ولما أخبر سبحانه وتعالى عما خلق في الأرض من المنافع الدالة
298
على تمام علمه وباهر قدرته، على وجه دالّ على خصوص القدرة على البعث، وكان من الفلاسفة تناسخيتهم وغيرهم من يقر الله بالوحدانية ولا يقر بقول أهل الإسلام: إن الروح جسم لطيف سار في الجسم سريان النار في الفحم، بل يقول: إنها ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة لجسم وليست متصلة به اتصال انطباع ولا حلول فيه، بل اتصال تدبير وتصرف، وأنها إذا فارقت البدن اتصلت بالروحانيين من العالم العقلي الذي هو عالم المجردات وانخرطت في سلك الملائكة المقربين، أو اتصلت ببعض الأجرام السماوية من كوكب أو غيره كاتصالها بالبدن الأول وانقطع تعلقها به فلم تعد إليه حتى ولا يوم البعث عند من يقول منهم بالحشر، وصل بذلك قوله تعالى، يرد عليهم، معبراً بالضمير الذي يعبر به الهيكل المجتمع من البدن والنفس:
﴿منها﴾ أي الأرض لا من غيرها
﴿خلقناكم﴾ إذ أخرجناكم منها بالعظمة الباهرة في النشأة الأولى بخلق أبيكم آدم عليه السلام
﴿وفيها﴾ لا في غيرها كما أنتم كذلك تشاهدون
﴿نعيدكم﴾ بالموت كذلك أجساماً وأرواحاً، فتصيرون تراباً كما كنتم، وللروح مع ذلك وأن كانت في عليين تعلق ببدنها بوجه ما، يدرك البدن به اللذة بالتذاذها والألم بتألهما، وقد صح أن الميت يقعد في قبره ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، لا يقدر أحد منكم أن يخلص من تلك العظمة
299
المحيطة بجليل عظمته ولا بدقيق حكمته
﴿ومنها﴾ لا من غيرها
﴿نخرجكم﴾ يوم البعث بتلك العظمة بعينها
﴿تارة أخرى*﴾ كما بدأناكم أول مرة مثل ما فعلنا في النبات سواء، فقد علم أن هذا فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع، فمرة جعلكم أحياء من شيء ليس له أصل في الحيوانية أصلاً، وكرة ردكم إلى ما كنتم عليه قبل الحياة تراباً لا روح فيه ولا ما يشبهها، فلا ريب أن فاعل ذلك قادر على أن يخرجكم منها أحياء كما ابتدأ ذلك، بل الإعادة أهون في مجاري العادة.
ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح، ليس وراءها مطمح، فكان المعنى: أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره، وكان المقام لتعظيم القدرة، عطف عليه قوله:
﴿ولقد أريناه﴾ أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا
﴿آياتنا﴾ أي التي عظمتها من عظمتنا
﴿كلها﴾ بالعين والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، لا سيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ
300
إليه إن شاء الله تعالى في سورة الأنبياء
﴿فكذب﴾ أي بها
﴿وأبى*﴾ أي أن يرسل بني إسرائيل؛ وهذا أبلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف، فكأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه؟ فقيل:
﴿قال﴾ حين لم يجد مطعناً مخيلاً للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم لأنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره، وتقبل العقول له، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه، ووهن في نفسه وهناً عظيماً بتأمل كلماته مفردة ومركبة يعرف مقداره:
﴿أجئتنا لتخرجنا من أرضنا﴾ هذه التي نحن مالكوها
﴿بسحرك يا موسى*﴾ فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر، فكان ذلك - مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال - صارفاً لهم عن اتباع ما رأوا من البيان، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكداً إيذاناً بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته:
﴿فلنأتينك﴾ أي والإله الأعظم! بوعد لا خلف فيه
﴿بسحر مثله﴾ تأكيداً لما خيل به؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقاً لربط قومه فقال:
﴿فاجعل بيننا وبينك موعداً﴾ أي من الزمان والمكان
﴿لا نخلفه﴾ أي لا نجعله خلفنا
﴿نحن ولا أنت﴾ بأن نقعد عن إتيانه.
ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال:
﴿مكاناً﴾ وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله:
﴿سوى *﴾ أي
301
عدلاً بيننا، لا حرج على واحد منا في قصده أزيد من حرج الآخر، فانظر هذا الكلام الذي زوقه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم، ثم في غمرات النار أحرقهم، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال، والخواطر والأحول، ويعرضها على محك الشرع: الكتاب والسنة، فما وافق لزمه وما لا تركه.
ولما كان مجتمع سرورهم الذي اعتادوه حاوياً لهذه الأغراض زماناً ومكاناً وغيرهما، اختاره عليه السلام لذلك، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى:
﴿قال موعدكم﴾ أي الموصوف
﴿يوم الزينة﴾ أي عيدكم الذي اعدتم الاجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل
﴿وأن يحشر﴾ بناه للمفعول لأن القصد الجمع، لا كونه من معين
﴿الناس﴾ أي إغراء ولو بكره
﴿ضحى*﴾ ليستقبل النهار من أوله، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم، والمتكبرين
302
على الحق وأتباعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر
﴿فتولى فرعون﴾ عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله
﴿فجمع كيده﴾ أي مكره وحيلته وخداعه، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة، حشرهم من كل أوب، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر
﴿ثم أتى *﴾ للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها.
303
ولما تشوف السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك، استأنف سبحانه الخبر عنه بقوله:
﴿قال لهم﴾ أي لأهل الكيد وهم السحرة وغيرهم
﴿موسى﴾ حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم:
﴿ويلكم﴾ يا أيها الناس الذين خلقهم الله لعبادته
﴿لا تفتروا﴾ أي لا تتعمدوا أن تصنعوا استعلاء
﴿على الله كذباً﴾ بجعلكم آياته العظام الثابتة سحراً لا حقيقة له، وادعائكم أن ما تخيلون به حق وليس بخيال، وإشراككم به؛
303
وسبب عنه قوله:
﴿فيسحتكم﴾ أي يهلككم؛ قال الرازي. وأصله الاستئصال
﴿بعذاب﴾ أي عظيم تظهر به خيبتكم
﴿وقد خاب﴾ كل
﴿من افترى *﴾ أي تعمد كذباً على الله أو على غيره
﴿فتنازعوا﴾ أي تجاذب السحرة
﴿أمرهم بينهم﴾ لما سمعوا هذا الكلام، علماً منهم بأنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جميع جنوده وأتباعه لم يسلم منه إلا من الله معه
﴿وأسروا النجوى*﴾ أي كلامهم الذي تناجوا به وبالغوا في إخفائه، فإن النجوى الإسرار، لئلا يظهر فرعون وأتباعه على عوارهم في اختلافهم الذي اقتضاه لفظ التنازع، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل:
﴿قالوا﴾ أي السحرة بعد النظر وإجالة الرأي ما خيلهم به فرعون تلقناً منه وتقرباً إليه بما ينفر الناس عن موسى وهارون عليهما السلام ويثبطهم عن اتباعهما وإن غلبا، لأنه لا ينكر غلبة ساحر على ساحر آخر:
﴿إن هذان﴾ أي موسى وهارون وقرىء: هاذان - بالألف، على لغة من يجعل ألف المثنى لازمة في كل حال؛ قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب لبني الحارث بن كعب وبعض كنانة خثعم وزبيد وبني العنبر
304
وبني الهجيم ومراد وعذره.
﴿لساحران﴾ لا شك في ذلك منهما
﴿يريدان﴾ أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها
﴿أن يخرجاكم﴾ أيها الناس
﴿من أرضكم﴾ هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً عن سلف
﴿بسحرهما﴾ الذي أظهراه لكم وغيره.
ولما كان كل حزب بما لديهم فرحون قالوا:
﴿ويذهبا بطريقتكم﴾ هذه السحرية التي تعبتم في تمهيدها، وأفنى فيها أسلافكم أعمارهم، حتى بلغ أمرها الغاية، وبدينكم الذي به قوامكم
﴿المثلى*﴾ أي التي هي أمثل الطرق، فيكونا آثر بما يظهرانه منها عند الناس منكم، ويصرفان وجوه الناس إليها عنكم، ويبطل ما لكم بذلك من الارزاق والعظمة عند الخاص والعام وغير ذلك من الأغراض
﴿فأجمعوا كيدكم﴾ أي لا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به ولا تختلفوا تضعفوا
﴿ثم ائتوا﴾ إلى لقاء موسى وهارون لمباراتهما
﴿صفاً﴾ أي متسابقين متساوين في السباق ليستعلي أمركم عليهما فتفلحوا، والاصطفاف أهيب في صدور الرائين.
ولما كان التقدير: فمن أتى كذلك فقد استعلى، عطف
305
عليه قولهم محققاً:
﴿وقد أفلح اليوم﴾ في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط
﴿من استعلى*﴾ أي غلب ووجد علوه، أي ففعلوا ما تقدم وأتوا صفاً، فلما أتوا وكانوا خبيرين بأن يقولوا ما ينفعهم في مناصبة موسى عليه السلام، استؤنف الإخبار عنه بقوله تعالى:
﴿قالوا﴾ أي السحرة منادين، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر:
﴿يا موسى إما أن تلقي﴾ ما معك مما تناظرنا به أولاً
﴿وإما أن نكون﴾ أي نحن
﴿أول من ألقى*﴾ ما معه
﴿قال﴾ أي موسى مقابلاً لأدبهم بأحسن منه ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر فيكون العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم فلا يكون بعدها شك: لا ألقي أنا أولاً
﴿بل ألقوا﴾ أنتم أولاً، فانتهزوا الفرصة، لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تعبير السياق والتصريح بالأول، فألقوا
﴿فإذا حبالهم وعصيهم﴾ التي ألقوها
﴿يخيل إليه﴾ وهو صفينا تخييلاً مبتدئاً
﴿من سحرهم﴾ الذي كانوا قد فاقوا به أهل الأرض
﴿أنها﴾ لشدة اضطربها
﴿تسعى*﴾ سعياً، وإذا كان هذا حاله مع أنه أثبت الناس بصراً وأنفذهم بصيرة فما ظنك بغيرة!
﴿فأوجس﴾ أي أضمر بسبب ذلك، وحقيقته: أوقع واجساً أي خاطراً وضميراً.
306
ولما كان المقام لإظهار الخوارق على يديه، فكان ربما فهم أنه أوقعه في نفس أحد غيره، كان المقام للاهتمام بتقديم المتعلق، فقال لذلك لا لمراعاة الفواصل:
﴿في نفسه﴾ أي خاصة، وقدم ما المقام له والاهتمام به فقال:
﴿خيفة موسى*﴾ مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك على ما هو طبع البشر، وللنظر إلى الطبع عبر بالنفس لا القلب مثلاً.
