تفسير سورة طه

حومد

تفسير سورة سورة طه من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(١) طَا. هَا. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
﴿القرآن﴾
(٢) - مَا جَعَلَ اللهُ شَقَاءً لَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ هُدًى وَرَحْمَةً وَدَلِيلاً عَلَى الجَنَّةِ، تُذَكِّرُ بِهِ قَوْمَكَ، وَتَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، فَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَأَصْلَحَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ، وَعَلَيْنَا الحِسَابُ.
لِتَشْقَى - لِتُكَابِدَ الشَّدَائِدَ.
(٣) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَعَثَ رَسُولَهُ رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ، لِيُذَكِّرَ مَنْ يَخْشَى اللهَ، وَيَخْشَعُ قَلْبَهُ لَهُ، وَيَتَأَثَّرُ بِالإِنْذَارِ، وَلِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ حَسُنَ اسْتِعْدَادُهُ لِلْهُدَى.
﴿والسماوات﴾
(٤) - وَهَذا القُرْآنُ نَزَلَ عَلَيْكَ تَنْزِيلاً مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلاَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا.
(٥) - وَالَّذِي نَزَّلَ القُرْآنَ مِنَ المَلأِ الأَعْلَى، وَخَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلاَ، هُوَ الرَّحْمَنُ الَّذِي اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ اسْتَوَاءً يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وَهُوَ المُهَيْمِنُ عَلَى الكَوْنِ كُلِّهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ إِلَيْهِ.
﴿السماوات﴾
(٦) - وَللهِ مَا فِي الوُجُودِ كُلِّهِ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِي الأَرْضِ، وَمَا فِي جَوْفِ الأَرْضِ.
وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - مَا فِي جَوْفِ الأَرْضِ.
(٧) - وَإِنْ تَجْهَرْ بِدُعَاءِ اللهِ وَذِكْرِهِ، فَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَهُ إِلَى غَيْرِكَ دُونَ أَنْ تَرْفَعَ بِهِ صَوْتَكَ، وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ مِمَّا يَخْطُرُ فِي بَالِكَ دُونَ أَنْ تَتَفَوَّهَ بِهِ.
وَأَخْفَى - حَدِيثَ النَّفْسِ وَخَوَاطِرَهَا.
(٨) - وَالَّذِي نَزَّلَ عَلَيْكَ القُرْآنَ هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُنْعَتَ بِصِفَاتِ الكَمَالِ المُتَقَدِّمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْدِيسِ وَالتَّمْجِيدِ (لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى).
﴿أَتَاكَ﴾
(٩) - يَقُصُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ ﷺ حَدِيثَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءَ الوَحْيِ إِلَيْهِ.
﴿رَأَى﴾ ﴿آنَسْتُ﴾ ﴿آتِيكُمْ﴾
(١٠) - بَعْدَ أَنْ قَضَى مُوسَى مُدَّةَ عَقْدِهِ مَعَ شُعَيْبٍ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، عَلَى رِعَايَةِ الغَنَمِ لِقَاءَ تَزْوِيجِهِ بِابْنَتِهِ، سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ قَاصِداً بِلادَ مِصْرَ، بَعْدَ أَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، فَظَلَّ الطَّرِيقَ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ شَاتِيَةً مُمْطِرَةً، وَالبَرْدُ قَارِساً، فَحَاوَلَ إِشْعَالَ النَّارِ لِيَتَدَفَّأَ، وَقَدَحَ زَنْدَهُ لِيُشْعِلَ بِشَرَارَتِهِ نَاراً كَمَا جَرَتْ لَهُ العَادَةُ، فَلَمْ يُفْلِحْ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ زِنْدِهِ شَرَرٌ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الجَبَلِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ: إِنَّهُ رَأَى نَاراً، وَطَلَبَ إِلَى زَوْجَتِهِ البَقَاءَ حَيْثُ هِيَ لِيَذْهَبَ إِلَى النَّارِ، فَيَرَى مَنْ حَوْلَهَا، وَيَطْلُبَ مِنْهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ شِهَاباً مِنْ نَارٍ (قَبَساً) يُوقِدُ بِهِ نَاراً لَهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ.
﴿أَتَاهَا﴾ ﴿ياموسى﴾
(١١) - فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى النَّارَ الَّتِي رَأَهَا، وَجَدَهَا تَشْتَعِلُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ النَّارُ تَوَهُّجاً، ازْدَادَتِ الشَّجَرَةُ اخْضِرَاراً، فَوَقَفَ تَعَجُّباً، مِمَّا يَرَى. فَنُودِيَ: يَا مُوسَى وَصَدَرَ إِلَيْهِ النِّدَاءُ مِنَ الجِهَةِ اليُمْنَى مِنَ الوَادِي، فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، كَمَا فِي آيَةٍ أُخْرَى. فَرَدَّ مُوسَى عَلَى الصَّوْتِ الَّذِي نَادَاهُ قَائِلاً: مَنِ المُتَكِلِّمُ؟
(١٢) - فَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّوْتُ قَائِلاً: إِنَّ الَّذِي يُكَلِّمُكَ هُوَ اللهُ رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ مِنْ رِجْلَيْكَ.
(وَقِيلَ إِنَّ نَعْلَيْهِ كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ أَيْ غَيْرِ مَذْبُوحٍ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ أَمَرَ بِخَلْعِهِمَا تَعْظِيماً لِلْبُقْعَةِ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ لِيَطَأَ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ فَيَمَسَّ تُرَابُهَا جِلْدَهُ).
طُوَى - هُوَ اسْمُ الوَادِي الَّذِي كَانَ فِيهِ مُوسَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
(١٣) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ عَلَى جِمِيعِ المَوْجُودِينَ فِي زَمَانِهِ لِيَكُونَ رَسُولَهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ الاسْتِمَاعَ لِمَا سَيُوحِيِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يَقُولُهُ لَهُ.
﴿الصلاة﴾
(١٤) - إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ رَبُّ المَخْلُوقَاتِ وَخَالِقُهَا، وَالمُتَصَرِّفُ فِيهَا، فَقُمْ يَا مُوسَى بِعِبَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، وَأَدِّ الصَّلاَةَ عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ، بِكَامِلِ شُرُوطِهَا لِتَذْكُرَ بِهَا رَبَّكَ. وَتَدْعُوهُ دُعاءً خَالِصاً لاَ يَشُوبُهُ إِشْرَاكٌ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ "). (رَوَاهُ البُخَارِي وَمُسْلِمْ.
﴿آتِيَةٌ﴾
(١٥) - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ مَحَالَةَ وَلاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ يُطْلِعُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَوْعِدِهَا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَكَادُ يُخْفِيهَا عَنْ نَّفْسِهِ الكَرِيمَةِ (أَكَادُ أُخْفِيهَا)، فَهِيَ مِمَّا اسْتَأَثَّرَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَحْدَهُ، لِيَبْقَى النَّاسُ عَلَى حَذَرٍ بِاسْتِمْرَارٍ، وَإِنَّهُ تَعَالَى سَيُقِيمُ السَّاعَةَ، وَيَحْشُرُ النَّاسَ لِلْحِسَابِ، لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ وِكَسَبَتْ.
السَّاعَةَ - القِيَامَةَ.
﴿هَوَاهُ﴾
(١٦) - وَيُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى المُكَلَّفِينَ فِي تَوْجِيهِهِ الخِطَابَ لِرَسُولِهِ مُوسَى (وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ) فَيَقُولُ تَعَالَى: لاَ تَتَّبِعُوا سَبِيلَ مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ، وَأَنْكَرَ البَعْثَ وَالحِسَابَ، وَأَقْبَلَ عَلَى المَلَذَّاتِ فِي دُنْيَاهُ، وَعَصَى رَبَّهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، لأَنَّ اتِّبَاعَ المَلَذَّاتِ، وَعِصْيَانِ اللهِ، يُوصِلاَنِ الإِنْسَانَ إِلَى الهَلاَكِ، وَالعَطَبِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ.
فَتَرْدَى - فَتَهْلَكُ.
﴿ياموسى﴾
(١٧) - ثُمَّ سَأَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَنِ العَصَا الَّتِي يَحْمِلُهَا بِيَمِينِهِ فَقَالَ لَهُ: وَمَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي تَحْمِلُهُ بِيَدِكَ اليُمْنَى؟
﴿أَتَوَكَّأُ﴾ ﴿مَآرِبُ﴾
(١٨) - فَقَالَ مُوسَى: إِنَّهَا عَصَا يَعتَمِدُ عَلَيْهَا فِي مَشْيِهِ (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا) وَيُحَرِّكُ بِهَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا، وَثَمَرُهَا، فَتَأْكُلَهُ الغَنَمُ، دُونَ ضَرْبٍ أَوْ خَبْطٍ (أَهُشُّ بِهَا)، وَإِنَّ لَهُ فِيهَا مَنَافِعُ أُخْرَى، وَحَاجَاتٍ غَيْرَ مَا ذَكَرَ.
أَهُشُّ بِهَا - أُحَرِّكُ بِهَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا.
مَآرِبُ أُخْرَى - مَنَافِعُ وَاسْتِعْمَالاَتٌ أُخْرَى.
﴿ياموسى﴾
(١٩) - قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمُوسَى: أَلْقِ العَصَا الَّتِي تُمْسِكُهَا بِيَمِينِكَ لِتَرَى لَهَا شَأْناً آخَرَ.
