ﰡ
١ - ﴿طه (١)﴾ اختلفوا فيه (١) أكثر مما اختلف في غيره من المقطعات، فقال بعضهم: هو اسم القرآن، أو اسم السورة، أو اسم الله، أو مفتاح الإسم الطاهر والهادي، وقال بعضهم: هو اسم من أسماء الرسول - ﷺ - مثل أحمد ويس، وغير ذلك، كما قال - عليه السلام -: "أنا محمد، وأنا أحمد، والفاتح، والقاسم، والحاشر، والعاقب، والماحي، وطه، ويس". ويؤيد هذا القول الخطاب في ﴿عَلَيْكَ﴾ فيكون حرف النداء محذوفاً؛ أي: يا طه، والطاء والهاء إشارة إلى أنه - عليه السلام - طالب الشفاعة للناس، وهادي البشر، أو أنه طاهر من الذنوب، وهاد إلى معرفة علَّام الغيوب، وقيل: إنه من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، بناءً على أنه من الحروف المقطعة التي استأثر الله بعلمها، فعليه يكون الوقف عليها تاماً، وهي آية مستقلة لا محل لها من الإعراب، وقيل (٢): إنه بمعنى: يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك، قال الكلبي: لو قلت لرجلٍ من عك: يا رجل.. لم يجب، حتى تقول: طه، وأنشد ابن جرير:
دَعَوْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ | فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُوْنَ مُوَاثِلاً |
(٢) الشوكاني.
وقد تقدم القول أن (١) أصح الآراء في الحروف المقطعة التي في أوائل السور أنها حروف تنبيهٍ كـ (ألا) و (يا)، ونحوهما، مما يُذكر في أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يُلقى بعدها لأهميته، وإرادة إصغائه إليه، نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)﴾ ويُنطق باسمائها عند قراءتها فيقال: طاها.
وقيل (٢): (طا) فعل أمر، وأصله: طأ فخففت الهمزة بإبدالها ألفًا، و (ها) مفعول به، وهو ضمير الأرض؛ أي: طاء الأرض بقدميك، ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه، وقرأت فرقة، منهم الحسن، وعكرمة، وأبو حنيفة، وورش، في اختياره: طه، قيل: أصله طأ، فحذفت الهمزة، وأُدخلت هاء السكت، وأُجري الوصل مجرى الوقف، أو أصله: طأ وأبدلت همزته هاء، فقيل: طه، وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد: ﴿طاوى﴾.
وقال ابن الجوزي (٣): وفي طه قراءات: قرأ ابن كثير وابن عامر ﴿طه (١)﴾ بفتح الطاء والهاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: ﴿طه﴾ بكسر الطاء والهاء، وقرأ نافع: ﴿طه﴾ بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، كذلك قال خلف عن المسيبي، وقرأ أبو عمرو: ﴿طه﴾ بفتح الطاء وكسر الهاء، وروى عنه عباس مثل حمزة، وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية: ﴿طه﴾ بكسر الطاء وفتح الهاء، وقرأ الحسن: ﴿طه﴾ بفتح الطاء وسكون الهاء، وقرأ الضحاك، ومورق: ﴿طه﴾ بكسر الطاء وسكون الهاء. انتهى.
٢ - وجملة: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢)﴾: مستأنفة (٤) مسوقة لتسلية رسول الله - ﷺ - عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء: يجيء في
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
(٤) الشوكانى.
ذُوْ الْعَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعِيْمِ بِعَقْلِهِ | وَأَخُوْ الْجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوَةِ يَنْعُمُ |
وقصارى ذلك: أنا أنزلناه عليك لتذكر به، فمن آمن وأصلح.. فلنفسه، ومن كفر.. فلا يحزنك كفره، إن عليك إلا البلاغ، ولست عليهم بمسيطر.
وقرأ طلحة (٢): ﴿ما نزِّل عليك﴾ بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة، مبنيًا للمفعول ﴿القرآن﴾ بالرفع وقرأ الجمهور. ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾
٣ - وقوله: ﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣)﴾ نصب على أنه مفعول له لـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾ معطوف على ﴿تشقى﴾ بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدراك المستفاد من الاستثناء المنقطع، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين إلا من حيث البدلية، أو العطف، كأنه قيل: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه، ولكن أنزلناه تذكيرًا وموعظةً لمن يخشى الله تعالى، ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه، وحسن استعداده؛ أي: تذكيرًا وموعظةً لمن يعلم الله منه أن يخشى بالتذكرة والتخويف، أو لمن يؤول أمره إلى الخشية، والخشية باعثة على الإيمان والطاعة، وقد كان - عليه السلام - يعظهم به بتلاوته، وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم في دنياهم وآخرتهم، وقد جرَّد (٣) التذكرة عن اللام، لكونها فعلًا لفاعل الفعل المعلل.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وخلاصة ذلك: حسبك ما حُمِّلْته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك، وبيدنا لا بيدك، قال في "الكبير" ويدخل تحت قوله: ﴿لِمَنْ يَخْشَى﴾ الرسول؛ لأنه في الخشية والتذكرة فوق الكل.
٤ - وقوله: ﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤)﴾ منصوب على المصدرية، بفعل محذوف تقديره: نُزَّل هذا القرآن عليك تنزيلًا من ربك، الذي خلق الأرض والسموات؛ أي: أوجدهما من العدم إلى الوجود، وتخصيص (١) خلق الأرض والسموات، لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، ولأنهما قوام العالم وأصوله، وتقديم (٢) الأرض لكونها أقرب إلى الحس، وأظهر عنده من السموات.
ووصف السموات بالعلى (٣)؛ أي: المرافعة، وهو جمع العليا مؤنث الأعلى، مثل الكبرى والأكبر والكبر، للدلالة على عظم قدرة خالقها بعلوها، وعطف السموات على الأرض، من عطف الجنس على الجنس؛ لأن التعريف مصروف إلى الجنس، لا من عطف الجمع على المفرد، حتى يلزم ترك الأولى من رعاية التطابق بين المعطوف والمعطوف عليه، والمراد بهما: ما في جهة السفل والعلو، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما، وقرأ ابن (٤) أبي عبلة ﴿تنزل﴾ رفعًا على إضمار هو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق ﴿يخشى﴾ بتنزيل، وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل، كما ذكرناه آنفًا، والظاهر في ﴿مَن﴾ أنها متعلقة بتنزيل، ويجوز أن يكون في موضع الصفة، فيتعلق بمحذوف وفي قوله
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
٥ - وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)﴾ رفع (١) على المدح على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سبحانه الرحمن الذي على عرشه استوى وارتفع وعلا، استواءً يليق به، نعتقده ونثبته، ولا نمثله ولا نكيفه ولا نعطله، وقد تقدم هذا في سورة الأعراف ببسط وإطناب، أو مبتدأ، واللام فيه للعهد مشاراً به إلى ﴿من خلق﴾ خبره ما بعده.
وروى جناح بن حبيش عن بعضهم: أنه قرأ: ﴿الرحمن﴾ بالكسر، والأحسن أن يكون ﴿الرحمن﴾ حينئذ بدلًا من ﴿من﴾ الموصولة في قوله: ﴿مِمَّنْ خَلَقَ﴾ وعلى قراءة الجر يكون التقدير: هو على العرش استوى
٦ - ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ سواء كان ما فيهما جزءًا منهما، أو حالًا فيهما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: ما بين السموات والأرض من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا، كالهواء والسحاب، أو أكثريًا كالطير؛ أي: له جميع ذلك ملكًا وخلقًا وتدبيرًا وتصرفاً ﴿و﴾ له ﴿مَا تَحْتَ الثَّرَى﴾؛ أي: وله ما واراه التراب، وأخفاه من المعادن وغيرها، والثرى في اللغة: التراب الندي، قال الواحدي: والمفسرون يقولون: إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه.
والمعنى عليه: وله سبحانه (٢) الذي تحت الأرض السابعة السفلى؛ لأن
(٢) المراح.
والمعنى (١): أنه تعالى مالك لهذه الأقسام الأربعة، تصرفًا وإيجادًا وإعدامًا وإحياءً وإماتةً،
٧ - وجواب الشرط في قوله: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ﴾ محذوف تقديره: وإن تجهر وترفع صوتك بذكر الله تعالى ودعائه.. فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك وإعلانك ﴿فَإِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ ما هو و ﴿أخفى﴾ من السر، فالفاء فيه تعليلية للجواب المحذوف، وهذا (٢) إما نهي عن الجهر، كقوله سبحانه ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾، وإما إرشاد (٣) للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه، بل لغرض آخر من تصور النفس بالذكر، ورسوخه فيها، ومنعها من الاشتغال بغيره، وقطع الوسوسة عنها، وهضمها بالتضرع والجؤار، وإيقاظ الغير، ونشر البركات، إلى مدى صوته، وتكثير إشهاد، ونحو ذلك، والجهر بالقول: هو رفع الصوت به، والسر ما حدَّث به الإنسان نفسه، وأسره إليه، والأخفى من السرة هو ما حدث به الإنسان نفسه، وأخطره بباله.
والمعنى: أي (٤) وإن تجهر بدعاء الله وذكره.. فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك؛ لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك، ولم ترفع به صوتك، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تتفوه به. والدعاء والذكر باللسان، إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى في نفسه، لا ليسمع صوته، ولا فضل للنطق والجهر به إلا في منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني في القلوب، كما قال تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣)﴾
٨ - ثم ذكر سبحانه أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه، المنزه عن الشريك، المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال: ﴿اللهُ﴾ هو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي:
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
(٥) روح البيان.
والمعنى (٢): أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت، ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق، الذي لا رب غيره، ولا إله سواه، وله الصفات الحسنى، الدالة على التقديس والتمجيد، والأفعال التي هي الغاية في الحكمة والسداد.
٩ - ثم قرر سبحانه أمر التوحيد، بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ﴾ يا محمد وبلغك ﴿حَدِيثُ مُوسَى﴾ بن
(٢) المراغي.
ومن سنن العربية (٢): أنه إذا أريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب في نفس المخاطب، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام، فيقول المرء لصاحبه: هل بلغك كذا وكذا، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر، ويُصغي إليه أتم الإصغاء.
وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي - ﷺ - لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة، وتحمل أثقالها، ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله، والمراد بالحديث: القصة الواقعة لموسى، رُوي أن موسى - عليه السلام - استأذن شعيباً في الرجوع إلى والدته، فأذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، فخرج وسار قاصدًا مصر بعد أن طالت غيبته عنها، فقد زادت على عشر سنين، ومعه زوجه فوُلد له ابنٌ في الطريق في ليلة شاتية، ذات ثلج وبردٍ وسحابٍ وضبابٍ وظلامٍ، وكانت ليلة جمعة، ونزل منزلًا بين شعاب وجبال، وجعل يقدس بزندٍ كان معه ليوري نارًا، فلم تور المقدحة شيئًا، وبينا هو يزاول ذلك ويعالجه
١٠ - ﴿إِذْ رَأَى نَارًا﴾ من بُعدٍ عن يسار الطريق ﴿فَقَالَ﴾ موسى ﴿لِأَهْلِهِ﴾؛ أي: لامرأته وولدها وخادمها، فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد والعبيد والإماء والأقارب وبالأصحاب وبالمجموع، كما في "شرح المشارق" لابن ملك. مبشرًا لهم ﴿امْكُثُوا﴾؛ أي: أقيموا مكانكم ولا تتبعونى ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ وأبصرت ﴿نَارًا﴾ وسأذهب إليها ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾؛ أي: لعلي أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى﴾ تلك ﴿النَّارِ هُدًى﴾؛ أي: هاديًا يدلني على الطريق؛ لأن النار قلَّما تخلو من أهل لها، وناس عندها، على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغةً، أو حُذف منه المضاف؛ أي: ذا هداية وكلمة،
(٢) المراغي.
وجاء في سورة القصص ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾.
وقصارى ذلك (١): أنه قال لأهله: أقيموا مكانكم، وإني قد رأيت نارًا، فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارًا تصطلون بها، وإما أن أجد دليلًا يرشدني إلى الطريق المسلوك، وكان قد ضل عنه.
ومعنى أمكثوا: أقيموا مكانكم، وعبَّر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك، وقرأ (٢) الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية: ﴿لأهله امكثوا﴾ بضم الهاء وكذا في القصص، وقرأ الجمهور بكسرها قوله: ﴿بِقَبَسٍ﴾؛ أي: بشعلة نار؛ أي: بشيء فيه لهب مقتبس من معظم النار، وهى المرادة بالجذوة في سورة القصص، وبالشهاب القبس في سورة "النمل"، يقال: قبست منه نارًا في رأس عود، أو فتيلة أو غيرهما.
ولم يقطع موسى بأن يقول إني آتيكم، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به، انظر كيف احترز موسى عن شائبة الكذب قبل نبوته، فإنه حينئذٍ لم يكن مبعوثاً، قال أكثر المفسرين: إن الذي رآه موسى لم يكن نارًا، بل كان نور الرب سبحانه، ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارًا، وقال الإِمام: الصحيح أنه رأى نارًا ليكون صادقًا في خبره، إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. انتهى.
١١ - ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾؛ أي: فلما أتى موسى النار التي آنسها.. ﴿نُودِيَ﴾ موسى من الشجرة، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص؛ أي: من جهتها وناحيتها؛ أي: فلما انتهى إلى النار التي آنسها.. رأى شجرة خضراء من أعلاها إلى أسفلها، أحاطت بها نار بيضاء، تتقد كأضواء ما يكون، ولم ير هناك أحدًا، فوقف متعجبًا من شدة ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغير
(٢) البحر المحيط.
١٢ - فقال تعالى: ﴿إِنِّي أَنَا﴾ للتوكيد والتحقيق ﴿رَبُّكَ﴾ ومالك أمرك يا موسى، وأنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك، وأقرب إليك منك، فعلم أن ذلك لا ينبغي ولا يكون إلا من الله تعالى، فأيقن به وسمع الكلام بكل أجزائه، حتى إن كل جارحة منه كانت أذنًا، وسمعه من جميع الجهات.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿إِنِّي﴾ بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى معاملة النداء معاملة القول، لا أنه ضربٌ منه على مذهب الكوفيين، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي: ﴿أني﴾ بفتح الهمزة، والظاهر أن التقدير: بأني أنا ربك، وقال ابن عطية: لأجل أني أنا ربك، فاخلع نعليك، وأنا مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة، وإماطة الشبهة.
(٢) البحر المحيط.
وفي "الترمذي"، عن النبي - ﷺ - قال: "كان على موسى يومَ كلَّمه ربه كساء صوف، وجبة صوف، وكمة صوف، وسراويل صوف، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت" قال: هذا حديث غريب. والكمة: القلنسوة الصغيرة، وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والكلبي والضحاك، وقيل: كانتا من جلد بقرة ذكي، لكن أمر بخلعهما لبيان بركة الوادي المقدس، حتى وتمس قدماه تربته، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين، وروي: أنه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله: ﴿إِنَّكَ﴾ يا موسى ﴿بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾؛ أي (١): المطهر والمستبعد من السوء ﴿طُوًى﴾: اسم الوادي، بدل أو عطف بيان منه، أي: لأنك بالوادي المطهر المسمى بطوى، فاخلعهما ليحصل للقدمين بركته، والمقدس: المطهر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة: المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين، وعمرها بالمؤمنين.
وقرأ الحسن (٢) والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السُّمال وابن محيصن: بكسر الطاء منونًا، وقرأ الكوفيون وابن عامر: بضمها منونًا، وقرأ الحرميان نافع وابن كثير وأبو عمرو: بضمها غير منون، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو: بكسرها غير منون، وقرأ عيسى بن عمرو والضحاك ﴿طاوى﴾ فمن نوَّن فعلى تأويل المكان، ومن لم ينون وضم الطاء، فيحتمل أن يكون معدولًا عن فعل، نحو زفر وقثم، أو أعجميًا أو على معنى البقعة، ومن كسر ولم ينون فمنع
(٢) البحر المحيط.
١٣ - ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ واصطفيتك من قومك للنبوة والرسالة ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾، أي: للذي يوحى إليك منى من الأمر والنهي، واللام: متعلقة بالسمع، مزيدة في المفعول كما في ردف لكم، والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقرأ (١) الجمهور، أبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي وأهل مكة وأهل المدينة: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُك﴾ بالإفراد، وقرأ حمزة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وخلف في اختياره: ﴿وأنا اخترناك﴾ بفتح الهمزة وشد النون ﴿اخترناك﴾ بنون العظمة، وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية: ﴿وإنا﴾ بكسر الهمزة ﴿اخترناك﴾ بنون العظمة عطفًا على ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ لأنهم كسروا ذلك أيضًا، وقرأ أُبيُّ ﴿وأني﴾ بفتح الهمزة وياء المتكلم ﴿اخْتَرْتُكَ﴾ بالتاء عطفًا على ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾.
وقصارى ذلك (٢): لقد جاءك أمر عظيم، فتأهب له، واجعل كل خاطرك إليه، وقد قالوا: إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم،
١٤ - وقد بيَّن سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ وهو بدل من ﴿ما﴾ في ﴿لِمَا يُوحَى﴾ دال على تقدم علم الأصول على علم الفروع، فإن التوحيد من مسائل الأصول، والعبادة الآتية من الفروع ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾؛ أي: إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ و (الفاء): فيه أيضًا لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة؛ أي: فخصني بالعبادة والتوحيد، ولا تشرك بعبادتي أحدا؛ أي: وإذ كنت أنا الإله حقًا، ولا معبود سواي، فخصني بالعبادة والتذلل والانقياد في جميع ما كلفتك به ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ من عطف الخاص على العام؛ أي: وأد الصلاة على الوجه الذي أمرتك به، مقومة الأركان، مستوفاة الشروط ﴿لِذِكْرِي﴾؛ أي: لتذكرني فيها، وتدعوني دعاءً خالصًا، لا يشوبه
(٢) المراغي.
وخص (١) الصلاة بالذكر مع كونها داخلةً تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة، وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله: ﴿لِذِكْرِي﴾؛ أي: لتذكري، فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى: لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، وقيل: المعنى لأذكرك بالمدح في عليين.
وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء (٢): ﴿للذكرى﴾ بلام التعريف وألف التأنيث، فالذكرى: بمعنى التذكرة؛ أي: لتذكيري إياك، إذا ذكرتك بعد نسيانك، فأقمها، وقرأت فرقة: ﴿لذكرى﴾ بألف التأنيث بغير لام التعريف، وقرأت فرقة: ﴿للذكر﴾.
١٥ - ثم بيَّن السبب في وجوب العبادة، وإقامة الصلاة فقال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾ والقيامة ﴿آتِيَةٌ﴾؛ أي: كائنة حاصلة واقعة لا محالة، والساعة (٣): اسم لوقت تقوم فيه القيامة، سمي بها لأنها ساعة حقيقةً، يحدث فيها أمر عظيم، وإنما عبَّر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾؛ أي: أريد (٤) إخفاء وقتها فـ ﴿أَكَادُ﴾ بمعنى أريد، أو أقرب أن أخفيها، فلا أقول إنها آتية، ولولا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار.. لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها، فالإخفاء بمعنى الإظهار، من أخفى الشيء إذا أظهره، وسلب خفاءه، ويؤيده قراءة فتح الهمزة، من خفاه إذا أظهره، ذكره البيضاوي، وقيل: ﴿أَكَادُ﴾ (٥) زائدة، والمعنى: إن الساعة آتية أسترها عن الخلق، للتهويل والتعظيم، وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر (٦)
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) البيضاوي.
(٥) روح البيان.
(٦) الشوكاني.
وقال الواحدي: قال أكثر المفسرين: ﴿أُخْفِيهَا﴾ من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة، وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب، يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء.. كتمته حتى من نفسي؛ أي: لم أطّلع عليه، ومعنى الآية على هذا القول؛ أي (١): إن الساعة آتية لا محالة، وإني أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري من الخلق، وقد جاء هذا على سنن العرب في تخاطبهم، يقول أحدهم: إذا بالغ في كتمان السر: كتمت سري من نفسي، يريد: أنه أخفاه غاية الإخفاء، وقرأ أبو الدرداء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وأبو رجاء العطاردي والحسن ومجاهد وحميد بن قيس، ﴿أخفيها﴾ بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم، قال الزجاج: ومعناه: أكاد أظهرها، من خفيت الشيء بمعنى: أظهرته.
وفائدة إخفائها: التهويل والتخويف، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة.. يكونوا منها على حذر، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت، لأن المرء إذا علم وقت موته، وانقضاء أجله.. اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين، فيتوب ويصلح عمله، وقد وعد الله بقبول توبته، وهذا يكون كالإغراء على المعصية، لكنه إن لم يعلم حين منيته.. كان منها على حذر، ولا يزال على قدم الخوف والوجل، فيترك المعاصي، ويتوب منها في كل حين خوف معاجلة الموت.
واللام في قوله: ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ متعلق بـ ﴿آتية﴾ وما بينهما اعتراض أو بـ ﴿أُخْفِيهَا﴾ و ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: إن الساعة آتية لتجزي كل نفس بسعيها وعملها، خيرًا كان أو شرًا، وتخصيص (٢) السعي بالذكر للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة، وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات
(٢) روح البيان.
١٦ - ﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ﴾؛ أي: فلا يصرفنك يا موسى ﴿عَنْهَا﴾؛ أي: عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها؛ أي: لا يمنعنك عن ذكر الساعة ومراقبتها ﴿مَنْ لَا يُؤْمِنُ﴾ ولا يصدق ولا يقر ﴿بِهَا﴾؛ أي: بإتيان الساعة وقيامها من الكفرة، وهذا النهي (١) وإن كان بحسب الظاهر نهيًا للكافر عن صد موسى عن الإيمان بالساعة، فهو في الحقيقة نهيٌ لموسى عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني، وإبطال للسببية من أصلها، أو نهي (٢) له عن إظهار اللبن للكافرين، فهو من باب لا أرينك هاهنا، كما هو معروف، وقوله: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ معطوف على ما قبله؛ أي: من لا يؤمن، ومن اتبع هواه؛ أي: اتبع هوى نفسه وشهواتها بالانهماك في اللذات الحسية الفانية ﴿فَتَرْدَى﴾؛ أي: فتهلك هلاكًا أبديًا؛ لأن انصدادك عنها بصد الكافرين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له، لما في ذلك الانصداد من الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجي من أهوالها لا محالة، والمراد، بهذا النهي: الأمر بالاستقامة في الدين، وهو خطاب له، والمراد: غيره وقرأ يحيى: ﴿فتردى﴾ بكسر التاء، والمعنى؛ أي (٣): فلا يردنك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقر بقيامها، ولا يصدق بالبعث، ولا يرجو ثوابًا، ولا يخاف عقابًا، بل يتبع هواه، ويخالف أمر ربه ونهيه، فإنك إن فعلت ذلك وقعت في هاوية الخذلان والعصيان، وهذا الخطاب من وادي قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، فالمراد بمثل هذا الخطاب جميع المكلفين، كما تقدم غير مرة.
وخلاصة ذلك: لا تتبعوا سبل من كذب بالساعة، وأقبل على لذاته في دنياه، وعصى أمر ربه، واتبع هواه، فإن من سلك سبيلهم.. خاب وخسر، كما
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغى.
واعلم (١): أن هذه الآيات والآتية بعدها دلت على أن الله تعالى كلم موسى - عليه السلام - وأنه سمع كلام الله تعالى، فإن قيل: بأي شيء علم موسى أنه كلام الله؟ قيل: لم ينقطع بالنفس مع الحق، كما ينقطع به مع المخلوق، بل كلَّمه تعالى بمدد وحداني غير منقطع، وبأنه سمع الكلام من الجهات الست، وبجميع الأجزاء، فصار الوجود كله سمعاً، وكذا المؤمن في الآخرة.
١٧ - والاستفهام في قوله: ﴿وَمَا تِلْكَ﴾، للتقرير ﴿وَمَا﴾: مبتدأ و ﴿تِلْكَ﴾: خبره وهي بمعنى: هذه ﴿بِيَمِينِكَ﴾ حال والعامل فيها ﴿مَا﴾ في اسم الإشارة، من معنى الفعل، كقوله: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾؛ أي: أي شيء هذه الخشبة حالة كونها مأخوذةً بيمينك ﴿يَا مُوسَى﴾ ويصح أن تكون ﴿مَا﴾ خبرًا مقدمًا لـ ﴿تِلْكَ﴾ وهو أوفق بالجواب من عكسه.
وقال الزمخشري (٢): ويجوز أن يكون ﴿تِلْكَ﴾ اسماً موصولًا، صلته بـ ﴿بِيَمِينِكَ﴾ ولم يذكر ابن عطية غيره، وليس ذلك مذهباً للبصريين، وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا: يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولًا، حيث يتقدر بالموصول، كأنه قيل: وما التي بيمينك، وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفًا، كأنه قيل: وما التي استقرت بيمينك، وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى - عليه السلام - استئناس عظيم، وتشريف كريم.
سأله سبحانه عما في يده وهو العليم به (٣)، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير، ولا منفعة عظيمة، جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال، كانقلابها حيةً تسعى، وضرب البحر بها حتى ينفلق، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته، وبالغ عظمته، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة، على سنن الناس في
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١٨ - فأجابه موسى معددًا ما لها من فوائد ومزايا، بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر فـ ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿هِيَ﴾؛ أي: هذه الخشبة التي بيميني هي ﴿عَصَايَ﴾ يا إلهي، نسبها إلى نفسه تحقيقًا لوجه كونها بيمينه، وتمهيداً لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه السلام وكانت هذه العصا لآدم، ورثها شعيب من آدم، وأمر شعيب ابنته بعدما زوجها له أن تعطى لموسى، يدفع بها السباع عن غنمه، وكان عصا الأنبياء عنده، فوقع في يدها عصا آدم من آس الجنة، فأخذها موسى بعلم شعيبٍ.
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري (١): ﴿عصيَّ﴾ بقلب الألف ياءً وإدغامها في ياء المتكلم، وقرأ الحسن ﴿عصاي﴾ بكسر الياء، وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضًا، وأبي عمرو معًا وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين، وعن أبي إسحاق، والجحدري ﴿عصاي﴾ بسكون الياء.
وبقوله: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ تم (٢) الجواب، ولكن ذكر موسى ما لها من فوائد، إذ أحب مكالمة ربه، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل، وواحدةً على سبيل الإجمال فقال:
١ - ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾؛ أي: أعتمد عليها إذا مشيت، أو تعبت، أو وقفت على رأس القطيع من الغنم في المرعى.
٢ - ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾؛ أي: وأخبط ورق الشجر بها ليسقط على غنمي، فتأكله، وقرأت فرقة: ﴿غنمي﴾ بسكون النون وفرقة: ﴿على غنمي﴾ بإيقاع الفعل على الغنم، وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَأَهُشُّ﴾ بضم الهاء والشين
(٢) المراغى.
(٣) البحر المحيط.
٣ - ﴿وَلِيَ فِيهَا﴾؛ أي: في عصاي ﴿مَآرِبُ﴾ وحوائج ومصالح ومنافع ﴿أُخْرَى﴾ غير ذلك المذكور، كحمل الزاد، والسقي، وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت.. ألقيتها على عاتقي، فعلقت بها قوسي، وكنانتي، ومخلاتي، وثوبي، وإذا وردت ماءً قصر عنه رشائي.. وصلته بها.
وقد أجمل - عليه السلام - في المآرب، رجاء أن يسأله ربه عنها، فيسمع كلامه مرةً أخرى، ويطول الحديث بهذا، وقرأ الزهري (١)، وشيبة: ﴿مارب﴾ بغير همز، كذا قال الأهوازي في "كتاب الإقناع" في القراءات.
وقد تعرض (٢) قوم لتعداد منافع العصا، فذكروا من ذلك أشياء: منها: قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفرها، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خَطْوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وأُلقي عليها كسائي، فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلى ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي، وعلاقة أدواتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيَّ. انتهى.
وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات
(٢) الشوكاني.
فإن قلت (١): ما الفائدة في سؤال الله تعالى له بقوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ﴾ وهو يعلم؟.
فعنه جوابان:
أحدهما: أن لفظه لفظ الاستفهام، ومجراه مجرى السؤال ليجيب المخاطب، لا إقرار به، فتثبت عليه الحجة باعترافه، فلا يمكنه الجحد، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعنده ماء: ما هذا؟ فيقول: ماء، فتضع عليه شيئًا من الصبغ، فإن قال: لم يزل هكذا.. قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء، فتثبت عليه الحجة، هذا قول الزجاج، فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرر موسى أنها عصا، لما أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حيةً، فوقع المعجز بها بعد التثبت في أمرها.
والثاني: أنه لما اطلع الله تعالى على ما في قلب موسى، من الهيبة والإجلال، حين التكليم.. أراد أن يؤانسه، ويخفف عنه ثقل ما كان فيه من الخوف، فأجرى هذا الكلام للاستئناس، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فإن قيل: قد كان يكفي في الجواب أن يقول: ﴿هِيَ عَصَاي﴾، فما الفائدة في قوله: ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ إلى آخر الكلام، وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟
فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدهما: أنه أجاب بقوله: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ فقيل له: ما تصنع بها، فذكر باقي الكلام جوابًا عن سؤال ثان. قاله ابن عباس، ووهب.
الثالث: أنه بيَّن منافعها، لئلا يكون عابثاً بحملها، قاله الماوردي. فإن قيل: فلِمَ اقتصر على ذكر بعض منافعها، ولم يطل الشرح؟
فعنه ثلاثة أجوبةٍ:
أحدها: أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها.
والثاني: استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد.
والثالث: أنه اقتصر على اللازم دون العارض، وقيل: كانت تضيء له بالليل، وتدفع عنه الهوام، وتثمر له إذا اشتهى الثمار، وفي جنسها قولان:
أحدهما: أنها كانت من آس الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها كانت من عوسج.
فإن قيل: المآرب جمع، فكيف قال ﴿أخرى﴾، ولم يقل أخر؟
فالجواب: أن المآرب في معنى جماعة، فكأنه قال: جماعة من الحاجات أخرى، قاله الزجاج اهـ. "زاد المسير"
١٩ - ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه وتعالى، استئناف (١) بياني واقع في جواب سؤال مقدر، أمره سبحانه بإلقائها، ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة ﴿أَلْقِهَا﴾؛ أي: ألق هذه العصا وأطرحها ﴿يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا﴾
٢٠ - موسى على الأرض، والإلقاء والنبذ والطرح، بمعنىً واحدٍ ﴿فَإِذَا هِيَ﴾؛ أي: تلك العصا المطروحة، وإذا هنا للمفاجاة ﴿حَيَّةٌ تَسْعَى﴾؛ أي: ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعاً، وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها، حتى صارت حية تسعى؛ أي: تمشي بسرعةٍ وخفةٍ، قيل: كانت عصا ذات شعبتين، فصار الشعبتان فمًا، وباقيها جسم حيةٍ، تنتقل من مكان إلى مكان، وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها، وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك.. خاف وفزع وولى
وحكمة انقلابها وقت مناجاته: تأسيسه بهذا المعجز الهائل، حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت، وقد جرت له بذلك عادة وتدريب في تلقي تكاليف النبوة، ومشاق الرسالة،
٢١ - ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها، ونهاه عن أن يخاف منها حيث ﴿قَالَ﴾ سبحانه: استئناف بياني ﴿خُذْهَا﴾؛ أي: خذ هذه الحية بيمينك ﴿وَلَا تَخَفْ﴾ منها فإنه لما رآها حية تسرع، وتبتلع الحجر والشجر.. خاف وهرب منها، وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير، ولا يدرك له سبب، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره - عليه السلام - قيل: لما قال له ربه لا تخف.. بلغ من طمأنينة نفسه وذهاب الخوف عنه أن أدخل يده في فمها، وأخذ بليحييها ﴿سَنُعِيدُهَا﴾؛ أي: سنعيد هذه الحية بعد أخذها ﴿سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾؛ أي: إلى هيئتها وحالها الأولى، التي هي الهيئة العصوية، فانتصابه بنزع الخافض، فوضع يده في فم الحية، فصارت عصاً كما كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها فيه إذا توكأ، وأراه هذه الآية كيلا يخاف عند فرعون إذا انقلبت حية
٢٢ - ﴿وَاضْمُمْ﴾؛
(٢) روح البيان.
٢٣ - وقوله: ﴿لِنُرِيَكَ﴾ متعلق بمحذوف تقديره؛ أي: فعلنا ما فعلنا من قلب العصا حيةً، وجعل اليد بيضاء، لنريك بهاتين الآيتين ﴿مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾؛ أي: بعض آياتنا العظمى، فكل من العصا واليد، من الآيات الكبرى، والدلائل العظام، وهي تسع كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ وقد سبق بيانها، ومن المعلوم: أن الكبرى اسم تفضيل؛ أي: التي هي أكبر من غيرها، حتى من العصا، وذلك لأن المراد الكبرى في الإعجاز، واليد كذلك فإنها أكبر آيات موسى، كما نقله الخازن عن ابن عباس؛ لأنها لم تعارض أصلًا، وأما العصا فقد عارضها السحرة كما سيأتي.
٢٤ - ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال: ﴿اذْهَبْ﴾ يا موسى ﴿إِلَى فِرْعَوْن﴾ بما رأيته من الآيتين العظيمتين، وادعه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي، وخصه بالذكر؛ لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ أي: عصى، وتكبر، وكفر، وتجبر، وجاوز الحد، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.
قال وهب بن منبه (١): قال الله لموسى: (اسمع كلامي، واحفظ وصيتي،
٢٥ - ﴿قَالَ﴾ موسى - عليه السلام - مستعينًا بالله: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾: جملة مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر: كأنه قيل: فماذا قال؟ قال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾؛ أي: رب وسع لى صدري وقلبي، لأعي عنك ما تودعه فيه من وحيك، وأجترىء به على خطاب فرعون، فإنك كلفتني أمرًا عظيمًا، لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض، وأجبرهم وأشدهم كفرًا، وأكثرهم جندًا، وأعمرهم ملكًا، وأطغاهم وأبلغهم تمردًا، وقد بلغ من تمرده: أنه لا يعلم إلهًا غيره، والمراد (١) بالصدر هنا: القلب، لا العضو، الذي فيه القلب؛ أي: وسع قلبي حتى لا يضيق بسفاهة المعاندين ولجاجهم، ولا يخاف من شوكتهم وكثرتهم.
وخلاصة ذلك: أنه خاف فرعون لشدة شوكته، وكثرة جنوده، فسأل الله تعالى: أن يوسع قلبه، ليكون حمولاً لما يستقبل من الشدائد والمكاره بجميل الصبر، وحسن الثبات، فقال: اجعلني رابط الجأش، حتى لا أخاف سواك، ولا أرهب غيرك، حين تبليغ رسالتك، وكن عوني ونصيري، وإلا فلا طاقة لي بذلك
٢٦ - ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)﴾؛ أي: سهل وهون علي تبليغ الرسالة إلى فرعون، بإحداث الأسباب، ورفع الموانع.
والمعنى: هوِّن (٢) وسهل علي القيام بما كلفتني به من تبليغ الرسالة،
(٢) المراغى.
٢٧ - ﴿وَاحْلُلْ﴾؛ أي: فك وافتح ﴿عُقْدَةً﴾؛ أي: ربطةً ورقةً؛ أي: حبسةً ﴿مِنْ لِسَانِي﴾: متعلق بـ ﴿أحلل﴾ وتنكير ﴿عُقْدَةً﴾: يدل على قلتها في نفسها، قالوا: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة، أو صورة ممثلة، والمرء بأصغريه: قلبه ولسانه؛ أي: أطلق عن لساني المعجمة، واللكنة، والحبسة، بالنطق التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، وذلك أن فرعون حمله يومًا، فأخذ لحيته ونتفها لما كانت مرصعةً بالجواهر، فغضب وقال: إن هذا عدوي المطلوب، وأمر بقلته، فقالت زوجته آسية: أيها الملك، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والتمر، فأحضرا بين يدي موسى، بأن جعل الجمر في طست والتمر في آخر، فقصد إلى أخذ التمر، فأمال جبريل يده إلى الجمر، فرفعه إلى فيه فاحترق لسانه، فكانت منه لكنة وعجمة، قيل (١): أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها، بدليل قوله: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ وقيل: لم تذهب كلها؛ لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام، بدليل قوله: ﴿مِنْ لِسَانِي﴾؛ أي: كائنةً من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله: ﴿هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ وقوله حكايةً عن فرعون ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾
٢٨ - وجواب الأمر قوله: ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)﴾ أي: إن حللت عقدتي.. يفهم فرعون وقومه قولي وكلامي عند تبليغ الرسالة، فإنما يحسن التبليغ من البليغ.
٢٩ - ولما كان التعاون على نشر الدين، مع خلوص الود قربةً عظيمةً لله.. طلب موسى المعاونة على ذلك فقال: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا﴾؛ أي: موازرًا يعاونني في تحمل أعباء ما كلفتني به، ﴿مِنْ أَهْلِي﴾؛ أي: من خواصي وأقربائي، فوزيرًا: مفعول ثان لـ ﴿اجعل﴾ لأنه نكرة
٣٠ - و ﴿هَارُونَ﴾ مفعول أول لأنه معرفة، وقدم (٢) الثاني عليه اعتناءً بشأن الوزارة؛ لأن مقصوده الأهم طلب الوزير، وكان أكبر من موسى بأربعة أعوام، كما مر ﴿أَخِي﴾ بدل من هارون، و (لي) متعلق بمحذوف، على أنه حال من ﴿وَزِيرًا﴾ و ﴿مِنْ أَهْلِي﴾: متعلق بـ ﴿اجعل﴾ والمعنى: واجعل من أهلي
(٢) المراح.
والخلاصة (١): أي واجعل لي عوناً من أهل بيتي، هارون أخي، ليحمل معي أعباء الرسالة، ويكون ظهيرًا لى عند الشدائد، وحلول المكاره، ولمثل هذا قال عيسى - عليه السلام -: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ قال النبي - ﷺ -: "إن لي في السماء وزيرين، وفي الأرض وزيرين، فاللذان في السماء: جبريل وميكائيل، واللذان في الأرض: أبو بكر وعمر" وروي أن النبي - ﷺ - قال: "إذا أراد الله بملك خيرًا.. قيَّض له وزيرًا صالحًا، إن نسي.. ذكره، وان نوى خيرًا.. أعانه، وإن أراد شرًا.. كفه"
٣١ - ثم طلب موسى من ربه أن يشد به أزره فقال: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)﴾؛ أي: قوِّ يا رب بهارون ظهري، وأعني به
٣٢ - ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)﴾؛ أي: اجعله يا رب شريكي في أمر الرسالة، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي، فإن قيل: كيف (٢) سأل لأخيه النبوة؟ فإنما هي باختيار الله تعالى كما قال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
قلت: إن في إجابة الله دليلًا على أن سؤاله كان بإذن الله، دليلًا وإلهامًا منه، ولما كان التعاون في الدين درجةً عظيمة، طلب أن لا يحصل إلا لأخيه.