307
ولما كان ذلك، وكان المعلوم أن الله معه، وأنه جدير بإبطال سحرهم، استأنف الخبر عنه بقوله:
﴿قلنا﴾ بما لنا من العظمة:
﴿لا تخف﴾ من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه:
﴿إنك أنت﴾ أي خاصة
﴿الأعلى*﴾ أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها
﴿وألق﴾ وأشار إلى يمن العصا وبركتها بقوله:
﴿ما في يمينك﴾ أي من هذه العصا التي قلنا لك أول ما شرفناك بالمناجاة
﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ ثم أريناك منها ما أريناك
﴿تلقف﴾ بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك - بما أشار إليه حذف التاء
﴿ما صنعوا﴾ أي فعلوه بعد تدرب كبير عليه
307
وممارسة طويلة؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إنما﴾ أي أن الذي
﴿صنعوا﴾ أي أن صنعهم مما رأيته وهالنا أمُره.
ولما كان المقصود تحقير هذا الجيش أفرد ونكر لتنكير المضاف وتحقيره فقال:
﴿كيد ساحر﴾ أي كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، سواء كان واحداً أو جمعاً، ولو جمع لخيل أن المقصود العدد، ولما كان التقدير: فهم لا يفلحون، عطف عليه قوله:
﴿ولا يفلح الساحر﴾ أي هذا الجنس
﴿حيث أتى*﴾ أي كيف ما سار وأيّه
﴿سلك﴾ فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له، فامتثل ما أمره به ربه من إلقاء عصاه، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام وحذف ذكر الإلقاء وما سببه من
308
التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية:
﴿فألقي السحرة﴾ أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر
﴿سجداً﴾ على وجوههم؛ قال الأصبهاني: سبحان الله! ما أعظم شأنهم! ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة الشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. فكأن قائلاً قال: هذا فعلهم فما قالوا؟ فقيل:
﴿قالوا آمنا﴾ أي صدقنا.
ولما كان سياق هذه السورة مقتضياً لتقديم هارون عليه السلام قال:
﴿برب هارون وموسى*﴾ بشارة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له، فيجعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس، وقبائلهم أقل القبائل، مع ما في ذلك من الدليل على صدق إيمانهم وخلوص ادعائهم بتقديم الوزير المترجم ترقياً في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكراً للمنعمين بالتدريج
«لا يشكر الله من لم يشكر الناس» وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئاً، فكانوا أول النهار سحرة، وآخر شهداء بررة، وهذه الآية في أمثالها من أي هذه السور
309
وغيرها مما قدم فيه ما يتبادر أن حقه التأخير وبالعكس لأنحاء من المعاني دقيقة، هي التي حملت بعض من لم يرسخ إلى أن يقول: إن القرآن يراعي الفواصل كما يتكلف بلغاء العرب السجع، وتبعه جمع من المتأخرين تقليداً، وقد عاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك حين قال:
«سجع كسجع الجاهلية أو قال: الكهان» وقد علم مما ذكرته أن المعنى الذي بنيت عليه السورة ما كان ينتظم إلا بتقديم هارون، ويؤيد ذلك أنه قال هنا
﴿إنا رسولا﴾ وفي الشعراء
﴿رسول﴾، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي كما حكاه عنه الشيخ أبو حيان في سورة فاطر من النهر: لا يقال في شيء من القرآن: أنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن: ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه، ثم رد على المخالف بأن قال: والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً لأن
310
السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى، ثم استدل على ذلك بأشياء نفيسة أطال فيها وأجاد - رحمه الله، وقد تقدم في آخر سورة التوبة ما ينفع جداً في هذا المرام.
ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجئه ذلك فقال:
﴿قال﴾ أي فرعون للسحرة منكراً عليهم، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة الرفق بالمدعوين والحلم عنهم، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام:
﴿آمنتم﴾ أي بالله
﴿له﴾ أي مصدقين أو متبعين لموسى
﴿قبل أن ءاذن لكم﴾ في ذلك، إبهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن؛ ثم استأنف قوله معللاً مخيلاً لأتباعه صداً لهم عن الاقتداء بهم:
﴿إنه لكبيركم﴾ أي في العلم
﴿الذي علمكم السحر﴾ فلم تتبعوه لظهور الحق، بل لإرادتكم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم
311
في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق.
ولما خيلهم، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال:
﴿فلأقطعن﴾ أي سبب ما فعلتم
﴿أيديكم﴾ على سبيل التوزيع
﴿وأرجلكم﴾ أي من كلٍّ يداً ورجلاً
﴿من خلاف﴾ فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى
﴿ولأصلبنكم﴾ وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال:
﴿في جذوع النخل﴾ تبشيعاً لقتلكم ردعاً لأمثالكم
﴿ولتعلمن أينا﴾ أنا أورب موسى الذي قال: إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى
﴿أشد عذاباً وأبقى*﴾ أي من جهة العذاب، أي أينا عذابه أشد وأطول زماناً.
312
ولما علموا ما خيل به على عقول الضعفاء، نبهوهم فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً:
﴿قالوا لن نؤثرك﴾ أي نقدم أثرك بالاتباع لك لنسلم من عذابك الزائل
﴿على ما جاءنا﴾ به موسى عليه السلام
﴿من البينات﴾ التي عايناها وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضاهاتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل الخارق، ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله، إشارة إلى عليّ قدره فقالوا:
312
﴿والذي﴾ أي ولا نؤثرك بالاتباع على الذي
﴿فطرنا﴾ أي ابتدأ خلقنا، إشارة إلى شمول ربوبيته سبحانه وتعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استحقه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، علماً بأن ما فعله فهو بإذن الله، قالوا:
﴿فاقض ما﴾ أي فاصنع في حكمك الذي
﴿أنت قاض﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم:
﴿إنما تقضي﴾ أي تصنع بنا ما تريد أن قدرك الله عليه
﴿هذه الحياة الدنيا*﴾ أي إنما حكمك في مدتها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقب راحة، ونحن لانخاف إلا ممن يحكم على الروح وإن فني الجسد، فذاك هو الشديد العذاب، الدائم الجزاء بالثواب أو العقاب، ولعلهم أسقطوا الجار تنزلاً إلى أن حكمه لو فرض أنه يمتد إلى آخر الدنيا لكان أهلاً لأن لا يخشى لأنه زائل وعذاب الله باق. ثم عللوا تعظيمهم لله واستهانتهم بفرعون بقولهم:
﴿إنا ءامنا بربنا﴾ أي المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره
﴿ليغفر لنا﴾ من غير نفع يلحقه بالفعل أو ضرر يدركه بالترك
313
﴿خطايانا﴾ التي قابلنا بها إحسانه: ثم خصوا بعد العموم فقالوا:
﴿وما أكرهتنا عليه﴾ وبينوا ذلك بقولهم:
﴿من السحر﴾ لتعارض به المعجزة، فإن كان الأكمل لنا عصيانك فيه لأن الله أحق بأن يتقى. روي أن الذي كان من القبط من السحرة اثنان فقط، والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا يقدر على معارضته، فأبى عليهم وأكرههم على المعارضة.
ولما كان التقدير: فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة، عطفوا عليه مستحضرين لكماله:
﴿والله﴾ أي الجامع لصفات الكمال
﴿خير﴾ جزاء منك فيما وعدتنا به
﴿وأبقى*﴾ ثواباً وعقاباً، والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى
﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ [القصص: ٣٥]- قاله أبو حيان. وسيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم؛ ثم عللوا هذا الختم بقولهم:
﴿إنه من يأت ربه﴾ أي الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه
﴿مجرماً﴾ أي قاطعاً ما أمره به أن يوصل
﴿فإن له جهنم﴾ دار الإهانة
﴿لا يموت فيها﴾ أبداً مع شدة عذابها.
بخلاف عذابك الذي إن
314
اشتد أمات فزال سريعاً، وإن خف لم يُخِفْ وكان آخره الموت وإن طال
﴿ولا يحيى *﴾ فيها حياة ينتفع بها
﴿ومن يأته﴾ أي ربه الذي أوجده ورباه
﴿مؤمناً﴾ أي مصدقاً به.
ولما قدم أن مجرد الكفر يوجب العذاب. كان هذا محلاًّ يتوقع فيه الإخبار عن الإيمان بمثل ذلك فقال:
﴿قد﴾ أي ضم إلى ذلك تصديقاً لإيمانه أنه
﴿عمل﴾ أي في الدنيا
﴿الصالحات﴾ التي أمر بها فكأن صادق الإيمان مستلزم لصالح الأعمال
﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة
﴿لهم﴾ أي لتداعي ذواتهم بمقتضى الجبلة
﴿الدرجات العلى*﴾ التي لا نسبة لدرجاتك التي وعدتنا بها منها؛ ثم بينوها بقولهم:
﴿جنات عدن﴾ أي أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها
﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى؛ ثم بين بقوله:
﴿خالدين فيها﴾ أن أهلها هيئوا أيضاً للإقامة.
ولما أرشد السياق والعطف على غير معطوفٍ عليه ظاهر إلى أن التقدير: ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم جزاء الموصوفين، لتزكيتهم أنفسهم، عطف عليه قوله:
﴿وذلك جزاء﴾ كل
﴿من تزكى*﴾ أي طهر نفسه بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وفي هذا تسلية للصحابة رضوان الله عليهم فيما كان يفعل بهم عند نزول
315
هذه السورة إذ كانوا مستضعفين.
316
ولما بين سبحانه استكبار فرعون المدعى في قوله
﴿فكذب وأبى﴾ وختمه سبحانه بأنه يهلك العاصي كائناً من كان، وينجي الطائع، أتبع ذلك شاهداً محسوساً عليه كفيلاً ببيان أنه لم يغن عن فرعون شيء من قوته ولا استكباره، فقال عاطفاً على
«ولقد أريناه آياتنا» :
﴿ولقد أوحينا﴾ أي بعظمتنا لتسهيل ما يأتي من الأمور الكبار
﴿إلى موسى﴾ غير مكترثين لشيء من أقوال فرعون ولا أفعاله، وهذا الإيحاء بعد ما تقدم من أمر السحرة بمدة مديدة جرت فيها خطوب طوال كانت بسببها الآيات الكبار، وكأنها حذفت لما تدل عليه من قساوة القلوب، والمراد هنا الانتهاء لما تقدم من مقصود السورة
﴿أن أسر﴾ أي ليلاً، لأن السري سير الليل؛ وشرفهم بالإضافة إليه فقال:
﴿بعبادي﴾ أي بني إسرائيل الذين لفت قلب فرعون حتى أذن في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم أو يكف عنهم العذاب، فاقصد بهم ناحية بحر القلزم
﴿فاضرب لهم﴾ أي اعمل
316
بضرب البحر بعصاك، ولذلك سماه ضرباً.
ولما كان ضرب البحر بالعصا سبباً لوجود الطريق الموصوفة، أوقع الفعل عليها فقال:
﴿طريقاً في البحر﴾ ووصفها بالمصدر مبالغة فقال:
﴿يبساً﴾ حال كونها أو كونك
﴿لا تخاف﴾ والمراد بها الجنس، فإنه كان لكل سبط طريقاً
﴿دركاً﴾ أي أن يدركك شيء من طغيان البحر أو بأس العدو أو غير ذلك.