﴿فَأَلْقَاهَا﴾
(٢٠) - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ، فَانْقَلَبَتْ حَيَّةٌ تَمْشِي (تَسْعَى). وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قَالَ إِنَّ العَصَا كَانَتْ تَهْتَزُّ بِسُرْعَةٍ وَكَأَنَّهَا جَانٌّ، (وَالجَانُّ نَوْعٌ سَرِيعُ الحَرَكَةِ مِنَ الحَيَّاتِ).
حَيٌَّ تَسْعَى - تَمْشِي بِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ.
(٢١) - فَلَمَّا رَأَى مُوسَى الحَيَّةَ تَتَحَرَّكُ بِسُرْعَةٍ خَافَ وَوَلّى مُدَبِّراً، لاَ يَلْوِي عَلَى شَيءٍ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى)، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالرُّجُوعِ فَرَجَعَ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَقِفُ، وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: خُذِ العَصَا فَإِنَّهُ سَيُعِيدُهَا، عَصاً كَمَا كَانَتْ قَبْلاً.
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا - إِلَى حَالَتِهَا التِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلاً.
﴿آيَةً﴾
(٢٢) - ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى بِأَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ (جَنَاحِهِ) (وَفِي آيَةٍ أُخْرَى جَاءَ: ﴿اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ فَأَدْخَلَ مُوسَى يَدَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ، مِنْ فَتْحَةٍ ثَوْبِهِ (جَيْبِهِ)، ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ تَتَلأَلأُ دُونَ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَذًى أَوْ مَرَضٌ أَوْ بَرَصٌ... فَإِذَا أَعَادَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهَذا بُرْهَانٌ ثَانٍ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
إِلَى جَنَاحِكَ - إِلَى جَنْبِكَ تَحْتَ العَضُدِ أَوْ تَحْتَ الإِبْطِ.
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ - مِنْ غَيْرِ دَاءٍ أَوْ مَرَضٍ.
﴿آيَاتِنَا﴾
(٢٣) - وَهَاتَانِ الآيَتَانِ اللَّتَانِ أُرِيْتَهُمَا، السَّاعَةَ، هُمَا مِنء آيَاتِ اللهِ الكُبْرَى، وَقَعَتَا تَحْتَ حِسِّكَ وَبَصَرِكَ، لِتَطْمَئِنَّ إِلَى أَنَّكَ لَقِيتَ رَبَّكَ فِعْلاً، تَمْهِيداً لِلنُّهُوضِ بِأَمَانَةِ الرِّسَالَةِ الكُبْرَى الَّتِي سَيَعْهَدُ بِهَا إِلَيْكَ رَبُّكَ.
(٢٤) - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي خَرَجْتَ هَارِباً مِنْ بَطْشِهِ، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادِهِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأْمُرْهُ فَلْيُحْسِنْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلاَ يُعَذِّبْهُمُ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وَبَغَى، وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَنَسِيَ الرَّبَّ الأَعْلَى.
طَغَى - جَاوَزَ الحَدَّ فِي العُتُوِّ وَالتَّجَبُّرِ.
(٢٥) - فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ (وَشَرْحُ الصَّدْرِ يَعْنِي اطْمِئْنَانَ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ الإِنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ، وَإِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَى مَا تَقُومُ بِهِ تَحَوَّلَتْ مَشَقَّةُ التَّكْلِيفِ إِلَى مُتْعَةٍ).
(٢٦) - ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُيَسِّرَ لَهُ أَمْرَهُ، وَأَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَجَاحَ مَهَمَّتِهِ، وَإِذَا لَمْ يُيَسِّرِ اللهُ الأَمْرَ لِعَبْدِهِ فَإِنَّ العَبْدَ بِقُواهُ المَحْدُودَةِ لاَ يَمْلِكُ ضَمَانَ النَّجَاحِ.
(٢٧) - وَكَانَ فِي لِسَانِ مُوسَى حَبْسَةٌ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَزُولَ مِنْهَا شَيءٌ بِقَدْرِ مَا يُمْكِّنُهُ مِنَ الإِفْصَاحِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنِ المَهَمَّةِ الَّتِي أَرْسَلَهُ بِهَا إِلَى فِرْعَوْنَ.
(٢٨) - لِيَفْهَمَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ حِينَمَا يُبَلِّغُهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ.
(٢٩) - ثُمَّ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهِ لِيَكُونَ لَهُ رِدْءاً، وَعَوْناً، عَلَى أَدَاءِ مَهَمَّتِهِ الشَّاقَّةِ.
الوَزِيرِ - المُعِينُ.
﴿هَارُونَ﴾
(٣٠) - ثُمَّ خَصَّصَ طَلَبَهُ، فَطَلَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي يُرِيدُهُ مُعِيناً فِي أَدَاءِ مَهَمَّتِهِ أَخَاهُ هَارُونَ، فَهُوَ أَفْصَحُ مِنْهُ لِسَاناً كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.
(٣١) - تَشُدُّ بِهِ أَزْرِي وَتُقَوِّينِي بِهِ.
أَزْرِي - ظَهْرِي وَقُوَِّتِي.
(٣٢) - وَتَجْعَلُهُ حَامِلاً مَعِي أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ فِي هَذِهِ المُهِمَّةِ الكُبْرَى الَّتِي أَمَرْتَنِي بِالقِيَامِ بِهَا.
(٣٣) - وَالأَمْرُ الجَلِيلُ الَّذِي كَلَّفَ اللهُ بِهِ مُوسَى يَحْتَاجُ إِلَى الكَثِيرِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَذِكْرِ اللهِ، لِتَقْوَى النَّفْسِ وَتَطْمَئِنَّ وَتَهْدَأَ.
(٣٤) - كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى الكَثِيرِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، لِتَطْمَئِنَّ النَّفْسُ وَتَهْدَأُ فَتَتَمَكَّنُ مِنَ القِيَامِ بِمَا كُلِّفَتْ بِهِ بِرَوِيَّةٍ وَهُدُوءِ بَالٍ.
(٣٥) - لَقَدْ كُنْتَ يَا رَبِّ بَصِيراً بِنَا إِذْ اصْطَفَيْتََنا، وَآتَيْتَنَا النُّبُوَّةَ وَأَمَرْتَنَا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَدِوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ.
﴿ياموسى﴾
(٣٦) - فَأَجَابَ الرَّبُ قَائِلاً: إِنَّ دَعْوَتَهُ قَدِ اسْتُجِيبَتْ جَمِيعُهَا فِيمَا سَأَلَهُ مِنْ شَرْحِ صَدْرِهِ، وَتَيْسِيرِ أَمْرِهِ، وَشَدِّ أَزْرِهِ بِأَخِيهِ هَارُونَ وَجَعَلَهُ وَزِيراً وَنَبِيّاً.
أُوتِيتَ سُؤلَكَ - أُعْطِيتَ مَا سَأَلْتَ.
(٣٧) - ثُمَّ قَالَ لَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ، مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ تَوَلاَّهُ بِعِنَايَتِهِ، وَأَكْرَمَهُ وَحِفَظَهُ وَرَعَاهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَضَنَّ عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ فِيمَا سَأَلَ.
(٣٨) - وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَقْتُلُ الذُّكُورَ مِنْ مَوَالِيدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِرُؤْيَا رَآهَا فَأَزْعَجَتْهُ، فَلَمَّا وُلِدَ مُوسَى خَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فِرْعَونُ، فَأَلْهَمَ اللهُ أُمَّ مُوسَى إِلْهَاماً طَمْأَنَ قَلْبَها.
(٣٩) - وَهذا الإِلْهَامُ الَّذِي أَلْهَمَهَا اللهُ هُوَ أَنْ تَضَعَ مُوسَى فِي تَابُوتٍ صَغِيرٍ، فَتَقْذِفَهُ فِي المَاءِ (اليَمِّ)، فَيَحْمِلَهُ اليَمُّ إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فِي المَكَانِ المُواجِهِ لِقَصْرِ فِرْعَوْنَ، فَيَأْخُذُهُ فِرْعَوْنُ - وَهُوَ عَدُوٌّ للهِ وَلِمُوسَى - فَيُرَبِّيِهِ وَزَوْجَهُ، وَيَقْذِفُ اللهُ حُبَّهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ وَزَوْجِهِ، وَهَكَذا يُرَبَّى مُوسَى بِعَيْنِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ، وَيُنْشَّأَ أَحْسَنَ تَنْشِئَةٍ، فَفَعَلَتْ أُمُّ مُوسَى مَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا، فَأَخَذَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، وَفِرَحَتْ بِهِ زَوْجُهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِ المَرَاضِعَ، فَلَمْ يَكُنْ يَقْبَلُ الرَّضَاعَ مِنْ ثَدِيِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ لِيُيَسِّرَ اللهُ عَوْدَتَهُ إِلَى أُمِّهِ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهَا وَلاَ تَحْزَنَ لِفِرَاقِهِ.
اقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ - اطْرَحِيهِ فِي مَاءِ النَّهْرِ.
لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي - لِتُرَبَّى بِمُرَاقَبَتِي وَرِعَايَتِي
﴿فَرَجَعْنَاكَ﴾ ﴿فَنَجَّيْنَاكَ﴾ ﴿وَفَتَنَّاكَ﴾ ﴿ياموسى﴾
(٤٠) - فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ فَأَبَاهَا، جَاءَتْ أُخْتُ مُوسَى، وَقَالَتْ لآلِ فِرْعَوْنَ: هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وَيُرْضِعُونَهُ؟ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أُمِّهَا فَعَرَضَتْ ثَدْيَهَا عَلَى مُوسَى فَأَخَذَهُ، فَفَرِحَ جَمَاعَةُ فِرْعَوْنَ فَرَحاً شَدِيداً، وَاسْتَأْجَرُوهَا لإِرْضَاعِهِ، وَبِذَلِكَ قَرَّتْ عَيْنُهَا، وَاطْمَأَنَّتْ عَلَى سَلاَمَةِ ابْنِهَا، إِذْ أَصْبَحَ مَشْمُولاً بِرِعَايَةِ فِرْعَوْنَ وَزَوْجِهِ.
