ﰡ
هى مكية إلا آيتي ١٣٠، ١٣١ فمدنيتان، وآيها خمس وثلاثون بعد المائة، نزلت بعد سورة مريم.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(١) إنه لما ذكر فى سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين، بعضها بطريق البسط والإطناب كقصص زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وبعضها بين البسط والإيجاز كقصص إبراهيم عليه السلام، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال- ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف، واستوعبها غاية الاستيعاب، ثم فصّل قصة آدم عليه السلام، ولم يذكر فى سورة مريم إلا اسمه فحسب.
(٢) إنه روى عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها.
(٣) إن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة ومناسب له فى المعنى، إذ ذكر فى آخر تلك أنه إنما يسّر القرآن بلسانه العربي المبين، ليكون تبشيرا للمتقين وإنذارا للمعاندين، وفى أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
لتشقى: أي لتتعب وتنصب، تذكرة: أي تذكيرا وعظة، يخشى: أي يخاف الله، العلى: واحدها العليا مؤنثة الأعلى كالكبرى مؤنثة الأكبر، والعرش: فى اللغة سرير الملك، ويراد به فى لسان الشرع مركز تدبير العالم، واستوى: استولى عليه قال شاعرهم:
قد استوى بشر على العراق | من غير سيف ودم مهراق |
«وجعلوا لله شركاء قل سموهم» أي صفوهم، والحسنى: مؤنثة الأحسن.
المعنى الجملي
روى مقاتل أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدىّ والنضر بن الحرث قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال عليه السلام: بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، بأن دين الإسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز، وسبب إدراك كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.
الإيضاح
(طه) تقدم أن قلنا إن أصح الآراء فى الحروف المقطّعة التي فى أوائل السور أنها حروف تنبيه كألا ويا ونحوهما مما يذكر فى أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها لأهميته وإرادة إصغائه إليه نحو ما جاء فى قوله تعالى. «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» وينطق بأسمائها حين القراءة فيقال (طا. ها)
ونحو الآية قوله: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا».
وقصارى ذلك- إنا أنزلناه عليك لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، إن عليك إلا البلاغ، ولست عليهم بمسيطر.
وفى هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم على ما كان يعتريه من التعب والنّصب حين كان يدعو أولئك القوم ذوى اللدد والخصومة، ولا عجب فالكلام صنعتهم، وبه يتفاخرون، وعليه يعتمدون، إذ يقرعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وهو لديهم أمضى من السّنان.
(إلا تذكرة لمن يخشى) أي ما أنزلناه عليك لشقائك، ولكن أنزلناه تذكيرا لمن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه، وحسن استعداده، وقد كان عليه السلام يعظهم به بتلاوته وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم فى دنياهم وآخرتهم.
وخص الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم، من قبل أن غيرهم كأنه لا وجود له لعدم انتفاعه به.
وخلاصة ذلك- حسبك ما حمّلته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك، وبيدنا لا بيدك.
(تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) أي نزّل عليك تنزيلا من ربك الذي خلق الأرض والسموات العلى، والمراد بهما ما فى جهة السفل والعلو، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما.
(له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) أي له ما فى السموات والأرض وما بينهما ملكا وتدبيرا وتصرفا، وله ما واراه التراب وأخفاه من المعادن والفلزّات وغيرها.
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) أي وإن تجهر بدعاء الله وذكره، فاعلم أنه تعالى غنىّ عن جهرك، لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع به صوتك، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تنفوّه به.
والدعاء والذكر باللسان إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى فى نفسه، لا ليسمع صوته، ولا فضل للنطق والجهر به إلا فى منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني فى القلوب كما قال تعالى: «وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور» ونحو الآية قوله: «واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول».
(الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه، وله الصفات الحسنى الدالة على التقديس والتمجيد، والأفعال التي هى غاية فى الحكمة والسداد.
قصص موسى عليه السلام
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
الحديث: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحى فى يقظته أو فى منامه، والمكث: الإقامة، آنست: أي أبصرت، آتيكم: أجيئكم، بقبس: أي بشعلة مقتبسة على رأس عود ونحوه، هدى: أي هاديا يدلنى على الطريق، طوى: (بالضم) منونا:
اسم لذلك الوادي، اخترتك: أي اصطفيتك، لذكرى: أي لتكون ذاكرا لى، أكاد أخفيها: أي أبالغ فى إخفائها ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية، هواه: أي ما تهواه نفسه، فتردى: أي فتهلك.
المعنى الجملي
بعد أن عظم سبحانه كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ بالإنذار والتبشير- أتبع ذلك بما يقوى قلبه من قصص الأنبياء وما فعلته أممهم معهم وكيف كانت العاقبة لهم والنصر حليفهم، ففى هذا سلوى له وتأسّ بهم فيما قاموا به من الذّود عن الحق مهما أصابهم من العنت والأذى من جراء الدعوة إليه، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: «وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك».
وبدأ بقصص موسى، لأن محنته كانت أشد، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال، وقابل ذلك بعزم لا يفتر، وبقوة تفلّ الحديد.
(وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا) أي وهل بلغك كيف كان ابتداء الوحى إلى موسى وتكليم الله إياه.
ومن سنن العربية أنه إذا أريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب فى نفس المخاطب، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام، فيقول المرء لصاحبه: هل بلغك كذا وكذا، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر، ويصغى إليه أتم الإصغاء.
روى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا فى الرجوع إلى والدته، فإذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره فى رعاية الغنم، فخرج وسار قاصدا مصر بعد أن طالت غيبته عنها، فقد زادت على عشر سنين ومعه زوجه، فولد له ابن فى الطريق فى ليلة شاتية ذات ثلج وبرد وسحاب وضباب وظلام، ونزل منزلا بين شعاب وجبال، وجعل يقدح بزند كان معه ليورى نارا، فلم تور المقدحة شيئا، وبينا هو يزال ذلك ويعالجه، إذ رأى نارا من بعد عن يسار الطريق.
(فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) أي فقال لامرأته وولدها وخادمها مبشرا لهم: أقيموا مكانكم إنى أبصرت نارا وسأذهب إليها لعلنى أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه، أو أجد هاديا يدلنى على الطريق، وجاء فى سورة القصص: «لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون».
وقصارى ذلك- إنه قال لأهله أقيموا مكانكم- وإنى قد رأيت نارا فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارا تصطلون بها، وإما أن أجد دليلا يرشدنى إلى الطريق المسلوك وكان قد ضل عنه.
ثم أمره أن يخلع نعليه احتراما للبقعة المقدسة فقال:
(فاخلع نعليك) إذ أن الحفوة أقرب إلى التواضع وحسن الأدب، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين.
ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله:
(إنك بالواد المقدس طوى) أي لأنك بالوادي المطهّر المسمى بطوى، فاخلعها ليحصل للقدمين بركته.
(وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) أي وأنا اصطفيتك من قومك بالنبوة والرسالة، فعليك أن تسمع لما أوحيه إليك.
ونحو الآية قوله: «إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى».
وقصارى ذلك- لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه، وقد قالوا: إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم على العمل.
وقد بين سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله:
(إننى أنا الله لا إله إلا أنا) أي إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
(فاعبدنى) أي وإذ كنت أنا الإله حقا ولا معبود سواى، فخصنى بالعبادة والتذلل والانقياد فى جميع ما كلفتك به.
(وأقم الصلاة لذكرى) أي وأدّ الصلاة على الوجه الذي أمرتك به مقوّمة الأركان مستوفاة الشرائط، لتذكرنى فيها وتدعونى دعاء خالصا لا يشو به إشراك ولا توجه إلى سواى.
أخرج الترمذي وابن ماجه فى جماعة آخرين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال:
أقم الصلاة لذكرى»
ثم بين السبب فى وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال:
(إن الساعة آتية أكاد أخفيها) أي إن الساعة آتية لا محالة، وإنى أكاد أخفيها من نفسى، فكيف يعلمها غيرى من الخلق، وقد جاء هذا على سنن العرب فى تخاطبهم يقول أحدهم إذا بالغ فى كتمان السر: كتمت سرى من نفسى، يريد أنه أخفاه غاية الإخفاء.
وفائدة إخفائها التهويل والتخويف، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة يكونوا منها على حذر، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت، لأن المرء إذا علم وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين فيتوب ويصلح عمله، وقد وعد الله بقبول توبته، وهذا يكون كالإغراء على المعصية، لكنه إن لم يعلم حين منيّته كان منها على حذر، ولا يزال على قدم الخوف والوجل، فيترك المعاصي ويتوب منها فى كل حين خوف معاجلة الموت.
(لتجزى كل نفس بما تسعى) أي إن الساعة آتية لا محالة، ليجزى كل عامل بعمله كما قال: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» وقال: «إنما تجزون ما كنتم تعملون».
ثم خاطب سبحانه موسى محذّرا له فقال:
(فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) أي فلا يردنّك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقرّ بقيامها ولا يصدّق بالبعث، ولا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، بل يركب رأسه ويخالف أمر ربه ونهيه، فإنك إن فعلت ذلك وقعت
وخلاصة ذلك- لا تتّبعوا سبل من كذّب بالساعة، وأقبل على لذاته فى دنياه، وعصى أمر ربه واتبع هواه، فإن من سلك سبيلهم خاب وخسر كما قال: «وما يغنى عنه ماله إذا تردى».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
تفسير المفردات
أتوكأ عليها: أعتمد عليها فى المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك، وأهش بها: أي أخبط بها ورق الشجر، مآرب: أي منافع واحدها مأربة (مثلثة الراء) والحية: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى من هذا النوع، والثعبان: العظيم من الحيات، والجانّ: الصغير منها، سيرتها الأولى: أي حالها الأولى وهى كونها عصا، يقال لكل من كان على أمر فتركه وتحول عنه ثم راجعه: عاد فلان سيرته الأولى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مناجاته لموسى حين رأى النار التي فى الشجرة واختياره نبيا وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو، وأمره بإقامة الصلاة لما فيها من ذكره، وتخصيصه
قفّى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى، دلالة على نبوته، وتصديقا له على رسالته، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حية تسعى حين ألقاها من يده، وكان قد سأله عنها استجماعا لقلبه، وتهدئة لروعه فى هذا المقام الرهيب، وإعلاما بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن وجليل المنافع والمزايا التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام.
الإيضاح
(وما تلك بيمينك يا موسى) سأله سبحانه عما فى يده وهو العليم به، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير، ولا منفعة عظيمة- جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال، كانقلابها حية تسعى، وضرب البحر بها حتى ينفلق، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته، وبالغ عظمته، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة- على سنن الناس فى تخاطبهم، إذا أراد أحدهم أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا، أن يأخذه ويعرضه على النظّارة ويقول لهم: ما هذا؟ فيقولون هو كذا، فيفيض فى شرح ما له من فائق المزايا، وجليل المنافع، التي لم تكن تدور بخلدهم، ولم تخطر ببالهم.
