تفسير سورة نوح

تفسير ابن كثير ط العلمية

تفسير سورة سورة نوح من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير ط العلمية.
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ

[سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ آمِرًا لَهُ أَنْ يُنْذِرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وأنابوا رفع عنهم. ولهذا قال تعالى: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
أَيْ بَيِّنُ النِّذَارَةِ ظَاهِرُ الْأَمْرِ وَاضِحُهُ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، أَيِ اتْرُكُوا مَحَارِمَهُ وَاجْتَنِبُوا مَآثِمَهُ وَأَطِيعُونِ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أَيْ إذا فعلتم ما آمركم بِهِ وَصَدَّقْتُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ غَفَرَ الله لكم ذنوبكم، ومن هَاهُنَا قِيلَ إِنَّهَا زَائِدَةٌ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَتِهَا فِي الْإِثْبَاتِ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ، وَقِيلَ إِنَّهَا بِمَعْنَى عَنْ تَقْدِيرُهُ يَصْفَحُ لَكُمْ عَنْ ذُنُوبِكُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١» :
وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ يَغْفِرُ لكم الذنوب العظيمة الَّتِي وَعَدَكُمْ عَلَى ارْتِكَابِكُمْ إِيَّاهَا الِانْتِقَامَ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ يَمُدُّ فِي أَعْمَارِكُمْ ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نَهَاكُمْ عَنْهُ أَوْقَعَهُ بِكُمْ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الطَّاعَةَ وَالْبِرَّ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يُزَادُ بِهَا فِي الْعُمْرِ حَقِيقَةً كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العمر» وقوله تَعَالَى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ بَادِرُوا بِالطَّاعَةِ قَبْلَ حلول النقمة فإنه إذا أمر تعالى يكون ذَلِكَ لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ، فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الذي قد قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، الْعَزِيزُ الَّذِي دَانَتْ لِعِزَّتِهِ جميع المخلوقات.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٥ الى ٢٠]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اشْتَكَى إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَلْفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَمَا بَيَّنَ لِقَوْمِهِ وَوَضَّحَ لَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الرُّشْدِ وَالسَّبِيلِ الْأَقْوَمِ، فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً
(١) تفسير الطبري ١٢/ ٢٤٦، ٢٤٧.
245
أَيْ لَمْ أَتْرُكْ دُعَاءَهُمْ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ امْتِثَالًا لِأَمْرِكَ وَابْتِغَاءً لِطَاعَتِكَ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أَيْ كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِيَقْتَرِبُوا مِنَ الْحَقِّ فَرُّوا مِنْهُ وَحَادُوا عَنْهُ وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أَيْ سَدُّوا آذَانَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فُصِّلَتْ: ٣٦] وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَنَكَّرُوا لَهُ لِئَلَّا يَعْرِفَهُمْ. وَقَالَ سعيد بن جبير والسدي: غطوا رؤوسهم لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا يَقُولُ وَأَصَرُّوا أَيْ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ الْعَظِيمِ الْفَظِيعِ وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أَيْ وَاسْتَنْكَفُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أَيْ جَهْرَةً بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أَيْ كَلَامًا ظَاهِرًا بِصَوْتٍ عَالٍ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أَيْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فنوع عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ لِتَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِمْ.
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أَيِ ارْجِعُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ فَإِنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَهْمَا كَانَتْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَلِهَذَا قَالَ:
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أَيْ مُتَوَاصِلَةَ الْأَمْطَارِ، وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَسْتَسْقِيَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الاستغفار وقراءة الْآيَاتِ فِي الِاسْتِغْفَارِ وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ثم قال: لقد طلبت لغيث بمجاديح «١» السماء التي يستنزل بِهَا الْمَطَرَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَتْبَعُ بعضه بعضا. وقوله تعالى: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً أَيْ إِذَا تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم أسقاكم مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَأَنْبَتَ لَكُمُ الزَّرْعَ، وَأَدَرَّ لَكُمُ الضَّرْعَ وَأَمَدَّكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ أَيْ أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعَ الثِّمَارِ وَخَلَّلَهَا بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا، هَذَا مَقَامُ الدَّعْوَةِ بِالتَّرْغِيبِ، ثُمَّ عَدَلَ بِهِمْ إِلَى دَعْوَتِهِمْ بِالتَّرْهِيبِ فَقَالَ:
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أَيْ عظمة، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ أَيْ لَا تَخَافُونَ مِنْ بَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَيَحْيَى بْنُ رَافِعٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أَيْ وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ وَهَلْ هَذَا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هو مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ مِمَّا عُلِمَ مِنَ التسيير
(١) المجاديح: جمع مجدح: نجم من النجوم. [.....]
246