وَلَمَّا كَبُرَ مُوسَى، وَجَدَ قِبْطِيّاً يَتَخَاصَمُ مَعَ إِسْرَائِيلِيٍّ، فَضَرَبَ مُوسَى القِبْطِيَّ بِجُمْعِ يَدِهِ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِمَقْتَلِهِ، ثُمَّ وُجَدَ ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيَّ يَتَخَاصَمُ مَعَ قِبْطِيٍّ آخَرَ فَاسْتَغَاثَ الإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى، فَوَبَّخَهُ مُوسَى عَلَى شُرُورِهِ، فَخَافَ الإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُوسَى، وَقَالَ لَهُ لَعَلَّكَ تُرِيدُ قَتْلِي كَمَا قَتَلْتَ القِبْطِيَّ يَوْمَ أَمْسِ. وَعَلِمَ فِرْعَوْنُ بِأَنَّ مُوسَى هُوَ قَاتِلُ القِبْطِيِّ فَهَرَبَ إِلَى مَدْيَنَ. وَلِبِثَ فِيهَا عَشْرَ سِنِينَ يَرْعَى الغَنَمَ فِيهَا لِشُعَيْبٍ.
ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى الأَجَلُ سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ، وَفِي الطَّرِيقِ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ رِسَالَتَهُ فِي الوَقْتِ المُقَدَّرِ.
حَدِيثُ الفُتُونِ:
وَسَأَلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الفُتُونِ الوَارِدِ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ لَهُ:
- أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ الذُّكُورِ مِنَ المَوْلُودِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ رِجَالُهُ يَطُوفُونَ، فَلاَ يَتْرُكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ المَوْجُودِينَ فِي مِصْرَ وَلِيداً ذَكَراً إِلاَّ ذَبُحُوهُ، وَلَمَّا خَافَ الأَقْبَاطُ أَنْ يَفْنَى بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَبْقَى لِلأَقْبَاطِ مَنْ يَخْدِمَهُمْ، وَيَقُومُ بِالأَعْمَالِ الشَّاقَةِ لَدَيْهِمْ، اسْتَقَرَّ رَأْيُ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنْ يَذْبَحَ ذُكُورَ الأَطْفَالِ سَنَةً، وَيَتْرُكَهُمْ سَنَةً. وَحَمَلَتْ أُمّ مُوسَى بِهِ فِي عَامٍ يَذْبَحُ فِيهِ الذَّكُورُ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ، فَمَا دَخَلَ عَلَى مُوسَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، أَوْ مِمَّا يُرَادُ بِهِ هُوَ مِنَ الفُتُونِ.
- ثُمَّ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَخَافَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَتْهُ فِي اليَمِّ بِوَحْيٍّ مِنَ اللهِ، فَلَمَّا اخْتَفَى عَنْهَا ابْنُهَا وَسْوَسَ لَهَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا صَنَعْتُ بِابْنِي، لَوْ أَنَّهُ بَقِيَ عِنْدِي وَذُبِحَ فِي حِجْرِي لَوَارَيْتُهُ التُّرَابَ، فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْكُلُهُ دَوَابُّ البَحْرِ.
- وَلَمَّا التَقَطَهُ جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ فِي التَّابُوتِ حَمَلْنَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ أَحَبَّتْهُ، بِوَحْيٍّ مِنَ اللهِ، مَحَبَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَجَاءَهَا الذَّبَّاحُونَ لِيَذْبَحُوا مُوسَى، وَذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ.
- فَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ اتْرُكُوهُ حَتَّى آتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ هَذا الوَاحِدُ لاَ يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ، فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكْ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ، أَمَّا أَنَا فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهِ.
- ثُمَّ عَرَضَتْهُ عَلَى المَرَاضِعِ فَأَبَاهَا، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهاً فَقَالَتْ لابْنَتِهَا قُصِّي أَثَرَهُ فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ فَعَرَفَتْهُ، وَلَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهُ رَفَضَ الرَّضَاعَ مِنَ المُرْضِعَاتِ، تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ؟ فَقَالُوا وَمَا يُدْرِيكَ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ؟ هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ.
2388
- ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى رَجُلاً إِسْرَائِيلِيّاً يَتَخَاصَمُ مَعَ قَبْطِيٍّ فَاسْتَغَاثَ الإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى فَقَتَلَ القَبْطِيَّ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَنْ قَتَلَهُ، فَخَافَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ. ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيُّ يَتَخَاصَمُ مَعَ قِبْطِيٍّ آخَرَ، فَاسْتَاءَ مُوسَى مِنْ فِعْلِ الإِسْرَائِيلِيِّ، فَقَالَ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فَخَافَ الإِسْرَائِيلِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ؟ فَعَرَفَ القِبْطِيُّ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ القِبْطِيُّ الآخَرَ، فَذَهَبَ إِلَى فِرْعَوْنٍ يُعْلِمُهُ بِمَا سَمِعَ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ مُوسَى، وَأَرْسَلَ الذَّبَّاحِينَ يَبْحَثُونَ عَنْهُ، وَسَمِعَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى بِمَا أَمَرَ بِهِ فِرْعَوْنُ، فَأَسْرَعَ إِلَى مُوسَى يُخْبِرُهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ فِرْعَوْنُ، فَهَرَبَ مُوسَى إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَهَذا مِنَ الفُتُونِ أَيْضاً.
وَبَقِيَ مُوسَى عَدداً مِنَ السِّنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ يَرْعَى الغَنَمَ لِصِهْرِهِ، حَتَّى انْقَضَتْ المُدَّةُ التِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فِي الوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ وَأَرَادَتْهُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، لِيَجْعَلَهُ رَسُولاً.
مِنْ يَكْفُلُهُ - مَنْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُرَبِّيهِ.
تَقَرَّ عَيْنُها - تُسَرَّ بِلِقَائِكَ.
فَتَنَّاكَ فُتُوناً - خَلَّصْنَاكَ مِنَ المِحَنِ تَخْلِيصاً.
جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ - عَلَى وَفْقِ الوَقْتِ المُقَدَّرِ لِرِسَالَتِكَ.
2389
(٤١) - وَاخْتَرْتُكَ لإِقََامَةِ حُجَّتِي، وَاصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَتِي وَبِكَلاَمِي، فَصِرْتَ أَشْبَهُ بِمَنْ يَرَاهُ المَلِكُ أَهْلاً لِكَرَامَتِهِ، فَيُقَرِّبُهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ خَوَاصِّهِ.
﴿بِآيَاتِي﴾
(٤٢) - اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ هَارُونَ مُؤَيَّدَيْنِ بِمُعْجِزَاتِي، وَحُجَجِي، وَبَرَاهِينِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِكُمَا، إِلَى فِرْعَوْنَ، وَلاَ تَفْتُرا عَنْ ذِكْرِي عِنْدَ لِقَائِكُمَا إِيَّاهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْناً لَكُمَا، وَقُوَّةً وَسُلْطَاناً كَاسِراً لَهُ، وَلاَ تَتَهَاوَنَا فِي دَعْوَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ مَا أَرْسَلْتُكُمَا بِهِ إِلَيْهِ.
لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي - لاَ تَفْتُرَا عَنْ ذِكْرِي حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَتِي إِلَيْهِ.
(٤٣) - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ عَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ عَلَى اللهِ وَعَصَاهُ.
(٤٤) - وَادْعُوَاهُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنَى إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَتَرْكِ العُتُوِّ، وَالتَّجَبُّرِ وَالاسْتِعْلاَءِ عَلَى خَلْقِ اللهِ، لَعَلَّ الكَلاَمَ الرَّقِيقَ اللَّيِّنِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ، وَيَتَذَكَّرُ آيَاتِ اللهِ وَيَخْشَى لِقَاءَهُ وَعَذَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ.
(٤٥) - فَقَالَ هَارُونَ وَمُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: يَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَبْطِشَ بِنَا فِرْعَوْنُ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَالكَفِّ عَنِ العُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ، وَنَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَ لَنَا بِالعُقُوبَةِ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْنَا.
يَفْرُطَ عَلَيْنَا - يُعَجِّلَ عَلَيْنَا بِالعُقُوبَةِ.
يَطْغَى - يَدْادُ طُغْيَاناً وَعُتُوّاً.