فأجابه موسى معدّدا ما لها من فوائد ومزايا بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر.
(قال هى عصاى) وبهذا تم الجواب، ولكن موسى ذكر ما لها من فوائد، إذ أحب مكالمة ربه، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل، وواحدة على سبيل الإجمال فقال:
(١) (أتوكؤا عليها) أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت أو وقفت على رأس القطيع من الغنم.
(٢) (وأهش بها على غنمى) أي أخبط ورق الشجر بها، ليسقط على غنمى فتأكله.
وقد أجمل عليه السلام فى المآرب رجاء أن يسأله ربه عنها، فيسمع كلامه مرة أخرى ويطول الحديث بهذا.
وبعد أن ذكر هذه الجوابات أمره بإلقائها، لتتبين لها فوائد لم يعرفها من قبل.
(قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هى حيه تسعى) أي قال له ربه: ألقها يا موسى لترى من شأنها ما ترى، فألقاها فإذا هى ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعا، وجاء تشبيهها بالجان وهو الصغير من الحيات فى قوله (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها.
ثم أمره بأخذها وهى على تلك الحال دون خوف ولا ذعر.
(قال خذها ولا تخف) أي قال له ربه: خذها بيمينك ولا تخف منها.
وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير، ولا يدرك له سبب، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره عليه السلام.
ثم علل النهى عن الخوف بقوله:
(سنعيدها سيرتها الأولى) أي سنرجعها إلى الحال التي كانت عليها من قبل وهى العصوية فأقدم على ذلك برباطة جأش دون تردد ولا ذعر.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٢ الى ٣٥]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
الضم: الجمع، وأصل الجناح للطائر ثم أطلق على اليد والعضد والجنب وهو المراد هنا، والسوء: القبح فى كل شىء، ويراد به هنا البرص والطباع تنفر منه، وآية أخرى: أي معجزة ثانية غير العصا، طغى: أي تجاوز الحد فى عتوّه وتجبره، اشرح لى صدرى: أي وسّعه لتحمّل أعباء الرسالة، ويسر لى أمرى: أي سهّل لى ما أمرتنى به من تبليغ الرسالة. واحلل عقدة من لسانى: أي أزل ذلك التعقد والحبسة التي فى لسانى، لئلا يستخف بي الناس وينفروا منى ولا يستمعوا لكلامى، يفقهوا قولى:
أي يفهموه، وزيرا: أي معينا، والأزر: القوة، يقال آزره أي قوّاه وأعانه، وأشركه فى أمرى: أي اجعله شريكا لى فى النبوة والرسالة، إنك كنت بنا بصيرا: أي عالما بأحوالنا، لا نريد بالطاعة إلا رضاك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المعجزة الأولى الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وعلى صدق رسالته وهى العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض- قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاها إياه وهى معجزة اليد، فإنه كان إذا وضع يده اليمينى إلى جنبه الأيسر تحت العضد ثم أخرجها أضاءت كشعاع الشمس تعشى البصر، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره ويسهل له أمره، وأن يجعل له أخاه هارون نبيا كى يشد أزره ويقوى على تبليغ الرسالة، ويتعاونا على ذكر الله وعبادته
(واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) أي أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك (قميصك) واجعلها تحت الإبط اليسرى تخرج بيضاء لامعة من غير برص ولا عيب.
روى أن موسى كان إذا أدخل يده فى جيبه ثم أخرجها- تتلالأ كأنها فلقة قمر،
قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح فعلم أنه قد لقى ربه.
(آية أخرى) أي وهذه علامة أخرى غير الآية التي أرينا كها من قبل من تحويل العصا حية تسعى- تدل على صدقك فيما بعثناك به من الرسالة لمن بعثناك إليهم.
(لنريك من آياتنا الكبرى) أي افعل ذلك، كى نريك بعض أدلتنا، على عظيم سلطاننا، وكامل قدرتنا، وبديع تصرفنا، فى ملكوت السموات والأرض.
وبعد أن أظهر له هذه الآيات أمره بالذهاب إلى فرعون المتكبر الجبار فقال:
(اذهب إلى فرعون إنه طغى) أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، فإنه قد تجاوز قدره، وتمرد على ربه، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى.
قال وهب بن منبّه: قال الله لموسى: اسمع كلامى، واحفظ وصيتي، وانطلق برسالتى، فإنك بعيني وسمعى، وإن معك يدى ونصرى، وإنى ألبستك جبّة من سلطانى تستكمل بها القوة فى أمرك، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقى، بطر نعمتى، وأمن مكرى، وغرّته الدنيا حتى جحد حقى، وأنكر ربوبيتى أقسم بعزّتى، لولا الحجة التي وضعت بينى وبين خلقى لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علىّ، وسقط من عينى، فبلّغه رسالتى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، وقل له قولا لينا، لا يغتر
(قال رب أشرح لى صدرى) أي رب وسّع لى صدرى، لأعى عنك ما تودعه فيه من وحيك، وأجترى به على خطاب فرعون، فإنك قد كلفتنى أمرا عظيما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض، وأجبرهم وأشدهم كفرا، وأكثر هم جندا، وأعمر هم ملكا، وأطغاهم وأبلغهم تمردا، وقد بلغ من تمرده أنه لا يعلم إلها غيره.
وخلاصة ذلك- اجعلنى رابط الجأش حتى لا أخاف سواك، ولا أرهب غيرك، حين تبليغ رسالتك، وكن عونى ونصيرى، وإلا فلا طاقة لى بذلك.
(ويسر لى أمرى) أي سهّل علىّ القيام بما تكلفنى به من تبليغ الرسالة، وتحمّلنى من الطاعة، وأفض علىّ من القوة ما يفى بالعمل على نشر الدين، وإصلاح حال الخلق.
(واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى) أي وأطلق لسانى بالنطق ليفهموا قولى حين تبليغ الرسالة، وكان فى لسانه حبسة تمنعه من كثير من الكلام.
وقد روى أن الحسين رضى الله عنه كان فى لسانه رتّة (حبسة) فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن هذه ورثها من عمه موسى.
ولما كان التعاون على نشر الدين مع خلوص الود قربة عظيمة لله- طلب موسى المعاونة على ذلك فقال:
(واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى) أي واجعل لى عونا من أهل بيتي هرون أخى، ليحمل معى أعباء الرسالة، ويكون ظهيرا لى عند الشدائد، وحلول المكاره، ولمثل هذا قال عيسى عليه السلام «من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن لى فى السماء وزيرين وفى الأرض وزيرين، فاللذان فى السماء جبريل وميكائيل، واللذان فى الأرض أبو بكر وعمر»
. وقال أنو شروان: لا يستثنى أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير.
وقد اختصّ هرون بأمور منها:
(١) الفصاحة لقول موسى هو أفصح منى لسانا.
(٢) الرفق لقول هرون: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى.
(٣) الوسامة والجمال وبياض اللون، وكان موسى آدم اللون أقنى جعدا.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول: أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا لا ندرى. قال: أنا والله أدرى، قالت فقلت فى نفسى، فى حلفه لا يستثنى إنه ليعلم أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قال موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت صدق والله.
ثم طلب موسى من ربه أن يشدّ به أزره فقال:
(اشدد به أزرى وأشركه فى أمرى) أي أحكم به قوتى، واجعله شريكى فى أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها على الوجه الذي يؤدى إلى أحسن الغايات، ويوصل إلى الغرض على أجمل السبل.
ثم حكى عنه سبحانه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال:
(كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) أي لكى ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من بينها ما يدّعيه فرعون الطاغية، وفئته الباغية من الألوهية له، ونذكرك وحدك ابتغاء مرضاتك، دون أن نشرك معك غيرك أثناء أداء الرسالة، ودعوة المردة الطّغاة إلى الحق.
ولا شك أن التعاون فى الدعوة أنجع فى الوصول إلى المقصد من الانفراد، فكل
(إنك كنت بنا بصيرا) أي عليما بأحوالنا، وأن ما طلبناه مما يفيدنا فى تحقيق ما كلفتنا به من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكلها، فإن هرون نعم العون على أداء ما أمرت به من نشر معالم الدين، وكبح جماح المضلين، وإرشادهم إلى حق اليقين.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
تفسير المفردات
السؤل: بمعنى المسئول: أي المطلوب كالخبز بمعنى المخبوز، منّنا: أي أنعمنا، مرة أخرى: أي فى وقت آخر غير هذا الوقت، أوحينا: أي ألهمنا كما جاء فى قوله «وأوحى ربك إلى النحل»
وقوله: «وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى» اقذفيه: أي ألقيه واطرحيه، واليمّ: البحر. والمراد به هنا نهر النيل، والساحل: الشاطئ، ولتصنع على عينى: أي ولتربّى وتغذّى بمرأى منى وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء بعينيه دلالة على عنايته به، يكفله: أي يضمه إلى نفسه، تقر عينها: أي تسر، والغم: الكدر الناشئ من خوف شىء أو فوات مقصود، والفتون:
الابتلاء والاختبار بالوقوع فى المحن ثم تخليصه منها، لبثت: أي أقمت، مدين: بلد بالشام.
اعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه أمورا ثمانية وكان قيامه بما كلّف به لا يتم على الطريق المرضىّ إلا إذا أجابه إليها- لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلّف به، ثم ذكّره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتا وتضعه فيه وتلقيه فى النيل ففعلت، فألقاه النيل فى الساحل، فالتقطه آل فرعون وربّوه فى منزلهم، وألقى الله محبة فى قلوبهم له وصار كأنه ابنهم، ثم ذكّره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين.
الإيضاح
(قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي قال الله تعالى لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتنى عنه من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرا لك، وشد أزرك به، وإشراكه فى الرسالة معك.
(ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجو، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك؟
ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك فى أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة. ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تؤمّل مما أنت فى شديد الحاجة إليه لتبليغ رسالته؟.
وفى التعبير عن تلك النعم بالمنن إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه بمحض التفضل والإحسان.
وقد عد سبحانه من تلك النعم ثمانيا فقال:
(١) (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه
أي واذكر حين ألهمنا أمك وأوقعنا فى قلبها عزيمة صادقة، أنّ أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك فى تابوت- صندوق- ثم تطرح هذا التابوت فى نهر النيل، ففعلت فألقاك النهر فى الساحل، فأخذك فرعون عدو الله ورباك فى بيته، وسيصير عدوا لك بعد ذلك كما هو عدو لى.
روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار ثم ألقته فى اليم، وكان يشرع منه (يتفرع) نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركة مع زوجه إذا بتابوت يجرى به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه ففعلوا، وفتحوا رأسه فإذا صبى من أصبح الناس وجها فأحبه فرعون حبا شديدا لم يتمالك أن يصبر عنه.