وفيه إشارة (٣) إلى أن صحبة الأخيار وموازرتهم مرغوب للأنبياء، فضلًا عن غيرهم، ولا ينبغي أن يكون المرء مستبدًا برأيه، مغرورًا بقوته وشوكته، وينبغي أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. ولا تقدح وزارة هارون في نبوته، وقد كان أكثر أنبياء بني إسرائيل كذلك؛ أي: كان أحدهم موازرًا ومعينًا للآخر في تبليغ الرسالة، وكان هارون بمصر، حين بعث موسى نبيًا بالشام، وقرأ الجمهور (٤): ﴿اشْدُدْ﴾ ﴿وَأَشْرِكْهُ﴾ على معنى الدعاء في شد الأزر، وتشريك هارون في النبوة، بهمزة وصل في: ﴿أشدد﴾ وهمزة قطع في ﴿أشركه﴾ وقرأ الحسن، وزيد بن علي
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
٣٣ - ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ﴾ تسبيحاً ﴿كَثِيرًا﴾؛ أي: ننزهك عما لا يليق بك من الأفعال والصفات، التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية، ويقبله منه جماعته الباغية، من ادعاء الشركة في الألوهية
٣٤ - ﴿و﴾ كي ﴿نذكرك﴾ ذكراً ﴿كَثِيرًا﴾؛ أي: على كل حال، ونفسك بما يليق بك من صفات الكمال، ونعوت الجمال، والجلال، زمانًا كثيرًا، ومن جملته زمانُ دعوة فرعون، وأوان المحاجة معه، فإن التعاون يهيج الرعيات، ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده، وانتصاب ﴿كَثِيرًا﴾ في الموضعين: على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف، وفيه (٢) إشارة إلى أن للجليس الصالح، والصديق الصدّيق أثرًا عظيمًا في المعاونة على كثرة الطاعات، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك، وقطع مفاوزه.
٣٥ - ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥)﴾ الباء: متعلقة بـ ﴿بَصِيرًا﴾ قدمت عليه لرعاية الفواصل؛ أي: إنك كنت عليمًا بأحوالنا، وأن ما طلبناه مما يفيدنا في تحقيق ما كلفتنا به، من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكملها، فإن هارون نعم العون على أداء ما أمرت به، من نشر معالم الدين، وكبح جماح المضلين، وإرشادهم إلى حق اليقين، فإنه أكبر منى سنًا، وأفصح لسانًا، وكان أكبر من موسى بأربع سنين، أو بسنةٍ، على اختلاف الروايات.
ولما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره، وييسر له أمره، ويحلل عقدةً من لسانه، ويجعل له وزيرًا من أهله.. أخبره الله سبحانه، بأنه قد أجاب ذلك
(٢) المراح.
٣٦ - فـ ﴿قَالَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أُوتِيتَ﴾ وأعطيت ﴿سُؤْلَكَ﴾؛ أي: مسؤولك ومطلوبك ﴿يَا مُوسَى﴾ فهو فعل بمعنى مفعول، كالخبز بمعنى المخبوز، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب، وحصولها له؛ أي: قال الله سبحانه لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتني، من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرًا لك، وشد أزرك به، وإشراكه في الرسالة معك
٣٧ - ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد أنعمنا عليك يا موسى، وأكرمناك بكرامات ﴿مَرَّةً أُخْرَى﴾؛ أي: في وقتٍ غير هذا الوقت، من غير أن تسألنا، فلأن ننعم عليك بمثل تلك النعم التامة، وأنت طالب له، أولى، أي (١): ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجوه، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك، ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك في أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة، ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تُؤَمِّل، مما أنت في شدة الحاجة إليه لتبليغ رسالته، وفي التعبير عن تلك النعم بالمنن، إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه لمحض التفضل والإحسان.
وقد عد سبحانه من تلك النعم ثماني، فقال:
١ - ٣٨ ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ﴾: ظرف لـ ﴿مَنَنَّا﴾ والمراد (٢): من هذا الوحي: وحي إلهام، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ بأن أوقع في قلبها عزيمةً جازمةً على ما فعلته من اتخاذ التابوت، والقذف، وليس المراد هنا: الوحي الواصل إلى الأنبياء؛ لأن أم موسى ما كانت من الأنبياء، فإن المرأة لا تصلح للإمارة والقضاء، فكيف تصلح للنبوة، ﴿مَا يُوحَى﴾ المراد به: ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت والبحر، أبهم أولًا تهويلًا له، وتفخيمًا لشأنه عليه السلام؛ أي: ولقد مننا عليك مرة أخرى، حين (٣) ألهمنا أمك الذي يلهَم، أو أريناها في
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
٣٩ - ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ﴾ ﴿أَنِ﴾ مفسرةً بمعنى: أي؛ لأن الوحي من باب القول، ومعنى القذف هنا: الوضع، وفي قوله: ﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ بمعنى الإلقاء، وليس المراد: القذف بلا تابوتٍ، واليم نيل مصر في قول جميع المفسرين؛ أي: ولقد مننا عليك حين قلنا لها ضعي الصبي المولود في الصندوق، فألقى الصندوق في بحر النيل ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ﴾؛ أي: فليطرح البحر الصندوق ﴿بِالسَّاحِلِ﴾؛ أي: بطرقه، ولما (١) كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرًا واجب الوقوع، لتعلق الإرادة الربانية به.. جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع، أمر بذلك، والساحل (٢): هو شط البحر، سمي ساحلًا لأن الماء سحله، قاله ابن دريد، والمراد هنا: ما يلي الساحل من البحر، لا نفس الساحل، قيل: والأولى في هذه الضمائر كلها عودها لموسى، لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه، لكن المقصود هو موسى، مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له.
والمعنى (٣): ولقد مننا عليك يا موسى مرة أخرى قبل هذا، حين ألهمنا أمك، وأوقعنا في قلبها عزيمةً صادقةً، أن أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك في تابوت "صندوقٍ"، ثم تطرح هذا التابوت في نهر النيل، ففعلت، فألقاك النهر في الساحل، فأخذك فرعون - عدو الله - ورباك في بيته، وسيصير عدوًا لك بعد ذلك، كما هو عدو لى، روي: أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوبًا، ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار، ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه - يتفرع - نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركةٍ مع زوجته آسية، إذ بتابوت يجري به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه، ففعلوا وفتحوا رأسه، فإذا صبي من أصبح الناس وجهًا، فأحبه فرعون حبًا شديدًا، لم يتمالك أن يصبر عنه، وجملة قوله: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾: جواب الأمر بالإلقاء، وتكرير (٤) ﴿عَدُوٌّ﴾ للمبالغة وهو فرعون، فالأول: باعتبار الواقع لكفره وعتوه، والثاني: باعتبار ما يؤول إليه، وما لو ظهر لفرعون حال
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
٢ - ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً﴾ عظيمةً كائنةً ﴿مِنِّي﴾ قد ركزتها في القلوب، وزرعتها فيها، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك، ولذا أحبك عدو الله فرعون وزوجته، حتى قالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ روي أنه كان على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه.
٣ - ﴿وَلِتُصْنَعَ﴾؛ أي: ولتربَّى حالة كونك ﴿عَلَى عَيْنِي﴾؛ أي: متلبسًا بحفظي ورعايتي، معطوف على علة مقدرة، متعلقة بـ ﴿ألقيت﴾ والتقدير: وألقيت عليك المحبة، ليعطف عليك، ولتربى بالشفقة والحنو، حالة كونك متلبسًا بحفظي ورعايتي، وأنا مراقبك ومراعيك وحافظك، كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به، من قولهم صنع إليه معروفًا، إذا أحسن إليه، و ﴿عَلَى عَيْنِي﴾ حال من الضمير المستتر في ﴿لتصنع﴾ لا صلة له، جعل العين مجازًا مرسلًا عن الرعاية والحراسة، بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلِتُصْنَعَ﴾ بكسر لام كي وضم التاء، ونصب الفعل؛ في: ولتربى ويحسن إليك، وأنا مراعيك وراقبك، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وقرأ الحسن، وأبو نهيك: بفتح التاء، قال ثعلب معناه:
لتكون حركتك وتصرفك على عين منى. وقرأ شيبة، وأبو جعفر في روايةٍ: بإسكان اللام والعين وضم التاء، فعل أمر، وعن أبي جعفر: كذلك إلا أنه كسر اللام.
٤ - ٤٠ ﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ﴾ مريم وهي شقيقة له، وهي غير أم عيسى، ظرف
وحاصل قصة رضاعه (٢): أن آسية عرضته للرضاع، فلم يقبل امرأةً، فجعلت تنادي عليه في المدينة، ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومةً، فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة، لعلها تقع على خبره، فبصرت به في طوافها، فقالت: أنا أدلكم على من يكفله لكم، وهم له ناصحون، فتعلقوا بها وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبي؟ فقالت: لا، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة، والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بأم موسى، فلما قربته.. شرب ثديها، فسرت آسية وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت: ما كنت لأدع بيتي وولدي، ولكنه يكون عندي، قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية "الإحسان" واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة، ولما كمل رضاعه.. أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كَيْ تَقَرّ﴾ بفتح التاء والقاف، وقرأت فرقة: بكسر القاف، وتقدم أنهما لغتان في قوله: ﴿وَقَرِّي عَيْنًا﴾ وقرأ جناح بن حبيش: بضم التاء وفتح القات، مبنيًا للمفعول.
٥ - ﴿وَقَتَلْتَ﴾ بعد كبرك ﴿نَفْسًا﴾؛ أي: قبطيًا وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي، كما يأتي في سورة القصص، وكان طباخًا لفرعون اسمه قاب قان، وكان عمر موسى إذ ذاك ثلاثين سنةً ﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ﴾ الذي نزل بك بسبب قتل القبطي من وجهين:
أولًا - عقاب الدنيا باقتصاص فرعون، كما جاء في الآية ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾.
ثانيًا - عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ وكان قتله للكافر خطأ، ووفقناك للهجرة إلى مدين.
والغم (٢): ما يغم على القلب، بسبب خوف أو فوات مقصود، والغم بلغة قريش: القتل، وقيل: من غم التابوت، وقيل: من غم البحر، والظاهر: أنه من غم القتل، حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين.
٦ - ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ والفتنة (٣): تكون بمعنى المحنة، وبمعنى: الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون: يجوز أن يكون مصدرًا كالثبور، والشكور، والكفور؛ أي: ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختبارًا، وامتحناك امتحانًا، ويجوز أن يكون جمع فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجورٍ في حجرة، ويدور في
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(أ): أن أمك حملت بك في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح.
(ب): أن أمك ألقتك في البحر بعد وضعك في التابوت، فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك.
(ج): أنك امتنعتَ عن الرضاع إلا من ثدي أمك، وكان ذلك وسيلةً إلى إرجاعك إليها.
(د): أنك أخذت لحية فرعون فغضب من ذلك، وأراد قتلك، لولا أن قالت له زوجته إنه صغير، لا يفرق بين الجمرة والتمرة، وأُتي لك بهما فأخذت الجمرة.
(هـ): قتلك القبطي، وخروجك إلى مدين هارباً، ومهاجرتك من الوطن، ومفارقتك الأحباب، والمشي راجلًا، وفقد الزاد، ونحو ذلك مما وقع قبل وصوله إلى مدين.
٧ - ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ﴾؛ أي: مكثت عشر سنين ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ عند شعيب لرعي الأغنام؛ لأن شعيبًا أنكحه بنته صفوراء، على أن يخدمه ثماني سنين، فخدمه عشرًا قضاءً لأكثر الأجلين، كما يأتي في سورة القصص، فقاسمت أثناءها من المحن ما قاسيت، فتحملت بسبب الفقر والغربة آلامًا كثيرة، حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب، وترعى غنمه.
وذكر الليث دون الوصول إليهم (١): إشارة إلى مقاساة شدائد أخرى في تلك السنين، كإيجار نفسه ونحوه مما كان من قبيل الفتون، قال الفراء: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ﴾: معطوف على محذوف تقديره: وفتناك فتونًا، فخرجت إلى أهل مدين،
نال الخلافة إذ جاءت على قدرٍ | كما أتى ربَّه موسى على قدرِ |
والمعنى: أي جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك، وكان على رأس أريعين سنة، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء، هذا قول الأكثرين، وقال الفراء؛ أي: على ما أراد الله به من تكليمه.
٨ - ٤١ ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ﴾؛ أي: اخترتك من بين الناس ﴿لِنَفْسِي﴾؛ أي: لأداء أوامري، وإقامة حججي، وتبليغ رسالتي، فحركاتك وسكناتك لي، لا لنفسك، ولا لأحد غيرك، والاصطناع: افتعال من الصنع بالضم، وهو مصدر قولك: صنع إليه معروفًا، واصطناع فلان: اتخاذه صنيعًا محسنًا إليه، بتقريبه وتخصيصه بالتكريم والإجلال؛ أي: اصطفيتك واختصصتك باصطناعى وإحساني إليك بالمعروف.
وخلاصة ذلك (٢): أني جعلتك من خواصي، واصطفيتك برسالاتي وبكلامي، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة، وجليل النعمة بالمكالمة أشبه بمن يراه الملك أهلًا لكرامته، فيقربه إليه، ويجعله من خواصه وندمائه، ويصطنعه بالإحسان إليه في الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة.
(٢) المراغي.
﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣)﴾.
﴿طه (١)﴾: إن قلنا إن الحروف المقطعة مما استأثر الله بعلمها، فلا محل لها من الإعراب، أي: لا توصف بإعرابٍ ولا بناءٍ؛ لأن الحكم بالإعراب والبناء، على الكلمة، فرع عن إدراك معناها، وإن قلنا إنها اسم للسورة، فهو إما: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي هذه سورة طه، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره: سورة طه هذا محله، والجملة الاسمية: مستأنفة استئنافًا نحويًا، وقيل: إن ﴿طه (١)﴾ اسم محمد، حذف منه حرف النداء. ﴿مَا﴾: نافية ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾ ﴿الْقُرْآنَ﴾: مفعول به ﴿لِتَشْقَى﴾ (اللام): حرف جر وتعليل ﴿تشقى﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لشقائك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء منقطع ﴿تَذْكِرَةً﴾: مفعول لأجله لفعل محذوف، دل عليه المذكور تقديره: ما أنزلناه ﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٣)﴾ قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون مفعولًا لأجله ﴿لأنزلنا﴾ المذكور؛ لأنها قد تعدت إلى مفعول له، وهو ﴿لِتَشْقَى﴾ فلا تتعدى لآخر من جنسه، ولا يصح أن يعمل فيها ﴿لِتَشْقَى﴾ لفساد المعنى، وقيل: ﴿تَذْكِرَةً﴾: مصدر في موضع الحال، واختار الزمخشري أن تكون تذكرةً: مفعولًا لأجله، قال: وكل واحد من ﴿لِتَشْقَى﴾ و ﴿تَذْكِرَةً﴾: علة للفعل، إلا أن الأول: وجب مجيئه مع اللام؛ لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل، ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني: جاز قطع اللام عنه، ونصبه لاستجماع الشرائط، وعلى هذا جرى معظم المعربين والمفسرين، وقال الكرخي: إن الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا تَذْكِرَةً﴾: منقطع وإن ﴿تَذْكِرَةً﴾: مفعول من أجله، والعامل أنزلناه المقدر لا المذكور، وكل واحد من ﴿لِتَشْقَى﴾ و ﴿تَذْكِرَةً﴾: علة لقوله: ﴿مَا أَنْزَلْنَا﴾ وتعدى في ﴿لِتَشْقَى﴾ بـ (اللام) لاختلاف العامل؛ لأن ضمير ﴿أَنْزَلْنَا﴾ لله وضمير ﴿لِتَشْقَى﴾ للنبي، فلم يتحد الفاعل، واتحد في ﴿تَذْكِرَةً﴾ لأن المذكر هو الله تعالى، وهو المنزل فنصب بغير لام. ﴿لِمَنْ يَخْشَى﴾ ﴿لِمَنْ﴾: جار
﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)﴾.
﴿تَنْزِيلًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: نزلناه ﴿تَنْزِيلًا﴾ فحذف وجوبًا على حد قول ابن مالك.
والحذف حتم مع آيات بدلًا | من فعله كندلاً اللذ كأندلا |
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦)﴾.
﴿لَهُ﴾: خبر مقدم ﴿مَا﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أيضًا ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿تَحْتَ الثَّرَى﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾.
﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿تَجْهَرْ﴾: فعل مضارع مجزوم، وفاعله: ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب ﴿بِالْقَوْلِ﴾: متعلق به ﴿فَإِنَّهُ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا ﴿إنه﴾: ناصب واسمه ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ﴾: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة: ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿لَا﴾: نافية ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، مبني على الفتح، وخبر ﴿لَا﴾: محذوف جوازًا، تقديره: موجود ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزّه عن المذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستتر فيخبر ﴿لَا﴾ وجملة ﴿لَا﴾: في محل الرفع خبر أول للمبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور، خبر مقدم ﴿الْأَسْمَاءُ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿الْحُسْنَى﴾: صفة لـ ﴿الْأَسْمَاءُ﴾ ومعلوم أن جمع التكسير في غير العقلاء، يعامل معاملة المفردة المؤنثة، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ.
﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠)﴾.
﴿وَهَلْ﴾ الواو: استئنافية ﴿وَهَلْ﴾: حرف للاستفهام التقريري، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى، وقيل: معناه: قد أتاك ﴿أَتَاكَ﴾: فعل ومفعول به ﴿حَدِيثُ مُوسَى﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير أمر التوحيد، الذي انتهى إليه مساق الحديث، وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء، كابرًا عن
﴿رَأَى﴾: فعل ماض وهي بصرية، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿نَارًا﴾: مفعول به ﴿فَقَالَ﴾ الفاء: حرف عطف وتعقيب، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿رَأَى﴾. ﴿لِأَهْلِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿امْكُثُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿آنَسْتُ نَارًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾: مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿لَعَلِّي﴾: ناصب واسمه ﴿آتِيكُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿مِنْهَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿قبس﴾ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها ﴿بِقَبَسٍ﴾: متعلق بـ ﴿أتيكم﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر لـ ﴿لعل﴾ وجملة ﴿لعل﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطفٍ وتنويعٍ ﴿أَجِدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿عَلَى النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿أَجِدُ﴾. ﴿هُدًى﴾: مفعول به ﴿لأجد﴾ فهو يتعدى لمفعولٍ واحدٍ؛ لأنه من وجد الضالة، وجملة: ﴿أَجِدُ﴾: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿آتِيكُمْ﴾: على كونها خبر ﴿لعل﴾.
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١)﴾.
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فيمم شطر النار، فلما أتاها ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بجوابه ﴿أَتَاهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: فعل شرط لـ ﴿لما﴾ في محل الجر بإضافة ﴿لما﴾ إليها ﴿نُودِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿موسى﴾ والجملة: جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾: معطوفة على الجملة المحذوفة المذكورة آنفًا ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل الرفع نائب فاعل لقول محذوف، تقديره: ﴿نُودِيَ﴾ وقيل له ﴿يَا مُوسَى﴾.
﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿أَنَا﴾: تأكيد للضمير، أو مبتدأ ﴿رَبُّكَ﴾: خبر ﴿إن﴾ أو خبر ﴿أَنَا﴾ والجملة: خبر ﴿إن﴾ والأول أولى، وجملة ﴿إن﴾: في محل الرفع نائب فاعل للقول المحذوف، على كونها جواب النداء ﴿فَاخْلَعْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أني أنا ربك، وأردت بيان الأدب لك.. فأقول لك: ﴿اخلع﴾. ﴿اخلع﴾: فعل أمر وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿نَعْلَيْكَ﴾: مفعول به منصوب بالياء، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل الرفع نائب فاعل للقول المحذوف، ويصح كون الفاء: تفريعية ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿بِالْوَادِ﴾ الباء: حرف جر ﴿الواد﴾: مجرور بالباء، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء المحذوفة، للتخلص من التقاء الساكنين لفظًا، المحذوفة خطاً أيضًا، تبعًا للفظ، على قاعدة رسم المصحف العثماني، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿إن﴾ أي: إنك كائن ﴿بِالْوَادِ﴾. ﴿الْمُقَدَّسِ﴾: صفة للوادي ﴿طُوًى﴾: بدل من الوادي، أو عطف بيان عنه، ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، على إرادة البقعة، أو مصروف على إرادة معنى الموضع، وجملة ﴿إن﴾ في محل الرفع نائب فاعل للقول المحذوف على أنها معللة لما قبلها، ﴿وَأَنَا﴾ الواو: عاطفة ﴿أَنَا﴾: مبتدأ ﴿اخْتَرْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية، في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾. ﴿فَاسْتَمِعْ﴾ الفاء: عاطفة تفريعية ﴿استمع﴾ فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿اخْتَرْتُكَ﴾ ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿استمع﴾ ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها.
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤)﴾.
﴿إِنَّنِي﴾: ناصب واسمه ونون وقاية ﴿أَنَا﴾: تأكيد للضمير المنصوب، أو
﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦)﴾.
﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة: مستأنفة ﴿أَكَادُ﴾: فعل مضارع ناقص، من أفعال المقاربة، واسمها: ضمير مستتر فيها يعود على الله ﴿أُخْفِيهَا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب خبر ﴿أَكَادُ﴾ وجملة: ﴿أَكَادُ﴾: في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿إن﴾. ﴿لِتُجْزَى﴾ (اللام) حرف جر وتعليل ﴿تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لجزاء كل نفس ﴿بِمَا تَسْعَى﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أُخْفِيهَا﴾ أو بـ ﴿أتية﴾ و ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾: جملة اعتراض بينهما، لا نعت لـ ﴿أتية﴾ حتى يلزم إعمال اسم الفاعل الموصوف، فإن عمل ثم وصف جاز. اهـ "كرخي" ﴿بِمَا تَسْعَى﴾ (الباء) حرف جر ﴿ما﴾ مصدرية أو موصولة اسمية ﴿تَسْعَى﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على النفس،
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨)﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية ﴿مَا﴾ استفهامية للاستفهام التقريري، في محل الرفع مبتدأ ﴿تِلْكَ﴾: اسم إشارة في محل الرفع خبر، والجملة: مستأنفة ﴿بِيَمِينِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من اسم الإشارة، والعامل في الحال المقدرة: ما في الإشارة من معنى الفعل ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿هِيَ عَصَايَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَتَوَكَّأُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَتَوَكَّأُ﴾ والجملة: في محل النصب حال من ﴿عَصَايَ﴾ أو من ياء المتكلم. ﴿وَأَهُشُّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ﴿بِهَا﴾:
﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة ﴿أَلْقِهَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَلْقَاهَا﴾ (الفاء): حرف عطف وتفريع ﴿ألقاها﴾ فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: معطوفة مفرعة على جملة ﴿قَالَ﴾ ﴿فَإِذَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿إذا﴾: فجائية ﴿هِيَ حَيَّةٌ﴾: مبتدأ وخبر، وجملة ﴿تَسْعَى﴾: يجوز أن تكون خبرًا ثانيًا، وأن تكون حالًا كما ذكره أبو البقاء، والجملة الاسمية: معطوفة على جملة ﴿فَأَلْقَاهَا﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة ﴿خُذْهَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا﴾ (الواو): عاطفة ﴿لَا﴾: ناهية جازمة ﴿تَخَفْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿خُذْهَا﴾. ﴿سَنُعِيدُهَا﴾: فعل ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الله ﴿سِيرَتَهَا﴾ منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى ﴿سِيرَتَهَا﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿الْأُولَى﴾: صفة للسيرة.
﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤)﴾.
﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: في محل النصب معطوفة على ﴿أَلْقَاهَا﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَى﴾
﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿اشْرَحْ﴾ فعل دعاء، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء ﴿لِي﴾ متعلق بـ ﴿اشْرَحْ﴾ ﴿صَدْرِي﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿وَيَسِّرْ﴾: فعل دعاء معطوف على ﴿اشْرَحْ﴾ وفاعله: ضمير يعود على الله ﴿لِي﴾ متعلق به ﴿أَمْرِي﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿وَاحْلُلْ﴾: فعل دعاء معطوف على ﴿اشْرَحْ﴾. ﴿عُقْدَةً﴾: مفعول به ﴿مِنْ لِسَانِي﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿عُقْدَةً﴾. ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون ﴿وَاجْعَلْ﴾ فعل دعاء، وفاعل مستتر معطوف على ﴿اشْرَحْ﴾ ﴿لِي﴾: متعلق به على كونه مفعولًا ثانيًا له ﴿وَزِيرًا﴾: مفعول
﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥)﴾.
﴿اشْدُدْ﴾: فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر يعود على الله تقديره: أنت ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿أَزْرِي﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على ﴿اشْرَحْ﴾ بعاطف مقدر ﴿وَأَشْرِكْهُ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿اشْرَحْ﴾. ﴿فِي أَمْرِي﴾: متعلق بـ ﴿أشركه﴾ وقرىء ﴿اشْدُدْ﴾ ﴿وَأَشْرِكْهُ﴾: مضارعين مجزومين بالطلب السابق، ﴿كَيْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿نُسَبِّحَكَ﴾: فعل ومفعول منصوب بـ ﴿كَيْ﴾: وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿مُوسَى﴾ و ﴿هَارُونَ﴾ تقديره: نحن ﴿كَثِيرًا﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: تسبيحًا كثيرًا. أو صفة لزمان محذوف تقديره: زمانا كثيرا فهو مفعول مطلق، أو مفعول فيه، والجملة الفعلية: صلة ﴿كَيْ﴾ المصدرية ﴿كَيْ﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، علل بها لكل من الأفعال الثلاثة الأخيرة ﴿وَاجْعَلْ﴾ و ﴿اشْدُدْ﴾ و ﴿أشرك﴾ تقديره: اجعله وزيرًا لي ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)﴾ لتسبيحنا إياك تسبيحاً كثيرًا أو زمانًا كثيرًا ﴿وَنَذْكُرَكَ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر معطوف على ﴿نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾: صفة مصدر محذوف؛ أي: ذكراً كثيرًا أو زمانًا كثيرا ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿بِنَا﴾: متعلق بـ ﴿بَصِيرًا﴾ ﴿بَصِيرًا﴾ خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾.
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾.
﴿وَأَلْقَيْتُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مَنَنَّا﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به
﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)﴾.
﴿فَرَجَعْنَاكَ﴾ الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فقالوا دلينا عليه فجاءت بأمِّكَ، فَقَبلْتَ ثديها ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ﴾. ﴿رجعناك﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿إِلَى أُمِّكَ﴾: متعلق به والجملة: معطوفة، على تلك المحذوفة ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ ناصب وفعل وفاعل، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة، تقديره: لقرة عينها ﴿وَلَا تَحْزَنَ﴾ معطوف على ﴿كَيْ تَقَرَّ﴾. ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَوْحَيْنَا﴾ ﴿فَنَجَّيْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿قَتَلْتَ﴾ ﴿مِنَ الْغَمِّ﴾ متعلق بـ ﴿نجيناك﴾. ﴿وَفَتَنَّاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَوْحَيْنَا﴾. ﴿فُتُونًا﴾: مفعول مطلق إذا كان مصدرًا، وهو الأرجح، كالقعود والجلوس، أو منصوب بنزع الخافض، إذا كان جمع فتنة، أي: بضروب من الفتن والمعنى: ابتليناك وامتحناك بأنواع من الشدائد ﴿فَلَبِثْتَ﴾:
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِتَشْقَى﴾؛ أي: لتتعب نفسك، من شقي يشقى من باب رضي ﴿إِلَّا تَذْكِرَةً﴾؛ أي: تذكيرًا وعظةً، مصدر: ذكر يذكر، من باب فعل المضعف تذكيرًا وتذكرة، ولكن الأول قياسي، والثاني سماعي، إلا في المعتل، كزكى تزكيةً ﴿يَخْشَى﴾؛ أي: يخاف الله؛ أي: لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف منه ﴿الْعُلَى﴾: جمع العليا، مؤنث الأعلى، كالكبرى مؤنث الأكبر، يجمع على كبر، ويجوز كتابتها بالياء والألف؛ لأن الفعل علا يعلو، وعلى يعلى، وهي المرتبة والرفعة، وقال السيوطي، وأبو البقاء: هي جمع عليا ككبرى وكبر، فكتبت بالياء ﴿الثَّرَى﴾ في "المصباح" الثرى وزان الحصى، ندى الأرض وأثرت الأرض بالألف كثر ثراها، والثرى: أيضًا التراب الندي، فإن لم يكن نديًا فهو تراب، ولا يقال له حينئذٍ: ثرى. اهـ.
وفي "اللسان": وثرى المطر التراب يثريه، وهو مثوى، وثري التراب: فهو ثر، وثريت التراب: نديته، وثريت السويق: كذلك ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ قال ابن عباس: السر: ما حدث به الإنسان غيره في خفاء، وأخفى منه ما أضمره في نفسه، مما لم يحدث به غيره ﴿الْحُسْنَى﴾ مؤنث الأحسن، فهي اسم تفضيل يوصف به الواحد من المؤنث، والجمع من المذكر. اهـ "أبو السعود" وفي "السمين": والحسنى تأنيث الأحسن، وقد تقدم غير مرة أن جمع التكسير في غير العقلاء، يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.
﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾ قال في "القاموس": الوادي: مفرج بين جبال أو تلال أو آكام ﴿طُوًى﴾: اسم علم للوادي، ويقرأ بغير تنوين، على أنه معرفة: علم مؤنث للبقعة، وقيل: هو معدول، وإن لم يعرف لفظ المعدول عنه، فكأنه أصله: طاوي، فهو في ذلك كجمع وكتع، وقال في "القاموس"، وطوى: بالضم والكسر وينون: واد بالشام، وقال علماء النحو: وأما طوى فمن منع صرفه، فالمعتبر فيه التأنيث، باعتبار البقعة لا العدل عن طاو؛ لأنه؛ أي: العدل قد أمكن غيره، وهو: التأنيث فلا وجه لتكلف العدل ﴿فَتَرْدَى﴾ وفي "المختار": ردى من باب صدي؛ أي: هلك وأرداه غيره، وردي في البئر. يردي بالكسر: من باب رمى، وتردى: إذا سقط فيها، أو تهور من جبل. اهـ.
﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾؛ أي: أعتمد عليها في المشي، وحين الوقوف على رأس القطيع في المرعى، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ يقال: هش الورق يهشه ويهشه: خبطه بعصا ليتحات؛ أي: ضربه ضربًا شديدًا ليسقط، والمعنى: أخبط بها الورق على رأس غنمي لتأكله، وفي "المصباح": هش الرجل هشًا: من باب رد صال
﴿مَآرِبُ﴾: جمع مأربةٍ، مثلثة الراء، وهي الحاجة ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾: الحية تطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى من هذا النوع، والثعبان: العظيم من الحياة، والجان: الصغير منها ﴿سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾؛ أي: حالتها الأولى، وهي كونها عصا، يقال لكل من كان على أمر فتركه، وتحول عنه ثم راجعه، عاد فلان سيرته الأولى ﴿مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾: اسم تفضيل مؤنث الأكبر؛ أي: التي هي أكبر من غيرها، حتى من العصا، وذلك لأن المراد الكبرى في الإعجاز، واليد كذلك، فإنها أكبر آيات موسى، كما نقله الخازن عن ابن عباس.
﴿وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ والوزير: قيل: مشتق من الوزر وهو: الثقل، وسمي بذلك لأنه يتحمل أعباء الملك ومؤنه، فهو معين على أمو الملك، وقائم بأموه، وقيل: بل هو من الوزر، وهو: الملجأ، ومنه قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ (١١)﴾ وقيل: من الموازرة وهي: المعاونة، نقله الزمخشري عن الأصمعي، قال: وكان القياس أزيراً يعني: بالهمزة؛ لأن المادة كذلك اهـ "سمين" وفي "القاموس": الأزر: الإحاطة والقوة، والضعف: ضد التقوية والظهر. اهـ يقال: آزره إذا قواه وأعانه. ﴿سُؤْلَكَ﴾؛ أي: مسؤولك، ففُعل بمعنى المفعول، كالخبز والأكل، بمعنى المخبوز والمأكول. ﴿مَرَّةً أُخْرَى﴾؛ أي: في وقت ذي مر وذهاب؛ أي: وقتًا غير هذا الوقت، فإن أخرى: تأنيث آخر، بمعنى غير، والمرة في الأصل: اسم للمر الواحد، الذي هو مصدر. مر يمر مرًا ومرورًا؛ أي: ذهب، ثم أطلق على فعلة واحدة من الفعلات، متعديةً كانت أو لازمة، ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متحدة، فصار علمًا في ذلك، حتى جُعِل معيارًا لما في معناه من سائر الأشياء، فقيل: هذا بناء المرة، ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة، والمراد به هاهنا: الوقت الممتد، الذي وقع فيه ما سيأتي ذكره، من المنن العظيمة الكثيرة. اهـ "روح البيان" ﴿بِالسَّاحِلِ﴾ والساحل: فاعل بمعنى مفعول، من
﴿فُتُونًا﴾، فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على فعول كالقعود والجلوس، إلا أن فعولًا قليل في المتعدي، ومنه الشكور والكفور والثبور واللزوم، قال تعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.
والثاني: أنه جمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز وبدور، في حجزة وبدرة؛ أي: فتناك ضروبًا من الفتن. اهـ "سمين".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشويق والحث على الإصغاء في قوله: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩)﴾.
ومنها: فن الإبهام في قوله: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ وهو فن رفيع ينطوي على الكثير من جلائل المعاني ودقائقها، وهو ضد الإيجاز، وضد الإطناب، وحدُّه، أن يأتي المتكلم إلى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل، فيدل عليه باللفظ الكثير، لا لقصد إفهام البليد، وسماع البعيد، ولا للتقرير والتوكيد، بل للإتيان بمعنى يتشعب إلى عدة أمور، كل واحد منها مستقل المفهومية، فقد قال: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ ولم يبت في الأمر،
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿هُدًى﴾ حيث أطلق المصدر، وأراد اسم الفاعل؛ أي: هاديًا.
ومنها: التهويل والتعظيم في قوله: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾.
ومنها: التأكيد بدلالة إنّ، واسمية الجملة فقط في قوله: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾ هنا وفي سورة الحج بحذف لام التأكيد، وأثبتها في سورة غافر حيث قال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾ لأنها إنما تزاد لتأكيد الخبر، وتأكيده: إنما يحتاج إليه إذا كان المخبر به شاكًا في الخبر، والمخاطبون في غافرهم: الكفار، فأكدها باللام بخلاف تينك.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي، ولكنه توسع في الجواب تلذذاً بالخطاب.
ومنها: الإجمال في قوله: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ بعد التفصيل.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ أصل الجناح: للطائر، ثم استُعير لجنب الإنسان؛ لأن كل جنب للإنسان في موضع الجناح للطائر، فسميت الجهتان جناحين بطريق الاستعارة.
ومنها: الاحتراس في قوله: ﴿بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ وهو عند علماء البيان: أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البرص والبهق، فلو اقتصر على قوله: ﴿بَيْضَاءَ﴾ لأوهم أن ذلك من برص أو بهق، ولذلك احترس بقوله: ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ فالعين هنا: بمعنى الرعاية، مجازًا مرسلًا، من إطلاق السبب وهو العين؛ أي: نظرها على المسبب، وهو الحفظ والرعاية، وفيه أيضًا الاستعارة التمثيلية: شبه شدة الرعاية
ومنها: زيادة ﴿لِي﴾ في قوله: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)﴾ لإفادة أن منفعة شرح الصدر، وتيسير الأمر، راجعة إليه، وعائدة عليه، فإن الله عز وجل لا ينتفع بإرساله، ولا يستعين بشرح صدره - تعالى وتقدس -.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧)﴾ دلالةً على أنه لم يسأله حل جميع عقد لسانه، بل حل بعضها الذي يمنع الإفهام، بدليل قوله: ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)﴾.
ومنها: التفسير بعد الإبهام في قوله: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ﴾ فأبهم الكلام وأتى به مجملًا، ليتعلق الذهن، ويتطلع ما عسى أن يكون السؤل، وما هي المنة الأخرى.
ومنها: الإبهام المجرد في قوله: ﴿مَا يُوحَى﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ حيث أسند الإلقاء إلى اليم، وهو لا يعقل، من إسناد الشيء إلى السبب.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿مَحَبَّةً مِنِّي﴾ للتفخيم والتعظيم.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ حيث عبر في الفعلين بالمضارع، والأصل: إذ مشت أختك فقالت.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، حيث استعير القر بمعنى البرد، للسرور.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما عدد (١) المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر سؤال فرعون عن رب موسى.. قفى على ذلك ببيان أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله، كقوله: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ وقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ والدالة على نبوته، كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانًا، ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء، فعلم كل هذا، وكذب به كفرًا وعنادًا، كما قال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه لما ذكر أن موسى وفرعون، اتفقا على موعد يجتمعان فيه، وهو يوم عيد لهم.. أردف ذلك بذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس، من أمر السحرة، وآلات السحر، وأتى بجميع ذلك، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدموا على ما هم عازمون عليه، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى، تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون، بالغوا في إخفاء ما يريدون، وقالوا: ما موسى وهارون إلا ساحران، يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم، ويرجوان أن تتركوا دينكم، وهو أمثل الأديان وأفضلها، لتعتنقوا دينهما، فحذار أن تفعلوا ذلك، ولا يتخلفن أحد منكم، وائتوا صفًا واحدًا، وقد فاز بالمطلوب من غلب.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥)...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الموعد، وهو يوم الزينة، وذكر أنهم قالوا: ائتوا صفًا.. ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه، وأن يبدؤوا هم، فاختار الثانية، وحين بدؤوا فألقوا حبالهم
التفسير وأوجه القراءة
٤٢ - ﴿اذْهَبْ أَنْتَ﴾ يا موسى، وهذا كلام (١) مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الإصطناع ﴿و﴾ ليذهب ﴿أَخُوكَ﴾ هارون حسبما (٢) استدعيت، عطف عليه لأنه كان غائبًا عن موسى وقتئذٍ، والذهاب: المضي، يقال: ذهب بالشيء وأذهبه، ويستعمل ذلك في الأعيان والمعاني، قال تعالى: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ وقال: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾.
