ﰡ
قوله: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «كتاب»، والهمزةُ في «أُحْكِمَتْ» يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ «حَكُمَ» بضم الكاف، أي: صار حكيماً بمعنى جُعِلَتْ حكيمة، كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ٢]. ويجوز أنْ يكونَ من قولهم: «أَحْكَمْتُ الدابة» إذا وَضَعْتَ عليها الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير:
٢٦٣٣ - أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ | إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا |
قوله: ﴿مِن لَّدُنْ﴾ يجوز أن تكونَ صفةً ثانية ل «كتاب»، وأن تكون خبراً ثانياً عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين أعني «أُحْكِمَتْ» أو «فُصِّلَتْ» ويكون ذلك من بابِ التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزمخشري في [قوله] :«وأن يكون صلةَ» أُحْكِمت «و» فُصَّلَتْ «، أي: من عندِ أحكامُها وتفصيلُها، وفيه طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم وفصَّلها، أي: شَرَحها
والرفعُ فمِنْ أوجه، أحدها: أنها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ فقيل: تقديرُه: مِن النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديره: في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا اللَّهَ. والثاني: خبرُ مبتدأ محذوف، فقيل: تقديرُه: تفصيلُه أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديرُه: هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من «آياته» قال الشيخ: «وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ» آيات «أو مِنْ
والثالث: أن تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول، فكأنه قيل: لا تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار.
قوله: «منه» في هذا الضمير وجهان: أحدهما وهو الظاهرُ أنه يعودُ على اللَّه تعالى، أي: إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير. قال الشيخ: «فيكون في موضع الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته». وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً ل «نذير» ؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في الأصلِ لو تأخَّر، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالاً، وكذا صَرَّح به أبو البقاء، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحال، والتقدير: كائناً مِنْ جهته. الثاني: أنه يعودُ على الكتاب، أي: نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل صالحاً.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضاً وجهان، أحدهما: أنه حال من «نذير»، فيتعلَّق بمحذوف كما تقدم. والثاني: أنه متعلق بنفس «نذير» أي: أُنْذركم مِنْه ومِنْ عذابِه إنْ كفرتم، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم. وقدَّم الإِنذار لأنَّ التخويف أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار.
قوله: ﴿ثُمَّ توبوا﴾ عطفٌ على ما قبلَه من الأمر بالاستغفار و» ثم «على بابِها من التراخي لأنه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذنبِ المستغفَرِ منه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: ما معنى «ثم» في قوله ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ ؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة، أو استغفروا والاستغفارُ توبةٌ ثم أَخْلِصوا التوبةَ واستقيموا عليها كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ استقاموا﴾ [الأحقاف: ١٣]. قلت: قوله: «أو استغفروا» إلى آخره يعني أن بعضَهم جَعَلَ الاستغفارَ والتوبةَ بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل «توبوا» ب «أَخْلِصوا التوبة».
قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ﴾ جوابُ الأمر. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازم: هل هو نفسُ الجملةِ الطلبية أو حرفُ شرطٍ مقدَّر. وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي وابن محيصن «يُمْتِعْكم» بالتخفيف مِنْ أَمْتَعَ، وقد تقدَّم أن نافعاً وابن عامر قرأ ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ [البقرة: ١٢٦] في البقرة بالتخفيف كهذه القراءة.
قوله: ﴿مَّتَاعاً﴾ في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدرِ
قوله: ﴿كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ «كلَّ» مفعول أول، و «فضلَه» مفعولٌ ثانٍ، وقد تقدَّم للسهيلي خلافٌ في ذلك. والضمير في «فضله» يجوز أن يعودَ على اللَّه تعالى، أي: يعطي كلَّ صاحب فضلٍ فضلَه، أي: ثوابَه، وأن يعودَ على لفظ كل، أي: يعطي كلَّ صاحبِ فضلٍ جزاءَ فَضْلِهِ، لا يَبْخَسُ منه شيئاً أي: جزاء عمله.
قوله: ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ قرأ الجمهور «تَوَلَّوا» بفتح التاء والواو واللامِ المشددة، وفيها احتمالان، أحدهما: أن الفعلَ مضارعُ تَوَلَّى، وحُذِف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: تَنَزَّلُ، وقد تقدَّم: أيتُهما المحذوفةُ، وهذا هو الظاهر، ولذلك جاء الخطاب في قوله «عليكم». والثاني: أنه فعلٌ ماضٍ مسندٌ لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القول، أي: فقل لهم: إني أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإني أخاف عليهم.
وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: «تُوَلُّوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام، وهو مضارعُ ولَّى كقولك زكَّى يزكِّي. ونقل صاحب «اللوامح» عن اليماني وعيسى: «وإن تُوُلُّوا» بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول. قلت: ولم يُبَيِّن ما هو ولا تصريفَه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولما بُني للمفعول ضُمَّ أولُه على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنه مفتتحٌ بتاءِ مطاوَعَةٍ/ وكلُّ ما افْتُتِح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمًّ أولُه وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً وإن كان أصلُها الكسرَ لأجل واو الضمير، والأصل «تُوُلِّيُوا» نحو: تُدُحْرِجوا، فاسْتُثْقِلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت فالتقى
وقرأ الأعرج «تُوْلُوا» بضم التاء وسكون الواو وضم اللام مضارعَ أَوْلَى، وهذه القراءةُ لا يظهر لها معنى طائلٌ هنا، والمفعولُ محذوفٌ يُقَدَّر لائقاً بالمعنى
و «كبير» صفةٌ ل «يوم» مبالغةً لما يقع فيه من الأهوال وقيل: بل «كبير» صفةٌ ل «عذاب» فهو منصوبٌ وإنما خُفِضَ على الجِوار كقولهم: «هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ» بجرِّ «خَرِبٍ» وهو صفةٌ ل «جُحر» وقولِ امرىء القيس:
٢٦٣٤ - كأن ثَبِيراً في عَرانين وَبْلِه | كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّل |
وقرأ سعيد بن جبير «يُثْنُون» بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم.
وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود:» تثنونى «مضارع» اثنونى «على وزن افْعَوْعَل من الثَّنْي كاحلولى من الحَلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ،» صدورُهم «بالرفع على الفاعلية، ونُقِل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق:» يثنونى صدورُهم «بالتاء والياء، لأن التأنيثَ مجازيٌّ، فجاز تذكيرُ الفعلِ باعتبار تأوُّل فاعلِه بالجمع، وتأنيثُه باعتبار تَأْويل فاعلِه بالجماعة.
وقرأ مجاهد وعروة أيضاً كذلك، إلا أنهما جَعَلا مكانَ الواوِ المكسورة همزةً مكسورةً فأخرجاها مثل» تطمئن «. وفيها تخريجان، أحدهما: أنَّ الواوَ قُلِبَتْ همزةً لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وِعاء ووشاح، لَمَّا استثقلوا الكسرةَ على الواو أبدلوها همزةً.
والثاني: أن وزنه تَفْعَيلُّ من الثِّن وهو ما ضَعُف من النبات كما تقدم، وذلك أنه مضارع ل «اثْنانَّ» مثل احْمارَّ واصْفارَّ، وقد تقدَّم لك أن مِن العرب مَنْ يقلبُ مثلَ هذه الألفِ همزةً كقوله:
٢٦٣٥ -................... | .......... بالعَبيطِ ادْهَأَمَّتِ |
وقرأ الأعشى أيضاً «تَثْنَؤُوْنَ» بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون
وقرأ ابنُ عباس أيضاً «تَثْنَوي» بفتح التاء وسكون/ المثلثة وفَتْحِ النونِ وكسرِ الواو بعدها ياءٌ ساكنةً بزِنَة تَرْعَوي وهي قراءةٌ مُشْكلة جداً حتى قال أبو حاتم: «وهذه القراءةُ غلطٌ لا تتَّجه» وإنما قال: إنها غلط؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يُقال: «ثَنَوْتُه فانثوى كرَعَوْته، أي: كفَفْتُه فارعوى، أي: فانكفَّ ووزنه افعلَّ كاحمرَّ.
وقرأ نصر بن عاصم وابن يَعْمر وابن أبي إسحاق» يَثْنُون «بتقديم النون الساكنة على المثلثة.
وقرأ ابنُ عباس أيضاً» لتَثْنَوْنِ «بلام التأكيد في خبر» إنَّ «وفتح التاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة تَفْعَوْعِلُ، كما تقدَّم، إلا أنها حُذِفَت التاء التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدرِ وما أَدْرِ. و» صدورُهم «فاعلٌ كما تقدم.
وقرأ طائفةٌ:» تَثْنَؤُنَّ «بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نونٍ مفتوحةٍ ثم همزةٍ مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤُنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلا أنه قَلَبَ الياءَ واواً لأن الضمةَ تنافِرُها، فجُعِلَت الحركةُ على مجانِسها، فصار
قوله ﴿لِيَسْتَخْفُواْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أن هذه اللام متعلقةٌ ب» يَثْنُون «وكذا قاله الحوفي، والمعنى أنهم يفعلون ثَنْي الصدورِ لهذه العلة.
وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كُلْفَةَ فيه. والثاني: أن اللام متعلقةٌ بمحذوفٍ، قال الزمخشري: «ليَسْتَخْفُوا منه» يعني ويريدون: ليستَخْفُوا من اللَّه فلا يُطْلِعُ رسولَه والمؤمنين على ازْوِرارهم، ونظيرُ إضمارِ «يريدون» لعَوْدِ المعنى إلى إضماره الإِضمارُ في قولِه تعالى: ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ [الشعراء: ٦٣] معناه: «فضرب فانفلق» قلت: ليس المعنى الذي يقودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا؛ لأن ثَمَّ لا بد منْ حذفِ معطوفٍ يُضْطر العقلُ إلى تقديره؛ لأنه ليس مِن لازم الأمر بالضرب انفلاقُ البحر فلا بد أن يُتَعقَّل «فضرب فانفلق»، وأمَّا في هذه فالاستخفاف علة صالحةٌ لتَثْنيهم صدورَهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإِرادة.
والضميرُ في «منه» فيه وجهان، أحدهما: أنه عائد على رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللام ب «يَثْنون». والثاني: أنه عائدٌ على اللَّه تعالى كما قال الزمخشري.
٢٦٣٦ - ألم تعلمْ مُسَرَّحِيَ القوافي | .......................... |
قوله: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأٌ وخبر في محل نصب بإسقاط الخافضِ؛ لأنه مُعَلِّقٌ لقوله» ليبلوكم «. قال الزمخشري:» فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعلِ البلوى؟ قلت: لما في الاختيار من معنى العلم؛ لأنه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقول: «انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً» لأن النظر والاستماع من طرق العلم «. وقد واخذه الشيخُ في تمثيله بقوله» واسمع «قال:» لم أعلمْ أحداً ذكر أنَّ «استمع» يُعَلَّق، وإنما ذكروا من غيرِ أفعالِ القلوب «سَلْ»، و «انظر»، وفي جواز تعليق «رأى» البصريةِ خلافٌ «.
قوله: ﴿وَلَئِن قُلْتَ﴾ : هذه لامُ التوطئة للقسم، و» ليقولُنَّ «جوابُه، وحُذِفَ
قوله: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ﴾ قد تقدم أنه قُرىء» سِحْر «و» ساحر «، فَمَنْ قَرَأَ» سِحْر «ف» هذا «إشارةٌ إلى البعث المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن لأنه ناطق بالبعث. ومَنْ قرأ» ساحر «فالإِشارةُ ب» هذا «إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويجوز أن يُرادَ ب» هذا «في القراءة الأولى النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم أيضاً، ويكون جَعَلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلا ذو سحر. ويجوز أن يُراد ب» ساحر «نفسُ القرآنِ مجازاً كقولهم» شعرٌ شاعرٌ «و» جَدَّ جَدُّه «.
قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمْ﴾ منصوبٌ ب «مصروفاً» الذي هو خبر «ليس»، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس عليها، ووجهُ ذلك أن تقديمَ المعمول يُؤْذن بتقديم العامل، و» يومَ «منصوب ب» مصروفاً «وقد تقدَّم على» ليس «فليَجُزْ تقديمُ الخبرِ بطريق الأولى؛ لأنه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ. وقد رَدَّ بعضهم هذا الدليلَ بشيئين، أحدهما: أن الظرفَ يُتوسَّع فيه ما لا يُتوسَّع في غيره. والثاني: أن هذه القاعدةَ منخرمةٌ، إذ لنا مواضعُ يتقدم فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العامل، وأوردَ مِنْ ذلك نحوَ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ٩-١٠] فاليتيمَ منصوب ب» تقهرْ «، و» السائلَ «منصوبٌ ب» تَنْهَرْ «وقد تَقَدَّما على» لا «الناهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ وهو المجزوم على» لا «، وللبحث في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ به. قال الشيخ:» وقد تَتَبَّعْتُ جملةً من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليس» عليها ولا بمعموله إلا ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقولِ الشاعر:
٢٦٣٧ - فيأبى فما يَزْدادُ إلا لَجاجَةً | وكنتُ أَبِيَّاً في الخَفَا لستُ أُقْدِمُ |
قوله: ﴿وَضَآئِقٌ﴾ نسقٌ على «تارك». وعَدَلَ عن «ضيّق» وإن كان أكثر من «
٢٦٣٨ - بمنزلةٍ أمَا اللئيمُ فسامِنٌ | بها وكرامُ الناسِ بادٍ شُحوبُها |
والهاءُ في «به» تعود على «بعض». وقيل: على «ما». وقيل: على التكذيب. و «صدرُك» فاعل ب «ضائق». ويجوز أن يكون «ضائقٌ» خبراً مقدماً، و «صدرك» مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملة خبرٌ عن الكاف في «لعلك»، فيكون قد أخبر بخبرين، أحدهما مفرد، والثاني جملة عُطِفت على مفرد، إذ هي بمعناه، فهو نظير: «إنَّ زيداً قائم وأبوه منطلق»، أي: إن زيداً أبوه منطلق.
