تفسير سورة الجمعة

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الجمعة
هذه السورة مدنية. وقيل : مكية، وهو خطأ، لأن أمر اليهود وانفضاض الناس في الجمعة لم يكن إلا بالمدينة.
ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم، أتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه، وذكر ما أنعم به على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من بعثته إليهم، وتلاوته عليهم كتابه، وتزكيتهم، فصارت أمّته غالبة سائر الأمم، قاهرة لها، منتشرة الدعوة، كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم.

سورة الجمعة
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
170
السِّفْرُ: الْكِتَابُ الْمُجْتَمِعُ الْأَوْرَاقِ مُنَضَّدَةً.
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وَقِيلَ: مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ وَانْفِضَاضَ النَّاسِ فِي الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ تَأْيِيدَ مَنْ آمَنَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ التَّنْزِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ مُلْكِهِ وَتَقْدِيسِهِ، وَذِكْرِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْثَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَتِلَاوَتِهِ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ، وَتَزْكِيَتِهِمْ، فَصَارَتْ أُمَّتُهُ غَالِبَةً سَائِرَ الْأُمَمِ، قَاهِرَةً لَهَا، مُنْتَشِرَةَ الدَّعْوَةِ، كَمَا انْتَشَرَتْ دَعْوَةُ الْحَوَارِيِّينَ فِي زَمَانِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
الْمَلِكِ بِجَرِّهِ وَجَرِّ مَا بَعْدَهُ وَأَبُو وَائِلٍ وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَرُؤْبَةُ وَأَبُو الدِّينَارِ الْأَعْرَابِيُّ:
بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، وَحَسَّنَهُ الْفَصْلُ الَّذِي فِيهِ طُولٌ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ. وَقَرَأَ أَبُو الدِّينَارِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْقَدُّوسُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ.
هُوَ الَّذِي بَعَثَ الْآيَةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِهَا فِي آلِ عِمْرَانَ وَفِي نِسْبَةِ الْأُمِّيِّ.
وَآخَرِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأُمِّيِّينَ، أَيْ وَفِي آخَرِينَ مِنَ الْأُمِّيِّينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بَعْدُ، وَسَيَلْحَقُونَ. وَقِيلَ: وَآخَرِينَ مَنْصُوبٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي وَيُعَلِّمُهُمُ، أَسْنَدَ تَعْلِيمَ الْآخَرِينَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَجَازًا لَمَّا تَنَاسَقَ التَّعْلِيمُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ وَتَلَا بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ:
وَآخَرِينَ هُمْ فَارِسُ، وَجَاءَ نَصًّا عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ الْحَصْرُ فِي
171
فَارِسَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْآيَةُ، وَلَكِنْ فَهِمَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْهُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الرُّومُ وَالْعَجَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: التَّابِعِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَرَبِ لِقَوْلِهِ:
مِنْهُمْ، أَيْ فِي النَّسَبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ حِبَّانَ: طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَهْلُ الْيَمَنِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَبْنَاءُ الْأَعَاجِمِ وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: هُمُ التَّابِعُونَ وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: الْعَجَمُ وَعَنْ أَبِي رَوْقٍ: الصِّغَارُ بَعْدَ الْكِبَارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى التَّمْثِيلِ، كَمَا حَمَلُوا قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَارِسَ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي تَمْكِينِهِ رَجُلًا أُمِّيًّا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَتَأْيِيدِهِ وَاخْتِيَارِهِ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ: أَيْ إِيتَاءُ النُّبُوَّةِ وَجَعْلُهُ خَيْرَ خَلْقِهِ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ: هُمُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِأَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا، وَلَمْ يُطِيقُوا الْقِيَامَ بِهَا حِينَ كَذَّبُوا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِنُبُوَّتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
حُمِّلُوا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. شَبَّهَ صِفَتَهُمْ بِصِفَةِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ كُتُبًا، فَهُوَ لَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ، أَكُتُبٌ هِيَ أَمْ صَخْرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ التَّعَبِ بِحَمْلِهَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ:
زَوَامِلُ لِلْإِشْعَارِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِجَيِّدِهَا إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ
لَعَمْرُكُ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إذا غدى بِأَوْسَاقِهِ أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: حِمَارٌ مُنَكَّرًا وَالْمَأْمُونُ بْنُ هَارُونَ: يُحَمَّلُ بِشَدِّ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَالْجُمْهُورُ: الْحِمَارُ مُعَرَّفًا، وَيَحْمِلُ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيَحْمِلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ الْجَرِّ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْحِمَارَ كَاللَّئِيمِ فِي قَوْلِهِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَعَارِفِ يُوصَفُ بِالْجُمَلِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «١»، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَوَصْفُهُ بِالْمَعْرِفَةِ ذِي اللَّامِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْرِيفِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ مِنْ هَدْمِ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِئْسَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ. انْتَهَى.
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٧.
172
فَخَرَّجَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّمْيِيزُ مَحْذُوفًا، وَفِي بِئْسَ ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ مَثَلًا الَّذِي ادَّعَى حَذْفَهُ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ التَّمْيِيزَ الَّذِي يُفَسِّرُهُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي نِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَاهُمَا لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُ الْقَوْمِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَثَلُ الْقَوْمِ فَاعِلُ بِئْسَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَهُمُ الْيَهُودُ، أَوْ يَكُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةً لِلْقَوْمِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ مَثَلُهُمْ، أَيْ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَتَبَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ لِيَهُودِ خَيْبَرَ: إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ أَطَعْنَاكُمْ، وَإِنْ خَالَفْتُمُوهُ خَالَفْنَاهُ، فَقَالُوا لَهُمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَمِنَّا عُزَيْرٌ بن اللَّهِ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَمَتَّى كَانْتِ النُّبُوَّةُ فِي الْعَرَبِ نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى اتِّبَاعِهِ، فنزلت
: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا، وَكَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا فَتَمَنَّوْا أَنْ تُنْقَلُوا سَرِيعًا إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ الْمُعَدَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ بَقِيَّةِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، بِضَمِّ الْوَاوِ وَابْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ السميفع: بكسرها وعن ابن السميفع أَيْضًا: فَتْحُهَا. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْهَمْزِ مَضْمُومَةً بَدَلَ الْوَاوِ، وَهَذَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قرأ: تلؤون بِالْهَمْزِ بَدَلَ الْوَاوِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَا وَلَنْ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْيٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، إِلَّا أَنَّ فِي لَنْ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لَيْسَ فِي لَا، فَأَتَى مَرَّةً بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ «١»، وَمَرَّةً بِغَيْرِ لَفْظِهِ:
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَهَذَا مِنْهُ رُجُوعٌ عَنْ مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ لَنْ تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيهِ، وأما قوله: إلا أن فِي لَنْ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لَيْسَ فِي لَا، فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلٍ عَنْ مُسْتَقِرِّي اللِّسَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنَّهُ، وَالْفَاءُ دَخَلَتْ فِي خَبَرِ إِنَّ إِذَا جَرَى مَجْرَى صِفَتِهِ، فَكَأَنَّ إِنَّ بَاشَرَتِ الَّذِي، وَفِي الَّذِي مَعْنَى الشَّرْطِ، فَدَخَلَتِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ مَنَعَ هَذَا قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ، وَجَعَلُوا الْفَاءَ زَائِدَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّهُ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَخَبَرُ إِنَّ هُوَ الَّذِي، كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ هُوَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ إِنَّ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، فَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنه
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٥.
173
تَوْكِيدًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ وَمُلَاقِيكُمْ خَبَرُ إِنَّ. لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ، أَكَّدَ الْحَرْفَ مَصْحُوبًا بِضَمِيرِ الِاسْمِ الَّذِي لِإِنَّ.
إِذا نُودِيَ: أَيْ إِذَا أُذِّنَ، وَكَانَ الْأَذَانُ عِنْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَكَذَا كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ أُذِّنَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا نَزَلَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ. وَكَذَا كَانَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى زَمَانِ عُثْمَانَ، كَثُرَ النَّاسُ وَتَبَاعَدَتِ الْمَنَازِلُ، فَزَادَ مُؤَذِّنًا آخَرَ عَلَى دَارِهِ الَّتِي تُسَمَّى الزَّوْرَاءُ، فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أُذِّنَ الثَّانِي، فَإِذَا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ أَحَدٌ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَا هِيَ؟ قُلْتُ: هِيَ بَيَانٌ لِإِذَا وَتَفْسِيرٌ لَهُ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْجُمُعَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عبلة، وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَزَيْدِ بن علي والأعمش: بِسُكُونِهَا، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَلُغَةٌ بِفَتْحِهَا لَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ يُسَمَّى عَرُوبَةَ، وَيُقَالُ: الْعَرُوبَةُ. قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ صُلِّيَتْ جُمُعَةُ سعد بن أبي زُرَارَةَ، صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وذكرهم، فسموهم يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْجُمُعَةِ، فَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا
أَوَّلُ جُمُعَةٍ جَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، نَزَلَ بِقُبَاءٍ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَأَقَامَ بِهَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامِدًا الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ، فَخَطَبَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ.
وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ السَّعْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَشْيِ خِفَّةٌ وَبِدَارٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا تُؤْتَى الصَّلَاةُ بِالسَّكِينَةِ، وَالسَّعْيُ هُوَ بِالنِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، كَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى «١»، فَالْقِيَامُ وَالْوُضُوءُ وَلِبْسُ الثَّوْبِ وَالْمَشْيُ كُلُّهُ سَعْيٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ بِالْأَمْرِ بالسعي للمؤمنين عموما، وأنهما فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: أَنَّهَا سُنَّةٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الرَّوَاحُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