(٢) (وألقيت عليك محبة منى) أي وألقيت عليك محبة خالصة منى قد ركزتها فى القلوب وزرعتها فيها، ومن ثم أحبك فرعون وزوجه حتى قالت «قرت عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا».
(٣) (ولتصنع على عينى) أي ولتربّى برعايتى، فأنا مراقبك وحافظك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا أراد شدة العناية به، يقول الرجل للصانع: اصنع هذا على عيني، أنظر إليه حتى يأتى وفق ما أحبّ وأبغى.
(٤) (إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) أي وألقيت عليك محبة منى حين تمشى أختك تتبعك متعرّفة حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعا تقبل ثديها، حتى اضطروا إلى تتبع النساء، فلما رأت ذلك منهم جاءت إليهم متنكرة وقالت: هل أدلّكم على من يضمّه إليه ويحفظه ويربيه؟ فجاءت بالأم فقبل ثديها ورجع إليها بما لطف الله له من التدبير، وقرت عينها بسلامته، وزال عنها الحزن والغم الذي كان قد ألمّ بها.
(ا) عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون كما جاء فى الآية «فأصبح فى المدينة خائفا يترقب».
(ب) عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت: «رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى» ووفقناك للهجرة إلى مدين.
(٦) (وفتناك فتونا) أي وأوقعناك فى محنة بعد محنة وتفضلنا عليك بالخلاص منها، فمن ذلك:
(ا) إن أمك حملت بك فى السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح.
(ب) إن أمك ألقتك فى البحر بعد وضعك فى التابوت فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك.
(ح) إنك امتنعت عن الرضاع إلا من ثدى أمك وكان ذلك وسيلة إلى إرجاعك إليها.
(د) إنك أخذت بلحية فرعون فغضب من ذلك وأراد قتلك لولا أن قالت له زوجه: إنه صغير لا يفرق بين الجمرة والتمرة وأتى لك بهما فأخذت الجمرة.
(هـ) قتلك القبطي وخروجك إلى مدين هاربا.
(٧) (فلبثت سنين فى أهل مدين) قاسيت أثناءها من المحن ما قاسيت، وتحمّلت بسبب الفقر والغربة آلاما كثيرة حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب وترعى غنمه.
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي ثم جئت وفق الوقت الذي سبق فى قضائى وقدرى أن أكملك فيه، وأن أجعلك رسولا دون تقدم ولا تأخر عنه، ولولا توفيق الله لما تهيأ لك شىء من ذلك.
وخلاصة ذلك- إنى جعلتك من خواصى، واصطفيتك برسالاتى وبكلامي، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة وجليل النعمة بالمكالمة، أشبه بمن يراه الملك أهلا لكرامته، فيقر به إليه ويجعله من خواصه وندمائه، ويصطنعه بالإحسان إليه فى الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
تفسير المفردات
الآيات: هى المعجزات، والمراد بها العصا واليد البيضاء، فإن فرعون حين قال له:
فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد وقال فذانك برهانان من ربك، ولا تنيا: أي لا تفترا ولا تقصّرا، فى ذكرى: أي فى تبليغ رسالتى، فالذكر يطلق على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، طغى: أي تجاوز الحد، قولا لينا: أي لا عنف فيه ولا غلظة: يتذكر: أي يتأمل فيذعن للحق ويؤمن، يخشى: أي يخاف من بطش الله وعذابه، يفرط: أي يعجّل بالعقوبة، من قولهم فرس فارط إذا كان سباقا للخيل،
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب الثمان- شرع يذكر الأوامر والنواهي التي طلب إليه أن يقوم بتنفيذها ويؤدى الرسالة على النهج الذي أمره به.
الإيضاح
(اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى) أي اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه، وإنى ممدّ كما بحججي وبرهاناتى الدالة على صدق نبوتكما، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل والمعاذير، ولا تفترا فى دعوتهم وتبليغ الرسالة إليهم، فبيّنا لهم أن الله أرسلكما إليهم مبشرين بثوابه ومنذرين بعقابه.
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى) أي اذهبا معا إلى فرعون، وناضلاه الحجة بالحجة، وقارعاه البرهان بالبرهان، لأنه طغى وتجبر وتمرّد حتى ادعى الربوبية فقال «أنا ربكم الأعلى».
وتخصيص فرعون بالدعوة آخرا بعد أن كانت الدعوة عامة أوّلا، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنا صاغية، واستجاب لدعوتهما وآمن بهما تبعه المصريون قاطبة كما قيل: الناس على دين ملوكهم.
ثم بين لهما سبيل الدعوة فقال:
ومن هذا ما حكى الله بعضه عن موسى فى قوله لفرعون: «هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى» وقوله تعالى له: «والسلام على من اتبع الهدى».
ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله:
(لعله يتذكر أو يخشى) تقدم أن قلنا إن (لعل) فى مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها: أي أدّيا الرسالة، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه، واسعيا إلى إنجازه سعى من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد قدر استطاعته، ويحتشد بأقصى وسعه آملا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح.
وقصارى ذلك- اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل وقد جرت العادة أن من رجا شيئا طلبه، ومن يئس انقطع عمله، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة، وقطع المعذرة، وإن لم يفد هدايته.
(قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أي قال موسى وهارون:
ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه، أن يعجّل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة، وإظهار المعجزة، أو يزداد طغيانا فيقول فى شأنك ما لا ينبغى، لعظيم جرأته، وقساوة قلبه، وفجوره وشديد عصيانه.
(قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى) أي قال الله لهما: لا تخافا فرعون إننى معكما بالنصرة والتأييد، والحفظ من غوائله، وإننى أسمع وأرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، وأحدث فى كل حال ما يصرف شره عنكما.
والخلاصة- لست بغافل عنكما، وإنى سأفعل ما يؤدى إلى حفظكما ونصركما عليه، فلا تأبها به، ولا تهتمّا بأمره.
وفى التعبير بقولهما (ربك) إيماء إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك، مما لا ينبغى أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه نظرة الاعتبار والصدق.
(فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم) أي فأطلق بنى إسرائيل من الأسر، ولا تعذبهم بتسخيرك إياهم فى شاقّ الأعمال كالحفر والبناء ونقل الأحجار، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساء هم فى تلك الأعمال.
وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان، لأنه أخف وأسهل من ذلك، لما فيه من تبديل الاعتقاد وهو عسر شاقّ على النفس.
ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما.
(قد جئناك بآية من ربك) أي قد جئناك بالحجة البالغة، والبرهان الساطع، على أنه أرسلنا إليك، وإن لم تصدقنا فيما نقول أريناكها.
(والسلام على من اتبع الهدى) أي والسلامة والأمن من العذاب فى الدنيا والآخرة على من اتبع رسل ربه، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق، وتنيل البغية، وتبعد عن الغى والضلال.
قال الزّجّاج: أي من اتبع الهدى سلّم من سخط الله وعذابه، وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب اه.
ويمثل هذا كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل ملك الروم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، فاسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
وفى هذا ترغيب فى التصديق على أتم وجوهه، وتنفير من مخالفته، وصد عنها على أقصى غاية كما لا يخفى.
(إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي إنا قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن عذابه الذي لا نفاد له ولا انقطاع فى الدنيا والآخرة، على من كذّب بما ندعو إليه من توحيده وطاعته وإجابة رسله، وأدبر معرضا عما جئناه به من الحق.
وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: «فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هى المأوى» وقوله: «فأنذرتكم نارا تلظى. لا يصلاها إلا الأشقى. الذى كذب وتولى» وقوله: «فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
تفسير المفردات
أعطى كل شىء خلقه: أي أعطى كل نوع صورته وشكله الذي يشاكل ما نيط به من الخواص والمنافع، ثم هدى: أي ثم عرّفه كيف يرتفق بما أعطى له، البال: الفكر يقال خطر ببالي كذا، ثم أطلق على الحال التي يعتنى بها وهو المراد هنا
أي طريق، أزواجا: أي أصنافا، شتى: واحدها شتيت كمريض ومرضى: أي مختلفة النفع والطعم واللون والشكل، لآيات: أي لدلالات، والنهى: واحدها نهية (بالضم) وهى العقل سمى بها لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.
المعنى الجملي
اعلم أن موسى وهارون عليهما السلام سارعا إلى الامتثال وجاءا فرعون وأبلغاه ما أمرا به، فسألهما سؤال الإنكار والجحد للصانع الخالق لكل شىء وربه ومليكه، ودار بينهما من الحوار ما قصه الله علينا.
روى عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى بابه أقاما حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فدخلا وكان من الحوار ما أخبرنا الله به.
الإيضاح
(قال فمن ربكما يا موسى) أي إذا كنتما رسولى ربكما الذي أرسلكما فأخبرانى، من ربكما الذي أرسلكما؟.
وإنما خص موسى بالنداء مع توجيه الخطاب إليهما، لما ظهر له أنه هو الأصل وهارون وزيره.
فأجاب موسى عن سؤاله:
(قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه) أي ربنا الذي أعطى كل شىء ما يليق به مما قدر له من الخواص والمزايا، فأعطى العين الوضع الذي يطابق ما يراد بها من الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وهكذا الأنف واليد والرجل وجميع أعضاء الجسم.
وخلاصة هذا- ربنا الذي خلق كل شىء على الوجه الذي يليق بما قدّر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله.
وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر- شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذا الإله، وهذا ما أشار إليه بقوله:
(قال فما بال القرون الأولى؟) أي فما حال القرون الماضية كعاد وثمود الذين لم يعبدوا الله بل عبدوا غيره؟.
فأجاب موسى:
(قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) أي إن ذلك من علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله، فهو الذي ضبط أعمالهم وأحصاها فى كتاب لا يشذّ عنه شىء، ولا يفوته شىء، لا كبير ولا صغير، ولا ينسى شيئا، وسيجزيهم بما عملوا جزاء وفاقا.
وقصارى ذلك- إن علمه تعالى محيط بكل شىء، وأنه لا ينسى شيئا، تبارك وتعالى، فعلمه ليس كعلم المخلوقين الذي يعتريه النقص من وجهين: عدم الإحاطة بالأشياء، ونسيانها بعد علمها.
وإنما سأل فرعون هذا السؤال لخوفه أن يزيد موسى فى إظهار تلك الحجة فيستبين للناس صدقه، فأراد صرفه عن ذلك، وشغله بالقصص والحكايات التي لا تعلق لها بشئون رسالته، لكن موسى كان أحرص من أن يهتم بمثل هذا، ومن ثم أوجز فى رده. ووكل أمر ذلك إلى ربه.
(الذى جعل لكم الأرض مهدا) أي ربى الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد، تتمهّدونها وتستقرون عليها، فتقومون وتنامون وتسافرون على ظهرها.
(وسلك لكم فيها سبلا) أي وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية تمشون فى مناكبها وتسلكونها من قطر إلى قطر، لتقضوا مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها.