قوله: ﴿أَن يَقُولُواْ﴾ في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أنْ» بعد حَذْف حرف الجر أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافةَ أَنْ يقولوا، أو لئلا يقولوا، أو بأن يقولوا. وقال أبو البقاء: «لأن يقولوا، أي: لأَنْ قالوا، فهو بمعنى الماضي» وهذا لا حاجة إليه، وكيف يدعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٍّ في الاستقبال وهو الناصب؟ و «لولا» تحضيضيةٌ، وجملةُ التحضيضِ منصوبةٌ بالقول.
قوله: ﴿مِّثْلِهِ﴾ نعت ل «سُوَر» و «مثل» وإن كانت بلفظ الإِفراد فإنها يُوصف بها المثنى والمجموعُ والمؤنث، كقوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ [المؤمنون: ٤٧]، ويجوز المطابقةُ قال تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ﴾ [الواقعة: ٢٣]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨] والهاءُ في «مثلِه» تعود لما يوحي أيضاً، و «مفتريات» صفة ل «سُوَر» جمع مُفْتراة كمُصْطَفَيات في «مصطفاة» فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.
وقرأ زيد بن علي «نَزَّل» بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل «نَزَّل» ضميرُ اللَّه تعالى، و ﴿وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ نسقٌ على «أنَّ» قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمُها محذوفٌ، وجملةُ النفي خبرُها.
قوله: ﴿نُوَفِّ﴾ الجمهورُ على «نُوَفِّ» بنون العظمة وتشديد الفاء مِنْ وَفَّى
وزعم الفراء أن «كان» زائدة قال: «ولذلك جَزَم جوابَه» ولعلَّ هذا لا يصح إذ لو كانت زائدةً لكان «يريد» هو الشرط، ولو كان شرطاً لانجزم، فكان يُقال: مَنْ كان يُرِدْ «.
وزعم بعضُهم أنه لا يؤتى بفعل الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً إلا مع» كان «خاصة، ولهذا لم يَجِىءْ في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيحٍ لوروده في غير» كان «قال زهير:
٢٦٣٩ - ومَنْ هاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه | ولو رام أسبابَ السماء بسُلَّمِ |
وقرأ الحسن البصري» نوفِي «بتخفيف الفاء/ وثبوتِ الياء مِنْ أوفى، ثم هذه القراءةُ محتمِلَةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمُه بحذفِ الحركة
٢٦٤٠ - ألم يَأْتيك والأنباءُ تُنْمي | بما لاقَتْ لَبُونُ بني زياد |
٢٦٤١ - وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً | نقولُ جِهاراً ويَلْكُمْ لا تُنَفِّروا |
٢٦٤٢ - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ | يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ |
وقرأ أُبَيّ وابن مسعود قال مكي: «وهي في مصحفهما كذلك» ونقلها الزمخشري عن عاصم «وباطلاً» نصباً وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «يعملون» و «ما» مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي وأبو البقاء وصاحب «اللوامح»، وفيه تقديمُ معمولِ خبرِ «كان» على «كان» وهي مسألة خلاف، والصحيحُ جوازُها كقوله تعالى: ﴿أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: ٤٠] فالظاهرُ أن «إياكم» منصوب ب «يعبدون». والثاني: أن تكونَ «ما»
٢٦٤٣ -.................... | وحديثٌ ما على قِصَرِهْ |
قوله: ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في «يتلوه»، وفي «منه»، وفي «قبله» : فقيل: الهاء في «يتلوه» تعود/ على «مَنْ»، والمرادُ به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك الضميران في «منه» و «قبله» والمرادُ بالشاهد لسانُه عليه السلام، والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بَيِّنة، أي: ويتلو محمداً أي صِدْقَ محمدٍ لسانُه، ومِنْ قبلِه، أي قبل محمد. وقيل: الشاهدُ هو جبريلُ، والضمير في «منه» للَّه تعالى، و «من قبله» للنبي. وقيل: الشاهدُ الإِنجيلُ و «كتاب موسى» عطف على «شاهد»، والمعنى أن التوراة والإِنجيل يتلوان محمداً في التصديق، وقد فَصَلَ بين حرفِ العطف والمعطوف بقوله: «من قبله»، والتقدير: شاهدٌ منه، وكتاب موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصل بين حرف العطفِ والمعطوفِ مُشْبعاً في النساء.
وقيل: الضمير في «يتلوه» للقرآن وفي «منه» لمحمد عليه السلام. وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من محمدٍ وهو لسانُه، أو مِن جبريلَ. والهاءُ في «من قبلِه» أيضاً للقرآن. وقيل: الهاءُ في «يَتْلوه» تعود على البيان المدلولِ عليه بالبيِّنة. وقيل: المرادُ بالشاهدِ إعجازُ القرآن، فالضمائر الثلاثة للقرآن. وهذا كافٍ، ووراء ذلك أقوالٌ مضطربةٌ غالبُها يَرْجِع لما ذكرْتُ.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي «كتابَ موسى» بالنصبِ وفيه
و «إماماً ورحمةً» منصوبان على الحال من «كتاب موسى» سواءً أقرىء رفعاً أم نصباً.
والهاءُ في «به» يجوز أن تعودَ على «كتاب موسى» وهو أقربُ مذكورٍ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد، وكذلك الهاء في «به».
والأَحْزاب: الجماعةُ التي فيها غِلْظَةٌ، كأنهم لكثرتهم وُصِفوا بذلك، ومنه وَصْفُ حمارِ الوحش ب «حَزَابِيَة» لغِلَظِه. والأحزاب: جمع حِزْب وهو جماعةُ الناس.
و «المِرْية» بكسر الميم وضَمِّها الشكُّ، لغتان أشهرُهما الكسرُ، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، والضمُّ لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ السُّلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي. و «وأولئك» إشارةٌ إلى مَنْ كان على بَيِّنة، جُمِع على معناها، وهذا إنْ أريد ب «مَنْ كان» النبيُّ وصحابتُه، وإن أريدَ هو وحدَه فيجوز أن يكونَ عظَّمه بإشارة الجمع كقوله:
٢٦٤٤ - فإن شِئْتِ حَرَمْتُ النساءَ سواكمُ | وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا |
٢٦٤٥ - أورَدْتُموها حِياضَ الموتِ ضاحيةً | فالنارُ موعدُها والموتُ ساقيها |
٢٦٤٦ - نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ | بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا |
٢٦٤٧ - جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ | ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا |
الوجه الخامس: أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ، وتكون «جَرَمَ» بمعنى القطع، تقول: جَرَمْتُ، أي: قطعت، فيكون «جرم» اسمَ «لا» مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدم، وخبرها «أنَّ» وما في حيِّزها، أو على حَذْف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم، فيعود فيه الخلافُ المشهور.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم، ولا جُرَم بضمِّها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جَرَم، ولا إنَّ ذا جَرَم، ولا ذو جَرَم، ولا عن ذا جَرَم، ولا إنْ جَرَم، ولا عن جَرَم، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك.
وقوله: ﴿هُمُ الأخسرون﴾ يجوز أن يكون» هم «فَصْلاً وأن يكونَ توكيداً، وأن يكونَ مبتدأً وما بعده خبره، والجملة خبرُ» أنَّ «.
والإِخباتُ: الاطمئنان والتذلُّل والتواضع، وأصله من الخَبْت وهو المكانُ المطمئنُّ، أي: المنخفضُ من الأرض، وأَخْبَتَ الرجلُ: دخل في مكان خَبْت، كأَنْجَدَ وأَتْهَمَ إذا دخل في أحد هذين المكانين، ثم تُوُسِّع فيه فقيل: خَبَتَ ذِكْرُه، أي: خمد، ويقال للشيء الدنيء الخبيت، قال الشاعر:
٢٦٤٨ - ينفع الطيِّبُ القليلُ من الرِّزْ | قِ ولا يَنْفَعُ الكثير الخبيتُ |
٢٦٤٩ - أفاطمُ لو شَهِدْتِ ببطنِ خَبْتٍ | وقد قتل الهزبرَ أخاك بشرا |
٢٦٥٠ - إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ | ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ |
٢٦٥١ -.................. ال | صَابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ |
٢٦٥٢ - كأنَّ قلوبَ الطيرِ رَطْباً ويابِساً | لدى وكرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي |
وأشار بقوله» الصابح فالغانم «إلى قوله:
٢٦٥٣ - يا ويحَ زَيَّابَةَ للحارثِ ال | صابحِ فالغانم فالآئِبِ |
فإن قلت: لِمَ قَدَّم تشبيهَ الكافر على المؤمن؟ أجيب بأن المتقدِّمَ ذِكْرُ الكفار فلذلك قدَّم تمثيلهم. فإن قيل: ما الحكمةُ في العدولِ عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير والأصم والسميع لتتقابلَ كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهرَ بذلك التضادُّ؟ أجيب: بأنه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعه بانسداد الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن، وهذا التشبيهُ أحدُ
قوله: ﴿مَثَلاً﴾ تمييز، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: هل يَسْتوي مَثَلُهما، كقوله تعالى: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤]. وجوَّز ابنُ عطية رحمه اللَّه أن يكون حالاً، وفيه بَعْدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنه على معنى» مِنْ «لا على معنى» في «.
قوله: ﴿أَلِيمٍ﴾ إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ لوقوعه فيه لا به، وقال الزمخشري: «فإذا وُصِفَ به العذابُ قلت: مجازٌ مثلُه؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، فنظيرها قولك: نهارك صائم». قال الشيخ: «وهذا على أن يكون» أليم «صفةُ مبالغةٍ وهو مَنْ كَثُرَ ألمه، وإن كان أليم بمعنى مُؤْلم فنسبتُه لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة».
والأراذِلُ فيه وجهان، أحدهما: أنه جمعُ الجمع، والثاني: جمعٌ فقط. والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع ل «أَرْذُل»، وأَرْذُل جمع لرَذْل نحو: كَلْب وأَكْلُب وأَكَالب. وقيل: بل جمع لأرْذال، وأَرْذال جمع لرَذْل أيضاً. والقائلون بأنه ليس جمعَ جمعٍ، بل جمعٌ فقط قالوا: هو جَمْعٌ لأَرْذُل، وإنما جاز أن يكون جمعاً لأَرْذُل لجريانه مَجْرى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفُه كالأَبْطح والأبرق وقال بعضهم: هو جمع أَرْذَل الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء ﴿أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا﴾ [الأنعام: ١٢٣] و ﴿أحاسِنُكم أخلاقاً﴾ [الأنعام: ١٢٣]. ويقال: رجل رَذْل ورُذال، ك «رَخْل» و «رُخال» وهو المرغوبُ عنه لرداءته.
قوله: ﴿بَادِيَ الرأي﴾ قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي «بادِئَ» بالهمز، والباقون بياءٍ صريحةٍ مكانَ الهمزة. فأمَّا الهمزُ فمعناه: بادئَ الرأي، أي: أولَ الرأي بمعنى أنه غيرُ صادرٍ عن رَوِّية وتَأَمُّل، بل من أولِ وَهْلة. وأمَّا مَنْ لم يهمز فيحتمل أن يكونَ أصلُه كما تقدَّم، ويحتمل أن يكونَ مِنْ بدا يَبْدو أي ظهر، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، أي: لو تُؤُمِّل لعُرِفَ باطنُه، وهو في المعنى كالأول.
وفي انتصابهِ على كلتا القراءتين سبعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، وفي العاملِ فيه على هذا ثلاثة أوجه، أحدُها: «نراك»، أي:
ثم القول بكونِ «باديَ» ظرفاً يحتاج إلى اعتذار فإنه اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصل، فقال مكي: «وإنما جاز أن يكون فاعِل ظرفاً كما جاز ذلك في فعيل نحو: قريب ومليء، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحِم ورحيم، وعالم وعليم، وحَسُن ذلك في فاعِل لإِضافته إلى الرأي، والرأي يُضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظرف نحو:» أما جَهْدَ رأيٍ فإنك منطلقٌ «، أي: في» جَهْد «.
وقال الزمخشري: «وانتصابه على الظرف، أصلُه: وقتَ حدوثِ أول أمرهم، أو وقت حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فَحُذِفَ ذلك وأقيم المضافُ إليه مُقامه».
الوجه الثاني من السبعة: أن ينتصبَ على المفعول به، حُذف معه حرفُ الجر مثل ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] كذا قاله مكي. وفيه نظرٌ من حيث إنه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض.