والأخوة: المشاركة في الولادة من الطرفين أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويُستعار الأخ لكل مشارك لغيره في القبلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة، أو في غير ذلك من المناسبات؛ أي: اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل، حالة كونكما متلبسين ﴿بِآيَاتِي﴾؛ أي: بمعجزاتي (٣)، متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة، وإكمال أمر الدعوة، لا مجرد إذهابهما وإيصالهما إليه، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يريد الآيات التسع التي أنزلت إليه، وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقبًا بعده، ويحتمل أن يكون الجمع للتعظيم، والمراد: العصا واليد، ففي كل منهما آيات شتى، فانقلاب العصا حيوانًا آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا آية أخرى، وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى، ثم أخرى، ثم إنه - عليه السلام - يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى، ثم انقلابه عصا آية أخرى، وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشعاعها آية أخرى، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى، أو لأن أقل الجمع عند الخليل إثنان، يعني: أن إطلاق الآيات على الآيتين وارد على الأدنى
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
قال بعضهم: الحكمة في هذا التكليف: أن من ذكر جلال الله تعالى وعظمته.. استخف غيره، فلا يخاف أحدًا غيره، فتقوى روحه بذلك الذكر، فلا يضعف في مقصوده. أو المعنى: فلا تنيا ولا تضعفا عن تبليغ رسالتي، فإن الذكر يطلق على كل عبادة، والتبليغ من أعظم العبادات.
والمعنى: أي (١) اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل، وإني ممدكما بحججي وبرهاناتي الدالة على صدق نبوتكما، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح العلل والمعاذير به، ولا تفترا في دعوتهم، وتبليغ الرسالة إليهم، فبينا لهم أن الله أرسلكما إليهم، مبشرين بثوابه، ومنذربن بعقابه.
وقرأ ابن وثاب (٢): ﴿ولا تنيا﴾: بكسر التاء اتباعًا لحركة النون، وفي مصحف عبد الله ﴿ولا تهنا﴾؛ أي: ولا تلنا، في قولهم: هين لين
٤٣ - ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ هذا أمر وخطاب لهما جميعًا بالذهاب، موسى حاضر وهارون غائب، إما بطريق التغليب لموسى لأنه الأصل في أداء الرسالة، أو بعد ملاقاة أحدهما الآخر، وتكرير الأمر بالذهاب (٣): لترتيب ما بعده عليه، وفرعون: اسم أعجمي، لقب الوليد بن مصعب صاحب موسى، وقد اعتبر غوايته، فقيل: تفرعن فلان، إذا تعاطى فعل فرعون، وتخلق بخلقه، كما يقال: أبلس وتَبَلَّس، ومنه قيل للطغاة الفراعنة والأبالسة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن فرعون ﴿طَغَى﴾؛ أي: تجاوز حد العبودية بدعوى الربوبية؛ أي: جاوز الحد في الكفر والتمرد.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والمعنى (٢): أي اذهبا معًا إلى فرعون، وناضلاه الحجة بالحجة، وقارعاه البرهان بالبرهان؛ لأنه طغى وتجبر وتمرد، حتى ادعى الربوبية فقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ وتخصيص فرعون بالدعوة آخرًا، بعد أن كانت الدعوة عامة أولًا، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنًا صاغيةً، واستجاب لدعوتهما، وآمن بهما.. تبعه المصريون قاطبةً، كما قيل: الناس على دين ملوكهم.
قال في "العرائس": أمر الله موسى وهارون - عليهما السلام - بالذهاب إلى فرعون، لقطع حجته، وإظهار كذبه في دعواه، وهذا تهديد لكل مدع لا يكون معه بينة من الله في دعواه، والحكمة في إرسال الأنبياء إلى الأعداء: ليعرفوا عجزهم عن هداية الخلق إلى الله، ومن يعجز عن هداية غيره.. فأيضًا يعجز عن هداية نفسه، كالطبيب العاجز عن معالجة الغير، فإنه عاجز عن معالجة نفسه أيضًا، وليعلموا أن الاختصاص لا يكون بالأسباب، ويشكروا بما أنعم الله عليهم بلطفه، وربما يصطادون من بين الكفرة من يكون له استعداد بنظر الغيب، مثل: حبيب النجار، والرجل من آل فرعون، وامرأة فرعون، والسحرة. انتهى.
٤٤ - ثم أمرهما سبحانه بإلانة القول له، لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادىء بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر فقال: ﴿فَقُولَا﴾ أنتما، يا موسى وهارون ﴿لَهُ﴾؛ أي: لفرعون ﴿قَوْلًا لَيِّنًا﴾ أي: سهلًا، أي (٣): كلماه باللين والرفق، من غير خشونة ولا تعنيف، ويسرا، ولا تعسرا، فإنه ما دخل الرفق في شيء إلا وقد زانه، وما دخل الخرق في شيء إلا وقد
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقيل (١): أمر الله موسى باللين مع الكافر، مراعاةً لحق التربية؛ لأنه كان رباه، فنبه به على نهاية تعظيم حق الوالدين، وقيل: أمر موسى باللين ليكون حجة على فرعون، لئلا يقول: أغلظ علي القول في دعوته، وفي "الإحياء": سئل الحسن عن الولد، كيف يحتسب على والده؟ فقال: يعظه ما لم يغضب، فإذا غضب سكت. فعلم منه أنه ليس للولد الحسبة على الوالد بالتعنيف والضرب، وليس كذلك التلميذ مع الأستاذ، إذ لا حرمة لعالم غير عامل، وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ - رحمه الله - هذه الآية، فبكى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله، فكيف بمن يقول أنت الإله.
والمعنى: أي فكلماه بكلام رقيق لين، ليكون أوقع في نفسه، وأنجع في استجابته للدعوة، فبرقيق القول تلين قلوب العصاة، وتنكسر سورة الطغاة، ومن ثم جاء الأمر به لنبيه محمد - ﷺ - في قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ومن هذا ما حكى عن موسى في قوله لفرعون: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩)﴾ وقوله تعالى: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾.
ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾؛ أي: لعل فرعون يتذكر بما بلَّغُتماه من ذكري، ويرغب فيما رغَّبتُماه فيه ﴿أَوْ يَخْشَى﴾ عقابي، وكلمة ﴿أَوْ﴾ لمنع الخلو دون الجمع. انتهى من "الإرشاد"؛ أي: باشرا (٢) مباشرة من يرجو ويطمع تذكره أو خشيته، فالرجاء والطمع راجع إليهما؛ أي: قولا له ذلك راجين
(٢) روح البيان.
وقيل (١): ﴿لعل﴾ هاهنا بمعنى الاستفهام، والمعنى: فانظرا هل يتذكر أو يخشى، وقيل: بمعنى كي، والتذكر: النظر فيما بلَّغاه من الذكر، وهو إمعان الفكر فيه، حتى يكون ذلك سببًا في الإجابة، والخشية: هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما.
والظاهر: أن ﴿لعل﴾ في مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها؛ أي: أديا (٢) الرسالة، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه، واسعيا إلى إنجازه، سعي من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد قدر استطاعته، ويحتشد بأقصى وسعه، آملًا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح.
وقصارى ذلك: اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل، وقد جرت العادة أن من رجا شيئًا.. طلبه، ومن يئس.. انقطع عمل، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة، وقطع المعذرة، وإن لم يفد هدايته.
٤٥ - ﴿قَالَا﴾؛ أي: قال موسى وهارون ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ﴾ فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه ﴿أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾؛ أي: أن يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى تمام الدعوة، وإظهار المعجزة، فيتعطل المطلوب من الإرسال إليه ﴿أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾؛ أي: أن يزداد طغيانًا، فيقول في شأنك ما لا ينبغي، لعظيم جرأته، وقساوة قلبه، وفجوره، وشديد عصيانه، ولما كان طغيانه في حق الله أعظم من
(٢) المراغي.
فالخوف (١): توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع: توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة، ويضاد الخوف الأمن ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية، قال تعالى: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ والخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب، كاستشعار الخوف من الأسد، بل إنما يراد به الكف من المعاصي واختيار الطاعات، فإن قلت: كيف هذا الخوف وقد علما أنهما رسولا رب العزة إليه؟
قلت: جريا على الخوف الذي هو مركوز في جبلة الإنسان، حتى أنه لو بلغ مرتبة النبوة والرسالة، فإنه لا يخرج الخوف من جبلته، كما قال: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾ يعني نخاف أن يقتلنا، ولكن الخوف ليس بجهة القتل، وإنما نخاف فوات عبوديتك بالقيام لأداء الرسالة والتبليغ كما أمرتنا، أو يتمرد بجهله ولا ينقاد لأوامرك، ويسبك.
وقرأ يحيى، وأبو نوفل، وابن محيصن في روايته (٢): ﴿أن يفرط﴾ مبنيًا للمفعول؛ أي: يسبق في العقوبة، ويسرع بها، من فرط إذا تقدم بالقصد، ومنه الفارط إلى الماء؛ أي: المتقدم لإصلاح الدلو، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة، خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب، من شيطان، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية، أو من حبه الرياسة، أو من قومه القبط المتمردين. وقرأت فرقة، والزعفراني عن ابن محيصن: ﴿يفرط﴾ بضم الياء وكسر الراء، من الإفراط في الأذية.
٤٦ - ﴿قَالَ﴾: استئناف (٣) بياني، كأنه قيل: فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل: قال الله سبحانه لهما ﴿لَا تَخَافَا﴾ مما عرض في قلبكما من إذاية فرعون لكما، ومن ازدياد كفره، قال بعضهم: ليس المراد منه النهي عن الخوف،
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والخلاصة: لست بغافل عنكما، واني سأفعل ما يؤدي إلى حفظكما، ونصركما عليه، فلا تهتما بأمره،
٤٧ - ﴿فَأْتِيَاهُ﴾؛ أي: فقابلا فرعون ﴿فَقُولَا﴾ له ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ قد أرسلنا إليك، فالإتيان هنا: عبارة عن الوصول إليه، بعد أمرهما بالذهاب إليه، فلا تكرار، وفي التعبير بقولهما: ﴿رَبِّكَ﴾: إيماء (٢) إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك، مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا أن يُنظر إليه نظرة الاعتبار والصدق: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا﴾؛ أي: أطلق معنا ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: من الأسر، نذهب بهم إلى أرضهم؛ أي: فأطلقهم وخلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهم، وفلسطين بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة: هي البلاد التي بين الشام وأرض مصر، منها الرملة، وغزة، وعسقلان، وغيرها طهرها الله من دنس اليهود الغاصبين ورجسهم. اهـ "بحر العلوم".
وفي ذلك إدخال النقص على ملكه؛ لأنه كان محتاجًا إليهم فيما يريده من الأعمال، من بناء أو غيره ﴿وَلَا تُعَذِّبْهُمْ﴾ بتسخيرهم إياهم في شاق الأعمال، كالحفر والبناء، ونقل الأحجار، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساؤهم في تلك الأعمال، ويذبحون أبناءهم عامًا دون عام، ويستحيون نساءهم بأمر فرعون، وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان؛ لأنه
(٢) المراغي.
وتوسيط (١) حكم الإرسال بين بيان رسالتهما، وبين ذكر المجيء بآيةٍ دالة على صحتها، لإظهار الاعتناء به؛ لأن تخليص المؤمنين من أيدي الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان، كما قيل، ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما: ﴿قَدْ جِئْنَاكَ﴾ وأتيناك ﴿بِآيَةٍ﴾؛ أي: بمعجزةٍ باهرةٍ كائنةٍ ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وخالقك يا فرعون؛ أي: قد (٢) جئناك بالحجة البالغة، والبرهان الساطع، على أنه أرسلنا إليك، وإن لم تصدقنا فيما نقول.. أريناكها ﴿وَالسَّلَامُ﴾؛ أي: والسلامة والأمن من العذاب، في الدنيا والآخرة ﴿عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾؛ أي: على من اتبع رسل ربه، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق، وتنيل البغية وتبعد عن الغي والضلال، قال الزجاج؛ أي: من اتبع الهدى.. سلم من سخط الله وعذابه، وليس بتحية، والدليل على ذلك: أنه ليس بابتداء لقاءٍ ولا خطاب. اهـ.
وهذا (٣) من جملة قوله تعالى، الذي أمرهما أن يقولاه لفرعون؛ أي: وقولا له: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ وفي هذا ترغيب في التصديق على أتم وجوهه، وتنفير من مخالفته، وقد عنها على أقصى غاية، كما لا يخفى،
٤٨ - ثم ذكرا علة لما سبق لهما من النصح والإرشاد بقولهما ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا﴾؛ أي: إنا قد أخبرنا
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩)﴾ وقوله: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)﴾ وقوله: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢)﴾.
وأصل الوحي (١): الإشارة السريعة، وذلك قد يكون بالكلام الخفي على لسان جبريل، وقد يكون بالإلهام، والمنام، والوحي إلى موسى بوساطة جبريل، وإلى هارون بوساطته ووساطة موسى، والمراد (٢) بالعذاب: الهلاك والدمار في الدنيا، والخلود في النار، والمراد بالتكذيب: التكذيب بآيات الله وبرسله، والتولي: الإعراض عن قبولها والإيمان بها.
فإن قلت: إن قوله: ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ يقتضي قصر العذاب على المكذبين، مع أن غيرهم قد يعذبون على عصيانهم.
قلتُ: إن المراد بالعذاب هنا: العذاب الدائم، الذي لا ينقطع؛ لأن العذاب المتناهي كلا عذاب
٤٩ - ﴿قَالَ﴾ فرعون، بعدما أتياه وبلغا ما أمرا به: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾؛ أي: فمن إلهكما الذي أرسلكما، لم يقل فمن ربي مع قولهما: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ لغاية عتوه، ونهاية طغيانه، و (الفاء) في قوله: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كنتما رسولي ربكما.. فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما إليَّ، و ﴿من﴾: للاستفهام التعجبي.
قال الإِمام: أثبت نفسه ربًا في قوله: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ فذكر ذلك على سبيل التعجب، كأنه قال: أنا ربك، فلم تدعو ربا آخر يا موسى، وإنما خص موسى بالنداء، مع توجيه الخطاب إليهما، لما ظهر له أنه هو الأصل، وهارون وزيره، فأجاب موسى عن سؤاله.
(٢) الشوكانى.
وَلَهُ فِيْ كُلِّ شَيْءٍ خِلْقَةٌ | وَكَذَلِكَ اللهُ مَا شَاءَ فَعَلْ |
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وخلاصة هذا (١): ربنا الذى خلق كل شيء على الوجه الذي يليق بما قدر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلًا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله.
٥١ - ولما كان (٢) الخلق الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء، وتسوية الأجسام، متقدمًا على الهداية، التي هى عبارة عن إيداع القوى المحركة المدركة في تلك الأجسام، وسَّط بينهما كلمة التراخي، وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذى خلق ورزق وقدر، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى، الذين لم يعبدوا هذا الإله، وهذا ما أشعار إليه بقوله: ﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾؛ أي: فما حال القرون الماضية؟ وما خبر الأمم الخالية؟ مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ وما للاستفهام الاستخباري، والبال: الحال التي يُكترث بها، ولذا يقال: ما باليت بكذا؛ أي: ما اكترثت به، ويعبر به عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان، فيقال: ما خطر ببالي كذا، والقرون: القوم المقترنون في زمن واحد، والأولى: تأنيث الأول، وواحد الأول، كالكبرى والأكبر، والكبر؛ أي: فما حال الأمم الماضية، الذين لم يعبدوا الله، بل عبدوا غيره، فإنها كانت تعبد الأصنام، وتنكر البعث، إنما قال (٣) فرعون ذلك لموسى حين خوَّفهم مصارع الأمم الخالية، فحينئذ قال فرعون: ﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ أو ما حالهم عندك، كيف هلكوا، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصله؟ أي: فلما ذكر (٤) موسى - عليه السلام - برهانًا نيرًا على هذا المطلوب.. خاف فرعون أن يزيد موسى في تصوير تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه - عليه السلام - وحقيقة مقالاته، ويتبين عندهم بطلان خرافات
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
(٤) المراح.
٥٢ - ﴿قَالَ﴾ موسى مجيبًا له، ﴿عِلْمُهَا﴾؛ أي: علم أحوال تلك القرون كائن ﴿عِنْدَ رَبِّي﴾؛ أي: من (١) الغيوب التي لا يعلمها إلا الله، ولا ملابسة للعلم بأحوالهم بمنصب الرسالة، فلا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بما أرسلت ﴿فِي كِتَابٍ﴾؛ أي: مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي﴾؛ أي: لا يخطىء ابتداءً، بل يعلم كل المعلومات، ولا يخفى عليه شيء منها ﴿وَلَا يَنْسَى﴾؛ أي: ولا يسهو عن شيء منها بقاءً ودوامًا، بل هو ثابت عنده أبدًا، وهو لبيان أن إثباته في اللوح المحفوظ، ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً وبقاءً، وإنما كتب أحكام الكائنات في كتاب ليظهرها للملائكة، فيزيد استدلالهم بها على تنزه علمه تعالى عن السهو والغفلة.
والضلال: أن تخطىء الشيء في مكانه، فلم تهتد إليه، والنسيان: أن تغفل عنه بحيث لا يخطر ببالك، وهما محالان على العالم بالذات، وقال (٢) مجاهد: معنى الجملتين واحد، وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره، وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير، فيعتقد في غير الصواب صوابًا، وإذا عرفه لا ينساه.
ومعنى الآية: أي إن (٣) ذلك من علوم الغيب، التي لا يعلمها إلا الله، فهو الذي ضبط أعمالهم، وأحصاها في كتاب لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته شيء، لا كبير ولا صغير، ولا ينسى شيئًا، وسيجزيهم بما عملوا جزاءً وفاقًا.
وقصارى ذلك: أن علمه تعالى محيط بكل شيء، وأنه لا ينسى شيئًا - تبارك
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وقرأ الحسن (١)، وقتادة، والجحدري، وحماد بن سلمة، وابن محيصن، وعيسى الثقفي: ﴿لا يضل﴾ بضم الياء؛ أي: لا يضل الله ذلك الكتاب، فيضيع، ولا ينسى ما أثبته فيه، وقرأ السلمي: ﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾ مبنيتين للمفعول، والظاهر: أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى، بانتفاء هاتين الصفتين عنه، وإجمال سؤاله، أنه إذا كان الأمر كما ذكرت.. ففصل لنا حال الماضين من سعادةٍ وشقاءٍ، فرد - عليه السلام - عليه: بأن علم ذلك إلى الله تعالى،
٥٣ - ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول، بإبراز الدلائل على الوحدانية فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾؛ أي: ربي الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد والفراش، تتمهدونها وتستقرون عليها، فتقومون، وتنامون، وتسافرون على ظهرها، وقرأ (٢) الأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ﴿مَهْدًا﴾ بفتح الميم وإسكان الهاء، وباقي السبعة: ﴿مهادًا﴾ وكذا في الزخرف، وقال المفضل: هما مصدران، يقال: مهد مهدًا ومهادًا، وقال أبو عبيد: مهادًا: اسم، ومهدًا: مصدر، ومعنى ذلك: أنه تعالى جعلها لهم، يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم؛ أي: جعل كل موضع منها مهدًا وفراشًا لكل واحد منكم.
﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾؛ أي: وهو الذي جعل لأجلكم لا لغيركم في الأرض سبلًا وطرقًا كثيرةً، بين الجبال والأودية والبراري، تمشون في مناكبها، وتسلكونها من قطر إلى قطر، لتقضوا منها مآربكم، وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ يقال: سلكت الشيء في الشيء: أدخلته، والسبل (٣): جمع سبيل، وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وجملة قوله: ﴿كُلُوا﴾: حال من ضمير ﴿فأخرجنا﴾، على إرادة القول، أي: فأخرجنا به أصناف النباتات، قائلين لكم ﴿كُلُوا﴾ منها؛ أي: من الثمار والحبوب ونحوهما ﴿وَارْعَوْا﴾؛ أي: أسيموا واسرحوا فيها ﴿أَنْعَامَكُمْ﴾؛ أي: مواشيكم، الإبل، والبقر، والضأن، والمعز؛ أي (٢): اقصدوا الانتفاع بها بالذات وبالواسطة، آذنين في الانتفاع بها، مبيحين بأن تأكلوا بعضها، وتعلفوا بعضها.
قال في "التأويلات النجمية" يشير إلى أن السماء، والماء، والنبات،
(٢) روح البيان.
وحاصل معنى الآية: أي (١) وأنزل من السماء مطرًا، فأخرج به مختلف أنواع النبات، من زروع، وثمار حامضة وحلوة، وهي أيضًا مختلفة النفع، واللون، والرائحة، والشكلى، بعضها يصلح للإنسان، وبعضها يصلح للحيوان، وفي هذا بيان لنعمه على خلقه، بما يحدث لهم من الغيث، الذي يولد تلك المنافع
٥٤ - ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾؛ أي: فأخرجنا أصناف النبات، قائلين لكم: كلوا وارعوا أنعامكم.. الخ، فشيء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم قوتاً لها، أخضر ويابساً ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم، وعظيم سلطانه، لأدلة على وحدانيته، وأنه لا إله غيره، إذا كنتم من ذوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة.
٥٥ - ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء.. بيَّن أنها غير مقصودة لذاتها، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة، فقال: ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من الأرض ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ بوساطة خلق أبيكم آدم منها، وإلا فمَن عدا آدم وحواء مخلوق من النطفة، وأصل الخلق: التقدير المستقيم، ويُستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاءٍ، قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ويُستعمل في إيجاد الشيء من الشيء، كما في هذا المقام، وقيل في سبب خلقهم من الأرض: أنه إذا وقعت النطفة في الرحم.. انطلق الملك الموكل بالرحم، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق الله الولد من النطفة، ومن ذلك التراب، وأيضًا إن تولد الإنسان، إنما هو من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدان من
والمعنى: أي ومن الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية، التي تكونت منها بوسائط، إذ الغذاء إما حيواني، وإما نباتي، والحيواني: ينتهي إلى نباتي، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء التراب ﴿وَفِيهَا﴾؛ أي: وفي الأرض ﴿نُعِيدُكُمْ﴾ بعد مماتكم، فتصيرون ترابًا كما كنتم قبل نشأتكم، أو بالدفن (١) في الموضع الذي أُخذ ترابكم منه، وإيثار كلمة (في) دون (إلى): للدلالة على الاستقرار، والعود: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، إما انصراف بالذات، أو بالقول والعزيمة، وإعادة الشيء كالحديث وغيره تكريره.
﴿وَمِنْهَا﴾؛ أي: ومن الأرض ﴿نُخْرِجُكُمْ﴾ بعد مماتكم بالبعث والنشور، وتاليف أجزائكم المتفِّتة، المختلطة بالتراب، على الهيئة السابقة قبل الموت، ورد أرواحكم إليها ﴿تَارَةً أُخْرَى﴾؛ أي: مرةً أخرى، وكون (٢) هذا الإخراج ﴿تَارَةً أُخْرَى﴾ باعتبار أن خلقهم من الأرض: إخراج لهم منها، وإن لم يكن على نهج التارة الثانية، والتارة في الأصل: اسم للتور الواحد، وهو: الجريان، ثم أُطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة، كما مر في المَرَّة.
٥٦ - ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ﴾ أي: وعزتي وجلالي، لقد بصَّرنا فرعون وعرفناه ﴿آيَاتِنَا﴾ ودلائل قدرتنا، الدالة على وحدانيتنا، وعلى صدق موسى، على يدي موسى من العصا، واليد، وغيرهما، والمراد بالآيات: هي الآيات التسع المذكورة في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ﴾ على أن الإضافة فيه عهدية، وقيل (٣): المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وأن موسى قد كان عرَّفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأوَّل أولى ﴿كُلَّهَا﴾؛ أي: كل الآيات تأكيد لشمول الأنواع ﴿فَكَذَّبَ﴾ بالآيات كلها من فرط عناده، من غير تردد وتأخير، وزعم أنها سحر ﴿وَأَبَى﴾ عن قبولها لعتوه، والإباء: شدة الامتناع، فكل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد؛ لأنه رأى
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٥٧ - وجملة قوله: ﴿قَالَ﴾ فرعون لموسى خوفاً من أن يتبعه الناس: مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة في قوله: ﴿أَجِئْتَنَا﴾ للإنكار لما جاء به موسى من الآيات، والمجيء (١) إما على حقيقته، أو بمعنى الإقبال على الأمر، والتصدي له؛ أي: أجئتنا يا موسى من مكانك الذي كنت فيه بعدما غبت عنا، أو أقبلت علينا ﴿لِتُخْرِجَنَا﴾ معشر القبطيين ﴿مِنْ أَرْضِنَا﴾؛ أي: من أرض مصر بالغلبة والاستيلاء، ﴿بـ﴾ ما أظهرته من ﴿سِحْرِكَ يَامُوسَى﴾ من العصا واليد، فإن ذلك مما لا يصدر عن العاقل، لكونه من باب محاولة المحال، والسحر: خداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذون، من صرف الأبصار عما تفعله بخفة، وما يفعله النمام بقول حرف عائق للأسماع.
وإنما ذكر (٢) الملعونُ الإخراجَ من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في أذهانهم، وتقرر في أفهامهم، أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم.. كانوا غير قابلين لكلامه، ولا ناظرين في معجزاته، ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير
٥٨ - و (الفاء) في قوله: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ﴾ وفاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك.. فأقول لك، والله ﴿لنأتينك﴾ ﴿بِسِحْرٍ مِثْلِهِ﴾؛ أي: بسحر مثل سحرك، فلا تغلب علينا، أي: والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر ﴿فَاجْعَلْ﴾؛ أي: صيِّر ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ﴾ لإظهار السحر ﴿مَوْعِدًا﴾ هو مصدر؛ أي: وعدًا لقوله: ﴿لَا نُخْلِفُهُ﴾؛ أي: لا نخلف ذلك الوعد ﴿نَحْنُ وَلَا أَنْتَ﴾ يا موسى، وقيل: المراد بالموعد (٣): اسم زمان، وقيل: اسم مكان؛ أي: اجعل لنا يومًا معلومًا، أو مكانًا معلومًا، لا نخلفه، قال القشيري: والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال: ﴿لَا نُخْلِفُهُ﴾ والإخلاف: أن تعد شيئًا
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وانتصاب ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ بفعل مقدر، يدل عليه المصدر لا به، فإنه موصوف، أو على أنه بدل من ﴿مَوْعِدًا﴾ و ﴿سُوًى﴾ بضم السين وكسرها بمعنى: العدل والمساواة؛ أي: عدلنا مكانًا عدلًا بيننا وبينك، وسطًا يستوي طرفاه، من حيث المسافة علينا وعليكم، لا يكون فيه أحد الطرفين أرجح من الآخر، أو مكانًا مستويًا لا يحجب العين ارتفاعه ولا انخفاضه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة (١): ﴿لا تخلفه﴾ بجزم الفاء، على أنه جواب الأمر، وقرأ الجمهور: برفعها صفةً لـ ﴿مَوْعِدًا﴾ وقرأ ابن عامر، وحمزة، ويعقوب، والحسن، وقتادة، وطلحة، والأعمش، وابن أبي ليلى، وأبو حاتم، وابن جرير ﴿سُوًى﴾ بضم السين منونًا في الوصل، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي: بكسر السين منونًا في الوصل، وقرأ الحسن أيضًا ﴿سوى﴾ بضم السين من غير تنوين في الحالين، أجرى الوصل مجرى الوقف، لا أنه منعه الصرف؛ لأن: فُعَلًا من الصفات، منصرف كحطم ولبدٍ، وقرأ عيسى: ﴿سوى﴾ بكسر السين من غير تنوين في الحالين، أجرى الوصل أيضًا مجرى الوقف، وقرأ أبي (٢) بن كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة: ﴿مكانًا سواءً﴾ بالمد والهمزة والنصب والتنوين وفتح السين، وقرأ ابن مسعود: مثله إلا أنه كسر السين، قال أبو عبيدة: هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين، والمعنى: مكانًا تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر، قال (٣) أبو علي: كأنه قال: قربه منكم، قربه منا، وقال الأخفش (٤): ﴿سوى﴾ مقصورة إن كسرت سينها، أو ضممت، وممدودة إن فتحتها، ثلاث لغات، ويكون فيها جميعًا بمعنى غير، وبمعنى: عدل ووسط بين الفريقين، وقال الشاعر:
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِأَهْلِهِ سِوَىً | بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسٍ غَيْلاَنَ وَالْفَزَرْ |
٥٩ - ثم واعده موسى بوقت معلوم فـ ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ﴾؛ أي: زمان وعدكم للاجتماع ﴿يَوْمُ الزِّينَةِ﴾؛ أي: يوم يتزين فيه الناس، وهو يوم عيد النيروز، وكان (١) على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم، ويجتمعون لعيدهم، ليكون الحفل عامًا، ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب في القرى والأمصار، فتعلو كلمة الله، ويظهر دينه، ويزهق الباطل، وينتصر الحق على رؤوس الأشهاد، أما رفع اليوم: فقال البصريون: التقدير: وقت موعدكم ﴿يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ فناب الموعد عن الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إذا ظهر، وأما نصبه: فقال الزجاج: المعني: موعدكم يقع ﴿يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ اهـ "زاد المسير".
وفي "أبي المسعود" وكان يوم عاشوراء، وأتفق أنه في هذه الواقعة يوم سبت، وإنما خصه - عليه السلام - بالتعيين لإظهار كمال قوته، وكونه على ثقةٍ من أمره، وعدم مبالاته بهم، لما أن ذلك اليوم وقت ظهور شوكتهم، وليكون ظهور الحق وزهوق الباطل في يوم مشهور على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك فيما بين كل باد وحاضر. اهـ.
سألوا عن مكان الاجتماع (٢)، فأجابهم بالزمان، فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم.
واعلم: أن الأعياد خمسة:
أحدها: عيد قوم إبراهيم - عليه السلام - وفيه جعل إبراهيم الأصنام جذاذًا.
والثاني: عيد قوم فرعون، وهو يوم الزينة.
والثالث: عيد قوم عيسى، كما مر في أواخر المائدة.
(٢) روح البيان.
أحدهما: الجر عطفًا على ﴿الزِّينَةِ﴾؛ أي: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ ﴿و﴾ يوم ﴿أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ﴾؛ أي: ويوم حشر الناس واجتماعهم.
الثاني: الرفع عطفًا على ﴿يَوْمُ﴾ والتقدير: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ ﴿و﴾ موعدكم ﴿أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ﴾؛ أي: حشرهم. اهـ "سمين" والحشر: إخراج الجماعة عن مقارهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، ولا يقال إلا في الجماعة، وقوله: ﴿ضُحًى﴾؛ أي: ضُحى ذلك اليوم، فصب على الظرف؛ أي: وأن يُجمع الناس في وقت الضحى من ذلك اليوم، ليكون أبعد من الريبة، والضحى: عبارة عن ارتفاع الشمس، وفي "بحر العلوم": الضحى: صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها، وقال الإِمام الراغب: الضحى: انبساط النهار وامتداده، سمي الوقت به، وقال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى، وهو: حين تشرق الشمس. اهـ. وخص (٢) الضحى لأنه أول النهار، فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع.
والمراد بالناس: أهل مصر، والمعني: يحشرون إلى العيد وقت الضحى، وينظرون أمر موسى وفرعون، قال الفراء: المعنى: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى.. فذلك الموعد، قال: وجرى عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم.
قال في "هزام السقط" (٣): أول اليوم الفجر، ثم الصباح، ثم الغداة، ثم البكرة، ثم الضحى، ثم الضحوة، ثم الهجيرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم المساء، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم العشاء الأولى، ثم العشاء الأخيرة عن
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وقرأ ابن مسعود (١)، والجحدري، وأبو عمران الجوني، وأبو نهيك، وعمرو بن فايد ﴿وأن تحشر الناس﴾ بتاء الخطاب؛ أي: وأن تحشر أنت يا فرعون، وروي عنهم: ﴿وأن يحشر الناس﴾ بالبناء للفاعل، والناس نصب في كلتا القراءتين، قال صاحب "اللوامح" وأن يحشر الحاشر الناس ضحًى، فحذف الفاعل للعلم به. انتهى. وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين، وقال غيره: ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون، ذكره بلفظ الغيبة، وروي عن الجحدري أنه قرأ: ﴿وأن نحشر﴾ بالنون وقرأ الباقون بالتحتية، على البناء للمفعول.
٦٠ - ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ﴾؛ أي: انصرف عن المجلس، وفارق موسى، فرجع إلى أهله ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾؛ أي: مكره وسحره وحيله؛ أي: جمع ما يكاد به من السحرة وأدواتهم ﴿ثُمَّ أَتَى﴾ بهم الموعد، وأتى موسى أيضًا، والمراد (٢): أنه جمع السحرة، قيل: كانوا اثنين وسبعين، وقيل: أربع مئة، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وقيل: أربعة عشر ألفًا، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفًا، ثم أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه، وفي الإتيان بكلمة ﴿ثُمَّ﴾ المفيدة للتراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه، بل أتاه بعد تأخير،
٦١ - وجملة قوله: ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى﴾: مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صنع موسى عند إتيان فرعون مع السحرة؟ فقيل: قال لهم: بطريق النصيحة؛ أي: قال موسى للسحرة الذين جاؤوا مع فرعون، على طريق النصيحة لهم: ﴿وَيْلَكُمْ﴾ أصله (٣): الدعاء بالهلاك، بمعنى: ألزمكم الله ويلًا؛ أي: هلاكًا وعذابًا، والمراد هنا: الزجر، والردع، والحث، والتحريض على ترك الافتراء.
والمعنى: أي فانصرف (٤) فرعون عن مجلس اللجاج والمناظرة، وشرع
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
قال موسى للسحرة: ﴿لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾؛ أي (١): لا تختلقوا على الله الكذب، ولا تتقوَّلوه عليه، بأن تدَّعوا أن الآيات التى ستظهر على يدي سحر، كما فعل فرعون، أولا تشركوا مع الله أحدًا، والافتراء: التقول والكذب عن عمد.
وفي "التأويل": قال موسى للسحرة ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ بإتيان السحر في معرض المعجزة، ادعاءً بأن الله قد أعطانا مثل ما أعطى الأنبياء من المعجزة ﴿فَيُسْحِتَكُمْ﴾؛ أي: فيهلككم ويستأصلكم، يقال: أسحت الشيء، إذا أعدمه واستأصله ﴿بِعَذَابٍ﴾ هائل لا يقادر قدره؛ أي: بعذاب من عنده، لا يُبقي أحدًا منكم ولا يذر.
وقرأ حمزة (٢)، والكسائي، وحفص، والأعمش، وطلحة، وابن جرير: ﴿فَيُسْحِتَكُمْ﴾ بضم الياء وكسر الحاء، ومن أسحت رباعيًا، وهي لغة بني تميم، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم، ورويس، وابن عباعي: ﴿فيسحتكم﴾ بفتح الياء والحاء، من سحت ثلاثيًا، وهي لغة أهل الحجاز، يقال: سحت وأسحت، بمعنى، والسحت: الاستئصال.
﴿وَقَدْ خَابَ﴾؛ أي: خسر وهلك ﴿مَنِ افْتَرَى﴾ واختلق على الله الكذب، كائنًا من كان، بأي وجه كان، ولم يُفلح في سعيه، ولم يصل إلى غرضه، فابتعدوا من اختلاق الأكاذيب، ولا تضلوا سواء السبيل، حتى لا يصيبكم ما
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
٦٢ - ولما سمع السحرة كلام موسى.. هاجهم وغاظهم كلامه: ﴿فَتَنَازَعُوا﴾؛ أي: تناظروا وتشاوروا ﴿أَمْرَهُمْ﴾ وعملهم الذى أريد منهم، من مغالبة موسى - عليه السلام - وتجاذبوا أطراف الكلام في كيفية المعارضة ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وتفاوضوا ماذا يفعلون ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾؛ أي: أخفوا المحادثة والمشاورة في ذلك عن موسى وأخيه هارون - عليهما السلام - لئلا يقفا عليه فيدافعاه؛ أي: وبالغوا (١) في كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه، حتى لا يسمعا ما يدور بينهم من القول والمشاورة، فيعدا للأمر عدته، ويهيئا وسائل الدفاع، ومن الطبيعي في مثل هذه الأحوال أن يُخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر، والنجوى: المناجاة، يكون اسمًا ومصدرًا،
٦٣ - ثم بيَّن سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله: ﴿قَالُوا...﴾ إلخ وكانت (٢) نجواهم هي قولهم: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ وقيل: إنهم تناجوا فيما بينهم، فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحرًا.. فسنغلبه، وإن كان من عند الله.. فسيكون له أمر، وقيل: الذي أسروه أنه: إذا غلبهم.. اتبعوه، قاله الفراء والزجاج.
وقيل: الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾: قالوا ما هذا بقول ساحر، وإن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية، والمشار إليه موسى وهارون؛ أي: قالت السحرة بطريق التناجي والإسرار فيما بينهم: إن هذان لساحران؛ أي: إن هذا الرجل وأخاه ساحران خبيران بصناعة السحر، وهما ﴿يُرِيدَانِ أَنْ﴾ يغلباكم وقومكم و ﴿يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ ودياركم؛ أي: من أرض مصر بالغلبة والاستيلاء عليها ﴿بِسِحْرِهِمَا﴾ الذي أظهراه من قبل ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ (٣) المثلى: تأنيث الأمثل، وهو الأشرف، أي: ويذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأحسنها، بإظهار مذهبما، وإعلاء دينهما، يريدون مما كان عليه قوم فرعون، لقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ
(٢) الشوكانى.
(٣) روح البيان.
وقيل المعنى: ويذهبا بأشراف قومكم بميلهم إليهما لغلبتهما، وهم بنو إسرائيل، فإنهم ذوو مال وعلم، ذكره في "المراح".
وخلاصة ما قالوه (١): التنفير بهما لوجوه ثلاثة:
١ - الطعن في نبوتهما، ونسبتهما إلى السحر، وكل ذي طبع سليم ينفر من السحر، وليبغض السحرة، ويعلم أن السحر لا بقاء له، ولا ينبغى اتباع من جاء به، ولا اعتناق مذهبه وطريقته.
٢ - إن بغيتهما إخراجكم من أرضكم، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة علي النفوس، ومن ثم قال فرعون: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾.
٣ - إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات، ولا يبقيا شيئًا من شؤون الدولة، ويريدان التصرف في أمورها العامة.
وإجمال هذا: أنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم، وتمحضت لهما الرياسة دونكم.
وقرأ أبو جعفر (٢)، والحسن، وشيبة، والأعمش، وطلحة، وحميد، وأيوب، وخلف في اختياره، وأبو عبيد، وأبو حاتم، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، وابن جبير الأنطاكي، والأخوان: حمزة، والكسائي والصاحبان: نافع، وابن عامر من السبعة: ﴿إن﴾ بتشديد النون ﴿هَذَانِ﴾ بألف ونون خفيفةٍ ﴿لَسَاحِرَانِ﴾ واختُلف في تخريج هذه القراءة، فقال القدماء من النحاة: إنه على حذف ضمير الشأن، والتقدير: إنه هذان لساحران، وخبر ﴿إن﴾ الجملة من قوله:
(٢) البحر المحيط.
