تفسير سورة طه

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة طه من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها خمس وثلاثون ومائة
بسم الله الرحمان الرحيم
ويركزه، غرزه في الأرض ؛ ومنه الركاز للمال المدفون. والمراد : أنه استأصلهم ؛ فلا عين لهم ولا أثر ؟ فكذلك عاقبة مشركي مكة. والله أعلم.
سورة طه

﴿ طه ﴾ لفظ استأثر الله بعلمه. أو اسم للسورة. أو للرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ لتشقى ﴾ لتتعنى وتتعب من فرط تأسفك على كفرهم ؛ بل لتبلغ وتذكر وقد فعلت، فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد ذلك.
وأصل الشقاء في اللغة : العناء.
﴿ لمن يخشى ﴾ أي لمن شأنه أن يخشى الله ويتأثر الإنذار. وخص الخاشي بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كافة لأنه هو الذي ينتفع به، وغيره بمنزلة العدم.
﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾ أي استواء يليق بكماله تعالى ؛ بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل [ آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٣ ].
﴿ وما تحت الثرى ﴾ الثرى : التراب الندي : يقال : ثريت الأرض – كرضيت – ثرى فهي ثرية، إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس. والمراد : ما واراه الثرى وهو تخوم الأرض إلى نهايتها. وخصّ بالذكر مع دخوله في قوله : " وما في الأرض " لزيادة التقرير.
ثم بين الله إحاطة علمه بجميع الأشياء إثر بيان إحاطة قدرته وشمولها لجميع الكائنات بقوله :﴿ وإن تجهر بالقول ﴾ أي ترفع صوتك بالذكر أو الدعاء﴿ فإنه يعلم السر وأخفى ﴾ أي ويعلم أخفى من السر. والسر : ما حدّث الإنسان به غيره في خفاء. والأخفى منه : خواطره النفسية التي لا يحدث بها غيره.
﴿ وهل أتاك حديث موسى ﴾ استئناف لقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مساق الحديث، وبيان أنه أمر مستمر جاءت به جميع الرسالات السماوية ودعا إليه كل رسول.
﴿ إذ رأى... ﴾ وهو قادم من مدين إلى مصر ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام. ﴿ إني آنست ﴾ أبصرت إبصارا بينا لا شبهة فيه. ﴿ لعلى آتيكم منها بقبس ﴾ بجذوة من النار، وهي الشعلة التي تأخذها من النار في طرف عود ونحوه. ﴿ أو أجد على النار هدى ﴾ أي أجد عندها هاديا يدلني على الطريق ؛ وكانت الليلة مظلمة. أو على الماء ؛ فإنه قد ضل طريقه. مصدر سمي به الفاعل مبالغة.
﴿ فلما أتاها ﴾ أي النار التي آنسها ؛ وكانت في شجرة. قيل : إنها لم تكن نارا ؛ بل كانت نورا من نور الرب تبارك وتعالى. ﴿ نودي ﴾ من حضرة رب العالمين :﴿ يا موسى ﴾ وهذا أول المكالمة بين الله تعالى وبينه في هذه الواقعة. وآخرها قوله تعالى : " أن العذاب على من كذب وتولى " ١ وقد سمع الصوت من جميع الجهات وبجميع الأعضاء ؛ فعرف أنه نداء رب العالمين.
١ آية ٤٨ هذه السورة..
﴿ طوى ﴾ اسم للوادى المقدس ؛ أي المطهر أو المبارك.
﴿ أكاد أخفيها ﴾ أقرب أن أسترها من نفسي، فكيف أظهركم عليها ! أو فكيف يعلمها مخلوق ! جرى الخطاب على ما تعارفه العرب إذا بالغ أحدهم في إخفاء شيء أن يقول : كدت أخفيه من نفسي !