الثالث من السبعة: أن ينتصبَ على المصدر، ومجيءُ المصدر على
الرابع من السبعة: أن يكونَ نعتاً لبشر، أي: ما نراك إلا بشراً مثلنا/ باديَ الرأي، أي: ظاهرَه، أو مبتدِئاً فيه. وفيه بُعْدٌ للفصلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المعطوفة. الخامس: أنه حالٌ من مفعول «اتَّبَعَكَ»، أي: وأنت مكشوفُ الرأي ظاهرَ لا قوةَ فيه ولا حصافةَ لك. السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ عليه السلام، كأنهم قالوا: يا باديَ الرأي، أي: ما في نفسِك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له. السابع: أن العاملَ فيه مضمر، تقديره: أتقول ذلك بادي الرأي، ذكره أبو البقاء، والأصلُ عدم الإِضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجهِ الأربعةِ الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويل، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنه ظرفٌ أو مصدر.
واعلم أنك إذا نَصَبْتَ «باديَ» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلا» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال وهو أنَّ ما بعد «إلا» لا يكون معمولاً لما قبلها، إلا إن كان مستثنى منه نحو: «ما قام إلا زيداً القوم» أو مستثنى نحو: «قام القومُ إلا زيداً»، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: «ما جاءني أحدُ إلا زيدٌ أخيرٌ من عمرو» و «بادي الرأي» ليس شيئاً من ذلك. وقال مكي: «فلو قلت في
والجوابُ الذي ذكروه هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرِها. وهذا جماعٌ القولِ في هذه المسألة باختصار.
والرأي: يجوز أن يكونَ من رؤيةِ العين أو من الفكرة والتأمُّل. وقوله ﴿بَيِّنَةٍ مِّن ربي﴾ » مِنْ ربي «نعتٌ ل» بَيِّنة «، أي: بَيِّنَةٌ من بَيِّنات ربي.
قوله: ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل «فعماها اللَّهُ عليكم»، ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي «فعماها» من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء.
وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك:
٢٦٥٤ - ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه | ............................ |
واختُلِفَ في الضمير في» عُمِّيَتْ «هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه:» وآتاني رحمة «جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه ﴿على بَيِّنَةٍ مِّن ربي... فَعُمِّيَتْ﴾. وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة
انتهى.
وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيتم» هذه في الأنعام، وتلخيصُه هنا أنَّ «أَرَأَيْتُم» يطلب البينة منصوبةً، وفعل الشرط يطلبُها مجرورةً ب «على»، فأعمل الثاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيتم البيِّنَةَ من ربي إن كنتُ عليها أَنَلْزِمكموها، فحذف المفعولُ الأول، والجملةُ الاستفهامية هي في محل الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدلالة عليه.
وقوله: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أتى هنا بالضميرين متصلين، وتقدم ضمير الخطاب لأنه أخصُّ، ولو جيء بالغائب أولاً لا نفصل الضميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضُهم الاتِّصال، واستشهد عثمان «أراهُمُني الباطل شيطاناً». وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقوله:» أَنُلْزِمكم إياها «ونحوه: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله﴾ [البقرة: ١٣٧] ويجوز» فسيكفيك إياهم «. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضُهم مَنَعه.
٢٦٥٥ - فاليَومَ أشرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ | ........................... |
و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أوَّلهُما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و ﴿وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعلِ أو لأحد المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجل الفواصل. وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد أَضْرِبُ عنها لذلك.
وقوله ﴿إِنَّهُمْ مُّلاَقُو﴾ استئنافٌ يفيدُ التعليل. وقوله: «تَجْهلون» صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإِتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفتِه لا يفيد، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التجدُّد كلَّ وقت.
٢٦٥٦ - تَرَى الرجلَ النحيفَ فَتَزْدَريه... وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ
وقال أيضاً:
٢٦٥٧ - يباعِدُه الصَّديقُ وتَزْدريهِ حَلِيْلتُه... ويَنْهرَهُ الصغيرُ
واللام في «للذين» للتعليل، أي: لأجل الذين، ولا يجوز أن تكونَ التي للتبليغ إذ لو كانت لكان القياس «لن يؤتيكم» بالخطاب.
وقوله: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ الظاهر أن هذه الجملةَ لا محلَّ لها عطفاً على قولِه ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ﴾ كأنه أخبر عن نفسه بهذه [الجمل الثلاث]. وقد تقدَّم في الأنعام [أن هذا هو المختار] وأن الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: ﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾ معطوفٌ على» عندي خزائن «، أي: لا أقولُ: عندي خزائن اللَّه، ولا أقول: أنا أعلمُ الغيب». /
وقوله: ﴿بِمَا تَعِدُنَآ﴾ فيجوز أن تكونَ» ما «بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعِدَناه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: بوعدك إيانا. وقوله» إنْ كنت «جوابُه محذوف أو متقدِّم وهو» فَأْتِنا «.
وقال أبو البقاء: «حكمُ الشرطِ إذا دَخَل على الشرط أن يكون الشرطُ الثاني والجواب جواباً للشرط الأول نحو:» إنْ أَتَيْتني إنْ كلَّمتني أَكْرَمْتك «فقولُك» إنْ كَلَّمْتني أكرمتُك «: جوابُ» إن أتيتني «جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك صار الشرطُ الأول في الذِّكْرِ مؤخَّراً في المعنى، حتى إنْ أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإِكرام، ولكن إنْ كلَّمه ثم أتاه وَجَبَ الإِكرام، وعلةُ ذلك أن الجواب صار مُعَوَّقاً بالشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي﴾ [الأحزاب: ٥٠].
وقال ابن عطية هنا:» وليس نُصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مُغْنيةً إذا أراد اللَّه تعالى بكم الإِغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإِرادتين، وأن إرادة البشرِ غيرُ مُغْنيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرطِ هو «بنصحي»، وتعلُّقُ الآخر ب «لا ينفع».
وتلخص من ذلك أن الشرطَ مدلولٌ على جوابه بقوله: «ولا ينفعكم» لأنه عَقِبُه، وجوابُ الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول، وكأنَّ التقدير: وإنْ أَرَدْتُ أن أنصحَ لكم إن كان اللَّه يريد أن يُغْوِيَكم فلا يَنْفعكم نصحي. وهو مِنْ حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان اللَّهُ يريدُ أن يُغْويكم فإن أَرَدْتُ أن أنصح لكم فلا ينفعكم نُصْحي.
وقرأ الجمهور «نُصْحي» بضم النون وهو يحتمل وجهين، أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أنه اسمٌ لا مصدر. وقرأ عيسى ابن عمر «نَصْحي» بفتح النون، وهو مصدرٌ فقط.
وفي غضون كلام الزمخشري: «إذا عرف اللَّهُ» وهذا لا يجوز؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لا يُسْنَدُ إليه هذا الفعلُ ولا يُوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك غيرَ
٢٦٥٨ - طَريدُ عشيرةٍ ورهينُ ذَنْبٍ | بما جَرَمت يَدي وجَنَى لساني |
وقوله: ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾ هو تَفْتَعِل من البُؤْس ومعناه الحزنُ في استكانة،
٢٦٥٩ - ما يَقْسِمِ اللَّهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ | منه وأقْعُدْ كريماً ناعمَ البالِ |
٢٦٦٠ - وكم مِنْ خليلٍ أو حَميمٍ رُزِئْتُه | فلم نَبْتَئِس والرُّزْء فيه جَليل |
٢٦٦١ - فَصَبَرْتُ نَفْساً عند ذلك حُرَّةً | تَرْسُو إذا نفسُ الجبان تَطَلَّعُ |
وقرأ العامة «ابنه» بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية. وقرأ ابن عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: «هذا مخصوصٌ بالضرورة وأنشد:
٢٦٦٢ - وأَشْربُ الماء ما بيْ نحوَه عَطَشٌ | إلا لأنَّ عيونَهُ سيلُ واديها |
٢٦٦٣ -.................. | ومِطْوايَ مُشْتاقان لَهْ أَرِقانِ |
وقرأ عليٌّ عليه السلام:» ابنها «إضافة إلى امرأته كأنه اعتبرَ قولَه» ليس من أهلك «. وقوله:» ابني «و» من أهلي «لا يدلُّ له لاحتمالِ أن يكونَ ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن وجماعة.
وقرأ محمد بن علي وعروة والزبير:» ابْنَهَ «بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلَها، إلا أنه حَذَفَ ألف» ها «مُجْتزئاً عنها بالفتحة، كما تُحذف الياءُ مُجْتَزَأً عنها بالكسرة. قال ابن عطية:» هي لغة «وأنشد:
٢٦٦٤ - أمَا تقودُ بها شاةً فتأكلُها | أو أنْ تبيعَهَ في بعض الأراكيبِ |
٢٦٦٥ - فلستُ براجعٍ ما فاتَ مني | بِلَهْفَ ولا بِلَيْتَ ولا لوَاني |
وقد خطَّأ النحاس أبا حاتم في حَذْفِ هذه الألفِ، وفيه نظرٌ.
قوله: ﴿وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ جملةٌ في موضع نصب على الحال، وصاحبُها هو «ابنه»، والحالُ تأتي مِن المنادى لأنه مفعول. والمَعْزِل بكسر الزاي اسم مكان العزلة. وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو المصدر. قال أبو البقاء: «ولم أعلم أحداً قرأ بالفتح». قلت: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفَه، فكيف يُقرأ به إلا بمجاز بعيد؟
وقرأ البزي وقالون وخلاَّد بإظهار ياء «اركب» قبل ميم «معنا» بخلافٍ عنهم، والباقون بالإِدغام، وقرأ عاصم هنا «يا بنيَّ» بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السورة فإن حفصاً عنه فَعَلَ ذلك، والباقون بكسر الياء في جميع القرآن إلا ابنَ كثيرٍ فإنه في الأول من لقمان وهو قوله: ﴿لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ [لقمان: ١٣] فإنه سكَّنه وصلاً ووقفاً، وفي الثاني كغيره أعني أنه يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قولُه: ﴿يابني أَقِمِ الصلاة﴾ [لقمان: ١٧] اختُلِف عنه، فروى
وأمَّا تخريجُها فَمَنْ فتح فقيل: أصلها: يا بُنَيَّا بالألف فحُذفت الألفُ تخفيفاً، اجْتَزَأ عنها بالفتحة، وقد تقدَّم من ذلك أمثلةٌ كثيرة. وقيل بل حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأنها وقع بعدها راءُ «اركب» وهذا تعليلٌ فاسدٌ جداً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضعَ حيث لا ساكنان. وكأن هذا المُعَلِّلَ لم يَعْلم بقراءة عاصم في غيرِ هذه السورة، ولا بقراءةِ البزي للأخير في لقمان، وقد نَقَل ذلك أبو البقاء ولم يُنْكِرْه.
وأمَّا مَنْ كَسَرَ فحُذِفَت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيح، وإمَّا لالتقاءِ الساكنين، وقد تقدَّم فسادُه. وأمَّا مَنْ سكَّن فلِما رأى مِنْ الثِّقَل مع مطلق الحركة، ولا شك أن السكونَ أخفُّ مِنْ أخفِّ الحركات، ولا يقال: فلِم/ وافق ابنُ كثير غيرَ حفصٍ في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جَمَعَ بين اللغات، والمفرِّق آتٍ بمُحالٍ.
وأصلُ هذه اللفظةِ بثلاثِ ياءات: الأولى للتصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالة أو مُبْدَلةٌ من واو؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا الموضوعِ في لام «ابن» ما هي؟، والثالثةُ ياءُ المتكلم مضافٌ إليها، وهي التي طَرَأَ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالِها.
٢٦٦٦ - بطيءُ القيامِ رخيمُ الكلا | مِ أَمْسى فؤادي به فاتِنا |
وهو على هذه التقاديرِ استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشري متصلاً لمَدْرك آخرَ، وهو حذفُ مضافٍ تقديرُه: لا يعصمك اليومَ معتصِمٌ قط مِنْ جبلٍ ونحوِه سوى معتصمٍ واحد، وهو مكان مَن رحمهم اللَّه ونجَّاهم، يعني في السفينة «.
وأمَّا خبرُ» لا «فالأحسنُ أن يُجْعل محذوفاً، وذلك لأنه إذا دلَّ عليه دليلٌ وَجَبَ حذفُه عند تميم، وكَثُر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصمَ موجودٌ. وجَوَّز الحوفي وابن عطية أن يكون خبرُها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفي:»
وأمَّا» اليومَ «و ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ فقد تَقدَّم أن بعضهم جَعَل أحدَها خبراً، فيتعلَّقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمنَّه الواقعُ خبراً. ويجوز في» اليوم «أن يتعلَّقَ بنفس ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ لكونِه بمعنى الفعل. وجَوَّز الحوفي أن يكون» اليوم «نعتاً ل» عاصم «، وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعِه خبراً عن الجثث.
وقُرىء ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾ مبنياً للمفعول، وهي مقويةٌ لقولِ مَنْ يَدَّعي أنَّ» مَنْ رَحِم «في قراءة العامة المرادُ به المرحوم لا الراحم، كما تقدَّم تأويلُه. ولا يجوز أن يكون» اليوم «ولا ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ متعلِّقين ب» عاصم «وكذلك الواحد منهما؛ لأنه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مطوَّلاً أُعْرِبَ، ومتى أُعرب نُوِّن، ولا عبرةَ بخلاف الزجاج: حيث زعم أن اسمَ» لا «معربٌ حُذِفَ تنوينُه تخفيفاً.
والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالمَوْصل. وقيل: بل كل جبل يقال له جُودي ومنه قولُ عمرو بن نفيل: /
٢٦٦٧ - سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به | وقبلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ |
قوله ﴿بُعْداً﴾ منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدر، أي: وقيل: ابعدوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يُقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال:
٢٦٦٨ - يقولون لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونه | ولا بُعْدَ إلا ما تُواري الصَّفائحُ |
ولمَّا حكى الشيخ عنه هذا الكلام الرائع لم يكن جزاؤُه عنده إلا «وأكثرُه خَطابة».
