ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة قريشوهي أربع آيات مكية
[سورة قريش (١٠٦) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢)لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ اعلم أن هاهنا مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً، فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَوْ لَا تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا بِمَا بَعْدَهَا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا، فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِلْفِ قُرَيْشٍ أَيْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ، وَمَا قَدْ أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جُعِلُوا كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِكُفْرِهِمْ وَلَمْ يُجْعَلُوا كَذَلِكَ لِتَأْلِيفِ قُرَيْشٍ، قُلْنَا هَذَا السُّؤَالُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ مُؤَخَّرٌ لِلْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: ١٧] وَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: ٤٥] وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ، لَكَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، بَلْ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَلِتَعْظِيمِ مَنْصِبِهِمْ وَإِظْهَارِ قَدْرِهِمْ وَثَانِيهَا: هَبْ أَنَّ زَجْرَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ مَقْصُودٌ لَكِنْ لَا يُنَافِي كَوْنَ شَيْءٍ آخَرَ مَقْصُودٍ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ وَاقِعًا بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ معاو ثالثها: هَبْ أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا لِكُفْرِهِمْ فَقَطْ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْإِهْلَاكَ لَمَّا أَدَّى إِلَى إِيلَافِ قُرَيْشٍ جَازَ أَنْ يُقَالَ: أُهْلِكُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] وَهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِذَلِكَ، لَكِنْ لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ حَسُنَ أَنْ يُمَهِّدَ عَلَيْهِ الِالْتِقَاطَ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
كُلُّ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ فَقَدْ فَعَلْنَاهُ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، حَتَّى صَارُوا كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ إِيلَافِ قُرَيْشٍ.
الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ بِمَعْنَى إِلَى كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلْنَا كُلَّ مَا فَعَلْنَا فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى نِعْمَةٍ أُخْرَى عَلَيْهِمْ وَهِيَ إِيلَافُهُمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ تَقُولُ: نِعْمَةُ اللَّهِ نِعْمَةٌ ونعمة لنعمة
الْأَوَّلُ: أَنَّ لِلنَّاسِ فِي تَعْلِيقِ هَذِهِ اللَّامِ بِالسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ جَعَلُوا السُّورَتَيْنِ سُورَةً وَاحِدَةً وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السُّورَتَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، وَمَطْلَعُ هَذِهِ السُّورَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ سُورَةً مُسْتَقِلَّةً وَثَانِيهَا: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ جَعَلَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ سُورَةً وَاحِدَةً وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالتِّينِ وَفِي الثَّانِيَةِ أَلَمْ تَرَ ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ مَعًا، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمُسْتَفِيضُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ سُورَةِ الْفِيلِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ وَكَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُبَيِّنُ بَعْضُهَا مَعْنَى بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ، ثُمَّ إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الْقَدْرِ: ١] مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ أُبَيًّا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مُعَارَضٌ بِإِطْبَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ عُمَرَ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَقْرَأُ سُورَتَيْنِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيَانُ أَنَّهُ لِمَ صَارَ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ سَبَبًا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ؟
فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ خَالِيَةً عَنِ الزَّرْعِ وَالضَّرْعِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إِلَى قَوْلِهِ:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٧] فَكَانَ أَشْرَافُ أَهْلِ مَكَّةَ يَرْتَحِلُونَ لِلتِّجَارَةِ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ، وَيَأْتُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ بَلَدِهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَرْبَحُونَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَلِأَنَّ مُلُوكَ النَّوَاحِي كَانُوا يُعَظِّمُونَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُ بَيْتِ اللَّهِ وَسُكَّانُ حَرَمِهِ وَوُلَاةُ الْكَعْبَةِ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ أَهْلَ مَكَّةَ أَهْلَ اللَّهِ، فَلَوْ تَمَّ لِلْحَبَشَةِ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ مِنْ هَدْمِ الْكَعْبَةِ، لَزَالَ عَنْهُمْ هَذَا الْعِزُّ وَلَبَطَلَتْ تِلْكَ الْمَزَايَا فِي التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وَلَصَارَ سُكَّانُ مَكَّةَ كَسُكَّانِ سَائِرِ النَّوَاحِي يُتَخَطَّفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ فِي نَحْرِهِمُ ازْدَادَ وَقْعُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْقُلُوبِ، وَازْدَادَ تَعْظِيمُ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ لَهُمْ فَازْدَادَتْ تِلْكَ الْمَنَافِعُ وَالْمَتَاجِرُ، فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ... رِحْلَةَ «١» الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
فِيمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ/ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي [قريش: ٣، ٤] إِشَارَةٌ إِلَى أَوَّلِ سُورَةِ الْفِيلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي قَصَدَهُ أَصْحَابُ الْفِيلِ، ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ دَفَعَهُمْ عَنْ مَقْصُودِهِمْ لِأَجْلِ إِيلَافِكُمْ وَنَفْعِكُمْ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ مُرَتَّبًا عَلَى إِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالسُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّامَ فِي: لِإِيلافِ متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا
وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ أَيْ: لِيَجْعَلُوا عِبَادَتَهُمْ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَاعْتِرَافًا بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فلم دخلت الفاء في قوله: لْيَعْبُدُوا
؟ قُلْنَا: لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وذلك لأن نعم الله عليهم
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ، لَا بِمَا قَبْلَهَا وَلَا بِمَا بَعْدَهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ اللَّامُ لَامُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُونَ غَيًّا وَجَهْلًا وَانْغِمَاسًا فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُؤَلِّفُ شَمْلَهُمْ وَيَدْفَعُ الْآفَاتِ عَنْهُمْ، وَيُنَظِّمُ أَسْبَابَ مَعَايِشِهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّعَجُّبِ مِنْ عَظِيمِ حِلْمِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي اللُّغَةِ قَوْلُكَ لِزَيْدٍ وَمَا صَنَعْنَا بِهِ وَلِزَيْدٍ وَكَرَامَتِنَا إِيَّاهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الْإِيلَافِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِيلَافَ هُوَ الْإِلْفُ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: أَلِفْتُ الشَّيْءَ وَأَلَفْتُهُ إِلْفًا وَإِلَافًا وَإِيلَافًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ لَزِمْتُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لِإِلْفِ قُرَيْشٍ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ فَتَتَّصِلَا وَلَا تَنْقَطِعَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: (لِإِلْفِ قُرَيْشٍ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (لِإِلَافِ قُرَيْشٍ)، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ (لِيلَافِ قُرَيْشٍ) وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِكَ: لَزِمْتُ مَوْضِعَ كَذَا وَأَلْزَمَنِيهِ اللَّهُ، كَذَا تَقُولُ: أَلِفْتُ كَذَا، وَأَلَفَنِيهِ اللَّهُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى إِثْبَاتَ الْأُلْفَةِ بِالتَّدْبِيرِ الَّذِي فِيهِ لُطْفٌ أَلِفَ بِنَفْسِهِ إِلْفًا وَآلَفَهُ غَيْرُهُ إِيلَافًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْإِلْفَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي قُرَيْشٍ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٦٣] وَقَالَ: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣] وَقَدْ تَكُونُ الْمَسَرَّةُ سَبَبًا لِلْمُؤَانَسَةِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا وَقَعَتْ عِنْدَ انْهِزَامِ أصحاب الفيل لقريش، فيكون المصدر هاهنا مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى لِأَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا مُلَازِمِينَ لِرِحْلَتَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِيلَافُ هُوَ التَّهْيِئَةُ وَالتَّجْهِيزُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى لِتَجْهِيزِ قُرَيْشٍ رِحْلَتَيْهَا حَتَّى تَتَّصِلَا وَلَا تَنْقَطِعَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (لِيلَافِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ فَحَذَفَ هَمْزَةَ الْإِفْعَالِ حذفا كليا وهو كمذهبه في يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: ٥] وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّكْرِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ هُوَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِيلَافَ أَوَّلًا ثُمَّ جَعَلَ الْمُقَيَّدَ بَدَلًا لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْإِيلَافِ وَتَذْكِيرًا لِعَظِيمِ الْمِنَّةِ فِيهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ عَامًّا يَجْمَعُ كُلَّ مُؤَانَسَةٍ وَمُوَافَقَةٍ كَانَ بَيْنَهُمْ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَقَامُهُمْ/ وَسِيَرُهُمْ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ خَصَّ إِيلَافِ الرِّحْلَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِسَبَبِ أَنَّهُ قِوَامُ مَعَاشِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَفَائِدَةُ تَرْكِ وَاوِ الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّ النِّعْمَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَلِفْتُ كَذَا أَيْ لَزِمْتُهُ، وَالْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ إِلْزَامٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالْأَمْرِ، وَإِلْزَامٌ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمُؤَانَسَةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَحَبَّ الْمَرْءُ شَيْئًا لزمه، ومنه: أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْحِ: ٢٦] كَمَا أَنَّ الْإِلْجَاءَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْهَرَبِ مِنَ السَّبُعِ وَالثَّانِي: لِطَلَبِ النَّفْعِ الْعَظِيمِ، كَمَنْ يَجِدُ مَالًا عَظِيمًا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَخْذِهِ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا حِسًّا فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُلْجَأِ إِلَى الْأَخْذِ، وَكَذَا الدَّوَاعِي الَّتِي تَكُونُ دُونَ الْإِلْجَاءِ، مَرَّةً تَكُونُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَأُخْرَى لِجَلْبِ النَّفْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: إِيلافِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّا بَنِي النضر بن كنانة لا نفقوا أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا»
وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْقِرْشِ وَهُوَ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَحْرِ تَعْبَثُ بِالسُّفُنِ، وَلَا تَنْطَلِقُ إِلَّا بِالنَّارِ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: بِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ؟ قال:
بدابة في البحر تأكل ولا تأكل، تَعْلُو وَلَا تُعْلَى، وَأَنْشَدَ:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تسكن البحر | بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا |
أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا | بِهِ جَمَّعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ |
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا | عِنْدَ عَمْرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ |
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الرِّحْلَةُ اسْمُ الِارْتِحَالِ مِنَ الْقَوْمِ لِلْمَسِيرِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَتَانِ رِحْلَةٌ بِالشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ لِأَنَّ الْيَمَنَ أَدْفَأُ وَبِالصَّيْفِ إِلَى الشَّأْمِ، وَذَكَرَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قُرَيْشًا إِذَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَخْمَصَةٌ خَرَجَ هُوَ وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خِبَاءً حَتَّى يَمُوتُوا، / إِلَى أَنْ جَاءَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَسَدٌ، وَكَانَ لَهُ تِرْبٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ يُحِبُّهُ وَيَلْعَبُ مَعَهُ فَشَكَا إِلَيْهِ الضَّرَرَ وَالْمَجَاعَةَ فَدَخَلَ أَسَدٌ عَلَى أُمِّهِ يَبْكِي فَأَرْسَلَتْ إِلَى أُولَئِكَ بِدَقِيقٍ وَشَحْمٍ فَعَاشُوا فِيهِ أَيَّامًا، ثُمَّ أَتَى تِرْبُ أَسَدٍ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى وَشَكَا إِلَيْهِ مِنَ الْجُوعِ فَقَامَ هَاشِمٌ خَطِيبًا فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَجْدَبْتُمْ جَدْبًا تُقِلُّونَ فِيهِ وَتَذِلُّونَ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَأَشْرَافُ وَلَدِ آدَمَ وَالنَّاسُ لَكُمْ تَبَعٌ قَالُوا: نَحْنُ تَبَعٌ لَكَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنَّا خِلَافٌ فَجَمَعَ كُلَّ بَنِي أَبٍ عَلَى الرِّحْلَتَيْنِ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ لِلتِّجَارَاتِ، فَمَا رَبِحَ الْغَنِيُّ قَسَمَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ حَتَّى كَانَ فَقِيرُهُمْ كَغَنِيِّهِمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ بَنُو أَبٍ أَكْثَرَ مَالًا وَلَا أَعَزَّ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ الشَّاعِرُ فِيهِمْ:
الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيِّهِمْ | حَتَّى يَكُونَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي |
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَصْبُ الرِّحْلَةِ بلإيلافهم مَفْعُولًا، بِهِ، وَأَرَادَ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَأَفْرَدَ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ كَقَوْلِهِ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ، وَقُرِئَ (رحلة) بضم الراء وهي
[سورة قريش (١٠٦) : آية ٣]
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣)اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: دَفْعُ الضَّرَرِ وَالثَّانِي: جَلْبُ النَّفْعِ وَالْأَوَّلُ أَهَمُّ وَأَقْدَمُ، وَلِذَلِكَ قَالُوا:
دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ أَمَّا جَلْبُ النَّفْعِ [فَإِنَّهُ] غَيْرُ وَاجِبٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَيَّنَ تَعَالَى نِعْمَةَ دَفْعِ الضَّرَرِ فِي سُورَةِ الْفِيلِ وَنِعْمَةَ جَلْبِ النَّفْعِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِنْعَامَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابَلَ بِالشُّكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ، لَا جَرَمَ أَتْبَعَ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِطَلَبِ العبودية فقال: لْيَعْبُدُوا
وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ لِلْمَعْبُودِ عَلَى غَايَةِ مَا يَكُونُ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ فَلْيُوَحِّدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَفِظَ الْبَيْتَ دُونَ الْأَوْثَانِ، وَلِأَنَّ التَّوْحِيدَ مِفْتَاحُ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْعِبَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ/ ثُمَّ ذَكَرَ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُتَنَاوِلٌ لِلْكُلِّ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ معنى لْيَعْبُدُوا
أَيْ فَلْيَتْرُكُوا رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَلْيَشْتَغِلُوا بِعِبَادَةِ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يُطْعِمُهُمْ مِنْ جُوعٍ وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ لَفْظِ الرَّبِّ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالُوهُ لِأَبْرَهَةَ: إِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَحْفَظُهُ، وَلَمْ يُعَوِّلُوا فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَصْنَامِ فَلَزِمَهُمْ لِإِقْرَارِهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوا سِوَاهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا عَوَّلْتُمْ فِي الْحِفْظِ عَلَيَّ فَاصْرِفُوا الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ إِلَيَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْبَيْتِ فِي هَذَا النَّظْمِ تُفِيدُ التَّعْظِيمَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَارَةً أَضَافَ الْعَبْدَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: يا عِبادِيَ
[العنكبوت: ٥٦] وَتَارَةً يُضِيفُ نَفْسَهُ إِلَى الْعَبْدِ فَيَقُولُ: وَإِلهُكُمْ [البقرة: ١٦٣] كَذَا فِي الْبَيْتِ [تَارَةً] يُضِيفُ نَفْسَهُ إِلَى البيت وهو قوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وَتَارَةً يُضِيفُ الْبَيْتَ إِلَى نفسه فيقول: طَهِّرا بَيْتِيَ [البقرة: ١٢٥].