أو أقرب أن أخفيها ولا أظهرها بقوله إنها آتية، ولولا أن في الأخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار مالا يخفى لما فعلت ! وقوله :﴿ لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ متعلق ب " آتية "، وجملة " أكاد أخفيها " معترضة بينهما.
﴿ فتردى ﴾ فتهلك إن أنت انصددت عن ذكرها ومراقبتها والتأهب لها. يقال : ردي – كرضي – ردا، هلك. وأرداه غيره : أهلكه ؛ ومنه تردى في البئر : أي سقط فيها.
﴿ وأهش بها على غنمي ﴾ أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي. يقال : هش الشجرة بالعصا يهشها هشا، إذا خبطها ليتساقط ورقها. ﴿ ولي فيها مآرب أخرى ﴾ حاجات ومنافع أخرى غير ذلك. مفردها مأربة – مثلثة الراء – من قولهم : لا أرب لي في كذا، أي لا حاجة لي في.
﴿ سنعيدها سيرتها الأولى ﴾ أي إلى هيئتها الأولى التي كانت عليها قبل أن نصيّرها حية تسعى. فعلة من السير، تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه، ثم استعملت في مطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء.
﴿ واضمم يدك إلى جناحك ﴾ أي واضمم يدك اليمنى إلى عضد اليسرى بأن تجعلها تحته عند الإبط، وذلك بعد أن تدخلها من طوق مدرعتك. والجناح : العضد، وأصله جناح الطائر، وسمي بذلك لأنه يجنحه أي يميله عند الطيران، ثم توسّع فيه فأطلق على العضد. ﴿ تخرج بيضاء ﴾ نيّرة مشرقة. ﴿ من غير سوء ﴾ أي من غير عيب. والسوء : الرداءة والقبح في كل شيء، وكّني به عن البرص لشدة قبحه. ﴿ آية أخرى ﴾ معجزة غير العصا.
﴿ إنه طغى ﴾ جاوز الحد في العتو والتمرد على ربه حتى ادعى الروبية [ آية ٢٥٦. البقرة ص ٨٤ ].
﴿ واجعل لي وزيرا ﴾ معينا وظهيرا في إبلاغ رسالتك ؛ من الموازرة وهي المعاونة. يقال : وازرت فلانا موازرة، أعنته على أمره. أو من الوزر وهو الملجأ ؛ وأصله الجبل يتحصن به.
﴿ اشدد به أزري ﴾ قوّ به ظهري. يقال : أزر فلان فلانا، إذا أعانه وشد ظهره. وآزره : أعانه وقواه، وأصله من شد الإزار.
﴿ وأشركه في أمري ﴾ اجعله شريكي في أمر الرسالة لنتعاون على أدائها.
﴿ قد أوتيت سؤلك ﴾ أعطيت مسئولك، فعل بمعنى مفعول ؛ كالأكل بمعنى المأكول.
﴿ ولقد مننا عليك مرة أخرى ﴾ ذكر الله من المنن على موسى بغير سؤال ثمانيا : الأولى – قوله : " إذ أوحينا إلى أمك " إلى قوله : " وعدو له ". والثانية – قوله : " وألقيت عليك محبة مني ". والثالثة – قوله : " ولتصنع على عيني " إلى قوله : " من يكفله ". والرابعة – قوله : " فرجعناك إلى أمك " إلى قوله : " ولا تحزن ". والخامسة – قوله : " وقتلت نفسا ". والسادسة – قوله : " وفتناك فتونا ". والسابعة – قوله : " فلبثت " إلى قوله : " يا موسى ". والثامنة – قوله : " واصطنعتك لنفسي ".
﴿ ولتصنع على عيني ﴾ أي ليفعل بك الصنيعة والإحسان، وتربى بالحنو والشفقة ؛ وأنا مراعيك كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. يقال : صنعت الفرس صنعا وصنعة، إذا أحسنت إليه وقمت بعلفه وتسمينه ؛ وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون.