ونحو الآية قوله: «وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون».
(وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) أي وأنزل من السماء مطرا فأخرج به مختلف أنواع النبات من زروع وثمار حامضة وحلوة وهى أيضا مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للإنسان، وبعضها يصلح للحيوان وفى هذا بيان لنعمه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي يولد تلك المنافع.
(كلوا وارعوا أنعامكم) أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم كلوا وارعوا أنعامكم إلخ. فشىء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم، وشىء أعد لأنعامكم قوتا لها أخضر ويابسا.
(إن فى ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم وعظيم سلطانه- لأدلة على وحدانيته وأنه لا إله غيره إذا كنتم من ذوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة.
ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء بين أنها غير مقصودة لذاتها، بل هى وسائل إلى منافع الآخرة فقال:
(منها خلقناكم) أي من الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية التي تكونت
(وفيها نعيدكم) أي وفى الأرض نعيدكم بعد مماتكم فتصيرون ترابا كما كنتم قبل نشأتكم (ومنها نخرجكم تارة أخرى) أي وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرة أخرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة، ثم نرد الأرواح من مقرّها إليها.
وجاء بمعنى الآية قوله: «فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون» وقوله:
«يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا».
وفى الحديث «إن رسول الله ﷺ حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها فى القبر وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال وفيها نعيدكم، ثم أخذ أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وأخرج أحمد والحاكم عن أبى أمامة قال: «لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى القبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى، بسم الله، وفى سبيل الله، وعلى ملة رسول الله».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
تفسير المفردات
أبى: امتنع، موعد: أي ميعادا معيّنا، سوى: مستويا لا جبال فيه ولا وهاد بحيث يستر النظارة، يوم الزينة: يوم عيد كان لهم، يحشر الناس: أي يجمعون، والضحى:
وقت ارتفاع النهار.
بعد أن ذكر سبحانه سؤال فرعون عن رب موسى- قفى على ذلك ببيان أنه بصّره بالآيات الدالة على توحيد الله كقوله: ربنا الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، وقوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا، والدالة على نبوته كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانا ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء، فعلم كل هذا وكذّب به كفرا وعنادا كما قال «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا» الآية.
الإيضاح
(ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) أي ولقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وعلى نبوة موسى فكذب بها وأبى أن يذعن للحق.
وقد يكون المراد بها الآيات التسع المذكورة فى قوله: «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات».
ثم فصل سبحانه صفة تكذيبه وإبائه فقال:
(قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟) أي قال منكرا مستقبحا لما فعل موسى: أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا، لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر؟ إذ تستولى على عقول الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم.
وخلاصة ما قال- أجئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبى يجب عليهم اتباعك والإيمان بما جئت به إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها ويكون لك الملك فيها، وإنما قال تلك المقالة، ليحمل قومه على السخط على موسى والغضب منه، بإظهار أن مراده ليس مجرد إنجاء بنى إسرائيل من أيديهم، بل مقصوده إخراج القبط من أوطانهم، وحيازة أموالهم وأملاكهم جملة، وبذا يسدّ عليه الباب فلا يتوجه أحد إلى اتباع دعوته، مبالغة فى المدافعة عن بلادهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا ينظرون إلى معجزاته، ولا يلتفتون إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم ادّعى أنه سيعارضه بمثل عمله فقال:
(فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت) أي فاجعل بيننا وبينك ميقاتا وموعدا نجتمع نحن وأنتم فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر.
وإنما قال تلك المقالة، ليبين أنه قوى القلب، جلد متمكن من تهيئة وسائل المعارضة، وترتيب أسباب المغالبة، طال الأمد أو قصر.
(مكانا سوى) أي ويكون الاجتماع فى مكان مستو من الأرض لا انخفاض فيه ولا ارتفاع، فلا جبال ولا وهاد تستر بعض الحاضرين عن بعض.
وقصارى ذلك- عيّن لنا زمان المقابلة ومكانها على ألا يكون فيه ما يستر أحدا من الناس عن أحد ليروا ما يصدر منك ومن السحرة.
وغير خاف ما فى ذلك من إظهار الجلد، وقوة الوثوق بالغلبة.
ثم ذكر رد موسى على ما طلب فقال:
(قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) أي قال موسى: ميعادكم للاجتماع يوم عيد النيروز وكان على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم ويجتمعون، ليكون الحفل عاما، ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب فى القرى والأمصار، فتعلو كلمة الله ويظهر دينه، ويزهق الباطل وينتصر الحق على رءوس الأشهاد.
وفى ذلك من وضوح الحجة ما لا خفاء فيه، ومن وثوقه بفلجه على خصمه، وعدم مبالاته به.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
فتولى فرعون: أي انصرف عن المجلس، كيده: أي ما يكيد به من السحرة وأدواتهم، أتى: أي أتى الموعد ومعه ما جمعه من الأعوان والسحرة، ويلكم: أي هلاك لكم، والافتراء: الاختلاق والكذب، فيسحتكم بعذاب: أي يستأصلكم ويهلككم بعذاب شديد، فتنازعوا: أي فتفاوضوا وتشاوروا، وأسروا النجوى: أي بالغوا فى إخفاء كلامهم، بطريقتكم المثلى: أي بمذهبكم الذي أنتم عليه وهو أفضل المذاهب وأمثلها، فأجمعوا كيدكم: أي اجعلوا كيدكم مجمعا عليه، صفا: أي مصطفين، لأنه أهيب للصدور، أفلح: أي فاز بالمطلوب، استعلى: أي غلب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن موسى وفرعون اتفقا على موعد يجتمعان فيه وهو يوم عيد لهم- أردف ذلك ذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس من أمر السحرة وآلات السحر، وأتى بجميع ذلك، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدموا على ما هم عازمون عليه، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون، وبالغوا فى إخفاء ما يريدون، وقالوا ما موسى وهرون إلا ساحران يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم ويرجوان أن تتركوا دينكم وهو أمثل الأديان وأفضلها، لتعتنقوا دينهما، فحذار أن تفعلوا ذلك ولا يتخلفنّ منكم أحد وائتوا صفا واحدا وقد فاز بالمطلوب من غلب.
(فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) أي فانصرف عن مجلس الحجاج والمناظرة، وشرع يعدّ ما يكيد به من السحرة وآلاتهم وأنصاره وأعوانه، وكثير ما هم، ثم أقبل فى الموعد الذي عيّن ومعه جمعه، وجلس على سرير ملكه وحوله أكابر دولته، واصطفت الرعية يمنة ويسرة، وأقبل موسى يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة صفوفا بين يدى فرعون يحرّضهم ويستحثهم ويرغّبهم فى جودة العمل، ويتمنّون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، وقد جاء فى سورة الشعراء: «قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين».
ثم ذكر سبحانه ما كان من موسى حينئذ فقال:
(قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) أي قال موسى للسحرة:
لا تختلقوا الكذب على الله ولا تتقولوه عليه، بأن تدّعوا أن الآيات التي ستظهر على يدىّ سحر كما فعل فرعون، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ولا يبقى منكم ولا يذر.
(وقد خاب من افترى) على الله الكذب، ولم يفلح فى سعيه، ولم يصل إلى غرضه، فابتعدوا عن اختلاق الأكاذيب، ولا تضلّوا سواء السبيل، حتى لا يصيبكم ما أصاب المفترين الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولما سمع السحرة كلام موسى وهارون هاجهم ذلك.
(فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) أي فتشاوروا وتفاوضوا ماذا يفعلون، وبالغوا فى كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يدور من القول، فيعدّا للأمر عدته، ويهيئا وسائل الدفاع، ومن الطّبعى فى مثل هذه الأحوال أن يخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبّره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر.
ثم بين سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله:
وخلاصة ما قالوه التنفير منهما لوجوه ثلاثة:
(١) الطعن فى نبوتهما ونسبتهما إلى السحر، وكل ذى طبع سليم ينفر من السحر، ويبغض السحرة، ويعلم أن السحر لا بقاء له، ولا ينبغى اتباع من جاء به، ولا اعتناق مذهبه وطريقته.
(٢) إنّ بغيتهما إخراجكم من أرضكم، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة على النفوس ومن ثم قال فرعون: «أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى».
(٣) إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات، ولا يبقيا شيئا من شئون الدولة والتصرف فى أمورها العامة.
وإجمال هذا- إنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم، وتمحّضت لهما الرياسة دونكم.
ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم، والبلاء المقبل فقالوا:
(فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، كما جاء فى آية أخرى «فجمع كيده» ثم ائتوا مصطفين مجتمعين، وألقوا ما فى أيديكم دفعة واحدة لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم لدى النظارة فى هذا المشهد الحافل.
(وقد أفلح اليوم من استعلى) أي وقد فاز بالمطلوب من غلب منا، أما نحن فقد وعدنا بالعطاء الجزيل والقرب من الملك: «قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين» وأما هو فسينال الرياسة، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم، وحفز الهمم، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز والفلج بالمطلوب.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٧٦]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
تفسير المفردات
إيجاس الخوف: الإحساس بشىء منه، ما فى يمينك: هى العصا وأبهمها تفخيما لشأنها، وتلقف: تبتلع بقوة وسرعة، صنعوا: أي زوّروا وافتعلوا، كيد ساحر:
أي كيد سحرىّ لا حقيقة له ولا ثبات، حيث أتى: أي أينما كان، كبيركم: أي
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الموعد وهو يوم الزينة، وذكر أنهم قالوا ائتوا صفا- ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه، وأن يبدءوهم، فاختار الثانية، وحين بدءوا فألقو حبالهم وعصيهم خاف موسى عاقبة أمره، فأوحى إليه ربه «لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما فى يمينك» فسيكون لك الفلج والظفر عليهم، وقد تحقق ما وعد الله به، وكتب له النصر وآمن به السحرة، فلجأ فرعون إلى العناد والاستكبار، وتوعد السحرة بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسيصلبهم فى جذوع النخل، فقابلوا تهديده بالازدراء والسخرية، وقالوا إنما أنت مسلّط علينا فى هذه الحياة الدنيا، وعذابك لا يعدوها، وما عند الله من العذاب لا يضارعه عذاب، وما عنده من الثواب لا يقدر قدره، ففى جناته التي تجرى من تحتها الأنهار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى) أي فأجمع السحرة كيدهم ثم أتوا صفا فقالوا لموسى: اختر لك أحد الأمرين، إما أن تلقى ما معك، وإما أن نلقى ما معنا.
وهذا التخيير منهم حسن أدب معه وتواضع منهم، وتنبيه إلى إعطائه النّصفة
(قال بل ألقوا) أي بل ألقوا أنتم أوّلا لنرى ما تصنعون من السحر، ويظهر للناس حقيقة أمركم، وحين ألقوا: «قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون».
(فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصىّ فخيّل إلى موسى أنها تمشى، وجاء فى آية أخرى «سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤ بسحر عظيم».
قيل إنهم حشوها بالزئبق الذي من طبعه أن يتأثر سريعا بحرارة الشمس، فما أسرع ما تحركت تلك الحبال والعصى حين سقطت عليها أشعة الشمس، فامتلأ الوادي بحيات يركب بعضها بعضا.
وخلاصة ذلك- إنهم حشوها بزئبق أو بمادة أخرى إذا وقعت عليها الشمس اضطربت وتحركت واتصل بعضها ببعض، فمن رآها ظن أنها تمشى وتسعى.
(فأوجس فى نفسه خيفة موسى) أي فأوجس موسى بشىء من الخوف حين فوجىء بذلك على مقتضى الطبيعة البشرية حين ترى الأمر المهول المخيف.
ثم أبان سبحانه أنه ربط على قلبه فقال:
(قلنا لا تخف) أي قلنا: له هدّىء روعك، واطمئن بالا.
ثم علل ذلك بقوله:
(إنك أنت الأعلى) أي إنك ستنتصر عليهم وستكون لك الغلبة، فالعاقبة للمتقين.
(وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا) أي وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروا بها أعين الناس حتى خيل إليك أنها تسعى.
(إنما صنعوا كيد ساحر) أي إن الذي فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، كيد سحرى لا حقيقة له ولا بقاء.
وخلاصة ذلك- إن الذي، معك يا موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويه وتلفيق ظاهر عليه الزور والبهتان، فكيف يتعارضان؟.
(ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا حيثما كان.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على أنه امتثل أمر ربه وألقى العصا وكان ما وعد به من تلقفها لما صنعوا فقال:
(فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) أي فألقى ما فى يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر للسحرة جليّة الأمر وأن ما عمله ليس بالسحر، فهو ليس من فنون السحر التي حذقوها، ولا من أنواع الحيل التي عرفوها، وإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا يقدر على مثله إلا من يقول للشىء كن فيكون، حينئذ وقعوا سجدا لله وقالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهرون.
روى أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على وجود الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى على كونه رسولا صادقا من عند الله، لا جرم تابوا وآمنوا وأتوا وهم خاضعون ساجدون.
قال صاحب الكشاف- سبحان الله، ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبا لهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود اه.
روى عن ابن عباس أنه قال: كانوا أول النهار سحرة، وفى آخره شهداء بررة وروى عنه عكرمة أنه قال: كان السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
ولما خاف فرعون أن يصير ذلك سببا لاقتداء الناس بهما فى الإيمان بالله ورسوله ألقى شبهة فى النبي ونبوته.
(قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر) أي إنكم قد فعلتم جريرتين وارتكبتم جرمين:
(١) إنكم آمنتم له قبل البحث والتفكير، فإيمانكم لم يكن عن بصيرة وأناة فلا يعتدّ به.
(٢) إنكم تلاميذه فى السحر، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لدعوته وتفخيما لأمره.
وبعد أن أورد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم من الإيمان، وتحذيرا لغيرهم عن الاقتداء بهما فقال:
(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي أقسم بالله لأقطّعنها مختلفات، بأن تقطع الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق، لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة.
(ولأصلبنكم فى جذوع النخل) زيادة فى إيلامكم وتشهيرا بكم.
وخلاصة ذلك- لأجعلنكم مثلة، ولأزيلن مالكم من منافع، ولأشهرنّ بكم، قال ابن عباس: فكان أول من عذب بهذا العذاب.
(ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) أي ولتعلمن أنا أو موسى أشد عذابا وأبقى.
ثم لما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم فى الله.
(قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نختارك بالإيمان والانقياد على ما جاءنا من الله على يد موسى من المعجزات التي اشتملت عليها العصا.
وفى هذا إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى، وإلا فعل بهم ما أوعدهم به.
(والذى فطرنا) أي لن نختارك على ما جاءنا من الهدى، وعلى فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، إذ هو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت.
ولما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان، فعل فرعون ما أوعدهم به قالوا:
(فاقض ما أنت قاض) أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك فوعيدك لا يزحزحنا عن إيماننا واطمئناننا بما صرنا إليه.
ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا:
(إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) أي إنما لك تسلط علينا فى هذه الدار دار الزوال ونحن نرغب فى دار البقاء.
وقصارى ردهم- إنك إنما تصنع ما تهوى فى هذه الدنيا فحسب، وإنا لا نأبه بنعيمها، ولا نرهب عذابها.
(إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) أي إنا آمنا بربنا المحسن إلينا طوال أعمارنا، ليستر ما اجترحنا من الذنوب والآثام، ولا سيما ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آيات الله ومعجزاته.
روى الحسن أن السحرة الذين حشدوا من المدائن ليعارضوا موسى، أحضروا مكرهين، وأكرهوا على إظهار السحر، وروى أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان منهم من القبط، والباقون من بنى إسرائيل أكرههم فرعون على تعلّم السحر.
ولم يرد دليل على أنه نفّذ ما صمم عليه فى عقابهم، ولكن الراجح أنه نفّذ ذلك كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.
ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب، عظة لفرعون وتحذيرا له من نقمة الله وعذابه السرمدي وترغيبا له فى ثوابه الأبدى.
(إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) أي إن من يلق الله وهو مجرم بكفره ومعاصيه فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهى عذابه، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم، قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت فى المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم والعرب تقول: فلان لا حى ولا ميت. إذا كان غير منتفع بحياته.
كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض: لا هو حىّ فيرجى، ولا ميت فينعى.
ونحو الآية قوله «لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور» وقوله «ويتجنبها الأشقى. الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى» وقوله «ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون».
(ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) أي ومن لقى ربه مؤمنا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه، ثم عمل صالح الأعمال، فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم وجليل أعمالهم المنازل الرفيعة والدرجات العالية.
. وفى السنن: إن أبا بكر وعمر لمنهم ونعمّا.
ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله:
(جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي تلك الدرجات العلى هى جنات إقامة تجرى من تحت غرفها الأنهار ماكثين فيها أبدا.
ثم بين سبب فوزهم بهذا النعيم فقال:
(وذلك جزاء من تزكى) أي وذلك الفوز الذي أوتوه جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده لا شريك له واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاءوا به من عند ربهم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
تفسير المفردات
السرى والإسراء: السير ليلا، اضرب لهم: أي اجعل لهم، يبسا: أي طريقا يابسا لا ماء فيه، والدرك (بالفتح والسكون) : الإدراك واللحوق، تخشى: أي تخاف
أي وما أرشدهم إلى طريق يصل بهم إلى طريق السعادة، الأيمن: أي الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام، المنّ: نوع من الحلوى يسمى الترنجبين، والسلوى:
طائر شبيه بالسّمانى، ولا تطغوا فيه: أي فلا تأخذوه من غير حاجة إليه، فيحل عليكم غضبى: أي ينزل بكم، هوى: سقط وهلك، غفار: كثير المغفرة والستر للذنوب، اهتدى: أي لزم الهداية واستقام.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا به، وأن فرعون أبى أن يذعن للحق، وتمادى هو وقومه فى العناد والإعراض عن سبيل الرشاد- أردف ذلك ذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الغرق فى البحر حين تبعوا موسى للحاق به لما خرج من مصر ذاهبا إلى الطور، وطوى فى البين ذكر ماجرى على فرعون وقومه بعد أن غلبت السحرة- من الآيات المفصّلة التي حدثت على يد موسى فى مدى عشرين سنة بحسب ما فصل فى سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب وعد أن يرسل بنى إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب، فإذا هو انكشف نكص على عقبيه ونكث فى عهده، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلا من مصر، ثم عدد بعدئذ نعمه الدينية والدنيوية على بنى إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم وقد كان ينزل بهم ضروبا من الظلم: من قتل وإذلال وتعب فى الأعمال، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم وتفصيل شريعتهم، وأنه أنزل
الإيضاح
(ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) أي ولقد أوحينا إلى نبينا موسى حين تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه وتمادى في طغيانه: أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية، واخرج بهم من مصر، فاتخذ لهم طريقا يابسا فى البحر، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك، ولا تخش أن يغرقك البحر.
وفى التعبير عن بنى إسرائيل (بعبادى) إظهار للعناية بأمرهم والرحمة لهم، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق.
(فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي ولما سرى بهم موسى أتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشيهم من اليم ما لا سبيل إلى إدراك كنهه، فغرقوا جميعا.
(وأضل فرعون قومه وما هدى) أي وقد سلك بقومه سبيل الضلال فى دينهم ودنياهم، وما هداهم إلى سبيل الرشاد، وفى هذا تهكم به إذ قال «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».
ثم شرع سبحانه يعدّد نعمه على بنى إسرائيل فقال:
(١) (يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) فرعون وقومه حين كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وأقر عينكم منهم، إذ أغرقهم وأنتم تنظرون كما قال: «وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون».
(٣) (ونزلنا عليكم المن والسلوى) فكان ينزل عليكم المن وأنتم فى التيه مثل الثلج بياضا مع حلاوة شديدة من الفجر إلى طلوع الشمس، وتبعث إليكم ريح الجنوب بطير السمانى فيأخذ كل منكم ما يكفيه.
(كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لكم، كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم.
(ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى) أي ولا تطغوا فى رزقى بالإخلال بشكره وتعدى حدودى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على المعاصي ومنع الحقوق الواجبة فيه فينزل عليكم غضبى، وتجب عليكم عقوبتى.
(ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) أي ومن ينزل به غضبى فقد شقى وهلك.
(وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) أي وإنى لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب من شركه، ويقلع عن ذنبه، ويخلص لى فى العمل، ويؤدى فرائضى، ويجتنب المعاصي، ويستقيم حتى الموت.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
يقال جاء على أثره (بفتحتين وبكسر فسكون) : إذا جاء لاحقا به بلا تأخير، فتنا قومك: أي اختبرناهم، وأضلهم: أي أوقعهم فى الضلال والخسران، والسامري:
من شعب إسرائيل من بطن يقال له السامرة واسمه موسى، والأسف: الحزين، والوعد الحسن: إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، والعهد: زمان الإنجاز، موعدى: أي وعدكم إياى بالثبات على الإيمان، وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف، بملكنا: أي بقدرتنا واختيارنا، والأوزار: الأثقال والأحمال والمراد بالقوم هنا القبط، فقذفناها:
أي طرحناها فى النار، جسدا: أي جثة لا روح فيها، والخوار: صوت العجل، فنسى:
أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور، أن لا يرجع إليهم قولا: أي لا يردّ عليهم جوابا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا: أي لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أوحى إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلا ويخترق بهم البحر ولا يخشى غرقا ولا دركا من فرعون وجنده، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعا حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل، ثم عدد نعمه عليهم من إنجائهم من عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق ونهاهم عن الطغيان، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا- أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذكرت آنفا،
الإيضاح
(وما أعجلك عن قومك يا موسى؟) المراد بالقوم النقباء السبعون، وإعجاله عنهم تقدمه عليهم، أي أىّ شىء عجّل بك عن قومك، وجعلك تتقدمهم؟.