ولما كان الدرك مشتركاً بين اللحاق والتبعة، أتبعه بقوله:
﴿ولا تخشى*﴾ أي شيئاً غير ذلك أصلاً إنفاذاً لأمري وإنقاذاً لمن أرسلتك لاستنقاذهم، وسوقه على هذا الوجه من إظهار القدرة والاستهانة بالمعاند مع كبريائه ومكنته استدلالاً شهودياً على ما قرر أول السورة من شمول القدرة وإحاطة العلم للبشارة بإظهار هذا الدين بكثرة الأتباع وإبارة الخصوم والإسعاد برد الأضداد وجعل بغضهم وداً، وإن كانوا قوماً لداً؛ ثم أتبع ذلك قوله عطفاً على ما تقديره: فبادر
317
امتثال الأمر في الإسراء وغيره:
﴿فأتبعهم﴾ أي أوجد التبع والمسير وراء بني إسرائيل على ذلهم وضعفهم
﴿فرعون بجنوده﴾ على كثرتهم وقوتهم وعلوهم وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه
﴿فغشيهم﴾ أي فرعون وقومه
﴿من اليم﴾ أي البحر الذي من شأنه أن يؤم؛ وأوجز فهول فقال:
﴿ما غشيهم *﴾ أي أمر لا تحتمل العقول وصفه حق وصفه، فأهلك أولهم وآخرهم؛ وقطع دابرهم، لم يبق منهم أحداً، وما شاكت أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة
﴿وأضل فرعون﴾ على تحذلقه
﴿قومه﴾ مع ما لهم من قوة الأجساد ومعانيها.
ولما كان إثبات الفعل لا يفيد العموم، نفى ضده ليفيده مع كونه أوكد وأوقع في النفس وأروع لها فقال:
﴿وما هدى*﴾ أي ما وقع منه شيء من الهداية، لا لنفسه ولا لأحد من قومه، فتم الدليل الشهودي على تمام القدرة على إنجاء الطائع وإهلاك العاصي.
ولما كان هذا موجباً للتشوف إلى ما وقع لبني إسرائيل بعده، قال تعالى شافياً لهذا الغليل، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين:
﴿يا بني إسرائيل﴾ معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم
318
لأجل أبيهم.
ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال:
﴿قد أنجيناكم﴾ بقدرتنا الباهرة
﴿من عدوكم﴾ الذي كنتم أحقر شيء عنده.
ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال:
﴿وواعدناكم﴾ أي كلكم - كما مضى في البقرة عن نص التوراة - للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا
﴿جانب الطور الأيمن﴾ أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن.
ولما بدأ بالمنفعة الدينية، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال:
﴿ونزلنا عليكم﴾ بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم
﴿المن والسلوى*﴾ لإبقاء أشباحكم، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة، ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها، ثم بالرزق المقوي، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله:
﴿كلوا﴾ ودل على سعته بقوله:
﴿من طيبات ما﴾ ودل على عظمته بقوله:
﴿رزقناكم﴾ من ذلك ومن غيره.
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة، قال:
﴿ولا تطغوا فيه﴾
319
بالادخار إلى غد في غير يوم الجمعة ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة
﴿فيحل﴾ أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به - على قراءة الجماعة بالكسر، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً - على قراءة الكسائي بالضم
﴿عليكم غضبي﴾ فتهلكوا لذلك
﴿و﴾ كل
﴿من يحلل عليه غضبي﴾ منكم ومن غيركم
﴿فقد هوى*﴾ أي كان حاله حال من سقط من علو.
320
ولما كان الإنسان محل الزلل وإن اجتهد، رجاه واستعطفه بقوله:
﴿وإني لغفار﴾ أي ستار بإسبال ذيل العفو
﴿لمن تاب﴾ أي رجع عن ذنوبه من الشرك وما يقاربه
﴿وءامن﴾ بكل ما يجب الإيمان به
﴿وعمل صالحاً﴾ تصديقاً لإيمانه.
ولما كانت رتبة الاستمرار على الاستقامة في غاية العلو، عبر عنها بأداة التراخي فقال:
﴿ثم اهتدى*﴾ أي استمر على العمل الصالح متحرياً به إيقاعه على حسب أمرنا وعلى أقرب الوجوه المرضية لنا، له إلى ذلك غاية التوجه كما يدل عليه صيغة افتعل، وكأنه لما رتب الله سبحانه منازل قوم موسى عليه السلام عامة والسبعين المختارين منهم خاصة في الجبل - كما مضى عن نص التوراة في سورة البقرة، وواعده الكلام
320
بعد ثلاثين ليلة ولم يعين له أولها، وكأنه لاشتياقه إلى ما رأى من التعرف إليه بمقام الجمال لم يتوقف على خصوص إذن من الله تعالى في أول وقت الإتيان اكتفاء بمطلق الأمر السابق في الميعاد، فتعجل بعشرة أيام عن الوقت الذي علم الله أن الكلام يقع فيه بعد الثلاثين التي ضربها لذلك، وأمر موسى عليه السلام قومه عند نهوضه، وتقدم إليهم في اتباعه والكون في أثره للحلول في الأماكن التي حدها الله لهم وأمر السبعين المختارة بمثل ذلك، وكأنهم لما مضى تلبثوا لما رأوا من مقام الجلال، فلما مضت الثلاثون بعد ذهاب موسى لم يكن أتى الوقت الذي أراد الله أن تكون المناجاة فيه، فزاده عشراً فظن بنو اسرائيل الظنون في تلك العشرة، ووقع لهم ما وقع من اتخاذ العجل.
ولما كان ذلك - والله أعلم بما كان، وكان أعظم ما مضى في آية الامتنان عليهم والتعرف بالنعم إليهم المواعدة لهدايتهم بالآيات المرئية والمسموعة، وختم ذلك بالإشارة إلى الاجتهاد في الإقبال على الهدى، أتبع ذلك ذكر ضلالهم بعد رؤية ما يبعد معه كل البعد إلمام من رآه بشيء من الضلال، كل ذلك لإظهار القدرة التامة على التصرف في القلوب بضد ما يظن بها، وكان تنجز المواعيد ألذ شيء للقلوب وأشهاه إلى النفوس، وكان السياق مرشداً حتماً إلى أن
321
التقدير: فأتوا إلى الطور لميعادنا، وتيمموا جانبه الأيمن بأمرنا ومرادنا، وتعجل موسى صفينا الصعود فيه مبادراً لما عنده من الشوق إلى ذلك المقام الشريف وتأخر مجيء قومه عن الإتيان معه، فقلنا: ما أخر قومك عن الأتيان معك؟ فعطف عليه قوله:
﴿وما أعجلك﴾ أي أيّ شيء أوجب لك العجلة في المجيء
﴿عن قومك﴾ وإن كنت بادرت مبادرة المبالغ في الاسترضاء، أما علمت أن حدود الملوك لا ينبغي تجاوزها بتقدم أو تأخر؟
﴿يا موسى*﴾ فهلا أتيتم جمله وانتظرتم أمراً أمراً جديداً بخصوص الوقت الذي استحضركم فيه
﴿قال﴾ موسى ظناً منه أنهم أسرعوا وراءه:
﴿هم﴾ وأتى باسم الإشارة وأسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله، قال ابن هبيرة: ولم أر أحداً من الأصفياء خاطب ربه بذلك، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم
﴿قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك﴾ [النحل: ٨٦] في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر التعبير بها في موضعه
﴿أولاء﴾ أي هم في القرب بحيث يسار إليهم، كائنين
﴿على أثري﴾ أي ماشين على آثار مشيي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادة في السبق بمثله بين الرفاق، هذا بناء منه على ما كان عهد إليهم، وأكد فيه عليهم: ثم اعتذر عن فعله فقال:
﴿وعجلت﴾
322
أنا بالمبادرة
﴿إليك﴾ وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال:
﴿رب﴾ أي أيها المسارع في إصلاح شأني والإصلاح إليّ
﴿لترضى*﴾ عني رضاً أعظم مما كان
﴿قال﴾ الرب سبحانه:
﴿فإنا﴾ أي قد تسبب عن عجلتك عنهم أنا
﴿قد فتنا﴾ أي خالطنا بعظمتنا مخالطة مميلة محيلة
﴿قومك﴾ بتعجلك.
ولما كانت الفتنة لم تستغرق جميع الزمن الذي كان بعده، وإنما كانت في بعضه، أدخل الجارّ فقال:
﴿من بعدك﴾ أي خالطناهم بأمر من أمرنا مخالطة أحالتهم عما عهدتهم عليه، وكان ذلك بعد تمام المدة التي ضربتها لهم، وهي الثلاثون بالفعل وبالقوة فقط، من أول ما فارقتهم بضربك لتلك المدة باعتبار أن أول إتيانك هو الذي كان سبب الفتنة لزيادة أيام الغيبة بسببه لأنا زدنا في آخر المدة بمقدار ما عجلت به في أولها، فلما تأخر رجوعك إليهم حصل لهم الفتون بالفعل، فظنوا مرجمات الظنون.
ولما عمتهم الفتنة إلا اثني عشر ألفاً من أكثر من ستمائة ألف،
323
أطلق الضلال على الكل فقال:
﴿وأضلهم السامري*﴾ أي عن طريق الرشد بما سبب لهم؟ روى النسائي في التفسير من سننه، وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض فقال له ربه: أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشراً، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عواريّ وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحسبوا ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عاريّة، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد النار فأحرقه
324
فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري! ألا تلقي ما في يدك - وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك اليوم، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال: أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه الروح، له خوار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره فتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري! ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى.
فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنّا نتبع موسى، وقالت فرقة: هذا عمل الشيطان، وليس بربنا، ولن نؤمن
325
به ولن نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به - الحديث.
ثم سبب عن إخباره سبحانه له بذلك قوله:
﴿فرجع موسى﴾ أي لما أخبره ربه بذلك
﴿إلى قومه﴾ أي الذين لهم قوة عظيمة على ما يحاولونه
﴿غضبان أسفاً*﴾ أي شديد الحزن أو الغضب؛ واستأنف قوله:
﴿قال﴾ لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم:
﴿يا قوم﴾ وأنكر عليهم بقوله:
﴿ألم يعدكم ربكم﴾ الذي طال إحسانه إليكم
﴿وعداً حسناً﴾ أي بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم - إلى غير ذلك من إكرامه.