(٤٦) - قَالَ اللهُ تَعَالَى: لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي، فَلاَ يَتَكَلَّمُ، وَلاَ يَتَنَفَّسُ، وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي، وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي.
إِنَّنِي مَعَكُمَا - إِنِّي حَافِظُكُمَا وَنَاصِرُكُمَا.
﴿إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿جِئْنَاكَ﴾ ﴿بِآيَةٍ﴾ ﴿والسلام﴾
(٤٧) - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقُولاَ لَهُ: إِنَّنَا رَسُولاَ اللهِ رَبِّكَ، وَرَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أُرْسِلْنَا إِلَيْكَ لِنَدْعُوَكَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَإِلَى الكَفِّ عَنِ البَغْيِ، وَالطُّغْيَانِ، وَالضَّلاَلِ، وَلِنَدْعُوَكَ إِلَى الكَفِّ عَنْ تَعْذِيبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ جِئْنَاكَ بِحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ مِنَ اللهِ (آيَةٍ)، عَلَى صِدْقِ قَوْلِنَا إِنَّنَا رَسُولاَنِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ إِلَيْكَ، وَالسَّلاَمَةُ وَالأَمْنُ مِنَ العَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رُسُلَ رَبِّهِ، وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ.
(٤٨) - وَلَقَدْ أَخْبَرَنا اللهُ فِيمَا أَوْحَاهُ أَنَّ عَذَابَهُ الأَلِيمُ سَيَنْزِلُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمَنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَبِمَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الإِيمَانِ، وَيَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَالاسْتِجَابَةِ إِلَى دَعْوَةِ الحَقِّ وَالهُدَى.
(٥٠) - قَالَ مُوسَى: رَبَّنَا هُوَ الَّذِي وَهَبَ الوُجُودَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ فِيهَا، وَفَطَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ هَدَى كُلَّ شَيءٍ إِلَى وَظِيفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا، وَأَمَدَّهُ بِمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الوَظِيفَةِ، وَبِمَا يُعِينُهُ عَلَيْهَا. فَكُلُّ شَيءٍ مَخْلُوقٌ وَمَعَهُ الاهْتِدَاءُ الطَّبِيعِيُّ الفِطْرِيُّ لِلوَظِيفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ لَهَا.
أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ - صُورَتَهُ الَّلائِقَةُ بِخَاصَّتِهِ.
هَدَى - أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ.
(٥٠) - قَالَ مُوسَى: رَبَّنَا هُوَ الَّذِي وَهَبَ الوُجُودَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ فِيهَا، وَفَطَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ هَدَى كُلَّ شَيءٍ إِلَى وَظِيفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا، وَأَمَدَّهُ بِمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الوَظِيفَةِ، وَبِمَا يُعِينُهُ عَلَيْهَا. فَكُلُّ شَيءٍ مَخْلُوقٌ وَمَعَهُ الاهْتِدَاءُ الطَّبِيعِيُّ الفِطْرِيُّ لِلوَظِيفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ لَهَا.
أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ - صُورَتَهُ الَّلائِقَةُ بِخَاصَّتِهِ.
هَدَى - أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ.
2399
(٥١) - قَالَ فِرْعَوْنُ: فَمَا هُوَ حَالُ الأُمَمِ الخَالِيَّةِ (القُرُونِ الأُوْلَى)، كَعَادٍ وَثَمُودٍ وَقَوْمِ نُوْحٍ... أَيْنَ ذَهَبَتْ، وَمَنْ كَانَ رَبُّهَا، وَمَا يَكُونُ شَأْنُهَا، وَقَدْ هَلَكَتْ هَذِهِ الأُمَمُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَعْرِفِ اللهَ، وَقَدْ عَبَدَتْ سِوَاهُ؟
فَمَا بَالُ - فَمَا حَالُ؟
القُرُونِ - الأُمَمِ.
2400
﴿أَزْوَاجاً﴾
(٥٣) - وَتَابَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَائِلاً لِفِرْعَوْنَ: إِنَّ رَبَّنَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ الأَرْضَ لِلنَّاسِ قَرَاراً يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا، وَيَقُومُونَ وَيَنَامُونَ عَلَيْهَا، وَيُسَافِرُونَ عَلَى ظَهْرِهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا طُرُقاً يَمْشُونَ فِيهَا، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَراً فَأَخْرَجَ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً مُخْتَلِفاً، وَزُرُوعاً وَثِمَاراً مُخْتَلِفَةً فِي أَصْنَافِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا.
الأَزْوَاجُ - الأَنْوَاعُ.
مَهْداً - مُمَهَّدَةً كَالفِرَاشِ.
﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾
(٥٥) - مِنَ الأَرْضِ مَبْدَؤُكُمْ، فَأَبُوكُمْ آدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْهَا، وَنُطَفُكُمْ تَتَخَلَّقُ مِمَّا تَتَغَذَّوْنَ بِهِ مِمَّا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ، وَإِلَيْهَا تَصِيرُونَ إِذَا مِتُّمْ، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُكُمْ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يَوْمَ الحَشْرِ مَرَّةً أُخْرَى.
﴿ياموسى﴾
(٥٧) - وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ الآيَةَ الكُبْرَى، وَهِيَ تَحَوُّلُ العَصَا إِلَى حَيَّةٍ، وَخُرُوجُ يَدِ مُوسَى بَيْضَاءَ تَتَلأْلأُ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ بِهَا، حِينَمَا نَزَعَهَا مُوسَى مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ، قَالَ لِمُوسَى: هَذَا سِحْرٌ جِئْتَنَا بِهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ، بَعْدَ غَيْبَتِكَ الطَّوَيلَةِ، لِتَسْحَرَنَا، وَتَسْتَوْلِي عَلَى عُقُولِ النَّاسِ لِكَيْ يَتْبَعُوكَ، وَتُكَاثِرَنَا بِهِمْ، وَتُسَيْطِرَ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ، وَتُخْرِجَ القِبْطَ مِنْهَا. وَغَايَةُ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا القَوْلِ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِ القِبْطِ التَّعَصُّبَ العُنْصُرِيَّ، فَلاَ يَتَّبِعُوا مُوسَى، وَلاَ يَهْتَمُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ
(٥٩) - فَقَالَ لَهُمْ مُوْسَى: إِنَّ المَوْعِدَ هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ، (وَيَبْدُو أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ) فَيَكُونُ النَّاسُ مُتَفَرِّغِينَ مِنْ مَشَاغِلِهِمْ، فَيَجْتَمِعُونَ لِيُشَاهِدُو قُدْرَةَ اللهِ وَمُعْجِزَاتِهِ، وَبُطْلاَنِ السِّحْرِ، وَخَيْبَةَ السَّاحِرِينَ. وَاقْتَرَحَ مُوسَى أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ جَمِيعاً، وَأَنْ يَجْتَمِعُوا ضُحَى ذَلِكَ اليَوْمِ، لِيَكُونَ مَا يَقَعُ مِنَ المُبَارَزَةِ بَيْنَ مُوسَى وَالسَّحَرَةِ، أَوْضَحَ لِلنَّاسِ، وَأَظْهَرَ.
يَوْمُ الزِّينَةِ - يَوْمُ عِيدٍ مَشْهُودٌ عِنْدَهُمْ.
(٦١) - فِقَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: لاَ تُحَاوِلُوا خِدَاعَ النَّاسِ بِسِحْرِكُمْ، فَتُظْهِرُوا لَهُمْ وَكَأَنَّ أَشْيَاءَ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةٌ، فَتَكُونُوا قَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى اللهِ فَيُهْلِكَكُمُ اللهُ (يُسْحِتَكُمْ) بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، عِقَاباً لَكُمْ عَلَى كَذِبِكُمْ وَافْتِرَائِكُمْ، وَلاَ يَبْقَى لَكُمْ أَثَراً، وَالَّذِي يَفْتَرِي الكَذِبَ عَلَى اللهِ فَاشِلٌ مَغْلُوبٌ لاَ مَحَالَةَ.
وَيْلَكُمْ - دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلاَكِ.
فَيُسْحِتَكُمْ - فَيُهْلِكَكُمْ وَيَسْتَأْصِلَكُمْ وَيُبِيدَكُمْ.
﴿هذان﴾ ﴿لَسَاحِرَانِ﴾
(٦٣) - ثُمَّ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الأَغْلَبِيَّةِ عَلَى القَوْلِ إِنَّ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ سَاحِرَانِ، عَالِمَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ وَفُنُونِهَا، وَهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ وَقَوْمَكُمْ بِسِحْرِهِمَا، وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ تَتْبَعَهُمَا العَامَّةُ، ثُمَّ يُقَاتِلاَنِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وَيَنْتَصِرَانِ عَلَيْهِ وَيُخْرِجَانِكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وَيَسْتَأْثِرَانِ بِالسِّحْرِ، وَهُوَ طَرِيقَةُ عَيْشِكُمُ الفُضْلَى (المُثْلَى)، وَمَوْرِدُ رِزْقِكُمْ، وَمَصْدَرُ جَاهِكُمْ.
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى - بِسُنَّتِكُمْ وَشَرِيعَتِكُمْ الفُضْلَى.
﴿ياموسى﴾
(٦٥) - فَقَالَ السَّحَرَةُ لِمُوسَى إِمَّا أَنْ تَبْدَأَ بِإِظْهَارِ مَا عِنْدَكَ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ، وَتُلْقِيهِ أَمَامَ النَّاسِ وَالمَلِكِ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ البَادِئِينَ.