والمراد الإنكار عليه فى تقدمه عليهم، لأن ذلك يقتضى إغفال أمرهم وعدم العناية بهم، مع أنه مأمور باستصحابهم وإحضارهم معه، وإنكار للعجلة فى ذاتها أيضا، ولا سيما من أولى العزم الذين يجدر بهم مزيد الجزم.
(قال هم أولاء على أثرى) أي قال موسى مجيبا ربه: هم أولاء بالقرب منى آتون على أثرى، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة لا يعتدّ بها، وليس بينى وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض.
(وعجلت إليك رب لترضى) أي وعجلت إليك رب لتزداد عنى رضا، بالمسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك.
وخلاصة معذرته- إنى اجتهدت أن أتقدم قومى بخطإ يسيرة، ظنا منى أن مثل ذلك لا ينكر، فأخطأت فى اجتهادي، وقد حملنى على ذلك طلب الزيادة فى مرضاتك، وكأنه عليه السلام يقول: إنما أغفلت هذا الأمر مبادرة إلى رضاك ومسارعة إلى الميعاد، والموعود بما يسرّ يود لو ركب أجنحة الطير ليحظى بما يبتغى ويريد.
(قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) أي قال: إنا قد اختبرنا قومك الذين خلفتهم مع هرون من بعد فراقك. قال ابن الأنبارى: صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل
(وأضلهم السامرى) أي دعاهم إلى الضلال باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل فى دين بنى إسرائيل فى الظاهر وفى قلبه حنين لعبادة البقر، فأطاعه بعض وامتنع آخرون.
(فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي فانصرف موسى إلى قومه بنى إسرائيل بعد انقضاء الليالى الأربعين- مغتاظا من قومه، حزينا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله. روى أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة.
قال القرطبي: سئل الإمام أبو بكر الطرشوشى عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شىء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟ فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبّاد العجل وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله، وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه، كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغى للسطان أن يمنعهم من الحضور فى المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين اه.
(قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) لا سبيل لكم إلى إنكاره، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام، ووعدكم الثواب العظيم فى الآخرة
(أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى؟) أي أفطال عليكم الزمان، فنسيتم وعدكم إياى بالثبات على دينى إلى أن أرجع من الميقات؟ أم تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم بعبادتكم للعجل وكفركم به؟.
وخلاصة ذلك- أفطال عليكم العهد فنسيتم أم تعمدتم المعصية فأخلفتم؟.
(قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) أي قالوا ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك إلا لأنا لم نملك أمرنا، فلو خلّينا وأنفسنا ولم يسوّل لنا السامري ما سوّله، لما أخلفنا.
وفى هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة.
وقصارى كلامهم: إن السامري سول لنا ماسول، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك.
(ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها) أي ولكن غلبنا موسى السامري إذ حمّلنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر بعلة أن لنا عيدا غدا، وقال: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها ثم أمرنا أن نحفر حفرة ونملأها نارا وأن نقذف الحلي فيها فقذفناه.
وسميت أوزارا: أي آثاما، لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم فى شريعتهم.
(فكذلك ألقى السامرى) أي فكما قذفنا نحن تلك الأثقال، ألقى السامري ما كان معه منها.
(فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) أي فأخرج لهم من تلك الأثقال التي
(فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى) أي فقال السامري ومن افتتن به أول ما رآه:
هذا هو إلهكم وإله موسى فاعبدوه، وقد غفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور.
فرد عليهم سبحانه، مقبّحا أفعالهم، مسفها أحلامهم فقال:
(أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون فى أن هذا العجل لا يرجع إليهم كلاما، ولا يرد عليهم جوابا وأنه لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا، ولا يجلب لهم نفعا؟
وقصارى ما يقول- إنه عاجز عن الخطاب، وعن النفع والضر، فكيف يتخذونه إلها؟
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٨]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
فتنتم به: أي وقعتم فى الفتنة والضلال، فاتبعونى: أي فى الثبات على الحق، لن نبرح: أي لا نزال، عاكفين: أي مقيمين، بلحيتي ولا برأسى: أي بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى، خشيت: أي خفت، ولم ترقب قولى: أي ولم تراع، فما خطبك:
أي ما شأنك، وما الأمر العظيم الذي صدر منك، بصرت بما لم يبصروا به (بضم الصاد فيهما) : أي علمت ما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا له يقال بصر بالشيء إذا علمه، وأبصره إذا نظر إليه، والرسول موسى عليه السلام، وأثره: سنته، فنبذتها: أي طرحتها وسوّلت لى نفسى: أي زينت وحسنت، لا مساس: أي لا مخالطة فلا يخالطه أحد ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، لن تخلفه: أي سيأتيك به الله حتما، ظلت (أصله ظللت دخله حذف) : أي أقمت، لنحرقنه: أي لنبردنّه بالمبرد، لننسفنه: أي لنذرينه، فى اليمّ: أي فى البحر، وسع كل شىء علما: أي وسع علمه كل شىء وأحاط به.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل، لأنه لا يستجيب لهم دعاء ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا- أكد هذا وزاد عليهم فى التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما فعلوا، ثم حكى معاتبة موسى لهرون على سكوته على بنى إسرائيل وهو يراهم يعبدون العجل، ثم ذكر أنه اعتذر له، ولكنه لم يقبل معذرته، ثم قص علينا ما قاله السامري وما أنّبه به موسى وما عاقبه الله به فى الدنيا والآخرة، وما صنعه موسى بالعجل من نسفه وإلقائه فى البحر، ثم بين لهم أن الإله
الإيضاح
(ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي ولقد قال هرون لعبدة العجل من بنى إسرائيل ناصحا لهم من قبل رجوع موسى إليهم يا قوم إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض الشاك فى دينه.
(وإن ربكم الرحمن) أي وإن خالقكم وخالق كل شىء هو الذي عمت رحمته جميع مخلوقاته، فآتاهم ما فيه كمالهم الجسمى والروحي، وما به سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
وفى ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا قبلت توبتهم.
(فاتبعونى وأطيعوا أمرى) أي فاتبعونى فيما آمركم به من عبادتى وترك عبادة العجل، وأطيعونى فى اتباع ما يبلغكم رسولى.
ثم بين أنهم لم يسمعوا نصحه، ولم يطيعوا أمره.
(قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) أي قال عبدة العجل من قوم موسى لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع موسى إلينا، لنرى ماذا يقول، وماذا يرى فى ذلك؟.
وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف وعدم إجابة طلب هرون.
ثم ذكر مقال موسى لهرون بعد أن فرغ من خطاب قومه وبيان خطأ فعلهم.
(قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) أي قال موسى لهرون: أىّ شىء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقنى إلى جبل الطور بمن آمن معك من بنى إسرائيل؟.
(أفعصيت أمرى) فيما قدمت إليك من قولى: «اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين».
فلما أقام بينهم ولم يبالغ فى الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة امره.
فترفّق هرون فى خطاب موسى استعطافا له وترقيقا لقلبه إذ أضافه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه.
ال يا بن أم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى)
أي فامتلأ موسى غضبا مما رأى، وألقى ما فى يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه فقال: يا بن أمي لا تأخذ بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى.
وقد روى أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله،
وكان عليه السلام حديدا غضو با لله تعالى، وقد شاهد ما شاهد، وغلب على ظنه تقصير هرون عليه السلام ففعل ما فعل.
قال صاحب الكشاف: كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب فى كل شىء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحميّة، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضا على شعر رأسه (وكان أفرع) وعلى شعر وجهه يجره إليه اه.
ثم بين علة هذا النهى بأنى لست عاصيا أمرك ولا مقصرا فى المصلحة، بل:
نى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى)
أي إنى خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا، فتريثت حتى تكون أنت المتدارك ذلك بنفسك،
وخلاصة ذلك- إنى رأيت من صواب الرأى أن أحفظ العامة وأداريهم على وجه لا يختل به نظامهم، ولا يكون سببا للومك حتى ترجع فتتدارك الأمر بحسب ما ترى ولا سيما أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى.
وبعد أن انتهى من سماع اعتذار قومه وإسنادهم الفساد إلى السامرىّ ومن سماع اعتذار هارون- وجه الكلام إلى السامري.
(قال فما خطبك يا سامرى) أي قال موسى للسامرى: ما شأنك وما الذي دهاك حتى فعلت ذلك الأمر الجلل؟ وقد خاطبه بهذا ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه، ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.
(قال بصرت بما لم يبصروا به) أي قال السامري: إنى عرفت ما لم يعرفه القوم ولم تعرفه أنت، وعرفت أن ما أنتم عليه ليس بالحق.
(فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) أي وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فطرحته، كما يقال فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، ويتبع طريقته، وأجرى الكلام على طريق الغيبة وهو يخاطبه على نهج قول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير فى كذا وبماذا يأمر الأمير؟ قاله أبو مسلم الأصفهانى، وأيده الرازي وقال إنه أقرب إلى التحقيق.
وخلاصة هذا- إن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم- رد عليه بأنه كان استن بسنته، واقتفى أثره وتبع دينه، ثم استبان له أن ذلك هو الضلال بعينه، وأنه ليس من الحق فى شىء فطرحه وراءه ظهريا وسار على النهج الذي رأى وفى التعبير بكلمة (الرسول) على هذا نوع من التهكم والسخرية، لأنه جاحد
(وكذلك سولت لى نفسى) أي كما زينت لى نفسى أولا اتباع سنتك واقتفاء أثرك، زينت لى أيضا ترك ذلك بمحض الهوى لا لشىء آخر من برهان عقلى أو نقلى أو إلهام إلهى.
والخلاصة- لم يدعنى إلى ما فعلت إلا هوى النفس فحسب:
ولما سمع موسى من السامري ما سمع بيّن له ما سينزل به من الجزاء فى الدنيا والآخرة وذكر له حال إلهه، أما عزاؤه هو فى الدنيا فما حكاه سبحانه عنه.
(قال فاذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس) أي قال له: اذهب فأنت طريد من بين الناس، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدا، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس: أي لا يماسّنى أحد، ولا أماسّ أحدا، قال مقاتل: إن موسى عليه السلام أمره هو وأهله بالخروج من محلة بنى إسرائيل، فخرج طريدا فى البراري.
وروى أنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم فى البريّة مع السباع والوحش، ولا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.
وقصارى ذلك- إنه خاف وهرب، وجعل يهيم فى الصحارى والقفار حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك.
وأما جزاؤه فى الآخرة فقد ذكره بقوله:
(وإن لك موعدا لن تخلفه) أي وإن لك موعدا فى الآخرة لن يخلفكه الله، بل سينجزه لك البتة، بعد أن يعاقبك فى الدنيا، وهو آت لا محيص منه.