وَقَالُوا: الْمَأْمُورُ بِالسَّعْيِ الْمُؤْمِنُ الصَّحِيحُ الْحُرُّ الذَّكَرُ الْمُقِيمُ. فَلَوْ حَضَرَ غَيْرُهُ أَجْزَأَتْهُمْ. انْتَهَى.
وَالْمَسَافَةُ الَّتِي يُسْعَى مِنْهَا إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لَهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٣٩. [.....]
174
فِي ذَلِكَ. فَقَالَ ابْنُ عَمْرٍو وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَالزُّهْرِيُّ: سِتَّةُ أَمْيَالٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةٌ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْكَدِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: ثَلَاثَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ، سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، لَا عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ، وَإِنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ:
عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ. وَعَنْ رَبِيعَةَ: عَلَى مَنْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مَاشِيًا أَدْرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَرَأَ كُبَرَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: فَامْضُوا بَدَلَ فَاسْعَوْا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِالسَّعْيِ هُنَا الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ، فَفَسَّرُوهُ بِالْمُضِيِّ، وَلَا يَكُونُ قُرْآنًا لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
وَذِكْرُ اللَّهِ هُنَا الْخُطْبَةُ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهِيَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يجزىء مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُسَمَّى ذِكْرًا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَازَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا بُدَّ مِنْ كَلَامٍ يُسَمَّى خُطْبَةً، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُفْيَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالظَّاهِرُ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُفْسَخُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْعَقِدُ وَلَا يفسخ، وكلما يَشْغَلُ مِنَ الْعُقُودِ كُلِّهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا، مَفْسُوخٌ وَرَعًا. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبَيْعَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ أَصْحَابُ الْأَسْوَاقِ، إِذْ يَكْثُرُ الْوَافِدُونَ الْأَمْصَارَ مِنَ الْقُرَى وَيَجْتَمِعُونَ لِلتِّجَارَةِ إِذَا تَعَالَى النَّهَارُ، فَأُمِرُوا بِالْبِدَارِ إِلَى تِجَارَةِ الْآخِرَةِ، وَنُهُوا عَنْ تِجَارَةِ الدُّنْيَا، وَوَقْتُ التَّحْرِيمِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَقَالَ نَاسٌ غَيْرُهُمْ: مِنْ وَقْتِ أَذَانِ الْخُطْبَةِ إِلَى الفراغ، والإشارة بذلكم إِلَى السَّعْيِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، وَالْأَمْرُ بِالِانْتِشَارِ وَالِابْتِغَاءِ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَفَضْلُ اللَّهِ هُوَ مَا يَلْبَسُهُ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ، كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَصِلَةِ صَدِيقٍ، وَاتِّبَاعِ جِنَازَةٍ، وَأَخْذٍ فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَتَصَرُّفَاتٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ فَأُمِرَ مَعَ ذَلِكَ بِإِكْثَارِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْفَضْلُ:
الْمَأْمُورُ بِابْتِغَائِهِ هُوَ الْعِلْمُ.
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَجْرَ صُبْحِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَيَعْنِي أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي عِبَادَةٍ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ وَغَلَاءُ سعر، فقدم دحية بعير تَحْمِلُ مِيرَةً.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ أَنْ يُدْخَلَ بِالطَّبْلِ وَالْمَعَازِفِ مِنْ دِرَابِهَا، فَدَخَلَتْ بِهَا، فَانْفَضُّوا إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ وَسَمَاعِهِ، وَتَرَكُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
قَالَ جَابِرٌ: أَنَا أَحَدُهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ غَالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ: هُمُ الْعَشْرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَالْحَادِي عَشَرَ
175
قِيلَ: عَمَّارٌ. وَقِيلَ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، قَالُوا: فَنَزَلَتْ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَيْها بِضَمِيرِ التِّجَارَةِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَيْهِ بِضَمِيرِ اللَّهْوِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، نَصَّ عَلَيْهِ الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا تَهَمُّمًا بِالْأَهَمِّ، إِذْ كَانَتْ سَبَبَ اللَّهْوِ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهْوُ سَبَبَهَا. وَتَأَمَّلَ أَنْ قُدِّمَتِ التِّجَارَةُ عَلَى اللَّهْوِ فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ، وَأُخِّرَتْ مَعَ التَّفْضِيلِ لِتَقَعَ النَّفْسُ أَوَّلًا عَلَى الْأَبْيَنِ. انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: قائِماً دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ. وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَرَاحَ فِي الْخُطْبَةِ عُثْمَانُ، وَأَوَّلُ مَنْ خطب جالسا معاوية. وقرىء: إِلَيْهِمَا بِالتَّثْنِيَةِ لِلضَّمِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما»
، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى أَنْ يَتَجَوَّزَ بَأَوْ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ هَذَا التَّخْرِيجَ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَنَاسَبَ خَتْمَهَا بِقَوْلِهِ:
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ مَسَّهُمْ شَيْءٌ مِنْ غَلَاءِ الْأَسْعَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَقَدْ مَلَأَ الْمُفَسِّرُونَ كَثِيرًا مِنْ أَوْرَاقِهِمْ بِأَحْكَامٍ وَخِلَافٍ فِي مَسَائِلِ الْجُمُعَةِ مِمَّا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٣٥.
176
سورة الجمعة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الجمعة) من السُّوَر المدنية، وهي من (المسبِّحات)، نزلت بعد سورة (الصَّفِّ)، وقد بدأت ببيانِ مقاصدِ البعثة النبوية، وأشارت إلى أهميةِ الاجتماع على هذا الدِّين، ولزومِ جماعة المسلمين، وتركِ ملذَّات الدنيا وشهواتها؛ لذا جاءت بوجوب (الجُمُعة)؛ لِما في ذلك من دلالاتٍ عظيمة؛ منها: الاجتماع، والوَحْدة، والأُلْفة بين المسلمين.