(٦٧) - فَشَعَرَ مُوسَى بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ. وَقَالَ مُفَسِّرُونَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتِنَهُمُ السَّحَرَةُ، وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يُلْقِي هُوَ عَصَاهُ، وَيُبْطِلَ عَمَلَ السَّحَرَةِ.
أَوْجَسَ - اسْتَشْعَرَ فِي نَفْسِهِ.
﴿سَاحِرٍ﴾
(٦٩) - وَأَلْقِ عَصَاكَ فَإِنَّهَا تَتَحَوَّلُ إِلَى ثُعْبَانٍ ضَخْمٍ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ مَا أَلْقُوهُ مِنَ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ، وَيُبْطِلَ جَمِيعَ مَا صَنَعُوهُ مِنَ السِّحْرِ، لأَنَّ مَا صَنَعُوهُ سِحْرٌ وَتَمْوِيهٌ، لاَ حَقِيقَةَ لَهُ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي كَيْدَ السَّاحِرِينَ، وَلاَ مَا يَصْنَعُونَ.
وَقَدْ تَحَوَّلَتِ العَصَا إِلَى ثُعْبَانٍ أَخَذَ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ مَا أَلْقَاهُ السَّحَرَةُ حَتَّى لَمْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئاً، وَفِرْعَوْنُ وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَرَوْنَ كَلَّ ذَلِكَ. فَوَقَعَ الحَقُّ، وَزَهَقَ البَّاطِلُ.
تَلْقَفُ - تَبْتَلِعُ وَتَلْتَقِمُ بِسُرْعَةٍ.
﴿آمَنَّا﴾ ﴿هَارُونَ﴾
(٧٠) - وَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، وَهُمْ أَصْحَابُ الخِبْرَةِ بِفُنُونِ السِّحْرِ، وَطُرُقِهِ، عَلِمُوا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالحِيَلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ وَحْدَهُ، وَحِينَئِذٍ وَقَعُوا سَاجِدِينَ للهِ، وَقَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ.
﴿البينات﴾ ﴿الحياة﴾
(٧٢) - وَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ وَتَوَعَّدَهُمْ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ نُفُوسُهُمْ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالُوا لَهُ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى رَبِّنَا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَخَالِقُنَا وَخَالِقُ كُلِّ شَيءٍ مِنْ عَدَمٍ، فَهُوَ المُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ العِبَادَةَ لاَ أَنْتَ، فَافْعَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئاً إِلاَّ فِي هَذِهِ الدَّارُ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ، وَنَحْنُ قَدْ رَغْبِنَا فِي دَارِ القَرَارِ، الدَّارِ الأخِرَةِ.
الَّذِي فَطَرَنَا - الَّذِي أَبَدَعَنَا وَأَوْجَدَنَا وَهُوَ اللهُ تَعَالَى.
(٧٤) - وَتَابَعَ السَّحَرَةُ وَعْظَهُمْ لِفِرْعَوْنَ وَهُمْ يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نَقْمَةِ اللهِ، وَعَذَابِهِ الدَّائِمِ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الأَبَدِيِّ المُخَلَّدِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِي رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَدَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَهُ، وَكَانَ مُخَلَّداً فِيهَا، وَلاَ يَمُوتُ فِيهَا مِيتَةً مُرِيحَةً فَيَرْتَاحُ "، وَلاَ يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً يُسَرُّ بِهَا.
﴿جَنَّاتُ﴾ ﴿الأنهار﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(٧٦) - وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ العُلاَ، هِيَ جَنَّاتُ إِقَامَةٍ (عَدْنٍ)، تَنْسَابُ فِيهَا الأَنْهَارُ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مَاكِثِينَ أَبَداً، وَهَذا جَزَاءُ مَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالشِّرْكِ، وَعَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَاتَّبَعَ المُرْسَلِينَ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ.
تَزَكَّى - تَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ.
(٧٨) - وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، وَسَارُوا حَيْثُ سَارَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَيْنَ فِرْقَتَيِ البَحْرِ، فَأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ المَاءُ، وَغَشِيَهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِأَهْوَالِهِ، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعاً.
غَشِيَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ - أَحَاطَ بِهِمْ مَا لاَ سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ.
﴿يابني إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿أَنجَيْنَاكُمْ﴾ ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ﴾
(٨٠) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ إِذَا أَنْجَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ، وَأَقَرَّ عُيُونَهُمْ بِإِهْلاَكِهِ، وَإِهْلاَكِ جُنُودِهِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَوَاعَدَ مُوسَى لِيَأْتِيَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً صَامَهَا، لِيَتَهَيَأَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ، لِيَسْمَعَ مَا سَيُوحِيهِ رَبُّهُ إِلَيْهِ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ أُمُورِ العَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَأَرْسَلَ المَنَّ وَالسَّلْوَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِيَأْكُلُوا مِنْهُمَا فِي صَحْرَاءِ سِينَاءَ.
المَنَّ - مَادَّةً صَمْغِيَّةً حُلْوَةً كَالعَسَلِ.
السَّلْوَى - طَيْرُ السُّمَانَي - أَوْ طَيْرٌ يُشْبِهُ طَائِرَ السُّمَانَي.
﴿وَآمَنَ﴾ ﴿صَالِحَاً﴾
(٨٢) - وَكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَى اللهِ، وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالمَعْصِيَّةِ وَالنِّفَاقِ... وَآمَنَ بِقَلْبِهِ، وَعَمِلَ صَالِحاً بِجَوَارِحِهِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَمْ يُشَكِّكَ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَيَتُوبُ عَلَيْهِ.
(٨٤) - فَأَجَابَ مُوسَى رَبَّهُ مُعْتَذِراً: هُمْ آتُونَ خَلْفِي، وَعَلَى أَثَرِي، وَمَا تَقَدَّمْتُهُمْ إِلاَّ بِخُطُوَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَعَجَّلْتُ إِلَيْكَ رَبِّي لِتَزْدَادَ عَنِّي رِضاً، وَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ تَقَدُّمِي عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ عَلَيَّ.
﴿غَضْبَانَ﴾ ﴿ياقوم﴾
(٨٦) - وَبَعْدَ أَنْ أَخَبَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى، بِمَا أَحْدَثَهُ قَوْمُهُ بَعْدَ أَنْ تَرَكَهُمْ وَهُوَ مُتَوَّجِهٌ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ، غَضِبَ غَضَباً شَدِيداً وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ، وَهُوَ مَغِيظٌ مُحْنَقٌ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدُكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى لِسَانِي بِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيا، وَبِحُسْنِ العَاقِبَةِ فِي الآخِرَةِ، وَقَدْ شَاهَدْتُمْ نَصْرَهُ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَإِظْهَارِكُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَطُلِ العَهْدُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَنْسُوا وَعَدْ اللهِ لَكُمْ، بَلْ أَرَدْتُمْ بِسُوءِ صَنِيعِكُمْ هَذَا أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَا عَاهَدْتُمُونِي عَلَيْهِ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الإِيمَانِ.
أَسِفاً - حَزِيناً أَوْ شَدِيدَ الغَضَبِ.
مَوْعِدِي - وَعْدَكُمْ لِي بِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِي.
(٨٨) - وَقَدْ صَنَعَ السَّامِرِيُّ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الحِلِيِّ تِمْثَالاً عَلَى هَيْئَةِ عِجْلٍ مُجَسَّدٍ، وَكَانَ إَذَا هَبَّتِ الرِّيْحُ، وَدَخَلَتْ فِي جَوْفِهِ أَحْدَثَتْ صَوْتاً يُشْبِهُ خُوَارَ العِجْلِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَكَانَ الضَّالُّونَ يَسْجُدُونَ لَهُ إِذَا خَارَ، وَيَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ إِذَا خَارَ. وَأَحَبَّهُ الضَّالُّونَ وَافْتُتِنُوا بِهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا العِجْلَ هُوَ إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى، وَقَدْ نَسِيَ مُوسَى قَبْلَ ذَهَابِهِ إِلَى مَوْعِدِهِ مَعَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا العِجْلَ هُوَ إِلهُهُ (وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: إِنَّ مُوسَى ذَهَبَ يَطْلُبُ رَبَّهُ فَوْقَ الجَبَلِ، وَنَسِيَ أَنَّ رَبَّهُ حَاضِرٌ هُنَا).