وأما حال إلهه فقد بينه بقوله:
(وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا)
ولقد برّ موسى فى قسمه وفعل ما أوعده به كما يدل على ذلك قوله (وانظر إلى إلهك) ولم يصرح بهذا تنبيها إلى وضوحه واستحالة الخلف فى وعيده المؤكد باليمين.
وفى فعله ذلك به عقوبة للسامرى، وإظهار لغباوة المفتونين به لمن له أدنى نظر.
وبعد أن فرغ من إبطال الباطل شرع فى تحقيق الدين الحق فقال:
(إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو) أي ليس هذا بإلهكم، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغى العبادة إلا له، فكل شىء فقير إليه، وهو الخالق لكل شىء.
(وسع كل شىء علما) أي هو العالم بكل شىء وقد أحاط بكل شىء عدّا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
تفسير المفردات
ذكرا: أي قرآنا كما قال: «يا أيها الذى نزل عليه الذكر» وسمى بذلك، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، والوزر: الحمل الثقيل
أي زرق الأبدان سود الوجوه، لما هم فيه من الشدائد والأهوال، يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم ويخفونها، لشدة ما يرون من الهول، إلا عشرا: أي عشرة أيام، أمثلهم طريقة: أي أعدلهم رأيا، وأرجحهم عقلا.
المعنى الجملي
بعد أن شرح قصص موسى عليه السلام مع فرعون أولا ثم مع السامري ثانيا على نمط بديع وأسلوب قويم- بين لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية والقرون الغابرة كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، نلقيه إليك تسلية لقلبك، وإذهابا لحزنك إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك من شدائد الأهوال، وتذكيرا للمستبصرين فى دينهم، وتأكيدا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم.
الإيضاح
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) يخاطب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على هذا الأسلوب الرائع والمسلك البديع- يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت على الأمم الخالية، ليكون له فى ذلك سلوة، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لا قوه من أممهم من شديد العناد والجحود والتكذيب ومكابدة الشدائد والأهوال.
(وقد آتيناك من لدنا ذكرا) أي وقد أعطيناك من لدنا كتابا جديرا بالتذكر به، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعط نبىّ قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاو للأحكام التي فيها صلاح حال البشر فى دينهم ودنياهم، مشتمل على مكارم الأخلاق، وسامى الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم وينبه ذكرها
وكل من بلغه القرآن من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم فهو نذير له، فمن اتبعه هدى ومن أعرض عنه ضل وشقى فى الدنيا، والنار موعده يوم القيامة كما قال «لانذركم به ومن بلغ».
(خالدين فيه) أي مقيمين فى ذلك الوزر أي فى عقوبته لا يجدون عنها محيصا ولا انفكاكا.
(وساء لهم يوم القيامة حملا) أي وبئس الحمل الذي حملوه من الأوزار والآثام جزاء إعراضهم وسائر ذنوبهم.
(يوم ينفخ فى الصور) أي هذا اليوم هو يوم ينفخ فى الصور النفخة الثانية إيذانا بالقيام للحشر والحساب.
(ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) أي وفى هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبى الألوان زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التي تحلّ بهم.
(يتخافتون بينهم) أي يخفضون أصواتهم ويهمس بعضهم فى أذن بعض، لما امتلأت به قلوبهم من الرعب والذعر.
وبمعنى الآية قوله تعالى: «فلا تسمع إلا همسا».
(إن لبثتم إلا عشرا) أي يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم فى الدنيا إلا عشرة أيام، ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم فى الدنيا، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل.
والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء، وأكثرها خطورا بباله.
ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها، وتعاقبت لياليها وأيامها- قصيرة المدى إذا قيست بالنظر إلى يوم القيامة وكأن غرضهم بذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر الأجل على نحو ما جاء فى قوله: «ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» وقوله «قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
تفسير المفردات
ينسفها: أي يجعلها ذرات صغيرة ثم يصيرها هباء منثورا، يذرها: أي يتركها، القاع: الأرض التي لا بناء فيها ولا نبات قاله ابن الأعرابى، والصفصف:
والظلم الثاني: منع الثواب عن المستحق، والهضم: النقص.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه حال يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال التي تجعل المجرمين يتخافتون فى حديثهم وينسون مقدار لبثهم فى الدنيا، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان إلى نحو أولئك مما سلف- قفى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر- عن الجبال وأحوالها فى ذلك اليوم ثم الإجابة عنه، وضم إلى الجواب أمورا أخر تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله، فبين أن الأرض فى ذلك اليوم تكون مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي، ولا يسمع لهم كلام إلا همس، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إلا إذا أذن لهم الرحمن ورضى للمشفوع له قولا، ثم ذكر أن الله هو العليم بما أصابوا من خير أو شر، وهم لا يحيطون به علما، وفى ذلك اليوم تذل الوجوه وتخضع للواحد الديان، وقد خسر حينئذ من ظلم نفسه، فأشرك مع الله غيره، وعبد معه سواه، وعصى أوامره ونواهيه.
أما المتقون فإنهم لا يظلمون، فلا يزاد فى سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت الآية (ويسئلونك عن الجبال) إلخ.
ولا شك أن سؤالهم هذا سؤال تهكم واستهزاء وطعن فى الحشر والنشر، لا سؤال معرفة للحق وتثبيت له.
(ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن الجبال كيف تكون يوم القيامة؟ فقل مجيبا لهم يدكّها ربى دكا، ويصيّرها هباء تذروه الرياح.
(فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أي فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية، لا نبات فيها ولا بناء، ولا ارتفاع ولا انخفاض.
وخلاصة هذا- لا ترى فى الأرض يومئذ واديا ولا رابية، ولا مكانا مرتفعا ولا منخفضا.
(يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له) أي يوم يرى الناس هذه الأهوال يتبعون صوت داعى الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف، ولكنهم سراعا إليه يقبلون، إذا أمروا بشىء قالوا لبّيك، ونحن بين يديك، والأمر منك وإليك كما قال: «مهطعين إلى الداع» وقال: «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا».
(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) أي وعلمت الخلائق أن لا مالك لهم سواه، ولا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس الذي لا يكاد يفهم إلا بتحريك الشفتين لضعفه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه، ويضعف صوته، ويختلط قوله، ويطول غمه، قاله أبو مسلم.
(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا) أي يومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضى له قولا صدر منه.
والفاسق قد قال قولا يرضاه الرحمن فقد قال لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس.
والخلاصة- إن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين:
(١) إذن الله للشافع بالشفاعة.
وقصارى ذلك- إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن فى أن يشفع له، وكان له قول يرضى.
وبمعنى الآية قوله تعالى: «من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه» وقوله «وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى» وقوله: «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون» وقوله: «يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا».
ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك بقوله:
(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) أي يعلم ما بين أيدى عباده من شؤون الدنيا، وما خلفهم من أمور الآخرة، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله.
ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها فقال:
(وعنت الوجوه للحى القيوم) أي واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القائم على خلقه بتدبير شؤونهم، وتصريف أمورهم.
وخص الوجوه بالذكر، لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، ولأن آثار الذل والغبطة والسرور تظهر عليها.
(وقد خاب من حمل ظلما) أي وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، أو تارك لأوامره، منغمس فى معاصيه.
وبعد أن ذكر أهوال يوم القيامة بين حال المؤمنين حينئذ فقال:
(ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) أي ومن يعمل صالح الأعمال على قدر طاقته، وهو مؤمن بربه ورسله، وما أنزله عليهم من كتبه فلا يخاف من الله ظلما بأن يحمل عليه سيئات غيره وأوزاره، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها، ونحو الآية قوله: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
تفسير المفردات
صرّفنا: كررنا وفصلنا، ذكرا: أي عظة وعبرة، فتعالى الله: أي تنزه وتقدس الحق: أي الثابت فى ذاته وصفاته، يقضى إليك وحيه: أي يتم جبريل تبليغه لك.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أنه كما أنزل الآيات المشتملة على الوعيد المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها- أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد قرآنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم البديع، والأسلوب العجيب الخارج عن طوق البشر، ثم بين عز اسمه نفع هذا القرآن لعباده، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان فى أمر الوحى.
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل إياه مخافة النسيان، فنهى عن ذلك وقيل له: لا تعجل به إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون، وادع ربك أن يزيدك فهما وعلما.
(وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) أي وكما أنزلنا ما ذكر من الوعد والوعيد وأحوال يوم القيامة وأهوالها- أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربى مبين، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم، ويتفقهوا بدراسته، ويسعدوا بالعمل بما حواه مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم.
(وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) أي وخوفناهم فيه بضروب من الوعيد، كى يجتنبوا الشرك والوقوع فى المعاصي والآثام، أو يحدث لهم عظة تدعوهم إلى فعل الطاعات.
وخلاصة ذلك- إنهم بدراستهم إما أن يصلوا إلى مرتبة هى ترك المعاصي والوقوع فى الآثام، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هى فوق ذلك، وهى أن يفعلوا الطاعات ويؤدوا الفرائض والواجبات.
وبعد أن عظم الله كتابه أردفه بتعظيم نفسه فقال:
(فتعالى الله الملك الحق) أي تقدس الله المتصرف بالأمر والنهى، الحقيق بأن يرجى وعده، ويخشى وعيده، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يتغير- من ألا يكون إنزال القرآن على من أنزل عليهم مؤديا إلى الغاية التي أنزل لأجلها وهى تركهم للمعاصى وفعلهم للطاعات.
ولا يخفى ما فى هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن وبيان أن قوارعه وزواجره سياسات إلهية، فيها صلاح الدارين، لا يحيد عنها إلا من خذله الله، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله، لا يحوم الباطل حول حماه، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره.
(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي ولا تعجل بقراءته فى نفسك من قبل أن يتم جبريل تبليغه لك، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى
وفى هذا أنزل قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه».
وخلاصة ذلك- أنصت حين نزول الوحى بالقرآن عليك، حتى إذا فرغ الملك من قراءته، اقرأه بعده.