﴿ على من يكفله ﴾ على امرأة تضمه إلى نفسها فتحفظه وترضعه وتربيه. يقال : كفله وكفله، إذا عاله. والكافل العائل. ﴿ كي تقر عينها ﴾ أي تسر برجوعك إليها بعد أن قذفتك إلى اليم [ آية ٢٦ مريم ص ٦ ].
﴿ وفتناك فتونا ﴾ أي ابتليناك ابتلاء بالمحن ؛ فخلصناك منها مرة بعد أخرى. والفتون : مصدر كالقعود والجلوس. أو فتناك فتونا وضروبا من الابتلاء ؛ جمع فتن.
﴿ فلبثت سنين في أهل مدين ﴾ قرية شعيب عليه السلام، واقعة حول خليج العقبة عند نهايته الشمالية، وشمال الحجاز وجنوب فلسطين، على ثمان مراحل من مصر. ﴿ ثم جئت على قدر ﴾ أي على وفق الوقت الذي قدرناه لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه. تقول العرب : جاء فلان على قدر، إذا جاء لميقات الحاجة إليه. وكانت سنه إذ ذاك أربعين سنة.
﴿ واصطنعتك لنفسي ﴾ جعلتك محل صنيعتي وإحساني ؛ لتبليغ رسالتي وإقامة حجتي. افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهي الإحسان. وقيل : هو تمثيل لما خوله الله تعالى من جلائل النعم ؛ بتقريب الملك من يراه أهلا للتقريب ؛ فيصطنعه بالكرامة ويجعله من خواصه وندمائه.
﴿ ولا تنيا ﴾ لا تضعفا ولا تفترا. يقال : ونى في الأمر وعن الأمر يني ونيا، إذا فتر وضعف.
﴿ في ذكرى ﴾ في تبليغ رسالتي. أو في ذكرى بما يليق بي من الصفات الجليلة عند تبليغ رسالتي، والدعاء إلى عبادتي.
﴿ إننا نخاف أن يفرط علينا ﴾ أي نخشى أن يعاجلنا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. يقال : فرط عليه يفرط، عجل عليه وآذاه. ﴿ أو أن يطغى ﴾ أي يزداد طغيانا فيقول في شأنك مالا ينبغي لفرط جراءته.
﴿ أعطى كل شيء خلقه ﴾ أي وهب كل شيء من الأشياء الأمر اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع المطابق له ؛ كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وهكذا. و " خلقه " مصدر بمعنى اسم المفعول، مفعول ثان ل " أعطى ". ﴿ ثم هدى ﴾ أي دل بذلك على وجوده وقدرته وتفضله.
﴿ فما بال القرون الأولى ﴾ البال في الأصل : الفكر، ثم أطلق على الحال التي يعتنى بها. أي ما حال الأمم الخالية التي عبدت غير ما تدعو لعبادته ؛ مثل قوم نوح وعاد وثمود الذين عبدوا الأوثان ؛ فأجابه موسى بأن العلم بأحوالهم لا تعلق له بمنصب الرسالة ؛ وأن علمها عند علام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما ؛ فيجازيهم على كفرهم وضلالهم.
﴿ الذي جعل لكم... ﴾ ابتداء كلام منه تعالى بعد انتهاء كلام موسى عليه السلام بقوله " ولا ينسى ". وقيل : هو من كلام موسى عليه السلام. ﴿ مهدا ﴾ فرشا، وهو والمهاد في الأصل : ما يمهد للصبي [ آية ١٠٦ البقرة ص ٦٧ ]. ﴿ من نبات شتى ﴾ مختلف المنافع والألوان والطعوم والروائح ؛ جمع شتيت بمعنى متفرق، وألفه للتأنيث.
﴿ وارعوا أنعامكم ﴾ ارعوها فيما خلقناه لها من هذه النباتات. يقال : رعة الدابة ترعى رعيا ورعاية، ورعاها صاحبها إذا أسامها وسرحها وأراحها. ﴿ لآيات لأولى النهى ﴾ أي لذوي العقول السليمة يدركون بها أن ذلك الخلق العظيم، والنظام البديع لا يكون إلا من رب قادر حكيم. جمع نهيه، سمى العقل بها لنهيه عن القبائح.
