﴿مَجِيدٌ﴾ الذات أو كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده، خصوصًا، في أنْ جَعَلَ بيتَها مهبطَ البركات.
٧٤ - ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ﴾ وزال ﴿عَنْ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام ﴿الرَّوْعُ﴾؛ أي: الخوف والفزَعُ الذي أصابه لمَّا لم يأكلوا من العجل، واطمأنَّ قلبه بعرفانه
وجيءَ بجواب (١) لَمَّا مضارعًا مع أنه ينبغي أن يكون ماضيًا لكونها موضوعة للدلالة على وقوع أمر في الماضي لوقوع غيره فيه على سبيل حكاية الحال الماضية، أي جَادَلَ، وخَاصَمَ رسلَنَا في شأن قوم لوط وحقِّهم لرفع العذاب عنهم جدالَ الضعيف مع القويِّ لا جِدَالَ القوي مع الضعيف بل جدالَ المحتاج الفقير مع الكريم الغني، وجدالَ الرحمة والمعاطفة وطلب النجاة للضعفاء، والمساكين الهالكين. وكان لوط ابنَ أخيه، وهو لوط بن هاران بن آزر، وإبراهيم بن آزر، ويقال: ابن عمه، وسارة كانت أختَ لوط. فلما سمعا بهلاك قوم لوط اغتما لأجل لوط، فطفق إبراهيم يجادل الرسلَ حينَ قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، فقال: أرأيتم لو كانَ فيها خمسون رجلًا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعونَ؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ خمسةً قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلٌ واحد مسلمٌ، أَتُهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢)﴾.
٧٥ - ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام ﴿لَحَلِيمٌ﴾؛ أي: غير (٢) عجول على كل من أساءَ إليه، فلذلك طَلَبَ تأخيرَ العذاب عنهم، رَجَاءَ إقدامهم على الإيمان،
(٢) المراح.
والمعنى: أنه جَادَلَ الملائكةَ في عذاب قوم لوط؛ لأنه كان حليمًا لا يعجل بالانتقام من المسيء، كثير التأوه مما يَسُوء الناسَ، ويؤلمهم يَرْجِع إلى الله في كل أموره؛ أي: كَانَ جداله بحلم وتأوه عليهم، فإنَّ الذي لا يتعجل في مكافأة من يؤذيه يتأوه أي: يقول أوه وآه، إذَا شاهدَ وصولَ الشدائد إلى الغير، وأنه مع ذلك راجعٌ إلى الله في جميع أحواله؛ أي: ما كان بعض أحواله مشوبًا بعلة راجعةٍ إلى حَظِّ نفسه، بل كان كُله لله، فتبيَّنَ أنَّ رقَّةَ القلب حَمَلَتْهُ على المجادلة فيهم، رَجَاءَ أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلَّهم يحدثون التوبةَ والإنابَةَ، كما حملته على الاستغفار لأَبِيهِ.
٧٦ - وقوله: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ على تقدير القول؛ أي: قالت الملائكة يا إبراهيم ﴿أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ الجدال، والمحاورَة في شيء مفروغ منه، والأمر ما قضاه، وحكم به من عذابه الواقع بهم لا مَحالَةَ، ولا مردَّ له بجدال، ولا دعاءٍ، ولا غير ذلك ﴿إنه﴾؛ أي: إنَّ الشَّأنَ ﴿قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ وقدره بمقتضَى قضائِه الأزليِّ بعذابهم، وهو أَعْلَمُ بحالهم، والقضاء (١) هو الإرادة الأزلية، والعناية الإلَهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدرُ تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإنَّ قوم لوط ﴿آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾؛ أي: غير مصروف عنهم، ولا مدفوع بجدال، ولا دعاءٍ، ولا غيرهما، وإنك مأجور مثاب فيما جادلتْنَا لنجاتهم، وهذا كما كان النبي - ﷺ -، يقول: "اشفعوا تؤجَروا، وليقضينَّ اللَّهُ على لسان رسوله ما شاء".
والمعنى (٢): يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، والاسترحام لهم، إنه قد نَفَذَ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي
(٢) المراغي.
والظاهر: أنَّ إتيان العذاب الغير المردود لإصرارهم على الكفر، والتكذيب بعد استبانة الحق، واللواطةُ من جملة أسباب الإتيان كالعَقْرِ لناقةِ الله بالنسبةِ إلى قوم صالح.
رُوي: أنَّ الرسلَ الذين بَشَّروا إبراهيمَ ذهبوا بعد هذه المجادلة من عنده، وانطلقوا إلى قرية لوط سدوم، وما بين القريتَين أربع فراسخ، فانتهوا إليها نصفَ النهار، فإذا هم بِجَوَارٍ يَسْتَقِيْنَ من الماء، فأبصَرَتْهُم ابنةُ لوط، وهي تستقي الماء، فقالت لهم: ما شأنكم؟ وأين تريدون؟ قالوا: أَقْبَلْنَا منْ مكان كذا، ونريد كذا، فأخبرتهم عن حال أهل المدينة، وخبثِهم، فأظهروا الغَمَّ مِنْ أنفسهم، فقالوا: هل أحد يضيفنا في هذه القرية؟ قالت: ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذاك الشيخ، فأشارتِ إلى أبيها لوط، وهو قائم على بابه فأتَوا إليه. فلمَّا رآهم، وهيئتهم ساءه ذلك،
٧٧ - وهو قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾؛ أي: ولما جاءت ملائكتُنا لوطًا ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾؛ أي: حَزِنَ بسببهم؛ أي: سَاءَهُ مجيؤهم، وهو فعل مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير لوط من قولك: ساءني كذا؛ أي: حصل لي منه سوء وحزن، وغم وبهم متعلق به؛ أي: بسببهم. والمعنى: ساءَهُ وأَحْزَنَه مجيئهم. ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾؛ أي: ضاق صدره بمجيئهم وكونهم عنده، وضيق الصدر كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه.
والمعنى: ساءه مجيؤهم، وضَاقَ بهم صَدْرُه، لا لأنهم جاؤوا مسافرين، وهو لا يُحِبُّ الضيفَ، فحاشا بيت النبوة عن ذلك، بل لأنهم جاؤوا في صورة غلمان حِسان الوجوه، فحَسِبَ أنهم أناس، فَخَافَ عليهم أن يَقْصِدَهُم قومُه، فيعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم.
٧٨ - فذلك قوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُ﴾؛ أي: وجاءَ لوطًا، وهو في بيته مع أضيافه ﴿قَوْمُهُ﴾، والحال أنهم ﴿يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾؛ أي: يُساقون إليه، ويسرعون إليه، ويَسُوقُ بعضهم بعضًا، كأنما يُدْفَعون دفعًا طلبًا للفاحشة من أضيافه، غافلينَ عن حالهم جاهلينَ بمآلهم. والإهراع: الإسراع يقال: أَهْرَعَ القَوْمُ، وهَرَعُوا. وقرأ الجمهور: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ مبنيًّا للمفعول مِن أُهْرعَ، أي: يُهْرِعُهم الطَّمعُ وقرأت فرقة: (يهرعون) بفتح الياء من هرع الثلاثي. وجملة قوله: ﴿وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ حال أيضًا من ﴿قومه﴾؛ أي: جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا من قبل هذا الوقت، وهو وقت مجيئهم إلى لوط منهمكين في عمل الفواحش واللواطِ، فتمرَّنوا بها؛ أي: تَعَوَّدوا، واستمروا عليها حتى لم تُعَبْ عندهم قباحتها، ولذلك لم يستحيوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعينَ مجاهرينَ. وقيل: ومن قبل لوط كانوا يعملونَ السيئات.
وفي "التأويلات النجمية" كانوا يعملون السيئات الموجبةَ للهلاك والعذابِ فجاؤوا مسرعينَ مستقبلي العذابِ، وطلبوا من بيت النبوة من أهل الطهارة معاملةً ساءتهم بخيانة نفوسهم، ليستحقوا بذلك كمالَ الشقاوة، وسرعةَ العذاب، انتهى.
وفي الحديث: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون"، أي: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافَون، بل يؤخذون في الدنيا إن كانت مما يتعلَّق بالحدود، وأما في الآخرة فمطلقًا.
فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافَهُ لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعًا و ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ﴾ مبتدأ خبره ﴿بَنَاتِي﴾ الصلبية، فتزوجوهن (١)، وكانوا يطلبونهن من قبلُ، ولا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لعدم مشروعيته، فإنَّ تزويجَ المسلمات من الكفار كان جائزًا في شريعته، وهكذا كان في أول الإِسلام بدليل أنه - ﷺ - زوج ابنتيه من أبي العاص بن وائل، وعتبة بن أبي لهب، قبل الوحي، وهما كافران، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾. وقيل: كان لهم سيدان مُطَاعَان، فأراد أن يُزَوّجَهما ابنتيه، وأيّا ما كَانَ فقد أراد به وقاية ضيفه، وذلك غايةٌ في الكرم. ﴿هُنَّ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿أَطْهَرُ لَكُمْ﴾؛ أي: أحسن لكم فتزوجوهن، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي. وقد كان له ثلاث بَنَاتٍ. وقيل: اثنتان. وقيل: أراد بقوله: ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾ النساءُ جملةً، لأنَّ نَبِيَّ القوم أبٌ لهم، كما قال ابن عباس: "ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج" ومراده أن الاستماع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط فإنه يَكْبَحُ جماح الشهوة مع الأمن من الفساد. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: أراد نساءَ قومه، وأضافهن إلى نفسه، لأن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة، والتربيةُ، وهذا القول أولى، لأن إقدامَ الإنسان على عَرْضِ بناته على الأوباش، والفجار مستبعد لا يليق بأهل المروءة، فكيف بالأنبياء وأيضًا فبناته لا تكفي الجمع العظيم، أمَّا بنات أمته، ففيهن كفاية للكل، اهـ "كرخي". والتطهر التنزه عما لا يحل، وليس في صيغة ﴿أَطْهَرُ﴾ دلالةَ على التفضيل بل هي مثل: "الله أكبر" فلا يدل على أن إتيان الذكور كان طاهرًا كما لا يدل قولك النكاح أطهر من الزنى على كون الزنا طاهرًا؛ لأنه خبث ليس فيه شيء
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، أو بإيثارهن عليهم ﴿وَلَا تُخْزُونِ﴾؛ أي: ولا تذلوني، وتجلبوا عليَّ العارَ ﴿فِي ضَيْفِي﴾، والضيف يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومعنى: ﴿فِي ضَيْفِي﴾؛ أي: في حقهم وشأنهم، فإن إخزاءَ ضيف الرجل إخزاؤه، كما أن إكرامَ من يتصل به إكرامُهُ. والمعنى (١): أي: فاخشوا الله، واحذروا عقابَهُ في إتيانكم الفاحشةَ التي تطلبونها، ولا تذِلوني وتمتهنوني بفضيحتي في ضيفي، فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف، وفضيحة له، والاستفهام في قوله: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ﴾ للتوبيخ والتقريع أي أليس منكم ﴿رَجُلٌ﴾ واحد ﴿رَشِيدٌ﴾؛ أي: ذو رشد، وحكمة يَهْتَدِي إلى الحق، وَيرْعَوِي عن القبيح، وينهى من أراد ركوب الفاحشة مِن ضيوفي، ويرد هؤلاء الأوباشَ عنهم ما يريدون، وفي ذلك توبيخٌ عظيم لهم حيث لم يكن منهم رشيد ألبتةَ يرشدهم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعهم منه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَطْهَرُ﴾ بالرفع والأحسن في الإعراب أن يكون جملتين كل منهما مبتدأ وخبر، وجوِّز في بناتي أن يكونَ بدلًا، أو عطفَ بيان، وهُنَّ فصل وأطهر الخبر. وقرأ الحسنُ وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: (أطهرَ) بالنصب. وقال سيبويه: هو لَحْنٌ. وقال أبو عمرو بن العلاء: احْتَبَى فيه ابن مروان في لَحْنه، يعني تَرَبَّعَ. ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخُرّجت هذه القراءة على أن نصبَ (أطهر) على الحال. فقيل: (هؤلاء) مبتدأ، و (بناتي هن) مبتدأ وخبر في موضع خبر (هؤلاء) وروي هذا عن المبرد.
(٢) البحر المحيط.
والخلاصة: أنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون، وهو في الحقيقة طلب ما أعد الله لهم في الأزل من قهره، يعني الهلاكَ بالعذاب.
٨٠ - ولما يئس من ارعوائهم عَمَّا هم عليه من الغيِّ ﴿قَالَ﴾ لوط لقومه: حينَ أَبَوا إلا المُضِيَّ لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم. ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: لو ثَبَتَ كون قوة لي بكم، وقدرة عليكم، ومنعة منكم بأنصار ينصروني، وأعوان يعينوني عليكم ﴿أو﴾ أنني ﴿آوِي﴾، وأنضمُّ ﴿إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾؛ أي: عشيرة قويَّة؛ أي: أوَ ثبَتَ لي كون عشيرة قوية تجيرني منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم له، تريدونه مني في أضيافي، ولدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم. وجواب لو محذوف كما قدرنا، والأنسب بمثل هذا المقام أن تكون (لو) للتمني. فكأنه قال: لو قَوِيَتْ على دَفْعكم، ومقاومتكم بنفسي، أو
٨١ - فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم من الكرب ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الملائكة للوط بعد أَنْ رأوا شديدَ الكرب الذي لحقه بسببهم، وتمنِّيهِ أن يَجِدَ قُوَّةً تدفعهم عن أضيافه ﴿يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ أرسلنا لإهلاكهم، وتنجيتك من شَرِّهم ﴿لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ وإلى من معك بضرر، ولا مكروه، ولن يخزوك فينا، وإنَّ ركنَك شديد، فهَوِّن عليك الأمر، وافتح الباب، ودَعْنا وإياهم. ففتح البابَ فدخلوا، فاستأذن جبريل ربَّه تعالى في عقوبتهم، فأَذِنَ له فتحول إلى صورته التي يكون فيها، ونشر جَنَاحَيْه وعليه وشاح من در منظوم، وهو براق الثَّنَايا أجلى الجبين، ورَأْسُه حبك مثل المرجان، كأنه الثلج بياضًا، وقدَماه إلى الحضرة، فضَرَبَ بجناحيه وجوههم، فطَمَسَ أعيُنَهم، وأعماهم فَصاروا لا يعرفون الطريقَ، ولا يهتدون إلى بيوتهم، وانصرفوا، وهم يقولون: النجاءَ، النَّجاءَ في بيتِ لوط أسْحَرُ قوم في الأرض، قد سَحَرونا، وجَعَلُوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبحَ، وسترى ما تلقى مِنَّا غدًا، يوعدونه بذلك، ولكنه من الإسرائيليات لا أصلَ لها.
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾؛ أي: فاخْرُج من هذه القرى أنت مع أهلك، يعني: بنتيه ريْثا وزَعُورا ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: في طائفةٍ وبقيةٍ من الليلِ تكفي لتجاوز حدودها؛ أي: أُخرُجوا ليلًا لتستبقوا نُزولَ العذاب الذي موعده الصبح. وجاء في سورة الذاريات: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)﴾. وفي "القرطبي": فخرج لوط، وطَوَى الله له الأرض في وَقْتِهِ حتى نجا ووَصلَ إلى إبراهيمَ، اهـ. وقرأ (٢) الحرميان نافع، وابن كثير: ﴿فاسر بأهلك﴾ هنا، وفي الحجر، وفي الدخان: ﴿فاسر بعبادي﴾. وقوله: (أن اسر} في طه والشعراء قرأ جميع ذلك بهمزة الوصل تَسْقُط درجًا، وتثبت مكسورة ابتداءً. وقرأ الباقون: ﴿فأَسْر﴾ بهمزة القطع، تثبت مفتوحةً دَرَجًا وابتداءً.
(٢) الفتوحات.
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾؛ أي: لا تلتفت أنت، ولا تترك إحدى بِنْتَيْكَ، تلتفت؛ لئلا يَرَى عظيمَ ما يَنْزِلُ بهم فيحصل له كرب ربما لا يطيقه. وفي "المراح": وإنما نُهوا عن الالتفات (١) ليسرعوا في السير، فإنَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وَقْفَةٍ. وقوله: ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ قرأه ابن كثير، وأبو عمرو بالرفع؛ أي: لا يتأخر منكم أحدُ إلا امرأتك واعلة المنافقةُ. وعلى هذه القراءة يقتضي كونَ لوطٍ مأمورًا بالإسراء بها، وقرأ الباقون بالنصب، والمعنى: ولا ينظر أحد إلى وراءه منك، ومن أهلك إلا امرأتك. وهذه القراءة تقتضي كونَ لوط غير مأمور بالإسراء بها.
أي (٢): ولا ينظر أحدٌ إلى ما وراءه ليجدوا في السَّيْرِ، أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب، فيرقوا لهم. وجاء في سورة الحجر: ﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾، ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ فقد كان ضَلَعُها مع القوم، وكانت كافرةً خائِنةً. ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ الشأن ﴿مُصِيبُهَا﴾؛ أي: امرأتك ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ من العذاب؛ أي: إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم، ومقضي عليها بذلك فهو واقع لا بُدَّ منه.
يعني (٣): وَقَعَتْ أهل بيتِ نُبُوَّتِه في الضلالة فهَلَكَتْ، فإنها مع تشرفها بالإضافة إلى بيت النبوة لِمَّا اتَّصَلَتْ بأهل الضلالة صارت ضالَّةً، وأدَّى ضلالها،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
ثم علَّل الإسراءَ ببقية من الليل، فقال ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ﴾؛ أي: موعدَ عذابهم ﴿الصُّبْحُ﴾ ابتداءً من طلوع الفجر إلى الشروق، كما جاء في سورة الحجر: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣)﴾. وقرأ عيسى بن عمر: ﴿الصبُحُ﴾ بضم الباء. قيل: وهي لغةٌ فلا يكون ذلك اتباعًا، وإنما جعل الصبح ميقاتًا لهلاكهم؛ لأن النفوسَ فيه أودع، والراحةُ فيه أَجْمَعُ فيكون حُلولُ العذاب حينئذ أفْظَعَ؛ ولأنه أنسبُ بكونِ ذلك عبرةً للناظرين. رُوي أنَّ لوطًا قال للملائكة متى موعدهم؟ قالوا: الصبحُ، فقال: أُريد أسرعَ من ذلك، فقالوا: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾؛ أي: أليس موعد الصبح بموعد قريبٍ؟ لم يَبْقَ له إلا ليلة واحدةُ فَانْجُ فيها بأهلك. والاستفهامُ فيه تقريري. وفيه إشارة إلى أنَّ صبحَ يومِ الوفاة، قريبٌ لكل أحد، فإذا أدركَه فكأنَّه لم يَلْبَثْ في الدنيا إلا ساعةً من نهار. وفي "المراغي": وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونونَ مجتمعينَ في مساكِنهم، فلا يفلت منهم أحدٌ، اهـ.
٨٢ - ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: وقت أمرنا بالعذاب، وقضائنا فيهم بالهلاك، وهو الصبح ﴿جَعَلْنَا﴾ بقدرتنا الكاملة ﴿عَالِيَهَا﴾؛ أي: عاليَ قرى قوم لوط، وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات، وهي أربعُ مدائنَ فيها أربع مئة ألف، وأربعة آلاف، وهي سدوم، وعامورا، وكَادُوما، ومذاويم. كانت على مسيرة ثلاثةِ أيام من بيت المقدس ﴿سَافِلَهَا﴾؛ أي: قلبناها على تلك الهيئات؛ أي: قَلَبْنَا قُراهم كُلَّها، وخَسَفْنا بها الأرض. روي أنَّ جبريلَ جعل جَنَاحَه في أسْفَلِها فاقتلعها من الماء الأسود، ثمَّ رَفَعَها إلى السماء حتى سمِعَ أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الدِّيكة لم يكفأ إناء، ولم يَنتَبِه نائم، ثم قلبها عليهم، فأقبلت تَهْوي من السماء
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾؛ أي: على أهل المدائن من فوقهم، قبل القلب، أو في أثنائه ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ أي: من طين متحجِّرٍ كما جاء في سورة الذاريات: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)﴾. ومثل هذا المطر يَحْدث بإرسال الله تعالى ريحًا شديدةً تحمل بعضَ الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء الله تعالى، وكان حقَّ العبارة، وجعلوا عاليِا، وأمطروا؛ أي: الملائكة المأمورونَ بذلك، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبِّبُ تعظيمًا للأمر، وتهويلًا للخطب؛ أي: وأمطرنا على أهل تلك القرى الخارجين عنها في الأسفار وغيرها، حجارةً من سجيل. ﴿مَنْضُودٍ﴾؛ أي: متتابع بعضه بعضًا في الإرسال، والنزول كقطار الأمطار، والنَّضَد: وضع الشيء بعضِه على بعضٍ، وهو نعتٌ لسجيل.
٨٣ - ﴿مُسَوَّمَةً﴾ نعت حجارة؛ أي: معلمة تلك الحجارة لا تُشْبِهُ حجارة الدنيا، أو باسم صاحبها الذي تصيبه وَيُرْمى بها ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يا محمَّد؛ أي: كائنة في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا الله. والمعنى: جاءت من عند ربك. وفي ذلك دليل على أنها ليسَتْ من حجارة الأرض، قاله الحسن، اهـ "قرطبي". وفي إمطار الحجارة قولانَ.
أحدهما: أنها أمطرَتْ على المدن حينَ رفعها جبريل، أو بعد القلب.
والثاني: أنها أمطرت على مَنْ لَمْ يكن في المُدُن من أهلها، وكان خارجًا عنها. رَوي أنَّ الحجر اتبع شذاذهم أينما كانوا في البلاد، ودخل رجل منهم الحرمَ، وكان الحجر معلقًا في السماء أربعين يومًا حتى خَرَج فأصابه فأهلكه. ولعل الإمطارَ على تلك القرى بعد القلب إنما هو لتكميل العقوبة، كالرجفة الواقعة بعد الصيحة لقوم صالح، ولتحصيل الهلاك لمسافريهم الخارجين من بلادهم لمصالحهم، وهو الظاهر، والله أعلم. والسجيل: الطين المتحجر بطبخ أو غيره. وقيل: هو الشديدُ الصلب من الحجارة. وقيل: السجيل: الكثير. وقيل غير ذلك. وهذا السجيل قد نضدَ، وتراكب بعضه في إثر بعضٍ بحيث يقع طائفة بعد طائفة، وقد وضع على تلك الأحجار سومة، أي: علامة خاصة في علم ربك، بحيث لا تصيب غير أهلها. وقد يكون المعنى: أنه سخَّرها عليهم،
ويَرى بَعْضُ المفسرينَ أنَّ التسْوِيم كانَ حِسيًّا بخطوط في ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها، أو بأسماء أهلها، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان، ونص من خاتم الرسل، وأَنَّى هو. ﴿وَمَا هِيَ﴾؛ أي: وما هذه القرى التي حَلَّ بها العذابُ ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: منكم أيها المشركون من أهل مكة، الظالمون لأنفسهم بتكذيبك، والمماراة فيما تُنذرهم به ﴿بِبَعِيدٍ﴾؛ أي: بمكان بعيد عنكم، بل هي قريبة منكم على طريقكم في رحلة الصيف إلى الشام، كما قال في سورة الصافات: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)﴾؛ أي: وإنكم لتمرون على آثارهم، ومنازلهم في أسفاركم وَقْتَ النهار، وبالليل أفلا تعتبرون بما حَلَّ بهم.
وفي هذه عبرة للظالمين في كل زمان، وإن اختلفَ العذابُ باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرةً وقلةً، ومقدار أثره في الأمة من إفسادٍ عامٍّ أو خاصٍّ.
وقيل المعنى: ﴿وَمَا هِيَ﴾؛ أي: وما هذه الحجارة الموصوفة من كل ظالم ببعيد، فإنهم بسبب ظلمهم مستحقونَ لها؛ أي: فإن الظالمينَ حقيق بأن تمطر عليهم، ومنهم كفار قريش، ومن عاضَدَهم على الكفر بمحمد - ﷺ - أو من الظالمينَ من قوم لوط، وتذكيرُ البعيد على تأويل الحجارة بالحجر، أو إجراء له على موصوف مذكر؛ أي: شيء بعيد، أو مكان بعيد، أو لكونه مصدرًا كالزفير، والصهيل، والمصادرُ يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
٨٤ - وقوله: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ معطوف كسابقه على قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾ وهو اسم ابن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثمَّ صَارَ اسمًا للقبيلة، أو اسْمُ مدينة بناها مَدْيَنَ، فسُمِّيت باسمه؛ أي: وأرسلنا إلى قبيلة مَدْيَنَ أو ساكني بلدةِ مدين ﴿أَخَاهُمْ﴾؛ أي: واحدًا منهم في النسب ﴿شُعَيْبًا﴾ عطف بيان له، وهو ابن مكيلِ بن يشجر بن مدين ﴿قَالَ﴾ استئناف بيانيٌّ ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فلمَّا أتاهم قال: يا قوم اعبدوا الله،
ثمَّ ذكَرَ بعد هذه العلة، علَّةً أُخرى، فقال: ﴿وَإِنِّي أَخَافُ﴾ وأخشى ﴿عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾؛ أي: يومًا يُحيط بكم عذابه، لا يشُذ منه أحدٌ منكم، إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان. وهذا العذاب إما في الدنيا بعذاب الاستئصال، وإمَّا في يوم
(٢) الشوكاني.