وقول الزمخشري «ورقَصوا لها رؤوسهم» يحتمل أن يُريد ما يُحكى أن جماعةً من بلغاء زمانهم اجتمعوا في الموسم بعرفةً وتفرَّقوا على أن يُعارِض كلٌّ منهم شيئاً من القرآن ليروزوا قواهم في الفصاحة، فتفرَّقوا على أن يجتمعوا في القابل ففتح أحدهم قيل هو ابن المقفَّع المصحف فَوَجَد هذه الآية، فكعَّ لها وأَذْعَنَ، وقال: «لا يقدر أحدٌ أن يَصْنَعَ مثلَ هذا».
وأمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أوجه، أظهرها: أنه عائدٌ على ابنِ نوح، ويكونُ في الإِخبار عنه بالمصدر المذاهبُ الثلاثةُ في «رجل عدل». والثاني: أنه يعود على النداء المفهوم مِنْ قوله «ونادى»، أي: نداؤك وسؤالُك. وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكي والزمخشري. وهذا فيه خطرٌ عظيم، كيف يُقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياء، فضلاً عن أول رسولٍ أُرْسِل إلى أهل الأرض من بعدِ آدم عليهما السلام؟ ولما حكاه أبو القاسم قال: «وليس
الثالث: أنه يعودُ على ركوب ابنِ نوح المدلولِ عليه بقوله «اركب معنا». الرابع: أنَّه يعودُ على تركه الركوب وكونِه مع المؤمنين، أي: إنَّ تَرْكَه الركوبَ مع المؤمنين وكونَه مع الكافرين عملٌ غيرُ صالح، وعلى الأوجهِ الثلاثةِ لا يُحتاج في الإِخبارِ بالمصدر [إلى] تأويلٍ، لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلامِ نوح عليه السلام، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونَك مع الكافرين وتَرْكَك الركوبَ معنا غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنه مِنْ قول اللَّه تعالى فقط، هكذا قال مكي وفيه نظرٌ، بل الظاهرُ أنَّ الكلَّ مِنْ كلام اللَّه تعالى. قال الزمخشري: «فإن قلت: هلا قيل: إنه عملٌ فاسِدٌ. قلت: لَمَّا نفاه عن أهله نفى عنه صفتَهم بكلمةِ النفي التي يستبقي معها لفظَ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنهم أهلُك.
قوله: ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِي﴾ قرأ نافع وابن عامر» فلا تسألَنِّ «بتشديدِ النون مكسورةً من غير ياء. وابنُ كثير بتشديدها/ مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً [لأبي عمرو]، ودون ياء في [الحالين] للكوفيين. وفي الكهف ﴿فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ﴾ [الآية: ٧٠] قرأه أبو عمرو
وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوتِ الياء في الكهف.
فَمَنْ خَفَّف النونَ فهي نونُ الوقاية وحَدَها، ومَنْ شدَّدها فهي نون التوكيد. وابنُ كثير لم يَجْعل في هود الفعلَ متصلاً بياء المتكلم، والباقون جعلوه، فَلَزِمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ «سأل» يتعدى لاثنين أوَّلُهما ياء المتكلم، والثاني ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
قوله ﴿أَن تَكُونَ﴾ على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجلِ أن، وقوله ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يجوزُ في «به» أن يتعلَّق ب «عِلْم». قال الفارسي: «ويكونُ مثلَ قوله:
٢٦٦٩ - كان جَزائي بالعَصا أن أُجْلَدا... ويجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تَعَلَّق به» لك «. والباء بمعنى» في «، أي: ما ليس لك به عِلْمٌ. وفيه نظرٌ.
قوله: ﴿بِسَلاَمٍ﴾ حال من فاعل «اهبط»، أي: ملتسباً بسلام. و «منا» صفةٌ ل «سلام» فيتعلَّق بمحذوف أو هو متعلقٌ بنفسِ سلام، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، وكذلك «عليك» يجوز أن يكونَ صفةً لبركات أو متعلقاً بها.
قوله: ﴿مِّمَّن مَّعَكَ﴾ يجوزُ في «مَنْ» أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر، ويجوزُ أن تكونَ «مِنْ» لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعاتٍ. وقُرىء «اهبُط» بضم الباء، وقد تقدم أول البقرة. وقرأ الكسائي فيما نُقِل عنه «وبركة» بالتوحيد.
قوله: ﴿وأُمَمٍ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ، و «سنمتِّعهم» خبره، وفي مسوِّغ الابتداءِ وجهان، أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم «السَّمْن مَنَوان بدرهم» فمنوان مبتدأٌ وُصِف ب «منه» تقديراً. والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: «الناسُ رجلان: رجلٌ أَهَنْتُ، وآخَرُ
٢٦٧٠ - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انحرفَتْ له | بشقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّل |
وقرأ ابن محيصن «يا قومُ» بضم الميم، وهي لغةٌ للعرب يَبْنونَ المضافَ للياء على الضم كقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احكم﴾ [الأنبياء: ١١٢] بضمِّ الباء، ولا يجوزُ أن يكونَ غيرَ مضاف للياء لما سيأتي في موضعه إن شاء اللَّه.
وقوله: ﴿مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ قد ذُكر في الأعراف ما يتعلق به قراءةً وإعراباً.
قوله: ﴿عَن قَوْلِكَ﴾ حالٌ من الضمير في «تاركي»، أي: وما نترك آلهَتنا صادرين عن قولك. ويجوز أن تكون «عن» للتعليل، كهي في قولِه تعالى ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ [التوبة: ١١٤]، أي: إلا لأجل موعدة. والمعنى هنا: بتاركي آلهتِنا لقولك، فيتعلَّق بتاركي. وقد أشار إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختارَ الأول، ولم يذكر الزمخشري غيره.
وقال الزمخشري: «اعتراك» مفعول «نقول» و «إلا» لغوٌ، أي: ما نقول إلا قولنا «اعتراك». انتهى. يعني بقولَه «لَغُو» أنه استثناءٌ مفرغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذ ظاهرُه يقتضي أن تكونَ الجملةُ منصوبةً بمصدر محذوف، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب «نقول» هذا الظاهر. ويُقال: اعتراه بكذا يَعْتريه، وهو افتعلَ مِنْ عَراه يَعْرُوه إذا أصابَه، والأصل: اعْتَرَوَ من العَرَوْ، مثل: اغتَرَوا مِن الغَزْو، فتحرك حرفُ العلة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر.
قوله: ﴿أَنِّي برياء﴾ يجوز أن يكون من باب الإِعمال لأنَّ «أُشْهِدُ» يطلبُه، و «اشْهدوا» يطلبه أيضاً، والتقدير: أُشْهد اللَّه على أنه بريء، واشهدوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من إعمال الثاني، لأنه لو أَعْمل الأول لأضمر في الثاني: ولا غَرْو في تنازع المختلفين في التعدي واللزوم.
و «مِمَّا تُشْركون» يجوز أن تكونَ «ما» مصدريةً، أي: مِنْ إشراككم آلهةً مِنْ دونه، أو بمعنى الذي، أي: مِن الذين تشركونه مِن آلهةٍ مِن دونه، أي أنتم الذين تجعلونها شركاءَ.
قال الزمخشري: «فإن قلتَ: الإِبلاغ كان قبل التولِّي فكيف وقع جزاءً للشرط؟ قلت: معناه فإنْ تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريطٍ على الإِبلاغ، وكنتم محجوجين بأنَّ ما أَرْسَلْتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا التكذيب.
قوله: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ﴾ العامَّةُ على رفعِه استئنافاً. وقال أبو البقاء» هو معطوفٌ على الجواب بالفاء «. وقرأ عبد اللَّه بن مسعود بتسكينه، وفيه
قوله: ﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ﴾ العامَّة على النون، لأنه مرفوعٌ على ما تقدَّم، وابنُ مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعَيِّن أن يكونَ سكونُ» يستخلف «جزماً، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره؛ لأنه ذكر جزمَ الفعلين، ولمَّا لم يذكرْ أبو البقاء الجزم في» تَضُرُّونه «جَوَّز الوجهين في» يَسْتخلف «.
و» شيئاً «مصدرٌ، أي: شيئاً من الضرر.
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم " يومئذ " على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير متمكن كقوله :
٢٦٧٣ على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا | فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع |
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل ﴿ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ﴾ بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين " فزع " ونصب " يومئذ " به.
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل " يومئذ " أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و " إذ " مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه : إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري :" ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة ". قال الشيخ :" وهذا ليس بجيدٍ ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة ". قلت : قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.
والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد: / الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ
والجبَّار تقدَّم اشتقاقه والعنيد :/ الطاغي المتجاوزُ في الظلم مِنْ قولهم " عَنَد يَعْنِد " إذا حادَ عن الحق من جانبٍ إلى جانب. قيل : ومنه " عندي " الذي هو ظرف ؛ لأنه في معنى جانِب، من قولك : عندي كذا، أي في جانبي. وعن أبي عبيد : العنيد والعنود والعاند والمُعاند كلُّه المعارِض بالخلاف.
قوله: ﴿مِّنَ الأرض﴾ : يجوز أن تكونَ لابتداء الغاية، أي: ابتداء إنشائكم منها: إمَّا إنشاءُ أصلكم وهو آدم، أو لأن كلَّ واحد خُلق مِنْ تُرْبته، أو لأن غذاءَهم وسببَ حياتهم من الأرض. وقيل: «مِن» بمعنى «في» ولا حاجة إليه.
قوله: ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ الظاهرُ أنَّ «غيرَ» مفعولٌ ثانٍ لتَزيدونني. قال أبو البقاء: «الأقوى هنا أن تكون» غير «استثناءً في المعنى، وهي مفعولٌ ثانٍ ل» تزيدونني «، أي: فما تزيدونني إلا تخسيراً». ويجوز أن تكون «غير» صفةً لمفعولٍ محذوف، أي: شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى. ومعنى التفعيل هنا النسبةُ، والمعنى: غيرَ أن أُخْسِرَكم، أي: أَنْسبكم إلى التخسير، قاله الزمخشري. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قاله ابن عباس.
قوله: ﴿لَكُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من «آيةٍ» ؛ لأنه لو تأخَّر لكان نعتاً لها، فلما قُدِّم انتصبَ حالاً. قال الزمخشري: «فإن قلت بم تتعلَّقُ» لكم «؟ قلت:» بآية «حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحال». قال الشيخ: «وهذا متناقض لأنه من حيث تعلَّق» لكم «ب» آية «كان معمولاً ل» آية «، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّق بمحذوف». قلت: ومثل هذا كيف يُعترض به على مِثْل الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصودَ بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟
وقرأت فرقة: «تأكلُ» بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحال.
٢٦٧١ - له داعٍ بمكةَ مُشْمَعِلٌّ | وآخرُ فوق دارَتِه يُنادي |
٢٦٧٢ - ويومٍ شَهِدْناه سليمى وعامراً | قليلٌ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافلُهْ |
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم» يومئذ «على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير متمكن كقوله:
٢٦٧٣ - على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا | فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع |
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل ﴿مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ﴾ بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين» فزع «ونصب» يومئذ «به.
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل» يومئذ «أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و» إذ «مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه: إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة «. قال الشيخ:» وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة «. قلت: قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.
وقوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾ منعه القراءُ الصرفَ إلا الكسائيَّ فإنه صَرَفَه. وقد تقدم أنَّ مَنْ منع جعله اسماً للقبيلة، ومَنْ صَرَف جعله اسماً للحيّ، وأنشد على المنع:
٢٦٧٤ - ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ | بآلِ ثمودَ منك عذاباً |
٢٦٧٥ - دَعَتْ أمُّ عمروٍ أمرَ شرٍّ علمتُه | بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأجابها |
٢٦٧٦ - إذا ذُقْتُ فاها قلت طعمُ مُدامةٍ | ........................ |
٢٦٧٧ - مَرَرْنا فقُلنا إيه سِلْمٌ فسَلَّمَتْ | كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ |
قوله: ﴿فَمَا لَبِثَ﴾ يجوزُ في «ما» هذه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها نافيةٌ، وفي فاعل «لَبث» حينئذ وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ إبراهيم عليه السلام، أي: فما لبث إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّروه بالباء وب «عن» وب «في»، أي: فما تأخر في أَنْ، أو بأن، أو عن أن. والثاني: أن
وثاني الأوجه: أنها مصدريةٌ، وثالثها: أنها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرُه على حَذْف مضاف تقديره: فلُبْثُه أو الذي لَبِثه قَدْرَ مجيئه.
والحَنيذ: المَشْويُّ بالرصْف في أخدود. حَنَذْتُ الشاةَ أَحْنِذُها حَنْزاً فهي حَنيذ، أي محنوذة. وقيل: حنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شوطاً أو شوطين وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليَعْرَق.
