وتسمى أيضا سورة النجم بدون واو وهي مكية على الإطلاق وفي الإتقان استثنى منها ﴿ الذين يجتنبون ﴾ إلى اتقى وقيل :﴿ أفرأيت الذي تولى ﴾ الآيات التسع ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنه مدنية ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي وإحدى وستون في غيره وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة ﴿ والنجم ﴾ فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى :﴿ إدبار النجوم ﴾ وافتتحت هذه بقوله سبحانه :﴿ والنجم ﴾ وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى :﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ الآية فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : كذبت ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك ﴿ وهو أعلم بكم ﴾ الآية كلها وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ الخ قائلا سبحانه هنا في الكفار أو في الكبار :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ خلاف ماد خل في المؤمنين الصغار ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادى التضاد وفي صحة كون قوله تعالى :﴿ هو أعلم بكم ﴾ الآية نزل لما ذكر نظر عندي وكون قوله تعالى :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل.
ﰡ
وتسمى أيضا سورة- النجم- بدون واو وهي «مكية» على الإطلاق، وفي الإتقان استثنى منها الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ إلى اتَّقى [النجم: ٣٢]، وقيل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم: ٣٣] الآيات التسع، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي، وإحدى وستون في غيره، وهي كما
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا»
وهو أمية بن خلف،
وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال: يكفي هذا
، فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى: إِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: ٤٩] وافتتحت هذه بقوله سبحانه: «والنجم» وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم: ٣٢] الآية
فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحارث الأنصاري «قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية كلها»
وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١] إلخ قال سبحانه هنا في الكفار، أو في الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: ٣٩] خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار، ثم قال: وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد، وفي صحة كون قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية نزل لما ذكر نظر عندي، وكون قوله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل.
فباتت تعد النجم في مستحيرة | سريع بأيدي الآكلين جمودها |
ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا طلع النجم صباحا ارتفعت العاهة»
وقول العرب:- طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كساء، طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسية- وفسر هويها بسقوطها مع الفجر، وقيل: هو الشعرى المرادة بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النجم: ٤٩] والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها، وقيل: الزهرة وكانت تعبد، وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد: النَّجْمِ المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإِذا هَوى بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه السلام،
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج
، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين، وقيل: هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: العلماء على إرادة الجنس، والمراد بهويهم قيل: عروجهم في معارج التوفيق إلى حظائر التحقيق. وقيل:
غوصهم في بحار الافكار لاستخراج درر الأسرار. وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف بأن أصله اسم جنس لكل كوكب، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبه الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل: وَالنَّجْمِ الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله وَما غَوى أي وما اعتقد باطلا قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ما ضَلَّ من عطف الخاص على العام اعتناء بالاعتقاد، وإشارة إلى أنه المدار.
وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل:
وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ما ضَلَّ عنها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وَما غَوى فهو من باب:
صاحِبُكُمْ والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعن في قوله تعالى: عَنِ الْهَوى وقيل: هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار النفي كما مر مرارا في نظائره إِنْ هُوَ أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق إِلَّا وَحْيٌ من الله عز وجل يُوحى يوحيه سبحانه إليه، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي، وقيل: ضمير يَنْطِقُ للقرآن فالآية كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: ٢٩] وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا.
واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحيا لا نطقا عن الهوى، وحاصله منع كبر القياس، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي يستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين، وقال القاضي البيضاوي: إنه حينئذ
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى»
بمعنى ذي قوة، وفي الكشف إن المرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فَاسْتَوى أي فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادئ النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود- ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي كلام على ما قال الخفاجي: طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل:
فهل رآه على صورته الحقيقية؟ فقيل: نعم رآه فاستوى إلخ، وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى: ما أَوْحى
بيان لكيفية التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل: إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على عَلَّمَهُ على معنى
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن: هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل استوى، وقال الفراء والطبري: إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبرائيل عليه السلام، وجوز العكس، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين ثُمَّ دَنا أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فَتَدَلَّى فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل:
تدلى عليها بين سب وخيطة | بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها |
فأدرك إبقاء العرادة ظلعها | وقد جعلتني من خزيمة أصبعا |
أي جبريل عليه السلام إِلى عَبْدِهِ
أي عبد الله وهو النبي صلّى الله عليه وسلم، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام، ومنه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥] وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: ١] ما أَوْحى
أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: ٧٨] وقال أبو زيد: الضمير المستتر لله عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مروي عن الحسن
فَاسْتَوى وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه، وقوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل، وقوله سبحانه: فَأَوْحى
أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه:- ما أوحى- ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن، وإيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدا إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد، ثم قال سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل، فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى.