٨٥ - ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا﴾ وأتموا ﴿الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل بلا زيادة، ولا نقصان. ومعنى (٢): إيفاء الحق إعطاؤُه تامًّا كاملًا؛ أي اسْعوا في إعطاء الحق على وَجه التمام والكمال، بحيث يحصل لكم اليقينُ بالخروج عن العهدة وقوله: ﴿بِالْقِسْطِ﴾ حال من فاعل ﴿أَوْفُوا﴾ أي متلبسين بالعدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإنَّ الزيادةَ في الكيل والوزن وإن كانت تفضلًا مندوبًا إليه، لكنها في الآلة محظورة كالنقص، فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيال، والناقص للاستعمال وقتَ الكيل، كذا في "الإرشاد". وصرَّح بالإيفاء بعد النهي عن ضده؛ لأن النهيَ عن نقص حَجْم المكيال، وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال، والميزان للمعهود، فلا تكرار في الآية كما في "حواشي سعدي المفتي".
ثمَّ زاد ذلك تأكيدًا، فقال: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ﴾؛ أي: ولا تنقصوا النَّاسَ ﴿أَشْيَاءَهُمْ﴾؛ أي: حُقُوقَهم مطلقًا، ولا تأخذوها منهم ظلمًا؛ أي: سواء كانت من الموزونات أو المكيلات، أو المذروعات، أو المحدودات بحدود حسية، وسواء كانت من حقوق ماديَّة أو معنوية، وسواءٌ كانت للأفراد، أو الجماعات، وسواءٌ كانت جليلةً أو حقيرةً.
وفي هذا النهي عن البخس على العموم والأشياء أعمُّ مما يكال أو يوزن،
(٢) روح المعاني.
الإفساد: تعطيل يشمل مصالحَ الدنيا، وأمور الدين، وأخلاقَ النفس وصفاتها، وكلُّ ذلك فاش في عَصْرِنا، ومن الفساد: نقص الحُقُوق في المكيال والميزان. ومن الإفساد: قَصُّ الدراهم والدنانير، وترويج الزيوف ببعض الأسباب، وغير ذلك؛ أي: لا تفسِدوا في الأرض، وأنتم تتعمدون الإفسادَ، وإنما اشترط في النهي تعمد الإفسادِ؛ ليخرج بعضُ ما هو إفسادٌ في الظاهر، ويرادُ به الإصلاحُ، أو فعلُ أخفِّ الضرَرَين لدفع أثقلهما كما وقع من الخضر في السفينة، التي كانت لمساكين يعملون في البحر، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءَهم من أخذها إذا أعجبته، وكما يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فَتحِ سُدَدِ الأنهار، أو إحراق بعض الغابات، أو قتل دواب أهل الحرب.
٨٦ - وهذا نَهْيٌ عام يشمل غير ما سَبَقَ كقطع الطرق، وتهديد الأمن وقطع الشجر، وقَتَل الحيوان، ونحو ذلك ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ﴾؛ أي: ما أبقاه الله تعالى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان، وترك الحرام من الربح الحلال فهي فعيلة بمعنى المفعول، وإضافتها للتشريف كما في بيت الله، وناقة الله، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال يستحق التشريفَ ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: أكْثَرُ لكم بركةً، وأحمدُ عاقبةً مما تأخذونه بالتطفيف، وتجمعونه بالبخس من الحرام، فإن ذَلِكَ هبَاءٌ منثور، بل شر محض، وإن زعمتم أنَّ فيه خَيْرًا كما قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾. قال في "شرح الشرعة": ولا يَخون أحد في مبايعته بالحِيَل والتلبيس، فإنَّ الرزق لا يزيد بذلك، بل تزول بركته فمَنْ جمع المال بالحِيل حَبَّةً حَبَّةً يهلكه الله جملة قبة قبة، ويبقَى عليه وزره ذرة ذرة، كرجل
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾؛ أي: برقيب (٣) أرقبُكم عند كيلكم، ووَزْنِكم؛ أي: لا يُمْكِنُني شهودُ كُلَّ معاملة تصدرُ منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق، وقيل: أي: لا يتهيَّأ لي أن أَحْفَظَكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم، اهـ "قرطبي". وقيل (٤): أي: وما أنا بالذي أستطيع أن أحْفَظَكم من القبائِح، وإنَّما أنا ناصحٌ مبلِّغ، وقد أعْذَرَتُ إذ أنْذَرْتُ، ولم آل جهدًا في ذلك.
فائدة: واعلم (٥) أنَّ العدلَ ميزان الله في الأرض، سواء كان في الأحكام، أو في المعاملات، والعدول عنه يؤدِّي إلى مؤاخذة العباد، فينبغي أن يتجنَّب الظلم، والمرادُ بالظلم أن يتضرَّرَ به الغير، والعدل أن لا يتضرَّرَ منه أحدٌ بشيء ما. قال
(٢) روح المعاني.
(٣) قرطبي.
(٤) المراغي.
(٥) روح البيان.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ (الواو) استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. (قد) حرف تحقيق. ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿بِالْبُشْرَى﴾ جار ومجرور حال من ﴿أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: حالةَ كونهم متلبسينَ بالبشرى. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿سَلَامًا﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: نسلم عليك سلامًا، أو: سلمنا عليك سلامًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿سَلَامٌ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره عليكم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمري؛ أو قولي: ﴿سلام﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَمَا﴾ (الفاء) حرف عطف وتعقيب. (ما) نافية. ﴿لَبِثَ﴾ فعل ماض. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿جَاءَ﴾ فعل ماض في محل النصب بـ (أن) وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿بِعِجْلٍ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿جَاءَ﴾. ﴿حَنِيذٍ﴾ صفة لعجل، وجملة ﴿جَاءَ﴾ صلة (أن) المصدرية، (أَن) مع صلتها في تأويل
﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) عاطفة. (لما) حرف شرط. ﴿رَأَى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ مفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿لَا﴾ نافية. ﴿تَصِلُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الأيدي. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الأيدي. ﴿نَكِرَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية جواب (لمَّا)، وجملة (لمَّا) معطوفة على محذوف تقديره: فقرَّبه إليهم، فقال: ألا تأكلون، فلمَّا رأى أيديهم إلخ، كما سيأتي التصريح بهذا المقدر في الذاريات. ﴿وَأَوْجَسَ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿نَكِرَهُمْ﴾ وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خِيفَةً﴾. ﴿خِيفَةً﴾ مفعول ﴿أَوجس﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَا﴾ ناهية. ﴿تَخَفْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبراهيم﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿أُرْسِلْنَا﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن) وجملة (إن) مسوقة لتعليل النهي قبلها على كونها مقولَ القول.
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١)﴾.
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ﴾؛ أي: ﴿قَالُوا﴾ ذلك في حال قيام امرأته. ﴿فَضَحِكَتْ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿ضحكت﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأته، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَوْجَسَ﴾. ﴿فَبَشَّرْنَاهَا﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على ﴿ضحكت﴾. ﴿بِإِسْحَاقَ﴾ متعلق به. ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ﴾ جار ومجرور،
﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿امرأته﴾ والجملة مستأنفة. ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (يا) حرف نداء. ﴿ويلتا﴾ منادى منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحةً لمناسبة الألف، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن ما قبل الياءِ لا يكون إلا مكسورًا، ﴿ويلة﴾ مضاف. وياء المتكلم المنقلبة ألفًا في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. وقد بيَّنَّا إعراب هذه الكلمة في ضمن نظائرها كـ (يا) (حسرتا) مع مسائلَ نفيسةٍ فيها في رسالتنا "هَدِية أولى الإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها، وهي مطبوعة منتشرة. ﴿أَأَلِدُ﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري. ﴿ألد﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على سارة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جَوَاب النداء. ﴿وَأَنَا عَجُوزٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿ألد﴾. ﴿وَهَذَا بَعْلِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها حالًا من فاعل ﴿ألد﴾. ﴿شَيْخًا﴾ بالنصب حال من بعلي، والعامل فيه اسم الإشارة، لما فيه من معنى الفعل، وبالرفع بدل من بعلي أو عطفُ بيان له. ﴿إِنَّ هَذَا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَشَيْءٌ﴾ خبره، واللام للابتداء. ﴿عَجِيبٌ﴾ صفة له، وجملة: إنَّ في محل النصب مقول (قال) على كونها مستأنفة.
﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَتَعْجَبِينَ﴾ إلى آخر الآية مقول
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) استئنافية. (لما) حرف شرط. ﴿ذَهَبَ﴾ فعل ماض. ﴿عَنْ إِبْرَاهِيمَ﴾ متعلق به. ﴿الرَّوْعُ﴾ فاعل، والجملة فعل شرط لـ (لمَّا). ﴿وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿ذَهَبَ﴾. ﴿يُجَادِلُنَا﴾ فعل ومفعول. ﴿فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة جواب (لما) لأنه بمعنى جَادَلَنا عَبَّرَ عنه بالمضارع حكايةً للحال الماضية. ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَحَلِيمٌ﴾ خبر أول له. ﴿أَوَّاه﴾ خبر ثان. ﴿مُنِيبٌ﴾ خبر ثالث، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)﴾.
﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لقول محذوف، تقديره: قالوا: يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال إلخ. وإن شئت قلت: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. ﴿أَعْرِضْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾. ﴿عَنْ هَذَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لذلك القول، على كونها جوابَ النداء. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما
﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو) استئنافية. ﴿لما﴾ حرف شرط. ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿سِيءَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على (لوط). ﴿بِهِم﴾ متعلق به، والجملة جواب لمَّا، وجملة (لما) مستأنفة. ﴿وَضَاقَ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿سِيءَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿لوط﴾. ﴿بِهِم﴾ متعلق به. ﴿ذَرْعًا﴾ تمييز محول عن الفاعل. ﴿وَقَالَ﴾ معطوف على ﴿سِيءَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿لوط﴾. ﴿هَذَا يَوْمٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿عَصِيبٌ﴾ صفة ﴿يَوْمٌ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)﴾.
﴿وَجَاءَهُ﴾ فعل ومفعول. ﴿قَوْمُهُ﴾ فاعل والجملة مستأنفة. ﴿يُهْرَعُونَ﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿قَوْمُهُ﴾. ﴿وَمِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَعْمَلُونَ﴾. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر (كان) وجملة (كان) في محل النصب على الحال معطوفة على جملة ﴿يُهْرَعُونَ﴾. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿هُنَّ أَطْهَرُ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَطْهَرُ﴾ والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدرٍ، تقديره: إذا عرفتموهن أطهر وأردتُم بيانَ ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم. ﴿اتقوا اللَّه﴾
﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿علمت﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية جوابُ القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿لَنَا﴾ جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ، أو لـ (ما) الحجازية. ﴿فِي بَنَاتِكَ﴾ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿مِنْ حَقٍّ﴾ مبتدأ مؤخر، أو اسم (ما) الحجازية و (من) زائدة، والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي ﴿علم﴾. ﴿وَإِنَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَتَعْلَمُ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿تعلم﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿لوط﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة، أو مصدرية، أو استفهامية معلقة ما قبلها في محل النصب مفعول (تعلم)، لأنه بمعنى عرف. ﴿نُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على قوم لوط، والجملة صلة ﴿لما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما نريده، أو لتعرف إرادتنا، وجملة ﴿تعلم﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب معطوفة على جملة القسم، على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة. ﴿لَوْ أَنَّ لِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف تمن أو شرط.
﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا لُوطُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا لُوطُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب، مقول القول. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿رُسُلُ رَبِّكَ﴾ خبره، ومضاف إليه، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقولَ القول على كونها جوابَ النداء. ﴿لَنْ يَصِلُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة للجملة التي قبلها على كونها مقول القول. وقال أبو حيان: والجملة من قوله: ﴿لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ موضحة للذي قبلها، لأنهم إذا كانوا رسل الله، لن يصلوا إليه، ولم يقدروا على ضرره، ثم أمروه بأنْ يَسْرِيَ بأهله، انتهى. ﴿فَأَسْرِ﴾ (الفاء) عاطفة. (أسر) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على لوط. ﴿بِأَهْلِكَ﴾ جار ومجرور حال من فاعل (أسْر)؛ أي: متلبسًا بأهلك، والجملة في محل النصب بالقول معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿بِقِطْعٍ﴾ (الباء) حرف جر بمعنى (في). (قطع) مجرور به، الجار والمجرور متعلق (بأسر). ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ صفه لـ (قطع).
{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ﴾ جازم ومجزوم. ﴿مِنْكُمْ﴾ حال من ﴿أَحَدٌ﴾. ﴿أَحَدٌ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَسْرِ﴾. ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ بالنصب على الاستثناء من الأهل، أو من ﴿أَحَدٌ﴾ أو بالرفع على البدلية من ﴿أَحَدٌ﴾. ﴿إنه﴾ ناصب واسمه. ﴿مُصِيبُهَا﴾ خبره، وجملة (إن) مسوقة لتعليل الاستثناء على كونَها مقولَ القول. ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ (ما) موصولة، أو موصوفة في حل الرفع فاعل لـ (مصيب). ﴿أَصَابَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على (ما)، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. وعبارة أبي حيان هنا: والضمير في ﴿إنه﴾ ضمير الشأن، و ﴿مُصِيبُهَا﴾ مبتدأ و ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ الخبر. ويجوز على مذهب الكوفيينَ أن يكونَ ﴿مُصِيبُهَا﴾ خبر (إن) و ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ فاعل به، لأنهم يجيزون إنه قائم أخواك. ومذهب البصريين أن ضميرَ الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحًا بجزئيها، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم، انتهت. ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ ناصب واسمه، وخبره، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿أَلَيْسَ﴾ (الهمزة) للاستفهام التقريري. ﴿ليس الصبح﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿بِقَرِيبٍ﴾ خبره و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب مقول القول.
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصَحَتْ عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرفْتَ ما قالوا له، وأردتَ بيانَ عَاقِبَةِ أمرهم.. فأقول لك. ﴿لما جاء أمرنا﴾ ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب (لما) وجملة (لما) في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق به. ﴿حِجَارَةً﴾ مفعول ﴿أمطرنا﴾. ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿حِجَارَةً﴾. ﴿مَنْضُودٍ﴾ صفة لـ ﴿سِجِّيلٍ﴾. ﴿مُسَوَّمَةً﴾ حال من ﴿حِجَارَةً﴾. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿مُسَوَّمَةً﴾. ﴿وَمَا﴾
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ﴾.
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره، ولقد أرسلنا إلى مدين، وعلامة جره الفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والعجمة، والجملة المحذوفة، معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾. ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول ﴿أَرْسَلْنَا﴾ المحذوف. ﴿شُعَيْبًا﴾ عطف بيان منه. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ﴾ مقول محكي، وإن شئت.. قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿غَيْرُهُ﴾ صفة ﴿إِلَهٍ﴾، والجملة الاسمية مسوقة لتعليل ما قَبلَها على كونَها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ معطوف على ﴿الْمِكْيَالَ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ على كونها مَقُولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَاكُمْ﴾ فعل ومفعول به؛ لأنَّ رأى بصرية. ﴿بِخَيْرٍ﴾ حال من ضمير المخاطبين؛ أي: متلبسين ﴿بِخَيْرٍ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿شعيب﴾، وجملة ﴿أَرى﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة إنَّ مسوقة لتعليل ما قبلها على كونِهَا مقولَ القول. ﴿وَإِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَخَافُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على شعيب. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به. ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿مُحِيطٍ﴾ صفة مجازية لـ ﴿يَوْمٍ﴾ وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل
﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على المنادى الأول. ﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ معطوف عليه. ﴿بِالْقِسْطِ﴾ حال من (واو) ﴿أَوْفُوا﴾؛ أي: متلبسين ﴿بِالْقِسْطِ﴾ وجملة ﴿أَوْفُوا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بـ (لا) الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به. ﴿مُفْسِدِينَ﴾ حال مؤكدة لفاعل ﴿تَعْثَوْا﴾ والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾.
﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)﴾.
﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ (إن) على كونه فِعلَ شرط لها. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبره، وجواب (إن) معلوم ما قبلها تقديره: فهي خير لكم، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة. (ما) نافية أو حجازية. ﴿أَنَا﴾ مبتدأ أو اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق ﴿بِحَفِيظٍ﴾. ﴿حفيظ﴾ خبر المبتدأ أو خبر (ما) و (الباء) زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَمَا لَبِثَ﴾؛ أي: فما تأخر، وأَبْطَأَ مجيؤه. ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ والعجل، ولدُ البقر، والحنيذُ المشوي على الحجارة المحماة في حفرة في الأرض من غير تنور. وفي "المختار": حَنَذَ الشاة شَوَاها، وجعل فَوْقَها حجارة محماة لينضجها، فهو حنيذ، وبابه ضرب، اهـ. وقيل: هو المشويُّ بحر الحجار من غير أن تمسَّه
فَأنْكَرَتْنِي ومَا كَانَ الَّذِيْ نَكرَتْ | مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا |
إِذَا أَنْكَرَتْنِيْ بَلْدَةٌ أَوْ نَكَرْتُهَا | خَرَجْتُ مَعَ الْبَازِيْ عَلَيَّ سَوَادُ |
﴿فَضَحِكَتْ﴾ أصل الضحك: انبساط الوجه مِن سرُورَ يحصل للنفس، ولظُهُور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك، ويستعمل في السُّرور المجرد، وفي التعجب المجرد أيضًا. ثُم للعلماء في تفسير هذا الضحك قولان: أحدهما: أنه الضحك المعروف، وعليه أكثر المفسرين. والقول الثاني: أنه بمعنى حاضت في الوقت، كما قاله مجاهد، وعكرمة، وأنكر بعض أهل اللغة ذلك. قال الراغب: وقول مَنْ قال: حاضت، فليس ذلك تفسيرًا لقوله: فضحكت، كما تصوره بعض المفسرين، اهـ "خازن" بتصرف. ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ﴾ الوَراءُ فعالٌ، ولامه همزة عند سيبويه، وأبي علي الفارسي، وياء عند العامة، وهو من ظروف المكان بمعنى خلف، وقدام، فهو من الأضداد، وقد يستعار للزمان كما في هذا المكان، اهـ "روح المعاني". ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ﴾ أصلها: يا ويلى وهي كلمة تُقَال حين يَفْجَأُ الإنسان أمر مهم من بلية، أو فَجِيعَة، أو فضيحة على جهة التعجب منه، أَو
وفي "السمين" الظاهر كون الألفِ بدلًا من ياء المتكلم، ولذلك أمالَها أبو عمرو، وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن: (يا ويلتي) بصريح الياء. وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت، اهـ. ﴿بَعْلِي﴾ البعل: الزوج، وجمعه بعولة، ومعناه في الأصل، المستعلي على غيره كما مر في مبحث التفسير. ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: من قدرته وحكمته. ﴿حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ الحميدُ: هو الذي يُحْمَد على كل أفعاله، وهو المستحق؛ لأن يحمد في السراء والضراء، والشدة والرخاء. والمجيد: الواسع الكريم، وأصل المجد في كلامهم: السعة، اهـ "خازن". وفي "القاموس": ومجد كنصر، وكرم، مجدًا، ومجادةً فهو ماجد، ومجيد، وأمجده، ومجده، وعظَّمه، وأثنى عليه، اهـ. وقال الغزالي، رحمه الله: المجيد الشريف ذَاتُهُ، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، فكانَ شريفَ الذات إذا قارنه حُسْن الفعالِ يسمَّى مَجِيدًا.
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ الروع بالفتح الخوف، والفزع، يقال: ارتاع من كذا إذا خاف منه، وبضم الراء القلبَ لكن القراءة بالفتح. ﴿لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ الحليمُ الذي لا يُحِبُّ المعاجلة بعقاب، والـ ﴿أَوَّاهٌ﴾ الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم. والمنيب الذي يرجع إلى الله في كل أمر. ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾؛ أي: وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم. ﴿ذَرْعًا﴾ الذرعُ، والذراع: منتهى الطاقَة، يقال: ما لي به ذرع، ولا ذراع؛ أي: ما لي به طاقة، ويقال: ضقت بالأمر ذرعًا، إذا صَعُبَ عليك احتماله. قال الأزهري: الذرعُ يوضع موضعَ الطاقة، والأصل فيه: أنَّ البعير يَذْرَعُ بيديه في سيره ذرعًا على قَدْرِ سعةِ خطوه، فإذا حُمِلَ عليه أكثر من طَوْقِه، ضاق ذرعه عن ذلك، وضَعُف، ومدَّ عُنُقَه، فجُعِلَ ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع، والطاقة، فمعنى: وضاق بهم ذرعًا؛ أي: لم يجد من ذلك المكروه مَخْلَصًا. وقال غيره: معناه: وضَاقَ بهم قَلْبًا، وصدرًا، ولا يعرف أصله إلَّا أن يقال: إنّ الذرع كنايةٌ عن الوُسْعِ، والعرب تقول: ليس هذا في يدي يعنون ليس
﴿يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ يقال: هرع وأُهرع بالبناء للمفعول إذا حمل على الإسراع، وأعجل، فمعنى: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ المبني للمفعول يساقون، ويُدْفَعون. وقال الكسائي: لا يكون الإهراعُ إلا إسراعًا مع رِعْدةٍ مِنْ بَرْدٍ، أو غَضَبٍ، أو حمًّى أو شهوةً. وفي "القاموس" والهَرَعُ محَرَّكٌ، وكغراب، والإهراع مشي في اضطراب وسرعة، وأقْبَلَ يُهْرَعُ بالضم، وأُهرع بالبناء للمجهول، فهو مُهْرَعٌ مَن غَضَب، أو خوف، وقد هَرعَ كفرح، ورجل هَرِعٌ سريع البكاء، اهـ. ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ في الآية سؤال كما مرَّ، وهو أن يقال: إن قولَه: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أفعَل تفضيلٍ فيقتضي أن يكونَ الذي يطلبونه من الرجال طاهرًا، ومعلوم أنه محرَّمٌ فاسدٌ نَجِسٌ لا طهارةَ فيه ألبتةَ، فكيف قال هن أطهر لكم؟. والجواب عن هذا السؤال أنَّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)﴾، ومعلوم أن شجرةَ الزقوم لا خَيْرَ فيها، اهـ "خازن".
﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾؛ أي: لا تخجلوني في شأن ضيفي، فإنه إذا خُزي ضَيفَ الرجل، أو جَارُه، فقد خزِيَ الرجُلُ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة، اهـ "كرخي". والضيفُ في الأصل: مصدر، ثم أطلق على الطارق لَيْلًا إلى المضيف، ولذلك يَقَعُ على المفرد، والمذكر، وضِدَّيْهِما بلفظ واحد، وقد يثنَّى فيقال: ضيفان، ويجمع فيقال: أضياف، وضيوف، كأبيات، وبيوت، وضيفان كحوض وحيضان، اهـ "سمين". والـ ﴿رَشِيدٌ﴾ ذو الرُّشد والعقل. ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: على الدفع بنفسي. ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ من أرباب العصبيات القوية الذين يَحْمُونَ اللاجئين، ويُجِيرون المستجيرينَ. والـ ﴿رُكْنٍ﴾ بسكون الكاف وضمها: الناحيةُ مِن جبل وغيره، ويُجْمَعُ على أركان وأَرْكُن.
والسِّجِّيلُ الطين المتحجّر كما جاء في الآية الأخرى.
﴿حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ قال الراغبُ: هو حجر وطين مختلط، أصله فارسي فعرب. ﴿مَنْضُودٍ﴾ صفة لـ ﴿سِجِّيلٍ﴾ أي وضع بعضه على بعض، وأُعِدَّ لعذابهم. والنضد جعل الشيء بعضه فوق بعض، ومنه: ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)﴾ أي متراكب، والمرادُ: وصف الحجارة بالكثرة. ﴿مُسَوَّمَةً﴾؛ أي: لها سومة بالضم، أي علامة خاصَّة من التسويم، وهو العلامة. وفي "البيضاوي": مُسَوَّمة؛ أي: عليها اسم من يُرْمَى بها. وقيل: مُعَلَّمَة للعذاب. وقيل: مُعَلَّمة ببياض، أو حمرة، أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾؛ أَي: في علم ربك. ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ و (نقص) يتعدى لاثنين إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يحذف تقول: نقصت زيدًا حقه، ومن حقه، وهو هنا كذلك إذ المراد، ولا تنقصوا الناسَ من المكيال والميزان. ويجوز أن يكونَ متعديًا لواحد على معنَى لا تَقَالُّوا، وتطففوا، ويجوز أن يكونَ مفعولًا أول، والثاني: محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقديرُ: ولا تنقصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغ في الأمر بوفائهما، اهـ "سمين". والمكيال، والميزان: الآلة التي يوزن، أو يكال بهما، ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾ مِنْ عَثِيَ كفرح، فمصدره عِثي كعصي، وهو القياسي أو عثو كسمو، وهو سماعيٌّ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ وفي قوله: ﴿لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ﴾.
ومنها: نداء غير العاقل في قوله: ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ تنزيلًا لها منزلةَ العاقل.
ومنها: الطباق بين الروع والبشرى في قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ إلخ، لبيان الحامل له على المجادلة، وهو رِقَّةُ قَلْبِه وفَرْطُ رحمته.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ لأنه كنايةٌ عن العذاب الذي قضاه الله عليهم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ لأنه كناية عن ضيق الوسع، والطاقة.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ شبه اليوم الذي اشتمل على الشر، والأذى بالرأس الذي عُصِب بالعصابة، بجامع الاشتمال في كل.
ومنها: الاستفهام التوبيخي التعجبي في قوله: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾.