عِجْلاً جَسَداً - مُجَسَّداً أَيْ أَحْمَرُ مِنْ ذَهَبٍ.
لَهُ خُوَارٌ - لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ البَقَرِ.
﴿هَارُونُ﴾ ﴿ياقوم﴾
(٩٠) - وَقَدْ نَهَاهُمْ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ مُوسَى، عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَأَخَبْرَهُمْ أَنَّ العِجْلَ فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لَهُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ هُوَ رَبُّهُمْ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وَقَدَّرَهُ. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى إِطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَالانْتِهَاءِ عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ.
﴿يَا هَارُونُ﴾
(٩٢) - وَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنَ الأَلْوَاحِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ رَبُّهُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخْيهِ يَجُرُّه إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي مَنَعَكَ مِنْ أَنْ تَكُفَّهُمْ عَنْ هَذِهِ الضَّلاَلَةِ، حِينَمَا رَأَيْتَهُمْ وَقَعُوا فِيهَا؟
مَا مَنَعَكَ - مَا حَمَلَكَ.
﴿يَبْنَؤُمَّ﴾ ﴿إِسْرَآئِيلَ﴾
(٩٤) - فَقَالَ هَارُونُ مُعْتَذِراً وَمُتَرَفِّقاً: يَا أَخِي، وَيَا ابْنَ أُمِّي لاَ تُعَاجِلُنِي بِغَضَبِكَ، وَلاَ تَمْسِكْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ إِنِ اتَّبَعْتُكَ وَأَخْبَرْتُكَ بِهَذا أَنْ تَقُولَ: لِمَ تَرَكْتَهُمْ وَحْدَهُمْ، كَمَا خَشِيتُ إِنْ شَدَّدْتُ عَلَيْهِمْ فَتَفَرَّقُوا شِيَعاً، أَنْ تَقُولَ لِي لِمَ فَرَّقْتَ بَيْنَ القَوْمِ، وَلَمْ تَتَقَيَّدُ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ حِينَ اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَيْهِمْ؟
(٩٦) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّامِرِيَّ كَانَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَاجِرِ وَكَانَ قَوْمُهُ يَعْبُدُونَ البَقَرَ، وَكَانَ حُبُّ البَقَرِ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ جَاءَ لِهَلاَكِ فِرْعَوْنَ، فَقَبَضَ بِكَفِّهِ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، ثُمَّ أَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تُرَابٍ فَوْقَ الحِلِيَِّ الَّتِي أُضْرِمَتْ فِيهَا النَّارُ مِنْ قِبَلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ قَذَفُوهَا فِي الحُفْرَةِ، ثُمَّ دَعَا أَنْ يَكُونَ عِجْلاً فَكَانَ. وَهَكَذا حَسَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ هَذَا العَمَلِ (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
(وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّ السَّامِرِيُّ قَالَ لِمُوسَى: إِنَّهُ كَانَ آمَنَ بِهِ رَسُولاً، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، وَتَبِعَ دِينَهُ، ثُمَّ اسْتَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ ضَلاَلٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، فَطَرِحَهُ وَرَاءَهُ ظِهْرِيّاً، وَسَارَ عَلَى نَهْجِ الَّذِي رَأَى، وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى فِعْلَ مَا فَعَلَ إِلاَّ هَوَى النَّفْسِ).
بَصُرْتُ - عَلِمْتُ بِالبَصِيرَةِ.
فَنَبَذْتُهَا - فَأَلْقَيْتُهَا فِي الحِلِيِّ الذَّائِبِ.
سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي - زَيَّنَتْ وَحَسَّنَتْ.
(٩٨) - وَبَعْدَ أَنْ أَحْرَقَ مُوسَى العِجْلَ، وَذَرَاهُ فِي البَحْرِ، قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ هَذا العِجْلَ لَيْسَ إِلَهُكُمْ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ إِلهُكُمْ وَهُوَ الَّذِي لاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ إَِلاَّ لَهُ، فَهُوَ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَمُحِيطٌ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ أَحَصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً، فَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ.
﴿القيامة﴾
(١٠٠) - مَنْ كَذَّبَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَابْتَغَى الهُدَى مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُضِلُّهُ، وَيَأْتِي بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَحْمِلُ حِمْلاً ثَقِيلاً (وِزْراً)، مِنَ الكُفْرِ، وَظُلْمِ النَّفْسِ، وَالذُّنُوبِ، فَيَهْوِي فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ.
وِزْراً - عُقُوبَةً ثَقِيلَةً عَلَى إِعْرَاضِهِ.
﴿يَوْمِئِذٍ﴾
(١٠٢) - حِينَ يَحِينُ قِيَامُ السَّاعَةِ، يَقُومُ المَلَكُ المُكَلَّفُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوْرِ، بِالنَّفْخِ فِيهِ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيَحْشُرُ اللهُ النِسَاءَ جَمِيعاً، وَيَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ سِرَاعاً يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، وَيَكُونُ المُجْرِمُونَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ زُرْقَ الوُجُوهِ، مِنْ شِدَّةِ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ.
(وَقِيلَ بَلْ يُحْشَرُونَ زُرْقَ العُيُونِ مِنَ الهَوْلِ وَالفَزَعِ).
وَالصُّورُ - قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ فَيُحْدِثُ صَوْتاً.
وَالنَّفْخَةِ الأُوْلَى فِي الصُّورِ - إِيذَانٌ بِإِهْلاَكِ الخَلاَئِقِ جَمِيعاً إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ.
- وَالنَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ إِيذَانٌ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
زُرْقاً - زُرْقَ العُيُونِ أَوْ زُرْقَ الوُجُوهِ مِنَ الهَوْلِ، أَوْ عُمْياً.
(١٠٤) - وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَوْلَ مُدِّةِ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيا، فَالعَاقِلُ الكَامِلُ بَيْنَهُم (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَى يَوْماً وَاحِداً - وَذَلِكَ لِقِصَرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ - وَغَايَتِهِمْ مِنَ التَّذَرُّعِ بِهَذا القَوْلِ هِيَ دَرْءُ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ مُدَّتُهَا قَصِيرَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ وَقْتٌ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالإِيمَانِ بِرَبِّهِمْ.
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً - أَعْدَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ رَأْياًَ.
(١٠٦) - فَيَذَرُهَا بِسَاطاً وَاحِداً مُسْتَوِياً.
القَاعُ - المُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ.
الصَّفْصَفُ - تَعْبِيرٌ عَنِ اسْتِوَاءِ الأَرْضِ، أَوْ هُوَ الأَرْضُ التِي لاَ نَبَاتَ فِيهَا.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(١٠٨) - وَيَوْمَ يَرَوْنَ كُلَّ ذلِكَ يَتْبَعُونَ الدَّاعِيَ مُسَارِعِينَ إِلَيْهِ حَيْثُمَا أَمَرَهُمْ، وَلاَ يَمِيلُونَ عَنْهُ، وَتَسْكُنُ الأَصْوَاتُ خُشُوعاً للهِ، فَلاَ يُسْمَعُ لِهَذِهِ الخَلاَئِقُ صَوْتٌ مُرْتَفِعٌ، وَلاَ يُسْمَعُ غَيْرَ وَطْءِ أَقْدَامِهِمْ وَهُمْ مُسْرِعُونَ وَرَاءَ الدَّاعِي إِلَى المَحْشَرِ، وَيَتَكَلَّمُونَ هَمْساً فِي إِسْرَارٍ وَصَوْتٍ خَفِيٍّ.
لاَ عِوَجَ لَهُ - لاَ يَعْوَجُّ لَهُ مَدْعُوٌ، وَلاَ يَزِيغُ عَنْهُ.
هَمْساً - صَوْتاً خَفِيّاً خَافِتاً.
(١١٠) - وَاللهُ تَعَالَى يُحِيطُ عِلْماً بِالْخَلاَئِقِ كُلِّهِمْ، وَيَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي العِبَادِ مِنْ شُؤُونِ الدُّنْيا، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ شُؤُونِ الآخِرَةِ، وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً مِنْ تَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ.
﴿الصالحات﴾
(١١٢) - أَمَّا الَّذِي آمَنَ بِاللهِ، وَبِكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ جَمِيعاً، وَعَمِلَ الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فَلاَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ اللهُ عَلَيْهِ ذَنْبَ غَيْرِهِ، وَلاَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَنْقُصَهُ شَيْئاً مِنْ حَسَنَاتِهِ.
الظُّلْمُ - حَمْلُ ذَنْبٍ عَلَى امْرِىءٍ وَهُوَ لَمْ يَرْتَكِبْهُ.
الهَضْمُ - النَّقْصُ وَغَمْطُ المَرْءِ شَيْئاً مِنْ حَقِّهِ.
﴿فتعالى﴾ ﴿بالقرآن﴾
(١١٤) - تَنَزَّهَ اللهُ المَلِكُ الحَقُّ، وَتَقَدَّسَ سُبْحَانَهُ، فَوَعْدُهُ حَقٌّ، وَوَعِيدُهُ حَقٌّ. وَمِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً قَبْلَ الإِنْذَارِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، لِكَيْلاَ يَبْقَى لأَحَدٍ حُجٌَّ وَلاَ شُبْهَةٌ.