٢٦٧٨ - وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ | من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلعا |
٢٦٧٩ - فَنَكِرْنَه فَنَفَرْنَ وامْتَرَسَتْ به | هَوْجاءُ هادِيَةٌ وهادٍ جُرْشُعُ |
٢٦٨٠ - وصادقتا سَمْعِ التوجُّسِ للسُّرى | لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لصوتٍ مُنَدَّد |
قوله: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ العامَّة على كسر الحاء، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من مكة بفتحها، وهي لغتان، يقال: ضَحِك وضَحَكَ. وقال المهدوي:» الفتح غير معروف «. والجمهور على أن الضحك على بابه. واختلف أهلُ التفسير في سببه، وقيل: بمعنى حاضَتْ، ضحكت الأرنب: أي: حاضَتْ، وأنكره أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء. وأنشد غيرهم على ذلك:
٢٦٨١ - وضِحْكُ الأرانبِ فوق الصَّفا | كمثلِ دمِ الجَوْفِ يوم اللِّقا |
٢٦٨٢ - وعهدي بسلمى ضاحكاً في لَبانةٍ | ولم يَعْدُ حُقَّاً ثَدْيُها أن يُحَمَّلا |
قوله: ﴿يَعْقُوبَ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها. فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها: هل الفتحةُ علامةُ نصب أو جر؟ والقائلون بأنها علامة نصب اختلفوا: فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله:» بإسحاق «قال الزمخشري:» كأنه قيل: ووهَبْنا له إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله:
٢٦٨٣ -............ ليسوا مصلحين عشيرةً | ولا ناعِبٍ...................... |
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على «بإسحاق» والمعنى: أنها بُشِّرت بهما. وفي هذا الوجه والذي قبله بحثُ: وهو الفصلُ بالظرف بين حرف العطف والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النساء فعليك بالالتفات إليه.
ونسب مكي الخفضَ للكسائي ثم قال: «وهو ضعيف إلا بإعادة الخافض، لأنك فَصَلْت بين الجار والمجرور بالظرف».
قوله: «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازماً، إذ لو قُدِّم ولم يُفْصَل لم يُلْتزم الإِتيان به.
وأمَّا قراءةُ الرفع ففيها أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وخبره الظرف السابق فقدَّره الزمخشري «مولود أو موجود» وقدّره غيره بكائن. ولمَّا حكى النحاس هذا قال: «والجملة حالٌ داخلة في البشارة أي: فَبَشَّرْناها بإسحاق متصلاً به يعقوبُ». والثاني: أنه مرفوع على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء
قوله: ﴿وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاًٌ﴾ الجملتان في محل نصب على الحال من فاعل «أَلِدُ» أي: كيف تقع الولادة في هاتين الحالتين المنافيتين لها؟
والجمهورُ على نصب «شيخاً» وفيه وجهان، المشهور: أنه حال والعامل فيه: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارة، وإمَّا كلاهما. والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند مَنْ لا يجهل الخبرَ، أمَّا مَنْ جهله فهي غير لازمة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود «شيخٌ» بالرفع، وذكروا فيه أوجهاً: خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر «هذا» و «بعلي» بيان أو بدل، أو «شيخ» بدل من «بعلي»، أو «بعلي» مبتدأ و «شيخ» خبره، والجملة خبرُ الأول، أو «شيخ» خبرُ مبتدأ مضمر أي هو شيخ.
والشيخ يقابله عجوز، ويقال شَيْخة قليلاً، كقوله:
٢٦٨٤ -
وتَضْحك مني شَيْخةٌ عَبْشَمِيَّةٌ | ........................ |
والمنصوبُ على الاختصاص لا يكون إلا لمدحٍ أو ذم، لكن لفظَه لا يتضمَّن بوَضْعِه ولا الذمَّ كقوله:
٢٦٨٥ - بنا تميماً يُكْشَفُ الضبابُ | كذا قاله الشيخ، واستند إلى أن سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظر. |
٢٦٨٦ - تزيدُ على صواحبِها وليسَتْ | بماجدةِ الطعام ولا الشراب |
٢٦٨٧ - إذا أخَذَتْها هِزَّةُ الرَّوْعِ أَمْسَكَتْ | بمَنْكِبِ مِقْدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا |
٢٦٨٨ - ما راعني إلا حَمولةُ أهلِها | وسطَ الديار تَسِفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ |
٢٦٨٩ - فارتاعَ من صَوْتِ كَلاَّبِ فباتَ له | طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدٍ |
قوله: ﴿وَجَآءَتْهُ البشرى﴾ عطف على «ذَهَب» وجوابُ «لَمَّا» على هذا محذوفٌ أي: فلما اكن كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فَطِن لمجادلتهم، وقوله: «يُجادلنا» على هذا جملةٌ مستأنفة، وهي الدالَّةُ على ذلك الجوابِ المحذوفِ. وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يجادِلُنا، فيجادلُنا على هذا حالٌ من فاعل «
٢٦٩٠ -.....................
وقد يقع الذِّراعُ موقِعَه قال:
٢٦٩١ - إذا التَّيَّازُ ذو العَضَلاتِ قُلْنا | إليك إليك ضاقَ بها ذِراعا |
وقوله: ﴿عَصِيبٌ﴾ العَصِيْبُ والعَصَبْصَبُ والعَصُوب: اليوم الشديد، الكثير الشرِّ الملتفُّ بعضُه ببعض قال:
٢٦٩٢ - وكنت لِزازَ خَصْمِكَ لم أُعَرِّدْ | وقد سَلكوك في يومٍ عصيبِ |
قوله: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ في محل نصب على الحال. والعامَّة على «يُهرعون» مبنياً للمفعول. والإِهراع: الإِسراع ويقال: وهو المَشْيُ بين الهَرْوَلة والجَمَز. وقال الهروي: هَرَع وأَهْرَعَ: اسْتَحَثَّ. وقرأت فرقة: «يَهْرعون» بفتح الياء مبنياً للفاعل مِنْ لغة «هَرَع».
قوله: ﴿هؤلاء بَنَاتِي﴾ جملةٌ برأسها، و «هنَّ أطهرُ لكم» جملةٌ أخرى، ويجوز أن يكونَ «هؤلاء» مبتدأ، و «بناتي» بدلٌ أو عطفُ بيان، و «هنَّ» مبتدأ،
وقرأ الحسن وزيد بن علي وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والسدي: «أطهرَ» بالنصب. وخُرِّجت على الحال. فقيل: «هؤلا» مبتدأ، و «بناتي هُنَّ» جملةٌ في محلِّ خبره، و «أطهر» حال، والعاملُ: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارةُ. وقيل: «هنَّ» فَصْلٌ بين الحال وصاحبها، وجُعِل من ذلك قولُهم: «أكثر أكلي التفاحةَ هي نضيجةً». ومنعه بعض النحويين، وخرَّج الآيةَ على أن «لكم» خبر «هن» فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنوي، وخرَّجَ المَثَلَ المذكور على أن «نضيجة» منصوبة ب «كان» مضمرة.
قوله: ﴿وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ : الضيف في الأصل مصدرٌ، ثم أطلق على الطارق لميلانه إلى المُضيف، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدَّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يُثنَّى فيقال: ضَيْفان، ويُجْمع فيقال: أضايف وضُيوف كأبيات وبُيوت وضِيفان كحَوْض وحِيضان.
قوله: ﴿مَا نُرِيدُ﴾ يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والعلم عرفانٌ، فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية وهي مُعَلِّقة للعلم قبلها.
قوله: ﴿أَوْ آوي﴾ يجوز أن يكونَ معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أني آوي، قاله أبو البقاء والحوفي. ويجوز أن يكون معطوفاً على «قوة» لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمار أن فلمَّا حُذِفَتْ «أن» رُفع الفعل كقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤].
واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بعدم نصبِه. وقد تقدم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة وأبي جعفر «أو آويَ» بالنصب كقوله:
٢٦٩٣ - ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزَّةٍ | وآلُ سبيعٍ أو أسُوْءَك عَلْقما |
٢٦٩٤ - لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني | أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوف |
و «بكم» متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «قوة»، إذ هو في الأصل صفةُ للنكرة، ولا يجوز أن يتعلَّق ب «قوة» لأنها مصدر.
والرُّكُنْ بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره، ويُجمع على أركان وأَرْكُن قال:
٢٦٩٥ - وزَحْمُ رُكْنَيْكَ شديدُ الأَرْكُنِ/...
قوله: ﴿بِأَهْلِكَ﴾ يجوز أَنْ تكونَ الباءُ للتعدية، وأن تكونَ للحال أي: مصاحباً لهم. وقوله: «بقِطْعٍ» حال من «أهلك» أي: مصاحبين لقِطْع، على أن المرادَ به الظلمة. وقيل: الباء بمعنى «في». والقِطْع هنا نصف الليل، لأنه قطعةٌ منه مساويةٌ لباقيه، وأنشدوا:
٢٦٩٦ - ونائحةٍ تَنُوْحُ بقِطْعِ ليلِ | على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد |
قوله: ﴿إِلاَّ امرأتك﴾ ابن كثير وأبو عمرو برفع «امرأتك» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية الكريمة كلامٌ كثيرٌ لا بد من استيفائه. أمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان، أشهرُهما عند المعربين: أنَّه على البدل من «أحد» وهو أحسن من النصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجَب. وهذا الوجهُ قد رَدَّه أبو عبيد بأنه يَلْزَمُ منه أنهم نُهوا عن الالتفات إلا المرأة، فإنها لم تُنْهَ عنه، وهذا لا يجوزُ، ولو كان الكلامُ «ولا يلتفت» برفع «يلتفت» يعني على أنْ تكونَ «لا» نافيةً، فيكون الكلام خبراً عنهم بأنهم لم يَلْتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت، لكان الاستثناء بالبدلية واضحاً، لكنه لم يقرأ برفع «يلتفت» أحد.
وقد انفصل المبردُ عن هذا الإِشكالِ الذي أورده أبو عبيد بأن النهيَ في اللفظ ل «أحد» وهو في المعنى للوط عليه السلام، إذ التقدير: لا تَدَعْ منهم أحداً يلتفت، كقولك لخادمك: «لا يَقُمْ أحدٌ» النهيُ لأحد، وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: «لا تَدَعْ أحداً يقوم».
قلت: فآل الجواب إلى أنَّ المعنى: لا تَدَعْ أحداً يلتفت إلا امرأتك فَدَعْها تلتفت، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: «لا تَدَعْ أحداً يقوم إلا زيداً، معناه: فَدَعْه يقوم. وفيه نظر؛ إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا.
والثاني: أن الرفعَ على الاستثناءِ المنقطع، والقائلُ بهذا جعل قراءةَ النصبِ أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حَدٍّ سواء، ولنسْرُدْ كلامه لنعرفَه فقال:» الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يُقْصَدْ به إخراجُها من المأمور بالإِسراء معهم، ولا من المنهيين عن الالتفاتِ، ولكن استؤنف الإِخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتَك يَجْري لها كذا وكذا، ويؤيد هذا المعنى أن مثلَ هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناءٌ البتةَ، قال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ الآية. فلم تقع العنايةُ في ذلك
[قلت: القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة]. وأمَّا قولُه:» إنه لم يتوجَّهْ عليه العامل «ليس بمسلَّم، بل يتوجَّه عليه في الجملة، والذي قاله النحاة ممَّا لم يتوجَّهْ عليه العاملُ من حيث المعنى نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، وهذا ليس مِنْ ذاك، فكيف يُعْترض به على أبي شامة؟.
وأمَّا النصبُ ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستثنى مِنْ» بأهلك «، واستَشْكلوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزم ألاَّ يكونَ سَرَى بها، لكن الفرضِ أنه سرى بها، يدلُّ عليه أنها التفتَتْ، ولو لم تكن معهم لمَا حَسُن
وقد أُجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سَرَى هو وبنتاه تَبِعَتْهم فالتفتت، ويؤيِّد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد اللَّه وسقط مِنْ مصحفه «فَأَسْر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» ولم يذكر قوله ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾.
والثاني: أنه مستثنى مِنْ «أحد» وإن كان الأحسنُ الرفعَ إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦] بالنصبِ مع تقدُّم النفي الصريح. وقد تقدَّم لك هناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن ههنا.
والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما قدَّمْتُه عن أبي شامة. وقال الزمخشري: «وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنه أخرجها معهم، وأُمِرَ أَنْ لا يلتفتَ منهم أحد إلا هي، فلما سَمِعَتْ هِدَّة العذاب التفتَتْ وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، ورُوي أنه أُمِر بأن يُخَلِّفَها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين».
قال الشيخ: «وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين مِنْ أنه سرى بها أو لم يَسْرِ بها، وهذا تكاذُبٌ في الإِخبار، يستحيل أن تكن القراءتان وهما مِنْ كلام اللَّه تعالى يترتبان على التكاذب». قلت: وحاشَ للَّه أن تترتب القراءتان على التكاذُب، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان، ولا يَلْزم من ذلك التكاذبُ، لأنَّ مَنْ قال إنه سرى بها يعني أنها سَرَتْ هي بنفسها مصاحِبةً لهم في أوائل الأمر، ثم أخذها العذاب فانقطع سُراها، ومن قال إنه لم يَسْرِ بها، أي:
وقال الشيخ أبو شامة: «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصارَ نَبَّهَ عليه اختلافُ القراءتين فكأنه قيل: فَأَسْرِ بأهلِك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد اللَّه هكذا، وليس فيها ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ فهذا دليلٌ على استثنائها مِن السُّرى بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجَتْ معكم وتَبِعَتْكم غيرَ أن تكونَ أنت سَرَيْتَ بها فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرَها، فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءةُ النصب دالَّةً على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرفع دالَّةً على المعنى المتأخر، ومجموعُهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح» وهو كلامٌ حسنُ شاهدٌ لِما ذكرته.