قال الشريف الرضي: وهذه استعارة، والمراد به قومه، وعشيرته، جعلهم ركنًا له؛ لأنَّ الإنسان يلجأ إلى قبيلته، ويَستند إلى أعوانه كما يستند إلى ركن البناء الرَّصين، وجاء جواب لو محذوفًا تقديره: لَحُلْتُ بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذفُ ههنا أبلغ؛ لأنه يوهم بعظيم الجزاء، وغليظ النكال.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ وحقُّ العبارة أن يقال: جَادَلنا.
ومنها: الإضافة (١) للتشريف في قوله: ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ﴾ كما في بيتِ الله، و ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال، يستحق التشريفَ، كما ذكره في "روح البيان".
ومنها: ذِكْرُ الخاصِّ ثم العام، ثم الأعَمَّ مبالغةً في النصح، ولطفًا في استدراجهم إلى طاعة الله تعالى في قوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ إلى آخر الآية الثانية: حَيْثُ نُهوا (٢) أولًا عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه، وهو نقص المكيال، والميزان، وفي التصريح بالنهي نعي على المنهي، وتعيير له، وأمروا ثانيًا بإيفائهما مصرَّحًا بلفظهما، ترغيبًا في الإيفاء، وبَعْثًا عليه، وجيء بالقسط، ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية، وهو الواجب؛ لأنَّ ما جاوزَ العَدْلَ فضل، وأمر مندوب إليه، ونهوا ثَالِثًا عن نقص الناس أشياءهم، وهو عام في الناس، وفيما بأيديهم من الأشياء كانَتْ مما تكال وتوزن، أو غير ذلك، ونهوا رابعًا عن الفساد في الأرض، وهو أعم من أن يكون نقصًا، أو غيره فبَدَأَهم أولًا بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله تعالى، ثُمَّ ارتقى إلى عام، ثم إلى أعم منه، وذلك مبالغة في النصح لهم، ولُطْفٌ في استدراجهم إلى طاعة الله تعالى.
ومنها: الزيادة والحَذْفُ في عِدّةِ مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) البحر المحيط.
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها؛ أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أمر شعيب لقومه بعبادة الله
ثم أعاد النصحَ لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح، وأنه يخشى أن يصيبَهم مثل ما أصابَ الأمم قبلَهم، كقوم نوح أو قوم هود، وما الأحداث التي اجتاحَتْ قوم لوط ببعيدَة عنكم، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم، عَلَّه أن يَرْحَمَكم فهو واسع الرحمة، محب لمن تَابَ وأناب إليه.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبتُها لما قَبْلَها: أنه لما أمرهم (١) شعيب بعبادة الله، وترك عبادة أوثانهم، وبإيفاء المكيال والميزان، رَدُّوا عليه على سبيل الاستهزاءِ والهُزْءِ بقولهم: ﴿أَصَلَاتُكَ﴾، وكانَ كثيرَ الصلاة، وكان إذا صلى تغامزوا، وتضاحكوا، ﴿تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ مقابلُ لقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ أو أنْ نفعلَ في أموالنا ما نشاء مقابلٌ لقوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنهم (٢) لما جادلوه أولًا بالتي هي أحسن، وعميَت عليهم العلل، وضاقَت بهم الحِيل، ولم يجدوا للمحاورة ثمرةً، تحولوا إلى الإهانة، والتهديد، وجعلوا كَلامَهُ من الهذيان، والتخليط الذي لا يفهم معناه، ولا تُدْرَكُ فحواه، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لمّا فرغ من ذكر قصة شعيب، صهر موسى، مع قومه.. أرْدفَ بذكر قصص موسى مع فرعون، وملأه، للإعلام بأنَّ عاقبةَ فرعون وأشراف قومه اللعنةُ والهلاك، ككفار أولئك الأمم
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) قصص الأمم الماضية، والقرون السالفة مع الرسل الذين أُرسِلوا إليهم.. نَبَّه إلى ما في ذكرها من عظة واعتبار بقوله: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ فالسامعُ لها، والقارئ يلين قلبه، وتخضع نفسه، فيحمله ذلك على النظر فيها، والاعتبار بها، إلى ما في إخباره - ﷺ - بها من غير مطالعة كتب، ولا مُدَارَسَة مع معلم من عظيم الدلالة على نبوته - ﷺ -؛ إذ أنَّ هذا لا يكونُ إلا بوحي من العليّ الأعلى، أتاه به روح القدس الأمين.
التفسير وأوجه القراءة
٨٧ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ إلخ، مستأنفة (٢) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا لشعيب حين قال لهم ما قال؟ والاستفهام فيه للإنكار عليه، والاستهزاء؛ أي: قالوا: يا شعيب أصلاتك التي هي من نتاج الوسوسة، وفعل المجانين تأمرك بـ ﴿أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: بأن نترك ما سارَ عليه آباؤنا جيلًا إثرَ جيل من عبادة الأوثان والأصنام، وإنما جعلوه مأمورًا مع أن الصَّادِرَ عنه إنما هو الأمر بعبادة الله، وغيرها من الشرائع؛ لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه، بل بوحي من ربه، ويبلِّغهم أنه مأمور بذلك، وإسنادُ الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات؛ لأنه كانَ كثيرَ الصلاة معروفًا بذلك، حتى إنهم كانوا إذا رأوه يُصلِّي تغامزوا، وتضاحكوا، فكانت هي من بين الشعائر ضُحْكة لهم. فقوله: ﴿أَنْ نَتْرُكَ﴾ فيه أنَّ الترك فعلهم، لا فعل شعيب، وهو المأمور، والإنسان يؤمر بفعل نفسه، أجيب عنه: بأنَّ الكلامَ على حذف مضاف، تقديره: هل هي تأمرك بتكليفك إيانا تَرْك عبادة ما يعبد آباؤنا، إلخ، والتكليف إذًا من فعله، ذكره في "الجمل". أجابوا بذلك أمره عليه
(٢) الشوكاني.
والخلاصة: أنهم رَدُّوا عليه الناحِيَتَيْنِ الدينية، والدنيوية بما رأوا مِنْ شُبَهٍ مزيفة، وحجج عفنةٍ، والمعنى: أصلاتك تَأمُرَكَ أن نتركَ ما يعبدُ آباؤنا، وتأمركَ أن نترُكَ فِعْلَنَا في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والنقص والزيادة. وقال بعضهم: كان (٢) يَنْهَاهم عن تقطيع أطراف الدراهم والدنانير، وقصها فأرادوا به ذلك، والمعنى ما نشاءُ من تقطيعها.
فائدة: واعلم أنَّ أوَّلَ من استخرج الحديد، والفضة، والذهب من الأرض (هَوشنَكُ) في عصر إدريس عليه السلام، وكان ملكًا صالحًا داعيًا إلى الإِسلام وأول مَنْ وضع السكَّةَ على النقدين. (الضحاك). وإفسادُ السكة بأيِّ وجهٍ كان إفسادًا في الأرض، وسئل الحجاج عما يرجو به النجاةَ فذكر أشياء، منها: ما أفسدت النقود على الناس.
وقرأ الجمهور: أصلواتك بالجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص، وابن وثاب (٣): ﴿أَصَلَاتُكَ﴾ على التوحيد. وقرأ (٤) الجمهور: ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ بالنون فيهما كما فسرناه سابقًا. وقرأ الضحاك بن قيس
(٢) روح المعاني.
(٣) البحر المحيط وزاد المسير.
(٤) البحر المحيط.
٨٨ - ﴿قَالَ﴾ شعيب ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني ﴿إِنْ كُنْتُ﴾ إيرادُ حرف الشك باعتبار حال المخاطبينَ ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾؛ أي: حجة واضحة، وبرهان نير من
والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحة، ويقين من ربي، وكنت نبيًّا على الحقيقة.. فهل يصح لي أن أتبعَكم، وأشوبَ الحلال بالحرام، ولا آمركم بتوحيد الله، وتركِ عِبَادَة الأصنام، والكفِّ عن المعاصي، والقيام بالقسط، والأنبياء لا يبعثونَ إلَّا لذلك؟.
﴿وَمَا أُرِيدُ﴾ بنهيي إياكم عن التطفيف ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾؛ أي: مخالفتكم حال كوني مائلًا ﴿إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يقال (٣): خالَفْتُ زيدًا إلى كذا، إذا قصدته، وهو مول عنك، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس؛ أي: لا أنهى عن شيء وأرتكبه من نقصان الكيل، والوزن؛ أي: أختارُ لكم ما أختارَ لنفسي، فإنه ليس
(٢) روح المعاني.
(٣) روح المعاني.
والمعنى: أي وما أريد بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البَخْس والتطفيف أنْ أقصده بعد ما ولَّيْتم عنه فأستبدَّ به دونكم، مؤثرًا لنفسي عليكم، بل أنا مُسْتَمْسِكٌ به قبلكم.
﴿إِنْ أُرِيدُ﴾؛ أي: ما أريد بما أباشره من الأمر والنهي ﴿إِلَّا الْإِصْلَاحَ﴾؛ أي: إلَّا أَنْ أصلحكم بالنصيحة والموعظة ﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾؛ أي: مِقْدَارَ ما استطعته من الإصلاح. قال في "بحر العلوم": (ما) مصدرية، واقعة موقع الظرف؛ أي: ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم، ودَفْعُ الفساد في دينكم، ومعاملاتكم مدةَ استطاعتي الإصلاحَ، وما دمت متمكنًا منه لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم. وفي ذلك (١) إيماءٌ إلى إثبات عقله، ورشده، وحكمته، وإبطال لتهكمهم، واستهزائهم بتلقيبهم إياه بـ ﴿الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾. ﴿وَمَا تَوْفِيقِي﴾؛ أي: وما كوني موفَّقًا هاديًا نبيًّا مُرْشِدًا ﴿إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: إلَّا بتأييد الله سبحانه، وإقداري عليه، ومَنحي إياه، وهو مصدر من المبني للمفعول؛ أي: وما كوني موفَّقًا لتحقيق ما أقصده من إِصلاحكم. ﴿إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: إلا بتأييده ومعونته، بل الإصلاحُ من حيث الخلق مستندٌ إليه، وإنما أنا من مباديه الظاهرة، والتوفيق (٢) يتعدَّى بنفسه، وباللام وبالباء، وهو تسهيل سبل الخير، وأصله موافقةُ فعل الإنسان القدرَ في الخير، والاتفاق هو: موافقةُ فعل الإنسان خيرًا كان أو شرًّا القَدَر. وقال في "التأويلات النجمية": التوفيقُ: اختصاص العبد بعناية أزلية، ورعاية أبدية، انتهى.
والخلاصة (٣): وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي، وما أَذَرُ
(٢) روح المعاني.
(٣) المراغي.
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم ﴿وَإِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿أُنِيبُ﴾؛ أي: أرجع في كل ما نابني من الأمور، وأفوض جميعَ أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره. والمعنى عليه توكلت في أداء ما كلفني به من تبليغكم ما أرسلت به إليكم، لا على حولي ولا قوتي؟ وإليه أرجع في كل ما أهمَّني في الدنيا، وهو الذي يُجازيني على أعمالي في الآخرة.
والخلاصة: أنه لا يرجو منهم أجرًا، ولا يَخْشَى منهم ضيرًا. وقيل: المعنى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدت في ذلك معرضًا عما عداه، فإنه القادر على كل مقدور، وما عداه عاجزٌ محض في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، بمعزل عن رتبة الاستمداد به في الاستظهار ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وأرجع فيما أنا بصدده، في جميع أموري. فقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ إشارةٌ إلى معرفة المعاد.
فعلى (١) العاقل أن يجتهدَ في طريق الحق بالأذكار النافعة، والأعمال الصالحة، إلى أن يصلَ إلى مقام التوحيد الحقيقي، ثم إذا وصل إليه اقتفى بأثر الأنبياء، وكمل الأولياء في طريق النصح، والدعوة، ولم يرد إلا الإصلاح، تكثيرًا للأتباع المحمدية، وتقويمًا لأركان العالَم بالعدل، ونَظْمًا للناس في سلك الرشاد، والله ولي الإرشاد، وهو المبدء، وإليه الرجوع والمعاد.
٨٩ - ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾؛ أي: لا يكسبنكم، ولا يحملنكم. وقرأ يحيى بن وثاب: ﴿يُجرمنكم﴾ بضم الياء من أجرم الرباعي، اهـ "قرطبي". ﴿شِقَاقِي﴾؛ أي: شقاقكم وعداوتكم وبُغضكم إياي ﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾؛ أي: على أن ينالكم عذاب ﴿مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾ من الغرق ﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾ من الريح ﴿أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ من الصيحة ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ يعني: أنهم أُهلكوا بسبب الكفر، والمعاصي في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم، فإن لم تعتبروا
والمعنى: أي (١) لا تحملنكم عداوتي وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله، وعبادة الأوثان، وبَخْس الناس في المكيال والميزان، فيصِيبَكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، أو قوم هود من الصرصر، أو قوم صالح من الرجفة ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ زمانًا، ولا مكانًا؛ أي: إن لم تعتبروا بمن ذكرنَا قبلُ لقدم عهد، أو بُعْدِ مكان، فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأىً منكم، ومسمع، وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وأنهم كانوا جيرانَ قوم لوط، وبلادهم قريبة من بلادهم، فإنَّ بلادَهم قريبة من مَدْيَن، وإهلاكهم أقربُ الإهلاكات التي عَرَفها الناس في زمان شعيب، وقد يكون المعنى: ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فاحذروا أن يَحلَّ بكم مثل ما حَلَّ بهم من العذاب؛ أي: وما معاملة قوم لوط من معاملتكم، وذنوبهم من ذنوبكم ببعيد؛ لأن الكفرَ كله من جنس واحد، وصفات الكفر قريب بعضها من بعض، قال الجوهري: القومُ يذكَّر ويؤنث، والبعيد من المصادر التي يستوي فيها المذكر، والمؤنث، والجمع، والمفرد، كالزفير، والصهيل، ولذلك أخبرَ عنه ببعيد، ثمَّ بعدَ ترهيبهم بالعذاب، أمَرَهُم بالاستغفار، والتوبة فَقَال:
٩٠ - ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ من عبادة الأوثان، والأصنام ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ من البخس، والنقصان في الكيل، والوزن، أو استغفروا بالإيمان، ثمَّ ارجعوا إليه بالطاعة ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: كثير الرحمة للتائبين، والمستغفرين ﴿وَدُودٌ﴾؛ أي: محب لهم؛ أي: فاعل بهم من اللطف، والإحسان كما يفعل البليغُ المودة بمن يوده. قال في "المفاتيح": الودود مبالغة الوَادّ، ومعناه: الذي يُحِبُّ الخيرَ لجميع الخلائِق، ويحسن إليهم في الأحوال كلها، وقيل: المحبُّ لأوليائه.
٩١ - وقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم شعيب استئناف بياني ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ﴾ الفقه: معرفةُ غرضِ المتكلم من كلامه؛ أي: لا نعرفُ ولا نَفْهَمُ ﴿كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾؛ أي: كُلّ ما تقول من التوحيد، ومن إيفاء الكيل والوزن، وغير ذلك؛ قالوا ذلك استهانةً بكلامه، واحتقارًا به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يَعْبَأ بحديثه: ما ندري ما تقول، وإلا فشعيب كان يخاطبهم بلسانهم، وهم يَفْهَمُونه كلامَهُ، لكن لمَّا كان دعاؤه إلى شيءٍ خلاف ما كانوا عليه وآباءهم قالوا ما قالوا.
والمعنى: أي ما نعلم (٢) حقيقة كثير مما تقول لنا وتخبرنا به من بطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف في أموالنا، ومجيء عذاب يحيط بنا، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابَتْ مَنْ قَبْلَنَا كان أمرها بيدك يصيب بها ربك من يشاء لأجلك.
وقيل المعنى (٣): أنك تأتينا بما لا عَهْدَ لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية، كالبعث والنشور، ولا نَفقه ذلك؛ أي: لا نَفْهَمُه، كما نفهم الأمور الحَاضِرَةَ المشاهدةَ فيكون نفي الفقه على هذا حقيقةً لا مجازًا، وقيل: قالوا ذلك إعراضًا عن سماعه، واحتقارًا لكلامه مع كونه مفهومًا لديهم معلومًا عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقةً بل مجازًا كما مر.
﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ﴾ يا شعيب ﴿فِينَا﴾؛ أي: فيما بيننا ﴿ضَعِيفًا﴾؛ أي: لا قوةَ لكَ ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفع، تقدر بها على أن تمنع نَفْسَكَ منا، وتتمكن بها من مخالفتنا، ولا تستطيع أن تمتنع منا، إن أردنا أن نَبْطِشَ بك،
(٢) الشوكاني
(٣) روح المعاني.
﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾؛ أي: ولولا حرمة قومك، ومراعاةُ جانبهم، وقالوا: ذلك كرامةً لقومه، لأنهم كانوا على دِينهم لا خوفًا، لأن الرهط من الثلاثة إلى السبعة، أو التسعة، أو العشرة، وهم ألوفٌ فكيف يخافون منْ رهطه؛ أي: ولولا عشيرتك الأقربون ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾؛ أي: لقَتَلْناك برمي الحجارة، حتى تُدْفن فيها، وقد يُوضَع الرجم موضع القتل، وإن لم يكن بالحجارة من حيثُ إنه سببه، ولأنَّ أوَّلَ القتل لبني آدم، وهو قتلُ قابيلَ لهابيل، لمَّا كان بالحجارة سَمَّى كُلَّ قتلٍ رَجَمًا، وإن لم يكن بها.
وقال عمر رضي الله عنه (١): تَعلَّموا أنْسَابَكُم، تعرفوا بها أصولَكم، وتصلوا بها أرحامكم؛ قالوا: ولو لم يكن في معرفة الأنساب إلا الاحتراز بها من صولة الأعداء ومنازعة الأكفاء.. لكان تَعَلُّمها من أحزم الرأي، وأفضل الصواب، ألا ترى إلى قول قوم شعيب: ولولا رهطك.. لرجمناك فأبْقَوا عليه لرهطه، يقال: أبقيتُ لفلان إذا أرعيت عليه ورحمته.
ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: وما (٢) أنت بذي عزة، ومنعة تحول بيننا وبين رجمك، وإنما نعزُّ رَهطَك على قلتهم؛ لأنهم منَّا، وعلى ديننا الذي نبذتَه وَراء ظهرك، وأهَنْته ودعوتنا إلى تركه لبطلانه في زعمك. والمعنى: أي: وما أنت بمكرم محترم حتى تمنعنا عزتك من رجمك، بل رهطُك هم الأعزة علينا، لكونهم من أهل ديننا، فإنما نكف عنك
(٢) المراغي.
وفي الآية إشارة (١) إلى أنَّ مَنْ كَانَ على الله ﴿بِعَزِيزٍ﴾ فإنه ليس على الجاهل بعزيز، وذلك؛ لأنَّ العزةَ والشرفَ عند الجهلاء خُصوصًا في هذا الزمان الفاسدِ بالجاه والمال، لا بالدين والكمال، وقد قال النبي - ﷺ -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، بل ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، يعني: إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحةٌ تكونون مقبولينَ مُطْلَقًا سواء كانت لكم صور حسنة، وأموال فاخرةً أم لا؟ وإلا فلا.
٩٢ - فوبَّخهم شعيب على سفاهتهم، كما حكى سبحانه عنه ﴿قَالَ﴾ شعيب في جوابهم، والهمزة في قوله: ﴿يَا قَوْمِ أَرَهْطِي﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي ﴿أَعَزُّ عَلَيْكُمْ﴾ وأهيب وأكرم عندكم ﴿مِنَ اللَّه﴾ سبحانه وتعالى حتى كَانَ امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم، وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره، وكان (٢) الظاهرُ أن يقالَ مني إلا أنه قيل: من الله للإيذان بأنَّ تَهَاوُنَهُم به وهو نبي الله تهاوُنٌ بالله تعالى، وإنما أَنْكَر (٣) عليهم أعَزَّيَّةَ رهطه منه تعالى مع أنَّ ما أثبتوه، إنما هو مطلق عزة رهطه، لا أعزيتهم منه تعالى مع الاشتراك في أصل العزة، لتكرير التوبيخ، حيث أنْكَرَ عليهم أوَّلًا بترجيح جانب الله تعالى، وثانيًا بنفي العزة بالمرة، والمعنى: أرهطي أعز عليكم من اللَّهِ سبحانه وتعالى، فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له حظًّا من العزة أصلًا.
﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَرَاءَكُمْ﴾؛ أي: وراءَ ظهركم ﴿ظِهْرِيًّا﴾؛ أي:
(٢) روح المعاني.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أي إن ربي سبحانه وتعالى محيط علمه بعملكم، فلا يَخْفَى عليه شيء منه، وهو مجازيكم عليه، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يَخْفى ما في ذلك من التهديد والوعيد.
٩٣ - ثم هدَّدهم مرة أخرى فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ كل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلى حالة كونكم ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: موصوفين بغاية المكنة، والقدرة، والقوة؛ أي: على نهاية التمكن، وغايته في إيصال الضرر إليَّ، مِنْ مكن مكانةً فهو مكين، إذا تمكَّن من الشيء أبلغ التمكنِ، أو بمعنى المكان، كمقام، ومقامة، والمعنى: إعملوا ما شئتم على ناحيتكم، وجهتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة لي؛ أي: ويا قوم (٢) اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعَصَبِيتكم.
(٢) المراغي.
فائدة: قال الزمخشري (٢): فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء في سورة الأنعام في قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وحذفها هنا، حيث قال: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
قلت: إدخال الفاء وَصلٌ ظاهر بحرف موضوع للوصل، وحذفها وصل خفي تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذَا
(٢) البحر المحيط.
﴿وَارْتَقِبُوا﴾؛ أي: انتظروا مآلَ ما أقولُ لكم من حلول ما أَعِدُكم به، سيظهر صِدْقُه ﴿إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾؛ أي: منتظر لما يقضِي الله به بيننا، وهو فعيل بمعنى الراقب. وعبارة القرطبي: ﴿وَارْتَقِبُوا﴾؛ أي (١): انتظروا العذابَ والسخطةَ ﴿إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾؛ أي: فإني منتظر النصر والرحمةَ. وكان شعيب عليه السلام يسمَّى خطيب الأنبياء، لحسن محاورته مع قومه، وكمال اقتداره في مراجعته جوابَهم، وكان كثيرَ البكاء حتى عَمِيَ ثم رَدَّ الله عليه بصرَهُ، فأوحى إليه يا شعيب: ما هذا البكاءُ أشوقًا إلى الجنة أم خوفًا من النار؟ فقال: إلهي وسيدي إنك تعلم أني ما أبكي شوقًا إلى الجنة، ولا خوفًا من النار، ولكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك، فما أبالي ما الذي تصنع بي. فأوحى الله تعالى إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقًّا.. فهنيئًا لك لقائي، يا شعيب، لذلك أخْدَمْتُك موسَى ابنَ عِمرانَ كليمي.
وهذه حال المقربين، فإنهم جعلوا الله تعالى بين أعينهم، وجعلوا الخَلْقَ وراءَ ظهورهم، خِلافَ ما عليه أهل الغفلة، فلم يلتفتوا إلى شيء من الكَونين حُبًّا لله تعالى، وقصرًا للنظر عليه، وهم العبيد الأحرار، والناس في حَقِّهم على طبقات. فأما أهل الشقاءِ فلم يعرفوهم مَنْ هم، ولم يَرَوْهم أصلًا لانطماس بصيرتهم، وعدم استعدادهم لهذا الانكشاف، ألا ترى إلى قوم شعيب، كيف حَجَبهم كونه أَعمى في الصورة عن رؤية جمال نبوته، وظنُّوا أن لهم أبصارًا ولا بصرَ له، ولذا عدوه ضعيفًا، ولم يعرفوا أنهم عميٌ في الحقيقة، وأن أبصارهم الظاهرةَ لا تستجلب لهم شرفًا، وأنَّ الحقَّ مع أهل الحق، سواء ساعدته الأسباب
٩٤ - ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ كانَ صادقًا في وعيده لهم فَحَلَّ بهم سوء العذاب فقال: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ الذي قَدّرناه في الأزل من العذاب، والهلاك لقوم شعيب، فالأمرُ: واحد الأمور ﴿نَجَّيْنَا﴾ رسولنا ﴿شُعَيْبًا﴾ قدم تنجيتَه إيذانًا بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب الجرائم، ﴿و﴾ نجينا ﴿الذين آمنوا معه﴾، واتبعوا شعيبًا في الإيمان، وآمنوا كما آمنَ هو، فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم، ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ أزلية صَدَرَتْ ﴿مِنَّا﴾ في حقهم، ومجرد فضل خاصٍّ بهم لا بسبب أعمالهم كما هو مَذْهَبُ أهل السنة. وقال بعضهم: هي الإيمان الذي وفقناهم له، يقول الفقيرُ (١): وجه هذا القول أنَّ العذابَ والهلاكَ الذي هو من باب العدل قد أضيف إلى الكفر والظلم، فاقتضى أن يضافَ الخلاصُ والنجاة الذي هو من باب الفضل إلى الإيمان، ولمَّا كانَ الإيمانُ والعمل الصالح أمرًا موقوفًا على التوفيق.. كان مجردَ فضل ورحمة فافهم.
فائدة: قال الزمخشري (٢): فإن قلت: ما الحكمة في قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ بالواو في قصتي عاد ومدين، وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ بالفاء في قصتي لوط وثمود؟
(٢) البحر المحيط.