وَكَانَ الرَّسُولُ ﷺ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - يُعَانِي مِنَ الوَّحِي شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِهِ، وَيُكَرِّرُ مَا تَلاَهُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ مَا يُوحَي إِلَيْهِ، فَأَرْشَدَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: فَإِذَا قَرَأَ عَلَيْكَ المَلَكُ القُرْآنَ فَأَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ، وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْماً وَالحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ "). (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ).
قَبْلِ إَن يُقْضَى - قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ وَيَتِمَّ.
﴿لِلْمَلاَئِكَةِ﴾
(١١٦) - واذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الحِينِ مِنَّا وَمِنْ آدَمَ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ كَيْفَ نَسِيَ وَفَقَدَ العَزِيمَةَ، وَضَعُفَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَباً لإِخْرَاجِهِ مِنَ الجَنَّةِ.
لَقَدْ فَضَّلَ اللهُ آدَمَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمَرَ المَلاَئِكَةَ بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَسَجَدُوا جَمِيعَهُمْ إِلاَّ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ وَاسْتَكْبَرَ (أَبَى).
(١١٨) فَإِنَّكَ هُنَا فِي عَيْشٍ بِلاَ كُلْفَةٍ، وَلاَ مَشَقَّةٍ، وَقَدْ ضَمِنَّا لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِي هَذِهِ الجَنِّةِ، وَلاَ تَعْرَى، فَلاَ تَشْعُرَ بِذُلِّ الجُوْعِ وَلاَ بِذُلِّ العُرْيِ مِنَ الثِّيَابِ.
﴿الشيطان﴾ ﴿ياآدم﴾
(١٢٠) - فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ نَاصِحٍ مُشْفِقٍ، وَحَاوَلَ إِغْرَاءَهُ وَإِضْلاَلَهُ لِيُخَالِفَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَقَالَ لَهُ إِنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نَهَاكُمَا اللهُ عَنِ الأَكْلِ مِنْهَا هِيَ شَجَرَةُ الخُلُودِ، مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَصْبَحَ مِنَ الخَالِدِينَ، وَأَصْبَحَ ذَا سُلْطَانٍ، وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى وَلاَ يَنْتَهِي، فَضَعُفَ آدَمُ وَزَوْجُهُ تِجَاهَ هَذا الإِغْرَاءِ بِالمُلْكِ، وَالعُمْرِ المَدِيدِ، وَنَسِيَا مَا عَهَدَ اللهُ بِهِ إِلَيْهِمَا، فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ.
لاَّ يَبْلَى - لاَ يَزُولُ وَلاَ يَفْنَى.
﴿اجتباه﴾
(١٢٢) - ثُمَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَهَدَاهُ وَاصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ بَعْدَ أَنْ أَلْهَمَهُ اللهُ عِبَارَاتِ اسْتِغْفَارٍ، وَاعْتِذَارٍ قَالَهَا فَعَفَا اللهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ.
اجْتَبَاهُ - اصْطَفَاهُ لِلنُّبُوَّةِ وَقَرَّبَهُ.
﴿القيامة﴾
(١٢٤) - وَمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَفَرَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى رُسُلِي، وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وَتَنَاسَاهُ فَسَتَكُونُ مَعِيشَتُهُ فِي الدُّنْيَا ضَنْكاً لاَ طُمَأنِينَةَ لَهُ فِيهَا، وَلاَ يَنْشَرِحُ فِيهَا صَدْرُهُ، بَلْ يَبْقَى صَدْرُهُ ضَيِّقاً حَرِجاً، بِسَبَبِ ضَلاَلِهِ. وَمَا لَمْ يَخْلُصِ الهُدَى وَاليَقِينُ إِلَى قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ سَيَبْقَى فِي قَلَقٍ وَحِيرَةٍ وَشَكٍّ، وَيَحْشُرُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى البَصَرِ وَالبَصِيرَةِ، قَدْ عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيءٍ إِلاَّ جَهَنَّمَ، لأَنَّ الجَهَالَةَ التِي كَانَ فِيهَا فِي الدُّنْيا تَبْقَى مُلاَزِمَةً لَهُ فِي الآخِرَةِ.
مَعِيشَةً ضَنْكاً - ضَيِّقَةً شَدِيدَةً.
﴿آيَاتُنَا﴾
(١٢٦) - فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا المُتَسَائِلِ مُبَيِّناً: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْكَ رُسُلَنَا بِآيَاتِنَا فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا، وَتَنَاسَيْتَهَا، فَكَذَلِكَ نُعَامِلُكَ اليَوْمَ مُعَامَلَةَ المَنْسِيِّ، فَتُتْرَكَ فِي النَّارِ.
﴿مَسَاكِنِهِمْ﴾ ﴿لآيَاتٍ﴾
(١٢٨) - مَا لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ لاَ يَهْتَدُونَ، وَلاَ يَتَّعِظُونَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الأُمَمِ التِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ بَاقِيَّةٍ، وَلاَ عَيْنٍ وَلاَ أَثَرٍ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الخَالِيَةِ، الَّتِي خَلَفُوهُمْ فِيهَا، وَهُمُ الآنَ يَمْشُونَ فِيهَا أَفَلَمْ يُرْشِدْهُمْ (يَهْدِ لَهُمْ) مَا فَعَلْنَاهُ بِالأُمَمِ الخَالِيَةِ مِنَ الإِهْلاَكِ وَالإِبَادَةِ، وَيَحْمِلْهُمْ عَلَى الاعْتِبَارِ وَالاتِّعَاظِ؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ بَرَاهِينَ وَحُجَجاً وَدَلاَلاَتٍ لأَصْحَابِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ المُدْرِكَةِ.
أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ - أَلَمْ يُرْشِدْهُمْ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ.
كَمْ أَهْلَكْنَا - كَثِيراً مَا أَهْلَكْنَا مِنَ الأُمَمِ المَاضِيَّةِ
﴿آنَآءِ﴾ ﴿الليل﴾
(١٣٠) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَه ﷺ فَيَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ هَؤَلاَء ِالمُكَذِّبِينَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بَعْدَ صَلاَةِ الفِجْرِ، وَبَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ (قَبْلَ غُرُوبِهَا)، وَفِي فَتَرَاتِ اللَّيْلِ، فَالتَّسْبِيحُ اتِّصَالٌ بِاللهِ تَعَالَى، وَالنَّفْسُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِاللهِ تَطْمَئِنُّ وَتَرْضَى. فَالرِّضَا ثَمَرَةُ التَّسْبِيحِ وَالعِبَادَةِ، وَهُوَ وَحْدَهُ جَزَاءٌ حَاضِرٌ يَنْبُعُ مِنْ دَاخِلِ النَّفْسِ.
آنَاءِ اللَّيْلِ - سَاعَاتِ اللَّيْلِ.
﴿بالصلاة﴾ ﴿نَسْأَلُكَ﴾ ﴿العاقبة﴾
(١٣٢) - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ فِي أَوْقَاتِهَا، لِتُنْقِذَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأَدِّهَا كَامِلَةً حَقَّ أَدَائِهَا، فَالوَعْظُ بِالفِعْلِ أَشَدُّ أَثَراً مِنْهُ بِالقَوْلِ. وَإِذَا أَقَمْتَ الصَّلاَةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَحْتَسِبْ، وَلَمْ تُكَلَّفُ أَنْتَ رِزْقَ نَفْسِكَ. وَكَانَ الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلاَةِ. وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: " يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمَلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأْتُ صَدْرَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ).
وِإْنَّ حُسْنَ العَاقِبَةِ - وَهِيَ هُنَا الجَنَّةُ - سَتَكُونُ جَزَاءً لِمَنِ اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَهُ.
﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ ﴿آيَاتِكَ﴾
(١٣٤) - وَلَوْ أَنَّنَا أَهْلَكْنَا هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ، وَقَبْلَ أَنْ نُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ، لَقَالُوا: هَلاَّ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا يَا رَبِّ رَسُولاً قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتْبَعَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِنَا العَذَابُ وَالدَّمَارُ، وَقَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِنَا الذُّلُّ وَالخِزْيُ، وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ، لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمُ الرَّسُولُ بِكُلِّ آيَةٍ.
مِنْ قَبْلِهِ - مِنْ قَبْلِ الإِثْبَاتِ بِالبَيِّنَةِ.
نُخْزَى - نَفْتَضِحَ فِي الآخِرَةِ بِالعَذَابِ.
سورة طه
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (طه) من السُّوَر المكية التي افتُتِحت بتعظيمِ القرآن الكريم، وبيَّنتْ أن هذا الكتابَ هو كتابُ سعادة وهناءٍ، ولم يُنزِلْهُ اللهُ عز وجل للتعاسةِ والشَّقاء، كما اشتملت على تعظيمِ الله عز وجل؛ ببيانِ عُلُوِّه فوق خَلْقه: عُلُوِّ قهرٍ وغَلَبة، وعُلُوِّ استواءٍ على عرشه كما يليقُ بجلاله، كما تطرَّقتِ الآياتُ لقصة موسى عليه السلام، وفيها تكليمُ اللهِ موسى عليه السلام، ورعايتُه له، وذكَرتْ مشاهدَ من يومِ القيامة وأهواله.