﴿ نخرجكم تارة أخرى ﴾ مرة أخرى يوم البعث، بتأليف أجزائكم المتفرقة، ورد الأرواح من مقرها إليها، وإخراجكم إلى المحشر. عدد الله عليهم هذه النعم تذكيرا وإرشادا ليؤمنوا به. والتارة : مفرد تارات وتير ؛ وهي في الأصل : اسم للتور الواحد وهو الجريان، ثم أطلق على كل فعلة من الفعلات المتجددة : تارة. ويقال : أتاره، أعاده مرة بعد مرة.
﴿ مكانا سوى ﴾ محلا نصفا عدلا بيننا وبينك. يقال : مكان سوى وسوى وسواه، أي عدل ووسط، يستوي طرفاه بالنسبة للفريقين.
﴿ موعدكم يوم الزينة ﴾ يوم عيد كان لهم في كل عام. أو يوم سوق كانوا يتزينون فيه.
﴿ فجمع كيده ﴾ مكره، وذلك بجمع سحرته.
﴿ فيسحتكم بعذاب ﴾ فيستأصلكم ويبيدكم بعذاب عظيم ؛ من الإسحات، وأصله استقصاء الحلق للشعر، ثم استعمل في الإهلاك والاستئصال مطلقا. يقال : أسحت ماله إسحاتا، استأصله وأفسده ؛ كسحته سحتا.
﴿ وأسروا النجوى ﴾ بالغوا في إخفاء ما يتسارون به عن موسى وأخيه. والنجوى : المسارة في الحديث.
﴿ قالوا إن هذان لساحران ﴾ أي قالوا بطريق التناجي والإسرار ما استقر عليه رأيهم من أن موسى وهارون ساحران. و " إن " مخففة مهملة عن العمل، واللام فارقة. و " هذان " مبتدأ خبره " ساحران ".
﴿ ويذهبا بطريقتكم المثلى ﴾ أي بمذهبكم ودينكم الذي هو أمثل المذاهب وأفضلها ؛ من قولهم : فلان حسن الطريقة ؛ أي المذهب. أو بملككم الذي أنتم فيه، وعيشكم الذي تنعمون به.
﴿ فأجمعوا كيدكم ﴾ فأحكموا كيدكم واعزموا عليه، ولا تجعلوه متفرقا. يقال : أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه. ﴿ وقد أفلح... ﴾ فاز بالمطلوب من طلب العلو والغلب وسعى سعيه.
﴿ يا موسى إما أن تلقي ﴾ أي تطرح ما معك قبلنا. والإلقاء في الأصل : طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ؛ ثم تعورف في كل طرح.
﴿ فأوجس في نفسه خيفة ﴾ الإيجاس : الإخفاء والإضمار. والخفية : الخوف ؛ أي أخفى موسى في نفسه شيئا من الخوف من مفاجأة ذلك بمقتضى الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول. ولكن الله ثبته وقال له :﴿ ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ﴾
﴿ ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ﴾ أي تبتلع بسرعة ما موهوا به. يقال : لقفه يلقفه لقفا ولقفانا، تناوله بسرعة وحذق باليد أو الفم.
﴿ والذي فطرنا ﴾ أي ولن نؤثرك على الذي أبدعنا وأوجدنا، أو هو قسم بالله. وفعله من باب نصر.
﴿ أن أسر بعبادي ﴾ أي سر بهم أول الليل من أرض مصر إلى خليج السويس [ آية ١ الإسراء ص ٤٤٩ ]. ﴿ يبسا ﴾ أي يابسا لا طين فيه ولا ماء. واليبس : المكان إذا كان فيه ماء وذهب﴿ لا تخاف دركا ﴾ أي لا تخشى أن يدرك فرعون وجنوده من ورائك. والدرك – محركة – اللحاق. يقال : أدركه لحقه.
﴿ المن والسلوى ﴾ [ آية ٥٧ البقرة ص ٢٩ ].
﴿ ولا تطغوا فيه ﴾ تتعدوا حدود الله فيما رزقناكم بأن تكفروا به ؛ من الطغيان وهو تجاوز الحد في العصيان [ آية ٢٥٦ البقرة ص ٨٤ ]﴿ فيحل عليكم غضبي ﴾ فيجب عليكم عقابي. يقال :
حل أمر الله عليه حلالا، وجب. وقرئ بضم الحاء، أي فينزل عليكم. يقال : حل يحل حلولا، نزل. ﴿ فقد هوى ﴾ أي هلك ؛ وأصله السقوط من علو. يقال : هوى يهوي هويا وهويا وهويانا، سقط إلى أسفل ؛ ثم استعمل في الهلاك للزومه له.