وقرأ أبو بحرية (١)، وأبو حيوة، والزهري، وابن محيصن، وحميد، وابن سعدان، وحفص، وابن كثير: ﴿إن﴾ بتخفيف النون ﴿هَذَانِ﴾ بالألف، وشدد ابن كثير نون ﴿هذان﴾ وتخريج هذه القراءة واضح، وهو: على أن ﴿إِنْ﴾ هي المخففة من الثقيلة، و ﴿هَذَانِ﴾: مبتدأ و ﴿لَسَاحِرَانِ﴾ الخبر و (اللام) للفرق بين إن النافية، وإن المخففة من الثقيلة، على رأي البصريين، والكوفيون يزعمون: أن إن نافية، واللام بمعنى إلا، وقرأت فرقة: ﴿إن ذان لساحران﴾ وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة، والحسن، والنخعي، والجحدري، والأعمش، وابن جبير، وابن عبيد، وأبو عمرو: ﴿إن هذين﴾ بتشديد نون ﴿إن﴾ وبالياء في ﴿هذين﴾ بدل الألف رفعًا، والياء نصبًا وجرا، وقال الزجاج: لا أجيز قراءة أبي عمرو؛ لأنها خلاف المصحف، وقرأ عبد الله ﴿إن ذان إلا ساحران﴾ قاله ابن خالويه، وعزاها الزمخشري لأبيّ، وقال ابن مسعود: ﴿أنَّ هذان ساحران﴾ بفتح أن وبغير لام بدل من النجوى. انتهى وقرأت فرقة ﴿ما هذان إلّا ساحران﴾.
٦٤ - ثم بيَّن السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم، والبلاء المقبل، فقالوا: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ﴾ و (الفاء) فيه فاء (٢) الفصيحة، وأجمعوا من الإجماع، يقال: أجمع الأمر إذا أحكمه وعزم عليه، وحقيقته: جمع رأيه عليه، وأجمع المسلمون كذا: اجتمعت آراؤهم عليه، وأكثر ما يقال فيما يكون جمعًا يتوصل إليه بالتدبير والفكرة.
والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذُكر من الإخراج والإذهاب، فأزمعوا مكركم وحيلكم في رفع هذا المزاحم، واجعلوه
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَأَجْمِعُوا﴾ بقطع الهمزة وكسر الميم، من أجمع رباعيًا، أي: اعزموا واجعلوه مجمعًا عليه، حتى لا تختلفوا، ولا يتخلف واحد منكم عن المسألة المجمع عليها، وقرأ الزهري، وابن محيصن، وأبو عمرو، ويعقوب في روايةٍ، وأبو حاتم: بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس، في قصة نوح - عليه السلام -.
وقرأ شبل بن عباد (٢)، وابن كثير في رواية شبل عنه: ﴿ثم ايتوا﴾ بكسر الميم وإبدال الهمزة ياءً تخفيفًا، قال أبو علي: وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ﴿ثُمَّ﴾ وقال صاحب "اللوامح" وذلك لالتقاء الساكنين، كما كانت الفتحة في العامة كذلك.
﴿وَقَدْ أَفْلَحَ﴾ وفاز وظفر ﴿الْيَوْمَ﴾ بالمطلوب ﴿مَنِ اسْتَعْلَى﴾؛ أي: من غلب منا ونال علو المرتبة بين الناس، أما نحن فقد وُعدنا بالعطاء الجزيل، والقرب من الملك ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)﴾ وأما هو فسينال الرياسة، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم، وحفز الهمم، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز، والفلج بالمطلوب.
والفلاح (٣): الظفر وإدراك البغية، والاستعلاء: قد يكون طلب العلو
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٦٥ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا﴾، أي: السحرة بعد إجماعهم وإتيانهم الموعد، واصطفافهم فيه: ﴿يَا مُوسَى﴾ اختر: ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ ما تلقيه من العصا أولًا، ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُون﴾ نحن ﴿أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ ما يلقيه من العصي والحبال، مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: قالوا: يا موسى ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ...﴾ إلخ وكانت السحرة معهم عصي، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته.. قالوا له هذا القول. و ﴿أَنْ﴾ مع ما في حيزها: في محل نصب بفعل مضمر، تقديره: اختر إلقاءك أولًا، أو إلقاءنا، أو في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدإٍ محذوف، تقديره: الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤُنا.
وهذا التخيير منهم حسن أدب معه (١)، وتواضع منهم، وتنبيه إلى إعطائه النصفة من أنفسهم، وكأن الله ألهمهم ذلك، وعلَّم موسى أن من الخير له اختيار إلقائهم أولًا؛ لأنهم إذا أبرزوا ما معهم من مكايد السحر، واستنفذوا أقصى مجهودهم.. أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلَّط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آيةً نيرةً للناظرين، وعبرةً بينةً للمعتبرين، ومن ثم حكى عنه ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا﴾ وفي هذا التخيير إشارة إلى أن السحرة لما أعزوا موسى - عليه السلام - بالتقديم والتخيير في الإلقاء.. أعزهم الله بالإيمان الحقيقي، حتى رأوا بنور الإيمان معجزة موسى، فآمنوا به تحقيقًا لا تقليدًا.
٦٦ - ثم إن موسى (٢) - عليه السلام - قابل أدبهم بأدبٍ أحسن من أدبهم، حيث بت القول بإلقائهم أولًا؛ لأنه فهم أنَّ مرادهم الابتداء فـ ﴿قَالَ﴾ لهم موسى لا ألقي أنا أولًا ﴿بَلْ أَلْقُوا﴾ أنتم أولًا إن كنتم محقيق، لنرى ما تصنعون من السحر، ويظهر للناس حقيقة أمركم، وحين ألقوا ﴿وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ وإنما أمرهم بالإلقاء أولًا لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم، ثم يلقي هو
(٢) المراح.
ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم، مخيلةً إليه السعي، كسعي ما يكون حيًا من الحيات من أجل سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس.. اضطربت واهتزت، فخيل إليه أنها تتحرك. وقرأ الحسن (١)، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو الجوزاء: ﴿وعصيهم﴾ بضم العين حيث كان، وهو الأصل؛ لأن الكسر إتباع لحركة الصاد، وحركة الصاد لأجل الياء، وفي كتاب "اللوامح": قرأ الحسن: ﴿وعصيهم﴾ بضم العين، وإسكان الصاد، وتخفيف الياء، مع الرفع، فهو أيضًا جمع كالعامة، لكنه على فعل، وقرأ الزهري، والحسن، وعيسى، وأبو حيوة، وقتادة، والجحدري، وأبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن أبي عبلة، وروح، والوليدان، وابن ذكران: ﴿تخيل﴾ بالتاء مبنيًا للمفعول، وفيه ضمير الحبال والعصي، و ﴿أَنَّهَا تَسْعَى﴾: بدل اشتمال من ذلك الضمير، وقرأ أبو السماك: ﴿تخيل﴾ بفتح التاء، أي: تتخيل، وفيها أيضًا ضمير ما ذكر، و ﴿أَنَّهَا تَسْعَى﴾ بدل اشتمال أيضًا من ذلك الضمير، لكنه فاعل من جهة المعنى، وقرىء (٢): ﴿نخيل﴾ بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرىء ﴿يخيل﴾ بالياء التحتية، مبنيًا لفاعل على أن المخيل هو الكيد.
٦٧ - ﴿فَأَوْجَسَ﴾؛ أي: أحس وأضمر ﴿فِي نَفْسِهِ﴾؛ أي: في قلبه ﴿خِيفَةً﴾؛ أي:
(٢) الشوكاني.
والمعنى (١): أضمر موسى في نفسه بعض خوف من مفاجأته، بمقتضى البشرية المجبولة على النفرة من الحيات، والاحتراز عن ضررها المعتاد من اللسع ونحوه، كما دل عليه قوله: ﴿فِي نَفْسِهِ﴾ لأنه من خطرات النفس، لا من القلب، وفي الحقيقة: أن الله تعالى ألبس السحر لباس القهر، فخاف موسى من قهر الله، لا من غيره؛ لأنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الفاسقون. وقيل (٢): خاف أن يُفتن الناس قبل أن يُلقي عصاه، وقيل: إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا،
٦٨ - فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله: ﴿قُلْنَا﴾ لموسى ﴿لَا تَخَفْ﴾ ما توهمت ﴿إِنَّكَ﴾؛ أي: لأنك ﴿أَنْتَ الْأَعْلَى﴾؛ أي (٣): الغالب القاهر لهم، ونحن معك في جميع أحوالك، فإنك القائم بالمسبب، وهم القائمون المعتمدون على الأسباب، وأيضًا معك آياتنا الكبرى وهو لباس حفظنا، وجملة ﴿إن﴾ تعليل للنهي عن الخوف، وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن خوف البشرية مركوز في جبلة الإنسان ولو كان نبيًا إلى أن ينزع الله الخوف منه انتزاعًا ربانيًا، بقولٍ صمداني كما قال تعالى: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨)﴾؛ أي: أعلى درجةً من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق.
٦٩ - ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾؛ أي: عصاك على الأرض، والإبهام، لتفخيم شأنها، والإيذان بأنها ليست من جنس العصي المعهودة؛ لأنها مستتبعة لآثار غريبةٍ.
والمعنى (٤): لا يخيفنك كثرة حبالهم وعصيهم، فإن في يمينك شيئًا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها، ولم يأت التركيب: وألق عصاك بما في لفظ اليمين من البركة ﴿تَلْقَفْ﴾؛ أي: تلتقم وتبتلع ﴿مَا صَنَعُوا﴾؛
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الخازن.
وخلاصة ذلك: أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويه وتلفيق، ظاهر عليه الزور والبهتان، فكيف يتعارضان ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾؛ أي: ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر، خيرًا كان أو شرًا، حيثما كان، وأين أقبل من الأرض وعمل السحر فيها، وهو من تمام التعليل، ومعناه: لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز، وليس معنى ﴿لَا يُفْلِحُ﴾ لا يستطيع السحر، بل إذا سحر فلا يفلح، ولا يأمن حيث وُجد، فذلك عدم فلاحه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تلقف﴾ بفتح اللام وتشديد القاف، مجزومًا على جواب الأمر، والأصل: تتلقف فحذف إحدى التائين، وقرأ ابن عامر كذلك، ويرفع الفاء على الاستئناف، أو على الحال من الملقى، كما مر، وقرأ أبو جعفر، وحفص، وعصمة عن عاصم ﴿تَلْقَفْ﴾ بإسكان اللام والفاء، وتخفيف القاف، وكان ابن كثير يشدد التاء، من ﴿تلقف﴾ يريد تتلقف، وقرأ ابن مسعود (٣)، وأبيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء: ﴿تلقم﴾ بالميم وقرأ الجمهور (٤): ﴿كَيْدُ﴾ بالرفع على أن ﴿مَا﴾ موصولة بمعنى الذي، والعائد: محذوف، وقرأ مجاهد، وحميد، وزيد بن علي: ﴿كيد سحر﴾ بالنصب مفعولًا لـ ﴿صنعوا﴾ و ﴿ما﴾ مهيئة، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بحرية،
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
(٤) البحر المحيط.
وقرأ الباقون: ﴿كيد ساحر﴾ بألف اسم فاعل من سحر، وأفرد ﴿ساحر﴾ من حيث إن فعل الجميع نوع واحد من السحر تلك الحبال والعصي، فكأنه صدر من ساحر واحد، لعدم اختلاف أنواعه، وقرأت فرقة: ﴿أين أتى﴾؛ أي: لا يظفر ببغيته حيث توجه وسلك.
٧٠ - قوله: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ معطوف على جمل محذوفة، والتقدير: فزال إيجاس الخليفة، وألقى ما في يمينه، وتلقفت حبالهم وعصيهم، ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي، وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾؛ أي (١): فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى، من اليد والعصا، السحرةَ على الأرض، حالة كونهم ﴿سُجَّدًا﴾؛ أي: ساجدين لله تعالى، وجاء التركيب ﴿فألقى السحرة﴾ ولم يأت فسجدوا، كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم، فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم، فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين لله. وقوله: ﴿قَالُوا﴾ مستأنف استئنافًا بيانيًا، كانه قيل: ماذا قالوا في سجودهم، فقيل: قالوا أي: قالت السحرة في سجودهم: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ هو وقال رئيسهم: كنا نغالب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا لو غُلبنا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقيناه!؟ وإنما (٢) قدم هارون على موسى هنا في حكاية كلامهم، رعاية لفواصل الآي وعنايةً بتوافق رؤوسها، أو لأن فرعون ربَّى موسى من صغره، فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره، فربما توهم أن المراد بالرب فرعون، وذكر هارون على الاستتباع، أو قدم هارون لأنه كان أكبر
(٢) الخازن.
ومعنى إضافة الرب إليهما، أنه هو الذي يدعوان إليه، وأجرى ما أجرى على يديهما، وقالوا (١) رب هارون وموسى، ولم يكتفوا بقولهم: رب العالمين، للنص على أنهم آمنوا برب هذين، وكان فيما قيل: يزعم أنه رب العالمين، كما قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقيناه من الآلات، فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر، وبظهور ذلك على يد موسى على صحة رسالته، فتابوا وأتوا بنهاية الخضوع، وهو السجود، قال (٢) جار الله: ما أعجب أمرهم: ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. اهـ روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا أول النهار سحرةً، وفي آخره شهداء بررةً، وروى عنه عكرمة: أنه قال: كان السحرة سبعين رجلًا، أصبحوا سحرةً، وأمسوا شهداء.
الإعراب
﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤)﴾.
﴿اذْهَبْ﴾: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿أَنْتَ﴾: ضمير منفصل مؤكد لضمير الفاعل المستتر ﴿وَأَخُوكَ﴾: معطوف على ضمير الفاعل المستتر في الفعل، وعلامة رفعه (الواو) والجملة: مستأنفة، مسوقة لتقرير المراد بالاصطناع ﴿بِآيَاتِي﴾: جار ومجرور، حال من ضمير الفاعل وما عطف عليه و (الباء): للمصاحبة؛ أي: حالة كونكما مصحوبين ﴿بِآيَاتِي﴾: ومعتصمين بها، وليست الباء للتعدية؛ لأن المراد إظهار الآيات للناس، لا مجرد الذهاب إلى
(٢) الكشاف.
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥)﴾.
﴿قَالَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿رَبَّنَا...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَا﴾. ﴿إِنَّنَا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿نَخَافُ﴾: خبره، وجملة ﴿أَنْ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يَفْرُطَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، وفاعله: ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به و ﴿أَن﴾ وما في حيّزها: مفعول ﴿نَخَافُ﴾ ﴿أَوْ﴾: حرف عطف ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يَطْغَى﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية و ﴿أَنْ﴾ وما في حيزها: معطوف على ﴿أَنْ يَفْرُطَ﴾ والتقدير: إننا نخاف فرطه علينا أو طغيانه.
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة ﴿لَا﴾: ناهية ﴿تَخَافَا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية والألف فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّنِي﴾: ناصب ونون وقاية، واسمه ﴿مَعَكُمَا﴾:
﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿أُوحِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿إِلَيْنَا﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿أَنَّ الْعَذَابَ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلَى مَن﴾: جار ومجرور خبره ﴿كَذَّبَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة: صلة
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿فرعون﴾ والجملة: مستأنفة. ﴿فَمَنْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتما إنا رسولاً ربكما.. ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل الرفع مبتدأ ﴿رَبُّكُمَا﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة: في محل النصب مقول، لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿يَا مُوسَى﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿رَبُّنَا الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول ﴿خَلْقَهُ﴾: مفعول ثان، وقيل: ﴿خَلْقَهُ﴾ أول مفعولي ﴿أَعْطَى﴾ و ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ ثانيهما وقدم للاهتمام؛ أي: أعطى خليقته وهو: جميع الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، وقرىء ﴿خلقه﴾: على أنه فعل ماض، والمفعول الثاني محذوف للعلم به ﴿ثُمَّ هَدَى﴾: معطوف على ﴿أَعْطَى﴾ وفاعله: ضمير يعود على الله، والمفعول: محذوف تقديره: ثم هدى كل شيء ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿قَالَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتما إنا رسولاً ربكما.. فأقول لكما: ﴿مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ ﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجيزي في محل الرفع مبتدأ ﴿بَالُ الْقُرُونِ﴾: خبر ومضاف إليه ﴿الْأُولَى﴾ صفة لـ ﴿الْقُرُونِ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة،
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿عِلْمُهَا﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿عِنْدَ رَبِّي﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فِي كِتَابٍ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير ﴿عِلْمُهَا﴾؛ أي: حالة كونها مكتوبةً ﴿فِي كِتَابٍ﴾ أو ﴿فِي كِتَابٍ﴾: هو الخبر و ﴿عِنْدَ رَبِّي﴾: حال أو هما خبر ﴿إن﴾ أو هما خبر واحد على حد قولك الرمان حلو حامض؛ أي: مز ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا يَنْسَى﴾ معطوف على ﴿يَضِلُّ﴾. ﴿الَّذِي﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو ﴿الَّذِي﴾ والجملة: مستأنفة ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: صلة الموصول ﴿لَكُمُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَهْدًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿مَهْدًا﴾ مفعول ثان له ﴿وَسَلَكَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة ﴿جَعَلَ﴾. ﴿لَكُمُ﴾ حال من ﴿سُبُلًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿سلك﴾. ﴿سُبُلًا﴾: مفعول به.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)﴾.
﴿وَأَنْزَلَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على ﴿جَعَلَ﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أنزل﴾. ﴿مَاءً﴾: مفعول به ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿أخرجنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَأَنْزَلَ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أخرجنا﴾. ﴿أَزْوَاجًا﴾: مفعول به ﴿مِنْ نَبَاتٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿أَزْوَاجًا﴾، ﴿شَتَّى﴾: صفة ثانية له، أو حال منه؛ لأنه وصف، وأجاز الزمخشري: أن يكون صفة للنبات ﴿كُلُوا﴾: فعل أمر وفاعل،
﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية (واللام): موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾: فعل وفاعل، ومفعولان من رأى البصرية، ولكنها تعدت إلى اثنين لدخول همزة النقل عليها ﴿كُلَّهَا﴾: تأكيد لـ ﴿آيَاتِنَا﴾ والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة ﴿فَكَذَّبَ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿كذب﴾: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَرَيْنَاهُ﴾. ﴿وَأَبَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿كذب﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: مستأنفة ﴿أَجِئْتَنَا﴾ (الهمزة): للاستفهام الإنكاري ﴿جئتنا﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لِتُخْرِجَنَا﴾ (اللام): حرف جر وتعليل ﴿تخرجنا﴾: فعل ومفعول وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿مِنْ أَرْضِنَا﴾: متعلق بـ ﴿تخرجنا﴾. ﴿بِسِحْرِكَ﴾: متعلق به أيضًا ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، والجملة الفعلية مع أن
﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿مَوْعِدُكُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿يَوْمُ الزِّينَةِ﴾: خبر له والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ﴾ (الواو): عاطفة ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يُحْشَرَ النَّاسُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية ﴿ضُحًى﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يُحْشَرَ﴾ والجملة الفعلية مع أن
﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣)﴾.
﴿فَتَنَازَعُوا﴾ الفاء: عاطفة ﴿تنازعوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى﴾. ﴿أَمْرَهُمْ﴾: مفعول به، أو منصوب ينزع الخافض ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف
﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤)﴾.
﴿فَأَجْمِعُوا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين... الخ وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿أجمعوا كيدكم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿ثُمَّ ائْتُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أجمعوا﴾. ﴿صَفًّا﴾: حال من فاعل ﴿ائْتُوا﴾؛ أي: حالة كونكم مصطفين. ﴿وَقَدْ﴾ (الواو): حالية ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿أَفْلَحَ﴾: فعل ماض ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق به ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿أَفْلَحَ﴾ والجملة: في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿ائْتُوا﴾ والرابط: محذوف تقديره: ﴿ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ والحال أنه ﴿قد أفلح اليوم من استعلى﴾ منكم وجملة ﴿اسْتَعْلَى﴾ صلة الموصول.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِمَّا﴾: حرف تفصيل وتخيير ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ﴿تُلْقِيَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة الفعلية، مع أن المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعل محذوف، تقديره: اختر إما إلقاءك أولًا، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَإِمَّا﴾ (الواو): عاطفة ﴿إِمَّا﴾ على ﴿إِمَّا﴾ الأولى. ﴿إِمَّا﴾ الثانية: عاطفة ما بعدها على قبلها ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿نَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿أن﴾ واسمها ضمير يعود على السحرة ﴿أَوَّلَ﴾: خبر ﴿نَكُونَ﴾ وهو مضاف ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿أَلْقَى﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وجملة ﴿نَكُونَ﴾ مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها، على كونه مفعولًا لفعل محذوف، والتقدير: يا موسى اختر إما إلقاءك أولًا، وإما كوننا أول من ألقى ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله: ضمير يعود على موسى، والجملة: مستأنفة ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب إضراباً إبطالياً وابتداء ﴿أَلْقُوا﴾: فعل وفاعل والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَإِذَا﴾ (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره فألقوا ﴿إذا﴾: فجائية في محل النصب على الظرفية الزمانية، أو حرف لا محل لها من الإعراب ﴿حِبَالُهُمْ﴾: مبتدأ ﴿وَعِصِيُّهُمْ﴾: معطوف عليه ﴿يُخَيَّلُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿مِنْ سِحْرِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُخَيَّلُ﴾ أيضًا ﴿أَنَّهَا﴾: ناصب واسمه وجملة ﴿تَسْعَى﴾: خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها، في تأويل مصدر مرفوع، على كونه نائب فاعل لـ ﴿يُخَيَّلُ﴾ والتقدير: يخيل إليه سعيها من أجل سحرهم، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، تقديره: فإذا حبالهم وعصيهم مخيل إليه سعيها من سحرهم، ولكنه خبر سببي، والجملة الاسمية: في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إذا﴾ الفجائية، والظرف متعلق بفعل محذوف معطوف على محذوف، والتقدير: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخييل سعى حبالهم وعصيهم، والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلةً إليه السعي، أو فاجأ موسى تخييل
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨)﴾.
﴿فَأَوْجَسَ﴾ الفاء: عاطفة ﴿أوجس﴾: فعل ماض ﴿فِي نَفْسِهِ﴾: متعلق به ﴿خِيفَةً﴾ مفعول به ﴿مُوسَى﴾: فاعل والجملة: معطوف على جملة المفاجاة المقدرة ﴿قُلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿لَا تَخَفْ﴾: جازم وفعل مجزوم، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه ﴿أَنْتَ﴾ ضمير فصل أو تأكيد ﴿الْأَعْلَى﴾: خبر ﴿إن﴾ وجملة: ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾ مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله.
﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠)﴾.
﴿وَأَلْقِ﴾ الواو: عاطفة ﴿ألق﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿لَا تَخَفْ﴾ ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿ألق﴾. ﴿فِي يَمِينِكَ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها ﴿تَلْقَفْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على عصاه ﴿مَا﴾: مفعول به لـ ﴿تَلْقَفْ﴾. ﴿صَنَعُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: ما صنعوه ﴿إِنَّمَا﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب اسمها ﴿صَنَعُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف تقديره: إن الذي صنعوه ﴿كَيْدُ سَاحِرٍ﴾: خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾: مسوقة لتعليل قوله: ﴿تَلْقَفْ﴾. ﴿وَلَا﴾ (الواو): حالية أو عاطفة ﴿لَا﴾ نافية ﴿يُفْلِحُ السَّاحِرُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من ﴿سَاحِرٍ﴾ لأن المقصود منه الجنس، والتقدير: حالة كون جنس الساحر غير مفلح، أو معطوفة على جملة ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا﴾. ﴿حَيْثُ﴾: في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الضم متعلق
التصريف ومفردات اللغة
﴿اذْهَبْ﴾ أنت يا موسى، والذهاب: المضي، يقال: ذهب بالشيء وأذهبه، ويسشعمل ذلك في الأعيان والمعاني ﴿وَأَخُوكَ﴾ والأخوة: المشاركة في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويستعار الأخ لكل مشارك لغيره، في القبلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودة، أو في غير ذلك من المناسبات كما مر ﴿بِآيَاتِي﴾ هي المعجزات، والمراد بها: العصا، واليد البيضاء، والمراد بالجمع: ما فوق الواحد ﴿وَلَا تَنِيَا﴾؛ أي: ولا تفترا ولا تقصرا في ذكري، أي: في تبليغ رسالتي، فالذكر: يطلق على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، من الونى: وهي الفتور والتقصير، يقال: وني يني ونيًا، كوعد يعد وعدًا: إذا فتر، والاسم الوني وهو: الفتور: وونى فعل لازم لا يتعدى، وزعم بعض النحاة أنه يكون من أخوات زال وانفك، فيعمل عملهما بشرط النفي، يقال ما وفي زيد قائمًا؛ أي: ما زال زيدٌ قائمًا، وفي "المصباح": وني في الأمر ونيًا: من باب تعب ووعد: ضعف وفتر، فهو وانٍ وفي التنزيل ﴿وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ وتوانى في الأمر توانيًا: لم يبادر إلى ضبطه، ولم يهتم به، فهو متوان؛ أي: غير مهتمٍ ولا محتفل، وهو في الآية من باب وعد، لأجل كسر النون، إذ لو كان من باب تعب لكان بفتحها ﴿طَغَى﴾ أي تجاوز الحد ﴿يَفْرُطَ﴾ يقال: فرط يفرط: من باب قعد علينا فلان: إذا عجل بمكروه ﴿قَوْلًا لَيِّنًا﴾؛ أي: لا عنف فيه ولا غلظة ﴿يَتَذَكَّرُ﴾؛ في: يتأمل فيذعن للحق ويؤمن
﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ والبال: الحال التي يكترث ويعتنى بها ﴿مَهْدًا﴾ قال الإِمام الراغب: المهد: ما يهيأ للصبي، والمهد والمهاد: المكان الممهد الموطأ ﴿وَسَلَكَ﴾ السلوك: النفاذ في الطريق، وصلك لازم ومتعد، يقال: سلكت الشيء في الشيء: أدخلته، والسبل: جمع سبيل، وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ والماء: هو جسم سيّال قد أحاط حول الأرض والمراد هنا: المطر ﴿أَزْوَاجًا﴾؛ أي: أصنافًا ﴿مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ جمع شتيت كمريض ومرضى؛ أي: مختلفة النفع والطعم واللون والشكل، والأزواج: جمع زوج، سميت الأصناف بذلك لازدواجها، واقتران بعضها ببعض؛ لأنه يقال: لكل ما يقترن بآخر مماثلًا له، أو مضادًا: زوج، ولكل قرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج، كالخف والنعل، قال الراغب: النبت والنبات: ما يخرج من الأرض من الناميات، سواء كان له ساق كالشجر، أو لم يكن له ساق كالنجم، لكن اختص في التعارف بما لا ساق له، بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات، ومتى اعتبرت الحقائق.. فإنه
﴿شَتَّى﴾ بوزن فعلى وألفه للتأنيث، وهو جمع شتيت نحو مريض ومرضى، وجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، يقال: ست الأمر يشت شاتًا، فهو شت؛ أي: تفرق وشتان: اسم فعل ماض، بمعنى: افترق، ولذلك لا يكتفي بواحد ﴿وَارْعَوْا﴾ الرعي: في الأصل: حفظ الحيوان، إما بغذائه الحافظ لحياته، أو بذب العدو عنه ﴿لِأُولِي النُّهَى﴾: جمع نهية بالضم، وهي: العقل، سمي بها العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح، وقيل: إنه اسم مفرد، وهو مصدر كالهدى والسرعة، قاله أبو علي اهـ "سمين" ﴿لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ﴾ يقال: أخلف وعده: إذا خالف في الميعاد.
﴿فَيُسْحِتَكُمْ﴾؛ أي: يهلككم من أسحت الرباعي، وهي لغة نجد وتميم، أي: أهلك، ويقال: سحت وهي لغة الحجاز، وأصل هذه المادة تدل على الاستقصاء والنفاد، ومنه سحت الحالق الشعر؛ أي: استقصاه فلم يترك منه شيئًا، ويُستعمل في الإهلاك والإذهاب، وفي "القاموس": سحت يسحت من باب فتح، وسحت بالتشديد: اكتسب السحت؛ أي: المال الحرام، وسحته أهلكه واستأصله وذبحه، وسحت الشحم عن اللحم: قشره، ويسحت وجه الأرض: محاه، وأسحت: أفسده وأهلكه واستأصله ﴿الْمُثْلَى﴾: مؤنث أمثل، بمعنى أشرف، وإنما أُنِّث باعتبار التعبير بالطريقة، وإلا فباعتبار المعنى كأن يقال: أماثل. اهـ. شيخنا. ﴿فَأَجْمِعُوا﴾؛ أي: أزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعًا عليه، حتى لا تختلفوا، كالمسألة المجمع عليها، ويقال: أجمعوا الأمر وأجمعوا عليه، وفلانة بجمع، أي: عذراء، وضربه بجمع كفه ﴿فَأَوْجَسَ﴾ الإيجاس: الإضمار، وإيجاس الخوف: إضمار شيء منه ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾، والحبال: جمع حبل، وهو: الرسن، والعصي: جمع عصا، أصله: عصوو، بوزن: فلوس، قلبت الواو الثانية ياءً، ثم الأولى لاجتماعها ساكنة مع الياء، وكسرت الصاد لتصح الياء، وكسرت العين اتباعًا للصاد ﴿خِيفَةً﴾ أصله: خوفاً، قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ﴿تَلْقَفْ﴾: تبتلع، وأصله: التناول بسرعة، قال في "القاموس": لقف يلقف، من
فصل في بيان السحر
﴿السِّحْرَ﴾ في اللغة: كل ما لطف ودق، ومنه السحر للصبح الكاذب، وقوله - عليه السلام -: "إن من البيان لسحرا" وبابه: منع وفي العرف: إراءة الباطل في صورة الحق، وهو عندنا أمر ثابت، لقوله - ﷺ -: "السحر حق، والعين حق" وفي "شرح الأمالي" السحر من سحر يسحر سحرًا: إذا خدع أحدًا، وجعله مدهوشًا متحيرًا، وهذا إنما يكون بأن يفعل الساحر شيئًا يعجز عن فعله، وإدراكه المسحور عليه، وفي كتاب "أختلاف الأئمة" السحر: رقىً وعزائم وعقد، تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، وله حقيقة عند الأئمة الثلاثة، وقال الإِمام أبو حنيفة - رحمه الله -: لا حقيقة له، ولا تأثير له في الجسم، وبه قال أبو جعفر الإسترابادي من الشافعية، وفي "شرح المقاصد": السحر إظهار أمرٍ خارقٍ للعادة، من نفس شريرة خبيثة، بمباشرة أعمال مخصوصة، يجري فيها التعلم والتعليم، وبهذين الاعتبارين، يفارق المعجزة والكرامة، وبأنه لا يكون بحسب اقتراح المقترحين، وبأنه يخص الأزمنة أو الأمكنة أو الشرائط، وبأنه قد يتصدى لمعارضته، ويبذل الجهد في الإتيان بمثله، وبأن صاحبه ربما يعلن بالفسق، ويتصف بالرجس في الظاهر والباطن، والخزي في الدنيا والآخرة، وهو؛ أي: السحر عند أهل الحق: جائز عقلًا، ثابت سمعًا، وكذا الإصابة بالعين، وقال المعتزلة: بل هو مجرد إراءة ما لا حقيقة له، بمنزلة الشعوذة التى سببها خفة حركات اليد، أو إخفاء وجه الحيلة، ويقال لها: الشعبذة، معرب شعباذة، اسم رجل ينسب إليه هذا العلم، وهي خيالات مبنية على خفة اليد، وأخذ البصر في تقليب الأشياء، كالمشي على الأرسال، واللعب بالمهارق والحقات وغير ذلك، وللسحر: خمسة أنواع على المشهور:
منها: الطلسم، قيل: هو مقلوب المسلط، وهو جمع الآثار السماوية، مع عقاقير الأرض ليظهر منها أمر عجيب.
منها: الرقية: وهو النفث في الماء، وسمي به لأنهم ينفثون في الماء، ثم يشربونه، أو يصبون عليه، وإنما سميت رقية؛ لأنها كلمات رقيت من صدر الراقي، فبعضها فهوية، وبعضها قبطية، وبعضها بلا معنى، يزعمون أنها مسموعة من الجن، أو في المنام.
ومنها: الخلفطيرات، وهي: خطوط عقدت عليها حروف وأشكال؛ أي: خلق ودوائر، يزعمون أن لها تاثيرات بالخاصية.
ومنها: الشعبذة المارة، والمذهب: أن التأثير الحاصل عقيب الكل، هو فعل الله تعالى، على وفق إجراء عادته، ووجه الحكمة فيه، لا يعلمه إلا هو سبحانه. انتهى من "روح البيان".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا﴾.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ ففيه إيجاز بليغ؛ لأنه حذف جملًا لا يقع عليها الحصر؛ لأنه ليس بالمتاح إحصاء المخلوقات الحية وغير الحية، العاقلة وغير العاقلة، التي خلقها الله تعالى، ولكل منها عمله الميسر له، على حد قوله - ﷺ -: "كل ميسر لما خلق له".
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى لفظ التكلم في قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا...﴾ الخ. وقوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا...﴾ إلخ.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ حيث قابل بين
ومنها: رد العجز على الصدر في قوله: ﴿لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ وسماه المتأخرون التصدير، وهو أخف على السمع، وأليق بالمقام، وهو توافق كلمة في الصدر، مع كلمة في الآخر، وله أقسام مذكور في محله.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ﴾؛ أي: فالقوا فإذا حبالهم، حذف لدلالة المعنى عليه، ومثله ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ بعد قوله: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ حذف منه كلام طويل، وهو فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ إنما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه، ويسمى: ايجاز حذف.
ومنها: استدراج الخصم لموسى حيث قال: ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ ثقةً منهم بأنهم فائزون عليه، حيث، فوَّضوا ضرب الموعد إليه، ولكن موسى استدرجهم بإلهام من الله عز وجل، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح بكيدهم، وأهتك لسترهم، ولما استدرجوه بالتخيير في الإلقاء، أيكون هو البادىء، أم يكونون هم البادئين.. أستدرجهم هو إلى أن يجعلهم مبتدئين، بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا بعد قذفاً بالحق على الباطل، فيدمغه فإذا هو زاهق، فما أروع هذا الكلام.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ بالضميرين اللذين هما: ﴿نَكُونَ﴾ و ﴿نَحْنُ﴾ دل ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه، والإلقاء قبله.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ أنفى للخوف من قلب موسى، وأثبت للغلبة والقهر، ولو قال لا تخف إنك الأعلى.. لم يكن فيه من التقرير والإثبات لنفي الخوف، ما لقوله ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾.
ومنها: في قوله ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ ست فوائد من البلاغة:
١ - ﴿إِنَّ﴾ المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وتأكيده، وقد نص علماء المعاني، على أن الخبر يكون مع ﴿إِنَّ﴾ طلبيًا، أو إنكاريًا لا ابتدائيًا، كقولك: زيد قائم، ثم تقول: إن زيدًا قائم، ففي قولك: إن زيدًا قائم من الإثبات لقيام زيد، ما ليس في قولك: زيد قائم.
٢ - تكرير الضمير في قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ ولو اقتصر على أحد الضميرين.. لما كان بهذه المثابة في التقرير، لغلبة موسى والإثبات.
٣ - لام التعريف في قوله: ﴿الْأَعْلَى﴾ ولم يقل أعلى أو عال؛ لأنه لو قال ذلك.. لكان قد نكَّره، وكان صالحًا لكل واحد من جنس، كقولك: رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال، وإذا قلت الرجل.. فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف، وجعلته علمًا فيهم، وكذلك جاء قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾؛ أي: دون غيرك.
٤ - لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل، ولم يقل: العالي فهو أعلى من كل عال.
٥ - لفظ العلو الدال على أن الغلبة ثابتة له من جهة العلو، ومعلوم أن الغرض من قوله: ﴿الْأَعْلَى﴾: الغلبة، إلا أن في ﴿الْأَعْلَى﴾ زيادةً، وهي كونها صادرةً من مكان عال.
٦ - الاستئناف وهو قوله تعالى: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ ولم يقل لأنك أنت الأعلى، فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى - عليه السلام - بالغلبة والاستعلاء، وأثبت ذلك في قرارة نفسه، بما لا يدع أيّ: مجال للشك.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا، وأن فرعون أبى أن يذعن
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أنه أوحى (١) إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلًا، ويخترق بهم البحر، ولا يخشى غرقًا ولا دركًا من فرعون وجنده، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعًا، حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل، ثم عدد نعمه عليهم، من إنجائهم من عدوهم، وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق، ونهاهم عن الطغيان، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا.. أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام، حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذُكرت آنفًا، وبما حدث من فتنة السامري لبني إسرائيل، ورجوع موسى إليهم غضبانَ أسفًا، ثم معاقبته لهم على ما صنعوا، ثم ذكر الحيلة التي فعلها السامري حين أخرج لهم من حليّهم عجلًا جسدًا له خوار، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، فرد الله عليهم،
التفسير وأوجه القراءة
٧١ - ولما خاف فرعون أن يكون إلقاء السحرة سجدًا سببًا لاقتداء الناس بهم في الإيمان بالله ورسوله.. ألقى شبهةً في النبي ونبوته فـ ﴿قال﴾؛ أي: فرعون للسحرة موبخاً لهم ﴿آمَنْتُمْ﴾؛ أي: هل آمنتم ﴿لَهُ﴾؛ أي: لموسى وصدقتموه فيما يدعيه، و (اللام): هنا لتضمين الفعل معنى الإتباع وفي "بحر العلوم": ﴿لَهُ﴾؛ أي: لربهما، على أن (اللام) بمعنى الباء، كما يدل عليه قوله في سورة الأعراف: ﴿قال آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾ و ﴿آمَنْتُمْ﴾: بالمد على الإخبار، و (الهمزة) الأولى فيه: للاستفهام التوبيخي؛ أي: قال لهم توبيخًا: هل فعلتم هذا الفعل ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أي (١): من غير أن آذن لكم في الإيمان له، وآمركم به كما في قوله تعالى: ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ لا أن الإذن لهم في ذلك واقع بعده، أو متوقع، والإذن في الشيء الإعلام بإجازته، وأذنته بكذا وآذنته بمعنًى ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن موسى ﴿لَكَبِيرُكُمُ﴾؛ أي: أستاذكم ومعلمكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ وإنكم تلامذته في السحر، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم، ترويحًا لشأنه، وتفخيمًا لأمره، فلا عبرة بما أظهرتموه، قال الكسائي (٢): الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه.. قال: جئت من عند كبيري، وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر، قال الواحدي: والكبير في اللغة: الرئيس، ولهذا يقال للمعلم: الكبير، أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسًا لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة.