ولما جرت العادة بأن طول الزمان ناقض للعزائم، مغير للعهود، كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في هذا البيت:
لا أنسينك إن طال الزمان بنا | وكم حبيب تمادى عهده فنسي |
وكان عليه الصلاة والسلام قريب العهد بهم، أنكر طول العهد بقوله، مستأنفاً عما تقديره: هل ترك ربكم مواعيده لكم وقطع معروفه عنكم:
﴿أفطال عليكم العهد﴾ أي زمن لطفه بكم، فتغيرتم عما
326
فارقتكم عليه كما يعتري أهل الرذائل الانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر
﴿أم أردتم﴾ بالنقض مع قرب العهد وذكر الميثاق
﴿أن يحل عليكم﴾ بسبب عبادة العجل
﴿غضب من ربكم﴾ أي المحسن إليكم، وكلا الأمرين لم يكن، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول: إنكم فعلتم ما لا يفعله عاقل
﴿فأخلفتم﴾ أي فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم
﴿موعدي*﴾ في إجلال الله والإتيان إلى الموضع الذي ضربه لكم لكلامه لي وإنزال كتابه عليّ إحساناً إليكم وإقبالاً عليكم، وكأنه أضاف الموعد إليه أدباً مع الله تعالى وإعظاماً له، أو أنه لما كان إخلاف الموعد المؤكد المعين الذي لا شبهة فيه، لما نصب عليه من الدلائل الباهرة، وأوضحه من البراهين الظاهرة، لا يكون إلا بنسيان لطول العهد، أو عناد بسوء قصد، وكان من أبلغ المقاصد وأوضح التقرير إلجاء الخصم بالسؤال إلى الاعتراف بالمراد، سألهم عن تعيين أحد الأمرين مع أن طول العهد لا يمكن ادعاؤه، فقال ما معناه: أطال عليكم العهد بزيادة عشرة أيام فنسيتم فلم يكن عليكم في الإخلاف جناح؟ أم أردتم أن يحل عليكم الغضب فعاندتم؟ فكانت الآية من الاحتباك: ذكر طول العهد الموجب للنسيان أولاً دليل
327
على حذف العناد ثانياً، وذكر حلول الغضب ثانياً دليل على انتفاء الجناح أولاً، وسر ذلك أن ذكر السبب الذي هو طول العهد أدل على النسيان الذي هو المسبب، وإثبات الغضب - وهو المسبب - أنكأ من إثبات سببه الذي هو العناد.
328
ولما تشوف السامع إلى جوابهم، استأنف ذكره فقال:
﴿قالوا﴾ : لم يكن شيء من ذلك.
ولما كان المقصود من هذا السياق كله إظهار عظيم القدرة، عبر عن ذلك بقوله، حكاية عنهم للاعتراف بما قررهم موسى عليه السلام به من العناد معتذرين عنه بالقدرة، والاعتذار به لا يدفع العقوبة المرتبة على الذنب:
﴿ما أخلفنا موعدك بملكنا﴾ أي لقد صدقت فيما قلت، ولكنا لم نفعل ذلك ونحن بملك أمرنا - هذا على قراءة الجماعة بالكسر، وعلى قراءة نافع وعاصم بالفتح المعنى: ولنا ملكة نتصرف بها في أنفسنا، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالضم كأنهم قالوا: ولنا سلطان قاهر لأمورنا - على أنهم قد ذكروا أن القراءات الثلاث لغات لمعنى واحد، قال في القاموس: ملكه يملكه ملكاً مثلثة: احتواه قادراً
328
على الاستبداد به، والمعنى أن السامري زين لهم ذلك، ووسوس به الشيطان فما دورا إلا وقد تبعوه حتى كانوا كأنهم يقادون إليه بالسلاسل، وقيل هذا كلام من لم يعبده، اعتذروا بأنهم كانوا قليلاً، لا قدرة لهم على مقاومة من عبده، وهذا كله إشارة إلى أنه تعالى هو المتصرف في القلوب، فهو قادر على أن يرد كفار قريش والعرب من بعد عنادهم، ولددهم وفسادهم
﴿ولكنا﴾ كنا
﴿حملنا أوزاراً﴾ أي أثقالاً من النقدين هي أسباب الآثام، كما تقدم في الأعراف أن الله أمرهم في التوراة أن يستعيروها من القبط فخربوهم بها، وكأن هذا ما كان خيانة في ذلك الشرع، أو أن الله تعالى أباح لهم ذلك في القبط خاصة
﴿من زينة القوم﴾ الذين لم نكن نعرف قوماً غيرهم، وغيرهم ليس حقيقاً بإطلاق هذا اللفظ عليه وهم القبط، فقضى لنا أن نقذفها في النار، وتوفرت الدواعي على ذلك واشتدت بحيث لم نتمالك
﴿فقذفناها فكذلك﴾ أي فتعقب هذا أنه مثل ذلك الإلقاء
329
﴿ألقى السامري*﴾ وهو لصيق انضم إليهم من قبط مصر، ألقى ما كان معه، أما من المال وإما من أثر الرسول، كما مضى ويأتي، وكأن إلقاءه كان آخراً.
ولما كان خروج التمثال عقب إلقاءه، حعل كأنه المتسبب في ذلك، فقيل مع العدول عن أسلوب التكلم استهجاناً لنسبة أمر العجل إلى المتكلم:
﴿فأخرج لهم﴾ أي لمن شربه وعبده، وجعل الضمير للغيبة يؤيد قول من جعل هذا كلام من لم يعبد العجل، والمعنى عند من جعله من كلام العابدين أنهم دلوا بذلك على البراءة منه والاستقذار له.
ولما كان شديد الشبه للعجول، قيل:
﴿عجلاً﴾ وقدم قوله:
﴿جسداً﴾ لنعرف أن عجليته صورة لا معنى - على قوله:
﴿له خوار﴾ لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل
﴿فقالوا﴾ أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه:
﴿هذا﴾ مشرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو
330
مثل في الغباوة
﴿إلهكم وإله موسى * فنسى *﴾ أي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي - بعدوله عن هذا المكان - موضعه فذهب يطلبه في مكان غيره، أو نسي أن يذكره لكم.
ولما كان هذا سبباً للإنكار على من قال هذا، قال:
﴿أفلا يرون﴾ أي أقالوا ذلك؟ فتسبب قولهم عن عماهم عن رؤية
﴿أن﴾ أي أنه
﴿لا يرجع إليهم قولاً*﴾ والإله لا يكون أبكم
﴿ولا يملك لهم ضراً﴾ فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون فيقولوا ذلك خوفاً من ضره
﴿ولا نفعاً*﴾ فيقولوا ذلك رجاء له.
ولما كان الذنب مع العلم أبشع، والضلال بعد البيان أشنع، قال عاطفاً على قوله
﴿قال يا قوم ألم يعدكم﴾ أو على قوله
«قالوا ما أخلفنا» :
﴿ولقد قال لهم هارون﴾ أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده.
ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان، قال:
﴿من قبل﴾ أي من قبل رجوع موسى، مستعطفاً لهم:
﴿يا قوم﴾ ثم حصر أمرهم ليجتمع فكرهم
331
ونظرهم فقال:
﴿إنما فتنتم﴾ أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه
﴿به﴾ أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة. وأكد لأجل إنكارهم فقال:
﴿وإن ربكم﴾ أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان
﴿الرحمن﴾ وحده الذي فضله عام ونعمه شاملة، فليس على البر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده. ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وارجوا إسباغها بطاعته
﴿فاتبعوني﴾ بغاية جهدكم في الرجوع إليه
﴿وأطيعوا أمري*﴾ في دوام الشرف بالخضوع لديه، ودوام الإقبال عليه، بدفع عنكم ضيره، ويفض عليكم خيره.
ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه، قيل:
﴿قالوا﴾ بفظاظة وجمود:
﴿لن نبرح عليه﴾ أي على هذا العجل
﴿عاكفين﴾ أي مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك
﴿حتى يرجع إلينا موسى*﴾ فدافعهم،
332
فهمّوا به، وكان معظمهم قد ضل، فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيئاً، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل، إنما قال له
﴿وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ [الأعراف: ١٤٢] فرأى من الإصلاح اعتزلهم إلى أن يأتي، فلما ذكر ما قال هارون عليه السلام، التفتت النفس إلى علم ما قال له موسى عليه السلام لأنه خليفته عليهم، مع كونه راساً في نفسه، فدفع هذا العناء بقوله، مسقطاً أخذه برأس أخيه لما تقدم من ذكره ويأتي هنا من الدلالة عليه، ولم تدع إليه ضرورة في هذه السورة التي من أعظم مقاصدها الدلالة على تليين القلوب:
﴿قال﴾ أي موسى:
﴿يا هارون﴾ أنت نبي الله وأخي ووزيري وخليفتي فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه
﴿ما منعك إذ﴾ أي حين
﴿رأيتهم ضلوا*﴾ عن طريق الهدى، واتبعوا سبيل الردى، من اتباعي في سيرتي فيهم من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً،
333
اتباعاً لا تزيغ فيه عما نهجته لك بوجه من الوجوه شيئاً من زيغ، وعبر عن هذا التأكيد بزيادة
«لا» في قوله:
﴿ألاَّ تتبعن﴾ كما تقدم غير مرة أن النافي إذا زيد في الكلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد
﴿أفعصيت﴾ أي أتكبرت عن اتباعي فتسبب عن ذلك أنك عصيت
﴿أمري*﴾ وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى، فكأنه قيل: ما قال له؟ فقيل:
﴿قال﴾ مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة:
﴿يبنؤم﴾ فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه لأنه يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب
﴿لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي﴾ أي بشعره؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إني خشيت أن تقول﴾ إن اشتددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال
﴿فرقت بين بني إسرائيل﴾ بفعلك هذا الذي لم يُجْدِ شيئاً لقلة من كان معك وضعفكم عن ردهم
﴿ولم ترقب قولي*﴾ ﴿اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ ولم تقل وارددهم ولو أدى الأمر إلى السيف، وهذا كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأموراً بالصفح والحلم والمدافعة باللين عند ضعف الناصر وقلة المعين.
334
ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة، تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله:
﴿قال﴾ أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره. جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه:
﴿فما خطبك﴾ أي أمرك هذا العجيب العظيم الذي حملك على ما صنعت وأخبرني العزيز العليم أنك أنت أضللتهم به
﴿يا سامري * قال﴾ السامري مجيباً له:
﴿بصرت﴾ من البصر والبصيرة
﴿بما لم يبصروا به﴾ من أمر الرسول الذي أجاز بنا البحر
﴿فقبضت﴾ أي فكان ذلك سبباً لأن قبضت
﴿قبضة﴾ أي مرة من القبض، أطلقها على المقبوض تسمية للمفعول بالمصدر
﴿من أثر﴾ فرس ذلك
﴿الرسول﴾ أي المعهود
﴿فنبذتها﴾ في الحلي الملقى في النار، أو في العجل
﴿وكذلك﴾ أي وكما سولت لي نفسي أخذ اثره
﴿سولت﴾ أي حسنت وزينت
﴿لي نفسي﴾ نبذها في الحلي فنبذتها، فكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
ولما كان فعله هذا مفرقاً لبني إسرائيل عن طريق الحق
335
التي كانوا عليها، وجامعاً لهم على تمثال حيوان هو من أخس الحيوانات، وعلى نفسه بكونه صار متبوعاً في ذلك الضلال، لكونه كان سببه، عوقب بالنفرة من الإنسان الذي هو أشرف الحيوان، ليكون ذلك سبباً لضد ما تسبب عن فعله، فيعاقب بالدنيا بعقوبة لا شيء أشد منها وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، بل يكون وحيداً طريداً ما دام حياً، فلذلك استؤنف الإخبار عن هذا بقوله تعالى:
﴿قال﴾ أي له موسى عليه السلام:
﴿فاذهب﴾ أي تسبب عن فعلك أني أقول لك: اذهب من بيننا، أو حيث ذهبت
﴿فإن لك في الحياة﴾ أي ما دمت حياً
﴿أن تقول﴾ لكل من رأيته:
﴿لا مساس﴾ أي لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك لإرادة الإله الحق ذلك بك وترغيبك فيه - بما أفادته اللام، لتعلم أنت ومن تبعك أنكم كنتم على أعظم ضلال في ترك القادر على كل شيء، واتباع ما لا قدرة له على شيء
﴿وإن لك﴾ بعد الممات
﴿موعداً﴾ للثواب إن تبت، وللعقاب إن أبيت
336
﴿لن تخلفه﴾ مبنياً للفاعل وللمفعول، أي لا يكون خلفك ولا تكون أنت خلفه، بل يكون كل منكما مواجهاً لصاحبه، لا انفكاك له عنه، كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو.
ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين، أتبعه عجز العجل فقال:
﴿وانظر إلى إلهك﴾ أي بزعمك
﴿الذي ظلت﴾ أي دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف
﴿عليه عاكفاً﴾ أي مقبلاً مقارباً مواظباً جهاراً
﴿لنحرقنه﴾ أي بالنار وبالمبرد - كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان فهان على المبارد
﴿ثم لننسفنه﴾ أي لنذرينه إذا صار سحالة
﴿في اليم﴾ أي البحر الذي أغرق الله فيه آل فرعون وهو أهل لأن يقصد فيجمع الله سحالته التي هي من حيلهم وأموالهم فيحميها في نار جهنم ويكويهم ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد فقال:
﴿نسفاً﴾.
337
ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان، أخبرهم بالحق على وجه الحصر
337
فقال:
﴿إنما إلهكم﴾ جميعاً
﴿الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال؛ ثم كشف المراد من ذلك وحققه بقوله:
﴿الذي لا إله إلا هو﴾ أي لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره لأنه
﴿وسع كل شيء علماً*﴾ تمييز محول عن الفاعل، أي أحاط علمه بكل شيء، فكان على كل شيء ممكن قديراً، فكان كل شيء إليه فقيراً، وهو غني عن كل شيء، وجوده يباين وجود غيره، وذاته تباين ذات غيره، وصفاته تباين صفات غيره، وأما العجل الذي عبدوه فلو كان حياً كان مثلاً في الغباوة، فلا يصلح للإلهية بوجه ولا في عبادته شيء من حق، وكان القياس على ما يتبادر إلى الذهن حيث نفى عنه العلم بقوله
﴿ألا يرجع إليهم قولاً﴾ والقدرة بقوله
﴿ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً﴾ أن يثبتا هنا للاله الحق، ولكنه اعتنى بإثبات العلم الواسع لاستلزامه للقدرة على كل ما يمكن أن يتعلق به، بإفادة الأسباب لشيء المراد، ومنع الموانع عنه فيكون لا محالة، ولو لم يكن كذلك لكان التخلف للجهل إما بما يفيد مقتضياً أو يمنع مانعاً، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى
﴿ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء﴾ [الأعراف: ١٨٨] ولا يستلزم إثبات القدرة المحيطة العلم الشامل لخروج قسم
338
المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به.
ولما تمت هذه القصة على هذا الأسلوب الأعظم، والسبيل الأقوم، متكفلة بالدلالة على القدرة على ما وقعت إليه الإشارة من البشارة أول السورة بتكثير هذه الأمة ورد العرب عن غيهم بعد طول التمادي في العناد، والتنكب عن سبيل الرشاد، إلى ما تخللها من التسلية بأحوال السلف الصالح والتأسية، مفصلة من أدلة التوحيد والبعث، وغير ذلك من الحكم، بما يبعث الهمم، على معالي الشيم، كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع والمثال الرفيع؟ فقيل: نعم
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا القص العالي، في هذا النظم العزيز الغالي، لقصة موسى ومن ذكر معه
﴿نقص عليك﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء؛ وأشار إلى جلالة علمه بقوله:
﴿من أنباء﴾ أي أخبار
﴿ما قد سبق﴾ من الأزمان والكوائن الجليلة، زيادة في علمك، وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك، بما اتفق للرسل من قبلك وتكثيراً لأتباعك وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة وتأكد الحجة على من عابه:
﴿وقد ءاتيناك﴾ من عظمتنا
339
تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك
﴿من لدنا﴾ أي من عندنا من الأمر الشريف بمزيد خصوصيته بنا ولطيف اتصاله بحضرتنا من غيب غيباً
﴿ذكرا*﴾ عظيماً جليلاً جامعاً لما أظهرناه من أمرنا في التوراة، وما ابطنّاه من سرنا في الإنجيل، وما أودعناه من سكينتنا في الزبور، مع ما خصصناه به من لطائف المزايا، وعظائم الأسرار، يعرف بمجرد تلاوته أنه من عندنا لما يُشهد له من الروح، ويُذاق له من الإخبات والسكون، ويرى له من الجلالة في الصدور مع القطع بأن أحداً لا يقدر أن يعارضه، وضمناه تلك القصص مع ما زدنا فيه على ذلك من المواعظ والأحكام ودقائق اشارات الحقائق، متكفلاً بسعادة الدارين وحسنى الحسنيين، فمن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة.
ولما اشتمل هذا الذكر على جميع أبواب الخير، فكان كل مل ليس له فيه أصل شقاور محضة وضلالاً بعيداً، قال يقص عليه من أنباء ما يأتي كما قص من أنباء ما قد سبق:
﴿من أعرض عنه﴾ أي عن ذلك الذكر، وهو عام في جميع من يمكن دخوله في معنى
«من» من العالمين
﴿فإنه يحمل﴾ ولما كان المراد استغراق الوقت قال:
340
﴿يوم القيامة وزراً*﴾ أي حملاً ثقيلاً من العذاب الذي سببه الوزر وهو الذنب، جزاء لإعراضه عنه واشتغاله بغيره
﴿خالدين فيه﴾ وجمع هنا حملاً على المعنى بعد الإفراد للفظ، تنبيهاً على العموم لئلا يغفل عنه بطول الفصل، أو يظن أن الجماعة يمكنهم المدافعة، ويمكن أن يراد بالوزر الحمل الثقيل من الإثم، ويكون الضمير في
«فيه» للعذاب المسبب عنه فيكون استخداماً كقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم | رعيناه وإن كانوا غضابا |
ولما كانوا منكرين ليوم القيامة، صرح بذكره ثانياً مع قرب العهد، قارعاً لأسماعهم به، مجرياً له إجراء ما هو به جدير من أنه متحقق لا مرية فيه فقال:
﴿وساء﴾ أي وبئس؛ وبين أصحاب السوء فقال:
﴿لهم﴾ أي ذلك الحمل
﴿يوم القيامة حملاً﴾ ثم شرح لهم بعض أحوال ذلك اليوم من ابتدائه، فقال مبدلاً من
«يوم القيامة» :
﴿يوم ينفخ﴾ أي بعظمتنا - على قراءة أبي عمرو بالنون مبنياً لفاعل، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء
341
مبنياً للمفعول
﴿في الصور﴾ فيقوم الموتى من القبور
﴿ونحشر﴾ أي بعظمتنا
﴿المجرمين﴾ منهم الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وعدل عن أن يقول: ونحشرهم - لبيان الوصف الذي جره لهم: الإعراض عن الذكر
﴿يومئذ﴾ أي يوم القيامة، ويكون لهم ما تقدم
﴿زرقاً﴾ أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه، حال كونهم
﴿يتخافتون﴾.
ولما كان التخافت - وهو المسارّة بالكلام - قد يكون بين اثنين من قبيلتين، فيكون كل منهما خائفاً من قومه أقل عاراً مما لو كانا من قبيلة واحدة، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم، قال دالاً على لزومه وعمومه:
﴿بينهم﴾ أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع.
ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لعدم إلفهم لها، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض. رتبهما سبحانه كذلك، ثم بين ما يتخافتون به فقال:
342
﴿إن﴾ أي يقول بعضهم لبعض: ما
﴿لبثتم﴾ أي في الدنيا استقصاراً لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف، أو غلطاً ودهشة
﴿إلا عشراً*﴾ أي عقداً واحداً، لم يزد على الآحاد إلا بواحد، وهو لو أنه سنون سن من لم يبلغ الحلم، فكيف إذا كان شهوراً أو أياماً فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان.
343
ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق، أتى فيه بمظهر العظمة فقال:
﴿نحن أعلم﴾ من كل أحد
﴿بما يقولون﴾ أي في ذلك اليوم
﴿إذ يقول أمثلهم طريقة﴾ في الدنيا فيما يحسبون، أي أقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه:
﴿إن﴾ أي ما
﴿لبثتم﴾ ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله:
﴿إلا يوماً﴾ أي مبدأ الآحاد، لا مبدأ العقود كما قال في الاية الأخرى
﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ [المؤمنون: ١١٣]
﴿يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون﴾ [الروم: ٥٥] فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويجوز أن يكون المراد أن من قال: إن لبثهم يوم واحد، أمثلهم في نفس الأمر، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر، ليس مراداً لنفسه، وإنما هو مراد
343
لما يكون فيه فإن كان خيراً كان صاحبه محموداً ولم يضره قصره، وإن كان شراً كان مذموماً ولم ينفعه طوله، ويجوز أن يكون أنث أولاً إرادة لليالي، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات، فكان كأنهم قالوا: لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جداً أكثر أول العقود، ونص الأمثل على اليوم الذي يكون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا راحة أصلاً، ولم يكن سعيهم إلا نكداً كله كما يكون السعي في يوم لا ليلة يستراح فيها. وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية.
ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال:
﴿ويسألونك عن الجبال﴾ ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور؟ شكا منهم في البعث وقوفاً مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة، لأنها أشد الأشياء قوة، وأطولها لبثاً، وأبعدها مكثاً، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي
﴿فقل﴾ أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا
344
السؤال أنا نقول لك: قل، أو يكون على تقدير شرط، أي فإذا سألوك فقل لهم، وهذا بخلاف ما نزل بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب
﴿ينسفها﴾ أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء
﴿ربي﴾ المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصراً لا يبلغ كنهه
﴿نسفاً﴾ عند النفخة الأولى
﴿فيذرها﴾ أي أماكنها
﴿قاعاً﴾ أي أرضاً ملساء
﴿صفصفاً*﴾ أي مستوياً كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه
﴿لا ترى﴾ أي بالبصر ولا بالبصيرة
﴿فيها﴾ أي مواضع الجبال
﴿عوجاً﴾ بوجه من الوجوه، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان، ومواضع الجبال أعيان لا معاني، نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراضي لا تفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك
﴿ولا أمتاً*﴾ أي شيئاً مرتفعاً كالكدية أو نتوّاً يسيراً أو شقاً أو اختلافاً؛ وقال البيضاوي والزمخشري: الأمت النتوّ اليسير، قال الغزالي في الدرة الفاخرة:
345
ينفخ في الصور فتطاير الجبال، وتفجر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلىء عالم الهواء ماء، وتنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء؛ قال: ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف، ويدع الأرض جمرة سوداء، والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبى صبي، والشيخ شيخ، وما بينهما، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة.
ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال:
﴿يومئذ﴾ أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال
﴿يتبعون﴾ أي أهل المحشر بغاية جهدهم
﴿الداعي﴾ أي بالنفخ منتصبين إليه على الاستقامة
﴿لا عوج له﴾ أي الداعي في شيء من قصدهم إليه،
346
لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء؛ وقال أبو حيان: أي لا عوج لدعائه، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس.
ولما أخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال:
﴿وخشعت الأصوات﴾ أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها
﴿للرحمن﴾ أي الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، ويخشى نقمه
﴿فلا﴾ أي فيتسبب عن رخاوتها أنك
﴿تسمع إلا همساً*﴾ أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل: أخفى شيء من أصوات الأقدام.
347
ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم
347
قال نافياً لأن تقع شفاعة بغير إذنه، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة:
﴿يومئذ﴾ أي إذ كان ما تقدم
﴿لا تنفع الشفاعة﴾ أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع، فنفيه بادىء بدا أفظع، وقرع السمع به أولاً أهول وأفزع
﴿إلا﴾ أي إلا شفاعة
﴿من أذن له الرحمن﴾ العام النعمة
﴿ورضي له قولاً*﴾ ولو الإيمان المجرد.
ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه، علل ذلك - كما سلف في آية الكرسي - بقوله:
﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه
﴿وما خلفهم﴾ وهو كل ما غاب عنهم علمه، أي علمه سبحانه محيط بهم، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه
﴿ولا يحيطون به علماً*﴾ ليحترزوا عما يقدره عليهم، و
﴿علماً﴾ تمييز منقول من الفاعل،
348
أي ولا يحيط علمهم به - قال أبو حيان. والأقرب عندي كونه منقولاً عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر، أي ولا يحيطون بعلمه، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي. ولما ذكر خشوع الأصوات، أتبعه خضوع دونها فقال:
﴿وعنت الوجوه﴾ أي ذلت وخضعت واستسلمت وجوه الخلائق كلهم، وخصها لشرفها ولأنها أول ما يظهر فيه الذل
﴿للحي﴾ الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل، وكل ما سواه جماد حيث ما نسبت حياته إلى حياته
﴿القيوم﴾ الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت
﴿وقد خاب﴾ أي خسر خسارة ظاهرة
﴿من حمل﴾ منهم أو من غيرهم
﴿ظلماً*﴾.
ولما ذكر الظالم، أتبعه الحكيم فقال:
﴿ومن يعمل﴾ ولما كان الإنسان محل العجز وإن اجتهد، قال
﴿من الصالحات﴾ أي التي أمره الله بها بحسب استطاعته، لأنه
«لن يقدر الله أحد حق قدره» «ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» ﴿وهو مؤمن﴾ ليكون بناؤها على الأساس، وعبر بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال فقال:
﴿فلا يخاف ظلماً﴾ بأن ينسب إليه سوء لم يقترفه
349
لأن الجزاء من جنس العمل، وقراءة ابن كثير بلفظ النهي محققة للمبالغة في النفي
﴿ولا هضماً﴾ أي نقصاً من جزائه وإن كان هو لم يوف المقام حقه لأنه لا يستطيع ذلك، وأصل الهضم الكسر، وأما غير المؤمن فلو عمل أمثال الجبال من الأعمال لم يكن لها وزر.
350
ولما اشتملت هذه الآية على الذروة من حسن المعاني، فبشرت ويسرت، وأنذرت وحذرت، وبينت الخفايا، وأظهرت الخبايا، مع ما لها من جلالة السبك وبراعة النظم، كان كأنه قيل تنبيهاً على جلالتها: أنزلناها على هذا المنوال العزيز المثال
﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا الإنزال
﴿أنزلناه﴾ أي هذا الذكر كله بعظمتنا
﴿قرآناً﴾ جامعاً لجميع المعاني المقصودة
﴿عربياً﴾ مبيناً لما أودع فيه لكل من له ذوق في أساليب العرب.
ولما كان أكثر هذه الآيات محذراً، قال:
﴿وصرفنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿فيه من الوعيد﴾ أي ذكرناه مكررين له محولاً في أساليب مختلفة، وأفانين متنوعة مؤتلفة.
ولما ذكر الوعيد، أتبعه ثمرته فقال:
﴿لعلهم يتقون﴾ أي ليكون الناظر لهم بعد ذلك على رجاء من أن يتقوا ويكونوا به في عداد من يجدد التقوى كل حين، بأن تكون له وصفاً مستمراً، وهي الحذر الحامل
350
على اتخاذ الوقاية مما يحذر
﴿أو﴾ في عداد من
﴿يحدث﴾ أي يجدد هذا التصريف
﴿لهم ذكراً*﴾ أي ما يستحق أن يذكر من طرق الخير، فيكون سبباً للخوف الحامل على التقوى، فيردهم عن بعض ما تدعو إليه النفوس من النقائض والبؤس.
ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز، فاشتملت على غاية الحكمة، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل في أحوال الدراين، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو:
﴿فتعالى الله﴾ أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لاتحتمله العقول، فلا يلحقه شيء من إلحاد الملحدين ووصف المشركين
﴿الملك﴾ الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره
﴿الحق﴾ أي الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما؛ ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة.
351
ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر، كان تقدير: فلا تعرض عنه، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه، قال عاطفاً على هذا المقدر:
﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ أي بتلاوته.
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال:
﴿من قبل أن﴾ ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين، بنى للمجهول قوله:
﴿يقضى﴾ أي ينهى
﴿إليك وحيه﴾ من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة، بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً - كما أشرنا إليه أول السورة، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه، ولا بتكليفك للمساوقة بتلاوته
352
﴿وقل رب﴾ أي المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ
﴿زدني علماً*﴾ أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة، وفي هذا دليل على أن التأني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال، وأعون على الحفظ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ؛ وروى الترمذي وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» أفاده ابن كثير في تفسيره.
ولما قرر سبحانه بقصة موسى عليه السلام ما أشار إليه أول السورة بما هو عليه من الحلم والتأني على عباده، والإمهال لهم فيما هم عليه من النقص بالنسيان للعهود والنقض للمواثيق، وأتبعها ذكر مدح
353
هذا الذكر الذي تأدت إلينا به، وذم من أعرض عنه، وختمه بما عهد إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره نهياً وأمراً، أتبع ذلك سبحانه قصة آدم عليه السلام تحذيراً من الركون إلى ما يسبب النسيان، وحثاً على رجوع من نسي إلى طاعة الرحمن، وبياناً لأن ذلك الذي قرره من حلمه وإمهاله عادته سبحانه من القدم، وصفته التي كانت ونحن في حيز العدم، وأنه جبل الإنسان على النقص، فلو أخذهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة، فقال عاطفاً على قوله
﴿وكذلك أنزلناه حكماً عربياً﴾ [الرعد: ٣٧] أو
﴿كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق﴾ مؤكداً لما تقدم فيه وعهد به من أمر القرآن، ومحذراً من الإخلال بذلك ولو على وجه النسيان، ومنجزاً لما وعد به من قص أنباء المتقدمين مما يوافق هذا السياق:
﴿ولقد عهدنا﴾ بما لنا من العظمة
﴿إلى آدم﴾ أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة
﴿من قبل﴾ أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم
﴿فنسي﴾ عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا، فهو
354
من باب
«حسنات الأبرار سيئات المقربين» فكيف بما فوق ذلك!
﴿ولم نجد﴾ بالنظر إلى ما لنا من العظمة
﴿له عزماً*﴾ أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها كإرادات الملائكة عليهم السلام، والمعنى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحزحه عن رتبة الاصطفاء.
355
ولما كان المقصود من السورة - كما سلف - الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها على وجه النسيان، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين، تأكيداً للمعنى المشار إليه، تقريراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ، وإرشاداً لمن
«غلب عليه» طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال:
﴿وإذ﴾ أي اذكر هذا واذكر حين
﴿قلنا﴾ بما لنا من العظمة، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت
﴿للملائكة﴾ أي المجبولين على مضي العزم
355
والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائق فتور
﴿اسجدوا لآدم﴾ الذي خلقته بيدي، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه، فإن الحلم والكرم من صفاتنا، والرحمة من شأننا، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللدد
﴿فسجدوا﴾ أي الملائكة
﴿إلا إبليس﴾ الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فأيس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس، فكأنه قيل: ما كان من حاله في عدم سجوده؟ فقيل:
﴿أبى*﴾ أي تكبر على آدم فعصى أمر الله
﴿فقلنا﴾ بسبب ذلك بعد أن حلمنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة:
﴿يا آدم إن هذا﴾ الشيطان الذي تكبر عليك
﴿عدو لك﴾ دائماً لأن الكبر الناشىء عن الحسد لا يزول
﴿ولزوجك﴾ لأنها منك
﴿فلا يخرجنكما﴾ أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما، ووجه النهي إليه والمراد: هما، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبلاغ في التنفير، وزاد في
356
التنبيه بقوله:
﴿من الجنة﴾ أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها.
ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره، وكانت المرأة تابعة للرجل، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي، والذب والرعي، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة، أفرد بالتحذير من التعب لذلك وعدّاً لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً، وتعريفاً بأن أمرها بيده، وهو إن تصلب قادها إلى الخير، وإلا قادته إلى الضير، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال:
﴿فتشقى﴾ أي فتتعب، ولم يرد شقاوة الآخر، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر، والخبر لا يخلف. ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن.
ذاكراً لها بلفظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر، فقال:
﴿إن لك﴾ أي علينا
﴿ألا تجوع فيها﴾ أي يوماً ما
﴿ولا تعرى*﴾ فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك
﴿وأنك لا تظمؤا﴾
357
بالتهاب القلب
﴿فيها ولا تضحى*﴾ أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمس، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر
﴿فوسوس﴾ أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس
﴿إليه الشيطان﴾ المحترق المطرود، وهو إبليس، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم، وقذف المعاني في قلبه، وكأنه عبر ب
«إلى»، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام، وكأنه قيل: ما دس إليه؟ فقيل:
﴿قال يا آدم﴾ ثم ساق له الغش مساق العرض، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله:
﴿هل أدلك﴾ فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله:
﴿على شجرة الخلد﴾ أي التي من أكل منها خلد، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله:
﴿وملك لا يبلى*﴾ أي لا يخلق أصلاً، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال: نعم، فقال: شجرة الخلد هذه - مشيراً إلى التي نهي عنها - ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
﴿فأكلا﴾ أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل
﴿منها﴾ هو وزوجه، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما
﴿فبدت لهما﴾ لما خرقا من ستر النهي وحرمته
358
﴿سوءاتهما﴾ وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه
﴿وطفقا﴾ أي شرعا
﴿يخصفان﴾ أي يخيطان أو يلصقان
﴿عليهما من ورق الجنة﴾ ليسترا عوراتهما
﴿وعصى آدم﴾ وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر
﴿ربه﴾ أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه
﴿فغوى*﴾ من الغواية وهي الضلال، ولذلك قالوا: المعنى: فضلّ عن طريق السداد، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره، وهو صفيه، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء، لأن رحمته واسعة، وحلمه عظيم، وعفوه شامل، فلا يهمنك أمر القوم اللد، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم.