﴿وَأَخَذَتِ﴾؛ أي: أهلكت ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسَهم بالإباء والاستكبار، عن قبول دعوة شعيب وغيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه حلال ﴿الصَّيْحَةُ﴾ فاعل، أخذَت، وأنَّث (١) الفعل هنا على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ فذكّر على معنى الصياح؛ أي: أهلكَتْهم صيحةُ جبريل عليه السلام بقوله: (موتوا جميعًا)، وفي سورة الأعراف: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها، وهذا في أهل قرية شعيب، وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة، وهو نارٌ نزلت من السماء أحرقَتْهُم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أهلك الله أُمَّتَيْن بعذاب واحد، إلا قومَ صالح، وقومَ شعيب أهلكهم الله بالصيحة، غَيْرَ أنَّ قومَ صالح أخَذَتْهُم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحةُ من فوقهم.
وذلك أنهم أصابهم حر شديد، فخَرَجُوا إلى غيضة لهم فدخلوا فيها، فَظَهَرَتْ لهم سحابة كهيئة الظلة فأحدقَتْ بالأشجار، وأَخذَتْ فيها النار، وصاح بهم جبريل، ورجفَتْ بهم الأرض، فماتوا كلهم، واحترقُوا، فذلك قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: صاروا ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾؛ أي في بلادهم أو مساكنهم ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: ساقطينَ ميتينَ، لازمينَ لأماكنهم لا براحَ لهم منها؛ أي: لا زوالَ حالةَ كونهم
٩٥ - ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾؛ أي: كأنهم لم يقيموا في ديارهم أحياء
والخلاصة (١): أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أرسلَ على كل من ثمود ومدين صاعقةً ذاتَ صوت شديد، فرجَفَتْ أرضها، وزلزلت من شدتها، وخروا ميتين، وكانت صاعقتهما أشد من الصاعقة التي أخذَتْ بني إسرائيل حين قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾. وقد أحياهم الله تعالى عَقِبَها؛ لأنَّ هذه تربية لقوم بني إسرائيل في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذابَ خزي لمشركينَ ظالمينَ معاندِينَ أنجى الله نبِيَّ كل منهما، ومؤمنيهما قبلها. وقرأ أبو (٢) عبد الرحمن السلمي، وأبو حيوة: ﴿كما بَعُدت﴾ بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب. والجمهور بكسرها. أرادت العرب: التفرقةَ بين البعد من جهة الهلاك، وبين غَيره فغيَّروا البناءَ. وقرأه السلمي جاءت على الأصل اعتبارًا لمعنى البُعْدِ من غير تخصيص، كما يقال: ذَهَبَ فلان ومَضَى، في معنى القرب.
وفي الآية (٣) إشارة إلى أن الكفرةَ وأهلَ الهوى، أفسدوا الاستعدادَ الروحانيَّ الفطريَّ، في طلب الدنيا، واستيفاء شهواتها، والاستكبار عن قبول الحق والهدى، وأدَّى تمردهم عن الحق، وتماديهم في الباطل إلى الهلاك صورةً ومعنًى. وأما صورة فظاهرٌ. وأما معنى: فلأنهم أبعدوا عن جوار الله وطيب العيش معه إلى أسفلِ سافلي القطيعة فبَقَوا في نار الفرقة، لا يحيون، ولا يموتونَ، وما انتفعوا بحياتهم فَصاروا كالأموات، وكما أنَّ الصيحةَ من جِبْرِيلَ أهلكتهم فكذا النفخة من شعيب أحيَتْ المؤمنينِ لأنَّ أَنْفَاس الأنبياء، والأولياء كنفخ إسرافيل في الأحياء إذا كان المحلُّ صالحًا لطرح الروح فيه كجسد
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٩٦ - ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا ﴿مُوسَى﴾ بن عمرانَ حالةَ كونه متلبسًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التسع التي هي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص الأموال والأنفس الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا. وقيل: المراد بالآيات التوراةُ، وبالسلطان، العصا، واليد؛ أي: ولقد أرسلنا موسى بالتوراة مع ما فيها من الأحكام، وأيدْناه بمعجزات قاهرة دالةٍ على صدق نبوته، ورسالته، وهذا القول ليس بسديد؛ لأنه قال:
٩٧ - ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملأه، ذكره أبو حيان في "البحر". ﴿و﴾ متلبسًا بـ ﴿سلطان﴾؛ أي: برهان ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: واضح هو نفس تلك الآيات فهو من قبيل عطف الصفة مع اتحاد الموصوف؛ أي: ولقد أرسلنا موسى بالأمر الجامع بين كونه آياتنا، وبين كونه سلطانًا له على صِدْقِ نبوته واضحًا في نفسه، أو مُوضِّحًا إياها، فإنَّ أبان جاء لازمًا ومتعديًا، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾؛ أي: التوراة الجامعةَ بين كونِهَا كِتَابًا وحجةً تفرق بين الحق والباطل، ويجوز أن يرادَ بسلطان مبين الغلبة والاستيلاء كقوله تعالى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾. قال بعض المحققين: سميت الحجة سلطانًا؛ لأنَّ صاحب الحجة يَقْهَرُ مَنْ لا حجة معه كالسلطان يَقْهر غيره، اهـ "خازن".
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾؛ أي: أشراف قومه، ورؤسائهم، وتخصيص ملأه بالذكر مع عموم رسالته لقومه كافَّة لأصالتهم في الرأي، وتدابير الأمور، واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور. ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ في كل ما قَرَّره من الكفر بموسى، ورَدِّ ما جاءهم به من عند الله، وتشديد الظلم على بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم إلى نحو ذلك مما جاء في السور الأخرى مفصَّلًا؛ أي: فاتبع الملأ أَمْرَ فرعونَ وأطاعوا قولَه، حين قاله لهم: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وخالفوا أَمْر موسى بالتوحيد، وقبول الحق، وإنما لم يصرِّح بكفر
٩٨ - ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾؛ أي: يتقدم فرعون قومه وأتباعه من الأشراف وغيرهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ويكونون تَبَعًا له كما كانوا تَابِعينَ له في الدنيا إلا مَنْ آمنَ ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾؛ أي: فيوردهم النارَ معه، ويُدْخِلُهم جَهنَّمَ. وقد وَرَدَ أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحًا ومساءً من كل يوم كما قال تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦)﴾؛ أي: إن فرعونَ كان قُدوةً لقومه في الضلال، وفي دخول البحر، والغرق في الدنيا، فكذلك يتقدَّمهُم في الآخرة في دخول النار والحرق. وعَبَّر بصيغة الماضي في قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ﴾ للدلالة على تحقق الوقوع، لا محالةَ؛ لأنَّ الماضِيَ متيقن الوجود ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾؛ أي: وبئس المَدْخَلُ المدخول فيه، والمَشْربُ الذي يشرب منه، والمخصوص بالذمِّ النارُ؛ لأنَّ واردَ الماء إنما يَرِدُه لِتبريد كبدِهِ، وإطفاء غُلَّتِهِ مِنْ حَرِّ الظمأ، ووارد النار يحترق فيها احتراقًا.
واعلم (١): أن الورودَ عبارة عن المجيء إلى الماء، والإيراد إحضار الغير، والمورود الماء فشبه فرعونَ بالفارط الذي يتقدم الواردَ إلى الماء، وأتباعَه بالواردة،
٩٩ - ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ﴾ الدنيا ﴿لَعْنَةً﴾؛ أي: وأتبع الملأ الذين اتبعوا فرعونَ في هذه الدنيا طردًا وبُعْدًا عن الرحمة؛ أي: وألحقت بهم في هذه الدنيا لعنة عظيمة مِمَّنْ بَعْدَهم من الأمم ﴿و﴾ أتبعوا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لعنةً أخرى، أيضًا مع اللعنة التي حَصَلَتْ لهم في الدنيا يَلْعَنُهم أهل الموقف جميعًا، فهي تابعة لهم حيثما سارُوا، ودائرة أينما دَاروا. والآية بمعنى قوله تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)﴾. وفي "السمين" قوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ معطوف على موضع في هذه، والمعنى: أنهم ألحقوا لعنةَ في الدنيا، وفي الآخرة، ويكون الوَقْفُ عليها تامًّا، ويبتدأُ بـ (بئس) اهـ.
أي (١): فَكَما اتبعوا أَمْرَ فِرْعَونَ، أتبعتهم اللعنة في الدارين جزاءً وفاقًا، أو يُلْعَنُون، ويُطردون من رحمة الله تعالى في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بما فيها من عذاب، فإن كُلَّ معذَّبٍ مَلْعونٌ مطرودٌ من الرحمة، كما أنَّ كلَّ مخذولٍ محرومٌ من التوفيق، والعناية كذلك، واكتفى ببيان حالهم الفظيع عن بيان حال فرعون. إذْ حِينَ كان حالُهم هكذا، فَمَا ظنك بحال من أغواهم، وألقاهم في هذا الضلال البعيد، وحيثُ كانَ شأنُ الأتباعِ أن تكون أعوانًا للمتبوع، جُعلت اللعنة رِفدًا لهم على طريقة التهكم. فقيل: ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ﴾؛ أي (٢): العَونُ، والمرادُ به اللعنةُ الأولى ﴿الْمَرْفُودُ﴾؛ أي: المعانُ باللعنة الثانية؛ أي: بئس اللعنةُ الأولى المُعانُ باللعنة الثانية عونهم، وهي اللعنة في الدارين. فاللعنة الأولى: عَوْنٌ لهم معاونةٌ باللعنة الثانية، وهذا على سبيل التهكم بهم، وإلا فاللعنة إذْلالٌ لهم، وإنزِالٌ بهم إلى الحضيض الأسفل. وسمِّيت اللعنة عَوْنًا لأنها إذا تَبِعَتْهم في الدنيا أَبْعَدَتْهم عن رحمة الله تعالى، وأعانَتْهم على ما هم فيه من الضلال. وسمِّيت رفدًا؛ أي: عونًا لهذا المعنى على سبيل التهكم. وسميت مُعَانًا لأنها أُردفَت في الآخرة بلعنة أخرى ليكونا هَادِيَيْنِ إلى طريق الجحيم، اهـ "زاده". وقال الزجاج: كلُّ شيء جعلته عَوْنًا لشيء، وأسندْتَ به شيئًا، فقد رفدتَه، والمعنى: بئس العونَ المعان
(٢) الفتوحات.
١٠٠ - ﴿ذَلِكَ﴾ الخبر الذي قصصناه عليك يا محمَّد ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾، والمدن؛ أي: بعضُ أخبار أهل القرى المهلكة من الأمم الماضية بما جَنَتْ أيدي أهلها من قوم نوح، ومَنْ بعدهم ﴿نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ في هذا القرآن، ونخبره لك لتتلوه على الناس فيكون فيه دلائل نبوتك، ويتلوه المؤمنون آناءَ الليل وأطراف النهار، إنذارًا وتبليغًا عَنَّا ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك القرى ﴿قَائِمٌ﴾؛ أي: باق أثره وجدرانه كالزرع القائم على ساقه كديار عاد وثمود. ﴿و﴾ منها ﴿حصِيد﴾؛ أي: عافي الأثر، وذاهبه كالزرع المحصود، كقُرى قوم لوط، وديار قوم نوح، فشَبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وما محي منها بالزرع المحصود.
١٠١ - ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾؛ أي: وما ظلمنا أَهْلَ تلك القرى بإهلاكنا إياهم بغير جُرْمٍ استحقوا به الهلاك، فالضمير عائد إلى الأهل المحذوف المضاف إلى القرى ﴿وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بارتكاب ما يُوجب الهلاكَ منْ شركِهِم، وإفسادهم وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق، ولو بَقَوا زَمانًا ما ازدادوا إلا ظلمًا وفجورًا وفسادًا في الأرض، كما قال نوح عليه السلام: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧)﴾. فإنهم أَكلوا رِزْقَ الله؛ وعبدوا غَيْرَه وكذبوا رسله. وفيه إشارة إلى أَنه تعالى أعطاهم استعدادًا روحانيًّا، وآلةً لتحصيل كمالات لا يدركها الملائكة المقربون، فاستعملوا تلك الآلة على وَفْقِ الطبيعة لا على حكم الشريعة، فعبَدُوا طاغوت الهوى، ووثَنَ الدنيا،
ويقال: تببه تتبيبًا إذا أهلكه، وتبَّ فلانُ وتَبَّتْ يده خَسِرَ، أو هلك كما سيأتي في مباحث الصرف إن شاء الله تعالى. وقرىء (١): ﴿آلهتهم اللاتي﴾ بالجمع ﴿ويدعون﴾ بالبناء للمجهول.
١٠٢ - ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ﴾ قرأ (٢) أبو رجاء، والجحدري: ﴿وكذلك أخذَ ربُّك إذ أخذ﴾ على أَنَّ أَخْذَ ربك فعل وفاعل، و (إذ) ظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله في إهلاك من تقدم من الأمم.
(٢) البحر المحيط.
وفائدتها: الإشعارُ بأنهم أخذوا بظلمهم وكفرهم ليكونَ ذلك عبرةً لكل ظالم.
والمعنى: أي ومثل ذلك الأخذ المذكور بالعذاب، وعلى نَهجه وطريقِهِ أخذ ربك أهلَ القرى إذا أخَذَهم، وهم ظالمون أنفسَهم بالكفر، والإفساد؛ أي: إنَّ كُلَّ (١) من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركَهم في ذلك الأخذ، فذلك عقابٌ لا مفرَّ منه، ولا مَهْرَب.
وفي هذا إنذارٌ وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة في كل زمان ومكان. ﴿إِنَّ أَخْذَهُ﴾ سبحانه وتعالى وإهلاكه للأمم ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: وجيع قاسي لا يُرجَى منه الخلاص؛ أي: إنَّ عقوبته سبحانه وتعالى لمن ظلم عقوبة مؤلمة شديدة صعبة على المأخوذ والمعاقَب، لا يُرْجى مِنها الخلاص.
روى البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذَا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾، فليعتبر (٢) الظالمون بهذا، ولا يغتروا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غَضَب ربهم، ونقمتَه، فربما كان ذلك إملاءً منه
(٢) المراغي.
١٠٣ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إنَّ فيما (١) نَزَل بالأمم الهالكة بذنوبهم، أو إنَّ فيما قصه الله سبحانه وتعالى من إهلاك تلك الأمم السبعة، وبيان سنته في عاقبة الظالمين. ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة بينة وموعظةً بالغةً، وحجةً ظاهرة. ﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: لمن (٢) أقر عذابَ الآخرة، وآمن به، وصدَّقه، وخافَ منه؛ لأنه يعتبر بتلك الأمم حيثُ يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة، وذلك لأنَّ القَصَص المذكورة فيها عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، وقد حصَلَ الأول فيعلم العاقل أنَّ القادر على إنزال الأول قَادِرٌ على إنزال الثاني. وأمَّا مَنْ أنكر الآخرةَ، وأحال فَنَاءَ العالم، ولم يقل بالفاعل المختار، وجَعَلَ تِلك الوقائعَ لأسباب فَلَكِية اتفقت في تلك الأيام، لا لذنوب المهلكين فهو بمعزل من هذا الاعتبار، تبًّا لهم، ولما لهم من الأفكار. وعبارة أبي حيان هنا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: فيما (٣) قصَّ اللَّهُ سبحانه وتعالى من أخبار الأمم الماضية، وإهلاكهم ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعلامة ﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: أنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياءَ، وإشراكهم بالله، وهي دار العمل، فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى، وذلك أنَّ الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم، وأشركوا بالله، ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم فدلَّ على أنَّ ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شكَّ فيه، انتهت.
والماديون في هذا العصر (٤)، وفي عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون: إن الطوفانَ والصاعقةَ وخسفَ الأرض كل أولئك قد حَدَثَ بأسباب طبيعية لا بإرادة الله تعالى واختياره لتربية الأمم. ويكفي في الرد عليهم أن يقال: إنَّ حدوثَ هذه الأشياءِ وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن الله في نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر في القرآن الكريم، والله تعالى أحدث هذه الأسبابَ في أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها، ولم تكن من قبيل المصادفات.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة؛ أي: ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة ﴿يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾؛ أي: يوم يجمع فيه الناس كلهم الأولون والآخرون ليحاسبوا على ما عملوا، ثم يوفوا جزاءهم بالعدل والقسطاس ﴿وَذَلِكَ﴾ اليوم الذي يجمع فيه الناس الذي هو يوم القيامة؛ لأن اسم الإشارة عائد إلى يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له ﴿يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ فيه؛ أي: يشهده الخلائق جميعًا من الإنس والجن، والملائكة، وغيرهم حيث (١) يشهد فيه أهل السموات والأرضين للموقف، لا يغيب عنه أحدٌ، فالمشهود هو الموقف، والشاهدون؛ أي: الحاضرون الخلائق، والمشهود فيه اليوم فاتسع فيه إجراءً للظرف مجْرَى المفعول به، بجعله مشهودًا، وإنما هو مشهود فيه، فاتسع فيه بأن وصل الفعل إلى ضميره، من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به، اهـ "سمين".
قال الزمخشري (٢): فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟
قلت: أوثر اسم المفعول لما فيه من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه لا بد أن يكون ميعادًا مضروبًا لجمع الناس له، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمةً، وهو أثبت أيضًا لإسناد الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل. ومعنى: ﴿مَشْهُودٌ﴾ مشهود فيه، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءً له مجرى المفعول به على السعة كقوله:
وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا
(٢) البحر المحيط.
١٠٤ - ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ﴾؛ أي: وما نؤخِّر ذلك اليومَ ﴿إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ﴾؛ أي: إلا لأجل انقضاء أجل معلوم عدده. وانتهاء مدة معلومة في علمنا مضروبة بحسب ما تقتضيه الحكمة لا تزيد، ولا تنقض، وهي انتهاء مدة الدنيا، وكل شيء معدود محدود قريب، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى أحدًا من خلقه على معرفة ذلك اليوم. وفي (١) الآيات تهديد وتخويفٌ من الله تعالى، وحث على تصحيح الحال، وتصفيةِ البال وتزكية الأعمال، ومحاسبة النفوس قبل بلوغ الآجال، فإن العبد لا يحصد إلا ما يزرع، ولا يشرب إلا بالكأس التي يَسْقي، فعلى العاقل أن يتداركَ ما فاتَ ولا يضيع الأوقاتَ.
١٠٥ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ منصوب بقوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ﴾ وفاعل (يأت) ضمير يعود على (اليوم) أي: حين يأتي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله، وهو يوم القيامة، فلا يلزم أن يكونَ للزمان زمانٌ، وذلك لأن الحينَ مشتمل على ذلك اليوم، وغيره من الأوقات، ولا محذور في كون الزمان جزءًا من زمان آخر، ألا ترى أنَّ الساعةَ جزء من اليوم، واليوم من الأسبوع، والأسبوع من الشهر، والشهر من العام.
و ﴿يَأْتِ﴾ بحذف الياء اجتزاءً عنها بالكسرة، كما قالوا: لا أدر ولا أُبال، وهو كثير في لغة هذيل. روي عن عثمانَ رضي الله عنه أنه عرض عليه المصحف، فوجد فيه حروفًا من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل.. ما وجد فيه هذه الحروف. فكأنه مَدَح هذيْلًا بالفصاحة.
﴿لَا تَكَلَّمُ﴾ بحذف إحدى التاءين؛ أي: لا تتكلم ﴿نَفْسٌ﴾ من الأنفس
وقرأ الأعمش (٢): ﴿وما يؤخره﴾ بالياء. وقرأ النحويان أبو عمرو، والكسائي، ونافع: ﴿يأتي﴾ بإثبات الياء وصلًا، وحذفَها وقفًا. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلًا ووقفًا، وهي ثابتة في مصحف أُبيٍّ. وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلًا ووقفًا. وسقطت في مصحف الإِمام عثمان رضي الله عنه. وقرأ الأعمش: ﴿يأتون﴾ وكذا في مصحف عبد الله، وإثباتها وقفًا ووصلًا هو الوجه. ووجه (٣) حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي أن الفعلَ السالمَ يوقف عليه كالمجزوم، فحذفت الياء، كما تحذف الضمة، ووجه قراءة مَنْ قرأ بحذف الياء مع الوصل أنهم رأوا رَسْمَ المصحف كذلك. وَحَكى الخليل، وسيبويه: أن العرب تقول: لا أدر فتحذف الياء، وتجتزىء بالكسر. وأنشد الفراء في حذف الياء:
كَفَاكَ كَفٌّ مَا تَلِيْقُ دِرْهَمًا | جُوْدًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا |
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾، قلت: يا رسول الله، فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه، قال: "بل على شيء قد فرغ منه، وجَرَتْ به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له". وروي عن علي كرم الله وجهه، عن النبي - ﷺ - أنه كان في جنازة فأخَذَ عودًا فجعل يَنْكتُ في الأرض، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وقرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾.
والمراد أن الله يعلم الغيب، وأنه يعلم المستقبل كلَّه بجميع أجزائه، وأطرافه، ومنه عمل العاملين، وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل، وكتابته للمقادير، والنبي - ﷺ -، علَّمنا أنَّ الجزاء بالعمل، وأنَّ كُلًّا ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة، أو شقاوة النار، وأنَّ ما وَهَبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير في تربية النفس، وتوجيهها إلى ما تعتقد أنَّ فيه سعادتَها وخَيْرُها.
قال في "التبيان" (١): علامة الشقاوة خمسة أشياء: قساوة القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل، وقلة الحياء. وعلامة السعادة خمسة
الإعراب
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَصَلَاتُكَ﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري الاستهزائي. (صلاتك) مبتدأ. ﴿تَأْمُرُكَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على (صلاتك) والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَنْ نَتْرُكَ﴾ ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول الترك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر، محذوف تقديره: بترك عبادة ما يعبد آباؤنا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تأمر﴾. ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما يعبد آباؤنا. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف بمعنى الواو، التي للجمع. ﴿أَنْ نَفْعَلَ﴾ ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب. ﴿فِي أَمْوَالِنَا﴾ متعلق به. ﴿مَا نَشَاءُ﴾ (ما) موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿نفعل﴾ في تأويل مصدر معطوف على ﴿ما﴾ في قوله: ﴿مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ تقديره: أصلاتك تأمرك بترك عبَادة ما يعبد آباؤنا؛ أو بترك فعلنا في أموالنا ما نشاء. ﴿نَشَاءُ﴾ فعل مضارع،
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملةُ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل وفاعل، وهي هنا بمعنى: أخبروني فتنصب مفعولين، وقد حذفا معًا من النظم الكريم، وتقدير الأول أخبروني فياء المتكلم هي المفعول الأول، والثاني محذوف أيضًا تقديره: أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقًا حسنًا أفأشوبه بالحرام، فالجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان، وجملة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿إِنْ كُنْتُ﴾ جازم، وفعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعلَ شرط لها. ﴿مِنْ رَبِّي﴾ صفة لـ ﴿بينة﴾. ﴿وَرَزَقَنِي﴾ فعل ومفعول أول و (نون) وقاية، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة (كان). ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور حال من ﴿رزقًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿رِزْقًا﴾ مفعول ثان. ﴿حَسَنًا﴾ صفة له، وجواب (إن) الشرطية محذوف، تقديره: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾، ورزقني منه الرزقَ الحلالَ، والهداية، والنبوة، والمعرفة فهل يسعني مع هذه النعم العظيمة أن أخون في وجه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءَهم، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم، وذلك أنهم قالوا له: إنك لأنت الحليم الرشيد، والمعنى: فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه، وله عليه نعم
﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء معطوف على المنادى الأولى على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿لا﴾ ناهية. ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ فعل ومفعول و (نون) توكيد في محل الجزم بـ ﴿لا﴾. ﴿شِقَاقِي﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتُ: ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿نَفْقَهُ كَثِيرًا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ أَرَهْطِي﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ مقول محكي، وإن شئت.. قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَرَهْطِي﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ ﴿رهطي أعزُّ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَعَزُّ﴾. وكذا يتعلق به ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول. ﴿وَرَاءَكُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من ﴿ظِهْرِيًّا﴾. ﴿ظِهْرِيًّا﴾ مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على الجملة الاسمية على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُحِيطٌ﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿مُحِيطٌ﴾ خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى معطوف على المنادى الأول.
﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (لما) حرف شرط. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرطًا لـ (لما). ﴿نَجَّيْنَا شُعَيْبًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب (لمَّا) وجملة (لمَّا) مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿شعيب﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من (واو) ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةٍ﴾. ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿الصَّيْحَةُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿أصبحوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ متعلق بما بعده. ﴿جَاثِمِينَ﴾ خبر ﴿أصبحوا﴾، وجملة ﴿أصبحوا﴾ معطوفة على جملة ﴿أخذت﴾.
﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)﴾.
﴿كَأَنْ﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف تقديره: كأنهم. ﴿لَمْ يَغْنَوْا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ (لم). ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ (الواو} استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿بِآيَاتِنَا﴾ جار ومجرور حال من ﴿مُوسَى﴾؛ أي: حالَة كونه متَلبِسًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾. ﴿وَسُلْطَانٍ﴾ معطوف على ﴿آياتنا﴾. ﴿مُبِينٍ﴾ صفة ﴿سلطان﴾. ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿وَمَلَئِهِ﴾ معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. ﴿فَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر تقديره: فكَفَر بها فرعون، وأمرهم بالكفر فاتَّبعوا أمر فرعون. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ حالية. (ما) حجازية. ﴿أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ اسمها، ومضاف إليه. ﴿بِرَشِيدٍ﴾ (الباء) زائدة. ﴿رشيد﴾ خبرها، ويصح أن يكونَ مبتدأً، وخبرًا على إهمال (ما)، والجملة في محل النصب حال من فرعون، والتقدير: حال كون فرعون غيرَ رشيد.