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنه وسيأتي ذلك إن شاء الله عز وجل بما له وعليه أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال: مريته حقه إذا جحدته، وأنشدوا لذلك قول الشاعر:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة | لقد مريت أخا ما كان يمريكا |
وهو غلط، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، وقيل: المراد
وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة»
والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقية.
والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم، ويقيل: إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة، والْمُنْتَهى اسم مكان وجوز كونه مصدرا ميميا، وقيل: لها سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله تعالى عندها أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقا. أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها، وإضافة سِدْرَةِ إلى الْمُنْتَهى من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي سِدْرَةِ الله الذي إليه الْمُنْتَهى كما قال سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: ٤٢] وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد عِنْدَها أي عند السدرة، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن، واستدل به على أن الجنة في السماء، وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون، وقيل: هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية، وقيل: من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به، والجملة حالية، وقيل: الحال هو الظرف، وجَنَّةُ مرتفع به على الفاعلية، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة: «جنه» بهاء الضمير وهو ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء الله تعالى: وجميل صنعه به، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن الْمَأْوى مصدر ميمي، أو اسم مكان، وجنه بمعنى ستره، قال أبو البقاء: شاذ والمستعمل أجنه، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها وكذا جمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: من قرأ به فأجنه الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر،
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى متعلق برآه: وقيل: بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على ما النافية للتوسع في الظرف. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام، وفي إبهام ما يَغْشى من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه، وعن ابن عباس غشيها رب العزة وجل وهو من المتشابه، وقال ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم: يغشاها جراد من ذهب، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا.
وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال: استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأذن له فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام،
وفي حديث «رأت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله تعالى»
وقيل: يغشاها رفرف من طير خضر، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم.
ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول الله صلى الله تعالى عليه عما رآه وَما طَغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي والله رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج- فالكبرى- صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه معد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع،
فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عليه له سبحانه أيضا. وقال: إن ذلك على معنى العظمة والقدرة السلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى له عز وجل أيضا، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى، لقد رأى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلّى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتألهين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه.
ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى على ما روي عن الحسن للنبي صلّى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى والضمائر في فَأَوْحى
إلخ لله تعالى، وقيل: إِلى عَبْدِهِ
ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم، وذهب غير واحد في قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى إلى قوله سبحانه: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في دَنا و (تدلى) و (كان) وأَوْحى
وكذا الضمير المنصوب في رَآهُ لله عز وجل، ويشهد لهذا ما
في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» الحديث
، فإنه ظاهر فيما ذكر.
واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك،
أخرج مسلم عن مسروق قال: «كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال:
وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: ٢٣] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، الحديث
وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق «فقالت:
أنا أول من سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت
ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في رَآهُ ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاعر أنها تنفي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا، وتستدل لذلك بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: ١٠٣] وقوله سبحانه وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى: ٥١] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة، وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق.
وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله ﷺ إياها، وحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والإنصاف أن الاخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقا، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله، والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع،
وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: رأيت ربي»
ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى:
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر،
أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن ذر قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نوراني أراه»
ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد الله قال: قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: «رأيت نورا»
فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نوراني» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة
في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: «حجابه النور»
وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر.
ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروى ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره» وكذا
روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى»
وفي حديث عن ابن عباس يرفعه «فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت اليه بفؤادي»
وكأن التقدير في الآية على هذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ فيما رَأى، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني وابن مردويه
الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أَوْحى
إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] إلى مخدع قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف
، وذلك قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا | سرّ أرق من النسيم إذا سرى |
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة: لثقيف بالطائف، وأنشدوا:
وفرت ثقيف إلى لاتها | بمنقلب الخائب الخاسر |
ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة | على النأي فيما بيننا ابن تميم |
وقال الإمام: الْأُخْرى صفة ذم كأنه قال سبحانه: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي وَالْعُزَّى صورة نبات وَمَناةَ صورة صخرة، فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد- فالجماد متأخر- ومناة جماد فهي أخريات المراتب، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال، وقيل: الْأُخْرى صفة للعزى لأنها ثانية اللات، والثانية يقال لها الْأُخْرى وأخرت لموافقة رؤوس الآي، وقال الحسن بن المفضل:
في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير والعزى الأخرى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ ولعمري إنه ليس بشيء، والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون: إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا: أَفَرَأَيْتُمُ إلخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذا الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور، ومناط الأول نفس تلك النسبة، وقيل: المعنى أَرايتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته. وقيل: المعنى أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة، وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم وقيل المعنى أَفَرَأَيْتُمُ هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم، ولا يخفى أن قوله تعالى: أَلَكُمُ إلخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامه على القول السابق، وقيل: إن قوله سبحانه: أَلَكُمُ إلخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب الله تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعد ما صور أمر الوحي تصويرا تاما وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه حق المعرفة قال سبحانه:
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم: ١٢] على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحققة لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديا مهديا، وأنى يبقى للمراء مجال- وقد رآه نزلة أخرى. ؟! وعرفه حق المعرفة، ثم قيل:
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ إلخ تنبيها على أن ما عدّ منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية.
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق، والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون على ما أنتم عليه من المراء فترون اللات
فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب | فسهمك مضؤوز وأنفك راغم |
ضازت بنو أسد بحكمهم | إذ يجعلون الرأس كالذنب |
وحاصله يَتَّبِعُونَ ذلك في حال ينافيه، وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة مقدرة- ببل- وهي للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدي نفعا أصلا والهمزة وهي للإنكار والنفي أي بل ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه، ومفاده قيل: رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبه جزئية، وإليه يشير قول بعضهم: المراد نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك، ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي، والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكا له مختصا به يتصرف فيه حسب إرادته ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصا بهم كما قيل، وقوله تعالى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأمور بل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشأ لم يكن، وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهمّ أطماعهم عندهم من الفوز فيها، ولذا أردف ذلك بقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وإقناطهم عما طمعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام موجب لاقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الاولوية وَكَمْ خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء، والخبر الجملة المنفية، وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله تعالى شيئا من الإغناء في وقت من الأوقات إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة.
لِمَنْ يَشاءُ أن يشفعوا له وَيَرْضى ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل. وعنه بألف ألف منزل، وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز وجل أهلا لها، وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام، والكلام قيل من باب:
على لا حب لا يهتدى بمناره فحاصله لا شفاعة لهم ولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه إلخ، وقيل: هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: ٢٥٥]، وقرأ زيد بن علي شفاعته بإفراد الشفاعة والضمير، وابن مقسم شفاعاتهم بجمعهما وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي، وأفردت
لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذا كان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتدّ بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الاعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل، وإنما يعتدّ به في العمليات وما يؤدي إليها.
وفسر بعضهم الحق بالله عز وجل لقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج: ٦، ٦٢، لقمان:
٣٠]، واستدل بالآية من لم يعتبر التقليد في الاعتقاديات- وفيه بحث- والظاهرية على إبطاله مطلقا، وإبطال القياس ورده على أتم وجه في الأصول، وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال: قال عمر بن الخطاب:
احذروا هذا الرأي على الدّين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالى كان يريه وإنما هو منا تكلف وظن وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً هو أحد أدلتهم على إبطال القياس أيضا، وقد حكى الآمدي في الأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: قال ابن عمر: اتهموا الرأي عن الدّين فإن الرأي منا تكلف وظن وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وأجاب عنه بأن غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله، وأن المراد بقوله: إِنَّ الظَّنَّ إلخ استعمال الظن في مواضع اليقين وليس المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة، ويقال نحو هذا في كلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك ليراجعه فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم. المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة. المشتمل على علوم الأولين والآخرين. المذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به، وقيل: المراد بالذكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به، وقيل: المراد به الإيمان، وقيل: هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز وجل وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا راضيا بها قاصرا نظره عليها جاهدا فيما يصلحها كالنضر بن الحارث.
والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد، وضمير مَبْلَغُهُمْ- لمن- وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه، وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإعراض، وتكرير قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين، والمراد بِمَنْ ضَلَّ من أصر على الضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا، وبِمَنِ اهْتَدى من شأنه الاهتداء في الجملة، أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا، وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلا تتعب نفسك في دعوتهم ولا تبالغ في الحرص عليها فإنهم من القبيل الأول: وقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقا وملكا لا لغيره عز وجل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله أو بمثل ما عملوا، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي اهتدوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبىء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بدّ من ضال ومهتد، ومن أن يلقى كلّ ما يستحقه، وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يلقى الحسنى جزاء لتبليغه وهم يلقون السوء أي جزاء لتكذيبهم، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين.
وجوز أن يكون معنى فَأَعْرِضْ إلخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك إنه أعلم بك وبهم فيجزي كلا ما يستحقه، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في «بمن ضل» «وبمن اهتدى» وجعل قوله تعالى: لِيَجْزِيَ على هذا متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ إلخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لِيَجْزِيَ إلخ، وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ جملة معترضة تؤكد حدث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل: هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق لِيَجْزِيَ بقوله تعالى:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد، أي- هو أعلم بهم- وإنما سوي هذا الملك للجزاء، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ، وجوز في جملة لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ كونها حالا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أو لا، وفي لِيَجْزِيَ تعلقه- بضل. واهتدى- على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله، وبِمَنِ اهْتَدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى، ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه: لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ كما ذكره مكي، وقرأ زيد ابن علي- لنجزي- ونجزي بالنون فيهما الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال
وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع، وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلا، وإِلَّا صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الإثم في حكم النكرة، أو لأن غير وإِلَّا التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة: ٧] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع إِلَّا صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك، وتبعه أكثر المتأخرين، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا: سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين في الإرشاد، وتقي الدين السبكي وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الاشاعرة. واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة، وحكي الانقسام عند المعتزلة، وقال: إنه ليس بصحيح، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة، والجمهور على الانقسام قيل: ولا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حدّ الكبيرة فقيل: هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء، وقيل: كل معصية أوجبت الحدّ- وبه قال البغوي وغيره- والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل، وقد يقال: يرد على الأول أيضا أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد.
وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فورا والكذب في
إنها كل ذنب قرن به حدّ، أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال: هو التحقيق وقيل: غير ذلك، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: ٣١].
وقيل:
هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وعطاء وعبيد بن عمير، واستدل له بما
في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»
وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: أربع، وعن ابن مسعود ثلاث، وفي رواية أخرى عشرة، وقال شيخ الإسلام العلائي:
المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك، وقال أبو طالب المكي: هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من المكر، وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه. واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا، وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر، واثنان في الفرج: الزنا واللواط، واثنتان في اليد القتلة والسرقة، وواحدة في الرجل الفرار من الزحف، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين، وفيه ما فيه، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له:
كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي بأحوالكم من كل أحد إِذْ أَنْشَأَكُمْ في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام.
مِنَ الْأَرْضِ إنشاء إجماليا حسبما مر تحقيقه، وقيل: إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه في الأغذية التي منشؤها الأرض، وأيا ما كان- فإذا- ظرف- لأعلم- وهو على بابه من التفصيل.
وقال مكي: هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه، وقيل: إِذْ منصوب بمحذوف، والتقدير اذكروا إِذْ أَنْشَأَكُمْ وهو كما ترى وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ ووقت كونكم أجنة فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله. فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه، وقيل: لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة، والفاء في قوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى المعاصي جميعا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في الإرشاد، وقيل: اتقى الشرك، وقيل: اتقى شيئا من المعاصي، والآية نزلت على ما قيل: في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة،
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب»
وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار، والنهي عن التسمية به للتنزيه
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روى جابر: «إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسمعوا نافعا وأفلح وبركة»
محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الاشعار قويا كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التسمية مستعملا فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها:
عاصية فسماها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميلة كذا قيل، والمقام بعد لا يخلو عن بحث
أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل الله سبحانه عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن اتباع الحق والثبات عليه وَأَعْطى قَلِيلًا أي شيئا قليلا، أو إعطاء قليلا وَأَكْدى أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر، قال مجاهد وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له:
أتترك ملة آبائك؟! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما همّ به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، وقال الضحاك: هو النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه، وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأمور، وقال محمد بن كعب: في أبي جهل قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إلى آخره، وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل- كما قال ابن عطية- ولا أصل له، وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثل ذلك، وأَ فَرَأَيْتَ هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية، والفاء في قوله تعالى: فَهُوَ يَرى للتسبب
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وهي التوراة وَإِبْراهِيمَ وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه الَّذِي وَفَّى أي وفر وأتم ما أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى، وقال ابن عباس: وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهما منها عشرة في براءة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة:
١١١] الآيات، وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: ٣٥] الآيات، وست في- قد أفلح المؤمنون- الآيات التي في أولها، وأربع في سأل سائل وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج: ٢٦] الآيات، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه، وفّى بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم، وفي رواية يصليهن أول النهار.