ترتيبها المصحفي
20
نوعها
مكية
ألفاظها
1351
ترتيب نزولها
45
العد المدني الأول
134
العد المدني الأخير
134
العد البصري
132
العد الكوفي
135
العد الشامي
140

* سورة (طه):

سُمِّيتْ سورة (طه) بهذا الاسمِ؛ لافتتاحِها به.

 * سورة (طه) من العِتَاق الأُوَل التي تعلَّمها الصحابة :

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ) : إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (4994).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي» : يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).

* فيها اسمُ اللهِ الأعظَمُ:

فعن أبي أُمَامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: «اسمُ اللهِ الأعظَمُ الذي إذا دُعِيَ به أجابَ في ثلاثِ سُوَرٍ مِن القُرْآنِ: في (البقرةِ)، و(آلِ عِمْرانَ)، و(طه)». أخرجه الطبراني (٧٩٢٥).

وقد التمَسها بعضُ العلماء في هذه السُّوَرِ؛ فوجَدها في:

- (البقرةِ): {اْللَّهُ ‌لَآ ‌إِلَٰهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ} [البقرة: 255].

- وفاتحةِ (آلِ عِمْرانَ): {اْللَّهُ ‌لَآ ‌إِلَٰهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُ} [آل عمران: 2].

- وفي (طه): {وَعَنَتِ اْلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اْلْقَيُّومِۖ} [طه: 111].

ورَدتْ في سورة (طه) الموضوعات الآتية:

1. الافتتاحية (١-٨).

2. قصة موسى عليه السلام (٩-٩٨).

3. جزاء المُعرِضين عن القرآن (٩٩-١٠٤).

4. مَشاهِدُ يوم القيامة (١٠٥-١١٢).

5. مُحمَّد عليه السلام والقرآن (١١٣-١١٤).

6. آدَمُ وعداوة إبليس له ولذريته (١١٥-١٢٧).

7. إنذارٌ للمشركين، وإرشادٌ للنبي صلى الله عليه وسلم (١٢٨-١٣٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /490).

احتوت السورةُ على مقاصدَ عظيمةٍ؛ منها:

* التحدِّي بالقرآن؛ بذِكْرِ (الحروف المُقطَّعة) في مُفتتَحِها.

* والتنويه بأنه تنزيلٌ من الله لِهَدْيِ القابلين للهداية؛ فأكثرها في هذا الشأن.

* والتنويه بعظمةِ الله تعالى، وإثبات رسالة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ بأنها تُماثِل رسالةَ أعظَمِ رسولٍ قبله شاع ذِكْرُه في الناس؛ فضرب المَثَل لنزول القرآن على مُحمَّد صلى الله عليه وسلم بكلام اللهِ موسى عليه السلام.

* وتذكير الناس بعداوة الشيطان للإنسان بما تضمَّنتْهُ قصةُ خَلْقِ آدمَ.

* ورُتِّب على ذلك سُوءُ الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مَقادتَهم بيد الشيطان، وإنذارُهم بسُوءِ العقاب في الدنيا.

* وتسلية النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما يقولونه، وتثبيته على الدِّين.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (16 /182).