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)﴾.
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة مستأنفة على كونها معلِّلَةٌ لِما قبلها. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ متعلق بـ ﴿يقدم﴾. ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود إلى فرعون، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَقْدُمُ﴾. ﴿وَبِئْسَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿بئس الورد﴾ فعل وفاعل.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾ خبر أول، والجملة مستأنفة. ﴿نَقُصُّهُ﴾ فعل ومفعول. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ. ﴿مِنْهَا﴾ خبر مقدم. ﴿قَائِمٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لوقوعها في جواب سؤال مقدر تقديره: ما حال هذه القرى أباقية آثارها أم لا؟ فأجاب بقوله: منها: قائم ومنها حصيد. ﴿وَحَصِيدٌ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنها حصيد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ﴾.
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)﴾.
﴿وَمَا﴾ (ما) نافية. ﴿ظَلَمْنَاهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك. ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوفة على جملة ﴿ظَلَمْنَاهُمْ﴾. ﴿فَمَا﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿أَغْنَتْ﴾ فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به. ﴿آلِهَتُهُمُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ظَلَمُوا﴾. ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿آلِهَتُهُمُ﴾. ﴿يَدْعُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونها. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور حال من (واو) ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: حالةَ كونهم متجاوزينَ الله إلى غيره. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ (من) زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بـ ﴿أَغْنَتْ﴾. ﴿لَمَّا﴾ حينية في محل النصب
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿كذلك﴾ خبر مقدم. ﴿أَخْذُ رَبِّكَ﴾ مبتدأ مؤخر؛ أي: ومثل ذلك الإهلاك المذكور في الأمم الماضية أخذ ربك، والجملة مستأنفة. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرطية في محل النصب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بالأخذ الذي هو المصدر. ﴿أَخَذَ الْقُرَى﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف لـ ﴿إِذَا﴾، وكل من المصدر والفعل تنازعا في ﴿الْقُرَى﴾ فأُعمل الفعل، وحذف الضمير من المصدر؛ لأنَّ الضمير هنا فضلة على حد قول ابن مالك:
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ | بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفعٍ أُوْهِلاَ |
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾، ﴿الْحَلِيمُ﴾ ذو الأناة، والتروي الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته، و ﴿الرَّشِيدُ﴾ الذي لا يأمر إلا بما استبانَ له من الخير والرشد. ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ قال الزمخشري: يقال: خَالَفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه، وأنت قاصده، ويلقاكَ الرجلُ صادرًا عن الماء، فتسأله عن صاحبه فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذَاهِب إليه واردًا، وأنا ذاهب عنه صادرًا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم، اهـ "سمين". والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في قوله، أو فعله، أو حاله.
﴿إِلَّا الْإِصْلَاحَ﴾ وهو الإبلاغ والإنذار فقط، وأما إجباركم على الطاعة فلا
﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا﴾ الفقهُ: الفهمَ الدقيق المؤثر في النفس الباعث على العمل. ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾ الرهط: قال ابن عطية: جماعة الرجل. وقيل: الرهط، والراهط: اسم لما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرِّجال. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى التسعة، ويجمع على أرهط، ويجمع أرهط على أَراهِطَ فهو جمع جمع. قال الرماني: وأصل الرهط الشَّد، ومنه الرهيط شدَّة الأكل، والراهط: اسم لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به، ويخبأ فيه ولده. اهـ "أبو حيان". ورهط الرجل عَشِيرَته الذين يستند إليهم، ويتقوى بهم. ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾؛ أي لقتلناك بالرمي بالحجارة، وكانوا إذا قتلوا إنسانًا رجموه بالحجارة، والرَّجم بالحجارة أسوأُ القَتلات، وأشرها. وقيل: معنى لرجمناك: لشَتَمْنَاكَ، وأَغْلَظنَا لك القول. ومنه قول الجعدي:
تَرَاجَمْنَا بِمُرِّ الْقَوْلِ حَتَّى | نَصِيْرَ كَأنَّنَا فَرَسَا رِهَانِ |
وَلَقَدْ بُلِيْتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ | يُبْلَى بعَوْدِ وَذَاكُمُ التَّتْبِيْبُ |
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ إذا أريد به الأَحْمَقُ السفيه نَزَّلُوا التضاد منزلة التناسب على سبيل الهزء، فاستعاروا الحلم والرشد للسفه، والغواية، ثم سرت الاستعارة منهما إلى الحليم الرشيد، ذكره في "روح البيان".
ومنها: القصر في قوله: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾، وقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾؛ أي: لقتلناك من إطلاق السبب الذي هو الرجم بالحجارة، وإرادةِ المسبب الذي هو القتل، وإن لم يكن بالحجارة.
ومنها: تقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر، والاختصاص في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ وإن كان الخبر صفةً لا فعلًا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾ شبَّه الله سبحانه وتعالى بالشيء المرميِّ وراء الظهر، ولا يكترث به بجامع الإعراض في كل، والعرب تقول: لكل ما لا يعبؤُ بأمره، قد جعل فلانٌ هذا الأمر بظهره.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿مُحِيطٌ﴾، لأنَّ الإحاطةَ حقيقة في الأجسام كإحاطة الجدران، فإحاطَةُ الله بالأعمال مجاز عن علمها، وإدراكها بكمالها.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ لأنَّ الأصل عامل على مكانتي فَحَذَفَه للاختصار.
ومنها: ما يسمى بالاستئناف البياني عند البلغاء في قوله: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
ومنها: إيراد المستقبل بلفظ الماضي في قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ مبالغة في تحققه. وفيه أيضًا: الاستعارة المكنية؛ لأن الورودَ في الأصل يقال: للمرور على الماء للاستقاء منه، فشبه النارَ بماء يورد، وترك ذكر المشبه به، ورمَزَ إليه بشيء من لوازمه، وهو الورود، وإثبات الورود لها تخييلٌ، وشبه فرعون في تقدمه على قومه إلى النار بـ (من) يتقدم على الواردين إلى الماء لِيَكْسِرَ العطش، فقَالَ في حق فرعونَ وأتباعه ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ على سبيل التهكم. وقوله: ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ تأكيد له لأن الوِرْدَ إنما يُورَدُ لتسكين العطش، وتبريد الأكباد، وفي النار إلهاب للعطش، وتقطيعٌ للأكباد.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾؛ أي: كالزرع القائم على ساقه، وكالزرع المحصود بالمناجل، فشبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما عفى منها بالحصيد، اهـ "زاده" و"شهاب".
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾.
ومنها: حكاية حال ماضية في قوله: ﴿آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ﴾؛ أي: عبدوها، لأن المرادَ بالدعاء العبادة.
ومنها: المجاز المرسلُ ﴿إِذَا أَخَذَ الْقُرَى﴾؛ أي: أخذَ أهلَ القرى.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الجمع في قوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، والتفريق في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ والتقسيم في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ إلخ، وهذه الثلاثة أيضًا من المحسنات البديعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر العبرة في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا.. ذكر هنا العبرةَ بجزاءِ الآخرة للأشقياءِ والسعداء، فالأولون يصلون النار التي لهم فيها
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، وأتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول - ﷺ - أحوالَ الكفار من قومه، وأنَّهُمْ مُتَّبِعُوا آبائهم كحال من تقدَّم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال والفساد، تسليةً له - ﷺ - في ضمن النهي له عن الامتراء في أنَّ ما يعبدونه غير نافع ولا ضار، ولا تأثيرَ له في شيء.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...﴾ الآيتين، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) ذكر مشركي مكة بأقوام غلب عليهم الكفرُ والجحود، ولم يؤمن إلا القليل منهم، فوفَّاهم جَزَاءَ أعمالهم في الدنيا، وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة، ذكرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتابَ فاختلفوا فيه، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب مثل هؤلاء.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين إصرارَ كفارِ مكةَ على إنكار التوحيد ونبوة الرسول - ﷺ - والقرآن الذي أتى به، بيَّن أنَّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاجرة مع أنبيائهم؛ فليس ذلك ببدع ممن عاصرَ الرسولَ - ﷺ -، وضَرَب لذلك مثلًا، وهو إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها، والكتاب هنا هو: التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض كما اختلف هؤلاء في القرآن.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بينَ أمرَ المختلفينَ في التوحيد، والنبوة وأطنبَ في وعدهم، ووعيدهم.. أمرَ رسولَه - ﷺ -، ومَنْ تاب معه بالاستقامة، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعِلْم والعمل والأخلاق الفاضلة.
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالَى لما (١) ذكر عاقبةَ الأمم المكذبةِ لرسلها في الدنيا والآخرة، وإنذارَ قومه - ﷺ - بهم، وبين ما يجب عليه، وعلى مَن آمن به، وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتنابِ أهل الظلم والفساد.. ذكر هنا بيانَ السنن العامة في إهلاك الأمم الذين قص الله قصصهم، وأمثالهم ممن عصوا رسلَ ربهم، أن أنذَروهم عقابَه، ووَعَدهم إذا أطاعوهم ثوابَه.
قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما (٢) قص قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين.. بيَّن هنا ما لذلك من فائدة لرسوله - ﷺ - وللمؤمنين، وهي تثْبِيت الفؤادِ، والعظةُ، والاعتبار ثم أمَرَ رسولَه بالعبادة، والتوكل عليه، وعدم المبالاة بعداوة المشركينَ، والكيدِ له.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما أخرجه البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - ﷺ - فأخبره فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية، فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذه؟ قال - ﷺ -: "لجميع أمتي كلهم".
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٦ - ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾؛ أي: سَبقتَ لهم الشقاوة، وقُضِيَ لهم بالنار. وقرىء: ﴿شَقُوا﴾ بفتح الشين باتِّفاق السبعة بالبناء للفاعل. وقرأ الحسنُ بضم الشين بالبناء للمفعول. ﴿فَفِي النَّارِ﴾؛ أي: فمستقرون في نار جهنم، وكأن سائلًا قال: ما شأنهم فيها؛ فقيل: ﴿لَهُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في نار جهنم ﴿زَفِيرٌ﴾؛ أي: صوت شديد ﴿وَشَهِيقٌ﴾؛ أي: صوت ضعيف، فالجملة إما مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كما قررنا، أو في محل النصب على الحال. قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، وهو المرتفع جدًّا قال: وزَعَم أهل اللغة من البصريين والكوفيينَ: أن الزفيرَ بمنزلة ابتداءِ صوت الحمير، والشهيقَ بمنزلة آخِره. وفيه (١): استعارة تصريحية كما سيأتي في مبحث البلاغة، فإن المرادَ تشبيه صراخهم بأصوات الحمير، فكما أنَّ الحميرَ لها أصوات منكرة، كذلك لهم أصوات منكرة في جهنم، كما يشاهد ذلك في الابتلاء في الدنيا، لا سِيّما عند الصلب أو الخنق أو ضرب العنق، أو قطع اليد، أو نحوها، فإن لبعض المجْرِمينَ حينئذ خوار كخوار البقر يتغير صوته، كما يتغير لونه، وحال الآخرة أشد من حال الدنيا ألْفَ مرَّةٍ. وقيل: الزفير إخراج النفس، والشهيق رَدُّ النفس. وقيل: الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق. وقيل غير ذلك مما لا طائلَ تحته.
والمعنى (٢): أي فأما الذينَ شقوا في الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال
(٢) المراغي.
١٠٧ - وقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في النار حال من الضمير المستكن في الظرف أعني قوله: ﴿في النار﴾؛ أي: فأما الذين شقوا فمستقرون في النار، حالةَ كونهم ماكثينَ فيها مكث خلود، ودوام، ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾؛ أي: مُدةَ دوام السموات التي تظلهم، ودوام الأرض التي تقلهم. فالمراد (١) سمواتُ الآخرة، وأرضها، وهي دائمة مخلدة، ويَدُلُّ عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾. وأن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقلٍّ، إما سماء يخلقها الله فتظلهم، أو يظلهم العرش، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض، ولا فسادَ في التشبيه بما لا يعرِف أكثر الخلق وجودَه، ولا مانع، ونظيره تشبيه الشيء بالكيمياء، أو بمدينة إرَم وغير ذلك.
أو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب: لا أفعلُه ما بدا كوكب، وما أضاءَ الفجر، وما تغنت حمامةٌ، والنصوص متظاهرة على تأبيدِ قرارهم فيها. وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ هو (٢) استثناء من الخلود في عذاب النار، وذلك لأن أهل النار لا يخلدونَ في عذاب النار وحده، بل يعذَّبون بالزمهرير، وأنواع من العذاب سوى عذاب النار. والمعنى: خَالِدينَ فيها مدة دوام السموات والأرض، إلا الزمان الذي شاء ربك خروجهم فيه من النار إلى الزمهرير ونحوه، أو ما شاءَ بمعنى إلا من شاء ربك خروجهم من النار بعدما دخلوا، وهم قوم يخرجون من النار، ويدخلون الجنَّةَ فيقال لهم الجهنميون، وهو المستثنون من أهل الجنة أيضًا، لمفارقتهم إيَّاهَا بكونهم في النار أيّامًا فهؤلاء لم يشقوا شقاوةَ مَنْ يدخل النار على التأبيد، ولا سَعِدُوا سعادةَ مَنْ لا تمسه النار، وهو مروي عن ابن
(٢) النسفي.
وقيل: إلا (٢) ههنا بمعنى سوى كقولك: عليَّ ألف إلا الألفان القديمان، والمعنى حينئذ خالدينَ فيها؛ أي: دائمين في النار، كدوام السموات والأرض، منذ خلقت إلى أن تفنَى سوى ما شاء ربك من الزيادةِ التي لا آخرَ لها على مدة بقاء السموات والأرض.
وحاصلُ هذا القول: أن إلَّا في المعنى، بمعنى حرف العطف، والاستثناء فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وزيادة على هذه المدة لا منتهى لها، اهـ "جمل". وقيل (٣): هو استثناء من قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾. وقيل: (إلا) بمعنى الواو؛ أي: وقد شاء ربك خلودَ هؤلاء في النار، وخلود هؤلاء في الجنة فهو كقوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: ولا للذين ظلموا. وقيل معناه: ولو شاء ربك لأخرجهم منها، ولكنه لم يشأْ لأنه حَكَم لهم بالخلود فيها، قاله الفراء. فهذه الأقوال في معنى الاستثناء ترجعُ إلى الفريقين، والصحيح هو القول الثاني الذي عليه ابن عباس رضي الله عنه، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ ويشاء من إخراج من أراد من النار، وإدخالِهم الجنة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه، واقتضته حكمتُه، وما كان كذلك لم يكن إخلافًا لشيء مِنْ وعده، ولا من وعيده لخلود أهل النار فيها.
فهذا على الإجمال في الفريقين (٤)، فأما على التفصيل فقوله: إلا ما شاء
(٢) البيضاوي.
(٣) الخازن.
(٤) الخازن.
١٠٨ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ قرأ ابن (١) مسعود، وطلحة بن مصرف، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: ﴿سُعدوا﴾ بضم السين وباقي السبعة، والجمهور بفتحها. فالضم من قولهم: سعده الله أي: أسعده فهو حينئذ متعدّ، والفتح من قولهم: سعد الرجل بمعنى قامت به السعادة، فهو حينئذ لازم.
والمعنى (٢): إنَّ الذينَ سبقت لهم السعادة من الله بموتهم على الإيمانِ، وإن سبقَ منهم الكفر في الدنيا، والمراد بالسعادة رضا الله تعالى عن العبدِ.
وعلامة ذلك أن يكون العبد محبًّا لربه ساعيًا في مرضاته دائمَ الإقبال على طاعته راضيًا بأحكامه. ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾؛ أي: فمستقرون في الجنة حالةَ كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثينَ في الجنة مكث خلود ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾؛ أي: مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلهم يعني سموات الجنة وأرضها ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ من مقدار موقفهم للحساب، أو مفارقتهم للجنة أيَّامَ عذابهم، فإن التأبِيدَ من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداءِ، كما ينتقض باعتبار الانتهاء، أو المعنى خالدِينَ فيها مدةَ دوام السموات والأرض في الدنيا.
والمعنى: قدر مكث السموات والأرض من أول الدنيا إلى آخرها. ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾؛ أي: غير ما شاء ربك من الزيادة التي لا منتهى لَها، فالمعنى خالدينَ
(٢) الصاوي.
١٠٩ - وبعد أن شرحَ سبحانه أقاصيصَ عَبدةِ الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء أَنْذرَ أعداء النبي - ﷺ - والمشركين من قومه، بما حَلَّ بالأمم المهلكة من العذاب فقال: ﴿فَلَا تَكُ﴾ يا محمَّد أصله: لا تكنْ، حذفت النون لكثرة الاستعمال؛ أي: إذا تبين عندك يا محمَّد ما قصصت عليك من قَصَصِ المتقدمينَ وسوءِ عاقبتهم فلا تكن ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾؛ أي: في شك ﴿مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ المشركون من أهل مكةَ من الأصنام؛ أي: لا تكن في شك في أن ما يعبدونه من الأصنام غير نافع ولا ضار، ولا تأثير له في شيء أو لا تكن في شك في بطلان عبادتهم لها، أو لا تكن في شك من سوء عاقبتهم، وكن على يقين في أنها ضلال سيء العاقبة. وهذا النهي له - ﷺ - هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك، فإنه - ﷺ - لا يشك في ذلك أبدًا. وكأنه قيل: لم لا أكون في شك؛ فأُحبيب لأنهم ﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا﴾ كان ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: إن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم من قبل، في أنها لا تنفع ولا تضر، أو إن عبادتَهم لها كعبادةِ آبائهم من قبل في أنها ضلال باطلٌ؛ أي: فحالهم كحال آبائهم من غير تفاوت،
وفيه (١): إشارةٌ على أنَّ أهلَ الفترة الذينَ عَبَدوا الأصنامَ من أهل النار، فإن الذَّم ينادي على ذلك. والمعنى (٢): أنهم سواء في الشرك بالله، وعبادة غيره، فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في ﴿كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ﴾ لحكاية الحال الماضية.
والخلاصة (٣): أي إذا كَانَ أمر الأمم المشركة الظالمة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصناه عليك، فلا تكن في أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء في عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديلَ لها. وفي ذلك تسلية له - ﷺ -، ووعيد لقومه كما لا يخفى. ثم بيَّن حالَهم في عبادتهم وجزاءهم عليها فقال: ﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: لأنهم أشبهوا آباءَهم في الجهل والتقليد، فهم مقلدون لهم ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾، وتوفية الشيءِ تأديته، وإعطاؤه على وجه التمام والضمير لهؤلاء الكفرة؛ أي: لمعطوهم حظهم المتعين لهم من العذاب الدنيوي والأخروي كما وفينا آباءهم أنصباءَهم المقدرةَ لهم حسب جرائمهم، فسيلحقهم مثل ما لَحَقَ بآبائهم، فإن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، فإن قيل: لا سبب عندنا إلا الله. قلنا: يكفينا السببية العادية، وهو ما يفضي إلى الشيء بحسب جريان العادة. وقوله: ﴿غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ حال مؤكدة من النصيب؛ لأنَّ التوفية تَقتضِي التكميلَ كقوله: ﴿هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾. وفائدته مع دفع توهم التجوز: تقرير ذي الحال؛ أي: جعله مقررًا ثَابِتًا لا يظن أنه غيره؛ لأن التوفيةَ لا تستلزم عدمَ النقص، فقد يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقص، كما يجوز أن يوفَّى وهو كامل. وفي الآية ذَمٌّ للتقليد، وهو قبولُ قول الغير بلا دليل. وقيل: المعنى (٤): وإنا لمعطوهم نصيبَهم من جزاءِ أعمالهم في الدنيا وافيًا تامًّا لا ينقص منه شيء، كما وفينا آباءهم الأولين من قبل، فأعمال الخير التي
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
١١٠ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد آتينا وأعطينا موسى بن عمرانَ التوراة، وهو أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، وأما ما قبله من الكتب، فإنما كانت مشتملةً على الإيمان باللهِ وتوحيده، ومن ثم قيل لها: صحف، وإطلاق الكتاب عليها مجاز. ﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾؛ أي: في شأن ذلك الكتاب، وكونه من عند الله، فآمن به قوم من بني إسرائيل، وكفَرَ آخرون، كما اختلف قومكَ في القرآن، فلا تبال يا محمَّد باختلافهم فيما آتيناك من القرآن، ولا تحزَنَ عليه، واصبر على تكذيبهم كما صَبَر موسى على تكذيب قومه، فإنَّ ما وقع لك فقد وقع لمن قبلك، ففيه تسلية له - ﷺ -. ولمَّا قَسَم النبي - ﷺ - غَنَائم حنين، وأطال بعض المنافقين الكلامَ في أنه لم يعدل في القسمة، قال النبي - ﷺ -: "من يَعْدِل إذَا لم يَعْدِل الله ورسولُه، رحمة الله على أخي موسى، لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر"، يعني أنَّ موسَى أصابه الأذى الكثير من جهة قومه، فصَبَر على أذاهم، فلم يجزَع فأنا أحق بالصبر منه؛ لأنَّ الجمعية الكمالية في ذاته - ﷺ - أتم فحَظُّه من النفحات الإلهية والأخلاق الحميدة الربانية أكثرُ وأوفرُ.
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: ولولا الحكم الأزليُّ بتأخير العذاب عن أمتك، أو عن قوم موسى إلى يوم القيامَةِ. قال بعضهم: الأظهر أن لا (٢) تقيد بيوم القيامة، فإن أكْثَرَ طغاتهم نَزَلَ بهم العذاب يوم بدر، وفي غيره. ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطلونَ ليتميزوا به عن المحقينَ.
والكلمة هي كلمة القضاءِ بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى، بحسب
(٢) روح البيان.
١١١ - ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾ من المختلفينَ في الكتاب المؤمنينَ منهم، والكافرين ﴿لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ (اللام) (٢) الأولى موطئة للقسم، والثانية للتأكيد أو بالعكس، و (ما) مزيدة للفصل بين اللامين؛ أي: وإن (٣) كلًّا من المختلفين فيه، والله ليعطينَهم ويؤدِّينَهم ربك يا محمَّد أَجْزِيَة أعمالهم تامًّا وافيًا كاملًا إن خَيرًا فخَيْرٌ، وإن شرًّا فشر إذ لا يَخْفَى عليه شيء منها. أو المعنى: وإنَّ جميعَهم، والله ليوفينهم ربك جزاءَ أعمالهم، قالوا: وأحسن ما قيل: إن أصلَ لمَّا لمًّا بالتنوين
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.
إحداها: تخفيفُ (إنْ) وتخفيف (لمَا) وهي قراءة الحرميان.
والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص.
والثالثة: تخفيف (إن) وتشديد لمَّا، وهي قراءة أبي بكر.
والرابعة: تشديد (إنَّ) وتخفيف لما، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو.
وقرأ أبيٌّ والحسن بخلاف عنه، وأبان بن تغلب، و ﴿إنْ﴾ بالتخفيف ﴿كل﴾ بالرفع ﴿لمَّا﴾ مشددًا. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: ﴿وَإِن كلًّا لمَّا﴾ بتشديد الميم وتنوينها ولم يتعرضوا لتخفيف (إنْ) ولا تشديدها. وقال أبو حاتم الذي في مصحف أبي: ﴿وإن مِنْ كُلَّ إِلَّا لَيُوفِيَّنَهم﴾. وقرأ الأعمش: ﴿وإنْ كلُّ إلا﴾ وهو حرف ابن مسعود. فهذه أربعة وجوه في الشاذ.
١١٢ - ثم أمر سبحانه رسوله - ﷺ - بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾؛ أي: مثل الاستقامة التي أمرت بها في العقائد والأعمال
(٢) الشوكاني.
وحاصل معنى الآية (١): أي فالزم الصراطَ المستقيمَ الذي لا عوج فيه، واثبت عليه، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك، ولا تنحرفوا عما رُسِمَ لكم بتجاوز حدوده غلوًا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم.
وفي هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية من عقائد، وعبادات، واجتناب الرأي، وبطلان التقليد فيها، وإيضاح هذا أنَّ تحكيمَ العقل البشري في الخوض في ذات الله وصفاته، وفيما دون ذَلك من عَالَم الغيب كالملائكة، والعرش، والجنة، والنار تجاوز لحدوده، فإن أكبرَ العلماء والفلاسفة عقولًا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم، وأنفس ما دونَهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها، حتى الحشرات منها كالنحل والنمل، فأنَّى لهم أن يعرفوا كنهَ ذات الله تعالى وصفاته، أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند الله تعالى.
ولما خرج متأخروا الأمة عن هدي سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زَاغُوا فكانوا ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)﴾. فسَقَطَ بعضهم في خيال التشبيه، وبعضهم في خيال التعطيل، ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين، لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق في الدين الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم، وبرأ رسولَه منهم.
والواجب التزام كتاب الله تعالى، وما فسرته به سنة رسوله - ﷺ - من
﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾؛ أي: بصير بعملكم، ومحيط به، فيجزيكم به، فاتقوه أن يَطَّلع عليكم، وأنتم عاملون بخلاف أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)﴾.