﴿ وما أعجلك عن قومك ﴾ أمر موسى عليه السلام بحضور الميقات مع قوم مخصوصين ؛ وهم النقباء السبعون الذين اختارهم الله من بني إسرائيل ليذهبوا معه إلى الطور لأجل أن يأخذوا التوراة ؛ فسار بهم موسى ثم عجل من بينهم مشوقا إلى ربه، وخلفهم وراءه وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل ؛ فقال تعالى : " وما أعجلك ". ، أي أيّ شيء عنهم فتقدمت عليهم. يقال : أعجله وعجله تعجيلا، استحثه ؛ من العجلة وهي طلب الشيء وتحريه قبل أوانه.
﴿ قد فتنا قومك ﴾ أي ابتلينا القوم الذين خلفتهم مع هارون – وهم غير النقباء السبعين – بعبادة العجل ؛ إلا قليلا منهم حيث أطاعوا موسى السامري فيما دعاهم إليه، وكان من عظمائهم، من قبيلة تعرف بالسامرة، وكان منافقا. والفتنة : الابتلاء والاختبار [ آية ١٠٢ البقرة ص ٤٠ ].
﴿ أسفا ﴾ حزينا على ما صنع قومه. أو شديد الغضب. والأسف : الحزن والغضب معا، وقد يطلق على كل واحد منهما على الانفراد. ﴿ أن يحل ﴾ أي يجب﴿ عليكم غضب ﴾.
﴿ ما أخلفنا موعدك بملكنا ﴾ أي بقدرتنا وطاقتنا ورغبتنا. يقال : ملكه يملكه ملكا – بتثليث الميم – احتواه قادرا على الاستبداد به. ﴿ حملنا أوزارا ﴾ أي أثقالا وأحمالا. جمع وزر وهو الثقل. ﴿ من زينة القوم ﴾ أي من حل القبط. ﴿ فقذفناها ﴾ فطرحناها في النار﴿ فكذلك ألقى السامري ﴾ ما معه من الحلي. وقيل : ما معه من الحلي ومن التراب الذي وقع عليه حافر فرس جبريل عليه السلام.
﴿ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ﴾ [ آية ١٤٨ الأعراف ص ٢٧٩ ].
﴿ فما خطبك ﴾ فما شأنك وما الأمر العظيم الذي حملك على ما صنعت ؟ [ آية ٥١ يوسف ص ٢٨٧ ].
﴿ قال بصرت... ﴾ علمت بالبصيرة ما لم يعلموا به. يقال : بصر بالشيء يبصر – ككرم وفرح – أي علمه. ﴿ فقبضت قبضة من أثر الرسول ﴾ روي أن السامري رأى جبريل عليه السلام راكبا على فرس حين جاء إلى موسى ليذهب به إلى الميقات ؛ ولم يره أحد غيره من قوم موسى، ورأى الفرس كلما وضعت حافرها على شيء أخضر ؛ فعلم أن للتراب الذي تضع عليه الفرس حافرها شأنا، فأخذ منه حفنة وألقاها في الحلى المذاب. وخص بالرؤية ابتلاء ؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وعلمه بأن له شأنا أن يكون لما شاهده من اخضرار الأرض، وأن يكون بإخبار موسى عليه السلام فيما مضى. ﴿ سولت لي نفسي ﴾ زينت وحسنت. يقال : سولت له الأمر تسويلا، إذا صورته له بالصورة التي تستهويه وتحسنه لديه.
﴿ لا مساس ﴾ أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. مصدر ماس ؛ كقتال من قاتل. والمراد : أنه لا يخالط أحدا ولا يخالطه أحد.
﴿ ثم لننسفه من اليم نسفا ﴾ لنذرينه في البحر تذرية، حتى لا يبقى منه عين ولا أثر. يقال : نسف الطعام ينسفه بالمنسف، إذا ذراه فطير عنه قشوره وترابه.
﴿ زرقا ﴾ زرق العيون من شدة الهول. أو عميا ؛ لأن العين إذا ذهب نورها ازرق ناظرها ؛ قال تعالى : " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا " ١. أو عطاشا ؛ لأن العطش الشديد يغيّر سواد العين فيجعله كالأزرق ؛ قال تعالى : " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " ٢. ولا منافاة بين ذلك كما هو ظاهر.
١ آية ٩٧ الإسراء..