قوله: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا﴾ الضميرُ ضمير الشأن، و «مُصيبها» خبرٌ مقدم، و «ما أصابهم» مبتدأ مؤخر وهو موصولٌ بمعنى الذي، والجملة خبرُ إنَّ؛ لأن ضمير الشأن يُفَسَّر بجملةٍ مُصَرَّحٍ بجزْأَيْها.
وأعرب الشيخ «مُصيبها» مبتدأً، و «ما أصابهم» الخبر، وفيه نظرٌ من حيث الصناعة: فإن الموصولَ معرفة، فينبغي أن يكونَ المبتدأ و «مُصيبها» نكرةً لأنَّه عامل تقديراً فإضافتُه غيرُ محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإِخبار عن الذي أصابهم أنه مُصِيبها من غيرِ عكسٍ، ويجوز عند الكوفيين أن يكونَ «مصيبُها» مبتدأً، و «ما» / الموصولةُ فاعلٌ لأنهم يُجيزون أن يُفَسَّر ضميرُ الشأنِ بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: «إنه قائمٌ أبواك».
قوله: ﴿وَمَا هِيَ﴾ الظاهرُ عَوْدُ هذا الضمير على القرى المُهْلَكة. وقيل:
قوله: ﴿مُّحِيطٍ﴾ صفة لليوم، ووُصِف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢]. قال الزمخشري: «إنَّ وَصْفَ اليوم بالإِحاطة أبلغُ مِنْ وصف العذاب بها» قال: «لأنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه».
وزعم قومٌ أنه جُرَّ على الجِوار، لأنه في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم محيطاً. وقال آخرون: التقدير: عذاب يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جَرَى على غير مَنْ هوله، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
قوله ﴿أَوْ أَن نَّفْعَلَ﴾ العامة على نون الجماعة أو التعظيم في «نفعل» و «نشاء». وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة والضحاك بن قيس بتاء الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فَمَنْ قرأ بالنون
ومَنْ قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكونَ معطوفاً على مفعول «تأمرك»، وأن يكونَ معطوفاً على مفعول «نترك»، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت، أو أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومَنْ قرأ بالنون في الأول وبالتاء في الثاني كان «أن نفعل» معطوفاً على مفعول «تأمرك»، فقد صار ذلك ثلاثةَ أقسام، قسمٍ يتعينَّ فيه العطفُ على مفعول «نترك» وهي قراءةُ النونِ فيهما، وقسمٍ يتعيَّن فيه العطفُ على مفعول «تأمرك»، وهي قراءةُ النون في «نفعل» والتاء في «تشاء»، وقسمٍ يجوز فيه الأمران وهي قراءةُ التاء فيهما. والظاهرُ من حيث المعنى في قراءة التاء فيهما أو في «تشاء» أن المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما. وقال الزمخشري: «المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإِنسان لا يُؤْمَرُ بفعل غيره».
قال الشيخ: «وتَسْمِيَةُ هذا جواباً ل» أرأيتم «ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قَدَّرها في موضع المفعول الثاني ل» أرأيتم « [لأن أرأيتم] إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّتْ إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملةُ استفهاميةً ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العرب:» أرأيتك زيداً ما صنع «وقال الحوفي:» وجوابُ الشرط محذوفُ لدلالة الكلام عليه تقديره: أأَعْدِل عَمَّا أنا عليه «. وقال ابن عطية:» وجوابُ الشرط الذي في قوله «أن كنت» محذوفٌ تقديره: أضِلُّ كما ضَلَلْتُمْ أو أترك تَبْليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليق بهذه المحاجَّة «. قال الشيخ:» وليس قوله «أضلّ» جواباً للشرط؛ لأنه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكونَ جواباً لأنه لا يترتَّب على الشرط، وإن كان استفهاماً حُذف منه الهمزةُ
قوله: ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ قال الزمخشري: «خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُوَلٍّ عنه، وخالفني عنه: إذا ولى عنه وأنت قاصدُه، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول:» خالَفَني إلى الماء «، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يعني أن أسْبِقَكم إلى شهواتكم التي نَهَيْتُكم عنها لأستبدَّ بها دونكم». وهذا الذي ذكره أبو القاسم معنى حسنٌ لطيف ولم يتعرَّض لإِعرابِ مفرداته، لأنَّ بفهم المعنى يُفهم الإِعراب ولنذكر ما فيه:
فأقول: يجوز أن يكونَ «أن أخالفَكم» في موضع مفعولٍ ب «أريد»، أي: وما أريدُ مخالفتَكم، ويكون فاعَلَ بمعنى فَعَل نحو: جاوَزْتُ الشيءَ وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكونَ خَلَفاً منكم. وقولُه: ﴿إلى مَآ أَنْهَاكُمْ﴾ يتعلَّق ب «أخالفكم»، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضُهم محذوفاً يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديرُه: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجوز أن يكونَ «أن أخالفكم» مفعولاً من أجله، وتتعلق «إلى» بقوله «أريد» بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: «وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوز أن يُراد بأن أخالفكم معناه من المخالفة، وتكون في موضع المفعول به بأريد، ويقدَّر مائلاً إلى.
٢٦٩٧ - ضعيفُ النِّكايةِ أعداءَه | يخالُ الفِرارُ يُراخي الأجَلْ |
٢٦٩٨ - ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً | جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا |
والعامَّةُ أيضاً على ضم لام «مثلُ» رفعاً على أنه فاعل «يُصيبكم»، وقرأ مجاهد والجحدري بفتحها، وفيها وجهان، أحدهما: أنها فتحة بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنما بُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] وكقوله:
٢٦٩٩ - لمَ يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطقَتْ | حَمامةٌ في غُصون ذات أَوْقالِ |
قوله: ﴿بِبَعِيدٍ﴾ أتى ب «بعيد» مفرداً وإن كان خبراً عن جمعٍ لأحد أوجهٍ: إمَّا لحَذف مضاف تقديرُه: وما إهلاك قومٍ، وإمَّا باعتبار زمان، أي: بزمانٍ بعيد، وإما باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرِهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكالٌ من
٢٧٠٠ - يا بُؤْسَ للحَرْب التي | وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا |
قوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ قال الزمخشري: «وقد دلَّ إيلاءُ ضميرِه حرفَ النفي على أنَّ الكلامَ واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنه قيل:
والظِهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى الظَّهِيْر وهو مِنْ تغييرات النسب كما قالوا في أَمْس: إمْسِيّ بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدال.
وقيل: الضمير يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي، فالظِّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعِين المُقَوِّي.
والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرود، ويكون بمعنى الشيء المُوْرَد كالطِّحن والرِّعي. ويُطلب أيضاً على الوارد، وعلى هذا إنْ جَعَلْت الوِرْد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ مِنْ حذف مضاف تقديره: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنَّ تَصادُقَ فاعل نِعْمَ وبِئْسَ ومخصوصِها شرطٌ، لا يُقال: نِعْم الرجلُ الفرسَ. وقيل: بل المورود صفةً للوِرْد، والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: بئس الوِرْدُ المورود النارُ، جوَّز من ذلك أبو البقاء وابن عطية، وهو ظاهرُ كلامِ الزمخشري. وقيل: التقدير: بئسَ القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا «الورد» مرادٌ به الجمعُ
وزعم جماعة أن التقسيم: هو أنَّ لهم في الدنيا لعنة، ويومَ القيامة بِئْس ما يُرْفَدون به، فهي لعنة واحدة أولاً وقَبُح إرفاد آخِرا. وهذا لا يصحُّ لأنه يؤدي إلى إعمال «بئس» فيما تقدَّم عليها وذلك لا يجوز لعدم تصرُّفها، أمّا لو تأخَّر لجاز كقوله:
٢٧٠٥ - ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنت إذا | دُعِيَتْ نَزَالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ |
قوله: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ :«حصيد» مبتدأ محذوفُ الخبر، لدلالةِ خبر الأول عليه، أي: ومنها حصيد وهذا لضرورةِ المعنى.
وهل لهذه الجملةِ محلٌّ من الإِعراب؟ فقال الزمخشري: «لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ». وقال أبو البقاء: «إنها في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول» نَقُصُّه «.
ويجوز في» ذلك «أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وقد تقدم. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره» نقصُّه «فهو من باب الاشتغال، أي: نَقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى، وقد تقدَّم في قوله: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ [آل عمران: ٤٤] أوجه، وهي عائدةٌ هنا.
و» الحَصِيد «بمعنى محصود، وجمعه: حصدى وحِصاد مثل مريض ومرضى ومِراض، وهذا قول الأخفش، ولكن باب فعيل وفَعْلَى أن يكونَ في العقلاء نحو: قتيل وقَتْلَى.
وقرأ أبو رجاء والجحدري: «أَخَذ ربك، إذ أَخَذَ» جَعَلَهما فعلين ماضيين، و «ربُّك» فاعل. وقرأ طلحة بن مصرف كذلك، إلا أنه ب «إذا» كالعامَّة قال ابن عطية: «وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تُعْطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وَضْع المستقبل مَوْضِعَ الماضي».
وقوله: ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ جملةٌ حالية.
والتَّتْبيب: التَّخْسيرُ يقال: تَبَّبَ غيرُه فتبَّ هو بنفسه، فيُستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١]. وتبَّبْتُه تَتْبِيباً، أي: خَسَّرْته تخسيراً. قال لبيد:
٢٧٠٦ - ولقد بَلِيْتُ وكلُّ صاحبِ جِدَّةٍ | لِبِلىً يعودُ وذاكمُ التَّتْبيبُ |
٢٧٠٧ - ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامِراً | قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافلُهْ |
٢٧٠٨ - كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهماً | جُوْداً وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما |
والجملةُ من قوله: «لا تَكَلَّمُ» في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مشهود»، أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه
وفاعلُ «يأتي» فيه وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ «يوم» المتقدِّم. والثاني: أنه ضمير اللَّه تعالى كقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله﴾ [البقرة: ٢١٠] وقوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ والضميرُ في قوله: «فمنهم» الظاهر عَوْدُه على الناس في قوله: ﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾. وجعله الزمخشري عائداً على أهلِ الموقف وإن لم يُذْكَروا، قال: «لأنَّ ذلك معلومٌ؛ ولأن قوله: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ يدلُّ عليه»، وكذا قال ابنُ عطية.
قوله: ﴿وَسَعِيدٌ﴾ خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ [هود: ١٠٠].
وقرأ الأخوان وحفص «سُعِدُوا» بضم السين، والباقونَ بفتحها،
وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين، قال المهدوي: مَنْ قرأ «سُعِدوا» فهو محمولٌ على مَسْعود، وهو شاذ قليل، لأنه لا يُقال: سَعَده اللَّه، إنما يقال: أسعده اللَّه. وقال بعضُهم: احتجَّ الكسائي بقولهم: «مسعود». قيل: ولا حُجَّةَ فيه، لأنه يُقال: مكان مسعود فيه ثم حُذِف «فيه» وسُمِّي به. وكان عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي: / «سُعِدوا» مع علمه بالعربية، والعجبُ مِنْ تعجُّبه. وقال مكي: «قراءةُ حمزةَ والكسائي» سُعِدوا «بضم السين حملاً على قولهم:» مسعود «وهي لغةٌ قليلة شاذة، وقولهم:» مَسْعود «إنما جاء على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه، ولا يُقال: سَعَدَه اللَّه، وهو مثل قولهم: أجنَّه اللَّه فهو مجنون، أتى على جَنَّه اللَّه، وإنْ كان لا يُقال ذلك، كما لا يقال: سَعَده اللَّه».
وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء: «وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ».
والزَّفير: أولُ صوت الحمار، والشَّهيق: آخره، قال رؤبة:
٢٧٠٩ - حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلاً وشَهَقْ | حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ |
٢٧١٠ - بعيدٌ مدى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه | زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج |
قوله: ﴿مَا دَامَتِ﴾ «ما» مصدرية وقتية، أي: مدة دوامهما. و «دام» هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً، أحدها: وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: «فإنْ قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت: هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه، بل يُعَذَّبون بالزمهرير، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢]، والدليل عليه قوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨]، وفي مقابله ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، أي: يَفْعل بهم ما يريد
الثاني: أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله: «خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ» والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها.
الثالث: أنه مِنْ قوله: «ففي النار» و «ففي الجنة»، أي: إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة. وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.
قال الشيخ: يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحابَ الأعراف، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة
الرابع: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله:» ففي النار «و» ففي الجنة «؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ.
الخامس: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو» خالدين «، وعلى هذين القولين تكون» ما «واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] والمراد ب» ما «حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً.
السادس: قال ابن عطية:» قيل: إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧]، استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط، كأنه قال: إنْ شاء اللَّه، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع «.
السابع: هو استثناءٌ من طول المدة، ويروى عن ابن مسعود وغيره، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾. وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.
التاسع: أن الاستثناءَ منقطعٌ، فيقدَّر ب» لكن «أو ب» سوى «، ونَظَّروه بقولك:» لي عليك ألفا درهم، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك «بمعنى سوى تلك، فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك. وقيل: سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.
العاشر: أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.
الحادي عشر: أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.
الثاني عشر: أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر.