١١٣ - ﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾؛ أي: ولا تميلوا أدنى ميل؛ لأن الركونَ هو الميل اليسير،
وقال الأزهري: هي اللغة الفصحى. وعن أبي عَمرو بكسر التاء على لغة تميم في مضارع علم غير الياء. وقرأ قتادة، وطلحة، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو: ﴿تَرْكُنوا﴾ بضم الكاف مضارع رَكَن بفتحها، وهي لغة قيس، وتميم. وقال الكسائي: وأهلُ نجد، وشذَّ "يَرْكنُ" بفتح الكاف مضارع، رَكَن بفتحها. وقرأ ابن أبي عَبْلَة: ﴿ولا تُرْكَنوا﴾ مبنيًّا للمفعول من أركنه إذا أَمالَه. وقرأ ابن وثاب، وعلقمة والأعمش، وابن مصرف، وحمزة، فيما روي عنه: ﴿فتمسَّكم﴾ بكسر التاء على لغة تميم، ذكره أبو حيان. وقرأت العامة: ﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ بإثبات نون الرفع. وقرأ زيد بن علي، وعائشة بحذف نون الرفع عطفًا على (تمسكم) ذكره في "الجمل"؛ ومعنى الآية: أي: لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين، ولا من غَيرهم فَتَجْعَلُوهم رُكنًا لكم تعتمدون عليه، فتقروهم على ظلمهم، وتوالوهم في شؤونكم الحربية، وأعمالكم الدينية، فإن الظالمينَ بعضهم أولياء بعض.
والخلاصة: أن الركونَ إلى الظالمينَ المنهي عنه، هو: الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم، ويصدونهم عن دينهم، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر الظلمَ هنا بالشرك، و ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بالمشركين. وقيل: إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، ولو فرضنا أن سَبَبَ النزول هم المشركون، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن ابتلي بمخالطة الظلمة فليزن أَقْوالَهم وأفعالهم بميزان الشرع، فإنْ زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا، وطاعتهم واجبة على كل مَنْ دَخَل تحت أمرهم، ونهيهم في كل ما يأمرون به ما لم يكن في معصية الله. فمن أمروه أن يدخُل في شيء من الأعمال التي وَلَّوْهُ كالمناصب الدينية ونحوها فَلْيَدْخُل فيه إذا وثق من نفسه القدرةَ على القيام به، إلى أنه يجب الأخذ على أيدي الظالمين عامةً، وعلى أئمة الجَور والأمراء خاصةً، ويجب تغيير المنكر أولًا باليد، فإن لم يستطع ذلك فباللسان، وإلا فبالقلب وذلك أضعف الإيمان.
روى الإِمام أحمد، وأصحاب السنن، عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه قَامَ فحمد الله، وأثنى عليه ثمَّ قال: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ حتى أتى على آخر الآية، ألا وإن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه، أَلاَ وإني سمعت رَسول الله - ﷺ - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكَر بينهم، فلم ينكروه يوشِكَ أن
وفي الآية (١) أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ثم لا يرتَدِعُونَ عن الظلم والميل إلى أهله، ولا يتدبرون أنهم مؤاخَذون غير منصورين.
وفي الحديث: "إياكم والظلمَ فإنه يخرِّب قلوبَكم". وفي تخريب القلب تخريب سائر الجسد، فالظالم يظلم على نفسه، حيث يخرب أعضاءه الظاهرة، والباطنة، وعلى الله حيث يخرب بنيانَ الله، ويغيِّرُه ويفسده، ولأنه إذا ظَلَمَ غيره، وآذاه، فقد ظَلَمَ على الله ورسوله وآذاه. والدليل عليه قوله - ﷺ -: "أَنا من الله، والمؤمنون مِنّي، فَمَنْ آذى مؤمنًا، فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد أَذَى الله تعالى".
ودَخَل في الركون إلى الظالمينَ المداهنة والرضى بأقوالهم، وأعمالهم، ومحبة مصاحبتهم، ومعاشرتهم، ومد العَين إلى زهرتهم الفانية، وغبطتهم فيما أوتوا من القطوف الدانية، والدعاءِ لهم بالبقاء، وتعظيمُ ذِكرهم، وإصلاح دواتهم، وقلمهم، ودفعُ القلم أو الكاغد إلى أيديهم، والمشي خلفَهم، والتزيي بزيهم، والتَّشبهُ بهم وخياطة ثيابهم وحَلق رؤوسهم.
وقد امتنع بعض السلف عن رَدِّ جواب الظلمة في السلام، وقد سئل سفيان الثوري عن ظالم أَشْرَفَ على الهلاك في بريه، هل يُسقَى شربةَ ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموتُ، فقال: دعه فإنه إعانة للظالم. وقال غيره: يسقى إلى أنْ يثوبَ إلى نفسه، ثم يعرِض عنه.
وفي الحديث: "العلماء أُمناء الرسل على عباد الله، مَا لَمْ يُخَالِطُوا السلطانَ، فإذا فعلوا ذَلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم، واعتزلوهم"، فإذا علمتَ هذا، فاعلم أنَّ الواجب عليك: أن تَعْتَزلَ عنهم بحيث لا تراهم، ولا يرونك إذ لا سلامة إلا فيه، وأن لا تفتشَ عن أمورهم، ولا تتقرب إلى من هو
ورُوي: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى يوشع بن نون أني مهلِك من قومك أربعينَ ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم، فقال: ما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، فكانوا يؤاكلونهم، ويشاربونهم. وبهذا تبيَّن أن بُغْضَ الظَّلمةِ والغضبَ عليهم لله واجب، وإنما ظَهَرَ الفساد في الرعايا، وجميع أقطار الأرض، برًّا وبحرًا بفساد الملوك، وذلك بفساد العلماء أوَّلًا إذ لولا قُضاةُ السوء وعُلماءُ السوءِ لقل فساد الملوك، بل لو اتفقَ العلماء في كل عصر على الحق، ومنع الظلم، مجتهدينَ في ذلك، مستفرغين مجهودَهم، لما اجترأ الملوك على الفسادِ، ولاضمحل الظلم من بينهم رأسًا وبالكلية.
ومن ثمَّ قال النبي - ﷺ -: "لا تزالُ هذه الأمة تحت يد الله وكنفه، ما لم يمالِىء قراؤها أمراءها".
وإنما ذَكَر القراء؛ لأنهم كانُوا هم العلماء، ومَا كَانَ علمهم إلا بالقرآن، ومعانيهم إلا بالسنة، وما وراء ذلك من العلوم، إنما أحدثت بعدهم كذا في "بحر العلوم" للشيخ عليٍّ السمرقندي رحمه الله تعالى.
وذكَرَ في "الإحياء": أنَّ من دخلَ على السلطان بلا دعوة، كان جاهلًا، ومن دعِيَ فلم يجِبْ كَانَ أَهْلَ بدعة.
وتحقيق المقام: أنَّ الركونَ في الآية أسند إلى المخاطبين، والمخالطة، وإتيان الباب، والممالأة إلى العلماء والقراء، فكل منها إنما يكون مذمومًا إذا كان من قبل العلماء، وأمَّا إذا كان من جانب السلاطين والأمراء بِأنْ يكونوا مجبورينَ في ذلك مطالَبينَ بالاختلاط لأجل الانتفاع الديني.. فلا بَأسَ حينئذٍ بالمخالطة، لأنَّ المجبورَ المطالبَ مؤيد من عند الله تعالى، خَال عن الأغراض
١١٤ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الاستقامةَ خَصَّ من أنواعها: إقامَةَ الصلاة لكونها رَأْسَ الإيمان وعمادَه، فقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ يا محمَّد أنت وأمتك؛ أي: أدِّها على الوجه القويم، وأَدِمْهَا ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾؛ أي: في طرفي النهار من كل يوم؛ أي: غدوة وعشية، فالصبح في الغدوة، والظهر والعصر في العشية، وانتصابه على الظرفية، لكونه مضافًا إلى الوقت، فيعْطَى حكم المضاف إليه، ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: وفي ساعات من الليل قريبة من النهار، وهي المغرب والعشاء، وانتصابه أيضًا على الظرفية، لعطفه على طرفي النهار، وهيَ الساعات القريبة من النهار، من أزلفه إذا قربه، جمع زلفة كغرف جمع غرفة.
والمراد بصلاة الغدوة، صلاة الصبح، وبصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي، وبصلاة الزلف المغرب والعشاء.
وفيه دلالة بينة على إطلاق لفظ الجمع، وهو الزلف على الاثنين. فالآية مشتملة على الصلوات الخمس، ونظيرها قوله تعالى في سورة ق: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ أي بصلاة الصبح. ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾؛ أي: بصلاة العصر، والظهر، فالعصر أصل في ذلك الوقت، والظهر تَبَعٌ لها. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: في بعض أوقاته ﴿فَسَبِّحْهُ﴾؛ أي: بصلاتي المغرب والعشاء.
وفسَّر بعضُهم طرفي النهار بالصبح والمغرب، ورجَّحه ابن جرير، وزُلَفَ الليل بالعشاء والتهجد. فإنه كان واجبًا عليه فيوافق قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾.
ثم بيَّن فائدةَ الأمر السابق وحكمتَه فقال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ﴾؛ أي: إنَّ الأعمالَ الحسنة على الإطلاق، لا سيما الصلوات الخمس ﴿يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: يكفِّرن الصغائر، ويذهبن المؤاخذة بها، لِمَا فيها من تزكية النفس وإصلاحها، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة في النفس، وإفْسَادَها لها، لا أنها تذهب السيئات نفسها؛ إذ هي قد وجدت بل مَا كانَ يترتب عليها من المؤاخذة
والمراد بالحسنات (١): ما يعم الأعمالَ الصالحة جميعًا، حتى ما كان منها تركًا لسيئة كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)﴾. وجاء في الحديث الشريف قوله - ﷺ -: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، وقوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكَفِّراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". والمراد بالسيئات الصغائر؛ لأنَّ الكبائرَ لا يكفرها إلا التوبة، بدليل ما رواه مسلم: "الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر". وقرأ (٢) الجمهور: ﴿وزلَفًا﴾ بفتح اللام جمع زلفة كغرفة وغرف. وقرأ طلحة، وعيسى البصرة، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وابن القعقاع: ﴿زُلُفًا﴾ بضمها جمع زليف، أو كأنه اسم مفرد. وقرأ ابن محيصن، ومجاهد بإسكان اللام، وروي عنهما: (زَلْفَى) على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور (٣) من الوصايَا السابقة من الاستقامة والنهي عن الطغيان، والركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة في تلك الأوقات ﴿ذِكْرَى﴾؛ أي: عِظة واعتبار ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾؛ أي: للمتعظين بأوامر الله ونواهيه، فمن امتثلَ إلى أوامر الله تعالى، فاستقامَ وأقامَ.. فقد تحقَّقَ بحقيقة الحال والمقام؛ أي: ذلكَ المذكور موعظة للمتعظين الذين يراقبون الله، ولا ينسونَه، وخصهم بالذكر، لأنهم هم الذين ينتفعونَ بِها.
١١٥ - ﴿وَاصْبِرْ﴾ يا محمَّد أنت وأمتك على تحمل مشاق التكاليف أمرًا أو نهيًا من الاستقامة وعدم الطغيان وغيرهما، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: أجر المخلصينَ في أعمالهم الصالحة، فعلًا أو تركًا؛ أي: يوفيهم أجورَهم، ولا يضيع منها شيئًا، فلا يهمله، ولا يبخَسُه بنقص، وإنما عبَّر
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
وعن أبي بكر الوراق قال: طلبنا أربعةَ أشياءَ سنينَ، فوجدناها في أربعة؛ طلبنا رضَى الله تعالى فوجدْنَاه في طاعته، وطلبنا السعة في المعيشة فوجدناها في صلاة الضحى، وطلبنا سلامة الدين فوجدناها في حفظ اللسان، وطلبنا نور القبر فوجدناه في صلاة الليل، فعلى العاقل السعي في طريق الطاعات، وتنوير القلب بنور العبادات، ذكره صاحبُ "الروح". والمعنى؛ أي (١): ووطن نفسَك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيتَ عنه في هذه الوصايا وفي غيرها، فإن الله لا يضيعْ أجرَ مَن أحسنَ عملًا، بل يوفيه ثوابَ عمله من غير بَخْسٍ له. وفي الآية إيماء إلى أنَّ الصبرَ من باب الإحسان.
فائدة: وقد كانت (٢) عادة القرآن على إجراء أكثر خطابات الأوامر على النبي - ﷺ -، فلذلك قالَ: ﴿فَاسْتَقِمْ﴾ ﴿وَاصْبِرْ﴾ وأكثر خطابات النهي على الأمة، فلذلك قال: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ اعتبارًا للأصالة في الاتصاف، والتنزه والاجتناب فافهم.
١١٦ - ولما بيَّن (٣) سبحانه وتعالى ما حلَّ بالأمم الماضية من عذاب الاستئصالَ بيَّن هنا أن السَّبَب في ذلك أمران: الأول: عدم وجود مَنْ ينهى عن الفساد، الثاني: عدم رجوعهم عَمَّا هم فيه فقال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ﴾ لولا تحضيضية مضمنة معنى النفي، وكان بمعنى وجد؛ أي: فهلا وجد ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾؛ أي: من الأمم المهلكة الكائنة ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قال في "القاموس": القرون جمع قرن، والقرنُ مئة
(٢) روح البيان.
(٣) الصاوي.
قيل: هؤلاء القليلُ: هم قوم يونس لقوله فيما مر: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾. والراجح أنهم أتباع الرسل، وأهل الحق من الأمم على العموم.
والمعنى: فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أولو عقل ورأي وصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض، باتباع الهوى، والشهوات التي تفسد عليهم أنفسَهم، ومصالِحَهم، فيحولون بينهم، وبين الفساد، ومن سنة اللَّهِ أن لا يهلك قومًا إلا إذا عَمَّ الفساد والظلم أكثرهم.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: ولكنْ كَانَ هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم، منبوذينَ لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددينَ مع رسلهم بالإبعاد والأذى. وقوله: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ معطوف على مقدر يقتضيه
والمعنى: أي صاروا تابعينَ للنعم التي صاروا بها مترفينَ منعمين من خصب العيش، ورفاهية الحال، وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة، واستغرقوا أعمارَهم في الشهوات النفسانية.
وجملة: ﴿وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ معطوفة على: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: اتبعوا شهواتِهم، وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين، وهذا بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة، وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتباع الشهوات.
وخلاصة ذلك (١): أنَّ العقولَ السليمةَ كافية لفهم ما في دعوة الرسل من الخير والصلاح، لو لم يمنع استعمال هِدَايَتِها الافتتانُ بالترف، والنعيم، بَدَلًا من القصد والاعتدال فيه، وشكر المنعم عليه، وقد هَدَتْ التجارب إلى أنَّ التَّرَفَ هو الباعث على الفسوق والعصيانِ، والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئًا في الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء، والعامَّةِ، فيكون ذلك سببًا في الهلاك بالاستئصال، أو في فقد العزة والاستقلال، وتلك هي سنة الله في خلقه، كما قال: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦)﴾. وفي الحديث (٢): "إن الله لا يعذب العامةَ بعمل الخاصة، حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروا، فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلكَ
(٢) روح البيان.
وقرأت فرقة (١): ﴿بَقِية﴾ بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو: شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر وشيبة: ﴿بُقْية﴾ بضم الباء وسكون القاف، بوزن فعلة. وقرىء: (بَقْيَة) بوزن فَعْلَة للمرة من بقاه يبقيه، إذا رقبه وانتظره. وقرأ زيد بن علي: ﴿إلا قليل﴾ بالرفع لحظ أن التحضيض تضمن النفْيَ فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقرأ جعفر بن محمَّد، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب "اللوامح"، وأبو عمرو في رواية الجعفي، ﴿وأتبعوا﴾ ساكنة التاء مبنيةً للمفعول على حذف مضاف؛ لأنه مما يتعدَّى إلى مفعولين؛ أي: جزاء ما أترفوا فيه.
١١٧ - ثم بَيَّن سبحانه وتعالى ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿لِيُهْلِكَ الْقُرَى﴾ (اللام) لام الجحود عند البصريين، وينتصب الفعل بَعْدَهَا بإضمار أن، وهي متعلقة بخبر كانَ المحذوف؛ أي: مريدًا لإهلاك أهل القرى. وقال الكوفيون: ﴿يهلك﴾ خبرُ كَانَ زيدت اللام دلالةً على التأكيد. ﴿بِظُلْمٍ﴾ حال من الفاعل؛ أي: ظالمًا لها بغير ذنب، واستحقاق للهلاك، بل استحَالَ ذلك في الحكمة. ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾؛ أي: غير ظالمينَ، حال من المفعول، والمراد تنزيه الله تعالى عن الظلم بالكلية، بتصويره بصورة مَا يستحيل صدوره عنه تعالى، وإلا فلا ظُلْمَ فيما فَعَلَ الله بعباده، كائنًا مَا كَانَ.
والمعنى: وما كان الله سبحانَه وتعالى مريدًا لإهلاك أهل القرى حالةَ كونه ظَالِمًا لها بغير ذنب، ولا استحقاق إهلاك، حَالَةَ كون أهلها غيرَ ظالمين. وقيل قوله: ﴿بِظُلْمٍ﴾ متعلق بالفعل المتقدم، والمراد به الشرك.
والمعنى: أي ما صح (٢)، ولا استقام أن يهلك الله سبحانه وتعالى أَهلَ القرى بظلم وشرك يتلبسون به، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي
(٢) الشوكاني.
قال بعضهم: الملك يبقى مع الشرك، ولا يبقَى مع الظلم. وقيل: المعنى: وما كان ليهلكهم بِذُنُوبِهم، وهم مصلحون؛ أي: مخلصون في الإيمان.
وحاصل معنى الآية: أي (١) أنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ما داموا مصلحينَ في أعمالهم الاجتماعية، والعمرانية، والمدنية، فلا يبخسون النَّاسَ حقوقهم، كما فعل قوم شعيب، ولا يَبْطِشُون بالناس بطشَ الجبارين، كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار، كقوم فرعون؛ ولا يرتكبون الفواحشَ، ويقطعونَ السبيلَ، ويأتون في ناديهم المنكرَ، كقوم لوط بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفسادَ في الأعمال؛ والأحكام، ويفعلوا الظلمَ المدمر للعمران، ومن ثمَّ قالوا: الأمم تبقَى مع الكفر، ولا تبقَى مع الظلم والجَور. ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني، والديلميُّ، وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يُسأَل عن تفسير هذه الآية فقال: "وأهلها ينصف بعضهم بَعْضًا".
١١٨ - ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ يا محمَّد، جعلَ الناس أمةً واحدةً ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: أهل (٢) دين واحد، إما أهلَ ضلالة، أو أهل هُدًى. وقيل معناه: جَعَلَهم مجتمعينَ على الحق، غير مختلفينَ فيه، أو مجتمعينَ على دينِ الإسلام دونَ سائِر الأديان، بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد كما كانوا قبل الاختلاف. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ ولكنه لم يَشَأْ ذَلِكَ.
أي: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ أيها الرسول (٣) الكريم الشديد الحرص على إيمان
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
فقد اختلف أهله فيه اختلافًا كثيرًا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - ﷺ - قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنين وسبعينَ فرقةً، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة". المراد بهذه الفرق، أهل البدع، والأهواء كالخوارج، والقدرية، والرافضةِ والمعتزلة، والمرادُ بالفرقة الواحدة: أهل السنة والجماعة، اهـ "خازن". أو لا يزالونَ مُخْتَلِفينَ في الرزق، فهذا غني، وهذا فقير، أو لا يزالون مختلفينَ في شؤونهم الدنيوية، والدينية بحسب استعدادهم الفطري،
١١٩ - ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ بالهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا، أو إلا مَنْ رحم ربك من المختلفين في الحق، أو دين الإِسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله تعالى، وهو الحق الذي لا حقَّ غيره، أو إلا مَنْ رحم ربك بالقناعة. والأولى تفسير: ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بالمجتمعةِ على الحق، وحكم كتابه فيهم، وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة، ووحدتها، حتى يكون معنى الاستثناء في ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ واضحًا غير محتاج إلى تَكَلُّفٍ.
﴿وَلِذَلِكَ﴾؛ أي: ولمشيئته تعالى فيهم الاختلافَ والتفرقَ في علومهم، ومعارفهم، وآرائهم، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار في الأعمال ﴿خَلَقَهُمْ﴾؛ أي: خَلَقَ الناسَ كافَّةً، وبهذا كانوا خلفاء في الأرض، ومن ذلك اختلافهم في
والخلاصة (١): أن الناس فريقان: فريق اتفقوا في الدين، فجعلوا كتابَ الله حَكَمًا بينهم فيما اختلفوا فيه، فاجتمعت كلمتهم، وكانت أمة وَاحِدَةً فرحمهم الله تعالى، ووقاهم شرَّ الاختلاف في الدنيا، وعذابَ الآخرة. وفريق اختلفوا في الدين كما اختلفوا في منافع الدنيا، فكان بأسهم بَيْنَهم شديدًا، فذاقوا عقابَ الاختلاف في الدنيا، وأعقبه جزاؤهم في الآخرة، فحُرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه تعالى لهم.
فإن قلت: يعارض ما هنا أعني قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، قولَه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾.
قلت: لا معارضة بَينَهما، لأنَّ ما هنا خَلَقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف، وقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ﴾ معناه: ما خلقتهم إلا للأمر بالعبادة، وبهذا يزول الإشكال، تأمل.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾؛ أي: ثبت (٢) قول ربك يا محمَّد للملائكة: وعزتي وجلالي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: لأجعلنها ملأى حتى تقول قط قط بمعنى يكفي يكفي كما في الحديث. وذلك بعد أن تمد أعناقَهَا، وتطلب الزيادة ليتجلى عليها بصفة الجلال، فتخضع وتذل وتقول: قَطْ قَطْ. ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾؛ أي: من عصاتهما ﴿أَجْمَعِينَ﴾ لتأكيد العموم للنوعين، وإذا تمت وثَبَتَتْ امتنعَت من التغيير والتبديل؛ أي: قد سبق في قضائه وقَدَرِه وحكمته النافذة أن من خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النارَ، وأنَّ النارَ لا بد أن تملأَ من عالمي الجن
(٢) المراح.
١٢٠ - ولما ذكر (١) الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة قَصَصَ الأمم الماضية، والقرُونَ الخالية، وما جرَى لهم مع أنبيائهم.. خاطب نبيَّه - ﷺ - بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾؛ أي: وكل نبأٍ وخبر من أنباءِ الرسل المتقدمين من قبلك، وأخبارهِم مع قومهم، مما يحتاج إليه، وما جرى لهم من المحاجات، والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب، والأذى، وكيف نَصَر الله حِزبَهُ المؤمنين، وخذل أعداءَه الكافرين، نقصه عليك، ونخبره لك لفوائدَ، منها: ما ذكره بقوله: ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ حتى يكون كالجبل لتقومَ بأعباء الرسالة، ونشر الدعوة لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين. وهو بدل من ﴿كلًّا﴾؛ أي: نقص عليك من تلك الأنباء ما نقوي ونشد به قلبكَ، حتى يَزيدَ يقينك، وتطيبَ به نفسك، وتعلم أن الذي فعل بك قد فعل بالأنبياء قبلك، والإنسان إذا ابتليَ بمحنة وبلية، فرأى جماعةً يشاركونه فيها خف على قلبه بَلِيَّته كما يقال: البلية إذا عمت خفت وطابَتْ. وتثبيت (٢) الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولأتباعهم المؤمنين، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى. ففي هذا كله أسوة بهم؛ إذ المشاركة في الأمور الصَّعْبة تهوِّن ما يلقَى الإنسانُ من الأذى، ثم الإعلام بما جرَى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب، من غرق، وريح، ورجفة، وخسف، وغَيرِ ذلك فيه طمأنينة للنفس، وتأنيس بأن يُصِيبَ الله من كذَّب الرسولَ - ﷺ - بالعذاب كَمَا جَرَى لمكذبي الرسل، وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له، ولأتباعه، كما اتفقَ للرسل وأتباعِهم. ومنها: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَاءَكَ﴾ يا محمَّد ﴿فِي هَذِهِ﴾ الأَنْبَاء المقصوصة عليك، أو في هذه السورة، ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: البراهين الدالةَ على التوحيد، والنبوة ﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾؛ أي: تنفير للمؤمنين من الاغترار بالدنيا.
﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: إرشاد لهم إلى الاستعداد للآخرة؛ أي: وجاءك
(٢) البحر المحيط.
قلت: لا يلزَمُ من تخصيص هذه السورة بالذكر أن لا يَكُون قد جاءه الحق في غيرها من السور، بل القرآن كلُّه، حق يَحِقُّ تَدَبُّرُه، وصدقٌ يجب تصديقه، ولكن إنما خصَّها بالذكر، تشريفًا لها، ورفعًا لمنزلتها لكونها جمعت من قصص الأمم الماضية، ما لم يَكُن في غَيْرِها، وإنما عرفه، ونكر تَالِيَيهِ تفخيمًا له، لكونه يُطلَقُ على الله تعالى بخلاف تالييه، اهـ "كرخي".
قال في "الإرشاد" (٢): ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾؛ أي: الأمر الجامع بين كونه حقًّا في نفسه، وكونهِ موعظةً، وذِكرى للمؤمنينَ، ولكون الوصف الأول حالًا له في نفسه، حلّي باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره، وتقديم الظرف أعني (في هذه) على الفاعل، أعني الحقَّ، لأنَّ المقصود بيان منافع السورة، لا بيان ذلك فيها، لا في غيرها؛ أي: لأن المقصودَ بيان اشتمالها على ذلك، لا بيان كونه موجودًا فيها دون غيرها.
﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾؛ أي: ونصيحة عظيمة للمؤمنين ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: وتذكرة لهم خَصَّهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بالموعظة، والتذكير بأيام الله، وعقوبته، والفرق بين الموعظة والتذكير: أنَّ المَوْعِظَةَ هي ما ينزجر به السامِعُ، ويمتنع من الاغترار بزخارف الدنيا، ولذاتها لأنه إذا رَأَى إهلاك الأمم السابقة مع قوتهم، وجلادتهم وسعةِ رزقهم أعرضَ عن الدنيا، والتذكير: ما يقبل السامع بالتدبر فيه إلى أمور الآخرة، والتزود لها؛ لأنه إذَا رأى نَصرَ المؤمنين، وكَوْنَ الدولة لهم، ونَجَاتهم مع الرسل، أقْبَل إلى أمور الآخرة، والتزود لها. وقيل: هما مرادفان.
١٢١ - ﴿وَقُلْ﴾ يا محمَّد ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بهذا الحق، ولا يتعظون به، ولا
(٢) روح البيان.
١٢٢ - ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا الدوائرَ والنوائبَ على ما يعدكم الشيطان ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أن ينزل بكم ما نَزَلَ بأمثالكم من الكفرة على ما وعد الرحمن. فهذا تهديد لهم؛ لأن الآيةَ منسوخة بآية السيف.
والمعنى (١): ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا ما تتمنونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره، مما تحدِّثون به أنفسَكم، كما حكى الله عنهم في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)﴾.
﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أن ينزلَ بكم مثل ما نزلَ بأمثالكم من عقابه تعالى، بعذاب من عنده، أو بأيدي المؤمنين، وأن يكفل لنا النصرَ والغلبة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. وقد أنجزَ وَعْدَه، ونصَرَ رسوله، وأيَّدَهُ، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
١٢٣ - و (اللام) في قوله (٢): ﴿وَلِلَّهِ﴾ للاختصاص ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الغيب في الأصل مصدر، وإضافة المصدر يفيد العموم، والإضافة فيه بمعنى في؛ أي: وعلم جميع ما غاب عنك يا محمَّد، وعن سائر الخلائق في السموات والأرض مختص بالله سبحانه وتعالى، فكيف يخفَى عليه أعمالكم؛ وهو المالك لجميع ما في السموات والأرض، المتصرف فيه كيف شاء، العالم بكل ما سيقع فيهما، والعالم بوقته الذي يقع فيه.
وخص (٣) ذكرَ الغيب مع كونه يعلم بما هو شاهد فيهما، لكونه من العلم الذي لا يُشَارِكهُ فيه غيره، وخص ذكرَ السموات والأرض مع كونه يعلم ما غاب في غيرهما من العرش والكرسي وغيرهما، لكونهما محسوسين للمخاطبين.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
﴿وَإِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده لا إلى غيره ﴿يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ بضم الياء، وفتح الجيم، أي يرد، وبفتح الياء، وكسر الجيم بمعنى يَعُود، ويصير أمور الخلائق كلها يوم القيامة، فيجازى كُلًّا بعمله خيرًا، أو شرًّا، فيرجع أمرك يا محمَّد، وأمُر الكفار إليه، فينتَقِم لَكَ منهم؛ أي: فأمركَ وأمرهم لا مَحَالةَ راجع إليه تعالى، ومَا شَاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن. وقرأ (١) نافع وحفص: ﴿يُرْجَعُ﴾ على البناء للمفعول. وقرأ الباقون على البناء للفاعل. ﴿فَاعْبُدْهُ﴾؛ أي: وإذا (٢) كان أمر كل شيء يرجع إليه، فاعبده سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له وحدَه، وادعُ إلى طاعته، واتباع أمره بالحكمة، والموعظة الحسنة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ تعالى فيما لا يدخلُ في مكنتك، واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه، لكونه لا يدخلُ تحتَ كسبك، ولا تنالُه يدك، والتوكل لا يجدي نفعًا بغير العبادة، والأخذ بالأسباب المستطاعة، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب، والعبادة لا تكمل إلّا بالتوكل، إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى.
روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه، أن النبي - ﷺ - قال: "الكيس مَنْ دان نفسه، وعمل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني".
وخلاصة ذلك: امتَثِلْ ما أمرت به، وداوم على التبليغ والدعوة، وتوكل عليه في سائر أمورك، ولا تبال بالذين لا يؤمنون، ولا يضيق صدرك بهم.
وقيل: معنى قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾؛ أي (٣): أطعه، واستقم على التوحيد أنت وأمتك ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: فوض إليه جميعَ أمورك، فإنه كافيك وعاصمك من
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿وَمَا رَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بساه (١) عما تعمل أنت أيها النبي - ﷺ - ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته، والتوكل عليه، والصبر على أذى المشركين، فيوفيكم جزاءكم في الدنيا والآخرة، ولا بغافل عما يعمل المشركون من الكيد لَكُمْ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وسيجزيهم على أعمالِهم يوم تجْزَى كل نفس بما كسبَتْ، وقد صدق وعدَه، ونَصَرَ عبده، وأظهر دِينَه على الدين كلِّه، أي: فالله تعالى عالم به غير غافل عنه؛ لأنَّ الغفلةَ والسهوَ لا يجوزان على مَنْ لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض، فيجازي كلًّا منك ومنهم بِمُوجَب الاستحقاق.
والجملة الأولى من هذه الآية (٢): دلت على أن عِلْمَه تعالى محيط بجميع الكائنات، كلِّيّها وجُزّئِيِّها حاضرها وغائبها؛ لأنه إذا أحاط علمه بما غاب، فهو بما حضر محيط؛ إذ علمه تعالى لا يتفاوت.
والجملة الثانية: دلَّت على القدرة النافذة، والمشيئة.
والجملة الثالثة: دلَّت على الأمر بإفراد مَنْ هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلَّى بها العبدُ.
والجملة الرابعة: دلَّتْ على أنَّ الأمر بالتوكل، وهِيَ آخرة الرُّتَبِ؛ لأنه بنور العبادة أبصرَ أنَّ جميعَ الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جَمِيعِها، لا يشركه في شيء منها.
والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المُجَازَاةِ، فلا يضيع طاعةَ مطيع، ولا يهمل حالَ متمرد؛ أي: فإنه تعالى (٣) لا يُضَيِّعُ طاعات المطيعينَ، ولا يهمل
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
وعن كعب الأحبار (١): إنَّ فَاتِحَةَ التوراةِ، فاتحةُ سورة الأنعام، وخاتمتها خاتمةُ سورة هود، هذه الآية يعني: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية.
واعلم: أنَّ علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى، وأما إخبار الأنبياءِ والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، عن بعض المغيبات، فبواسطة الوحي، والإلهام، وتعليم الله تعالى، ومن هذا القبيل: إخباره - ﷺ - عن حال العشرة المبشرة، وكذا عن حال بعض الناس.
ثم إن (٢) التوكّل عبارة عن الاعتصام به تعالى في جميع الأمور، ومحله القلبُ، وحركة الظاهِرِ لا تنافي تَوَكُّلَ القلب بعدما تحقق عند العبد أنَّ التقدير من قبل الله تعالى، فإن تَعَسَّرَ شيءٌ، فبتقديره، فالواجب على كافَّةِ العباد أن يعبدوا اللَّهَ تعالى، ويعتمدوا عليه كل الاعتماد، لا عَلى الجاه والعقل، والأموال، والأولاد فإنَّ اللَّهَ تعالى خالق كل مخلوق، ورازق كلُّ مرزوق.
وفي الحديث: "ما من زرع على الأرض، ولا ثمر على الأشجار، إلا وعليه مكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا رزقُ فلان بن فلان". وفي الحديث: "خَلَقَ الله الأرزاقَ قبل الأجسادِ بألف عام، فبسطها بين السماء والأرض، فضربتها الرياحُ، فوقعت في مشارق الأرض ومغاربها، فمنهم من وَقَعَ رزقه في ألف موضع، ومنهم من وقع في مئة، ومنهم من وقع على باب داره، يَغْدُو وَيرُوحُ حتَّى يَأتِيه".
وقرأ الصاحبان (٣) - نافع وابن عامر - وحفص، وقتادة، والأعرجُ، وشيبة
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وعن رسول الله - ﷺ - (١): "من قرأ سورةَ هود أعطي من الأجر عَشْرَ حسنات بعدد من صَدَّق بنوح، ومَنْ كذَّب به، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وكان يومَ القيامة من السعداء" إن شاء الله تعالى.
خاتمة في بيان المقاصد الدينية التي اشتملت عليها هذه السورة
قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين، ومبادئِهِ العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا إلا إذا سلك سبيلها، ونهج نهجَها، ومن ذلك:
١ - التوحيد وهو ضربان:
أ - توحيد الأُلوهية، وهو أولُ ما دعا إليه محمدٌ - ﷺ -، ودعا إليه كل رسول قَبْلَه، وهو عبادته تعالى وحده، وعدم عبادة أحد معه، كما قال: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولي أو نبيٍّ أو شيطان أو ملك، إذا توجه العبد إليها توجهًا تعبديًّا ابتغاء النفع أو كشف الضر في غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس، كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام، أو الأوثان، إذ جميع ما عَدَا الله تعالى فهو عَبْدٌ، وملك له لا يتوجه بالعبادة إليه.
ب - توحيد الربوبية؛ أي: اعتقاد أنَّ اللَّهَ وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصرف فيه على مُقْتَضى حكمته، ونظام سنَّته، وتسخيره الأَسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر المشركينَ من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأنَّ الربَّ الخالقَ المدبّر واحِدٌ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرب بها إليه توسلًا، وطلبًا للشفاعة عنده.
٣ - جاءت آيات البعث والجزاء في القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان، والاستدلال بها على قدرة الخالق، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب، والموعظة والجزاء، كما جاء في قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)﴾، وقوله: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
٤ - إهلاكُ الأمم بالظلم كما جاء في قوله لخاتم رسله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)﴾، وقوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
٥ - سنته تعالى في ضلال الناس وغوايتهم بأن يكونوا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية، والإصرار عليها إلى أن تتمكنَ من صاحبها، وتحيطَ به خطيئته حتى يفقد الاستعدادَ للهُدَى والرشاد.
٦ - من طباع البشر العجل والاستعجالُ لِمَا يَطْلَبُ من النفع والخير، وما ينذر به من الشرِّ كما قال: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾.
٧ - سنته تعالى في تكوين الخلق، وأنه كَانَ أطوارًا في أزمنة مختلفة، بنظام مُحْكَمٍ، ولم يكن شيء منه فجائيًّا بلا تقدير، ولا ترتيب كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ فكلمة الخلق معناها: التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقاديرَ متناسبة، ثم أريد بها الإيجاد التقديريُّ؛ فالسموات السبع المرئية للناظرين، والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام، وما فيها من البسائط، والمركبات الغازية، والسائلة، والجامدة، كذلك والكون في جملته قائم بسنة عامة في ربط بعضه ببعض، وحفظِ نظامِهِ بأنْ يبنَى بعضه على
٨ - أنَّ الطغيانَ والركونَ إلى الظالمين من أمهات الرذائل، كما قال: ﴿وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
٩ - الاختلاف في طبائع البشر: فيه فوائد، ومنافع علمية وعملية لا تظهر مَزَايَاهُ بدونها، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق، والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدينَ لتكميل فطرتهم، والحكمِ بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مَجَالَ فيه للاختلاف، فاستحق الذين يحكمونه فيما يتنازعون فيه رحمتَه وثوابَه، والذِينَ يختلفون فيه سخْطَهُ وعِقَابَه.
١٠ - إتباع الإتراف، وما فيه من الفساد، والإجرام، ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجِبَ لهلاك الأمم، هو اتباع أكثرها، لِما أترِفُوا فيه من أسباب النعيم، والشهوات، واللذَّات، والمترفون هم مفسدوا الأمم، ومُهلكوها، وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن، من الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، فكانوا مَثَلًا صالحًا في الاعتدال في المعيشة، أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الأتراف والنعمة، ففَتحوا الأمْصَارَ، وأقاموا دَوْلةً عزَّ على التاريخ أن يقيمَ مِثْلَها باتباع هدي القرآن، وبيان السنة له، وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، والعرفان، ثم أضَاعَها من خلف من بعدهم من متبعي الإتراف، وكيف ضلوا بعد أن استفادوا الفنونَ والعلومَ، والملكَ والسلطان، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
١١ - إقامة الصلاة في أوقاتها من الليل والنهار؛ لأنَّ الحسناتِ يذهبن السيئات، وأعظم الحسناتِ الروحيةِ الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.
١٢ - النهي عن الفساد في الأرض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.
١٣ - سننه تعالى في اختبار البشر؛ لإحسان أعمالهم كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ
١٤ - أول اتباع الرسل والمصلحين الفقراءُ كما حكى عن قوم نوح ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾.
١٥ - التنازع بين رجال المال، ورجال الإصلاح في حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.
١٦ - منْ سُنَنِهِ تعالى جعل العاقبة للمتقين، وذلك هو الأساس الأعظم في فوز الجماعات الدينية، والسياسية، والأمم والشعوب في مقاصدها، وغلبها لخصومها ومناوئيها.
١٧ - بيان أنَّ الاختلافَ في الدين ضروري كما قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
١٨ - بيان أنَّ نَهْيَ أولي الأحلام عن الفساد، يَحْفَظُ الأمة مِنَ الهلاك كما قال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾.
الإعراب
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ أنَّ مراتب الناس اثنان إما شقي أو سعيد، وأردتَ بيانَ مآلهما.. فأقول لك. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿شَقُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فَفِي﴾ (الفاء) رابطة لجواب أمَّا واقعة في غير موضعها؛ لأنَّ موضعها موضع (أما). ﴿في النارِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما) لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة أما من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الاستقرار الذي تعلق به الخبرُ. ﴿زَفِيرٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿وَشَهِيقٌ﴾ معطوف عليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير
﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)﴾.
﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أعني قَولَه: ﴿فَفِي النَّارِ﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿مَا﴾ مصدرية ظرفية. ﴿دَامَتِ السَّمَاوَاتُ﴾ فعل وفاعل؛ لأنَّ دام هنا تامة بمعنى بقِيَتْ. ﴿وَالْأَرْضُ﴾ معطوف عليه، والجملة صلة (ما) المصدرية. ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، تقديره: مدة دوام السموات والأرض، والظرف المقدر متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء بمعنى غير. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما شاءه ربك. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿فَعَّالٌ﴾ خبره، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بفعال، وقيل: (اللام) زائدة في مفعول الصفة تقويةً للعامل. ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره لما يريده.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (أما) حرف شرط ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿سُعِدُوا﴾ فعل ونائب فاعل أو فعل وفاعل على اختلاف القرائتين، والجملة صلة الموصول. ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما)، وجملة (أما) معطوفة على جملة (أمّا) الأولى. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿ما﴾ مصدرية ظرفية. ﴿دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ فعل وفاعل صلة (ما) المصدرية. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء بمعنى غير. ﴿ما﴾
﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)﴾.
﴿فَلَا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ يا محمَّد ما قصصنا لك من قصص المتقدمين، وسوء عاقبتهم، وأردتَ بيانَ ما هو اللازم لك.. فأقول لك: لا تك في مرية ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَكُ﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمِه سكون النون المحذوفة للتخفيفِ لكثرة استعمالِها؛ لأن أصلَه تكون، حذفت حركة النون للجازم، فالتقى ساكنان، ثمَّ حذفت الواو؛ لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون للتخفيف، واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ خبرها، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مِرْيَةٍ﴾؛ أي: فلا تك في مرية ناشئة مما يعبد هؤلاء، أو في ما يعبد هؤلاء فمن بمعنى في. ﴿يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره مما يعبده هؤلاء من الأصنام. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿يَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبلها. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار مجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية، (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور، بالكاف تقديره: كعبادة آبائهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره، ما يعبدون إلا عبادة كائنة كعبادة آبائهم، من قبل في كونها ضلالًا، وتقليدًا لا أصلَ لها. ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمُوَفُّوهُمْ﴾ خبره مرفوع (بالواو) لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنَّ مفردَه ليس بعلم ولا صفة، وإنما جمع للتعظيم والنون حذفت للإضافة، و (اللام) حرف ابتداء، وهو مضاف
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَاخْتُلِفَ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿اختلف﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾. ﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لولا﴾ حرف امتناع لوجود. ﴿كَلِمَةٌ﴾ مبتدأٌ سوغَ الابتداء بالنكرة وقوعُهُ بعد ﴿لولا﴾ أو وصفه بما بعده. ﴿سَبَقَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كلمة. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صفة ﴿كَلِمَةٌ﴾، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك موجودة. ﴿لَقُضِيَ﴾ (اللام) رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿قضي﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قضي﴾، وجملةُ ﴿قُضِيَ﴾ جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مع جوابها معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾ على كَوْنِهَا جَوابَ القسم. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿في شك﴾ جار ومجرور خبر (إن). ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿شك﴾. ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة ﴿شَكٍّ﴾ وجملة (إن) معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾.
﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)﴾.
وحاصلُ ما في كلمتي (إن) و (لما) من القراءات السبعة أربع: تخفيفهما، وتشديدهما، وتخفيف (إن) مع تشديد (لمَّا)، وتخفيف (لمَّا) مع تشديد (إنَّ).
فعلى القراءة الأولى: تقول في إعراب الآية (إن) مخففة من الثقيلة. ﴿كُلًّا﴾ اسمها منصوب بها. ﴿لما﴾ (اللام) حرف ابتداء، (ما) اسم موصول بمعنى الذين
وعلى القراءة الثانية: أعني تشديدهما (إن) حرف نصب. ﴿كُلًّا﴾ اسمها. ﴿لما﴾ أصله: لمن ما بدخول لام الابتداءِ على من الجارة، دخَلت على ما الموصولة، أو الموصوفة؛ أي: لمن الذين، والله ليوفينهم، أو لمن خلق، والله ليوفينهم، فَلَمَّا اجتمعت النون ساكنة قبل ميم ما، وجب إدغامها فيه، فقلبت ميمًا، وأدْغمت الميمُ في الميم، فصارَ في اللفظ ثلاثَ ميمات، فخفف اللفظ بحذف إحداها، فقلبت كسرة ميم من الجارة فتحةً لوقوعها بين فتحتين، فصار اللفظ لما: فيقال في إعرابه (اللام) حرف ابتداء. (من) حرف جر. (ما) موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ (من). ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿يوفينهم ربك أعمالهم﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه صلة لـ (ما) إنْ قلنا: موصولةً، أو صفة لها؛ إن قلنا: موصوفةً، والعائد، أو الرابط ضمير المفعول الأول، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن، تقديره: وإن كُلًّا من الخلائق لكائنون من الذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم، أو لكائنون من مخلوق، أو فريق وَافٍ لهم ربك أعمالَهم، وجملة إن مستأنفة.
وعلى القراءة الثالثة: أعني تخفيفَ (إنْ) مع تشديد (لَمَّا)، فإن المخففة
وعلى القراءة الرابعة: أعني تخفيف (لَمَا) مع تشديد (إنَّ). (إنَّ) المشددة عاملة. و (اللام) للابتداء. و (ما) اسم موصول في محل الرفع خبرها. ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ جملةٌ قسميةٌ صلة الموصول فتحصَّل مما ذكر أنَّ (إن) عاملة. (وما) موصولة، أو موصوفة في جميع الأوجه كلها. و (اللام) الثانية موطئة للقسم، والأولى لام الابتداء. فتأمل، وما قررناه زبدة كلام طويل في هذا المقام فليحفظ.
﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بخبير. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ صلة لما أو صفة لها. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)﴾.
﴿فَاسْتَقِمْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرَفْتَ يا محمَّد أحوالَ القرونَ الأولى مع أنبيائهم، وأن إخْوانَك المرسلين تحملوا الأذى من قومهم، فصبروا، واستقاموا على الطريقة المثلى، وأردت بيانَ ما هو اللازم لك؛ فأقول لكَ: ﴿استقم﴾. ﴿استقم﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) موصولة في محل الجر بالكاف. ﴿أُمِرْتَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ (ما) الموصولة، والعائد محذوف تقديره: كالاستقامة التي أمرت بها، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فاستقم استقامة مثلَ الاستقامة التي أمرت بها. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (من) اسم موصول في محل الرفع معطوف عل الضمير المستتر في ﴿استقم﴾ لوجود الفاصل. ﴿تَابَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على (من)، والجملة صلة الموصول. ﴿مَعَكَ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من الضمير المستتر في ﴿تَابَ﴾. ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾ جازم وفعل، وفاعل معطوف على ﴿استقم﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)﴾.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ جازم وفعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرْكَنُوا﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ (الفاء) عاطفة سببية. ﴿تمسكم النار﴾ فعل، ومفعول، وفاعل منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، والجملة الفعلية صلة أن، المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك، لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن منكم ركون إلى الذين ظلموا، فمس النار إياكم. ﴿وَمَا﴾ الواو حالية أو استئنافية. (ما) نافية. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِن دُونِ اَللهِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ مبتدأ مؤخر، و (من) زائدة، والتقدير: وما أولياء كائنون لكم حالَةَ كونهم من دون الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب حال من (كاف) المخاطبين في ﴿تمسكم﴾؛ أي: فتمسكم النار حالَ انتفاء ناصركم، أو الجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، أتى بثم تنبيهًا على تباعد الرتبة، اهـ "سمين". ﴿لا﴾ نافية. ﴿تُنْصَرُونَ﴾ فعل، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، عطفَ جملة فعلية على جملة اسمية.
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)﴾.
﴿وَأَقِمِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿أقم الصلاة﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ﴾. ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ ظرف، ومضاف إليه منصوب بالياء متعلق بـ ﴿أقم﴾. ﴿وَزُلَفًا﴾ منصوب على الظرفية معطوف على ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾. ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ صفة له. ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ﴾ ناصب
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾ (الفاء) استئنافية. ﴿لولا﴾ حرف تحضيض مضمن معنى النفي، لأنه لا يمكن تحضيضهم وتخويفهم بعد انقراضهم. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض تام بمعنى وجد. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ متعلق بـ ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور صفة للقرون، لأنه اسم جنس محلى بأل، فهو بمنزلة النكرة. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ فاعل، ومضاف إليه. ﴿يَنْهَوْنَ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَنِ الْفَسَادِ﴾ متعلق به. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بالفساد؛ لأنَّ المصدرَ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة، فيكون في الظرف أولى، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الفساد ذكره في "الفتوحات". والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لفاعل ﴿كَانَ﴾. ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ مستثنىً من الفاعل بملاحظة صفته. والمعنى (١): فما كان من القرون الماضية المهلَكة بالعذاب، جماعة أصحاب دين ينهون عن الفساد إلا قليلًا، وهم من أنجيناهم من العذاب، نَهَوْا عن الفساد، فالمستثنى منه القرونُ المهلكة بالعذاب، كما هو مقتضَى السياق، والمستثنى مَنْ أنجاه الله من العذاب، فاختلفَ الجِنسَ باعتبار الوصف المذكور. ﴿مِمَّنْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿أَنْجَيْنَا﴾ فعل وفاعل،
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (ما) نافية. ﴿كَانَ رَبُّكَ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿لِيُهْلِكَ﴾ (اللام) حرف جر وجحود لسبقها بـ (كان) المنفية بـ (ما). ﴿يهلك القرى﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِظُلْمٍ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يهلك﴾ أي حالَةَ كونه متلبسًا بظلم، أو متعلق بـ ﴿يهلك﴾؛ أي: ما كان يهلك أهلَ القرى بظلم منهم؛ أي: بشرك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإهلاك القرى الجار والمجرور، متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا لـ ﴿كان﴾ تقديره: وما كان ربك مريدًا لإهلاك القرى. ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ﴿من القرى﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (لو) حرف شرط. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لو). ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً﴾ فعل ومفعولان، و (اللام) رابطة لجواب (لو). ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة لـ (أمة) وفاعل (جعل) ضمير يعود على الله، وجملة جعل جواب (لو)، وجملة (لو) مستأنفة. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ فعل مضارع ناقص واسمه. ﴿مُخْتَلِفِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة (لو). ﴿إِلَّا﴾ أداة
﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾.
﴿وَلِذَلِكَ﴾ جار ومجرور، متعلق بما بعده. ﴿خَلَقَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة (خلق). ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿أملأن﴾ فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب، والجازم مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿جَهَنَّمَ﴾ مفعول به. ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ متعلق بـ (أملأن). ﴿وَالنَّاسِ﴾ معطوف على الجنة. ﴿أَجْمَعِينَ﴾ توكيدٌ لِمَا قبله، والجملة الفعلية جوابٌ لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع بدل من ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾.
﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)﴾.
﴿وَكُلًّا﴾ مفعول مقدم لـ ﴿نَقُصُّ﴾. ﴿نَقُصُّ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿نقص﴾. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿كلا﴾. ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب بدل من ﴿كُلًّا﴾. ﴿نُثَبِّتُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿نُثَبِّتُ﴾. ﴿فُؤَادَكَ﴾ مفعول به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿وَجَاءَكَ﴾ فعل ومفعول. ﴿فِي هَذِهِ﴾ متعلق به. ﴿الْحَقُّ﴾ فاعل. ﴿وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى﴾ معطوفان على ﴿الْحَقُّ﴾. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ تنازع فيه كل من ﴿موعظة﴾ ﴿وَذِكْرَى﴾، وجملة ﴿جاءك﴾ معطوفة على جملة ﴿نَقُصُّ﴾.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)﴾.