٢ آية ٨٦ مريم..
﴿ يتخافتون بينهم ﴾ يتهامسون بينهم لشدة هول الموقف ؛ من المخلفة وهي إسرار المنطق ؛ كالتخافت والخفت.
﴿ ويسألونك عن الجبال ﴾ سأل كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعل الله يوم القيامة بالجبال سؤال استهزاء ؛ لإنكارهم البعث. ﴿ فقل ينسفها ربي نسفا ﴾ يقلعها من أصولها ثم يجعلها كالرمل، ثم يصيرها كالصوف المنفوش، ثم تذروها الرياح، ثم يصيرها كالهباء المنثور.
﴿ فيذرها ﴾ فيترك الأرض التي كانت عليها الجبال﴿ قاعا ﴾ أرضا لا نبات فيها ولا بناء﴿ صفصفا ﴾ مستوية ملساء ؛ كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة. وعن ابن عباس ومجاهد : القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوى الذي لا نبات فيه.
﴿ لا ترى فيها عوجا ﴾ أي لا ترى في الأرض مكانا منخفضا﴿ ولا أمتا ﴾ أي مكانا مرتفعا لخلوها من الأودية والروابي، بل تراها مستوية.
﴿ فلا تسمع إلا همسا ﴾ صوتا خفيا خافتا، هو صوت خفق الأقدام في سيرهم إلى المحشر. يقال همس الكلام يهمسه همسا، إذا أخفاه.
﴿ وعنت الوجوه ﴾ أي ذل الناس وخضعوا لله تعالى في ذلك اليوم خضوع العناة، أي الأسارى﴿ للحي القيوم ﴾ [ آية ٢٥٥ البقرة ٨٣ ].
﴿ ولا هضما ﴾ لا يخاف انتقاصا من حقه. يقال هضمه حقه، نقصه.
﴿ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ﴾ أي ومثل إنزال الآيات المشتملة على ذكر القصص المتقدمة المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها – أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة﴿ عربيا ﴾ مبينا﴿ وصرفنا فيه من الوعيد ﴾ أي كررنا الوعيد فيه﴿ لعلهم يتقون ﴾ الكفر والمعاصي. ﴿ أو يحدث لهم ذكرا ﴾ اعتبارا مؤديا إلا الاتقاء ؛ لكنهم لم يلتفتوا لذلك ونسوه، كما لم يلتفت أبوهم آدم إلى النهي ونسي العهد إليه ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ﴾
﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ﴾ أي وصيناه ألا يقرب هذه الشجرة﴿ فنسي ﴾ العهد، ولم يشتغل بحفظه حتى غفل عنه. ﴿ ولم نجد له عزما ﴾ ثبات قدم في الأمور. أو صبرا عن أكل الشجرة.
﴿ فتشقى ﴾ فتتعب بمتاعب الدنيا.
﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى... ﴾ أي ألا يصيبك فيها شيء من الجوع والعرى والظمإ. والعري : خلاف اللبس. يقال : عري من ثيابه يعرى عريا وعرية، إذا تجرد من اللباس.
﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى... ﴾ أي ألا يصيبك فيها شيء من الجوع والعرى والظمإ. والعري : خلاف اللبس. يقال : عري من ثيابه يعرى عريا وعرية، إذا تجرد من اللباس.
﴿ ولا تضحى ﴾ أي لا يصيبك حر شمس الضحى لانتفائها فيها. يقال : ضحا – كسعى ورضي – ضحوا وضحيا، أصابته الشمس.
﴿ فوسوس إليه الشيطان ﴾ الوسوسة، الخطرة الرديئة. وأصلها من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي ؛ أي أنهى إليه الوسوسة.
﴿ فبدت لهما سوآتهما... ﴾ [ آية ٢٢ الأعراف ص ٢٥٥ ].