والخلاصة (٣): أنكم قد فعلتم جريمتين، وارتكبتم إساءتين:
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
٢ - أنكم تلاميذه في السحر، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم، ترويجاً لدعوته، وتفخيمًا لأمره. وبعد أن أورد هذه الشبهة، اشتغل بالتهديد، تنفيرًا لهم من الإيمان، وتحذيرًا لغيرهم عن الاقتداء بهما، فقال: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ﴾؛ أي: فوالله لأقطعن ﴿أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ حالة كونها ﴿مِنْ خِلَافٍ﴾؛ أي: مختلفات في الاسم والصفة؛ لأنها إذا خالف بعضها بعضًا، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك يسار.. فقد اتصفت بالاختلاف، وتعيين القطع وكيفيته لكونه أفظع من غيره، والمعنى لأقطعن من كل شق طرفًا، وهو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لا يدين ولا رجلين، ولا يمنين ولا يسارين، وصيغة (١) التفعيل في قطع: للتكثير، وكذا في الفعل الآتي، والقطع: فصل شيءٍ مدركًا بالبصر كالأجسام، أو مدركًا بالبصيرة كالأشياء المعقولة، و ﴿مِنْ﴾ فيه لابتداء الغاية، أي: ابتداء القطع من مخالفة العضو العضو، لا من وفاقه إياه، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكًا وتفويتًا للمنفعة ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾؛ أي: على جذوع النخل وأصولها، زيادةً في إيلامكم، وتشهيرًا بكم، والصلب: الذي هو تعليق الإنسان للقتل، قيل: هو شد صلبه على خشب؛ أي: على أصول النخل في شاطىء النيل.
وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع (٢): التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقرًا للمصلوب، واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف.. عُدّي الفعل بفي التي للوعاء، وقيل: ﴿فِي﴾: بمعنى على، وقيل: نقر فرعون الخشب، وصلبهم في داخله، فصار ظرفًا لهم حقيقةً، حتى يموتوا فيه جوعًا وعطشًا، ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر:
وَهُمْ صَلَبُوْا الْعَبْدِىَّ فِىْ جِذْعِ نَخْلَةٍ | فَلاَ عَطَسَتْ شَيْبَانُ إِلَّا بِأَجْدَعَا |
(٢) البحر المحيط.
قلنا: يجوز أن يكون في أشد الخوف، ويُظهر الجلادة، تمشيةً لناموسه، وترويجًا لأمره، والاستقراء يوقفك على أمثاله. ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا﴾؛ أي: أييّ وأيّ موسى ﴿أَشَدُّ عَذَابًا﴾؛ أي: ولتعلمن جواب أينا أشد عذابًا؛ أي: هل أنا أشد عذابًا على إيمانكم به، أو موسى أشد عذابًا على ترك الإيمان به، ومراده بالأشد عذابًا نفسه ﴿وَأَبْقَى﴾؛ أي: أدوم عذابًا، وموسى لم يكن في شيء من التعذيب، إلا أن فرعون ظن السحرة خافوا من قبل موسى على أنفسهم، حين رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم، فقال ما قال، وعلى ما سبق من "بحر العلوم" في ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ يكون المراد بـ ﴿أَيُّنَا﴾ نفسه ورب موسى؛ أي (٢): ولتعلمن أنا أو إله موسى أشد عذابًا وأبقى، وفي ذلك إيماء إلى اقتداره وقهره، وبيان ما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، كما فيه تحقير لشأن موسى، واستضعاف له مع السخرية منه،
٧٢ - ثم لما صال عليهم بذلك، وتوعدهم.. هانت عليهم أنفسهم في الله فـ ﴿قالوا﴾؛ أي: السحرة، غير مكترثين بوعيده: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾؛ أي: لن نختارك بالإيمان والاتباع ﴿عَلَى مَا جَاءَنَا﴾ من الله على يد موسى ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: من المعجزات الظاهرة، التي لا شبهة في حقيَّتها، كاليد والعصا، وكان من استدلالهم أنهم قالوا: لو كان هذا سحرًا.. فأين حبالنا وعصينا، وقيل (٣): إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه من سجودهم من المنازل المعدة لهم في الجنة.
وفي هذا: إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى،
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أي قالوا لن نختار اتباعك، وكوننا من حزبك، وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات، وهي: المعجزة التي أتتنا، وعلمنا صحتها، وفي قولهم هذا توهين له، واستصغار لما هددهم به، وعدم اكتراثٍ بقوله، وفي نسبة المجيء إليهم، وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم؛ لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به ليس بسحر، فكانوا على جلية من العلم بالمعجز، وغيرهم يقلدهم في ذلك، وأيضًا فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها، وكانت بيناتٍ واضحةً في حقهم.
وقوله: ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾؛ أي: خلقنا وسائر المخلوقات، معطوف على ما جاءنا؛ أي: لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات، وعلى عبادة الذي فطرنا وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية، وما شاهدوه آية حسية ظاهرة.
والحاصل: أنه لما لاحت لهم حجة الله في المعجزة.. بدؤوا بها، ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة، وهو الله تعالى، وذكروا وصف الاختراع، وهو قولهم: ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ تبييناً لعجز فرعون، وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته، وهو عاجز عن صرف ذبابة، فضلًا عن اختراعها، وقيل: الواو للقسم، وجوابه: محذوف لدلالة المذكور عليه؛ أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك، ولا يكون ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ جوابًا؛ لأنه لا يجاب في النفي بلن إلا في شاذ من الشعر، وقوله: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ جواب عن تهديده بقوله: ﴿لأقطعن﴾.. الخ؛ أي: فأصنع ما أنت صانعه، أو احكم فينا ما أنت فيه حاكم، من القطع والصلب، وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: فاحكم وأجر علينا ما قضى الله لنا في الأزل من
﴿إِنَّمَا تَقْضِي﴾ وتحكم ﴿هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: إنما سلطانك علينا، ونفوذ أمرك فينا في هذه الحياة الدنيا، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل النصب على الظرفية، أو على المفعولية، و ﴿ما﴾ كافة.
والمعنى (١): أي لأنك إنما تحكم علينا في الدنيا فقط، وليس لك علينا سلطان في الآخرة، وأنت تجري على حكمك في الآخرة، وما لنا من رغبة في حلاوة الدنيا، ولا رهبة من عذابها، وقرأ (٢) الجمهور: ﴿تَقْضِي﴾ مبنيًا للفاعل، خطابًا لفرعون، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، ﴿تقضي﴾ مبنيًا للمفعول ﴿هذه الحياة﴾ بالرفع اتسع في الظرف، فأُجري مجرى المفعول به، ثم بني الفعل لذلك، ورُفع به، كما تقول: صيم يوم الجمعة.
ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده، ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم على الجذوع، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه، ويدل على ذلك قوله: ﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ وقيل: أنفذ فيهم وعيده، وصلبهم على الجذوع، ذكره أبو حيان في "البحر" ولكن (٣) الراجح: أنه نفَّذ ذلك، كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداءً بررةً
٧٣ - ﴿إِنَّا آمَنَّا﴾ وصدقنا ﴿بـ﴾ ربوبية ﴿رَبِّنَا﴾ وألوهية خالقنا ﴿لِيَغْفِرَ لَنَا﴾ ويستر عنا ﴿خَطَايَانَا﴾ وذنوبنا من الكفر والمعاصي، ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة، لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية، حتى نتأثر بما وعدتنا به من القطع والصلب.
فائدة (٤): والمغفرة صيانة العبد عما استحقه من العقاب، للتجاوز عن ذنوبه، من الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس، والخطايا: جمع الخطية، والفرق بينها وبين السيئة: أن السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات، والخطية فيما يقصد بالعرض؛ لأنها من الخطأ، وقوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
٧٤ - ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين، وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب، عظةً لفرعون، وتحذيرًا له من نقمة الله وعذابه السرمدي، وترغيباً لهفى ثوابه الأبدي فقالوا: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: الشأن والحال، وهو تعليل من جهتهم، لكونه تعالى خيرًا وأبقى؛ أي: لأنه ﴿مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ﴾ يوم القيامة حالة كونه ﴿مُجْرِمًا﴾؛ أي: متلبسًا بالكفر والمعاصي، متوغلاً في إجرامه، منهمكاً فيه، بأن يموت على الكفر والمعاصي، ولأنه مذكور في مقابلة المؤمن ﴿فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا﴾؛ أي: في جهنم، فينتهي عذابه ويستريح، وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى ﴿وَلَا يَحْيَى﴾ حياةً ينتفع بها.
والمعنى (١): أي إن من يلق الله تعالى وهو مجرم بكفره ومعاصيه.. فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم، قال المبرد: لا يموت ميتةً مريحةً، ولا يحيى حياةً ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حالة الموت في المكروه، إلا أنه لا يعطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى
٧٥ - ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ﴾ سبحانه وتعالى يوم القيامة حالة كونه ﴿مُؤْمِنًا﴾ به تعالى وبما
والمعنى (٢): أي ومن لقي ربه مؤمنًا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه، ثم عمل صالح الأعمال.. فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم، وجليل أعمالهم، المنازل الرفيعة، والدرجات العالية.
وفي "الصحيحين": "أن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب العابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء قال: "بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" وفي "السنن" "أن أبا بكر وعمر لمنهم ونعما"
٧٦ - ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ بدل من الدرجات العلى ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة: الماء، واللبن، والخمر، والعسل، حاله كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾؛ أي: مقدرين الخلود ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات، فهو حال من الضمير في لهم، والعامل: معنى الاستقرار، أو الإشارة ﴿وَذَلِكَ﴾؛ أي: المذكور من الثواب ﴿جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ وتطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وهذا لكون ثواب الله تعالى أبقى.
والجزاء (٣): ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أي تلك الدرجات العلى، هي جنات إقامة، تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا، وذلك الفوز الذي أوتوه، جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر، ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده، لا شريك له، واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاؤوا به من عند ربهم.
٧٧ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى﴾ شروع في بيان إنجاء بني إسرائيل، وإهلاك عدوهم، وقد تقدم في البقرة، وفي الأعراف، وفي يونس، و (اللام) في ﴿لقد﴾: موطئة للقسم وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أوحينا إلى موسى، بعد إجراء الآيات التسع في نحو عشرين سنة، كما في "الإرشاد" لكن يخالفه ما في بعض الروايات المشهورة، من أن موسى - عليه السلام - دعا ربه في حق فرعون وقومه، فأستجيب له، ولكن أثره بعد أربعين سنة، على ما قالوا عند قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾.
﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾؛ أي: سر بعبادي بني إسرائيل ليلًا، من أرض مصر إلى ساحل البحر، لئلا يعوقهم أعوان فرعون، فـ ﴿أَنْ﴾: مفسرة بمعنى أي، أو مصدرية؛ أي: بـ ﴿أَنْ أَسْرِ﴾ والسري، والإسراء: سير الليل، وقرأ (٢) نافع، وابن كثير: بكسر نون ﴿أَنْ﴾ وهمزة وصل.
وفي التعبير (٣) عن بني إسرائيل ﴿بِعِبَادِي﴾ إظهار للعناية بأمرهم والرحمة، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
والطريق (١): كل ما يطرقه طارق، معتادًا كان أو غير معتاد، قال الراغب: الطريق: السبيل الذي يطرق بالأرجل ويضرب، والبحر: كل مكان واسع جامع للماء الكثير، والمراد هنا: بحر القلزم، قال في "القاموس": القلزم: هو بلد بين مصر ومكة، قرب جبل الطور، وإليه يضاف بحر القلزم؛ لأنه على طرفه، أو لأنه يبتلع من ركبه؛ لأن القلزمة: الابتلاع، ومعنى ﴿يبسًا﴾: يابسًا، وصف به الفاعل للمبالغة، وذلك أن الله تعالى، أيبس لهم تلك الطريق، حتى لم يكن فيها ماء ولا طين، واليبس: المكان الذي كان فيه ماء فذهب.
وقرأ الحسن وأبو المتوكل والنخعي (٢): ﴿يَبَسًا﴾ بسكون الباء، على أنه مخفف من يبسًا المحرك، أو جمع يابس كصاحب وصحب، وصف به الواحد تأكيدًا، وقرأ أبو حيوة، والشعبي، وأبو رجاء، وابن السميقع ﴿يابسًا﴾ بألف اسم فاعل، قال أبو عبيدة: اليبس محرك الحروف، بمعنى اليابس، يقال: شاة يبس، أي: يابسة ليس لهم لبن، وقال ابن قتيبة: يقال لليابس: يَبَسٌ ويَبْسٌ.
وقوله: ﴿لَا تَخَافُ دَرَكًا﴾ حال مقدرة من المأمور؛ أي: من موسى، والدرك: محركةً اسم من الإدراك، كالدرك بالسكون، والدرك: اللحاق بهم من فرعون وجنوده، والمعنى: فاجعل لهم طريقًا في البحر يبسًا، حالة كونك آمنًا لا تخاف من أن يدرككم العدو ﴿وَلَا تَخْشَى﴾ الغرق.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿لَا تَخَافُ﴾ بالألف والرفع، وهي أرجح، لعدم الجزم في ﴿تخشى﴾، ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفةً أخرى
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
إِذَا الْعَجُوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ | وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تُمَلِّقِ |
٧٨ - و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾: عاطفة على محذوف تقديره: ففعل موسى ما أمر به من الإسراء بهم، وضرب الطريق وسلوكه، فتبعهم فرعون حالة كونه مصاحبًا بجنوده وأعوانه، حتى لحقوهم وقت إشراق الشمس، وهو إضاءتها، يقال: أتبعهم؛ أي: تبعهم، وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم، فالفرق بين تبعه وأتبعه، أن يقال: أتبعه إتباعًا، إذا طلب الثاني اللحوق بالأول، وتبعه تبعًا، إذا مر به، ومضى معه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَأَتْبَعَهُمْ﴾ بسكون التاء، وأتبع: قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد، وقال الزجاج: تبع الرجل الشيء وأتبعه، بمعنى واحد. اهـ
(٢) البحر المحيط.
والظاهر (٢): أن الضمير في ﴿غَشِيَهُمْ﴾ في الموضعين: عائد على فرعون وجنوده، وقيل: الأول على فرعون وقومه، والثاني على موسى وقومه، وفي الكلام حذف على هذا القول، تقديره: فنجا موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، وقرأ الجمهور (٣) ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ على وزن فعل مجرد من الزيادة، وقرأت فرقة، منهم الأعمش ﴿فغشاهم من اليم ما غشيهم﴾ بتضعيف العين، فالفاعل في القراءة الأولى: ﴿مَا﴾ وفي الثانية الفاعل الله؛ أي: فغشاهم الله، قال الزمخشري: أو فرعون؛ لأنه الذي ورط جنوده، وتسبب لهلاكهم، وقال: ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة؛ أي: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى
٧٩ - ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ﴾؛ أي: سلك بهم مسلكًا أداهم إلى الخيبة والخسران، في الدين والدنيا معًا، حيث ماتوا
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
٨٠ - ثم شرع سبحانه يعدد نعمه على بني إسرائيل، فقال: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيل﴾؛ أي: وقلنا لهم بعد إغراق فرعون وقومه، وإنجائهم منهم: يا أولاد يعقوب ﴿قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ﴾ فرعون وقومه، حيث كانوا يذبحون أبناءكم، ويستحيون نساءكم، ويستخدمونكم في الأعمال الشاقة، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر، بمرأى من بني إسرائيل، كما قال: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ والعدو: يجيء بمعنى الوحدة، وبمعنى الجماعة ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ﴾ بوساطة نبيكم موسى - عليه السلام - ﴿جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾؛ أي: إتيان جانبه الأيمن، نظرًا إلى السالك من مصر إلى الشام، وإلا فليس للجبل يمين ولا يسار، والمراد: يمين الشخص، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل، معناه: عن يمينك من الجبل؛ أي: واعدناكم إتيان موسى للمناجاة، وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى نظرًا إلى ملابستها إياهم، وسراية منفعتها إليهم، قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه، لنكلمه بحضرتكم، فتسمعوا الكلام، وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور، فالوعد كان لموسى، وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم، وانتصاب (٢) ﴿جَانِبَ﴾ على أنه مفعول به، لا على الظرفية؛ لأنه مكان معين غير مبهم، وإما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة، قال مكي: وهذا أصل لا خلاف فيه، وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر،
(٢) الشوكاني.
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ﴾ في التيه ﴿الْمَنَّ﴾ وهو: شيء حلو أبيض مثل الثلج، كان ينزل على الشجر كالطل، من الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع، يقال له: الترنجبين، معرب كرنكبين ﴿وَالسَّلْوَى﴾ وهو: طائر يقال له: السماني، يبعثه عليهم ريح الجنوب، فيذبح الرجل منهم ما يكفيه، والتيه. المذكور آنفًا: المفازة التي يُتَاه فيها، وذلك حين أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين فأبوا ذلك، فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، كما مر في سورة المائدة، ومثل (٢) ذلك كمثل الوالد المشفق، يضرب ولده العاصي ليتأدب، وهو لا يقطع عنه إحسانه، فقد ابتلوا بالتيه، ورزقوا بما لا تعب فيه.
٨١ - وقلنا لكم: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾؛ أي: من لذائذ ما رزقناكم أو حلالاته، قال الراغب: أصل الطيِّب ما تستلذه الحواس والنفس، والطعام الطيب في الشرع: ما كان متناولًا من حيث ما يجوز، وبقدر ما يجوز، ومن المكان الذي يجوز، فإنه متى كان كذلك كان طيبًا عاجلًا وآجلاً لا يستوخم، وإلا فإنه وإن كان طيبًا عاجلًا لم يطلب آجلًا. ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾؛ أي: ولا تتجاوزوا الحد ﴿فِيهِ﴾؛ أي: فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، وبالسرف والبطر، والمنع من المستحق، والادخار منه لأكثر من يوم وليلة، قال ابن عباس: لا يظلم بعضكم بعضًا فيأخذه من صاحبه، يعني: بغير حق ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ جواب للنهي، أي: فيلزمكم عقوبتي، وتجب
(٢) روح البيان.
والظاهر (١): أن الخطاب لمن نجا مع موسى بعد إغراق فرعون، وقيل: لمعاصري الرسول - ﷺ - اعتراضًا في أثناء قصة موسى، توبيخًا لهم، إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله، فهو على حذف مضاف؛ أي: أنجينا آباءكم من تعذيب آل فرعون، وخاطب الجميع بـ ﴿واعدناكم﴾ وإن كان الموعودون هم السبعين الذين اختارهم موسى - عليه السلام - لسماع كلام الله؛ لأن سماع أولئك السبعين تعود منفعته على جميعهم، إذ به تطمئن قلوبهم وتسكن. وقرأ زيد بن علي ﴿ولا تطغوا﴾ بضم الغين ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي﴾؛ أي: ومن ينزل عليه غضبي.. ﴿فَقَدْ هَوَى﴾؛ أي: شقي وهلك، وتردى وسقط في الهلاك الأبدي، وأصله: أن يسقط من جبل فيهلك؛ أي: صار إلى الهاوية، وسقط فيها، ومن بلاغات الزمخشري: من أرسل نفسه مع الهوى فقد هوى في أبعد الهوى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَيَحِلَّ﴾ بكسر الحاء ﴿وَمَنْ يَحْلِل﴾ بكسر اللام؛ أي: فيجب ويلحق، وقرأ الكسائي: بضم الحاء في ﴿يحل﴾ وضم اللام في ﴿يحلل﴾؛ أي: ينزل، وهي قراءة قتادة، وأبي حيوة، والأعمش، وطلحة، ووافق ابن عيينة في ﴿يحلل﴾ فضم اللام، قال (٣) الفراء: والكسر أحب إلي، لأن الضم من الحلول، ومعناه: الوقوع، ويحل بالكسر: يجب، وجاء التفسير بالوجوب لا
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
٨٢ - ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ﴾؛ أي: لستار الذنوب ﴿لِمَنْ تَابَ﴾؛ أي: من الشرك والمعاصي، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر.
فائدة: قال في "المفاتيح شرح المصابيح" (١): الفرق بين الغفور والغفار، أن الغفور: كثير المغفرة، وهي: صيانة العبد عما استحقه من العقاب، للتجاوز عن ذنوبه، من الغفر وهو: إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس، ولعل الغفار أبلغ منه، لزيادة بنائه، وقيل: الفرق بينه وبين الغفار، أن المبالغة فيه من جهة الكيفية، وفي الغفار: باعتبار الكمية. انتهى.
﴿وَآمَنَ﴾ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴿وَعَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ مما ندب إليه الشرع وحسنه، وفيه (٢): ترغيب لمن وقع منه الطغيان فيما ذكر، وحث على التوبة والإيمان ﴿ثُمَّ اهْتَدَى﴾؛ أي: استقام على الهدى، ولزمه حتى مات، وهو إشارة إلى أن من لم يستمر عليه بمعزل من الغفران، وقيل (٣): لم يشك في إيمانه، وقيل: أقام على السنة والجماعة، وقيل: تعلم العلم ليهتدى به، وقيل: علم أن لذلك ثوابًا وعلى تركه عقابًا، والأول أرجح مما بعدهُ ﴿ثُمَّ﴾ (٤) للتراخي الرتبي، قال في "بحر العلوم": ثم: لتراخي الاستقامة على الخير، عن الخير نفسه، وفضلها عليه؛ لأنها أعلى منه وأجلُّ، لأن الشأن كله فيها، وهي مزلة أقدام الرجال، قال ابن عطاء ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ﴾؛ أي: رجع من طريق
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
٨٣ - ولما نهض (١) موسى - عليه السلام - ببني إسرائيل، إلى جانب الطور الأيمن، حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما فيه شرف العاجل والآجل.. رأى على وجه الاجتهاد أن يقدم وحده، مبادرًا إلى أمر الله، وحرصًا على القرب منه، وشوقًا إلى مناجاته، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانب الطور، فلما انتهى موسى - عليه السلام - وناجى ربه.. زاده في الأجل عشرًا، وحينئذ وقفه على استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر، فيقع الإعلام له بما صنعوا، فقال: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣)﴾؛ أي (٢): وقلنا له: أي شيء حملك على العجلة، وأوجب سبقك منفردًا عن قومك؟ وهم النقباء السبعون المختارون للخروج معه إلى الطور، وذلك أنه سبقهم شوقًا إلى ميعاد الله، وأمرهم أن يتبعوه، قال في "العرائس": ضاق صدر موسى من معاشرة الخلق، وتذكر أيام وقال الحق، فعلَّة العجلة: الشوق إلى لقاء الله تعالى، و ﴿مَا﴾ للاستفهام الإنكاري مبتدأ، وجملة ﴿أَعْجَلَكَ﴾ خبره.
وهو (٣) سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنها نقيصة في نفسها، انضم إليها إغفال القوم، وإيهام التعظيم عليهم، فلذلك أجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم؛ أي: وما حملك على العجلة عن قومك
٨٤ - ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿هُمْ﴾؛ أي: قومي ﴿أُولَاءِ﴾؛ أي: قريبون منى يأتون ﴿عَلَى أَثَرِي﴾؛ أي: من بعدي يلحقون بي، وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة، لا يعتد بها، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض، ثم أعقبه بجواب السؤال فقال: ﴿وَعَجِلْتُ﴾؛ أي: وسارعت ﴿إِلَيْكَ﴾؛ أي: إلى الموعد الذي واعدت بسبقي إياهم ﴿رَبِّ لِتَرْضَى﴾ عني؛ أي: لتزداد رضًا عني، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
قال أبو حاتم (٢): قال عيسى بن عمر: بنو تميم يقولون ﴿أولا﴾ مقصورةً وأهل الحجاز يقولون ﴿أولاء﴾ ممدودةً.
وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه (٣): ﴿أولائي﴾ بياءٍ مكسورةٍ، وابن وثاب، وعيسى في رواية: ﴿أولا﴾ بالقصر وقرأت فرقة: ﴿أولاي﴾ بياء مفتوحة، وقرأ عيسى، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو، وزيد بن علي ﴿على إثري﴾ بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى الكسائي ﴿أثري﴾ بضم الهمزة وسكون الثاء، وتروى عن عيسى، وقرأ الجمهور ﴿أُولَاءِ﴾ بالمد والهمز ﴿عَلَى أَثَرِي﴾ بفتح الهمز والثاء.
والمعنى: أي (٤) قال موسى مجيبًا ربه: هم أولاء بالقرب منى آتون على أثري، وما تقدمتهم إلا بخطًا يسيرةٍ لا يعتد بها، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض، وعجلت إلى موعدك رب لتزداد عني رضًا بالمسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك.
وخلاصة معذرته (٥): إني اجتهدت أن أتقدم قومي بخطا يسيرة، ظنًا منى أن مثل ذلك لا ينكر، فأخطات في اجتهادي، وقد حملني على ذلك طلب الزيادة في مرضاتك، وكأنه - عليه السلام - يقول: إنما أغفلت هذا الأمر مبادرةً إلى رضاك، ومسارعةً إلى الميعاد، والموعود بما يسر يود لو ركب أجنحة الطير، ليحظى بما يبتغي ويريد.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
(٥) المراغي.
قال في "الأسئلة المحقمة": أضاف الإضلال إلى السامري؛ لأنه كان حصل بتقريره ودعوته، وأضاف الفتنة إلى نفسه، لحصولها بفعله وقدرته وإرادته وخلقه، وعلى هذا أبدًا إضافة الأشياء إلى أسبابها ومسبباتها. انتهى. وإخباره (٢) تعالى بوقوع هذه الفتنة، عند قدومه - عليه السلام - إما باعتبار تحققها في علمه ومشيئته تعالى، وإما بطريق التعبير عن المتوقع بالواقع، أو لأن السامري قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى، وتصدى لترتيب مباديها، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار.
والسامري: رجل من عظماء بني إسرائيل، منسوب إلى قبيلة السامرة منهم، أو علجٌ من أهل كرمان، من قوم يعبدون البقر، وحين دخل ديار بني إسرائيل أسلم معهم وفي قلبه حب عبادة البقر، فابتلى الله بني إسرائيل، فكشف له عن
(٢) روح البيان.
وكان (١) السامري قد رباه جبريل، فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة، فيخرج له من أحدها لبن، ومن الأخرى سمن، ومن الأخرى عسل، قيل اسمه موسى بن ظفر، وقيل: منجا، وهو ابن خالة موسى، أو ابن عمه، وذلك لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان، كانت المرأة من بني إسرائيل تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة، أو كهف من جبل، أو غير ذلك، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية، حتى يكبروا فيدخلوا بين الناس.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَأَضَلَّهُمُ﴾ فعلًا ماضيًا، وقرأ أبو معاذ، وفرقة ﴿وأضلهم﴾ برفع اللام مبتدأ و ﴿السَّامِرِيُّ﴾ خبره وكان أشدهم ضلالًا؛ لأنه ضال في نفسه، مضل غيره.
٨٦ - ﴿فَرَجَعَ مُوسَى﴾ من الميعاد ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ بعدما استوفى الأربعين، ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وأخذ الألواح المكتوب فيها التوراة، وكانت ألف سورة، كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملًا، حالة كونه ﴿غَضْبَانَ﴾؛ أي: شديد الغضب على قومه، وحالة كونه ﴿أَسِفًا﴾؛ أي: حزينًا بما فعلوا، روي أنه لما رجع موسى.. سمع الصياح، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة.
والمعنى: فانصرف موسى إلى قومه بني إسرائيل، بعد انقضاء الليالي الأربعين، مغتاظًا من قومه، حزينًا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله.
﴿قَالَ﴾ لهم موسى ﴿يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾ بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى، والاستفهام هنا تقريري خلافًا لما قاله بعضهم من أنه إنكاري، فإنه غير صواب؛ أي: وعدكم وعدًا صادقًا، بحيث لا سبيل لكم إلى إنكاره، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام، ووعدكم
(٢) روح البيان.
قال في "بحر العلوم" ﴿وَعْدًا حَسَنًا﴾؛ أي: متناهياً في الحسن، فإنه تعالى وعدهم أن يعطيهم التوراة، التي فيها هدًى ونور، ولا وعد أحسن من ذلك وأجمل.
وفيه إشارة (١) إلى أن الله تعالى إذا وعد قومًا.. لا بد له من الوفاء بالوعد، فيحتمل أن يكون ذلك الوفاء فتنة للقوم، وبلاءً لهم، كما كان لقوم موسى، إذ وعدهم الله بإيتاء التوراة، ومكالمته موسى وقومه السعبين المختارين، فلما وفي به.. تولدت لهم الفتنة والبلاء من وفائه، وهي الضلال وعبادة العجل، ولكن الوعد لما كان موصوفًا بالحسن.. كان البلاء الحاصل من الوعد الحسن بلاءً حسنًا، وكان عاقبة أمرهم التوبة والنجاة، ورفعة الدرجات.
و (الهمزة) في قوله: ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ﴾ للاستفهام الإنكاري: داخلة على محذوف و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أوعدكم وعدًا حسنًا، فطال عليكم زمان إنجاز العهد، فأخطأتم بسببه ﴿أَمْ أَرَدْتُمْ﴾ وقصدتم ﴿أَنْ يَحِلّ﴾ وينزل ﴿عَلَيْكُمْ غَضَبٌ﴾؛ أي: عذاب عظيم، وانتقام شديد، كائن ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: من مالك أمركم على الإطلاق، بسبب عبادة ما هو مثل في الغباوة والبلادة؛ أي: أم أردتم أن تفعلوا فعلًا يكون سبب حلول غضب الله عليكم ﴿فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾؛ أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات، على إضافة المصدر إلى مفعوله، و (الفاء) لترتيب ما بعدها على كل واحد، من شقي الترديد على سبيل البدل، كأنه قيل: أنسيتم الوعد بطول العهد، فاخلفتموه خطأ، أم أردتم حلول الغضب عليكم، فأخلفتموه عمدًا.
لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور،
٨٧ - وقيل: وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات، فتوقفوا، فأجابوه و {قَالُوا
لكن غلبنا من كيد السامري وتسويله، وذلك أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة.. لم يملك نفسه، ويكون مغلوبًا، والملك: القدرة.
والمعنى (١): أي قالوا: ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك، إلا لأنا لم نملك أمرنا، فلو خلينا وأنفسنا، ولم يسول لنا السامري ما سوله.. لما أخلفنا، وفي هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ، وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة.
وقصارى كلامهم: أن السامري سول لنا ما سول، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك، وقرأ الأخوان (٢): الكسائي وحمزة، والحسن، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وقعنب: ﴿بِمَلْكِنَا﴾ بضم الميم، وقرأ زيد بن علي، ونافع، وعاصم، وأبو جعفر، وشيبة، وابن سعدان: بفتحها وباقي السبعة: بكسرها، وقرأ عمر - رضي الله عنه -: ﴿بِمَلَكِنَا﴾ بفتح الميم واللام، وحقيقته: بسلطاننا، فالملك والملك، بمنزلة النَّقَض والنَّقْض، والظاهر: أنها لغات، والمعنى واحد.
وفرق أبو علي، وغيره بين معانيها، فمعنى الملك بالضم: السلطان والقدرة؛ أي: إنه لم يكن لنا ملك فتخلف موعدك بسلطانه، وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، والملك بالفتح: المصدر، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكًا، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وقفنا له، بل غلبتنا أنفسنا، والملك بالكسر: ما حوته اليد، وكثر استعماله فيما تحوزه اليد، ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، ومعناها: كمعنى التي قبلها، والمصدر: في هذين الوجهين: مضاف إلى الفاعل، والمفعول: مقدر؛ أي: بملكنا الصواب
(٢) البحر المحيط.
واختلف فيمن قال هذا لموسى على قولين (١):
أحدهما: أنهم الذين لم يعبدوا العجل.
والثانى: عابدوه. ﴿وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا﴾؛ أي: ولكنا أمرنا أن نحمل ﴿أَوْزَارًا﴾ وأحمالاً ﴿مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾؛ أي: من حلي القوم القبطيين، التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس، وفي الواقع: ليس للعرس؛ أي أمرنا موسى باستعارتها من آل فرعون، والخروج بها، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم، أو وليمة، والأوزار: الأثقال أو الآثام، سمي به ما استعاروه من القبط لثقله، أو لسبب أنهم أثموا في ذلك باتخاذها عجلًا، أو بعدم ردهم العارية إلى أصحابها، وقيل: الأوزار: هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل، وسميت أوزارًا؛ أي: آثامًا؛ لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر، ورويس، وشيبة، وحميد، ويعقوب: ﴿حُمِّلْنَا﴾ بضم الحاء وكسر الميم المشددة، وقرأ أبو رجاء: ﴿حملنا﴾ بضم الحاء وكسر الميم المخففة، وقرأ الأخوان: الكسائي، وحمزة، وأبو عمرو، وابن محيصن ﴿حملنا﴾ بفتح الحاء والميم مخففة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم، وما حملوها كرهًا ﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾؛ أي: فطرحنا تلك الزينة والحلي في النار، أو في (٢) الحفيرة، أوقدت فيها النار طلبًا للخلاص من إثمها، وكان أشار عليهم بذلك السامري، فحفرت حفرة وسجرت فيها النار، وقذف كل من معه شيء ما عنده من ذلك في النار، وقذت السامري ما معه فيها، وقيل: المعنى طرحناها إلى السامري لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى في رأيه.
(٢) البحر المحيط.
٨٨ - ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ﴾؛ أي: للقائلين، السامريُّ من الحفيرة ﴿عِجْلًا﴾ أي: تبيعًا خلقه الله تعالى من الحلي، التى سبكتها النار، والعجل: ولد البقرة ﴿جَسَدًا﴾ بدل من عجلًا؛ أي: جثةً ذا دم ولحم وعظم، أو جسدًا من ذهب لا روح له، ولا امتناع في ظهور الخارق على يد الضال ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك العجهل ﴿خُوَارٌ﴾؛ أي: صياح نعت ﴿عِجْلًا﴾ يقال: خار العجل يخور خوارًا: إذا صاح؛ أي: له صوت العجاجيل، فسجدوا له، وقيل: خواره كان بالريح؛ لأنه كان عمل فيه خروقاً، فإذا دخلت الريح في جوفه.. خار، ولم يكن فيه حياة ﴿فَقَالُوا﴾؛ أي: قال السامري ومن وافقه أول ما رأوا لمن توقف من بني إسرائيل ﴿هَذَا﴾ العجل ﴿إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾؛ أي: فضَّل (٢) موسى وأخطأ، ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وقيل: المعنى: فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وقيل: الناسى السامري؛ أي: ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل، كذا قال ابن الأعرابي، وقيل: فنسي السامري أن العجل لا يرجع إليهم قولًا، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا.
٨٩ - (الهمزة) في قوله: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ﴾ للاستفهام التوبيخي: داخلة على محذوف معلوم من السياق (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا يتفكرون فلا يرون ﴿أَنْ﴾ مخففة من الثقيلة؛ أي: أنه ﴿لا يرجع﴾ العجل ﴿إِلَيْهِمْ قَوْلًا﴾ ولا كلامًا ولا جوابًا؛ أي: ألا يتفكر السامري وأصحابه، فلا يعلمون أن العجل لا يرجع إليهم قولًا من الأقوال، وقرأ الجمهور: برفع ﴿يَرْجِعُ﴾ وقرأ أبو حيوة ﴿أن لا يرجع﴾ بنصب العين، ووافقه على ذلك الزعفراني، وابن صبيح، وأبان،
(٢) الشوكاني.
وجملة قوله: ﴿وَلَا يَمْلِكُ﴾ العجل ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لعابديه ﴿ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ معطوفة (٢) على جملة: ﴿أَلَّا يَرْجِعُ﴾؛ أي: أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرًا، ولا يجلب لهم نفعًا، فيخافوه كما يخافون فرعون، ويرجون منه كما يرجون من فرعون، فكيف يقولون ذلك، وفي الكلام (٣) توبيخ لهم، إذ عبدوا ما لا يملك ضرًا من ترك عبادته، ولا ينفع من عبده، وكان العجل فتنةً من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل.
قال في "التأويلات النجمية" (٤) فيه: إشارة إلى أن الله تعالى: إذا أراد أن يقضي قضاءً.. سلب ذوي العقول عقولهم، وأعمى أبصارهم بعد أن رأوا الآيات، وشاهدوا المعجزات، كأنهم لم يروا شيئًا فيها، فلهذا قال: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ﴾ يعني: العجل وعجزه ﴿أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا﴾؛ أي: شيئًا من القول ﴿وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ انتهى.
قال بعضهم:
أيَا سَامِعَاً لَيْسَ السَّمَاعُ بِنَافِعٍ | إِذَا أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا أَنْتَ سَامِعُ |
إِذَا كُنْتَ في الدُّنْيَا مِنَ الْخَيْرِ عَاجِزَاً | فَمَا أَنْتَ فِيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ صَانِعُ |
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: مستأنفة ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿آمَنْتُمْ﴾ (الهمزة): فيه للاستفهام التوبيخي، حذفت الهمزة الأولى، وسهلت الثانية، وهو فعل وفاعل ﴿لَهُ﴾ متعلق به ﴿قَبْلَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿آذَنَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على فرعون ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به والمصدر المؤول من ﴿أَنْ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿قَبْلَ﴾ تقديره: قبل إذني ﴿لَكُمْ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿لَكَبِيرُكُمُ﴾ (اللام): حرف ابتداء ﴿كبير﴾ خبر ﴿إن﴾ مرفوع و (الكاف): مضاف إليه، وجملة: ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة ﴿لَكَبِيرُكُمُ﴾ ﴿عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجمله: صلة الموصول ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان شأني فيكم.. فأقول لكم و (اللام): موطئة للقسم ﴿أقطعنّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على فرعون ﴿أَيْدِيَكُمْ﴾: مفعول به ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾: معطوف عليه ﴿مِنْ خِلَافٍ﴾ جار ومجرور حال من الأيدي والأرجل، أي: حالة كونها مختلفات في الاسم والصفة، والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ (الواو): عاطفة و (اللام): موطئة للقسم ﴿أصلبن﴾ فعل مضارع مبني على الفتح، و (الكاف): مفعول به، وفاعله: ضمير يعود على فرعون، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿لأقطعن﴾ علي كونها جواب القسم ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أصلبن﴾.
﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾ (الواو): عاطفة و (اللام) موطئة للقسم ﴿تعلمن﴾: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكين، في محل الرفع فاعل، أصله: لتعلمونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، والواو لالتقاء الساكنين، فصار ﴿تعلمُن﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿لأقطعن﴾. ﴿أَيُّنَا﴾ ﴿أي﴾: اسم استفهام مبتدأ مرفوع، و (نا) مضاف إليه ﴿أَشَدُّ﴾ خبره ﴿عَذَابًا﴾ تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل ﴿وَأَبْقَى﴾: معطوف على ﴿أَشَدُّ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب، سادة مسد المفعولين لعلم إن كانت على بابها، أو مسد المفعول الواحد، إن كانت عرفانية؛ لأن الفعل علق بـ ﴿أي﴾ الاستفهامية، ويجوز (١) على جعلها عرفانية، أن تكون ﴿أي﴾ موصولةً بمعنى الذي، وبنيت لأنها قد أضيفت، وحذف صدر صلتها و ﴿أَشَدُّ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والجملة الاسمية، صلة: ﴿أي﴾ الموصولة و ﴿أي﴾: الموصولة في محل النصب مفعول به لعلم العرفانية، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ في أحد أوجهه، كما تقدم.
﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا﴾ إلى موسى مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾ وان شئت قلت: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ﴾: ناصب وفعل ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على السحرة، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾: ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نُؤْثِرَكَ﴾. ﴿جَاءَنَا﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾ والجملة: صلة الموصول ﴿مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿جَاءَنَا﴾. ﴿وَالَّذِي﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿مَا﴾ وأخروا ذكر الباري من باب تقديم الأدنى على الأعلى
﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل ﴿بِرَبِّنَا﴾: متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾
﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤)﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب، أو الشرط، أو هما ﴿يَأْتِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿رَبَّهُ﴾: مفعول به ﴿مُجْرِمًا﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتِ﴾. ﴿فَإِنَّ﴾ (الفاء) رابطة لجواب من الشرطية ﴿إن﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿لَهُ﴾ خبر ﴿إن﴾ مقدم على اسمها ﴿جَهَنَّمَ﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة: ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَا يَمُوت﴾: ناف وفعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَمُوتُ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ضمير ﴿لَهُ﴾: أو من ﴿جَهَنَّمَ﴾ وجملة ﴿وَلَا يَحْيَى﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا يَمُوتُ﴾.
﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب، أو الشرط، أو هما ﴿يَأْتِهِ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)﴾.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾: بدل من ﴿الدَّرَجَاتُ﴾ أو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ متعلق به ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل والجملة الفعلية: في محل الرفع صفة لـ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من ﴿أولئك﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية: مستأنفة، في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنْ﴾: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿تَزَكَّى﴾: صلته.
﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية و (اللام) موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿أَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة ﴿إِلَى مُوسَى﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَوْحَيْنَا﴾ ﴿أَنْ﴾: مفسرة بمعنى، أي: ﴿أَسْرِ﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مفسرة لجملة ﴿أَوْحَيْنَا﴾. ﴿بِعِبَادِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَسْرِ﴾ ﴿فَاضْرِبْ﴾ (الفاء) عاطفة ﴿اضرب﴾: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَسْرِ﴾. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿اضرب﴾: قائم مقام المفعول الثاني؛ لأن ضرب هنا بمعنى جعل ﴿طَرِيقًا﴾
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾.
﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿أتبعهم﴾: فعل ومفعول ﴿فِرْعَوْنُ﴾ فاعل ﴿بِجُنُودِهِ﴾: جار ومجرور حال من فرعون؛ أي: حالة كونه متلبسًا بجنوده والجملة الفعلية: معطوفة على محذوف تقديره، ففعل موسى ما أمر به من الإسراء بهم، وضرب البحر، وسلوكه فتبعهم فرعون حالة كونه مصاحبًا بجنوده وأعوانه، حتى لحقوهم.
﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠)﴾.
﴿فَغَشِيَهُمْ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿غَشِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول ﴿مِنَ الْيَمِّ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَا﴾ الموصولة المذكورة بعده ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل ﴿غَشِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾ والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿غشي﴾ الأولى: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ﴾. ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ﴾ فعل وفاعل ﴿قَوْمَهُ﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿فَغَشِيَهُمْ﴾ ولكن في الكلام تقديم وتأخير؛ لأن إضلاله قومه كان قبل الغرق طبعًا ﴿وَمَا﴾ (الواو): عاطفة ﴿مَا﴾ نافية ﴿هَدَى﴾: فعل ماض، وفاعله، ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿أضل﴾. ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيل﴾: منادى مضاف، وجملة: النداء مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم بعد إغراق فرعون: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيل﴾. ﴿قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول للقول المحذوف، على كونها
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١)﴾.
﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ طَيِّبَاتِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا لهم: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾. ﴿طَيِّبَاتِ﴾: مضاف ﴿مَا﴾: مضاف إليه ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف تقديره، ما رزقناكموه ﴿وَلَا﴾ (الواو): عاطفة ﴿لَا﴾ ناهية جازمة ﴿تَطْغَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿كُلُوا﴾ ﴿فَيَحِلَّ﴾ (الفاء): عاطفة سببية ﴿يَحِلَّ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية، الواقعة في جواب النهي ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به ﴿غَضَبِي﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن طغيانكم فيه فحلول غضبي عليكم ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ﴾ (الواو): استئنافية ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الجواب، أو الشرط، أو هما ﴿يَحْلِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿غَضَبِي﴾: فاعل ومضاف إليه ﴿فَقَدْ﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا، لاقترانه بـ ﴿قد﴾. ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿هَوَى﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَن﴾ وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية: مستأنفة.
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)﴾.
﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤)﴾.
﴿وَمَا أَعْجَلَكَ﴾ الواو: عاطفة لقول محذوف معطوف على فعل محذوف، تقديره: فسار موسى إلى موعد الميقات مع قومه، فجاء وحده مستعجلاً، وقلنا له: ﴿ما أعجلك﴾ ﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي المضمّن للإنكار، في محل الرفع مبتدأ ﴿أَعْجَلَكَ﴾: فعل ماض ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿عَنْ قَوْمِك﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول قلنا، وجملة: قلنا: معطوفة على الجملة المحذوفة التي قدرناها آنفًا ﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، في محل النصب على المفعولية، وجملة النداء: في محل النصب مقول لقلنا ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿يَا مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿أُولَاءِ﴾: خبره ﴿عَلَى أَثَرِي﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ثان للمبتدأ، أو حال من الخبر، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَعَجِلْتُ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية، في محل النصب معطوفة على الجملة الاسمية، على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لِتَرْضَى﴾ (اللام) حرف جر وتعليل، ﴿ترضى﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل
﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا ﴿فَإِنَّا﴾ (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلت لك، وأردت بيان حال قومك.. فأقول لك ﴿إنا﴾. ﴿إنا﴾: ناصب واسمه ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿فَتَنَّا قَوْمَك﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ بَعْدِكَ﴾: متعلق بـ ﴿فتنا﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب. مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)﴾.
﴿فَرَجَعَ﴾ (الفاء): عاطفة مجردة عن التعقيب ﴿رَجَعَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أضل﴾. ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾: متعلق بـ ﴿رجع﴾. ﴿غَضْبَانَ أَسِفًا﴾: حالان من ﴿مُوسَى﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿يَا قَوْم﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة، للاستفهام التقريري، وأخطأ من قال: إنها للاستفهام الإنكاري ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول أول وفاعل، مجزوم بـ ﴿لم﴾ والمفعول الثاني محذوف، تقديره: إعطاء التوراة ﴿وَعْدًا﴾: مفعول مطلق ﴿حَسَنًا﴾ صفة له، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أَفَطَالَ﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أوعدكم ربكم وعدًا حسنًا، فطال عليكم العهد ﴿طال﴾: فعل ماض ﴿عَلَيْكُمُ﴾: متعلق به ﴿الْعَهْدُ﴾: فاعل، والجملة: معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والجملة
﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿مَا﴾: نافية ﴿أَخْلَفْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿مَوْعِدَكَ﴾: مفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿بِمَلْكِنَا﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿أَخْلَفْنَا﴾؛ أي: ما أخلفنا موعدك حال كوننا مالكين أمرنا، ولكنا غلبنا على أمرنا، من جهة السامري وكيده، ﴿وَلَكِنَّا﴾ (الواو): عاطفة ﴿لكنا﴾: ناصب واسمه ﴿حُمِّلْنَا﴾: فعل ونائب فاعل ﴿أَوْزَارًا﴾ مفعول ثان ﴿مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لـ ﴿أَوْزَارًا﴾ والجملة الاستدراكية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَخْلَفْنَا﴾. ﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿قذفناها﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿حُمِّلْنَا﴾. ﴿فَكَذَلِكَ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿كذلك﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف ﴿أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾: فعل وفاعل والجملة معطوفة على قذفنا والتقدير: فالقى السامري إلقاء مثل إلقائنا.
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩)﴾.
﴿فَأَخْرَجَ﴾ الفاء: عاطفة ﴿أخرج﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿السَّامِرِيُّ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أخرج﴾. ﴿عِجْلًا﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ لئلا يتوهم أنه من كلامهم، وما
التصريف ومفردات اللغة
﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ﴾ أصله (١): أأمن كأكرم، قلبت الهمزة الثانية ألفًا على القاعدة في اجتماع الهمزتين، ثم أُدخلت عليه همزة الاستفهام، فصار في الكلمة همزتان: غير المنقلبة ألفًا فإما أن يقرأ بتحقيقهما، وإما أن يُقرأ بحذف الأولى، التي هي همزة الاستفهام ﴿طَرِيقًا﴾ والمراد بالطريق: جنسه، فإن الطريق كانت
﴿وَلَا تَخْشَى﴾ (١) يقرأ إلا بإثبات الألف، وكان من حق من قرأ لا تخف جزمًا أن يقرأ ﴿لا تخشى﴾ بحذفها، كذا قاله بعضهم، وليس بشيءٍ لأن القراءة سنة متبعة، وفيها أوجه:
أحدها: أن يكون حالًا، وفيه إشكال وهو: أن المضارع المنفي بلا، كالمثبت في عدم مباشرة الواو له، وتأويله على حذف مبتدأ؛ أي: وأنت ﴿لا تخشى﴾.
والثاني: أنه مستأنف، أخبره تعالى أنه لا يحصل له خوف.
والثالث: أنه مجزوم بحذف الحركة تقديرًا، ومثله فلا تنسى في أحد القولين، إجراءً لحرف العلة مجرى الحرف الصحيح.
والرابع: أنه مجزوم أيضًا بحذف حرف العلة، وهذه الألف ليست تلك، أعني: لام الكلمة، وإنما هي ألف إشباعٍ أتي بها موافقةً للفواصل ورؤوس الآي، فهي كالألف في قوله: ﴿الرسولا﴾ و ﴿السَّبِيلَا﴾ و ﴿الظُّنُونَا﴾ وهذه الأوجه إنما يحتاج إليها في قراءة جزم ﴿لا تخف﴾ وأما من قرأه مرفوعًا.. فهذا معطوف عليه اهـ "سمين".
وَمُوْسَى الَّذِيْ رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ مُرْسَلٌ | وَمُوْسَى الَّذِيْ رَبَّاهُ جِبْرِيْلُ كَافِرُ |
والأسف: الحزين، والوعد الحسن: إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، والعهد: زمان الإنجاز ﴿مَوْعِدِي﴾؛ أي: وعدكم إياي بالثبات على الإيمان، وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف ﴿بِمَلْكِنَا﴾؛ أي: بقدرتنا مصدر ملك وهو مثلث الميم، وفي "القاموس" وشرحه "التاج": ملك يملك من باب تعب ملكًا وملكًا وملكًا، بفتح الميم وضمها وكسرها، وملكةً ومملكةً بفتح اللام، ومملكة وملكة بضمها: الشيء احتواه قادرًا على التصرف والاستبداد به، وملك على
﴿أَوْزَارًا﴾؛ أي: أثقالاً، وأرادوا بها حلي القبط التي استعاروها منهم، وأرادوا بالأوزار، أنها آثام وتبعات؛ لأنهم استعاروها منهم، وليس لهم فيها حق ﴿خُوَارٌ﴾ بضم الخاء: صوت البقر والعجاجيل ﴿جَسَدًا﴾ وفي "المصباح": الجسد جمع أجساد، وهو الجثة، وعبَّر عنه بالجسد مع أنه لا يقال الجسد إلا للحيوان العاقل، وهو الإنس والجن والملائكة، تشبيهًا له بالعاقل، كأنه غاير البقر، ولا يقال الغير الحيوان العاقل: جسد إلا للزعفران، فيقال له: جساد بفتح الجيم، وإلا للدم إذا يبس فيقال له جاسد أيضًا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية التبعية في قوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وتقريرها: أنه شبه استعلاء المصلوب على الجذوع، بظرفية المقبور في قبره، ثم استُعمل في المشبه ﴿فِي﴾ الموضوعة للمشبه به، أعني: الظرفية، فجرت الاستعارة في الاستعلاءِ، والظرفية، وبتبعيتها في لفظ على وفي وإذن، ففي على بابها من الظرفية، وهذا أصح الأقوال فيها، وقيل: إن ﴿فِي﴾ بمعنى على، فلا يكون في الكلام استعارة، وعبارة الدرديري في "شرحه" على "تحفة الأخواد": مثال الاستعارة في الحرف، استعارة لفظ ﴿فِي﴾ لمعنى على في قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾؛ أي: عليها، شبَّه الاستعلاء الكلي بالظرفية الكلية، بجامع التمكن في كل، واستُعير لفظ الظرفية للاستعلاء؛ أي: بقدر ذلك فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، التي هي معاني الحروف، فاستُعير لفظ ﴿فِي﴾ الموضوعة لكل جزئي من الجزئيات الظرفية، لمعنى على وهو الاستعلاء الخاص؛ أي: المتعلق بالتصليب، والجذوع في هذا المثال.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ وبين قوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَات...﴾ إلخ. والمقابلة: هي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَبَسًا﴾ لأنه لم يكن حين خاطبه الله تعالى يبسًا، ولكن باعتبار ما يؤول إليه، كقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ وقد تقدم القول فيه مفصلاً.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ للتهويل؛ أي: علاهم وغمرهم من الأمر الهائل، الذي ليس في طوقهم احتماله، مما لا يمكن إدراك كنهه، ولا سبر غوره، وهو من جوامع الكلم التي يقل لفظها، ويتشعب القول في معناها.
ومنها: الطباق بين ﴿وَأَضَلَّ﴾ و ﴿هَدَى﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ لأن المواعدة كانت لموسى - عليه السلام - لا لهم، فأضيفت إليهم لأدنى ملابسة؛ لأنه لما كانت المواعدة لإنزال كتاب بسببهم، إذ فيه صلاح دينهم ودنياهم وأخراهم.. أضيفت إليهم بهذه الملابسة، فهو من المجاز العقلي. اهـ "كرخي".
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَقَدْ هَوَى﴾ استعار لفظ الهوى، وهو: السقوط من علو إلى سفل، للهلاك والدمار.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ﴾ أي كثير المغفرة للذنوب.
ومنها: الاستفهام في قوله: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣)﴾.
فائدة: والاستفهام من الله تعالى لا يقع لاستدعاء المعرفة، ولكنه يخرج عن معناه الأصلي لأغراض أخر، تدرك من سياق الكلام، وقد أفاد السؤال هنا أغراضًا نوجزها فيما يلي:
٢ - تبكيت المسؤول وتفهيمه، وتنبيهه إلى خطإ ما جاء به من ترك القوم، وإفساح المجال للسامري كي يضلهم؛ لأنه مغرق في الضلالة، وما هو في الإضلال.
٣ - تعليم المسول آداب السفر، وهي: أنه ينبغي لرئيس القوم أن يتأخر عنهم في المسير، ليكون نظره محيطًا بهم، ونافذاً فيهم، ومهيمنًا عليهم، وقاطعًا الطريق على كل فتنة قد تتسرب إلى صفوفهم.
ومنها: إطلاق الماضي على المستقبل في قوله: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ﴾ على حد قوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْل...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل؛ لأنه لا يستجيب لهم دعاة، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا.. أكد هذا وزاد عليهم في التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما شرح قصص موسى - عليه السلام - مع فرعون أولًا، ثم مع السامري ثانيا، على نمط بديع، وأسلوب قديم.. بين لنبيه محمد - ﷺ - أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية، والقرون الغابرة، كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، نلقيه إليك تسليةً لقلبك، وإذهابًا لحزنك، إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك، من شدائد الأهوال، وتذكيرًا للمستبصرين في دينهم، وتأكيدًا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى (٢) حال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأهوال، التي تجعل المجرمين يتخافتون في حديثهم، وينسون مقدار لبثهم في الدنيا، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان، إلى نحو أولئك مما سلف.. قفَّى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر عن الجبال وأحوالها في ذلك اليوم، ثم الإجابة عنه، وضم إلى الجواب أمورًا أخر، تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله، فبيَّن أن الأرض في ذلك اليوم تكون مستوية، ولا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي، ولا يُسمع لهم كلام إلا همس، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، إلا إذا أذن لهم الرحمن، ورضي للمشفوع له قولًا، ثم ذكر أن الله هو العلم بما أصابوا من خير أو شر، وهم لا يحيطون به علمًا، وفي ذلك
(٢) المراغي.
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما ذكر سبحانه أنه أنزل الآيات المشتملة على الوعيد، المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها.. ذكر هنا أنه أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد، قرآنًا عربيًا، يفهمه العرب، ويقفون على ما فيه من النظم البديع، والأسلوب العجيب، الخارج عن طوق البشر، ثم بيَّن سبحانه نفع هذا القرآن لعباده، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي.
أسباب النزول (١)
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن المنذر، عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن السدي، قال: (كان النبي - ﷺ - إذا نزل إليه جبريل بالقرآن.. أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل ولم يحفظه فأنزل الله سبحانه ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾) وتقدم له سبب آخر، وهذا أصح.
التفسير وأوجه القراءة
٩٠ - واللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ﴾: موطئة للقسم، والجملة (٢) مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم، والتوبيخ لهم؛ أي: والله
(٢) الشوكاني.
﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ على ديني في عبادة الله سبحانه وتعالى، ولا تتبعوا السامري في عبادة العجل ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ في ترك عبادة العجل.
اعلم (٢): أن هارون - عليه السلام - سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه، لأنه زجرهم أولًا عن الباطل بقوله: ﴿إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ﴾ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾ ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله: ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ ثم دعاهم إلى شرائع بقوله: ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ فهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق، وهي إزالة الشبهات، ثم معرفة الله، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، وإنما قال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾ فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا.. قبل الله توبتهم؛ لأنه هو التواب الرحيم، فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود، وفي هذا الوعظ (٣) شفقة على نفسه وعلى الخلق، أما على نفسه: فإنه كان مأمورًا من عند الله بالأمر
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية (١): ﴿وأن ربكم﴾ بفتح الهمزة، والجمهور: بكسرها المصدر المنسبك منها: في موضع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: والأمر كون الرحمن ربكم، فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم: ولأن ربكم الرحمن، وقرأت فرقة: ﴿أنما﴾ و ﴿أن﴾ بفتح الهمزتين، وتخريج هذه القراءة على لغة سُليم، حيث يفتحون أن بعد القول مطلقًا،
٩١ - ثم بيَّن أنهم لم يسمعوا نصحه، ولم يُطيعوا أمره بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال عبدة العجل من قوم موسى في جواب هارون: ﴿لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: لن نزال على العجل وعبادته ﴿عَاكِفِينَ﴾؛ أي: مقيمين، قال الراغب: العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم، قال في "الكبير": رحمته تعالى خلَّصتهم من آفات فرعون، ثم إنهم لجهلهم قابلوه بالتقليد فقالوا: ﴿لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِين﴾؛ أي: لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ فننظر هل يقرنا على عبادته، أو ينهانا عنها، جعلوا رجوعه غايةً لعكوفه، لكن لا على طريق الوعد بترك عبادته عند رجوعه، بل بطريق التعليل والتسويف. اهـ "أبو السعود".
فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفًا من المنكرين لما فعله السامري، كأنهم قالوا: لن نقبل حجتك، ولا نقبل إلا قول موسى، وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف، وعدم إجابة طلب هارون،
٩٢ - فلما رجع موسى.. سمع الصياح والجلبة، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون.. أخذ شعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله، وكان طويل الشعر و ﴿قَالَ﴾ له: ﴿يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ﴾ والاستفهام فيه: توبيخي، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأنه
٩٣ - ﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾ (لا) مزيدة، وهو مفعول ثان لمنع، وهو عامل في (إذ)؛ أي: أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني في الغضب لله، والمقاتلة مع من كفر به، وأن تأتي عقبي، وتلحقني وتخبرني لأرجع إليهم، لئلا يقعوا في هلاك هذه الفتنة؟ أو غير مزيدة على أن ﴿مَنَعَكَ﴾ مجاز عن دعاك، والمعنى ما دعاك إلى ترك اتباعي، وعدمه في شدة الغضب لله ولدينه؟ ونظير ﴿لَّا﴾ هذه قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ في الوجهين.
والمعنى (٢): أي قال موسى لهارون: أي شيء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن معك؟ وقد كان موسى يرى أن مفارقة هارون لهم، وخروجه من بينهم، بعد تلك النصائح القولية، يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها، لما في ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمرٍ مبغوضٍ عليهم مما تشق على النفوس، وتقتضي ترك ذلك الأمر الذي يكرهه ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ فيما قدمت إليك من قولي. ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ وكان (٣) ظهور العجل في السادس والثلاثين يومًا من خروج موسى، وعبدوه، وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين، فعاتبهُ موسى على عدم اتباعه، لما رآهم قد ضلوا. قرأ (٤) ابن كثير، وأبو عمرو: ﴿أن لا تتبعني﴾ بياء ساكنة في الوصل، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء، وروى إسماعيل بن جعفر عن نافع: ﴿أن تتبعني أفعصيت﴾ بياء مفتوحة، وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو، سواءً وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الوصل والوقف، وفي "الجمل" وهذه الياء من ياءات الزوائد، فحقها أن تحذف في الرسم، كما هي
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) زاد المسير.
٩٤ - فلما أقام بينهم (١)، ولم يبالغ في الإنكار عليهم.. نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره، فترفق هارون في خطاب موسى استعطافاً له، وترقيقًا لقلبه، إذ أضافه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه، حيث امتلأ موسى غضبًا مما رأى، وألقى ما في يده من الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فـ ﴿قَالَ﴾ هارون ﴿يا ابن أم لا تأخذ بـ﴾ شعر ﴿لحيتي ولا بـ﴾ شعر ﴿رأسي﴾، وقد روي: أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله، وكان - عليه السلام - شديدًا غضوبًا لله تعالى، وقد شاهد مشاهد، وغلب على ظنه تقصير هارون - عليه السلام - ففعل ما فعل، والأم (٢) بإزاء الأب، وهي الوالدة القريبة التي ولدته، والبعيدة التي ولدت من ولدته، ويقال لكل ما كان أصلًا لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه ﴿أمَّ﴾ وأصله: يا ابن أمي: أبدلت الياء ألفًا فقيل: يا ابن أما، ثم حذف الألف واكتفي بالفتحة لكثرة الاستعمال، وطول اللفظ، وثقل التضعيف. وقرىء: ﴿يا ابن أم﴾ بالكسر بحذف الياء، والاكتفاء بالكسرة، وقد مر اختلاف القراء فيه في سورة الأعراف، وخص الأم بالإضافة استعظاماً لحقها، وترقيقًا لقلبه، واعتدادًا لنسبها، وإشارةً إلى أنهما من بطن واحد، وإلا فالجمهور على أنهما لأب وأم، قال بعض الكبار: كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة، كما قال
(٢) روح البيان.
ثم بيَّن علة هذا النهي بأني لست عاصيًا أمرك، ولا مقصرًا في المصلحة، بل ﴿إِنِّي خَشِيتُ﴾ وخفت لو قاتلت بعضهم ببعض، وتفرقوا ﴿أَنْ تَقُول﴾ لي ﴿فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ برأيك، وأراد بالتفريق: ما يستتبعه القتال من تفريق لا يُرجى بعده الاجتماع؛ أي: خشيت إن فارقتهم واتبعتك، أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا، فتقول أوقعت الفرق فيما بينهم ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾؛ أي: لم تحفظ وصيتي لك في حسن الخلافة عليهم، ويريد به قوله: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ فإن الإصلاح: ضم النشر وحفظ جماعات الناس، والمداراة بهم إلى أن ترجع إليهم، وترى فيهم ما ترى، فتكون أنت المتدارك للأمر بنفسك، المتلاقي برأيك، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرف من قوله: ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ وعلى هذا التفسير يكون قوله ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ﴾ معطوفًا على ﴿فَرَّقْتَ﴾ والياء في ﴿قَوْلِي﴾ واقعة على موسى؛ أي: وخشيت أن تقول لي إنك: لم ترقب قولي لك: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين، كالسمين، والبيضاوي، والخازن، والخطيب، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ﴾ معطوفًا على ﴿أَنْ تَقُولَ﴾ فتكون الياء في ﴿قَوْلِي﴾ واقعةً على هارون؛ أي: وخشيت عدم ترقبك وانتظارك لقولي، حتى تتأمل فيه، وتفهم منه عذري اهـ
(٢) الكشاف.
٩٥ - فقيل: قال موسى موبخًا له: هذا شأنهم ﴿فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾؛ أي: ما شأنك وما مطلوبك فيما فعلت، وما الذي حملك عليه، والخطب لغةً: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، وهو من تقاليب الخبط، خاطبه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه، ويفعل به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالًا للمفتونين به، ولمن خلفهم من الأمم
٩٦ - ﴿قَالَ﴾ السامري مجيبًا لموسى - عليه السلام - ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾؛ أي: رأيت ما لم يره القوم، أو علمت بما لم يعلموا، وفطنت لما لم يفطنوا له، وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرس الحياة، وكان كلما وضع الفرس يديه أو رجليه على الطريق اليبس.. يخرج من تحته النبات في الحال، فعرف أن له شأنًا، فأخذ من موطئه حفنة من تراب.
وقرأ الأعمش وأبو السماك (٢): ﴿بصرت﴾ بكسر الصاد ﴿بما لم تبصروا﴾ بفتح الصاد، وقرأ عمرو بن عبيد ﴿بصرت﴾ بضم الباء وكسر الصاد ﴿بما لم تبصروا﴾ بضم التاء وفتح الصاد، مبنيًا للمفعول فيهما، وقرأ الجمهور ﴿بصرت﴾ بضم الصاد، وحمزة، والكسائي، وأبو بحرية، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذرٍ، وابن سعدان، وقعنب ﴿تبصروا﴾ بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل، وباقي السبعة ﴿يَبْصُرُوا﴾ بياء الغيبة. وروي: أن السامري لما قال:
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً﴾ بالضاد المعجمة فيهما؛ أي: أخذت بكفي على الأصابع، وقرأ عبد الله، وأبيّ، وابن الزبير، وحميد، والحسن: ﴿فقبضت قبضة﴾ بالصاد فيهما، وهو الأخذ: بأطراف الأصابع، وقرأ الحسن - بخلاف عنه - وقتادة، ونصر بن عاصم: بضم القاف والصاد المهملة، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم، وأبقى الإطباق مع تشديد التاء. ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾؛ أي: نبذت تلك القبضة، وطرحتها في الحلي المذابة، المسبوكة، على صورة العجل، أو في فم العجل، فكان ما كان.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (٣): ﴿فنبذتها﴾ بالإدغام ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾؛ أي: وزينت (٤) لى نفسي بشقاوتي ومحنتي، تزيينًا كائنًا مثل ذلك التزيين الذي فعلته، من القبض والنبذ، فالمعنى: لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري، بل اتبعت هواي فيه، والتسويل (٥): تزيين النفس لما تحرص عليه،
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
(٤) المراح.
(٥) روح البيان.
وحاصل جوابه: أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء وغوائها، لا بشيءٍ آخر من البرهان العقلي، والإلهام الإلهي، أو المعنى؛ أي: كما زينت لى نفسي أولًا اتباع سنتك، واقتفاء أثرك، زينت لي أيضًا ترك ذلك بمحض الهوى، لا لشيء آخر من برهان عقلي، أو إلهام إلهي، ولما سمع موسى من السامري ما سمع.. بيَّن له ما سينزل به من الجزاء في الدنيا والآخرة، وذكر له حال إلهه، أما جزاؤه هو في الدنيا..
٩٧ - فما حكاه سبحانه عنه ﴿قَالَ﴾ له موسى - عليه السلام - مكافئًا له ﴿فَاذْهَبْ﴾ يا سامري طريدًا بين الناس ﴿فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ﴾؛ أي: ثابت لك مدة حياتك عقوبة ما فعلت ﴿أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ﴾؛ أي: قولك: لا مساس؛ أي: لا يمسني أحد، ولا أمس أحدًا خوفًا من أن تمسكما الحمى؛ أي: فإن قولك: لا مساس ثابت لك في مدة حياتك، لا ينفك عنك، فكان يصيح بأعلى صوته لا مساس؛ أي (١): لا أَمَس ولا أُمَس، إذا مسه أحدهم.. أخذت الحمى الماس والممسوس، فكان إذا أراد أحد أن يمسه.. صاح خوفًا من الحمى وقال: لا مساس، وحرم موسى عليهم ملاقاته، ومواجته، ومكالمته، ومبايعته، وغيرها مما يعتاد جريانه بين الناس من المعاملات، فكان يهيم في البرية وحيدًا طريدًا مع السباع، والوحوش. وفي "التأويلات النجمية" (٢): يشير إلى أن قصدك ونيتك فيما سولت نفسك أن تكون مطاعًا متبوعًا، آلفًا مألوفًا، فجزاؤك في الدنيا أن تكون طريدًا وحيدًا، ممقتًا ممقوتًا متشردًا متنفرًا، تقول لمن رآك: لا تمسني ولا أمسك فنهلك. اهـ. وذلك
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي قال له موسى: اذهب فأنت طريد من بين الناس، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدًا، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس؛ أي: لا يماسني أحد ولا أماس أحدًا، قال مقاتل: إن موسى - عليه السلام - أمره هو وأهله بالخروج من محلة بني إسرائيل، فخرج طريدًا في البراري.
وقصارى ذلك: أنه خاف وهرب، وجعل يهيم في الصحارى والقفار، حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك، وقيل (٢): أراد موسى قتله، فمنعه الله من قتله؛ لأنه كان شيخًا، قال بعض مشايخنا: وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خالفوا أمر الرسول - عليه السلام - أن لا يكلموا ولا يخالطوا، وأن يعتزلوا نساءهم، حتى تاب الله عليهم.
وقرأ الجمهور: ﴿لَا مِسَاسَ﴾ بفتح السين والميم المكسورة، ومساس: مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بـ ﴿لا﴾ التي لنفي الجنس، وهو نفي يريد به النهي، أي: لا تمسني ولا أمسك، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وقعنب: بفتح الميم وكسر السين، فقال صاحب "اللوامح": هو على صورة نزال ونظار، من أسماء الأفعال، بمعنى أنزل وانظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف، ولا تدخل عليها لا النافية، التي تنصب النكرات، نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل، فتقديره: لا يكون منك مساس، ولا أقول مساس، ومعناه: النهي؛ أي: لا تمسني. انتهى.
وظاهر هذا: أن مساس: اسم فعل، وقال الزمخشري: ﴿لَا مِسَاسَ﴾ بوزن فجار، معدول عن المصدر الذي هو المسة، كفجار معدولًا عن الفجرة.
وأما جزاؤه في الآخرة: فقد ذكره بقوله: ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا﴾؛ أي: وعدًا في
(٢) البحر المحيط.
وأما حال إلهه: فقد بيَّنه بقوله: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ﴾؛ أي: إلى هذا المعبود بزعمك ﴿الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾؛ أي: صوت مقيمًا على عبادته، والله ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ بالنار (٣)، ويؤيده قراءة: ﴿لنحرقنه﴾ من الإحراق، وهو إيقاع نارٍ ذات لهب في الشيء، بخلاف الحرق فإنه إيقاع حرارة في الشيء من غير لهب، كحرق الثوب بالدق أو لنحرقنه بالمبرد، على أنه مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد، ويعضده قراءة، ﴿لنحرقنه﴾ بفتح النون وضم الراء؛ أي: لنبردنه، يقال: بردت الحديد بالمبرد، والبرادة: ما سقط منه، وقرأ (٤) الجمهور: ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ بضم النون وتشديد الراء، من حرقه يحرقه.
وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو جعفر، وأبو رجاء، والكلبي: ﴿لنحرقنه﴾ بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء، من أحرقه يحرقه رباعيًا، وقرأ علي، وابن عباس، وحميد، وأبو جعفر - في رواية - وعمرو بن فائد، وابن محيصن، وأشهب والعقيلي: ﴿لنحرقنه﴾ بفتح النون وضم الراء مخففةً، من حرقت الشيء: أحرقه وأحرقه بضم راء المضارع وكسرها، إذا بردته، وحككت بعضه ببعض، أي: لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد: المحرق، والقراءة الأولى أولى، ومعناها
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿لَنَنْسِفَنَّهُ﴾ بكسر السين، وقرأت فرقة - منهم عيسى -: بضم السين، وقرأ ابن مقسم: ﴿لننسفنه﴾ بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين، ولقد بر موسى (٥) في قسمه، وفعل ما أوعده به، كما يدل على ذلك قوله: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِك﴾ ولم يصرح بهذا تنبيهًا إلى وضوحه واستحالة خلفه في وعيده المؤكد باليمين، وفي فعله ذلك به عقوبة للسامري، وإظهار لغباوة المفتونين به، لمن له أدنى نظر،
٩٨ - وبعد أن فرغ من إبطال الباطل، شرع في تحقيق الدين الحق فقال: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ﴾؛ أي: معبودكم المستحق منكم العبادة؛ أي: لا معبود لشيء من الأشياء موجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء، بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية، لا هذا العجل الذي فتنتم به؛ أي: ليس هذا بإلهكم، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم: الله الذي لا
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
(٥) المراغي.
٩٩ - و ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ الكاف: صفة لمصدر محذوف تقديره؛ أي: نقص عليك يا محمد ونخبر لك ﴿مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾؛ أي (٣): من أخبار الأمور الماضية، والأمم الدارجة، قصصًا مثل قص قصة موسى عليك فيما مر، تسليةً لك وزيادةً في علمك، ودلالةً على صدقك، وتذكيرًا للمستبصرين من أمتك، والقص (٤): تتبع الأثر، والقصص: الأخبار المتتبَّعة، و ﴿مِنْ﴾ مفعول ﴿نَقُصُّ﴾ بالاعتبار مضمونه، والنبأ: خبر ذو فائدةٍ عظيمةِ، يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأ، حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي فيه نبأ: أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر وخبر الله تعالى وخبر النبي - عليه السلام -.
(٢) الشوكاني.
(٣) البيضاوي.
(٤) روح البيان.
والحاصل: أن الله - سبحانه وتعالى - يخاطب نبيه (١) - ﷺ - ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى، وما جرى له مع فرعون وجهوده، على هذا الأسلوب الرائع، والمسلك البديع، يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت عليه الأمم الخالية، ليكون له ذلك سلوةً، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لاقوه من أممهم من شديد العناد، والجحود والتكذيب، ومكابدة الشدائد والأهوال ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ﴾ يا محمد؛ أي: ولقد أعطيناك ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: من عندنا ﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: كتابًا شريفًا (٢) مطويًا على هذه الأقاصيص والأخبار، حقيقًا بالتذكر به، جديرًا بالتفكر فيه، والاعتبار به لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعط نبي قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاوٍ للأحكام التي فيها صلاح حال البشر في دينهم ودنياهم، مشتمل على مكارم الأخلاق وسامي الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم، وينبه ذكرها، وفي "الكبير" في تسميته به وجوه:
الأول: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه في أمر دينهم ودنياهم.
والثاني: أن يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة.
والثالث: فيه الذكر والشرف لك ولقومك، وسمى الله سبحانه كل كتبه ذكرًا فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾
١٠٠ - ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ﴾؛ أي: عن ذلك الذكر العظيم الشأن، الجامع لوجوه السعادة والنجاة، فلم يعتبر، ولم يعمل به لإنكاره إياه، وتكذيبه به، وابتغى الهدى من غيره. و ﴿مَنْ﴾ إما شرطية أو موصولة، وأيًا ما كانت، فالجملة صفة لـ ﴿ذِكْرًا﴾ ﴿فَإِنَّهُ﴾؛ أي: فإن ذلك المعرض عنه ﴿يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾؛ أي: عقوبةً ثقيلةً على كفره، وسائر ذنوبه، وتسميتها وزرًا: تشبيهًا في ثقلها على المعاقب، وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يقدح الحامل، وينقض
(٢) روح البيان.
١٠١ - حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾؛ أي: ماكثين ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في ذلك الوزر، أي: في عقوبته مكثًا مؤبدًا، لا يجدون عنها محيصًا، ولا انفكاكًا، فهو حال من الضمير المستتر في يحمل، والجمع: بالنظر إلى معنى ﴿من﴾ لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها فيها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَحْمِلُ﴾، مضارع حمل الثلاثي، مخففًا مبنيًا للفاعل، وقرأت فرقة - منهم داود بن رفيع -: ﴿يحمل﴾ مشدد الميم من حُمّل المضعف، مبنيًا للمفعول؛ لأنه يكلف ذلك، لا أنه يحمله طوعًا ووزرًا، مفعول ثان ﴿وَسَاءَ﴾؛ أي: وبئس الوزر ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للمعرضين ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ من جهة كونه ﴿حِمْلًا﴾ ثقيلًا ﴿لَهُمْ﴾، والمخصوص بالذم: محذوف تقديره: وزرهم ﴿وَسَاءَ﴾ (٢) هنا هي التي جرت مجرى يئس، لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم، لفساد المعنى، و (اللام) في ﴿لَهُمْ﴾: للبيان كهي في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ لا متعلقة بـ ﴿ساء﴾ كأنه لما قيل: ﴿ساء﴾ قيل: لمن يقال هذا؟ فأجيب بـ ﴿لَهُمْ﴾ وجمع الضمير في ﴿لَهُمْ﴾ حملاً على معنى ﴿مَنْ﴾ بعد الحمل على لفظها في ﴿أَعْرَضَ﴾ وفي ﴿فَإِنَّهُ﴾ يحمل، وإعادة يوم القيامة لزيادة التقرير والتهويل؛ أي: وبئس عقاب وزرهم الذي حملوه يوم القيامة، جزاءً إعراضهم وكفرهم، وسائر ذنوبهم،
١٠٢ - وقوله: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ بدل من يوم القيامة، أو منصوب بإضمارك اذكر؛ أي: اذكر يا محمد لقومك، ولسائر الناس قصة يوم ينفخ إسرافيل في القرن، الذي التقمه للنفخ ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: ونخرج المتوغلين في الإجرام والآثام،
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (١): هذا اليوم؛ أي: يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية، إيذانًا بالقيام للحشر والحساب، ويوم يساق فيه المجرمون إلى المحشر شاحبي الألوان، زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال، ومقاساة الشدائد، التي تحل بهم، والجمع (٢) بين هذه الآية وبين قوله: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ ما قيل: من أن ليوم القيامة حالاتٍ ومواطن، تختلف فيها صفاتهم، ويتنوع عندها عذابهم، وقرأ الجمهور (٣): ﴿يُنْفَخُ﴾ مبنيًا للمفعول ﴿وَنَحْشُرُ﴾ بالنون مبنيًا للفاعل بنون العظمة، وقرأ أبو عمرو، وابن محيصن، وحميد ﴿ننفخ﴾ بنون العظمة لـ ﴿نحشر﴾ أسند النفخ إلى الآمر به، والنافخ: هو إسرافيل، ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة، وقرىء ﴿ينفخ﴾ و ﴿يحشر﴾ بالياء مبنيًا للفاعل، وقرأ الحسن، وابن عياض في جماعة ﴿في الصور﴾ على وزن درر، والحسن ﴿ينفخ﴾ بالياء مبنيًا للمفعول و ﴿يحشر﴾ مبنيًا للفاعل وبالياء؛ أي: ويحشر الله تعالى،
١٠٣ - وقوله: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾ استئناف (٤) لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ، ويصح أن يكون حالًا من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ والتخافت: إسرار المنطق وإخفاؤه؛ أي: يقول بعضهم لبعض خفيةً، من غير رفع صوت، بسبب امتلاء صدورهم من الخوف والهوان، أو استيلاء الضعف عليهم ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾؛ أي: ما أقمتم وما مكثتم في الدنيا، أو في القبر
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
١٠٤ - قال الله - سبحانه -: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ وهو مدة لبثهم ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ﴾ وأوفرهم وأوفاهم ﴿طَرِيقَةً﴾؛ أي: رأيًا وعقلًا، وأعلمهم عند نفسه: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾ أي: ما لبثتم إلا يومًا واحدًا، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، لكونه أدل على شدة الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق.