(وقل رب زدنى علما) أي سل الله زيادة فى العلم دون استعجال بتلاوة الوحى، فإن ما أوحى إليك يبقى لا محالة،
روى الترمذي عن أبى هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعنى، وزدنى علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار»
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدنى إيمانا وفقها، ويقينا وعلما.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
العهد: الوصية يقال عهد إليه الملك بكذا وتقدم إليه بكذا: إذا أمره وأوصاه به، من قبل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين، فنسى: أي فترك، ولم نجدله: أي ولم نعلم، والعزم على الشيء: تصميم الرأى والثبات عليه، أبى أي امتنع، فتشقى:
أي تتعب بمتاعب الدنيا وهى لا تكاد تحصى، تظمأ: تعطش، تضحى، أي تصيبك الشمس يقال ضحا كسعى وضحى كرضى: إذا أصابته الشمس بحرها اللافح، شجرة الخلد: أي الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان خلد ولم يمت، لا يبلى: أي لا يفنى، طفقا يخصفان أي شرعا يلزقان ورق التين على سوءاتهما لسترها، غوى: أي ضل عن الرشد حيث اغترّ بقول عدوه، اصطفاه وقربه إليه، وهدى: أي إلى الثبات على التوبة، عن ذكرى: أي عن الهداية بكتبي السماوية، والضنك: الضيق الشديد، أعمى:
أي عن النظر فى الحجج والبراهين الإلهية، عن آياتنا: أي عن أدلتنا، فنسيتها: أي فتركتها، وتنسى: أي تترك، أسرف: أي انهمك فى الشهوات واسترسل فيها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه صرّف الوعيد فى القرآن وكرره لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا- قفىّ على هذا ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم
وهو فى الآخرة يكون أعمى عن الحجة التي تنقذه من ذلك الخزي الدائم، والعذاب المقيم.
ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك وهو إعراضه فى الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير فى جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازى الله المسرفين المكذبين بآياته فى الدنيا والآخرة جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام كما قال سبحانه: «لهم عذاب فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق».
الإيضاح
(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) أي ولقد وصينا آدم وقلنا له:
إن إبليس عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه،
وخلاصة ذلك- إنه ترك ما وصّى به من الاحتراس من الأكل من الشجرة.
ثم بين سبحانه ما عهد إليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) أي واذكر أيها الرسول الكريم ما وقع فى ذلك الحين منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلبّوا الأمر إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين.
وقد تقدم هذا القصص فى سورة البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف، وسيأتى ذكره فى سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتشريفه، وتفضيله على كثير ممن خلق.
(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) أي فقلنا له عقب ذلك رعاية لإرشاده ونصحه: إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت- عدوّ لك ولزوجك، ومن ثم لم يسجد لك وخالف أمرى وعصانى، فلا تطيعاه فيما يأمر كما به.
(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعبا بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى.
وخلاصة ذلك- إياك أن تسعى فى إخراجك منها فتتعب وتشقى فى طلب رزقك، وأنت هاهنا فى عيش رغد هنىء بلا كلفة ولا مشقة.
ثم علل ما يوجبه النهى عن ذلك فقال:
(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) أي لا يكون لك فى الجنة جوع ولا عرى، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس.
وقرن بين الجوع والعرى أوّلا، لأن فى الجوع ذل الباطن وفى العرى ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش وحر الظاهر وهو الضّحى ثانيا.
وقصارى ذلك- إن لك فيها تمتعا بأنواع المعاش، وتنعما بأصناف النعم، من المآكل الشهية، والملابس البهية.
وبعد أن بين أنه عظم آدم وعرفه شدة عداوة إبليس له بين أنه قبل نصحه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها فقال:
(فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟) أي فألقى الشيطان النصيحة إلى آدم وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا ينقضى ولا يفنى.
(فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورة عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما.
(وعصى آدم ربه فغوى) أي وخالف أمر ربه، وتعدى ما لم يكن له أن يتعدى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
(ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجه: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين».
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) أي قال الرب الذي انتهكت حرمة داره وخولف أمره. انزلا من الجنة إلى الأرض، أنتما عدو لإبليس وذريته، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما.
(فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) أي فإن يأتكم
أخرج ابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: «أجار الله تابع القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة، ثم قرأ الآية»
وروى عنه مرفوعا إلى النبي ﷺ «من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة فى الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة».
(ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) أي ومن أعرض عن ذكرى الذي أذكّره به وتولى عنه، ولم يتعظ به فينزجر عما هو مقيم عليه من مخالفة أمر ربه، فإن له معيشة ضيقة شديدة لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا والتهالك على ازديادها والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبا عليه، والبخل راسخا فى أعراقه:
(ونحشره يوم القيامة أعمى) عن الجنة، لأن الجهالة التي كانت له فى الدنيا تبقى كذلك فى الآخرة، وهذا يصير سببا لأعظم الآلام الروحية له:
وقصارى ذلك- إن الله عز اسمه جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه العيش الهنيء الذي لا همّ فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو فى الآخرة أشد تعبا، وأعظم ضيقا، وأكثر ألما:
(قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا؟) أي قال رب لم حشرتنى أعمى عن حجتى وعن رؤية الأشياء على حقيتها، وقد كنت فى الدنيا ذا بصر بذلك كله؟، ونحو الآية: «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» :
(قال) ربه مجيبا هذا السائل:
(كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) أي فكما تركت آياتنا ترك للنسى الذي لا يذكر أصلا وأعرضت عنها- اليوم ننساك فنتركك فى النار.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادى قلّ أو كثر لا يتقينى فيه فلا خير فيه وهو الضنك فى المعيشة.
وعن عكرمة ومالك بن دينار نحوه، وقيل إن تلك المعيشة له فى القبر بأن يعذّب فيه، وقد روى ذلك عن جماعة منهم ابن مسعود وأبو سعيد الخدرىّ ومجاهد، وروى ذلك مرفوعا أيضا
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن حبّان وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «المؤمن فى قبره فى روضة خضراء، ويرحب له قبره سبعين ذراعا، ويضىء حتى يكون كالقمر ليلة البدر، وهل تدرون فيم أنزلت (فإن له معيشة ضنكا) ؟ قالوا: الله ورسوله اعلم، قال عذاب الكافر فى قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رءوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون فى جسمه إلى يوم يبعثون».
وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك فى النار شوك وزقّوم وغسلين وضريع، وليس فى القبر ولا فى الدنيا معيشة، وما المعيشة والحياة إلا فى الآخرة.
(ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) أي ولعذاب الآخرة فى النار أشد مما نعذبهم به فى الدنيا وأكثر بقاء، لأنه لا أمد له ولا نهاية.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٢]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
أفلم يهد لهم: أي أفلم يبيّن لهم العبر، لأولى النهى: أي لذوى العقول الراجحة لزاما: أي لازما لهم لا يتأخر عنهم، فسبح بحمد ربك: أي اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه آناء الليل: ساعاته واحدها إنى وإنو (بكسر الهمزة وسكون النون) ولا تمدن عينيك:
أي لا تطيلن النظر رغبة واستحسانا، متعنا: أي جعلناهم يتلذذون بما يدركون من المناظر الحسنة، ويسمعون من الأصوات المطربة، ويشمّون من الروائح الطيبة، أزواجا: أي أشكالا وأشباها، زهرة الحياة الدنيا: أي زينتها وبهجتها، لنفتنهم: أي لنبتليهم ونختبرهم، ورزق ربك: أي ما ادّخره لك، واصطبر عليها: أي دم عليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال من أعرض عن ذكر الله فى الآخرة بقوله: ونحشره يوم القيامة أعمى- أتبعه بما يكون عبرة للمشركين لو تفكروا فيه، وهو ما نزل بالمكذبين بالرسل ممن قبلهم من الأمم الذين يمرون بديارهم بكرة وعشيا كقوم عاد وثمود، وكيف أصبحت ديارهم خرابا بلقعا ليس فيها ديّار ولا نافخ نار، ثم بين أنه لولا سبق الكلمة بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى لحاق بهم مثل ما حاق بمن قبلهم، ثم أمر رسوله بالصبر على ما يسمونه به من نحو قولهم: إنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مجنون وعدم المبالاة بمقالتهم، وعليه أن يكثر من التسبيح وعبادة ربه آناء الليل وأطراف النهار ولا يلتفت إلى شىء مما متّع به الكفار من زهرة الدنيا التي أوتيت
الإيضاح
(أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم؟) أي أفلم يرشدهم إلى وجه العبر، إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية، والقرون الغابرة، التي يمرون عليها مصبحين وبالليل كعاد وثمود الذين يشاهدون آثارهم العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعيم ثم ما حلّ بهم من صنوف البلاء، فيتعظوا ويعتبروا ويؤمنوا بالله ورسوله خوف أن يصيبهم بكفرهم مثل ما أصاب هؤلاء السابقين.
وللمشاهدة من العبرة ما ليس لغيرها فقد قالوا «ليس الخبر كالخبر» وقالوا:
«ما راء كمن سمع».
وخلاصة ذلك- إن فى مشاهدة ما حصل للأمم الماضية، ورؤية آثارها البائدة التي يمرون عليها فى رحلاتهم فى الصيف لعبرة وزاجرا لهم لو كانوا يعقلون.
ثم علل هذا الزجر والإنكار بقوله:
(إن فى ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذبة لرسلنا وحلول المثلات بهم لكفرهم بربهم- لعبرا وعظات لأرباب الحجا الدين ينهاهم دينهم، ويؤنّهم عقلهم، من مواقعة ما يضرهم.
ولما هدد المشركين بالهلاك كهلاك المكذبين من الماضين، ذكر سبب تأخير ذلك عنهم فقال:
(ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) أي ولولا الكلمة النافذة التي سبقت منا فى الأزل، وهى أن أمة محمد- وإن كذبوا- سيؤخر عذابهم
وقد جعل العلماء من الحكمة فى تأخير العذاب أنه ربما تاب بعضهم أو خرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، فيكون فى ذلك إكرام لنبيّه، ورحمة لأمته، وتكثير لسواد أتباعه، وإلى ذلك
أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا».
وبعد أن أخبر سبحانه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله- أمره بالصبر على ما يقولون فقال:
(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار) أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من نحو قولهم: إنك لساحر، وإنك لمجنون، وإنك لشاعر، واشتغل بتنزيه الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفى ساعات الليل المختلفة وفى أطراف النهار، والمراد من مثل ذلك عموم الأوقات،
وفى صحيح مسلم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها».
وفى الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وقرأ هذه الآية».
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى يا بن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك».
وعن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له».
وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول هل رضيتم؟ فيقولون ربنا ومالنا لا ترضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول إنى أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأىّ شىء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
ولما صبّر رسوله على ما يقولون وأمره بالتسبيح- أتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متّعوا به من زينة الدنيا فقال:
(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) أي ولا تطل النظر استحسانا ورغبة فيما متّع به هؤلاء المترفون من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، نختبرهم بها، ونعلم هل يؤدون شكرها أو تكون وبالا عليهم ونكالا لهم، وقد آتاك ربك خيرا مما آتاهم، فرضاه خير وأبقى كما قال: «ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم».
وخلاصة هذا- التنفير من الانهماك فى التمتع بزهرة الدنيا لسوء عاقبتها.
وبعد أن أمر الله نبيه بتزكية النفس أمره أن يأمر أهله بالصلاة فقال:
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) أي وأمر أهلك أيها الرسول بالصلاة، وحافظ أنت عليها فعلا، فإن الوعظ بالفعل أشد أثرا منه بالقول كما قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره | هلّا لنفسك كان ذا التعليم |