﴿ وعصى آدم ربه ﴾ خالف نهيه، ولكنه كان متأولا ؛ إذ اعتقد أن النهي عن شجرة معينة لا عن النوع كله ؛ وتسمية ذلك عصيانا لعلو منصبه عليه السلام. وقد قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين. ﴿ فغوى ﴾ أي فضل عن مطلوبه، وهو الخلود في الجنة، وحاد عنه ولم يظفر به. يقال : غوى يغوي غيا، وغوي غواية، ضل. أو ففسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا. والغي : الفساد.
﴿ فمن اتبع هداي ﴾ أي ما أبعثه بهداية الخلق من رسول أو كتاب.
﴿ ومن أعرض عن ذكرى ﴾ عن الهدى، الذاكر لي والداعي إلي﴿ فإن له معيشة ضنكا ﴾ ضيقة شديدة. والضنك : ضيق العيش، وكل ما ضاق فهو ضنك ؛ يستوي في الواحد والأكثر والمذكر والمؤنث. يقال : ضنك يضنك ضنكا وضناكة وضنوكة، ضاق.
﴿ أفلم يهد لهم ﴾ أغفلوا فلم يبين الله لهم كم أهلك أمما غابرة لتكذيبها الرسل ؛ ليتعظوا ويعتبروا وينيبوا إلى ربهم. وأصل معنى " يهدي " يدل على الهدى.
﴿ لكان لزاما ﴾ لكان عقابهم على جناياتهم لازما لهم في الدنيا ؛ كما فعل بالأمم السابقة. مصدر لازمه إذا لم يفارقه. ﴿ وأجل مسمى ﴾ معطوف على " كلمة " أي ولولا العبرة بتأخير العذاب عنهم، والأجل المسمى لأعمارهم لما تأخر عذابهم أصلا.
﴿ وسبح بحمد ربك ﴾ صل متلبسا بحمد ربك﴿ قبل طلوع الشمس ﴾ أي صلاة الفجر﴿ وقبل غروبها ﴾ أي صلاة العصر. ﴿ ومن آناء الليل فسبح ﴾ أي فصل المغرب والعشاء﴿ وأطراف النهار ﴾ أي وصل في أطراف النهار الظهر أي في طرفي نصفيه، يعنى في الوقت الذي يجمع الطرفين وهو وقت الزوال ؛ إذ هو نهاية النصف الأول وبداية النصف الثاني. وقيل : المراد بالتسبيح التنزيه عن السوء، والثناء على الله بالجميل في هذه الأوقات.
﴿ ولا تمدن عينيك... ﴾ نهي عن الإعجاب بالدنيا وزينتها، والرغبة فيها والتعلق الشديد بها ؛ بحيث يلهيه ذلك عن النظر إلى الأخرى، وتكون هي الشغل الشاغل له. والخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس فيها، وأبعدهم عن التطلع لزخارفها، وأعلق بما عند الله من كل أحد. ﴿ أزواجا... ﴾ أصنافا من الكفار. ﴿ زهرة الحياة الدنيا ﴾ زينتها وبهجتها ؛ مفعول ثان ل " متعنا " لتضمينه معنى أعطينا﴿ لنفتنهم فيه ﴾ لنعاملهم معاملة من يختبرهم به، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه.
﴿ أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ﴾ أي أجهلوا ولم يكفهم اشتمال القرآن على بيان ما في الصحف الأولى وهي الكتب الإلهية ؛ في كونه معجزة حتى طلبوا غيرها ؟ فالبينة : القرآن. والصحف الأولى : ما سبقه من الكتب السماوية.
﴿ نذل ﴾ أي بالهوان والعذاب في الدنيا﴿ ونخزى ﴾ بالافتضاح والعذاب في الآخرة.
﴿ الصراط السوي ﴾ الطريق المستقيم وهو الإسلام. ﴿ ومن اهتدى ﴾ من الضلالة. والله أعلم.
سورة طه
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (طه) من السُّوَر المكية التي افتُتِحت بتعظيمِ القرآن الكريم، وبيَّنتْ أن هذا الكتابَ هو كتابُ سعادة وهناءٍ، ولم يُنزِلْهُ اللهُ عز وجل للتعاسةِ والشَّقاء، كما اشتملت على تعظيمِ الله عز وجل؛ ببيانِ عُلُوِّه فوق خَلْقه: عُلُوِّ قهرٍ وغَلَبة، وعُلُوِّ استواءٍ على عرشه كما يليقُ بجلاله، كما تطرَّقتِ الآياتُ لقصة موسى عليه السلام، وفيها تكليمُ اللهِ موسى عليه السلام، ورعايتُه له، وذكَرتْ مشاهدَ من يومِ القيامة وأهواله.