١٠٥ - ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾؛ أي: ويسألك يا محمد مشركو مكة على سبيل الاستهزاء ﴿عَنِ﴾ حال ﴿الْجِبَالِ﴾ يوم القيامة، وقد كانوا سألوا النبي - ﷺ - عن ذلك، فأمره الله - سبحانه - أن يجيب عنهم، فقال: ﴿فَقُلْ﴾ و (الفاء) (٣) في قوله ﴿فَقُلْ﴾ يا محمد: واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن سألوك فقل جوابًا لهم ﴿يَنْسِفُهَا﴾؛ أي: يقلعها ﴿رَبِّي﴾ من أصولها ﴿نَسْفًا﴾؛ أي: قلعًا ثم يصيرها رملًا يسيل سيلًا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش، تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور
١٠٦ - والضمير في ﴿فَيَذَرُهَا﴾ عائد إلى ﴿الْجِبَالِ﴾ باعتبار مواضعها؛ أي: فيذر
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
١٠٧ - والخطاب (١) في قوله: ﴿لَا تَرَى فِيهَا﴾ لكل من يتأتى منه الرؤية، وهو استئناف مبين لكيفية القاع الصفصف؛ أي: لا ترى أيها المخاطب لا بالبصر ولا بالبصيرة فيها؛ أي: في مقار الجبال ومواضعها بعد نسفها ﴿عِوَجًا﴾؛ أي: انخفاضًا ﴿وَلَا أَمْتًا﴾؛ أي: ارتفاعاً يسيرًا، قال الزمخشري: الأمْتُ: النتوء اليسير.
والمعنى: أي (٢) ويسألك المشركون أيها الرسول، عن الجبال كيف تكون يوم القيامة، فقل مجيبًا لهم: يدكها ربي دكًا، ويصيِّرها هباءً تذروه الرياح، فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساءً مستويةً، لا نبات فيها ولا بناء، ولا ارتفاع ولا انخفاض.
وخلاصة هذا: لا ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابيةً، ولا مكانًا مرتفعًا ولا منخفضًا
١٠٨ - ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ نسفت الجبال، على إضافة اليوم إلى وقت النسف، وهو ظرف لقوله: ﴿يَتَّبِعُونَ﴾؛ أي: الناس ﴿الدَّاعِيَ﴾ الذي يدعوهم إلى الموقف والمحشر، وهو إسرافيل - عليه السلام - يدعو الناس عند النفخة الثانية قائمًا على صخرة بيت المقدس، كما قيل، ويقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة، قوموا إلى عرض الرحمن، فيقبلون من كل أوب صوبه؛ أي: من كل جانبٍ إلى جهته ﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾؛ أي: لا ميل ولا انحراف لهم عن دعائه؛ أي: لا يزيغون (٣) عنه يمينًا ولا شمالًا، بل يأتونه
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالًا من ﴿الدَّاعِيَ﴾ ويجوز أن تكون نعتاً لمصدر محذوف، تقديره: يتبعونه اتباعًا لا عوج له، والضمير: في ﴿لَهُ﴾ فيه أوجه:
أظهرها: أنه يعود على ﴿الدَّاعِيَ﴾؛ أي: لا عوج لدعائه، بل يُسمع جميعهم، فلا يميل إلى ناس دون ناس.
والثاني: قيل هو عائد على ذلك المصدر المحذوف؛ أي: لا عوج لذلك الاتباع.
والثالث: أن في الكلام قلبًا، تقديره: لا عوج لهم عنه اهـ "سمين".
﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ﴾؛ أي: سكنت وخفتت وخفضت ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾؛ أي: لهيبته، وذلت أصحابها، وخضعت لجلاله سبحانه، والخشوع: الخضوع، وهو: التواضع والسكون، أو هو في الصوت والبصر، والخضوع في البدن، وفي "المفردات" (١) الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد على الجوارح، والضراعة: أكثر ما يستعمل فيما يوجد في القلب، ولذلك قيل فيما روي: إذا ضرع القلب.. خشعت الجوارح، والصوت: هواء متموج بتصادم جسمين، وهو عام، والحرف: مخصوص بالإنسان ﴿فَلَا تَسْمَعُ﴾ أيها المخاطب ويا محمد حينئذ ﴿إِلَّا هَمْسًا﴾؛ أي: إلا صوتًا خفيًا، وهو صوت وطء الأقدام في مشيها إلى المحشر، كصوت أخفاف الإبل في مشيها، يقال: همست الإبل: إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض اهـ "سمين"، ومعنى ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾؛ أي: يوم (٢) يرى الناس هذه الأهوال.. يتبعون صوت داعي الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف، ولكنهم سراعًا إليه يقبلون، إذا أمروا بشيء قالوا: لبيك ونحن بين يديك والأمر منك وإليك، كما قال ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾ وقال: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ ومعنى: {وَخَشَعَتِ
(٢) المراغي.
١٠٩ - قال أبو مسلم: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة ﴿لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾؛ أي: لا تنفع شفاعة الشافعين أحدًا من المشفوعين ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾؛ أي: إلا مشفوعًا أذن الرحمن في أن يشفع له؛ أي: في شفاعة الشافعين له ﴿وَرَضِيَ﴾ الرحمن ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك المشفوع ﴿قَوْلًا﴾ من أقواله الحاصلة له في الدنيا، وهو قول: شهادة أن لا إله إلا الله، بأن مات على الإِسلام وإن عمل السيئات، وأما من عداه فلا تكاد تنفعه، وإن فرض صدورها من الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كما قال تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)﴾ وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق، وهي نافعة لهم، والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ من أعم المفاعيل كما قدرنا آنفًا، أو المعنى: يومئذ لا تنفع شفاعة الشافعين، ولا تُقبل منهم، إلا من أذن له الرحمن، أي: إلا شفاعة شافعٍ أذن له الرحمن في شفاعته للغير، ورضى له قولًا في طلب شفاعته للغير، وعلى هذا المعنى فـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة في محل الرفع على البدلية من الشفاعة، ولكنه على حذف مضاف، تقديره؛ أي: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن، ورضي له قولًا، قال الإِمام الراغب: الشفاعة (١): الانضمام إلى آخر ناصرًا له، وسائلًا عنه، وأكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبةً إلى من هو أدنى منه، ومنه الشفاعة في القيامة، والإذن في الشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه، كما سيأتي.
المعنى: أي يومئذ (٢) لا تنفع الشفاعة أحدًا، إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضى له قولًا صدر منه، والفاسق قد قال قولًا يرضاه الرحمن، فقد قال: لا إله إلا الله، كما روي عن ابن عباس.
(٢) المراغي.
١ - إذن الله للشافع بالشفاعة فيه.
٢ - رضا الله عن قول صدر من المشفوع له، ليأذن بشفاعة الشافع له.
وقصارى ذلك: أنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي الله سبحانه، وبمعنى الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وقوله: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ وقوله: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ وقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٣٨)﴾
١١٠ - ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه.. علل ذلك بقوله: ﴿يَعْلَمُ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من (١) أمور الآخرة؛ أي: يعلم سبحانه ما بين أيدي المتبعين الداعي، وهم الخلق جميعًا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من أمور الدنيا ﴿و﴾ هم ﴿لا يحيطون به﴾؛ أي: بما بين أيديهم وما خلفهم ﴿عِلْمًا﴾؛ أي: لا يعلمون ذلك. وقيل: المعنى: يعلم الله سبحانه ما بين أيديهم، أي (٢): ما تقدمهم من الأحوال وما خلفهم؛ أي: وما بعدهم مما يستقبلون.
والمعنى (٣): أي يعلم ما بين أيدي عباده من شؤون الدنيا، وما خلفهم من أمور الآخرة، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله، وقيل: المعنى: ولا يحيطون به (٤) تعالى علمًا؛ أي: لا تحيط علومهم بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته؛ لأنه تعالى قديم، وعلم المخلوقين لا يحيط بالقديم، قال الراغب: والإحاطة بالشيء: هي أن تعلم وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به إيجاده، وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله - سبحانه وتعالى -
١١١ - ولما ذكر خشوع الأصوات.. أتبعه خضوع ذويها فقال: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ﴾؛ أي: ذلت وجوه الخلائق وذواتهم كلها، صالحةً وعاصيةً، إن قلنا: إن ﴿أل﴾ فيه للجنس، أو
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
مَلِيْكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ | لِعِزَّتِهِ تَعْنُوْ الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ |
والمعنى؛ أي (٢) وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، أو تارك لأوامره، منغمس في معاصيه.
١١٢ - ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي (٣): بعض الصالحات لـ ﴿من﴾ مفعول ﴿يَعْمَلْ﴾ باعتبار مضمونه ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ أي: والحال أنه مؤمن بالله ورسوله، وبجميع ما جاء به؛ لأن الإيمان شرط في صحة الطاعات، وقبول الحسنات ﴿فَلَا يَخَافُ﴾ من الله ﴿ظُلْمًا﴾ بزيادةٍ في سيئاته، أو بمنع ثواب مستحق بموجب الوعد ﴿وَلَا هَضْمًا﴾ بنقص من حسناته، أو ولا كسرًا منه بنقص، قيل: الظلم (٤) والهضم متقاربان، وفرق القاضي الماوردي بينهما فقال: الظلم: منع جميع الحق، والهضم: منع بعضه.
والمعنى: أي (٥) ومن يعمل صالح العمل على قدر طاقته، وهو مؤمن بربه
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) الفتوحات.
(٥) المراغي.
وخلاصة ذلك: أنه لا يؤاخذ العبد بذنب لم يعمله، ولا تبطل له حسنة قد عملها.
وقرأ الجمهور: ﴿فَلَا يَخَافُ﴾ على الخبر؛ أي: فهو لا يخاف، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد: ﴿فلا يخف﴾ على النهي
١١٣ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: وكما أنزلنا عليك ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها ﴿وأنزلناه﴾؛ أي؛ أنزلنا القرآن كله، وإضماره من غير سبق ذكر للإيذان بنباهة شأنه، وكونه مركوزًا في العقول، حاضرًا في الأذهان، قال الزمخشري: وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات، أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة. اهـ وعبارة "السمين". ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ﴾: معطوف على قوله: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ اهـ قال في "بحر العلوم": ويجوز أن يكون ذلك إشارةً إلى مصدر ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ أي: مثل ذلك الإنزال البين ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ حال كونه ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾؛ أي (١): بلغة العرب ليفهموه، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر، نازلًا من عند خلاق القوى والقدر.
والمعنى: وكما أنزلنا (٢) ما ذكر من الوعد وأحوال يوم القيامة وأهوالها، أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربي مبين، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم، ويتفقهوا بدراسته، ويسعدوا بالعمل بما حواه، مما فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم، وفي "التأويلات النجمية"؛ أي: كما أنزلنا الصحائف والكتب إلى آدم وغيره من الأنبياء بألسنتهم ولغاتهم المختلفة، كذلك أنزلنا إليك قرآنًا عربيًا بلغة العرب، وحقيقة كلامه التي هي الصفة القائمة بذاته، منزهة عن الحروف والأصوات المختلفة المخلوقة، وإنما الأصوات والحروف تتعلق باللغات والألسنة
(٢) المراغي.
ومعنى الآية: أي وخوفناهم بضروب من الوعيد، كي يجتنبوا الشرك، والوقوع في المعاصي والآثام، أو يحدث لهم عظةً تدعوهم إلى فعل الطاعات.
وخلاصة ذلك: أنهم بدراستهم: إما أن يصلوا إلى مرتبة هي ترك المعاصي والوقوع في الآثام، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هي فوق ذلك، وهي: أن يفعلوا الطاعات، ويؤدوا الفرائض والواجبات.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
الحاصل: أنه سبحانه، لما بيَّن (١) للعباد عظيم نعمته عليهم، بإنزال القرآن.. نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء؛ أي: جل الله عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون في صفاته، فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، وإنه الحق؛ أي: ذو الحق، ولا يخفى (٢) ما في هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن، وبيان أن قواعده وزواجره سياسات إلهية، فيها صلاح الدارين، لا يحيد عنها إلا من خذله الله، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله، لا يحوم الباطل حول حماه، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره ﴿وَلَا تَعْجَلْ﴾ يا محمد ﴿بِالْقُرْآنِ﴾؛ أي: بقراءته في نفسك ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى﴾ ويؤدي ﴿إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾؛ أي: إلقاؤه وقراءته، ويفرغ منه ويتم جبريل تبليغه لك، وكان (٣) محمد - ﷺ - إذا ألقى إليه جبريل الوحي.. يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ، فنهي عن ذلك، إذ ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها.
المعنى: لا تعجل بقراءة القرآن خوف النسيان والانفلات قبل أن يستتم جبريل قراءته، ويفرغ من الإبلاغ والتلقين، فإذا بلَّغ فاقرأه، وقال أبو مسلم: ولا تعجل بقراءته في نفسك، أو في تأديته إلى غيرك، أو في اعتقاد ظاهره، أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره، وفي هذا أنزل قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُقْضَى إِلَيْكَ﴾ مبنيًا للمفعول ﴿وَحْيُهُ﴾: مرفوع به، وقرأ عبد الله، والجحدري والحسن، وأبو حيوة، ويعقوب، وسلام، والزعفراني، وابن مقسم: ﴿نقضي﴾ بنون العظمة، مفتوح الياء ﴿وحيه﴾: بالنصب، وقرأ الأعمش؛ كذلك إلا أنه سكن الياء من ﴿نقضي﴾ قال صاحب، اللوامح لا وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء، بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفًا. انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" وفي قوله: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ إشارة إلى سكوته عند قراءة القرآن، واستماعه والتدبر في معانيه وأسراره، للتنور بأنواره، وكشف حقائقه، ولهذا قال: ﴿وَقُلْ﴾ يا محمد في نفسك ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾؛ أي: فهمًا (٢) لإدراك حقائقه، فإنها غير متناهية، وتنورًا بأنواره، وتخلقًا بخلقه، وقال بعضهم: ﴿عِلْمًا﴾ بالقرآن، فكان كل ما نزل عليه شيء من القرآن.. ازداد به علمًا.
والمعنى: أي سل الله زيادةً في العلم، دون استعجال بتلاوة الوحي، فإن ما أوحي إليك يبقى لا محالة، روى الترمذي، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - ﷺ - يقول: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار".
وكان ابن مسعود: إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني إيمانًا وفقهًا ويقينًا وعلمًا.
وفي الآية: بيان لشرف العلم، وقيل: ما أمر الله تعالى رسوله - ﷺ - بطلب الزيادة في شيء إلا في طلب العلم، والمعتبر هو العلم النافع، ولذلك قال - ﷺ -: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" والعلم بالله لا يتيسر إلا بتصفية الباطن، فتصفية القلب عما سوى الله تعالى من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ولذلك
(٢) روح البيان.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿قَالَ﴾: فعل ماض ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به ﴿هَارُونُ﴾: فاعل ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾ أيضًا، أو حال من ﴿هَارُونُ﴾ والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: مستأنفة ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّمَا﴾: كافة ومكفوفة ﴿فُتِنْتُمْ﴾: فعل مغير الصيغة ونائب فاعل ﴿به﴾ متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونه جواب النداء ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ﴾ (الواو): عاطفة ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿رَبَّكُمُ﴾ اسمها ﴿الرَّحْمَنُ﴾: خبرها، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، على كونها مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن ربكم الرحمن، وأردتم إظهار النصيحة لكم.. فأقول لكم ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾ ﴿اتبعوني﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَاتَّبِعُونِي﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا ﴿لَنْ نَبْرَحَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾ وإن شئت قلت. ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب ﴿نَبْرَحَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ واسمها: ضمير مستتر عائد على عابدي العجل ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿عَاكِفِينَ﴾ ﴿عَاكِفِينَ﴾: خبر ﴿نَبْرَحَ﴾ منصوب بالياء، وجملة ﴿نَبْرَحَ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، بمعنى إلى ﴿يَرْجِعَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة
﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: معطوفة بعاطف مقدر على جملة محذوفة، تقديرها: فرجع موسى إليهم و ﴿قَالَ يَا هَارُونُ...﴾ إلخ. ﴿يَا هَارُونُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت.. قلت ﴿يَا هَارُونُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء، في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام التوبيخ، في محل الرفع مبتدأ ﴿مَنَعَكَ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿مَا﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء ﴿إِذْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿مَنَعَكَ﴾. ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، وجملة: ﴿ضَلُّوا﴾ في محل النصب مفول ثان لـ ﴿رأيت﴾ إن قلنا إنها قلبية، أو في محل النصب حال من ضمير المفعول إن قلنا إنها بصرية، وجملة ﴿رأيت﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾ زائدة ﴿تتبع﴾: فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله: ضمير يعود على ﴿هَارُونُ﴾ و ﴿النون﴾ نون الوقاية وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية: في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بحرف محذوف، تقديره: ﴿مَا مَنَعَكَ﴾ من اتباعك إياي في الجبل، أو في الغضب لله الجار والمجرور متعلق بـ ﴿مَنَعَكَ﴾.
﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)﴾.
﴿أَفَعَصَيْتَ﴾ الهمزة: فيه للاستفهام التوبيخي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أأقمت بين هؤلاء الذين عبدوا العجل ﴿فَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾. ﴿عَصَيْتَ أَمْرِي﴾: فعل وفاعل ومفعول،
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿فَمَا خَطْبُكَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿فَمَا﴾ الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: اتخذت العجل إلهًا ﴿فَمَا خَطْبُكَ﴾ والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿ما﴾: اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع مبتدأ ﴿خَطْبُكَ﴾: خبر المبتدأ، ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿يَا سَامِرِيُّ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿السَامِرِيُّ﴾ والجملة: مستأنفة ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ فَاذْهَبْ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿بَصُرْتُ﴾: فعل وفاعل ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿لَمْ يَبْصُرُوا﴾: جازم وفعل وفاعل ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد: ضمير ﴿بِهِ﴾. ﴿فَقَبَضْتُ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿قبضت﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿بَصُرْتُ﴾. ﴿قَبْضَةً﴾: مفعول به وهو مصدر مرة من قبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر ﴿مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿قَبْضَةً﴾ وهو على تقدير مضافين؛ أي: ﴿مِنْ أَثَرِ﴾ حافر فرس ﴿الرَّسُولِ﴾ والمعنى: من تربة موطئه ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾ (الفاء) عاطفة ﴿نبذتها﴾ فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿قبضت﴾. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ (الواو): عاطفة ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صف لمصدر محذوف ﴿سَوَّلَتْ﴾. ﴿نَفْسِي﴾ فعل
﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ والجملة: مستأنفة ﴿فَاذْهَبْ﴾ (الفاء): فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلت: إن فعلك هذا من تسويل النفس، وأردت بيان جزائك.. فأقول لك ﴿اذهب﴾ ﴿اذهب﴾: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على ﴿السَّامِرِيُّ﴾ والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَإِنَّ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿إِنّ﴾ حرف نصب ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لأن ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾: متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿أن﴾ ﴿أَنْ تَقُولَ﴾: ناصب وفعل منصوب، وفاعله: ضمير يعود على ﴿السَّامِرِيُّ﴾ والجملة الفعلية: في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم ﴿أَنّ﴾ تقديره: فإن قولك ﴿لَا مِسَاسَ﴾ كائن لك ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾: معطوفة على جملة ﴿اذهب﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿لَا﴾ نافية تعمل عمل إن ﴿مِسَاسَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾: محذوف تقديره: ﴿لَا مِسَاسَ﴾ كائن لي، وجملة ﴿لَا﴾: في محل النصب مقول ﴿تَقُولَ﴾. ﴿وَإِنَّ﴾ الواو: عاطفة ﴿إنّ﴾: حرف نصب ﴿لَكَ﴾ خبرها مقدم ﴿مَوْعِدًا﴾: اسمها مؤخر ﴿لَنْ﴾ حرف نصب ﴿تُخْلَفَهُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ ﴿لَن﴾ ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿السَّامِرِيُّ﴾ وهو المفعول الأول، و (الهاء): ضمير متصل في محل النصب مفعول ثان له، والجملة الفعلية: في محل النصب صفة لـ ﴿مَوْعِدًا﴾ ولكنها سببية، والتقدير: وإن موعدا لن تخلفه كائن لك، وجملة ﴿إِنَّ﴾: معطوفة على جملة ﴿إن﴾ المذكورة قبلها.
﴿وَانْظُرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿السَّامِرِيُّ﴾ والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاذْهَبْ﴾. ﴿إِلَى إِلَهِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿انظر﴾ ﴿الَّذِي﴾: في محل جر صفة لـ ﴿إِلَهِكَ﴾. ﴿ظَلْتَ﴾: فعل ناقص واسمه وأصله: ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفًا كما سيأتي في مبحث التصريف ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿عَاكِفًا﴾. ﴿عَاكِفًا﴾ خبر ﴿ظَلْتَ﴾ والجملة: صلة الموصول، والعائد: ضمير عليه ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ (اللام): موطئة للقسم ﴿نحرقن﴾: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ ومن معه و (الهاء): ضمير متصل في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿لَنَنْسِفَنَّهُ﴾ (اللام): موطئة للقسم ﴿ننسفن﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾ ومن معه و (الهاء): ضمير متصل في محل النصب مفعول به، وجملة القسم: معطوفة على جملة القسم المذكورة قبلها ﴿فِي الْيَمِّ﴾: متعلق بـ ﴿ننسفن﴾. ﴿نَسْفًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة.
﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: كافة ومكفوفة ﴿إِلَهُكُمُ﴾: مبتدأ ﴿اللَّهُ﴾ خبره والجملة: مستأنفة أو في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة للجلالة ﴿لَا﴾: نافية ﴿إِلَهَ﴾ في محل النصب اسم ﴿لَا﴾ وخبر ﴿لَا﴾: محذوف تقديره: موجود ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ هُو ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾ وجملة ﴿لَا﴾ من اسمها وخبرها صلة الموصول ﴿وَسِعَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الموصول ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿عِلْمًا﴾: تمييز محول عن الفاعل، والجملة
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور صفة لمصدر محذوف ﴿نَقُصُّ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، والتقدير: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ قصًا كائنًا كقص قصة موسى - عليه السلام - والجملة: مستأنفة ﴿مِنْ أَنْبَاءِ﴾: جار ومجرور صفة لموصوف محذوف هو مفعول به ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ نبأً كائنًا ﴿مِنْ أَنْبَاءِ﴾ ﴿مَا قَدْ سَبَقَ﴾ ﴿أَنْبَاءِ﴾ مضاف ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿سَبَقَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾ والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ﴾ (الواو): عاطفة ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿آتَيْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ جار ومجرور ومضاف إليه حال من ﴿ذِكْرًا﴾. ﴿ذِكْرًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿أتيناك﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من فاعل ﴿نَقُصُّ﴾ أو مستأنفة.
﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما ﴿أَعْرَضَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿فَإِنَّهُ﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾: الشرطية لكون الجواب جملة اسمية ﴿إن﴾: حرف نصب و (الهاء): اسمها ﴿يَحْمِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق به ﴿وِزْرًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿يَحْمِلُ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: في محل النصب صفة لـ ﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ منطوياً مشتملاً على هذه القصص ﴿يَحْمِلُ﴾ المعرض عنه ﴿وِزْرًا﴾ كاملًا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يَحْمِلُ﴾ العائد على ﴿مَنْ﴾ الشرطية مراعاة لمعناها بعد مراعاة لفظها ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْقِيَامَة﴾. ﴿يُنْفَخُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور نائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿وَنَحْشُرُ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُنْفَخُ﴾ وفاعله: ضمير يعود على الله ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾: مفعول به ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف أضيف إلى ظرف متعلق بـ ﴿نحشر﴾ والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة ﴿زُرْقًا﴾: حال من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ وجملة.
﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤)﴾.
﴿يَتَخَافَتُونَ﴾: حال من المجرمين أو مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في ذلك اليوم ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق ﴿يَتَخَافَتُونَ﴾. ﴿إِن﴾: نافية ﴿لَبِثْتُمْ﴾: فعل وفاعل إلا أداة حصر استثناء مفرغ ﴿عَشْرًا﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿لَبِثْتُمْ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لقول محذوف، واقع حالًا من فاعل ﴿يَتَخَافَتُونَ﴾؛ أي: يتسارون بينهم، حال كونهم قائلين: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾. ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ ﴿إِذْ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ ﴿يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿طَرِيقَةً﴾ تمييز ذات، والجملة: مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿إِنْ﴾ نافية ﴿لَبِثْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر ﴿يَوْمًا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿لَبِثْتُمْ﴾ والجملة الفعلية: في
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)﴾.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ الواو: استئنافية ﴿يسألونك﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿عَنِ الْجِبَالِ﴾ في محل المفعول الثاني، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير تعنتهم وإصرارهم على الجدل والمكابرة والاستهزاء ﴿فَقُلْ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد، والجملة: معطوفة على جملة ﴿يسألونك﴾. ﴿يَنْسِفُهَا رَبِّي﴾: فعل ومفعول به وفاعل ﴿نَسْفًا﴾: مفعول مطلق، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قل﴾. ﴿فَيَذَرُهَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿يذرها﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَنْسِفُهَا﴾. ﴿قَاعًا﴾: حال من الضمير المنصوب، أو مفعول ثان لتضمين ﴿يذر﴾ معنى التصيير ﴿صَفْصَفًا﴾: حال ثانية، أو بدل من المفعول الثاني، وأعربه بعضهم صفةً له ﴿لَا﴾: نافية ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب ﴿فِيهَا﴾، متعلق بـ ﴿تَرَى﴾. ﴿عِوَجًا﴾: مفعول به لأن ﴿تَرَى﴾: بصرية ﴿وَلَا أَمْتًا﴾: معطوف على ﴿عِوَجًا﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال ثالثة أو حال أولى.
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨)﴾.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿يومَ﴾: منصوب على الظرفية وهو مضاف ﴿إذٍ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه، مبني بسكون مقدر، والتنوين: عوض عن الجملة المحذوف، والظرف: متعلق بـ ﴿يَتَّبِعُونَ﴾ أو بدل من ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ المتقدم ﴿يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة ﴿لا﴾ نافية ﴿عِوَجَ﴾ في محل النصب اسم ﴿لا﴾. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾ وجملة ﴿لا﴾: في محل النصب حال من ﴿الدَّاعِيَ﴾ أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: يتبعونه اتباعًا ﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾ ويجوز أن تكون مستأنفة، والأول: أظهر؛ لأن
﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩)﴾.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف إلى ظرف متعلق بـ ﴿لَا تَنْفَعُ﴾. ﴿لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿مَن﴾ اسم موصول واقع على المشفوع، في محل النصب مفعول به لـ ﴿تَنْفَعُ﴾ ويجوز أن تكون بدلًا من ﴿الشَّفَاعَةُ﴾ على قاعدة المستثنى المنفي، أو النصب على الاستثناء المتصل من ﴿الشَّفَاعَةُ﴾ ولا بد في هذين الوجهين من تقدير مضاف، تقديره: إلا شفاعة من أذن له، وإذا اعتبر المستثنى منقطعًا.. وجب نصبه، فتلخص فيه أربعة أوجه متقاربة الرجحان، ورجح الزمخشري الرفع على البدلية، وتبعه القاضي البيضاوي ﴿أَذِنَ﴾ فعل ماض ﴿لَهُ﴾ متعلق به ﴿الرَّحْمَنُ﴾ فاعل والجملة: صلة الموصول ﴿ورضي﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على الله ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿رضي﴾ ﴿قَوْلًا﴾ مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَذِنَ﴾.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١)﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على ﴿الرَّحْمَنُ﴾ والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير علمه تعالى ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾: معطوف على ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾. ﴿وَلَا﴾ (الواو): عاطفة ﴿لَا﴾: نافية ﴿يُحِيطُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿عِلْمًا﴾ تمييز محول عن الفاعل منصوب بـ ﴿يُحِيطُونَ﴾. ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿لِلْحَيِّ﴾:
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط، أو الجواب، أو هما ﴿يَعْمَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ وفاعله: ضمير يعود على محمد ﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾: جار ومجرور صفة لمفعول محذوف تقديره: أعمالًا ﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾. ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب حال من فاعل ﴿يَعْمَلْ﴾ ﴿فَلَا﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿مِنَ﴾ الشرطية ﴿لا﴾ نافية ﴿يَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مِنَ﴾. ﴿ظُلْمًا﴾: مفعول به ﴿وَلَا هَضْمًا﴾ معطوف عليه، وجملة ﴿يَخَافُ﴾: في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَدْ خَابَ﴾.
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ﴾ الواو: عاطفة ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والتقدير: وأنزلنا القرآن كله إنزالًا مثل إنزال هذه الآيات، المتضمنة لأحوال يوم القيامة، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ أو مستأنفة ﴿قُرْآنًا﴾ حال من ضمير المفعول في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾. ﴿عَرَبِيًّا﴾: صفة له ﴿وَصَرَّفْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾. ﴿فِيهِ﴾: متعلقة بـ ﴿صرفنا﴾. ﴿مِنَ الْوَعِيدِ﴾: صفة لمفعول محذوف؛ أي: صرفنا فيه وعيدًا من الوعيد أو ﴿مِنَ﴾ زائدة ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه،
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)﴾.
﴿فَتَعَالَى﴾ الفاء: استئنافية ﴿تَعَالَى اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿الْمَلِكُ﴾: صفة أولى للجلالة ﴿الْحَقُّ﴾: صفة ثانية له ﴿وَلَا تَعْجَلْ﴾ (الواو): عاطفة ﴿لَا﴾ ناهية ﴿تَعْجَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ ناهية، وفاعله: ضمير يعود على محمد ﴿بِالْقُرْآنِ﴾: متعلق به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿تعالى﴾ ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَعْجَلْ {أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يُقْضَى﴾: فعل مضارع مغير الصغة منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به ﴿وَحْيُهُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ قضاء وحيه إليك وقيل: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَعْجَلْ﴾. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿زِدْنِي عِلْمًا﴾: فعل وفاعل مسشتر، ومفعولان ونون وقاية، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ على كونها جواب النداء.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾؛ أي: مقيمين على عبادته، قال الراغب: العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم ﴿فَمَا خَطْبُكَ﴾؛ أي: شأنك، وما الأمر العظيم الذي صدر منك، والخطب لغةً: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، وهو من تقاليب الخبط، ففيه إشارة إلى عظيم خبطه كما مر ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ بضم الصاد فيهما؛ أي: علمت بما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا
والقبضة: المرة من القبض، وهو الأخذ بجميع الكف، أطلقت على المقبوض مرةً، ويقال: قبص بالصاد المهملة؛ لأنهما تتعاقبان في كثير من الكلمات، قال يعقوب بن السكيت: وقبضت قبضة وقبصت قبصة، ويقال: إن القبضة أقل من القبصة، وقال غيره: القبص: بأطراف الأصابع، والقبض: بالكف كلها ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾ النبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به؛ أي: طرحتها في الحلي المذابة، أو في فم العجل، فكان ما كان كما مر.
﴿لَا مِسَاسَ﴾ بكسر الميم مصدر قياس من باب فاعل، قال في "المفردات" المس: كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء، وإن لم يوجد، والمس يقال: فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس، وفي "القاموس": قوله تعالى: ﴿لَا مِسَاسَ﴾ بالكسر، أي: لا أَمُسُّ ولا أُمَسُّ، وكذلك التماس ومنه ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾. انتهى؛ أي: لا مسني أحد، ولا أمس أحدًا خوفًا من أن تأخذ كما الحمى؛ أي: لا مخالطة فلا يخالطه أحد، ولا يخالط أحدًا، فعاش وحيدًا طريدًا ﴿لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ والخلف والإخلاف: المخالفة في الوعد، يقال: وعدني فأخلفني؛ أي: خالف في الميعاد ﴿الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾ أصله: ظللت بلامين، أولاهما مكسورة، فحذفت الأولى تخفيفًا قال في "المفردات": ظلت بحذف إحدى اللامين يعبر به عما يُفعل بالنهار، ويجري مجرى صوت، والمعنى: صوت مقيمًا على عبادته ﴿لَنَنْسِفَنَّهُ﴾ من نسفت الريح التراب: إذا أقلعته وأزالته وذرته،
﴿إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ يقال: لبث بالمكان: أقام به ملازمًا له ﴿أَمْثَلُهُمْ﴾؛ أي: أفضلهم وأعدلهم رأيًا أو عملًا في الحياة الدنيا، وجمعه: أماثل ومثل، ومؤنثه: مثلى قال في "المفردات": الأمثل يعبر به عن الأشبه بالأفاضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم: كناية عن خيارهم وعلى هذا قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾ انتهى والطريقة المثلى: الشبهى بالحق، ويقال: المريض اليوم أمثل؛ أي: أحسن حالة ﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ في "المصباح": نسفت الريح التراب نسفًا، من باب ضرب: اقتلعته وفرقته، ونسفت البناء نسفًا: قلعته من أصله، ونسفت الحبَّ نسفًا، واسم الآلة منسف بكسر الميم. انتهى ﴿قَاعًا﴾ القاع: أرض سهلة مطمئنة، انفرجت عنها الجبال والآكام، والجمع: أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعه، وقيل: هو المنكشف من الأرض، وقيل: المستوي الصلب منها، وقيل: ما لا نبات فيه ولا بناء.
﴿صَفْصَفًا﴾ والصفصف: الأرض المستوية الملساء، كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة، وفي "القاموس": الصفصف: المستوى من الأرض، وقاع صفصف: مستو مطمئن، فهو بمثابة التأكيد للقاع لأنه بمعناه ﴿عِوَجًا﴾ العوج بفتح العين في المحسوسات، وبكسرها في المعاني، وما هنا من قبيل الأول، لكنه عبر
﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ﴾ في "المختار": عنا يعنو من باب سما يسموا، فالألف محذوفة قبل تاء التأنيث لالتقاء الساكنين: إذا ذل وخضع، ومنه العناة: جمع عان وهو الأسير، فأصله الأول: عنوت الوجوه، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فصار عنات ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث، وكأن هذا ليس بلازم، بل يصح أن يقال حذفت الواو ابتداءً وفي "السمين" يقال: عنا يعنو عناءً: إذا ذل وخضع، وأعناه غيره؛ أي: أذله، ومنه العناة جمع عان وهو الأسير. اهـ. وأما عني كرضي، يعني عناءً: فهو بمعنى تعب. اهـ شيخنا.
﴿الْقَيُّومِ﴾ القائم بتدبير أمور عباده، ومجازات كل نفس بما كسبت ﴿وَلَا هَضْمًا﴾ والضم: النقص، تقول العرب: هضمت لزيد من حقه؛ أي: نقصت منه، ومنه: هضم الكشحين؛ أي: ضامرهما، ورجل هضيم ومهتضم؛ أي: مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾ تعالى تفعل من العلو، وليست مرتبة شريفة إلا والحق تعالى في أعلى درجاتٍ منها وأرفعها، وذلك لأنه
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بزيادة حرف في قوله: ﴿أَلَّا تَتَّبِعَنِ﴾ لأن لا حرف زائد للتأكيد.
ومنها: إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في قوله: ﴿قَبْضَةً﴾ لأن القبضة المرة من القبض، فأطلق على المقبوض، كضرب الأمير.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾ لأن الأصل من أثر حافر فرس الرسول.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ وهو: تشبيه مرسل مجمل.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾ شبه الوزر بالحمل الثقيل، بطريق الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهِ﴾؛ أي: في الوزر، والوزر: لا يقام فيه، ولكن أراد العقاب المتسبب عن الوزر، فالعلاقة فيه السببية.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ لأنه كناية عن أمر الدنيا وأمر الآخرة.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ وجناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً﴾ وفي قوله: ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ وفي قوله: ﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾.
ومنها: إنشاء الذم في قوله: ﴿وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا﴾.
ومنها: إبهام الفاعل في قوله: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ إفادةً للتهويل.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ لما فيه من إطلاق العام وإرادة الخاص؛ لأن المراد به كلمة لا إله إلا الله، وفي قوله: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ لما فيه من إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ لأن المراد: أصحابها، وخُصت بالذكر؛ لأن الذل أول ما يظهر فيها.
منها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما أمر رسوله - ﷺ - بأن يقول رب زدني علمًا،
وعبارة المراغي هنا: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه صرَّف الوعيد في القرآن، وكرره لعلهم يتقون، أو يحدث لهم ذكرًا.. أردف (١) ذلك ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم إلى الوعيد، ونسي العهد، فمخالفتهم قديمة، وعرقهم فيها راسخ، ثم فصَّل عهده لآدم، وبيَّن كيف نسيه، وفقد العزم، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم، وتحذيره من الخروج من الجنة إذا اتبع نصائحه، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه، وقبل إرشاده، فأكل من الشجرة التي نهي عن الأكل منها، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته.