الثالث عشر: أنه استثناءٌ من قوله:» ففي النار «كأنه قال: إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
الرابع عشر: أنَّ» إلا ما شاء «بمنزلة كما شاء، قيل: كقوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: ٢٢]، أي: كما قَدْ سَلَفَ.
و «غيرَ مَجْذوذ» نَعْتُه. والمجذوذ: المقطوع، ويقال لِفُتات الذهب والفضة والحجارة: «جُذاذ» من ذلك، وهو قريب من الجَدِّ بالمهملة في المعنى، إلا أن الراغب جَعَل جَدَّ بالمهملة بمعنى قَطْع الأرضِ المستوية، ومنه «جَدَّ في سيره يَجِدُّ جَدَّاً»، ثم قال: «وتُصُوِّر مِنْ جَدَدْتُ [الأرضَ] القَطْعُ المجردُ فقيل: جَدَدْتُ الثوب إذا قطعتَه على وجهِ الإِصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جُعل لكل ما أُحْدِث إنشاؤه». والظاهرُ أن المادتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرْتُ لهما نظائرَ نحو: عَتَا وعَثا وكثب وكتب.
قوله: ﴿لَمُوَفُّوهُمْ﴾ قرأ العامة بالتشديد مِنْ وفَّاه مشدداً، وقرأ ابن محيصن «لَمُوْفُوْهم» بالتخفيف مِنْ أَوْفَى، كقوله: ﴿وَأَوْفُواْ بعهدي﴾ [البقرة: ٤٠]، وقد تقدَّم في البقرة أنَّ فيه ثلاثَ لغات.
قوله: ﴿غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾ حالٌ مِنْ «نصيبهم»، وفي ذلك احتمالان،
و «مُرِيْب» مِنْ أراب إذا حَصَلَ الرَّيْب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدم.
فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمَّا» فقرأها مشددةً هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة السمآء والطارق، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً: فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف. وتلخص من هذا: أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ: «وإنْ» و «لَمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ «إنَّ» وثَقَّل «لمَّا»، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا «إنَّ» وخَفَّفا «لَمَّا». فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين.
هذا في المتواتر، وأمَّا في الشاذ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر، إحداها: قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كل» بتخفيفها، ورفع «كل»، «لَمَّا» بالتشديد، الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم: «لمَّاً» مشددة منونة، ولم يتعرَّضوا لتخفيف «إنَّ» ولا لتشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ إلا» : بتخفيفِ «إنْ» ورفع «
هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة:» وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها.
فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سبويه: «حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول:» إنْ عمراً لمنطلقٌ «كما قالوا:
٢٧١١ -....................... | كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ |
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في «إنْ» المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه
٢٧١٢ -......................... | كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ |
٢٧١٣ - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني | طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ |
٢٧١٤ -......................... | كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ |
٢٧١٥ - كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ... هذا ما يتعلق ب» إنْ «. وأمَّا» لَمَا «في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ» إنْ «الداخلةُ في الخبر. و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣] فأوقع» ما «على العاقل. واللام في» ليوفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن
وقال بعضُهم: اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب» ما «كما فُصِل بالألف بين النونين في» يَضْرِبْنانِّ «، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ» ما «هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ» إنْ «فقال:» العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام «.
وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال:» واللامُ في «لَمَا» موطِّئةٌ للقسم و «ما» مزيدةٌ «ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام» إنْ «. وقال أبو شامة:» واللامُ في «لَمَا» هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية «وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو:» إنْ زيدٌ لقائم «وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة.
فتلخَّص في كلٍ من اللام و «ما» ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر «إنْ». الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها
وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على «ما» الموصولة «أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم» ما «وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى» لمَّا «. قال نصر ابن علي الشيرازي:» وَصَلَ «مِنْ» الجارة ب «ما» فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي «لمَّا» بالتشديد «. قال: و» ما «هنا بمعنى» مَنْ «وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم».
وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: «حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم».
الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم «مَنْ» على أنها موصولة أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ فقال: «
وقال النحاس:» قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد «. وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال:» إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو «قدم مالك» فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ «قال:» على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في «لَمَنْ ما» ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى:
﴿وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ [هود: ٤٨]، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ «. قلت: اجتمع في» أمم ممَّن مَعَك «ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن» أمماً «فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم» مِنْ «ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم» معك «، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون.
واستدلَّ الفراء على أن أصل» لَمَّا «» لمِنْ ما «بقول الشاعر:
٢٧١٦ - وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً | على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم |
٢٧١٧ - وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه | إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ |
وقال أبو شامة:» وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم: ﴿لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨] إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: «أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا: المعنى لأِنْ كنتَ منطلقاً». قلت: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ البتةَ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ، ثم حُذف، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.
ثم قال أبو شامة: «وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت» يعني الفراء، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ «لمَّا» في معنى واحد فقال: «ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء ﴿والبغي يَعِظُكُمْ﴾ [النحل: ٩٠].
٢٧١٨ - وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا | لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا |
ثم قال الفراء: «ومثلُه:
٢٧١٩ - كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ... يريد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام».
قلت: توجيهُ قولهم: «من آخرها إلقادم» أن ألف «إلى» حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، وذلك أن ألف «إلى» ساكنة ولام التعريف من «القادم» ساكنةٌ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان: لامُ «إلى» ولامُ التعريف، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف «إلى» غير الهمزة فاتصلت بلام «القادم» فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها: «ءِ القادم» بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.
٢٧٢٠ - أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً... غيرُ الذي [قد] يُقال مِلْكذب
وقول الآخر:
٢٧٢١ - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ... ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ
وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ «مِنْ» لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد: مِلكذبِ.
الثالث: أنَّ أصلَها «لَما» بالتخفيف ثم شُدِّدت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان. قال الزجاج: «وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو:» رُبَ «في» رُبَّ «. وقيل في توجيهه: إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها، إلا أن يقال: إنه أجرى الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله:
٢٧٢٢ -... مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا
٢٧٢٣ - ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي... شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء الإِطلاق. وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف» لما «فإنها أصليةٌ ثابتة، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً.
الرابع: أن أصلَها» لَمَّاً «بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه، وذلك كا قالوا في» تَتْرى «بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي: جَمَعْته، والتقدير: وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم، ويكون» جميعاً «فيه معنى التوكيد ككل، ولا شك أن» جميعاً «يفيد معنى زائداً على» كل «عند بعضهم. قال:» ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ «لمَّاً» بالتنوين «.
الخامس: أن الأصل» لَمَّاً «بالتنوين أيضاً، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف. وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال:» لأن ذلك إنما يجوز في الشعر «يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ» لَمَّاً «بالتنوين بعد ذلك.
وقال أبو عمرو ابن الحاجب: «استعمالُ» لَمَّا «في هذا المعنى بعيد، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ، فإن قيل: لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى» لمَّاً «المنصرف
السادس: أنَّ «لَمَّا» زائدة كما تزاد «إلا» قاله أبو الفتح وغيرُه، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً، وهو أنَّ «إلا» تأتي زائدةً.
السابع: أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمنزلة «ما»، و «لمَّا» بمعنى «إلا» فهي كقوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا﴾ [الطارق: ٤] أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها، ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥] أي: ما كل ذلك إلا متاع/. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ «إنْ» النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها، وهذا اسمٌ منصوب بعدها. وأجاب بعضهم عن ذلك بأن «كلاً» منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب: وإنْ أرى كلاً، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: «ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله:
٢٧٢٤ - ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً | يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ |
وقال الفراء: «وأمَّا مَنْ جَعَلَ» لَمَّا «بمنزلة» إلا «فهو وجهٌ لا نعرفه، وقد قالت العربُ في اليمن:» باللَّه لمَّا قمت عنا «، و» إلا قمت عنا «، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام: ذهب الناس لمَّا زيداً».
فأبو عبيد أنكر مجيء «لمَّا» بمعنى «إلا» مطلقاً، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد «لمَّا» في هذه الآية: «لا يصلح أن تكون بمعنى» إلا «؛ لأن» لَمَّا «هذه لا تفارق القسم» وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو: «نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت» و «أسألك باللَّه لمَّا فعلت». وقال أبو علي أيضاً
الثامن: قال الزجاج:» قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه: «إنَّ» لمَّا «في معنى إلا، مثل ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنى» إنْ زيدٌ لمنطلق «: ما زيد إلا منطلق، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً، والمعنى نفيٌ ب» إنْ «وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا، ولَمَّا بمعنى إلا».
قلت: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ «إلا» في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز «لمَّا» التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه، أحدها: أنها «إنَّ»
الثاني: قال المازنيٌّ: «إنَّ» هي المخففة ثُقِّلَتْ، وهي نافيةٌ بمعنى «ما» كما خُفِّفَتْ «إنَّ» ومعناها المثقلة و «لَمَّا» بمعنى «إلا». وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ «إنْ» النافية، وأيضاً ف «كلاً» بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ.
الوجه الثالث: أنَّ «لَمَّا» هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه: «لمَّا» هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: «خَرَجْتُ ولمَّا» و «سافرتُ ولمَّا» وهو شائعٌ فصيح، ويكون المعنى: وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥]، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾، قال: «وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن»، قال: «والتحقيقُ يأبى استعبادَه». قلت: وقد نَصَّ النحويون على أن «لمَّا» يُحذف
٢٧٢٥ - أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا | لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ |
٢٧٢٦ - فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا | فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ |
٢٧٢٧ - خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ | ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ |
قلت: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد «لمَّا» سواءً شدَّد «إن» أو خفَّفها.
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة: «جَعَل» ما «اسماً للناس كما جاز ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ، وجعل اللامَ التي في» ليوفِّيَنَّهم «لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين» ما «وصلتِها كما تقول:» هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ «، و» عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه «ومثلُه: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢]. ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال:» إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو: إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن، ومثله:
٢٧٢٨ -
ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً | لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا |
وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة:» وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب «كلاً» بإِنَّ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرى، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين «إنَّ» واللامَ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل، ومثلُه في الكلام: «إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ».
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه، قال المبرد: وهي جرأةٌ منه «هذا لحنٌ» يعني تشديدَ «لمَّا» قال: «لأن العرب لا تقول:» إن زيداً لَمَّا خارج «.
وهذا مردودٌ عليه. قال الشيخ: «وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو:» إنَّ زيداً لَمَّا خارج «، هذا المثالُ لحنٌ» /.
قلت: إنْ عنى أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت «لمَّا» المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفر: «القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال:» إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: «إنَّ زيداً إلا
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا﴾ بتخفيف» إنْ «ورفع» كل «على أنها إنْ النافية و» كلٌّ «مبتدأ، و» لمَّا «مشددة بمعنى إلاَّ، و» لَيُوَفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ. وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ﴾ [يس: ٣٢] ومثلُه: ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ﴾ [الزخرف: ٣٥]، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ» لمَّا «بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم» لَمَّاً «بالتشديد منونةً ف» لمَّاً «فيها مصدرٌ مِنْ قولهم:» لَمَمْتُه أي جمعته لمَّاً «، ومنه قولُه تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٩] ثم في تخريجه وجهان، أحدُهما ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله:» ليوفينَّهم «على حَدِّ قولِهم:» قياماً لأقومَنَّ، وقعوداً لأقعدَنَّ «والتقدير: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى دون الاشتقاق.
﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ [الفجر: ١٩]، فوقع «لمَّا» نعتاً ل «أكلاً» وهو نكرة.
قال أبو عليّ: «ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال».
[وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ ل «كلاً» كما يتبعها أجمعون، أو أنه منصوبٌ على النعت ل «كلاً» ] فإنه قال: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ كقوله «أكلاً لمَّاً» ملمومين بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنْ كلاً جميعاً، كقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] انتهى. لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ، بل فَسَّر معنى ذلك، وأراد أنه صفةٌ ل «كلاً»، ولذلك قَدَّره بمجموعين. وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات «لَمَّا» بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها، وإنما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرِف ما فيه. وخبرُ «إنْ» على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية، و «مِنْ» زائدةٌ «في النفي، و» كل «مبتدأ، و» ليوفِّينَّهم «مع قَسَمه المقدَّر خبرُها، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصير التقديرُ بدون» مِنْ «: ﴿وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم﴾.
والتنوين في» كلاً «عوضٌ من المضافِ إليه. قال الزمخشري:» يعني: وإنَّ كلَّهم، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه «. وقد تقدَّم أنه على قراءةِ» لَمَّاً «بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه» كل «إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد، فمنها: التوكيد ب» إنَّ «وب» كل «وبلام الابتداء الداخلة على خبر» إنَّ «وزيادةِ» ما «على رأيٍ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددةً، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع.
وقرأ/ العامَّةُ» يعملون «بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين. وقرأ ابن هرمز» بما تعملون «بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.
قوله: ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ في «مَنْ» وجهان أحدهُما: أنَّه منصوبٌ على المفعول معه، كذا ذكره أبو البقاء، ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمَنْ تاب مصاحباً لك، وفي هذا المعنى نُبُوٌّ عن ظاهرِ اللفظ. الثاني: أنه مرفوعٌ، فإنه نسق على المستتر في «استقم»، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحةِ العطف، وقد تقدَّم لك هذا البحثُ في قوله ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] وأنَّ الصحيحَ أنه من عطفِ الجمل لا من عطف المفردات، ولذلك قدَّره الزمخشري: «فاستقم أنت وليستقم مَنْ تاب» فقدَّر الرافعَ له فعلاً لائقاً برفعِه الظاهرَ.