ترتيبها المصحفي
20
نوعها
مكية
ألفاظها
1351
ترتيب نزولها
45
العد المدني الأول
134
العد المدني الأخير
134
العد البصري
132
العد الكوفي
135
العد الشامي
140

* سورة (طه):

سُمِّيتْ سورة (طه) بهذا الاسمِ؛ لافتتاحِها به.

 * سورة (طه) من العِتَاق الأُوَل التي تعلَّمها الصحابة :

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ) : إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (4994).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي» : يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).

* فيها اسمُ اللهِ الأعظَمُ:

فعن أبي أُمَامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: «اسمُ اللهِ الأعظَمُ الذي إذا دُعِيَ به أجابَ في ثلاثِ سُوَرٍ مِن القُرْآنِ: في (البقرةِ)، و(آلِ عِمْرانَ)، و(طه)». أخرجه الطبراني (٧٩٢٥).

وقد التمَسها بعضُ العلماء في هذه السُّوَرِ؛ فوجَدها في:

- (البقرةِ): {اْللَّهُ ‌لَآ ‌إِلَٰهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُۚ} [البقرة: 255].

- وفاتحةِ (آلِ عِمْرانَ): {اْللَّهُ ‌لَآ ‌إِلَٰهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ اْلْحَيُّ اْلْقَيُّومُ} [آل عمران: 2].

- وفي (طه): {وَعَنَتِ اْلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اْلْقَيُّومِۖ} [طه: 111].

ورَدتْ في سورة (طه) الموضوعات الآتية:

1. الافتتاحية (١-٨).

2. قصة موسى عليه السلام (٩-٩٨).

3. جزاء المُعرِضين عن القرآن (٩٩-١٠٤).

4. مَشاهِدُ يوم القيامة (١٠٥-١١٢).

5. مُحمَّد عليه السلام والقرآن (١١٣-١١٤).

6. آدَمُ وعداوة إبليس له ولذريته (١١٥-١٢٧).

7. إنذارٌ للمشركين، وإرشادٌ للنبي صلى الله عليه وسلم (١٢٨-١٣٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /490).

احتوت السورةُ على مقاصدَ عظيمةٍ؛ منها:

* التحدِّي بالقرآن؛ بذِكْرِ (الحروف المُقطَّعة) في مُفتتَحِها.

* والتنويه بأنه تنزيلٌ من الله لِهَدْيِ القابلين للهداية؛ فأكثرها في هذا الشأن.

* والتنويه بعظمةِ الله تعالى، وإثبات رسالة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ بأنها تُماثِل رسالةَ أعظَمِ رسولٍ قبله شاع ذِكْرُه في الناس؛ فضرب المَثَل لنزول القرآن على مُحمَّد صلى الله عليه وسلم بكلام اللهِ موسى عليه السلام.

* وتذكير الناس بعداوة الشيطان للإنسان بما تضمَّنتْهُ قصةُ خَلْقِ آدمَ.

* ورُتِّب على ذلك سُوءُ الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مَقادتَهم بيد الشيطان، وإنذارُهم بسُوءِ العقاب في الدنيا.

* وتسلية النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما يقولونه، وتثبيته على الدِّين.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (16 /182).