وَالْكُسُوفَاتِ، فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ يَكْسِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَأَدْنَاهَا الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهُوَ يَكْسِفُ مَا فَوْقَهُ، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهَرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ وَهِيَ الثَّوَابِتُ فَفِي فَلَكٍ ثَامِنٍ يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الثَّوَابِتِ، وَالْمُتَشَرِّعُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ هُوَ الْكُرْسِيُّ، وَالْفَلَكُ التَّاسِعُ وَهُوَ الْأَطْلَسُ وَالْأَثِيرُ عِنْدَهُمُ الَّذِي حَرَكَتُهُ عَلَى خِلَافِ حَرَكَةِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَتَهُ مَبْدَأُ الْحَرَكَاتِ وَهِيَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَسَائِرُ الْأَفْلَاكِ عَكْسُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَمَعَهَا يَدُورُ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ تَبَعًا وَلَكِنْ لِلسَّيَّارَةِ حَرَكَةٌ مُعَاكِسَةٌ لِحَرَكَةِ أَفْلَاكِهَا فَإِنَّهَا تَسِيرُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَكُّلٌ يَقْطَعُ فَلَكَهُ بِحَسْبِهِ، فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، وَالشَّمْسُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَزُحَلُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَرَّةً، وَذَلِكَ بِحَسْبِ اتِّسَاعِ أَفْلَاكِهَا وَإِنْ كَانَتْ حركة الجميع فِي السُّرْعَةِ مُتَنَاسِبَةً، هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أن الله سبحانه وتعالى خلق سبع سموات طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أَيْ فَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنَارَةِ فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا أُنْمُوذَجًا عَلَى حِدَةٍ لِيُعْرَفَ اللَّيْلُ والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر للقمر مَنَازِلَ وَبُرُوجًا وَفَاوَتَ نُورَهُ فَتَارَةً يَزْدَادُ حَتَّى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر لِيَدُلَّ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: ٥].
وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً هَذَا اسْمُ مصدر والإتيان به هاهنا أَحْسَنُ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أَيْ إِذَا مُتُّمْ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أَيْ بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا وَقَرَّرَهَا وَثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشُّمِّ الشَّامِخَاتِ لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أَيْ خَلَقَهَا لَكُمْ لِتَسْتَقِرُّوا عَلَيْهَا وَتَسْلُكُوا فِيهَا أَيْنَ شِئْتُمْ مِنْ نَوَاحِيهَا وَأَرْجَائِهَا وَأَقْطَارِهَا، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُنَبِّهُهُمْ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ على قدرة الله وعظمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ جَعَلَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَالْأَرْضَ مِهَادًا وَأَوْسَعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ رِزْقِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُوَحَّدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَا نظير له ولا عديل وَلَا نِدَّ وَلَا كُفْءَ، وَلَا صَاحِبَةَ وَلَا وَلَدَ وَلَا وَزِيرَ وَلَا مُشِيرَ بَلْ هُوَ العلي الكبير.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
247
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْهَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، أَنَّهُ مَعَ الْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة عَلَى التَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى أَنَّهُمْ عَصَوْهُ وخالفوه وكذبوه، وَاتَّبَعُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا مِمَّنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمُتِّعَ بِمَالٍ وَأَوْلَادٍ وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِدْرَاجٌ وَإِنْظَارٌ لَا إِكْرَامٌ وَلِهَذَا قَالَ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً قُرِئَ وَوُلْدُهُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً قَالَ مُجَاهِدٌ: كُبَّاراً أَيْ عَظِيمًا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
كُبَّاراً أَيْ كَبِيرًا وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَمْرٌ عَجِيبٌ وَعُجَابٌ وَعُجَّابٌ، وَرَجُلٌ حُسَانٌ وَحُسَّانٌ وَجُمَالٌ وَجُمَّالٌ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى واحد «١»، والمعنى في قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أَيْ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي تَسْوِيلِهِمْ لهم أنهم عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى كَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [سَبَأٍ: ٣٣] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ: أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادَ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجُرُفِ عند سبأ، وأما يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحَمِيرَ لِآلِ ذِي كَلَاعٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ «٢». وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوُ هَذَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ أَصْنَامٌ كَانَتْ تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى عَنْ محمد بن قيس وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شِيثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ:
(١) انظر تفسير الطبري ١٢/ ٢٥٣.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧١.
(٣) تفسير الطبري ١٢/ ٢٥٤.
248