ولما كان الرضى عنه - مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه - مستبعداً جداً، أثبت
359
ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال:
﴿ثم اجتباه ربه﴾ أي المحسن إليه
﴿فتاب عليه﴾ أي بسبب الاجتباء بالرجوع إلى ما كان عليه من طريق السداد
﴿وهدى*﴾ بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب.
360
ولما كانت دور الملوك لا تحتمل مثل ذلك، وكان قد قدم سبحانه عنايته بآدم عليه السلام اهتماماً به، وكان الخبر عن زوجه وعن إبليس لم يذكر، فكانت نفس السامع لم تسكن عن تشوفها إلى سماع بقية الخبر، أجاب عن ذلك بأنه أهبط من داره المقدسة الحامل على المخالفة والمحمول وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها، فقال على طريق الاستئناف:
﴿قال﴾ أي الرب الذي انتهكت حرمة داره:
﴿اهبطا منها﴾ أيها الفريقان: آدم وتبعه، وإبليس
﴿جميعاً﴾.
ولما كان السياق لوقوع النسيان وانحلال العزم بعد أكيد العهد، حرك العزم وبعث الهم بإيقاع العداوة التي تنشأ عنها المغالبة، فتبعث الهمم وتثير العزائم، فقال في جواب من كأنه قال: على أيّ حال يكون الهبوط:
﴿بعضكم لبعض عدو﴾ وهو صادق بعداوة كل من الفريقين للفريق الآخر: فريق إبليس - الذين هم الجن - بالإضلال، وفريق
360
الإنس بالاحتراز منهم بالتعاويذ والرقى وغير ذلك، وبعداوة بعض كل فريق لبعضه
﴿فإما﴾ أي فتسبب عن ذلك العلم بأنه لا قدرة لأحد منكم على التحرز من عدوه إلا بي ولا حرز لكم من قبلي إلا اتباع أمري، فإما
﴿يأتينكم﴾ أي أيها الجماعة الذين هم أضلّ ذوي الشهوات من المكلفين
﴿مني هدى﴾ تحترزون به عن استهواء العدو واستزلاله
﴿فمن اتبع﴾ عبر بصيغة
«افتعل» التي فيها تكلف وتتميم للتبع الناشىء عن شدة الاهتمام
﴿هداي﴾ الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول المؤيد بدلالة العقل، وللتعبير بصيغة
«افتعل» قال:
﴿فلا يضل﴾ أي بسبب ذلك، عن طريق السداد في الدنيا ولا في الآخرة أصلاً
﴿ولا يشقى*﴾ أي في شيء من سعيه في واحدة منهما، فإن الشقاء عقاب الضلال، ويلزم من نفيه نفي الخوف والحزن بخلاف العكس، فهو أبلغ مما في البقرة، فإن المدعو إليه في تلك مطلق العبادة، والمقام في هذه للخشية والبعث على الجد بالعداوة
﴿إلا تذكرة لمن يخشى﴾ وللإقبال على الذكر
﴿من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً﴾ والتحفظ من المخالفة ولو بالنسيان
﴿فنسي ولم نجد له عزماً﴾. قال الرازي في اللوامع: والشقاء: فراق العبد من الله، والسعادة وصوله
361
إليه؛ وقال الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: ضمن الله عز وجل لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة
﴿ومن أعرض﴾ أي فعل دون فعل الرضيع بتعمد الترك لما ينفعه بالمجاورة
﴿عن ذكري﴾ الذي هو الهدى
﴿فإن له﴾ ضد ذلك
﴿معيشة﴾ حقرها سبحانه بالتأنيث ثم وصفها بأفظع وصف وهو مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع وغيره فقال:
﴿ضنكاً﴾ أي ذات ضنك أي ضيق، لكونه على ضلال وإن رأى أن حاله على غير ذلك في السعة والراحة، فإن ضلاله لا بد أن يرديه، فهو ضنك لكونه سبباً للضيق وآئلاً إليه، من تسمية السبب باسم المسبب، مع أن المعرض عن الله لا يشبع ولا يضل إلى أن يقنع، مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال أن يطيح ببال من يريد الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق، عن مناوأة الخصوم، وتعاقب الهموم، مع أنه لا يرجو ثواباً، ولا يأمن عقاباً، فهو لذلك في أضيق الضيق، لا يزال همه أكبر من وجده
«لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أن له واديين لا بتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه عن أنس رضي الله عنه، وهكذا حال من أتبع نفسه هواها، وأما المقبل على الذكر بكليته فهو قانع راض بما هو فيه، مستكثر من ذكر الله الشارح للصدور الجالي للقلوب فهو أوسع سعة، فلا تغتر بالصور وانظر إلى المعاني.
362
ولما ذكر حاله في الدنيا، أتبعه قوله:
﴿ونحشره يوم القيامة أعمى*﴾ وكان ذلك في بعض أوقات ذلك اليوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، أو يكون ذلك - وهو أقرب مفهوم العبارة - في بعض أهل الضلال ليجتمع مع قوله
﴿أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا﴾ [مريم: ٣٨] وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح من هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«الظلم ظلمات يوم القيامة» ثم استأنف قوله:
﴿قال﴾ مذكراً بالنعمة السابقة استعطافاً لأن من شأن مسلف نعمة أن يربيها وإن قصر المنعم عليه، وغاية ذلك إنما يكون مهما بقي للصلح موضع:
﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ المسبغ نعمه عليّ
﴿لم حشرتني﴾ في هذا اليوم
﴿أعمى وقد كنت﴾ أي في الدنيا، أو في أول هذا اليوم
﴿بصيراً*﴾ فكأنه قيل: بم أجيب؟ فقيل:
﴿قال﴾ له ربه:
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الفعل الشنيع فعلت في الدنيا، والمعنى: مثل ما قلت كان؛ ثم فسر على الأول، وعلل على الثاني، فقال:
﴿أتتك آياتنا﴾ على عظمتها التي هي من عظمتنا
﴿فنسيتها﴾ أي فعاملتها بإعراضك عنها معامله المنسي الذي لا يبصره صاحبه، فقد جعلت نفسك أعمى البصر
363
والبصيرة عنها، كما قال تعالى:
﴿الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري﴾ [الكهف: ١٠١]
﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك النسيان الفظيع، وقدم الظرف ليسد سوقه للمظروف ويعظم اختباره لفهمه فقال:
﴿اليوم تنسى*﴾ أي تترك على ما أنت عليه بالعمى والشقاء بالنار، فتكون كالشيء الذي لا يبصره أحد ولا يلتفت إليه
﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد
﴿نجزي من أسرف﴾ في متابعة هواه فتكبر عن متابعة أوامرنا
﴿ولم يؤمن بآيات ربه﴾ فكفر إحسانه إما بالتكذيب وإما بفعله فعل المكذب.
ولما ذكر أن هذا الضال كان في الدنيا معذباً بالضنك، وذكر بعض ما له في الآخرة، قال مقسماً لما له من التكذيب:
﴿ولعذاب الآخرة﴾ بأيّ نوع كان
﴿أشد﴾ من عذاب الدنيا
﴿وأبقى*﴾ منه، فإن الدنيا دار زوال، وموضع قلعة وارتحال.
364
ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين، وأحاديث المكذبين، بسبب العصيان على الرسل، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى:
﴿أفلم يهد﴾ أي يبين
﴿لهم كم أهلكنا قبلهم﴾ اي كثرة إهلاكنا
364
لمن تقدمهم
﴿من القرون﴾ بتكذيبهم لرسلنا، حال كونهم
﴿يمشون في مساكنهم﴾ ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعدائنا ونفعل ما شئنا! والأحسن أن لا يقدر مفعول، ويكون المعنى: أو لم يقع لهم البيان الهادي، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً:
﴿إن في ذلك﴾ أي الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة
﴿لآيات﴾ عظيمات البيان
﴿لأولي النهى*﴾ أي العقول التي من شأنها النهي عما لا ينفع فضلاً عما يضر، فإنها تدل بتواليها على قدرة الفاعل، وبتخصيص الكافر بالهلاك والمؤمن بالنجاة على تمام العلم مع عموم القدرة، وعلى أنه تعالى لا يقر على الفساد وإن أمهل - إلى غير ذلك ممن له وازع من عقله.
ولما هددهم بإهلاك الماضين، ذكر سبب التأخير عنهم، عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق، وهو مثل أن يقال: فلو أراد سبحانه لعجل عذابهم:
﴿ولولا كلمة﴾ أي عظيمة ماضية نافذة
﴿سبقت﴾ أي في الأزل
﴿من ربك﴾ الذي عودك بالإحسان بأنه يعامل بالحلم والأناة، وأنه لا يستأصل مكذبيك، بل يمد لهم، ليرد من شاء
365
منهم ويخرج من أصلاب بعضهم من يعبده، وإنما ذلك إكراماً لك رحمة لأمتك لأنا كما قلنا أول السورة
﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ بإهلاكهم وإن كانوا قوماً لداً، ولا بغير ذلك، وما أنزلناه إلا لتكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» ﴿لكان﴾ أي العذاب
﴿لزاماً﴾ أي لازماً أعظم لزوم لكل من أذنب عند أول ذنب يقع منه لشرفك عنده وقربك لديه
﴿و﴾ لولا
﴿أجل مسمى*﴾ ضربه لكل شيء لكان الأمر كذلك أيضاً، لكنه سبقت رحمته غضبه فهو لا يعجل، وضرب الأجل فهو لا يأخذ قبله، وكل من سبق الكلمة وتسمية الأجل مستقل بالإمهال فكيف إذا اجتمعا، فتسبب عن العلم بأنه لا بد من استيفاء الأجل وإن زاد العاصي في العصيان تسليم الأمور إلى الله وعدم القلق في انتظار الفرج فقال:
﴿فاصبر على ما يقولون﴾ لك من الاستهزاء وغيره.
ولما كان الصبر شديداً على النفس منافراً للطبع، لأن النفس مجبولة على النقائص، مشحونة بالوسواس، أمر منه لأجل من يحتاج إلى الكمال بما ينهض بها من حضيض الجسم إلى أوج الروح بمقامي
366
التحلي بالكمالات والتخلي عن الرعونات، وبدأ بالأول لأنه العون على الثاني، وذكر أشرف الحلي فقال:
﴿وسبح بحمد ربك﴾ أي اشتغل بما ينجيك من عذابه، ويقربك من جنابه، بأن تنزه من أحسن إليك عن كل نفص، حال كونك حامداً له بإثبات كل كمال، وذلك بأن تصلي له خاصة وتذكره بالذاكرين، غير ملتفت إلى شيء سواه
﴿قبل طلوع الشمس﴾ صلاة الصبح
﴿وقبل غروبها﴾ صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله:
﴿ومن آناء الّيل﴾ أي ساعاته، جمع إنو - بكسر ثم سكون، أي ساعة، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله
﴿فسبح﴾ أي بصلاة المغرب والعشاء، إيذاناً بعظمة صلاة الليل، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال:
﴿وأطراف النهار﴾ ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند
367
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال:
«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الاية. وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة، على أن الفظ
«آناء وأطراف» صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح، وما قبل الغروب العصر فقط، وببعض الآناء المغرب والعشاء، وأدخل الجار لكونهما وقتين، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر، لأن النهار له أربعة أطراف: أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين: التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات - والله الهادي.