وأخرج أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعا أيضا «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية»
وقال عكرمة: وَفَّى بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره «وقيل، وقيل:» والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال: ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية وخص هذان النبيان عليهما السلام بالذكر قيل: لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي «وفى» بتخفيف الفاء أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
أي إنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن (أن) هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل: ما في صحفهما؟ فقيل: هو أَلَّا تَزِرُ إلخ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه، ولا يقدح في ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من علم بها إلى يوم القيامة»
فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره، وقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره وَأَنْ كأختها السابقة، وما مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه، أو إلا الذي سعى به وفعله، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت، منها ما
أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم»
وكذا بنفع الحج.
أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال:
فحق الله أحق بالقضاء»
وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعا فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضا بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه، ودل على بنائه على ذلك ما
أخرجه أحمد عن
وأجيب بهذا عما قيل: إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضا القصر على سعيه وحده، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١] فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه
حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها؟ قال صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم»
وقال الربيع: الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١] وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ولا نسخ في الأخبار. وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه، وقيل: اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدا، والذي أميل إليه كلام الحسين، ونحوه كلام ابن عطية قال: والتحرير عندي في هذا الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه: لِلْإِنْسانِ فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو أبن صالح، أو تضعيف حسنات، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى.
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات- وهو مذهب الإمام مالك- بل قال الامام ابن الهمام: إن مالكا والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج، وفي الإذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنه تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرؤوا لموتاهم فيقرؤون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الاجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوما عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت ما مرّ آنفا.
ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»
وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي: إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فأعرفه انتهى فلا تغفل.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء، وفي البحر يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن وتوبيخا للمسيء ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزى الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله عز وجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل، وقوله تعالى: الْجَزاءَ الْأَوْفى مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له، وجوز كونه مفعولا به بمعنى المجزي به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل. ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف، وبعضهم يجعل الجزاء منصوبا بنزع الخافض، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في يُجْزاهُ للجزاء لا للسعي، والْجَزاءَ الْأَوْفى عليه عطف بيان، أو بدل كما في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: ٣] وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد: أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الانتهاء، وقيل: المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها، وأيد بما
أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية: «لا فكرة في الرب» وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري
وروي عنه عليه الصلاة والسلام «إذا ذكر الرب فانتهوا»
وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال: «مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه»
وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا».
واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه، والبحث في ذلك طويل، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع، وقرأ أبو السمال، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى خلق فعلي الضحك والبكاء، وقال الزمخشري: خلق قوتي الضحك والبكاء، وفيه دسيسة اعتزال، وقال الطيبي: المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذا قرن بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالبا والإحياء عند الولادة الضحك وما أحسن قوله:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا | والناس حولك يضحكون سرورا |
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا | في يوم موتك ضاحكا مسرورا |
أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قبل، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده جل شأنه: وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وفي الكشاف قال سبحانه: عَلَيْهِ لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو- النشاءة- بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى
وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى: أَغْنى لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها، وفي البحر يقال: قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال: أقناه الله تعالى مالا وقناه الله تعالى مالا، وقال الشاعر:
كم من غني أصاب الدهر ثروته | ومن فقير يقني بعد إقلال |
هل هي إلا مدة وتنقضي | ما يغلب الأيام إلا من رضي |
إنهما جعلا أَقْنى بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في أَماتَ وَأَحْيا وأَضْحَكَ وَأَبْكى وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال أَغْنى نفسه سبحانه و «أفقر» الخلائق إليه عز وجل، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل، وعندي أن أَغْنى سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى هي الشِّعْرى العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو، وتقال الشِّعْرى أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناء تحتية وصاد مهملة ومد، والأولى في الجوزاء، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما تتبع الكلب الصائد أو الصيد، والثانية في ذراع الأسد المبسوطة، وإنما قيل لها الغميصاء لانها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل، وفي القاموس من أحاديثهم أن الشعرى العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا، وقيل: زعموا أن سهيلا والشِّعْرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعرى فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياء، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياء وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية.
ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى إشارة إلى نفي تأثيرها.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور، وقال الطبري: وصفت الأولى لأن في القبائل عاداً أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال، وقال المبرد: عاد الأخرى هي ثمود، وقيل: الجبارون، وقيل: عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى، وفي الكشاف الْأُولى قوم هود والأخرى إرم والله تعالى أعلم.
وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف: وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها، وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الولي بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، وعاب هذه القراء المازني والمبرد، وقالت العرب: في الابتداء بعد النقل- الحمر، ولحمر- فهده القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله:
أحب الموقدين إليّ مؤسى وكما قرأ بعضهم- على سؤقه- وفيه شذوذ، وفي حرف أبيّ عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط وَثَمُودَ عطف على عاداً ولا يجوز أن يكون مفعولا- لأبقى- في قوله تعالى: فَما أَبْقى لأن- ما- النافيه لها صدر الكلام والفاء على ما قيل: مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها، وقيل: هو معمول- لأهلك- مقدر ولا حاجة إليه، وقرأ عاصم وحمزة- ثمود- بلا تنوين ويقفان بغير ألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف، والظاهر أن متعلق أَبْقى يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم، وقيل: أي ما أبقى منهم أحدا، والمراد ما أبقى من كفارهم وَقَوْمَ نُوحٍ عطف على عاداً أيضا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إهلاك عاد وثمود، وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وقيل: ضمير إِنَّهُمْ يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وهُمْ يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ
وقرأ الحسن «والمؤتفكات» جمعا أَهْوى أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء، وقال المبرد: جعلها تهوي.
والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة، وجوز أن يكون- المؤتفكة- معطوفا على ما قبله وأَهْوى مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم.
فَغَشَّاها ما غَشَّى فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ما مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى: ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف ما هي الفاعل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل، وقيل: إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها، والخطاب قيل:
لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير، وقيل: للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار، والآلاء جمع إلى النعم، والمراد بها ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا، وقيل: التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له، وقرأ يعقوب وابن محيصن- ربك تمارى- بتاء مشددة هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك: إلى الأخبار عن الأمم، أو الإشارة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. والنذير يجيء مصدرا ووصفا، والنذر جمعه مطلقا وكل من الامرين محتمل هنا، ووصف النُّذُرِ جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة، أو الجماعة، واختير على غيره رعاية للفاصلة، وأيا ما كان فالمراد هذا نَذِيرٌ مِنَ جنس النُّذُرِ الْأُولى.
وفي الكشف أن قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ إلخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن، فأل في الْآزِفَةُ كاللعهد لا للجنس، وقيل: الْآزِفَةُ علم بالغلبة للساعة هنا، وقيل: لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله تعالى أو إلا الله عز وجل كاشِفَةٌ نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها والمراد بالكشف الإزالة، وقريب من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله: أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل: معناه لو وقعت الآن لم يردّها إلى وقتها أحد إلا الله تعالى، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة، وقال الطبري والزجاج: المعنى ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: ١٨٧] والتاء في كاشِفَةٌ على جميع الأوجه للتأنيث، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت، وبعضهم يقدر الموصوف حالا، والأول أولى وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز وجل وفيه نظر، وقال الرماني وجماعة: يحتمل أن يكون كاشِفَةٌ مصدرا كالعافية، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ أي القرآن تَعْجَبُونَ إنكارا وَتَضْحَكُونَ
ليت عادا قبلوا الحق... ولم يبدوا جحودا
قيل: قم فانظر إليهم... ثم دع عنك السمودا
وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود، فقال: البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رؤوسكم تكبرا، وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا، وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه- من سمد البعير في سيره- إذا رفع رأسه، وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا، وروي نحوه عن عكرمة، وأخرج عبد الرازق. والبزار وابن جرير والبيهقي في سننه. وجماعة عن ابن عباس أنه قال: هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه، وقيل: يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل- لا تبكون- ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود، وقال المبرد: السمود الجمود والخشوع كما في قوله:
رمى الحدثان نسوة آل سعد... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا... ورد وجوههن البيض سودا
والجملة عليه حال من فاعل- تبكون- أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفى، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معا فلا تغفل، وفي حرف أبيّ وعبد الله- تضحكون- بغير واو، وقرأ الحسن- تعجبون تضحكون- بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء، واستدل بالآية كما
في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخل الجنة مصرّ على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم بمن صالح أبي الخليل قال: «لما نزلت هذه الآية أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ما ضحك النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم»
ولفظ عبد بن حميد «فما رئي النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا»
وفيه سد باب الضحك عند قراء القرآن ولو لم يكن استهزاء والعياذ بالله عز وجل.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم، وقد سجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندها.