أخبرني جُوَيْبِرٌ وَمُقَاتِلٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعُونَ وَلَدًا، عِشْرُونَ غُلَامًا وَعِشْرُونَ جَارِيَةً، فَكَانَ مِمَّنْ عَاشَ مِنْهُمْ هَابِيلُ وَقَابِيلُ وَصَالِحٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَالَّذِي كَانَ سَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وَوَدٌّ وَكَانَ وَدٌّ يُقَالُ لَهُ شِيثَ وَيُقَالُ لَهُ هِبَةُ اللَّهِ، وَكَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ سَوَّدُوهُ، وَوُلِدَ لَهُ سُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي حَزْرَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: اشْتَكَى آدَمُ عليه السّلام وعنده بنوه ود ويغوث وَسُوَاعٌ وَنَسْرٌ قَالَ وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي الْمُطَهِّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَمَا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ، قال: ثم ذكروا رَجُلًا مُسْلِمًا وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ فَلَمَّا مات اعتكفوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَالَ إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَهَلْ لَكَمَ أَنْ أُصَوِّرَ لَكُمْ مِثْلَهُ فَيَكُونَ فِي نَادِيكُمْ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَصُوِّرَ لَهُمْ مَثَلُهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ في منزل كل رجل مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ فَيَكُونَ لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدَرَسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ دون الله: الصنم الذي سموه ودا.
وقوله تعالى: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً يَعْنِي الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَضَلُّوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّتْ عِبَادَتُهَا فِي الْقُرُونِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: ٣٥- ٣٦] وقوله تعالى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا دُعَاءٌ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ لِتَمَرُّدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ كَمَا دَعَا موسى على فرعون وملئه فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُسَ: ٨٨] وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ فِي قَوْمِهِ وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جاءهم به.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
يَقُولُ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ وقرئ خطاياهم أُغْرِقُوا أَيْ مِنْ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ
249
وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا أَيْ نُقِلُوا مِنْ تَيَّارِ الْبِحَارِ إِلَى حَرَارَةِ النَّارِ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُعِينٌ وَلَا مُغِيثٌ وَلَا مُجِيرٌ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ الله كقوله تعالى: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هُودٍ:
٤٣] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أَيْ لَا تَتْرُكْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدًا ولا دومريا وَهَذِهِ مِنْ صِيَغِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: دَيَّاراً وَاحِدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ:
الدَّيَّارُ الَّذِي يَسْكُنُ الدَّارَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ لِصُلْبِهِ الَّذِي اعْتَزَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: ٤٣].
وقال ابن أبي حاتم: قرأ عَلَى يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، أخبرني شبيب بن سعيد عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لَرَحِمَ امْرَأَةً لَمَّا رَأَتِ الْمَاءَ حَمَلَتْ وَلَدَهَا ثُمَّ صَعِدَتِ الْجَبَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ صَعِدَتْ بِهِ مَنْكِبَهَا فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ مَنْكِبَهَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَأْسَهَا رَفَعَتْ وَلَدَهَا بِيَدِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ هَذِهِ الْمَرْأَةَ» هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَنَجَّى اللَّهُ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ الَّذِينَ أمره الله بحملهم معه.
وقوله تعالى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ أَيْ إِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَضَلُّوا عِبَادَكَ، أَيِ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ بَعْدَهُمْ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أَيْ فَاجِرًا فِي الْأَعْمَالِ كَافِرَ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لِخِبْرَتِهِ بِهِمْ وَمُكْثِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَسْجِدِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهُوَ أَنَّهُ دَعَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ أَنْبَأَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التَّجِيبِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَوْ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» «٢» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ بِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هذا الوجه.
وقوله تعالى: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ دُعَاءٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ اقْتِدَاءً بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَقَوْلُهُ تعالى: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً قَالَ السُّدِّيُّ:
(١) المسند ٣/ ٣٨.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٦، والترمذي في الزهد باب ٥٦.
250
سورة نوح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (نوح) من السُّوَر المكية، وقد جاءت على ذكرِ قصة (نوح) مع قومه، وما عاناه في طريق الدعوة إلى الله من عنادهم وتكبُّرهم، مع بيانِ موقف الكافرين ومآلهم، وفي ذلك تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وتحذيرٌ للكافرين أن يُنزِلَ الله بهم ما أنزله بقوم (نوح) عليه السلام، كما ثبَّتتِ السورةُ كلَّ من هو على طريق الدعوة إلى الله؛ ليكون (نوح) أسوةً له بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
71
نوعها
مكية
ألفاظها
227
ترتيب نزولها
71
العد المدني الأول
30
العد المدني الأخير
30
العد البصري
29
العد الكوفي
28
العد الشامي
29

* سورة (نوح):

سُمِّيت سورة (نوح) بهذا الاسم؛ لورود قصةِ نوح عليه السَّلام فيها.

1. نوح عليه السلام يدعو قومه (١-٢٠).

2. موقف الكافرين ومآلهم (٢١-٢٧).

3. الخاتمة (٢٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /367).

يقول ابن عاشور رحمه الله: «أعظمُ مقاصدِ السورة ضربُ المثَلِ للمشركين بقوم نوح، وهم أول المشركين الذين سُلِّط عليهم عقابٌ في الدنيا، وهو أعظم عقابٍ؛ أعني: الطوفان.

وفي ذلك تمثيلٌ لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه بحالهم». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /186).