ترتيبها المصحفي
62
نوعها
مدنية
ألفاظها
177
ترتيب نزولها
110
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا اْنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ} [الجمعة: 11]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «بَيْنما نحنُ نُصلِّي مع النبيِّ ﷺ، إذ أقبَلتْ عِيرٌ تَحمِلُ طعامًا، فالتفَتوا إليها، حتى ما بَقِيَ مع النبيِّ ﷺ إلا اثنا عشَرَ رجُلًا؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا اْنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ} [الجمعة: 11]». أخرجه البخاري (٩٣٦).

* سورة (الجمعة):

سُمِّيت سورةُ (الجمعة) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظِ {اْلْجُمُعَةِ} فيها؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ اْلْجُمُعَةِ فَاْسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ اْللَّهِ وَذَرُواْ اْلْبَيْعَۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٞ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأُ سورة (الجمعة) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (٨٧٧).

1. مقاصدُ البعثة النبوية (١-٤).

2. ذكرُ حالِ اليهود مع التوراة، والردُّ عليهم (٥-٨).

3. حضور صلاة الجمعة (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /149).

مقصودها تأكيدُ أهميةِ الاجتماع على هذا الدِّين، والتمسُّكِ بجماعة المسلمين، ولزومها، ويَتمثَّل ذلك في الالتزام بصلاة الجمعة، وعدمِ الالتفات إلى الدنيا وشهواتها، واسمُها واضحُ الدلالة على هذا المقصد.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /84)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /206).