[سورة قريش (١٠٦) : آية ٤]
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وفي هذه الْإِطْعَامِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آمَنَهُمْ بِالْحَرَمِ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي رِحْلَتَيْهِمْ كان ذلك سبب إطعامهم بعد ما كَانُوا فِيهِ مِنَ الْجُوعِ ثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: شَقَّ عَلَيْهِمُ الذَّهَابُ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، فَقَذَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْحَبَشَةِ أَنْ يَحْمِلُوا الطَّعَامَ فِي السُّفُنِ إِلَى مَكَّةَ فَحَمَلُوهُ، وَجَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِمْ بِالْإِبِلِ وَالْخَمْرِ، وَيَشْتَرُونَ طَعَامَهُمْ مِنْ جُدَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ وَتَتَابَعَ ذَلِكَ، فَكَفَاهُمُ اللَّهُ مَؤُونَةَ الرِّحْلَتَيْنِ ثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ
لَمَّا كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْقَحْطُ وَأَصَابَهُمُ الْجَهْدُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ادْعُ اللَّهَ فَإِنَّا مُؤْمِنُونَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْصَبَتِ الْبِلَادُ وَأَخْصَبَ أَهْلُ مَكَّةَ بَعْدَ الْقَحْطِ،
فَذَاكَ قَوْلُهُ: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْعِبَادَةُ إِنَّمَا وَجَبَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى أُصُولَ النعم، والإطعام ليس من أصول النعم، فلما عَلَّلَ وُجُوبَ الْعِبَادَةِ بِالْإِطْعَامِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ بِحَبْسِ الْفِيلِ وَإِرْسَالِ الطَّيْرِ وَإِهْلَاكِ الْحَبَشَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِإِيلَافِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: لَكِنْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى كَسْبِ الطَّعَامِ وَالذَّبِّ عَنِ النَّفْسِ، فَلَوِ اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا، فقال: الذي
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا مِلْكًا لَنَا بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: ٢٩] فَكَيْفَ تَحْسُنُ الْمِنَّةُ عَلَيْنَا بِأَنْ أَعْطَانَا مِلْكَنَا؟ الْجَوَابُ: انْظُرْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا قَبْلَ الْأَكْلِ حَتَّى يَتِمَّ الطَّعَامُ وَيَتَهَيَّأَ، وَفِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا بَعْدَ الْأَكْلِ حَتَّى يَتِمَّ الِانْتِفَاعُ بِالطَّعَامِ الْمَأْكُولِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى يَتِمَّ ذَلِكَ الطَّعَامُ، وَلَا بُدَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَصُوَرِهَا حَتَّى يَتِمَّ الِانْتِفَاعُ بِالطَّعَامِ، وَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِطْعَامَ يُنَاسِبُ الْأَمْرَ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْمِنَّةُ بِالْإِطْعَامِ لَا تَلِيقُ بِمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَرَمِ، فَكَيْفَ بِأَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ الْمِنَّةَ، بَلِ الْإِرْشَادَ إِلَى الْأَصْلَحِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَكْلِ تَقْوِيَةَ الشَّهْوَةِ الْمَانِعَةِ عَنِ الطَّاعَةِ، بَلْ تَقْوِيَةَ الْبِنْيَةِ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَاتِ، فَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ ذَلِكَ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ جُوعٍ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ فَوَائِدُ أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْجُوعِ شَدِيدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشُّورَى: ٢٨]
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ» الْحَدِيثَ
وَثَانِيهَا: تَذْكِيرُهُمُ الْحَالَةَ الْأُولَى الرَّدِيئَةَ الْمُؤْلِمَةَ وَهِيَ الْجُوعُ حَتَّى يَعْرِفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ الْحَاضِرَةِ وَثَالِثُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الطَّعَامِ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَأَشْبَعَهُمْ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُزِيلُ الْجُوعَ، أَمَّا الْإِشْبَاعُ فَإِنَّهُ يُورِثُ البطنة.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ آمِنِينَ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ، وَلَا يُغِيرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ لَا فِي سَفَرِهِمْ وَلَا فِي حَضَرِهِمْ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَأْمَنُونَ مِنَ الْغَارَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] ثَانِيهَا: أَنَّهُ آمَنَهُمْ مِنْ زَحْمَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الضحاك والربيع: وآمنهم من خوف الجزام، فَلَا يُصِيبُهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ الْجُذَامُ، وَرَابِعُهَا:
آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ أَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ فِي غَيْرِهِمْ «١» وَخَامِسُهَا: آمَنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانُوا فِي الْكُفْرِ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الدِّينَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ وَسَادِسُهَا: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعِ الْجَهْلِ بِطَعَامِ الْوَحْيِ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ الضَّلَالِ بِبَيَانِ الْهُدَى، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
يَا أَهْلَ مَكَّةَ كُنْتُمْ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ تُسَمَّوْنَ جُهَّالَ الْعَرَبِ وَأَجْلَافَهُمْ، وَمَنْ كَانَ يُنَازِعُكُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَنْزَلْتُ الْوَحْيَ عَلَى نَبِيِّكُمْ، وَعَلَّمْتُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ حتى صرتم الآن تسمون/ أهل العلم
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: عَنْ جُوعٍ وَعَنْ خَوْفٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَعْنَى عَنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُوعَ بَعِيدًا عَنْهُمْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّبْعِيدُ مَسْبُوقًا بِمُقَاسَاةِ الْجُوعِ زَمَانًا، ثُمَّ يَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَ (مِنْ) لَا تَقْتَضِي ذلك، بل معناه أنهم عند ما يَجُوعُونَ يُطْعَمُونَ، وَحِينَ مَا يَخَافُونَ يُؤَمَّنُونَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: مِنْ جُوعٍ مِنْ خَوْفٍ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ؟ الْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنَ التَّنْكِيرِ التَّعْظِيمُ. أَمَّا الْجُوعُ فَلِمَا رَوَيْنَا: أَنَّهُ أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْعِظَامَ الْمُحْرَقَةَ وَأَمَّا الْخَوْفُ، فَهُوَ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ الْحَاصِلُ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّنْكِيرِ التَّحْقِيرَ، يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُجَوِّزْ لِغَايَةِ كَرَمِهِ إِبْقَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجُوعِ الْقَلِيلِ وَالْخَوْفِ الْقَلِيلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي كَرَمِهِ لَوْ عَبَدُوهُ أَنْ يُهْمِلَ أَمْرَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ دُونَ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ دُونَ خَوْفٍ، لِيَكُونَ الْجُوعُ الثَّانِي وَالْخَوْفُ الثَّانِي مُذَكِّرًا مَا كَانُوا فِيهِ أَوَّلًا مِنْ أَنْوَاعِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، حَتَّى يَكُونُوا شَاكِرِينَ مِنْ وَجْهٍ، وَصَابِرِينَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَيَسْتَحِقُّوا ثَوَابَ الْخَصْلَتَيْنِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَطْعَمَهُمْ وَآمَنَهُمْ إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّا فِي الْإِطْعَامِ فَهُوَ قَوْلُهُ: وَارْزُقْ أَهْلَهُ [الْبَقَرَةِ: ١٢٦] وَأَمَّا الْأَمَانُ فَهُوَ قَوْلُهُ: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنَّةً عَلَى أُولَئِكَ الْحَاضِرِينَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قال إبراهيم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ بِهَذَا الْأَدَبِ، فَحِينَ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ قيده بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ فقال الله: لا حاجة إلى هذا التقيد، بَلْ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَّا نِعْمَةُ الْأَمَانِ فَهِيَ دِينِيَّةٌ فَلَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ تَقِيًّا، وَأَمَّا نِعْمَةُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَصِلُ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِطْعَامُ الْكَافِرِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَمَانُهُ مِنَ الْخَوْفِ إِنْعَامًا مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً عَلَيْهِ لَا بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَزَالَ السُّؤَالُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
سورة قريش
سورة (قُرَيش) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (التِّين)، وقد افتُتحت بتذكير قُرَيش بنِعَمِ الله عليهم؛ من التجارة، وجلبِ الخير لهم عن طريق رحلتَيِ الشِّتاء والصيف، وأن الله أطعَمهم بعد جوع، وأمَّنهم بعد خوف، ولَمَّ شملهم، وفي ذلك طلبٌ منهم أن يُوحِّدوا اللهَ ويُفرِدوه بالعبادة؛ لأنه - وحده - المستحِقُّ لذلك، لا أصنامُهم التي صنعوها بأيديهم.
ترتيبها المصحفي
106نوعها
مكيةألفاظها
17ترتيب نزولها
29العد المدني الأول
5العد المدني الأخير
5العد البصري
4العد الكوفي
4العد الشامي
4* سورة (قُرَيش):
سُمِّيت سورة (قُرَيش) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (قُرَيش) في مطلعها؛ قال تعالى: {لِإِيلَٰفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
نِعَمُ الله على قُرَيش، ودعوتُه لعبادته (١-٤).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /369).
أمرُ قُرَيشِ بتوحيد الله عزَّ وجلَّ وحده بعدما أنعَمَ عليهم بنِعَمٍ كثيرة، وأطعمهم بعد جوعٍ، وآمَنهم بعد خوفٍ .
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /554).