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا» الحديث.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود»
وكذا عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج سعيد بن منصور عن سبرة قال: صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع، ولا يرى مالك السجود هنا، واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة»
ناف وضعيف، وكذا
قوله فيما رواه أيضا عنه «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها»
على أن الترك إنما ينافي- كما سمعت- الوجوب، والله تعالى أعلم.
سورة النجم
سورة (النَّجْم) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الإخلاص)، وقد أشارت إلى صدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تبليغه الرسالةَ، ونفيِ الهوى عنه، وأن كلَّ ما جاء به هو وحيٌ من عند الله، عن طريق جبريلَ عليه السلام؛ فحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفتريَ على الله الكذبَ، كما جاءت السورةُ الكريمة بإثبات بطلان الآلهة التي يَدْعُونها من دُونِ الله؛ فهو وحده المستحِقُّ للعبادة.
ترتيبها المصحفي
53نوعها
مكيةألفاظها
361ترتيب نزولها
23العد المدني الأول
61العد المدني الأخير
61العد البصري
61العد الكوفي
62العد الشامي
61* سورة (النَّجْم):
سُمِّيت سورة (النَّجْم) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَم الله عز وجل بالنَّجْم.
* سورة (النَّجْم) هي أولُ سورةٍ أُنزلت فيها سجدةٌ:
عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «أولُ سورةٍ أُنزِلتْ فيها سَجْدةٌ: {وَاْلنَّجْمِ}، قال: فسجَدَ رسولُ اللهِ ﷺ، وسجَدَ مَن خَلْفَه، إلا رجُلًا رأَيْتُه أخَذَ كفًّا مِن ترابٍ فسجَدَ عليه، فرأَيْتُه بعدَ ذلك قُتِلَ كافرًا؛ وهو أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ». أخرجه البخاري (٤٨٦٣).
1. إثبات الوحيِ، وتزكيةُ مَن أُنزِلَ عليه (١-١٨).
2. الظنُّ لا يغني من الحق شيئًا (١٩-٣٢).
3. ذمُّ المشركين، وبيانُ وَحْدة رسالة التوحيد (٣٣- ٦٢).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /490).
مقصدُ السورة الأعظم هو إثبات صدقِ النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ونفيِ الهوى عنه، فلا يَتكلَّم إلا بما علَّمه اللهُ إياه عن طريق الوحيِ؛ فهو الصادقُ المصدوق المبعوث من عند القويِّ المتعال، وفي ذلك يقول ابنُ عاشور رحمه الله مشيرًا إلى مقصودها: «تحقيقُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادقٌ فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه مُنزَّه عما ادَّعَوْهُ.
وإثباتُ أن القرآن وحيٌ من عند الله بواسطة جبريل.
وتقريبُ صفة نزول جبريل بالوحيِ في حالينِ؛ زيادةً في تقرير أنه وحيٌ من الله واقع لا محالةَ.
وإبطالُ إلهيَّة أصنام المشركين.
وإبطال قولهم في اللاتِ والعُزَّى ومَناةَ: بناتُ الله، وأنها أوهام لا حقائقَ لها، وتنظيرُ قولهم فيها بقولهم في الملائكة: إنهم إناثٌ». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (27 /88).
وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /35).