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُرْجَعُ﴾ الآتي. ﴿يُرْجَعُ الْأَمْرُ﴾ فعل، ونائب فاعل. ﴿كُلُّهُ﴾ توكيد للأمر، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية. ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿اعبده﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرْجَعُ﴾. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ فعل أمر معطوف على قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ حجازية أو تميمية. ﴿رَبُّكَ﴾ اسمها، أو مبتدأ. ﴿بِغَافِلٍ﴾ خبر المبتدأ، أو خبر (ما) و (الباء) زائدة. ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق ﴿بِغَافِلٍ﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاعْبُدْهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ وفي "السمين": الزفير: أول صوت الحمار والشهيق آخره. وقال ابن فارس: الزفير: ضد الشهيق؛ لأن الشهيقَ رد النَّفَسِ، والزفير إخراج النفس من شدة الحزن، مأخوذ من الزَّفر، وهو الحمل على الظهر
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ عبارة "السمين": قَرأَ الأَخَوانِ وحفص: ﴿سُعِدوا﴾ بضم السين والباقونَ بفتحها، فالأُولَى من قولهم: سَعِدَهُ الله؛ أي: أَسْعَدَه. حكى الفراء عن هذيل، أنها تقول: سعده الله بمعنى أسعده. قال الأزهري: سَعِدَ فهو سعيد، كسَلِم فهو سليم، وسَعِد فهو مسعود. قال أبو عمرو بن العلاء: يقال: سَعُدَ الرجل كما يقال: حَسُنَ. وقيل: سعده لغة مهجورة، وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخوين، اهـ.
وفي "المصباح": سَعِدَ فلانٌ يسعد من باب تعب، في دين أو دنيا سَعْدًا، وبالمصدرِ سُمِّيَ، والفاعل سعيد، والجمع سعداء، ويُعَدَّى بالحركة في لغة، فيقال: سَعِدَه الله يَسْعَده بفتحتين فهو مسعود، وقرِىء في السبعة بهذه اللغة في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ بالبناء للمفعول، والأكثر أن يتعدَّى بالهمزة، فيقال: أسعده الله، وسَعُدَ بالضم خلافُ شَقِيَ، اهـ.
﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، ﴿عَطَاءً﴾ اسم مصدر بمعنى إعطاء، والفعل أعطوا؛ أي: أَعطاهم الله سبحانه وتعالى إعطاء. وفي "السمين": عَطاءَ نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قَبْلَهُ؛ لأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ﴾ يقتضي إعطاءً وإنعامًا، فَكَأنَّه قيل: يُعْطِيهم عَطَاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة: الإعطاء على وزن الإفعال، أو يكون مصدرًا على حذف الزوائد، كقوله: أنبُتَكُم من الأرض نباتًا، أو منصوب بمقدار موافق له؛ أي: فنبتم نباتًا، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتَ بمعنى نَاوَلْتَ، اهـ. ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ في "المختار": جذه كَسَرَهُ وقطَعَهُ، وبابه رَدَّ، والجذاذ بضم الجيم وكسرها ما تكسَّر منه، والضم أفْصَحُ، و ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؛ أي: غير مقطوع، والجذاذات القراضات. {فَلَا
﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ من ركن يركن من باب علم يعلم. وفي"المصباح": ركنت إلى زيدٍ اعتمدتُ عليه، وفيه لغات:
إحداها: من باب تَعِبَ، وعليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
والثانية: ورَكَنَ رَكُونًا من باب قَعَدَ. قال الأزهري: وليست بالفصيحة.
الثالثة: رَكَنَ يَرْكَنُ بفتحتين، وليست بالأصل بل من تداخل اللغتين؛ لأنَّ باب فعل يفعل بفتحتين شَرْطُه أن يكونَ حلقيّ العين أو اللام، اهـ. وفي "السمين": وقَالَ الراغب: والصحيح أنه يقال: ركن يركن بالفتح فيهما، ورَكِنَ يَرْكن بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي، والضم في المضارع، اهـ. والركون إلى الشيءِ الاعتماد عليه ورُكْنُ الشيء جانِبُه الأَقْوى، وما تَتَقوَّى به من مُلْك وجُنْدٍ وغيره، ومنه قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾.
﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ طرف الشيء الطائفة منه والنهايةُ، فَطَرَفَا النهار الغدوُّ والعشي. والزلَف واحدها زُلْفَة، وهي الطائفة من أول الليل لقربها من النهار. وقرأ العامة: زُلَفًا بضم الزاي، وفتح اللام، وهي جَمْعُ زلفة بسكون اللام نحو غرف في جمع غرفة، وظلم في جمع ظُلْمَةٍ. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضم اللام للإتباع كما قالوا: بُسُر في بسْر بضم السين إتباعًا لضَمَّة الباء. وفي "القاموس": الزلفة الطائفة من الليل، والجمع زُلُف وزلفات كغرف وغرفات. والزلَفُ: ساعاتُ الليل الآخذةُ من النهار، وساعات النهار الآخذة من الليل، اهـ.
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ﴾، ﴿لَوْلَا﴾ كلمةٌ تفيد التحضيضَ والحثَّ على الفعل. و ﴿الْقُرُونِ﴾ واحدهم قرن، وهو الجيل من الناس، قيل: هو ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وشاع تقديره بمئة سنة كما مر. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ وقرأ العامة (بقِيَّة) بفتح
أحدهما: أنها صفة على فعيلة للمبالغة بمعنى فاعلة، ولذلك دخلت التاء فيها، والمراد بها حينئذ: جيد الشيء وخياره، وإنما قيل لجيده وخياره بَقِيةٌ من قولهم: فلان بقيةُ الناس، وبقية الكرام، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجودَه وأفضله.
والثاني: أنها مصدر بمعنى القويّ. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون البَقِيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقية بمعنى التقوى؛ أي: فَهَلَّا كَانَ منهم ذوو بقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سَخَطِ الله وعقابه. وقرأت فرقة (بقية) بتخفيف الياء، وهي اسم فاعل من بَقِيَ كشجية من شجِيَ، والتقدير: أولو طائفة بقية، أي باقية. وقيل: البقية ما يبقَى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرًا في الأنفع والأصلح؛ لأنَّ العادَةَ قد جَرَتْ بأنَّ الناسَ ينفقون أرْدَأ ما عندهم، ويستبقون الأجودَ.
﴿مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ يقال: أترفَتْهُ النَّعْمَة؛ أي: أبْطَرْتُهُ وأفسدَتُه. وفي "القاموس": الترفة بالضم: النعمة، والطعامُ الطَّيِّب، والشيء الظريفُ تَخُصُّ به صاحبَكَ، وَتَرِفَ كَفَرِحَ تنعَّم وأترفته النعمة أطغَتْه، أو نعمته كترفته تَتْرِيفًا وأترف فلانٌ أصَرَّ على المكر، والمُتْرَفُ كمُكْرَمِ المتروك يَصْنَعُ ما يشاء، ولا يمنَع، والمتنعمُ لا يَمْنَعُ من تنعمه، اهـ.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ والجنة والجن بمعنى واحد. وقال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة؛ وإن كَانَ الجِنُّ يقع على الواحد، فالجِنَّة جَمْعُه، انتهى. فيكون مما يكونُ فيه الواحد بغير هاءٍ، وجَمْعُهُ بالهاء لقول بعض العرب كمء للواحد وكمأة للجمع. ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ القص تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)﴾. والأنباء جمع نبأ كأسباب جمع سبب. والنَّبَأُ: الخَبَرُ الهَامُّ. ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ﴾؛ أي: نُقَوّي به، ونجعل. ﴿فُؤَادَكَ﴾ رَاسِخًا كالجبل. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على تَمكنِكم، واستطاعتكم.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: اللف والنشرُ المرتَّب في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ شبَّه صراخَ أهل النار، وأنينَهم بأصوات الحمير بجامع الارتفاع، والشناعة، وعدم الفائدة في كلٍّ، فاستعار له اسمَ المشبه به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية، كما في "روح البيان".
ومنها: المبالغةُ في صيغةِ فعَّال في قوله: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.
ومنها: الإظهارُ في مقام الإضمار في قوله: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً﴾ فحقُّ العبارة أن يقال: ما دامتا إلا ما شاء.
ومنها: حكايةُ الحال الماضية في قوله: ﴿إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾.
ومنها: التأكيد لدفع توهم المجاز في قوله: ﴿نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ أتى بغير منقوص لدفع توهم إرادة بعض النصيب.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ لأنها كناية عن القضاء والقدر.
ومنها: الإسناد المجازيُّ في قوله: ﴿مُرِيبٍ﴾ كما مرَّ.
ومنها: جناسُ الاشتقاق في قوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، وفي قوله: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.
ومنها: القَصْرُ في قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفي قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
رَأَينا أَنْ نقدِّم لك أيها القارئُ صورةً موجزةً تبيِّنُ لكَ حَالَ هذا النبي الكريم، والعِبرة من ذكْرِ قصته في القرآن العظيم لتكون ذِكرى للذاكرين، وسلْوةً للقارئين والسامعين.
يوسف الصدِّيق مثلٌ كاملٌ في عِفَّتِهِ
يوسف عليه السلام آيةٌ خالدةٌ على وَجْه الدهر تُتْلى في صحائفِ الكون بكرةً، وعشيًّا، تفسر طيبَ نِجَاره، وطَهَارَة إزاره، وعفَّتِه في شبابه، وقوته في دِينه، وإيثارَه لآخرته على دنياه، وأفْضَلُ هداية تمثِّلُ للنساء والرجال المثل العليا، والعفةَ والصيانةَ التي لا تتِم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله، ومراقبته له في السر والعَلَنِ، وسورته منقبة عظمى له، وآيةٌ بينة في إثبات عصمته، وأفضل مَثَلٍ عَمَليٍّ يقتدي به النساء، والرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسِيسَة على النفس من سلطان، ويسمع بأذنه تغلبَ الفضيلة في المؤمن على كلِّ رذيلة، بقوة الإرادة، ووازع الشرف، والعصمة، ففيها أحسنُ الأُسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شابٍّ كان من أجمل الناس صورةً وأكملهم بنيةً يخلُو بامرأةٍ ذات منصب وسلطان، وهي سَيّدةٌ له، وهو عَبْدُها يحملها الافتتان بجماله على أن تذل نَفْسَهَا له، وتَخُونَ بَعْلَها، فتراوده عن نفسه، وقد جرت العادة أن تَكُونَ النِّسَاء مطلوبات لا طالبات، فيسمعها من حكمته، ويُريها من كماله وعفَّتِه ما هو أفضل درس في الإيمان بالله، والاعتصام بحبله المتين، وفي حفظه أَمَانَةَ سيِّده الذي أحسنَ مثواه فيقول: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، فتشعر حينئذ بالذلِّ والمهانة، والتفريط في الشرف، والصيانة وتحقير مقام السيادة والكرامة.
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته: فقد ظهرت جليًّا حين تولَّى الحكم في مصر أيامَ السبع السنين العِجافِ التي أكلت الحَرْثَ والنسلَ، وكادَتْ توقع البلادَ في المجاعات، ثمَّ الهلاك المحقق لولا حكمته، وعدله بين الناس، والسَّيْرُ بينهم بالسويَّةِ، وعلى الصراط المستقيم بلا جَنَفٍ، ولا مَيْلٍ مع الهَوى.
ما في قصص يوسف من عبرة
إن في هذه القصة لعبرةً أيما عبرة لعلية القوم، وساداتهم رجالهم، ونسائهم، مجانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإنَّ امرأةَ العزيز لَمْ تكن من قبل غويَّةً، ولا كانَتْ في سِيرَتها غَيْرَ عادية، لكنها ابتُلِيَتْ بحب هذا الشاب الفاتن، الذي وضعه عزيز مصر في قصره، وخلى بَيْنَه وبَيْنَ أهلِه، فأذلَّت نَفْسَها له بمراودته عن نفسه، فاستعصم، وأبَى، وآثر مرضاةَ ربِّه، فَشَاعَ في مصر ودورها، وقصورها، ذلها له وإباؤه عليها كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾.
وقد ذكرنها بالوصف "امرأة العزيز" دُونَ الاسم الصريحِ استعظامًا لهذا الأمر منها، ولا سيما، وزوجها عزيزُ مصر، أو رئيس حُكُومَتِها، وقد طَلَبت الفَاحِشَة من مَمْلُوكِها، وفتاها الذي هو في بَيْتها، وتحت كنفها، وذلك أقبح
أما الأول: فقولهنَّ فيها: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾؛ أي: قد وَصَلَ حبه إلى شِغَافِ قلبها "الغشاء المحيط به" وغَاضَ في سويدائه كما قال شاعرهم:
اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ حُبَّكِ مِنِّيْ | فِيْ سَوَادِ الْفُؤَادِ وَسْطَ الشِّغَافْ |
فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هُتِكَ سِتْرُهَا، وكاشفت النسوة في أمرها، وتواطأن معها على كيدها، آثر عليه السلام الاعتقالَ في السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخَنَا ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)﴾.
وإنه ليستبين من هذا القَصص أنَّ امرأةَ العزيز كَانَتْ مالكة لقيادة زوجها الوزير الكبير، تصرفه كيفَ شَاءَت وشاء لها الهوى، إذ كان فاقدًا للغَيْرة كأمثاله من كبراء الدنيا، صغار الأنفُس عبيد الشهوات. قال في "الكشاف" عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفَتْلها منه في الذروة والغارب وكان مِطْواعةً لها، وَجَملًا ذَلُولًا زمامه في يدها،
وإنا لنستخلصُ من هذه القصة الأمورَ التَّالِيةَ (١):
١ - أن النِّقَم قد تكون ذَرِيعةً لكثير من النعم، ففي بدء القصة أحداث كلها أتراح أعقبتها نتائج كلها أفراحٌ.
٢ - أنَّ الأخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن، وأحقادٌ ربما تصل إلى تمنِّي الموت، أو الهلاك، أو الجوائح التي تكون مصدر النَّكَبات، والمصَائِبِ.
٣ - أنَّ العفةَ والأمانةَ والاستقامةَ تكون مَصْدرَ الخير والبركة لمن تحلى بها، والشواهد فيها واضحة، والعبرة منها ماثلة لمن اعتبرَ وتدبَّرَ، ونظَرَ بعين الناقد البصير.
٤ - أن أُسها، ودعامَتَها هو خلوة الرجل بالمرأة فهي التي أثَارت طبيعتها، وأفضتْ بِها إلى إشباع أنوثتها، والرجوع إلى هواها، وغريزتها، ومن أجل هذا حرم الدِّينُ خلْوةَ الرجلِ بالمرأة وسفَرَها بغير محرم. وفي الحديث: "ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما".
وإنا لنَرَى في العصر الحاضِرِ أَنَّ الدَاءِ الدَّوِيَّ والفسادَ الخُلقِيَّ الذي وصل إلى الغاية، وكلنا نلمس آثارَهُ ونشاهد بَلْواه، ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء في المَراقصِ، والملاهِي، والاشتراك معهم في المفاسد، والمعاصي كمعاقرة الخمور، ولعبِ القمارِ في أنديةِ الخزيِ والعارِ، وسباحة النساء مع الرجال في الحمامات المشتركة.
وبَعْدُ، فهل لهذه البلوى مَنْ يُفَرِّج كُرْبَتَها، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامَه، وهل لهذه الجراح مِن آس، وهل لهذه الفوضى من علاج، وهل لهذه الطامة من يقوم بِحَمْلِ عَبْئِهَا عن الأمة، ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت
سورة يوسف عليه السلام مَكّية كلها، قيل (١): إلَّا ثَلاثَ آيات من أولها، وقيل: نزلت ما بين مكة والمدينة، وقْتَ الهجرة.
وهي مئة وإحدى عشرة آيةً وألف وتسع مئة وست وتسعون كلمةً، وسبعة آلاف، ومئة وستة وسبعون حرفًا.
المناسبة: والمناسبة بينها وبين سورة هود (٢): أنها متممة لِما فيها مِنْ قصص الرسل عليهم السلام، والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيًا من عند الله تعالى، دالًّا على رسالة محمَّد - ﷺ -، خاتم النبيين، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلَها: أنَّ السَّابِقَ كَانَ قصص الرسل مع أقوامهم في تبليغ الدعوةَ والمحاجة فيها، وعاقبة مَن آمن مِنهُم، ومن كَذَّبوهم لإنذار مشركي مكة، ومَنْ تبعهم من العرب.
وأمَّا هذه السورة فهي قصة نبيٍّ رُبِّيَ في غير قومه قبل النبوة، وهو صغير السنِّ حتى بلغ أشده، واكْتَهَل فنبىء، وأُرسل ودعا إلى دينه، ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم، فأحسنَ الإدارَةَ والسِّياسَةَ فيه، وكان خير قدوةٍ للناس في رسالته، وفي جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، وتصريف أمورها على أحسن ما يَصِلُ إليه العقل البشري، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة، وكانَ مِنْ حكمة الله أن يَجْمَعها في سورة واحدة، ومن ثَمَّ كَانَتْ أطْوَلَ قِصَّةٍ في القرآن الكريم.
والله أعلم
* * *
(٢) المراغي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)﴾.المناسبة
مناسبة هذه السورة لسورة هود من حيث البدايةُ أنه جاءت فاتحةُ هذه السورة كفاتحة سورة هود، أعني كلمة: ﴿الر﴾ إلخ خلا أنَّ القرآن وُصف هنا بالمبين، وفي هود بإحكام آياته، وتفصيلها: ذاك أنّ موضع هذه السورة قصص
وعبارة الشهاب هنا: لَما خُتِمت (١) سورة هود بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ إلخ.. ذُكِرت هذه السورة بعدها؛ لأنها من أنباءِ الرسل، وقد ذَكَر أوَّلًا ما لقي الأنبياء من قومهم، وذكر في هذه ما لقي يوسف من إخوته، لِيَعْلَمَ ما قاسوه من أذى الأجانب، والأقارب، فبينهما أتم المناسبة، والمقصود تسلية النبي - ﷺ - بما لاقاه من أذى الأقارب والأباعد، اهـ.
وعبارة أبي حيان: ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها به أنَّ في آخر السورة التي قبلَها (٢): ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقَى الأنبياء من قومهم، فأتبعَ ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصلَ للرسول - ﷺ - التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب، وجاءَتْ هذه مطولة مستوفاةً فلذلك لم يتكرَّرْ في القرآن إلا ما أخبر بِه مُؤْمِنُ آل فرعون في سورة غافر.
وحكمة قَصِّ القصص عليه - ﷺ - ليتأسَّى (٣) بهم، ويتخلَّق بأخلاقهم، فيكون جامعًا لكمالات الأنبياء.
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين أنَّ أخوة يُوسُفَ أجمعوا أَمرَهم على إلقائه في غيابة الجُبِّ، ونَفَّذُوا ذلك.. ذَكَر هنا طريقَ خَلاصِه من تلك المِحْنَةِ بمجيء قافلةٍ من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر، وباعوه في مصر بثمنٍ بَخْسٍ.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الصاوي.
وسبب نزول هذه السورة (١): أنَّ كفار مَكَّةَ أمرَتْهم اليهودُ أن يسألوا رسولَ الله - ﷺ - عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر، فنَزَلَت هذه السورة. وقيل: سببه تسليةُ الرسول - ﷺ - عما كَانَ يفعلُ به قومُهُ بما فعل أخوة يوسف به، وقيل: سألت اليهودُ رسولَ الله - ﷺ - أنْ يحدِّثَهم أمْرَ يعقوب، وولده وشَأْنَ يوسف.
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في سبب نزول هذه السورة قولان:
أحدهما: ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمَّا أنزل الله القرآن على رسول الله - ﷺ - تلاه عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدَّثتنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾، فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ إلى قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾.
القول الثاني: ما رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهودُ النبيَّ - ﷺ - فقالوا: حَدّثْنَا عن أمر يعقوب وولده، وشأنِ يوسف، فأنزل الله عز وجل: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ الآيات الكريمة.
الناسخ والمنسوخ: قال ابن حزم رحمه الله: أمَّا سورةُ يوسف، فليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ومن فضائلها: ما رُوي (٢) عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "عَلِّمُوا أَرِقَّائِكم سورة يوسف، فإنه أيُّما مسلم أَمْلاها، وعَلَّمها أَهْله، وما مَلَكَتْ يمينه هون اللَّهُ عليه سكرات الموت، وأعطاه القُوَّة، وأن لا يَحْسُدَ مُسْلِمًا". كذا في "تفسير البيان"، وذلك أنَّ يوسُفَ عليه السلام ابتُلِي بحسد الإخوة، وشدائد البئر، والسجن، فأرسل اللَّهُ تعالى جبريل فسلاه، وهون عليه تلك الشدائِدَ بإيصاله إلى مقام الأُنس، والحضورِ، ثم أعطاه القوةَ، والعزةَ،
(٢) روح البيان.
سورة هود
سورةُ (هُودٍ) من السُّوَر المكية، وقد افتُتِحت بتعظيمِ الكتاب ووصفِه بالإحكام والتفصيل، واشتملت على حقائقِ العقيدة وأصولِ الدعوة إلى الله، مرغِّبةً ومرهِّبةً، واصفةً أهوالَ ومشاهد يوم القيامة التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الأثر، وقد جاء في السورةِ كثيرٌ من قصص الأنبياء؛ تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأخذِ العِبَر من حال الأنبياء، ودعوتِهم مع أقوامهم.
ترتيبها المصحفي
11نوعها
مكيةألفاظها
1946ترتيب نزولها
52العد المدني الأول
122العد المدني الأخير
121العد البصري
121العد الكوفي
123العد الشامي
122
* قوله تعالى: {أَلَآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ اْلصُّدُورِ} [هود: 5]:
عن محمَّدِ بن عبَّادِ بن جعفرٍ: أنَّه سَمِعَ ابنَ عباسٍ يَقرأُ: {أَلَآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5]، قال: سألتُه عنها، فقال: «أناسٌ كانوا يَستحيُون أن يَتخلَّوْا فيُفضُوا إلى السماءِ، وأن يُجامِعوا نساءَهم فيُفضُوا إلى السماءِ؛ فنزَلَ ذلك فيهم». أخرجه البخاري (4681).
* قوله تعالى: {وَأَقِمِ اْلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ اْلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ اْلَّيْلِۚ إِنَّ اْلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اْلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ} [هود: 114]:
عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: «أنَّ رجُلًا أصابَ مِن امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبَرَه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَقِمِ اْلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ اْلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ اْلَّيْلِۚ إِنَّ اْلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اْلسَّيِّـَٔاتِۚ} [هود: ١١٤]، فقال الرَّجُلُ: يا رسولَ اللهِ، أَلِي هذا؟ قال: «لجميعِ أُمَّتي كلِّهم»». أخرجه البخاري (526).
وفي روايةٍ عنه رضي الله عنه، قال: «جاء رجُلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أصَبْتُ مِن امرأةٍ كلَّ شيءٍ، إلا أنِّي لم أُجامِعْها، قال: فأنزَلَ اللهُ: {أَقِمِ اْلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ اْلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ اْلَّيْلِۚ إِنَّ اْلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اْلسَّيِّـَٔاتِۚ} [هود: ١١٤]». أخرجه أحمد (3854).
سُمِّيتْ سورةُ (هُودٍ) بهذا الاسمِ؛ لتكرُّرِ اسمه فيها خمسَ مرَّات، ولأنَّ ما حُكِي عنه فيها أطوَلُ مما حُكِي عنه في غيرها.
جاء في فضلِ سورة (هُودٍ): أنها السُّورة التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، قد شِبْتَ! قال: «شيَّبتْني هُودٌ وأخواتُها». أخرجه البزار (٩٢).
جاءت موضوعاتُ سورةِ (هُودٍ) على النحو الآتي:
1. حقائق العقيدة (١-٢٤).
2. أصول الدعوة الإسلامية (١-٤).
3. مشهدٌ فريد ترجُفُ له القلوب (٥-٦).
4. اضطراب نفوس الكافرين (٧-١١).
5. تسلية الرسول (١٢-١٧).
6. حال الفريقين: الكافرين، والمؤمنين (١٨-٢٤).
7. حركة حقائقِ العقيدة (٢٥-٩٩).
8. قصة نوح مع قومه (٢٥-٤٩).
9. قصة هود مع قومه (٥٠-٦٠).
10. قصة صالح مع قومه (٦١-٦٨).
11. تبشير الملائكةِ لإبراهيم عليه السلام (٦٩-٧٦).
12. إجرام قوم لوط (٧٧-٨٣).
13. قصة شُعَيب مع قومه (٨٤-٩٥).
14. مُوجَز قصة موسى مع فِرْعون (٩٦-٩٩).
15. التعقيب على حقيقة العقيدة (١٠٠-١٢٣).
16. العِبْرة فيما قص الله علينا دنيا وآخرة (١٠٠-١٠٩).
17. الاختلاف في الحق، والركون إلى الظَّلمة (١١٠- ١١٥).
18. الفتنة تعُمُّ بسكوت الصالحين (١١٦-١١٩).
19. في القصص تثبيتٌ وتسلية للقلب (١٢٠-١٢٣).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /445).
أشارت بدايةُ السُّورة بافتتاحها بـ(الأحرُفِ المقطَّعة: {الٓر}) إلى أن مقصدَها تعظيمُ هذا الكتاب، ووصفُ الكتاب بالإحكامِ والتفصيل، في حالتَيِ البِشارة والنِّذارة، المقتضي لوضعِ كلِّ شيء في أتَمِّ مَحالِّه، وإنفاذه - مهما أريدَ -، المُوجِب للقدرة على كل شيء، وفي ذلك تسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتٌ له على الحق: {فَاْصْبِرْۖ إِنَّ اْلْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /175).