وقرأ العامَّةُ ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ بالتاء جرياً على الخطاب المتقدم.
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب بن رميلة ورُوِيَتْ عن أبي عمرو «تَرْكُنوا» بضم العين، وهو مضارع رَكَن بفتحها كقَتَل يَقْتُل. وقال بعضهم: «هو من التداخل» يعني أنَّ مَنْ نطق ب «رَكِنَ» بكسر العين قال: «يَرْكُن» بضمها، وكان مِنْ حقه أَنْ يفتح، فلما ضَمَّا عَلِمْنا أنه اسْتَغْنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغتِه، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاء التداخُل بل نَدَّعي أنَّ مَنْ فَتَحَ الكافَ أخذه مِنْ رَكِن بالكسر، ومَنْ ضَمَّها أَخَذَه مِنْ ركَن بالفتح، ولذلك قال الراغب: «والصحيحُ أنْ يُقالَ رَكِنَ يَرْكَن، وركَنَ يَرْكُن، بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضم في المضارع». وشَذَّ أيضاً قولُهم رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما وهو من التداخُل، فتحصَّل مِنْ هذا أن يُقَالَ: رَكِن بكسر العين وهي اللغةُ العاليةُ
وقرأ ابنُ أبي عبلة «تُرْكَنوا» مبنياً للمفعول مِنْ أَرْكَنه إذا أماله، فهو من باب «لا أُرَيَنَّك ههنا» و ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ [الأعراف: ٢] وقد تقدَّم.
والرُّكُون: المَيْل، ومنه الرُّكْنُ للاستناد إليه.
قوله: ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ هو منصوبٌ بإضمار أنْ في جوابِ النهي. وقرأ ابن وثاب وعلقمة والأعمش في آخرين «فتِمَسَّكم» بكسرِ التاء وقد تقدَّم.
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: تَمَسَّكم حالَ انتفاءِ ناصركم. ويجوز أن تكون مستأنفة. و «مِنْ أولياء» :«مِنْ» فيه زائدةٌ: إمَّا في الفاعل، وإما في المبتدأ؛ لأن الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ أحدُها النفي رفع الفاعل.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ العامَّةُ على ثبوتِ نون الرفعِ لأنه فعلٌ مرفوع، إذ هو من بابِ عطفِ الجمل، عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. وقرأ زيد بن علي رضي اللَّه عنهما بحذفِ نون الرفع، عطفه على «تمسَّكم»، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف فتكون معترضةً. وأتى ب «ثمَّ» تنبيهاً على تباعد الرتبة.
وقرأ العامَّةُ «زُلَفاً» بضم الزاي وفتح اللام، وهي جمعُ «زُلْفة» بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرْفة، وظُلَم في جمعِ ظُلْمة. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه جمع زُلْفة أيضاً، والضمُّ للإِتباع، كما قالوا بُسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمة الباء. والثاني: أنه اسمٌ مفرد على هذه الزِّنة كعُنُق ونحوه: الثالث: أنه جمع زَلِيف، قال أبو البقاء: «وقد نُطِق به»، يعني أنهم قالوا: زَليف، وفَعيل يُجمع على فُعُل نحو: رَغِيف ورُغُف، وقَضِيب وقُضُب.
وقرأ مجاهد وابن محيصن بإسكان اللام. وفيها وجهان، أحدهما: أنه يُحتمل أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مخففةً مِنْ ضم العين فيكون فيها ما تقدَّم. والثاني: أنه سكونُ أصلٍ من باب اسمِ الجنس نحو: بُسْرة وبُسْر مِنْ غير إتباع.
وقرأ مجاهد وابن محيصن أيضاً في روايةٍ «وزُلْفَى» بزنة «حُبْلَى»، جَعَلُوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى، لأنَّ المعنى على المنزلة الزلفى، أو الساعة الزلفى، أي: القريبة. وقد قيل: إنه يجوز أن يكونَ أَبْدلا التنوين ألفاً ثم أَجْرَيا الوصل مجرى الوقف، فإنهما يقرآن بسكون اللام
وفي انتصاب «زُلَفاً» وجهان، أظهرهما: أنه نسقٌ على «طرفي» فينتصب الظرف، إذ المرادُ بها ساعات الليل القريبة. والثاني: أن ينتصبَ انتصابَ المفعول به نسقاً على الصلاة. قال الزمخشري: بعد أن ذكر القراءاتِ المتقدمة «وهو ما يقرب مِنْ آخر النهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحَقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النهار، وأقم زُلَفاً من الليل، على معنى: صلوات تتقرَّب بها إلى اللَّه عز وجل في بعض الليل».
والزُّلْفَةُ: أولُ ساعات الليل، قاله ثعلب. وقال الأخفش وابن قتيبة: «الزُّلَف: ساعاتُ الليل وآناؤه، وكل ساعةٍ منه زُلْفَة» فلم يُخَصِّصاه بأول الليل. وقال العجَّاج:
٢٧٢٩ - ناجٍ طواه الأَْيْنُ مِمَّا وَجَفا | طَيَّ الليالي زُلَفاً فَزُلَفا |
٢٧٣٠ - إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم | ......................... |
والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البقوى. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البقوى، كالتقيَّة بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه».
وقرأ فرقةٌ/ «بَقِيَة» بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة «بُقْية» بضم الفاء وسكون العين. وقُرىء «بَقْيَة» على المَرَّة من المصدر. و «في الأرض» متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الفساد».
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنى.
قال الزمشخري: «معناه: ولكن قليلاً
والثاني: أن يكونَ متصلاً، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أولى. قال الزمخشري: «فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنى نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل» قلت: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي «إلا قليلٌ» بالرفع، لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح، كقولِه: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]. وقال الفراء: «المعنى: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْد» سَمَّى التحضيض استفهاماً. ونُقِل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّنَ اتصال هذا الاستثناء، كأنه لَحَظَ النفيَ.
و «مِن» في «مِمَّنْ أَنْجَيْنا» للتبعيض. ومنع الزمخشري أن تكونَ
قوله: ﴿واتبع﴾ العامَّةُ على» أتَّبع «بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: أن الواوَ للحال لا للعطف، ويتضح ذلك بقول الزمخشري:» فإن قلت: علامَ عَطَف قوله: ﴿واتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ قلت: إنْ كان معناه: «واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأن المعنى: إلا قليلاً مِمَّن أنجينا منهم نُهُوا عن الفساد، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم، فهو عطفٌ على» نُهوا «وإن كان معناه: واتَّبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم».
قلت: فجوَّز في قولِه: «ما أُتْرفوا» وجهين أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ حذفِ مضاف، و «ما» واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم، والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: جزاء ما أترفوا، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في «واتَّبع» كما عرفت.
والإِتراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال: صبيٌّ مُتْرَفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأُتْرفوا: نَعِموا. وقيل: التُّرْفة: التوسُّع في النِّعْمة.
قوله: ﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن تكونَ عطفاً على «أُتْرِفُوا» إذا جعلنا «ما» مصدريةً، أي: اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على «اتَّبع»، أي: اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين بذلك؛ لأنَّ/ تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام. الثالث: أن يكونَ اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال الشيخ: «ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى الآخرِ».
٢٧٣١ - إذا نُهي السَّفيهُ جرى إليه | وخالفَ، والسَّفيهُ إلى خلافِ |
والجِنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاءُ فيه للمبالغة. وقيل: الجنَّة جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل كَمْء للجمع وكَمْأة للواحد.
الثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ، أي: كلَّ اقتصاصٍ نَقُصُّ، و «مِنْ أنباء» صفةٌ أو بيان، و «ما نُثَبِّت» هو مفعول «نَقُصُّ».
الثالث: كما تقدَّم، إلا أنه بجَعْل «ما» صلةً، والتقدير: «وكلاً نَقُصُّ
الرابع: أن يكون» كلاً «نصباً على الحال من» ما نُثَبِّت «وهي في معنى جميعاً. وقيل: بل هي حال من الضمير في» به «. وقيل: بل هي حال من» أنباء «، وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنه يُجيز تقديم حالِ المجرورِ بالحرف عليه، كقوله تعالى: ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] في قراءةِ مَنْ نصب» مَطْويات «وقول الآخر:
٢٧٣٢ - رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقبي أَدْراعهم | فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار |
سورة هود
سورةُ (هُودٍ) من السُّوَر المكية، وقد افتُتِحت بتعظيمِ الكتاب ووصفِه بالإحكام والتفصيل، واشتملت على حقائقِ العقيدة وأصولِ الدعوة إلى الله، مرغِّبةً ومرهِّبةً، واصفةً أهوالَ ومشاهد يوم القيامة التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الأثر، وقد جاء في السورةِ كثيرٌ من قصص الأنبياء؛ تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأخذِ العِبَر من حال الأنبياء، ودعوتِهم مع أقوامهم.
ترتيبها المصحفي
11نوعها
مكيةألفاظها
1946ترتيب نزولها
52العد المدني الأول
122العد المدني الأخير
121العد البصري
121العد الكوفي
123العد الشامي
122
* قوله تعالى: {أَلَآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ اْلصُّدُورِ} [هود: 5]:
عن محمَّدِ بن عبَّادِ بن جعفرٍ: أنَّه سَمِعَ ابنَ عباسٍ يَقرأُ: {أَلَآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5]، قال: سألتُه عنها، فقال: «أناسٌ كانوا يَستحيُون أن يَتخلَّوْا فيُفضُوا إلى السماءِ، وأن يُجامِعوا نساءَهم فيُفضُوا إلى السماءِ؛ فنزَلَ ذلك فيهم». أخرجه البخاري (4681).
* قوله تعالى: {وَأَقِمِ اْلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ اْلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ اْلَّيْلِۚ إِنَّ اْلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اْلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ} [هود: 114]:
عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: «أنَّ رجُلًا أصابَ مِن امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخبَرَه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَقِمِ اْلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ اْلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ اْلَّيْلِۚ إِنَّ اْلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اْلسَّيِّـَٔاتِۚ} [هود: ١١٤]، فقال الرَّجُلُ: يا رسولَ اللهِ، أَلِي هذا؟ قال: «لجميعِ أُمَّتي كلِّهم»». أخرجه البخاري (526).
وفي روايةٍ عنه رضي الله عنه، قال: «جاء رجُلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أصَبْتُ مِن امرأةٍ كلَّ شيءٍ، إلا أنِّي لم أُجامِعْها، قال: فأنزَلَ اللهُ: {أَقِمِ اْلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ اْلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ اْلَّيْلِۚ إِنَّ اْلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اْلسَّيِّـَٔاتِۚ} [هود: ١١٤]». أخرجه أحمد (3854).
سُمِّيتْ سورةُ (هُودٍ) بهذا الاسمِ؛ لتكرُّرِ اسمه فيها خمسَ مرَّات، ولأنَّ ما حُكِي عنه فيها أطوَلُ مما حُكِي عنه في غيرها.
جاء في فضلِ سورة (هُودٍ): أنها السُّورة التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، قال: يا رسولَ اللهِ، قد شِبْتَ! قال: «شيَّبتْني هُودٌ وأخواتُها». أخرجه البزار (٩٢).
جاءت موضوعاتُ سورةِ (هُودٍ) على النحو الآتي:
1. حقائق العقيدة (١-٢٤).
2. أصول الدعوة الإسلامية (١-٤).
3. مشهدٌ فريد ترجُفُ له القلوب (٥-٦).
4. اضطراب نفوس الكافرين (٧-١١).
5. تسلية الرسول (١٢-١٧).
6. حال الفريقين: الكافرين، والمؤمنين (١٨-٢٤).
7. حركة حقائقِ العقيدة (٢٥-٩٩).
8. قصة نوح مع قومه (٢٥-٤٩).
9. قصة هود مع قومه (٥٠-٦٠).
10. قصة صالح مع قومه (٦١-٦٨).
11. تبشير الملائكةِ لإبراهيم عليه السلام (٦٩-٧٦).
12. إجرام قوم لوط (٧٧-٨٣).
13. قصة شُعَيب مع قومه (٨٤-٩٥).
14. مُوجَز قصة موسى مع فِرْعون (٩٦-٩٩).
15. التعقيب على حقيقة العقيدة (١٠٠-١٢٣).
16. العِبْرة فيما قص الله علينا دنيا وآخرة (١٠٠-١٠٩).
17. الاختلاف في الحق، والركون إلى الظَّلمة (١١٠- ١١٥).
18. الفتنة تعُمُّ بسكوت الصالحين (١١٦-١١٩).
19. في القصص تثبيتٌ وتسلية للقلب (١٢٠-١٢٣).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /445).
أشارت بدايةُ السُّورة بافتتاحها بـ(الأحرُفِ المقطَّعة: {الٓر}) إلى أن مقصدَها تعظيمُ هذا الكتاب، ووصفُ الكتاب بالإحكامِ والتفصيل، في حالتَيِ البِشارة والنِّذارة، المقتضي لوضعِ كلِّ شيء في أتَمِّ مَحالِّه، وإنفاذه - مهما أريدَ -، المُوجِب للقدرة على كل شيء، وفي ذلك تسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتٌ له على الحق: {فَاْصْبِرْۖ إِنَّ اْلْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /175).