368
ولما كان الغالب على الإنسان النسيان فكان الرجاء عنده أغلب، ذكر الجزاء بكلمة الإطماع لئلا يأمن فقال:
﴿لعلك ترضى *﴾ أي افعل هذا لتكون على رجاء من أن يرضاك ربك فيرضيك في الدنيا والآخرة، بإظهار دينك وأعلاء أمرك، ولا يجعلك في عيش ضنك في الدنيا ولا في الآخرة - هذا على قراءة الكسائي وأبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل: لتكون على رجاء من أن تكون راضياً دائماً في الدنيا والآخرة، ولا تكون كذلك إلا وقد أعطاك ربك جميع ما تؤمل.
ولما كانت النفس ميالة إلى الدنايا، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخيلها عن ذلك هؤ الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها، قال مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك:
﴿ولا تمدن﴾ مؤكداً له بالنون الثقيلة
﴿عينيك﴾ أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصداً للاستحسان
﴿إلى ما متعنا به﴾ بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية
﴿أزواجاً﴾ أي أصنافاً متشاكلين
﴿منهم﴾ أي من الكفرة
﴿زهرة﴾ أي تمتيع
369
﴿الحياة الدنيا﴾ لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعوداً، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى:
﴿لنفتنهم فيه﴾ أي لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه
﴿ورزق ربك﴾ الذي عود به أولياءه - وهو في دار السفر- الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق
﴿خير﴾ من زهرتهم، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي
﴿وأبقى*﴾ فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحداً من الخلق حصره، وتكون الدنيا كلها فضلاً عما في أيديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه - وإن كان الكل منه - للتشريف، وفي التعبير بالرب إيذان بالحل، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين والطالحين.
370
ولما أمر بتزكية النفس أتبعه الإعلام بأن منها تزكية الغير، لأن ذلك أدل على الإخلاص، وأجدر بالخلاص، كما دل عليه مثل السفينة الذي ضربه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يأمر بالمعروف ومن يتركه فقال
﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام، ليقودهم إلى كل خير
﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥] ولم يذكر الزكاة لدخولها في التزهيد بالآية التي قبلها.
ولما كانت شديدة على النفس عظيمة النفع، قال
﴿واصطبر﴾ بصيغة الافتعال
﴿عليها﴾ أي على فعلها، مفرغاً نفسك لها وإن شغلتك عن بعض أمر المعاش، لأنا
﴿لا نسألك رزقاً﴾ أي نكلفك طلبه لنفسك ولا لغيرك، فإن ما لنا من العظمة يأبى أن نكلفك أمراً، ولا نكفيك ما يشغلك عنه.
ولما كانت النفس بكليتها مصروفة إلى أمر المعاش، كانت كأنها تقول: فمن أين يحصل الرزق؟ فقال:
﴿نحن﴾ بنون العظمة
﴿نرزقك﴾ لك ولهم ما قدرناه لكم من أيّ جهة شئنا من ملكنا الواسع وإن كان يظن أنها بعيدة، ولا ينفع في الرزق حول محتال، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تدأبوا في تحصيله والسعي فيه، فإن كلاًّ من الجاد فيه والمتهاون به لا يناله أكثر مما قسمناه له في الأزل ولا أقل،
371
فالمتقي لله المقبل على ذكره واثق بوعده قانع راض فهو في أوسع سعة، والمعرض متوكل على سعيه فهو في كد وشقاء وجهد وعناء أبداً
﴿والعاقبة﴾ أي الكاملة، وهي التي لا عاقبة في الحقيقة غيرها، وهي الحالة الجميلة المحمودة التي تعقب الأمور، أي تكون بعدها
﴿للتقوى*﴾ أي لأهلها، ولا معولة على الرزق وغيره توازي الصلاة، فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة - أخرجه أحمد عن حذيفة وعلقه البغوي في آخر سورة الحجر، وقال الطبراني في معجمه الأوسط: ثنا أحمد - هو ابن يحيى الحلواني - ثنا سعيد - هو ابن سليمان - عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة، ثم قرأ
﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ الآية.
لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن سلام إلا بهذا الإسناد، تفرد به معمر، وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسيره: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عبد الله بن أبي زياد القطران ناسيارنا جعفر عن ثابت قال: «كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
372
إذا أصابته خصاصة نادى أهله: يأهلاه! صلوا صلوا»، قال ثابت: وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وقد روى الترمذي وابن ماجه كلاهما في الزهد - وقال الترمذي: حسن غريب - من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يقول الله تعالى: تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتها هلك» وروى أيضاً من حديث عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمر، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
ولما قدم في هذه السورة ما ذكر من قصص الأولين وأخبار
373
الماضين، مبكتاً بذلك من أمر قريش بالتعنت من اليهود، فلم يقدروا على إنكار شيء منه ولا توجيه طعن إليه، وخلله ببدائع الحكم، وغرائب المواعظ في أرشق الكلم، وختم ذلك بأعظم داع إلى التقوى، عجب منهم في كونهم لا يذعنون للحق أنفة من المجاهرة بالباطل، أو خوفاً من سوء العواقب، فقال:
﴿وقالوا﴾ ولعله عطف على ما يقدر في حيز قوله
﴿أفلم يهد لهم إلى قوله: إن في ذلك لآيات﴾ من أن يقال: وقد أبوا ذلك ولم يعدوا شيئاً منه آية:
﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا
﴿يأتينا﴾ أي محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿بآية﴾ أي مثل آيات الأولين
﴿من ربه﴾ المحسن إليه، دالة على صدقه.
ولما تضمن هذا أنهم لم يعدوا شيئاً من هذه البينات - التي أدلى بها على من تقدمه - آية مكابرة، استحقوا الإنكار، فقال:
﴿أولم﴾ أي ألم يأتهم من الآيات في هذا القرآن مما خصصتك به من الأحكام والحكم في أبلغ المعاني بأرشق النظوم ما أعجز بلغاءهم، وأبكم فصحاءهم، فدل قطعاً على أنه كلامي، أو لم
﴿تأتهم بينة ما﴾ أي الأخبار التي
﴿في الصحف الأولى*﴾ من صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود عليهم السلام في التوارة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب الإلهية
374
كقصتي آدم وموسى المذكورتين في هذه السورة وغيرهما مما تقدم قصة لها كما هي عند أهلها على وجوه لا يعلمها إلا قليل من حذاقهم من غير أن يخالط عالماً منهم أو من غيرهم، ومن غير أن يقدر أحد منهم على معارضة ما أتى به في قصتها من النظم المنتج قطعاً أنه لا معلم له إلا الله المرسل له، وأن أتى به منها شاهد لما في الصحف الأولى من ذلك بالصدق، لأنه كلام الله، فهو بينة على غيره لإعجازه، فجميع الكتب الإلهية مفتقرة إلى شهادته افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة، ولا افتقار له بعد العجز عنه إلى شيء أصلاً، فهو أعظم من آيات جميع الأنبياء اللاتي يطلبون مثلها بما لا يقايس.
ولما تبين بذلك أنهم يطعنون بما لا شبهة لهم فيه أصلاً، أتبعه ما كان لهم فيه نوع شبهة لو وقع، فقال عاطفاً على
﴿ولولا كلمة﴾ :
﴿ولو أنا أهلكناهم﴾ معاملة لهم في عصيانهم بما يقتضيه مقام العظمة
﴿بعذاب من قبله﴾ أي من قبل هذا القرآن المذكور في الآية الماضية
375
وما قاربها، وفي قوله
﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ صريحاً، وكذا في مبنى السورة
﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ ﴿لقالوا﴾ يوم القيامة:
﴿ربنا﴾ يا من هو متصف بالإحسان إلينا
﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا
﴿أرسلت﴾ ودلوا على عظمته وعلو رتبته بحرف الغاية فقالوا:
﴿إلينا رسولاً﴾ أي يأمرنا بطاعتك
﴿فنتبع﴾ أي فيتسبب عنه أن نتبع
﴿آياتك﴾ التي يجيئنا بها.
ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا:
﴿من قبل أن نذل﴾ بالعذاب هذا الذل
﴿ونخزى*﴾ بالمعاصي التي عملناها على جهل هذا الخري فلأجل ذلك أرسلناك إليهم وأقمنا بك حجة عليهم، ونحن نترفق بهم، ونكشف عن قلوب من شئنا منهم ما عليها من الرين بما ننزل من الذكر ونجدد من الآيات حتى نصدق أمرك ونعلي شأنك ونكثر أتباعك وننصر أشياعك.
ولما علم بهذا أن إيمانهم كالمتنع، وجدالهم لا ينقطع، بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا، كان كأنه قيل: فما الذي أفعل معهم؟ فقال:
﴿قل كل﴾ أي مني ومنكم
﴿متربص﴾ أي منتظر حسن عاقبة أمره ودوائر الزمان على عدوه
﴿فتربصوا﴾ فإنكم كالبهائم ليس لكم تأمل، ولا تجوزون
376
الجائز إلا عند وقوعه
﴿فستعلمون﴾ أي عما قريب بوعد لا خلف فيه عند كشف الغطاء
﴿من أصحاب الصراط﴾ أي الطريق الواضح الواسع
﴿السويّ﴾ أي الذي لا عوج فيه ولا نتوّ، فهو من شأنه أن يوصل إلى المقاصد.
ولما كان صاحب الشيء قد لا يكون عالماً بالشيء ولا عاملاً بما يعلم منه، قال
﴿ومن اهتدى*﴾ أي من الضلالة فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره، نحن أم أنتم؟ ولقد علموا يقيناً ذلك يوم فتح مكة المشرفة، واشتد اغتباطهم بالإسلام، ودخلوا رغبة في الحلم والكرم، ورهبة من السيف والنقم، وكتنوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه ونفرتهم منه، وهذا معناه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء الراضون في الدنيا والآخرة، وهو عين قوله تعالى:
﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ فقد انطبق الآخر على الأول، ودل على أن العظيم يعامل بالحلم فلا يعجل - والله أعلم.
377
مقصودها الاستدلال على تحقق الساعة وقربها ولو بالموت، ووقوع الحساب فيها على الجليل والحقير، لأن موجدها لا شريك له يعوقه عنها، وهن من لا يبدل القول لديه، والدال على ذلك أوضح دلالة مجموع قصص جماعة ممن ذكر فيها من الأنبياء عليهم السلام، ولا يستقل قصة منها استقلالا ظاهرا بجميع ذلك كما سنبين، ولا يخلو قصو من قصصهم من دلالة على شيء من ذلك فنسبت إلى الكل - والله الموفق.
سورة الأنبياء
378