ثم بيَّن أن من جاءه الهدى من ربه، واتبعه.. عاش في الدنيا قرير العين، هادىء البال، ويؤتى في الآخرة ما شاء الله أن يؤتى، من ألوان النعيم والسعادة، ومن أعرض عن ذلك.. عاش في الدنيا عيشةً ضنكًا، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها، ومن ثم يغلب عليه الشح والبخل، ويفعل كل منكر في سبيل جمع المال من أي وجه كان، ولا يبالي أمن حلال كان أم من حرام، أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا، فإنه في سرور وراحةٍ، قل ماله أو كثر، ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك، وهو إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير في جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية، من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازي الله المسرفين المكذبين بآياته في الدنيا والآخرة، جزاءً وفاقًا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام، كما قال سبحانه: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤)﴾.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ...﴾ الآيات، مناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١)، لما أمر رسوله - ﷺ - بالصبر على أقاويلهم، التي أرادوا بها تكذيبه والكيد له، وشديد أذاه.. حكى بعض تلك الأقاويل الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد - ﷺ - ثم أبان لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بينة ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾ ومن ثم لم نهلكهم قبله حتى تنقطِع معذرتهم، كما حكى الله عنهم من قوله: ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ ثم ختم السورة بضرب من الوعيد، وكأنه قال: قل لهم: كل منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم، وحينئذٍ يتميز المحق من المبطل بما يظهر على الأول من أنواع الكرامة والتعظيم، وعلى الثاني من ضروب الخزي والإهانة، ويظهر مَنْ منا صار على الطريق السوي ومن المهتدي.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ...﴾ الآية، سبب نزوله (١): ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبزار، وأبو يعلى عن أبي رافع قال: أضاف النبي - ﷺ - ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا، إلا برهن، فأتيت النبي - ﷺ - فأخبرته فقال: "أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض" فلم أخرج من عنده حتى نزل هذه الآية ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١١٥ - ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد عهدنا إلى آدم أبي البشر، ووصيناه، وأمرناه أن لا يأكل من الشجرة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل أكله منها، أو من قبل (٢) هؤلاء الذين تركوا أمري، ونقضوا عهدي بتكذيبك ﴿فَنَسِيَ﴾ عهدنا، وأكل منها ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾؛ أي: تصميمًا على الاحتياط، وحفظًا لما أمر به، وثباتًا عليه، أو صبرًا عن أكل الشجرة، يقال: عهد فلان إلى فلان بعهد؛ أي: ألقى العهد إليه، وأوصاه بحفظه، والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، وسمي: الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا، وعهد الله تارةً يكون بما ركزه في عقولنا، وتارةً يكون بما أمرنا به بكتابه وبألسنة رسله، وتارةً بما نلتزمه، وليس بلازم في أصل الشرع، كالنذور وما يجري مجراها.
وآدم أبو البشر - عليه السلام - قيل: سمي بذلك لكون جسده من أديم الأرض، وقيل: لسمرة لونه، يقال: رجل آدم؛ أي: أسمر، وقيل: سمي بذلك لكونه من عناصر مختلفة، وقوىً مفترقة، يقال: جعلت فلانًا أدْمَة أهلي؛ أي: خلطته بهم، وقيل: سمي بذلك لما طيب به من الروح المنفوخ فيه، وجعل له من العقل والفهم، والرؤية التي فُضل بها على غيره، وذلك من قولهم: الإدام؛ وهو: ما يطيب به الطعام، وقيل: أعجمي وهو الأظهر.
(٢) الوجيز.
والمعنى (٢)؛ لم نعلم له، أو لم نصادق له تصميم رأي، وثبات قدم في الأمور، ومحافظةً على ما أمر به، وعزيمةً على القيام به، إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطان، ولما استطاع تغريره، وكان ذلك منه في بدء أمره من قبل أن يجرب الأمور، ويتولى قارّها وحارّها، ويذوق شريّها وأريّها، لا من نقصان عقله، فإنه أرجح الناس عقلًا، كما قال - عليه السلام -: "لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه" وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ ومعنى هذا: أن آدم مع ذلك أثر فيه وسوسته، فكيف في غيره، قيل: لم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعًا عن الإنسان، فكان مؤاخذًا به، وإنما رفع عنا معشر الأمة المحمدية.
قال أبو الفتح البستي في الإعتذار من النسيان إلى بعض الرؤساء:
يَا أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانَاً إِلَى النَّاسِ | يَا أَحْسَنَ الْخَلْقِ إِعْرَاضَاً عَنْ الْبَاسِ |
(٢) الكشاف.
(٣) روح البيان.
نَسِيْتُ وَعْدَكَ وَالنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ | فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ النَّاسِ أَؤَّلُ النَّاسِيْ |
فائدة: قال علي (٢) رضي الله عنه: عشرة أمور يورثن النسيان: كثرة الهم، والحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل التفاح الحامض، وأكل الكزبرة، وأكل سؤر الفأر، وقراءة ألواح القبور، والنظرة إلى المصلوب، والمشي بين الجملين المقطورين، وإلقاء القملة حية.
وزاد في "المقاصد الحسنة" مضغ العلك؛ أي: للرجال إذا لم يكن من علة كالبخر، ولا يكره للمرأة إن لم تكن صائمة، لقيامه مقام السواك في حقهن؛ لأن سنها أضعف من سن الرجال، كسائر أعضائها، فيخاف من السواك سقوط سنها، وهو ينقي الأسنان، وتشد اللثة كالسواك.
اعلم: أن من أشد أسباب النسيان: العصيان، فنسأل الله العصمة والحفظ.
١١٦ - ثم شرع سبحانه في بيان كيفية ظهور نسيانه، وفقدان عزمه، فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾ والعامل في إذ مقدر، تقديره: اذكر، وتعليق (٣) الذكر بالوقت، مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة؛ لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت، كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى، وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى؛ أي: واذكر يا محمد قصة وقت قولنا: ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾؛ لمن في الأرض والسماء منهم عموماً كما سبق تحقيقه ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ سجود تحيةٍ وتكريمٍ.
قال البيضاوي (٤): اذكر حاله في ذلك الوقت، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات، وفيه (٥) إشارة إلى استحقاقه لسجودهم لمعان جمة:
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) البيضاوي.
(٥) روح البيان.
ومنها؛ أنه خلقه على صورة الرحمن، كما ورد في الحديث.
ومنها: أنه سبحانه قال في شأنه: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾.
ومنها: أنه اختص بعلم الأسماء كلها، وأنهم احتاجوا إليه في إنباء الأسماء، كما قال تعالى: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ فوجب عليهم أداء حقوقه بالسجود له.
﴿فَسَجَدُوا﴾؛ أي: فسجد الملائكة كلهم أجمعون تعظيمًا لأمر ربهم، وامتثالًا له ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ فإنه لم يسجد، ولم يطرح أردية الكبر، ولم يخفض جناحه، يقال: أبلس إذا تحير، ومنه إبليس، أو هو أعجمي كما في "القاموس" وقوله: ﴿أَبَى﴾ استئناف بياني، كأنه قيل: ما باله لم يسجد فقيل: أبى السجود وامتنع منه، قال في "المفردات" الإباء شدة الامتناع، فكل إباءٍ امتناع، وليس كل امتناع إباء.
المعنى (١): أي اذكر أيها الرسول الكريم: ما وقع في ذلك منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه، إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم فلبوا الأمر، إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين، وقد تقدم ذكر هذا القصص في سورة البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، وسيأتي ذكره في سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتفضيله على كثير ممن خلق.
١١٧ - ﴿فَقُلْنَا﴾ له عقيب ذلك، اعتناءً بنصحه وإرشاده ﴿يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا﴾ الحقير الذي رأيت منه ما رأيت من التكبر ﴿عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ حواء، ومن ثم لم يسجد لك، وخالف أمري وعصاني، فلا تطيعاه فيما يأمركما به، والزوج: اسم للمفرد، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه، ذكرًا كان أو أنثى، ولعداوته وجوه (٢):
الأول: أنه كان حسودًا له، فلما رأى نعم الله على آدم.. حسده فصار
(٢) روح البيان.
والثاني: أنه كان شابًا عالمًا، وإبليس شيخاً جاهلًا؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وأنه جاهل، والشيخ الجاهل يكون أبدًا عدو الشاب العالم.
الثالث: أنه مخلوق من النار، وآدم من الماء والتراب، وبين أصليهما عداوة فبقيت العداوة بينهما ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ﴾؛ أي: فلا يكونن إبليس سببًا لإخراجكما من الجنة، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى سببه، وإلا فالمخرج حقيقةً هو الله سبحانه وتعالى، وظاهره: وإن كان نهى إبليس عن الإخراج، إلا أن المراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها بالطريق البرهاني ﴿فَتَشْقَى﴾؛ أي: فتتعبا بمتاعب الدنيا، التي لا تكاد تحصى، فهو جواب النهي.
وخلاصة ذلك (١): إياك أن تسعى في إخراجك منها، فتتعب وتشقى في طلب رزقك، وأنت هاهنا في عيش رغدٍ هنيء، بلا كلفةٍ ولا مشقةٍ، ولم يقل: فتشقيا؛ لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده، فهو المخاطب فاكتفى به، أو لأنه الكاسب، فكان التعب في حقه أكثر، ذكره الماوردي، أو لأن إسناد الشقاء إليه لرعاية الفواصل، ولأصالته فيه، وفي "القاموس" الشقاء: الشدة والعسر، ويمد. انتهى.
فالمعنى (٢): لا تباشر أسباب الخروج، فيحصل الشقاء، وهو: الكد والتعب الدنيوي، مثل الحرث والزرع والحصد والطحن والعجن والخبر ونحو ذلك، مما لا يخلو الناس في أمر تعيشهم، ويؤيده ما بعد الآية، وعن ابن جبير: أهبط له ثور أحمر، يحرث عليه فيأكل بكد يمينه، وعرق جبينه.
١١٨ - ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا﴾ ﴿لَكَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ و ﴿أَلَّا تَجُوعَ﴾ في محل النصب
(٢) روح البيان.
١١٩ - ﴿وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ﴾ ولا تعطش ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة؛ لأن العيون والأنهار جارية على الدوام ﴿وَلَا تَضْحَى﴾؛ أي: لا يصيبك حر الشمس في الجنة، إذ لا شمس فيها، وأهلها في ظلٍ ممدودٍ، يقال: ضحيَ الرجل للشمس بكسر الحاء: إذا برز وتعرّض لها، و ﴿أن﴾ بالفتح مع ما في حيزها: عطف على ﴿أَلَّا تَجُوعَ﴾ وفصل (٢) الظمأ عن الجوع، دفعاً لتوهم أن نفيهما نعمة واحدة، وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو.
والمعنى (٣): أي لا يكون لك في الجنة جوع ولا عري، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس، وقرن بين الجوع والعري أولًا؛ لأن في الجوع ذل الباطن، وفي العري ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش، وحر الظاهر وهو الضحى ثانيًا، فنفى الله عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن، وحر الظاهر والباطن، وقد ذكر الله (٤) سبحانه هاهنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش، وتعب الكد في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع، والري، والكسوة، والسكن، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه.. فله في الجنة هذا كله، وإن ضيَّع وصيته، ولم يحفظ عهده.. أخرجه من الجنة إلى الدنيا، فيحل به التعب والنصب، بما يدفع الجوع والعري، والظمأ والضحو، فالمراد بالشقاء: شقاء الدنيا، كما قاله كثير من المفسرين، لا شقاء الأخرى، قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، وقرأ شيبة، ونافع، وحفص، وابن سعدان: ﴿وإنك لا تظمأ﴾ بكسر همزة ﴿وإنك﴾ وقرأ الجمهور: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
١٢٠ - ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: أنهى إلى آدم وسوسته وأبلغ، فتعديته بإلى باعتبار تضمينه معنى الإنهاء والإبلاغ، والوسوسة: الصوت الخفي، ومنها وسواس الحلي لأصواتها، وهو فعل لازم، وجملة قوله: ﴿قَالَ﴾ إما بدل من ﴿وسوس﴾ أو مستأنفة بتقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال في وسوسته، فقيل: ﴿قَالَ﴾ الشيطان ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾؛ أي (١): على شجرة من أكل منها.. خلد، ولم يمت أصلًا، سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكًا، فأضافها إلى ﴿الْخُلْدِ﴾ وهو الخلود لأنها سببه بزعمه، كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنها سببها؛ أي فألقى النصيحة إلى آدم، وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها.. خلدت ولم تمت، وملكت ملكًا لا ينقضي ولا يفنى.
قال الراغب: الخلود تبرِّي الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، والخلود في الجنة: بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها، من غير اعتراض الفساد عليها ﴿وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾؛ أي: لا يزول ولا ينقضي، ولا يختل بوجه من الوجوه؛ أي: تصرف يدوم ولا ينقطع (٢)؛ أي: هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها خلف، ولا يموت أصلًا، ودام ملكه، إما على حاله أو على أن يصير ملكًا
١٢١ - ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا﴾؛ أي: أكل آدم وحواء من الشجرة ﴿فـ﴾ عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾؛ أي: عوراتهما، وظهرت فروجهما، يقال: بدا الشيء بَدْوًا وبُدُوًا: ظهر ظهورًا بينًا، وكنى عن الفرج: بالسوءة؛ لأنه يسوء الإنسان انكشافه؛ أي: يغمه ويحزنه؛ أي: ظهر لكل منهما قُبله وقُبل الآخر ودُبره.
قال الحصيري: بدت لهما ولم تبد لغيرهما، لئلا يعلم الأغيار من مكافأة الجناية ما علما، ولو بدت للأغيار.. لقال بدت منهما؛ أي: ظهرت فروجهما
(٢) المراح.
المعنى: أي (٢) فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها، وأطاعا أمر إبليس، وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورةً عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾؛ أي: خالف نهي ربه باكله من الشجرة؛ لأنه اعتقد أن النهي عن شجرة معينة، وأن غيرها ليس منهيًا عنه ﴿فَغَوَى﴾؛ أي: ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود في الجنة، وخاب من نعيم الجنة، فلم يصب بأكله من الشجرة ما أراده؛ لأنه إنما أكل منها ليصير ملكه دائمًا، فلما أكل.. زال ملكه وخاب سعيه، أو ضل عن المأمور به، وهو التباعد عن الشجرة في ضمن ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ أو عن الرشد، حيث اغتر بقول العدو؛ لأن الغي خلاف الرشد، وقيل: فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا، ومعنى ﴿عصى آدم ربه﴾؛ أي (٣): خالف نهيه، فالعصيان: هو
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدَّره الله تعالى عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين عامًا، فحج آدم موسى" متفق عليه.
قال القاضي أبو بكر ابن عربي (١): لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم.
قلت: لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما قلته في هذا المعنى:
عَصَى أَبُوْ الْعَالَم وَهْوَ الَّذِيْ | مِنَ طِيْنَةٍ صَوَّرَهُ اللهُ |
وَأَسْجَدَ الأَمْلاَكَ مِنْ أَجْلِهِ | وَصَيَّرَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ |
أغْوَاهُ إِبْلِيْسُ فَمَنْ ذا أنا الْمِسْـ | ـكِيْنُ إِنْ إِبْلِيْسُ أَغْوَاهُ |
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجته: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
فصل في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك
قال الإِمام فخر الدين الرازي: اختلف (٢) الناس في عصمة الأنبياء، وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة:
أحدهما: ما يقع في باب الاعتقاد، وهو اعتقاد الكفر والضلال، فإن ذلك غير جائز عليهم.
الثاني: ما يتعلق بالتبليغ فقط: اجتمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب، مواظبين على التبليغ والتحريض، وإلا لارتفع الوثوق بالأداء، واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدًا ولا سهوًا، ومن الناس من جوَّز ذلك سهوًا، قالوا: لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث: ما يتعلق بالفتيا، فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد، وأجازه بعضهم على سبيل السهو.
الرابع: ما يقع في أفعالهم:
فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال:
أحدها: قول من جوّز عليهم الكبائر.
الثاني: قول من منع من الكبائر، وجوّز الصغائر على جهة العمد، وهو قول أكثر المعتزلة.
(٢) الخازن.
الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس: أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة، لا على سبيل العمد، ولا على سبيل السهو، ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة.
واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة، وهو قول الشيعة.
الثاني: قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم، وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث: قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة، وهو قول أكثر أصحابنا، وأبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإِمام: والمختار عندنا: أنه لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة، من حين جاءتهم النبوة، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه لو صدر الذنب عنهم.. لكان أقل درجة من أحد الأمة، وذلك غير جائز أيضًا؛ لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف.
والثاني: أنه لو صدر منه.. وجب أن يكون مقبول الشهادة، فكان أقل حالًا من عدول الأمة، وذلك غير جائز أيضًا؛ لأن معنى النبوة والرسالة: هو أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضًا فإنه يوم القيامة شاهد على الكل.
الثالث: لو صدر من النبي ذنب.. وجب الاقتداء به فيه، وذلك محال.
الرابع: ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح ممن رفع الله درجته، وائتمنه على وحيه، وجعله خليفته في عباده وبلاده، يسمع ربه يناديه: لا تفعل كذا، فيقدم عليه ويفعله ترجيحًا لغرضه، واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون
الخامس: قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ ولفظه للعموم، فيتناول الكل، ويدل على فعل ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير، وتاركين لكل منهي، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم.
السادس: قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وقال تعالى في حق موسى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧)﴾ وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه.
قال: وأما المخالف فقد تمسك بآيات:
منها: قصة آدم هذه، والجواب عنها: أن تقول: إن كلامهم إنما يتم لو بيَّنوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة، وذلك ممنوع، ولم لا يجوز أن يقال: إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبيًا، وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة، وإن الله تعالى قبل توبته، وشرفَّه بالنبوة والرسالة.
وقال القاضي عياض: وأما قصة آدم، وقوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾؛ أي: جهل، وقيل: أخطأ، فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)﴾؛ أي: نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه، وقيل: لم يقصد المخالفة استحلالًا لها، ولكنه اغتر بحلف إبليس له ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ وتوهم أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، وقيل: نسي ولم ينو المخالفة، فلذلك قال: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾؛ أي: قصدًا للمخالفة، وقيل:
فإن قلت: إذا نُفيت عنهم الذنوب والمعاصي.. فما معنى قوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم، وتوبتهم واستغفارهم، وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه؟
قلت: إن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده، وعظيم سلطانه، وقوة بطشه، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤخذ به غيرهم، وأنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها، ولم يؤمروا بها، وأتوها على وجه التأويل أو السهو، خائفون وجلون، وهي الذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم، ومعاصٍ بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وكان هذا أدنى أفعالهم، وأسوأ ما يجري من أحوالهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ أي: يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات، وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه، إن شاء الله تعالى.
١٢٣ - ﴿قَالَ﴾؛ أي: قال الرب الذي انتهكت حرمة داره، وخولف أمره لآدم وحواء، بعد صدور الزلة منهما: ﴿اهْبِطَا مِنْهَا﴾؛ أي: انزلا من الجنة إلى الأرض، حالة كونكما ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين في الهبوط، وهذا خطاب العتاب واللوم في الصورة، وخطاب التكميل والتشريف في المعنى، يقال: هبط هبوطًا: إذا نزل من علو إلى سفل، وخصهما بالهبوط لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾؛ أي: حالة كونه بعض ذريتكما متعادين لبعض في أمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب، والتحاسد والتباغض، وجمع الخطاب باعتبار أنهما أصل الذرية،
وفي "التأويلات النجمية": يشير (٢) إلى أنه جعل فيما بينهم العداوة، لئلا يكون لهم حبيب إلا هو، كما قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧)﴾ ولما اختص آدم منهم بالاجتباء والاصطفاء، وأهبطه إلى الأرض معهم للابتلاء.. وعده بالاهتداء فقال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾؛ أي: فإن يأتكم يا ذرية آدم وحواء ﴿مِنِّي هُدًى﴾؛ أي: هادٍ من كتاب ورسول، والأصل: فإن يأتكم و ﴿ما﴾: مزيدة لتأكيد معنى الشرط و ﴿ما﴾ هذه مثل لام القسم في دخول النون المؤكدة معها، وإنما جيء بكلمة الشك، وهي ﴿إن﴾ الشرطية إيذانًا بأن إتيان الهدى بطريق الكتاب والرسول، ليس بقطعي الوقوع، وأنه تعالى إن شاء.. هدى وإن شاء.. ترك، لا يجب عليه شيء، ولك أن تقول: إتيان الكتاب والرسول لما لم يكن لازم التحقق والوقوع أبرز في معرض الشك، وأكد حرف الشرط والفعل بالنون، دلالةً على رجحان جهة الوقوع والتحقق.
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾؛ أي: فمن آمن بالكتاب، وصدق بالرسول ﴿فَلَا يَضِلُّ﴾ في الدنيا عن طريق الدين القويم ما دام حيًا ﴿وَلَا يَشْقَى﴾؛ أي: لا يذل في الآخرة بالعذاب الدائم
١٢٤ - ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾؛ أي: عن الكتاب الذاكر لي، والرسول الداعي إلى، والذكر يقع على القرآن وغيره من كتب الله تعالى ﴿فَإِنَّ لَهُ﴾ في هذه الدنيا ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾؛ أي: معيشةً ضيقةً، لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا، والتهالك على ازديادها، والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبًا عليه، والبخل راسخاً في أعراقه، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، مع أنه قد يضيِّق الله عليه بشؤم الكفر، ويوسع بركة الإيمان، وقرىء ﴿ضنكى﴾ بضم الضاد على وزن فعلى، وقرأ الحسن ﴿ضنكى﴾ بألف التأنيث بلا تنوين، وبالإمالة على وزن فعلى كسكرى، وقرأ الجمهور ﴿ضَنْكًا﴾ بالتنوين وفتح الكاف فتحة إعراب.
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَنَحْشُرُهُ﴾ بالنون، وفرقة منهم أبان بن تغلب: بسكون الراء، فيجوز أن يكون تخفيفًا، ويجوز أن يكون جزمًا بالعطف على موضع ﴿فإن له معيشة ضنكا﴾ لأنه جواب الشرط، وقرأت فرقة ﴿ويحشره﴾ بالياء، وقرى ﴿ويحشره﴾ بسكون الهاء على لفظ الوقف.
وقصارى ذلك (٤): أن الله سبحانه، جعل لمن اتبع هداه، وتمسك بدينه العيش الهنيء، الذي لا هم فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو في الآخرة أشد تعبًا، وأعظم ضيقًا، وأكثر ألمًا
١٢٥ - ﴿قَالَ﴾ المعرض الذي حُشر أعمى، استئناف بياني ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي﴾ وبعثتني - استفهام استخباري - حالة كوني ﴿أَعْمَى﴾؛ أي: فاقد البصر ﴿و﴾ الحال أني ﴿قد كنت بصيرًا﴾، أي: ذا بصر في الدنيا؛ أي: ﴿قَالَ﴾ المعرض ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى﴾ عن حجتي وعن رؤية الأشياء على حقيقتها، ﴿وَقَدْ كُنْتُ﴾ في الدنيا ذا بصر بذلك كله، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
والمعنى: أي فكما تركت آياتنا ترك المنسي الذي لا يذكر أصلًا، وأعرضت عنها اليوم ننساك فنتركك في النار.
١٢٧ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية ﴿نَجْزِي مَنْ أَسْرَف﴾ وجاوز الحد في عصيانه، بالانهماك في الشهوات، والإسراف: مجاوزة الإنسان الحد في كل فعل يفعله، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾؛ أي: بالقرآن وسائر المعجزات، بل كذبها وأعرض عنها.
والمعنى: أي وهكذا نعاقب من أسرف فعصى ربه، ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكًا، أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه قال: في الآية يقول: كل مال أعطيته عبدًا من عبادي، قل أو كثر، لا يتقيني فيه.. فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة.
ولما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين (١): المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في العقبى.. ختم آيات الوعيد بقوله: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ﴾ على الإطلاق، أو عذاب النار ﴿أَشَدُّ﴾ وأوجع مما نعذبهم به في الدنيا، من ضنك
١٢٨ - وجملة قوله: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ مستأنفة لتقرير ما قبلها، و (الهمزة) (١) فيها للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والهداية هنا: بمعنى التبين، من هدى بمعنى: اهتدى، فهو لازم، والفاعل: المصدر المأخوذ من ﴿أَهْلَكْنَا﴾ من غير سابك لإصلاح المعنى؛ لأن ذلك جائز كثير في كلامهم، وضمير ﴿لَهُمْ﴾ للمشركين المعاصرين لرسول الله - ﷺ -، والقرون: جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد، والتقدير: أغفل هؤلاء المشركون فلم يتبين لهم إهلاكنا كثيرًا من القرون قبلهم، حين كذبوا رسلهم، كعاد، وثمود، وقوم لوط، فيعتبروا بهذا الإهلاك، فيرجعوا عن تكذيب الرسول محمد - ﷺ -.
ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرًا يعود على الله، ويؤيده القراءة بالنون، والهداية: من هدى المتعدي، فمفعوله محذوف، والتقدير: أجهل هؤلاء المشركون مآل أمرهم، فلم يبين الله سبحانه لهم خبر من ﴿أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ حال كون القرون ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ ويتقلبون في ديارهم في أمن وراحة، أو حالة كون هؤلاء المشركين يمشون في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة، وطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية، خاويةً خاربةً، من أصحاب الحجر، وثمود، وقرى قوم لوط، فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم، لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك، وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَهْدِ﴾ بالياء، وقرأت فرقة - منهم ابن عباس والسلمي -: ﴿أفلم نهد﴾ بالنون، والمعنى على هذه القراءة: واضح والتقدير: أفلم نبين لأهل مكة بيانًا يهتدون به، كثرة من
(٢) البحر المحيط.
والنُّهى: جمع نهيةٍ، وهي العقل، والمعنى: إن في ذلك الإهلاك بالعذاب، لعبرًا كثيرةً، ودلالاتٍ واضحةً على الحق، لأصحاب العقول الكاملة الناهية عن القبائح.
١٢٩ - ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: ولولا الكلمة السابقة من ربك، والحكم الأزلي منه، بتأخير العذاب عن هذه الأمة؛ أي: أمة الدعوة، إلى الدار الآخرة، والمراد بتلك الكلمة (٢): العِدَةُ من الله بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة، لحكمة تقتضيه، يعني: أن الكلمة إخبار الله ملائكته، وكتبه في اللوح المحفوظ: أن أمة محمد - ﷺ - إن كذبوا فسيؤخرون، ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال، لعلمه أن فيهم من يؤمن، ولو نزل بهم العذاب.. لعمهم الهلاك ﴿لَكَانَ﴾ عذاب ذنوبهم ﴿لِزَامًا﴾؛ أي: لازماً لهم، لا ينفك عنهم بحال، ولا يتأخر عنهم ساعةً، لزوم ما نزل بأولئك الغابرين عند تكذيبهم رسلهم، واللِّزَام: مصدر لازم الرباعي، من باب فاعل كقاتل، وُصف به للمبالغة، وقوله: ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ معطوف على ﴿كَلِمَةٌ﴾ قاله الزجاج وغيره، والفصل (٣) للإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، ولمراعاة فواصل الآي؛ أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم بدر.. لكان عذاب جناياتهم لازماً لهم، ولما تأخر عنهم ساعةً.
قيل (٤): ويجوز عطف ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ على الضمير المستتر في ﴿كان﴾ العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق، تنزيلًا للفصل بالخبر منزلة التأكيد، والتقدير ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ﴾ الأخذ العاجل ﴿لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
١٣٠ - ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال.. أمره بالصبر فقال: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ من أنك ساحر كذاب، ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة و (الفاء) فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت كون الأمر على ما ذكر، من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، وأنه لازم لهم البتة، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ فيك من كلمات الكفر والنسبة لك إلى السحر والجنون، إلى أن يحكم الله فيهم، فإن علمه - عليه الصلاة والسلام - بأنهم معذبون لا محالة، مما يسليه ويحمله على الصبر.
والمعنى: لا تهتم بهم، فإن لعذابهم وقتًا مضروبًا، لا يتقدم ولا يتأخر، وقيل: هذا منسوخ بآية القتال، وفي "الشهاب" ما نصه؛ أي: إذا (١) لم نعذبهم عاجلًا.. فاصبر، فـ (الفاء): سببية، والمراد بالصبر: عدم الاضطراب لما صدر منهم من الأذية، لا ترك القتال، حتى تكون الآية منسوخةً، وفي "الكبير" هذا غير لازم. لجواز أن يقاتل ويصبر على ما يسمع منهم من الأذى، والصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، كما سيأتي في مباحث الصرف ﴿وَسَبِّحْ﴾؛ أي: نزه ربك عما لا يليق به، حالة كونك متلبسًا ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ وثنائه؛ أي: صل حامدًا لربك على هدايته وتوفيقه ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ صلاةَ الفجر، فهو (٢) من إطلاق اسم الجزء على الكل، وفي الخبر "إن الذكر والتسبيح إلى طلوع الشمس أفضل من إعتاق ثمانين رقبة من ولد إسماعيل" وفيه مقال، خص إسماعيل بالذكر لشرفه، وكونه أبا العرب، وإنما أمره بالتسبيح لأن التسبيح وذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة، وينسي جميع ما أصاب من الغموم والأحزان ﴿و﴾ صلّ ﴿قَبْلَ غُرُوبِهَا﴾؛ أي: قبل غروب الشمس: صلاتي الظهر والعصر؛ لأنهما قبل غروبها وبعد زوالها ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾؛ أي: بعض ساعاته، جمع إنى بالكسر والقصر، كمِعى وأمعاء، وآناء بالفتح والمد؛ أي: وبعض ساعات الليل ﴿فَسَبِّحْ﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
وقال الطبري (٢): قبل غروبها وهي العصر، ومن آناء الليل هي العشاء الآخرة، وأطراف النهار الظهر والمغرب؛ لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار وفي أول الطرف الثاني، فكأنها بين الطرفين، والمغرب في آخر الطرف الثاني فكانت أطرافاً، انتهى.
وعبارة "المراح" هنا: ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ معطوف (٣) على محل ﴿وَمِنْ آنَاءِ﴾ المنصوب بـ ﴿سبح﴾ المقرون بـ ﴿الفاء﴾ الزائدة، أو معطوفة على ﴿قَبْلَ﴾؛ أي: في طرف نصفيه؛ أي: في الوقت الذي يجمع الطرفين، وهو وقت الزوال، فهو نهاية للنصف الأول وبداية للنصف الثاني؛ أي: اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات عما ينسبونه إليه تعالى، مما لا يليق به، حامدًا له على ما ميزك بالهدى، أو المعنى: صل وأنت حامد لربك على كمال هدايته إياك صلاة الصبح، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء، وصلاة الظهر، والآية جامعة لذكر الصلوات الخمس.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ بنصب الفاء، وهو معطوف على ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾ وقيل: معطوف على ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر: ﴿وأطراف﴾ بخفض الفاء عطفًا على ﴿آناء﴾ وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾
(٢) الطبري.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
١٣١ - ولما صبَّر رسوله على ما يقولون، وأمره بالتسبيح.. أتبع ذلك بنهيه عن مد عينيه إلى ما متعوا به من زينة الدنيا فقال: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾؛ أي: لا تُطل (١) نظرهما بطريق الرغبة والميل، استحسانًا للمنظور إليه، وإعجابًا به، وتمنيًا أن لك مثله ﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ﴾؛ أي: إلى ما أعطينا به عن خارف الدنيا ﴿أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: أصنافًا من الكفرة، كالوثنيّ، والكتابيّ من اليهود والنصارى، بني قريظة والنضير، وهو مفعول ﴿مَتَّعْنَا﴾ حالة كون ما متعناهم به ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وزينتها وبهجتها ونضارتها وحسنها، قال الواسطي: هذه تسلية للفقراء، وتعزية لهم، حيث منع خير الخلق من النظر إلى الدنيا على وجه الاستحسان.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿زَهْرَةَ﴾ بسكون الهاء، وقرأ الحسن، وأبو البرهشيم، وأبو حيوة، وطلحة، وحُميد، وسلَّام، ويعقوب، وسهل، وعيسى، والزهري: بفتحها والزَّهرة والزُّهرة: بمعنى واحد، كالجَهرة والجُهرة، وأجاز الزمخشري في ﴿زَهْرَةَ﴾ المفتوح الهاء أن يكون جمع زاهر، نحو كافر وكفرة، وصفهم بأنهم زاهر. واللام في قوله: ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿متعنا﴾؛ أي: لا تلتفت بعينيك إلى ما متعنا لهم به لنفتنهم به؛ أي: لنجعل ذلك المتاع فتنةً وضلالة لهم، ابتلاءً منا لهم، أو (٣) لنعاملهم فيما أعطيناهم معاملة من نبتليهم حتى يستوجبوا العذاب، بأن يزيد لهم النعمة فيزيدوا كفرًا وطغيانًا، فلا بد من التنفير عنه، فإنه عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، أو لنعذبهم بسببه، وقرأ الأصمعي عن نافع
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ﴾؛ أي: ثواب الله وما ادخره لصالحي عباده في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ مما رزقهم في الدنيا؛ لأنه مع كونه أجلَّ ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة، بخلاف ما منحوه ﴿وَأَبْقَى﴾؛ أي: أدوم، فإنه لا يكاد ينقطع أبدًا وهذا ينقطع.
ومعنى الآية: أي (١) ولا تُطل النظر استحسانًا ورغبةً فيما مُتع به هؤلاء المترفون من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، نختبرهم بها، ونعلم هل يؤدون شكرها أو تكون وبالًا عليهم، ونكالًا لهم، وقد آتاك ربك خيرًا مما آتاهم، فرضاه خيرٌ وأبقى كما قال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)﴾ وخلاصة هذا: التنفير من الانهماك في التمتع بزهرة الدنيا: لسوء عاقبتها.
١٣٢ - وبعد أن أمر الله سبحانه نبيه - ﷺ - بالتسبيح في تلك الأوقات المذكورة، ونهاه عن مد بصره إلى ما متع به الكفار، أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة، التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإِسلام، وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها، وأن لا يشتغل عنها، وأخبره تعالى أن لا يسأله أن يرزق نفسه، وأن لا يسعى في تحصيل الرزق، ويدأب في ذلك، بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة، ويدخل في خطابه - عليه السلام - أمته فقال: ﴿وَأْمُرْ﴾ أيها الرسول الكريم ﴿أَهْلَكَ﴾؛ أي: أهل بيتك، أو أهل دينك ﴿بِالصَّلَاةِ﴾ المفروضة عليك وعليهم؛ أي: وأمرهم بالصلاة كما أمرناك بها بقولنا: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ...﴾ الآية. فإن الفقير ينبغي أن يستعين بها على فقره، ولا يهتم بأمر المعيشة، ولا يلتفت إلى جانب أهل الثروة ﴿وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾؛ أي: وداوم أنت وهم عليها، غير مشتغل بأمر المعاش، فكان النبي - ﷺ - يذهب إلى فاطمة وعلي كل صباح ويقول: "الصلاة" كان يفعل ذلك أشهرًا.
قال ابن عطاء: أشد أنواع الصبر الاصطبار، وهو السكون تحت موارد
أي: واصبر على الصلاة، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾؛ أي: لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، وتشتغل بذلك عن الصلاة ﴿نَحْنُ نَرْزُقُك﴾ ونرزقهم ولا نكلفك ذلك، ففرغ بالك لأمر الآخرة، فإن من كان في عمل الله.. كان الله في عمله ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ المحمودة وهي الجنة. ﴿لِلتَّقْوَى﴾؛ أي: لأهل التقوى، على حذف المضاف، كما قاله الأخفش، وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر، وعليها تدور دوائر الخير، وقرأ الجمهور: ﴿نَرْزُقُكَ﴾ بضم القاف، وقرأت فرقة - منهم ابن وثاب -: بإدغام القاف في الكاف، وجاء ذلك عن يعقوب.
والخلاصة (١): داوم على الصلاة لا نكلفك مالًا، بل نكلفك عملًا نؤتيك عليه أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا، ونحن نعطيك المال، ونكسبك ولا نسألك، والعاقبة الصالحة لأهل الخشية والتقوى، لا لمن لا يخاف عقابًا، ولا يرجو ثوابًا كما قال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾.
١٣٣ - وأخرج مالك والبيهقي، عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل.. أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال كفار قريش: ﴿لَوْلَا يَأْتِينَا﴾؛ أي: هلا يأتينا محمد - عليه الصلاة والسلام - فـ ﴿لولا﴾ تحضيضية بمعنى هلا؛ أي: هلا يأتينا ﴿بِآيَةٍ﴾ ومعجزة مما اقترحنا نحن ومن نعتد به، أو بآيةٍ كائنةٍ ﴿مِنْ﴾ آيات ﴿رَبِّهِ﴾ كما يأتي بها من كان قبله من الأنبياء، كموسى، وعيسى، لتكون علامةً على صدقه، وذلك كالناقة والعصى، بلغوا من العناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات من قبيل الآيات، حتى اجترؤوا على التفوه بهذه الكلمة العظيمة، فأجاب الله - سبحانه وتعالى - عليهم
(٢) المراغي.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: ﴿تأتهم﴾ بالتاء على لفظ بينة، وقرأ باقي السبعة، وأبو بحرية، وابن محيصن، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيدة، وابن سعدان، وابن عيسى، وابن جبير الأنطاكي ﴿يأتهم﴾ بالياء لمجاز تأنيث الآية، والفصل، أو لأن البينة بمعنى البيان والبرهان، وقرأ الجمهور (٢): بإضافة ﴿بَيِّنَةُ﴾ إلى ﴿مَا﴾ وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمر بالتنوين و ﴿مَا﴾ بدل، وقرأت فرقة: بنصب ﴿بَيِّنَةُ﴾ والتنوين و ﴿مَا﴾ فاعل بـ ﴿تَأْتِهِمْ﴾ و ﴿بَيِّنَةُ﴾ نصب على الحال، فمن قرأ: ﴿يأتهم﴾ بالياء فعلى لفظ ﴿مَا﴾ ومن قرأ بالتاء راعى المعنى؛ لأنه أشياء مختلفة وعلوم من مضى، وما شاء الله، وقرأ الجمهور: ﴿فِي الصُّحُفِ﴾ بضم الحاء، وفرقة منهم ابن عباس بإسكانها.
١٣٤ - ثم بيَّن أنه لا عذر لهم في ترك الشرائع، وسلوك طرق الضلالة بوجه ما فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ﴾؛ أي: أهلكنا كفار مكة في الدنيا، أو الكفرة ﴿بِعَذَابٍ﴾ مستأصل ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾؛ أي: من قبل محمد - ﷺ - أو من قبل
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (١): ولكن ألم نهلكهم قبل إتيانها، فانقطعت معذرتهم، فعند ذلك اعترفوا و ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾.
قال في "الأسئلة المقحمة": هذا يدل (٢) على أنه يجب على الله أن يفعل ما هو الأصلح لعباده المكلفين، إذ لو لم يفعل.. لقامت لهم عليه الحجة، بأن قالوا: هلا فعلت بنا ذلك حتى نؤمن.
والجواب: لو كان يجب عليه ما هو الأصلح لهم.. لما خلقهم، فليس في خلقه إياهم وإرسال الرسل إليهم رعاية الأصلح لهم، مع علمه بأنهم لا يؤمنون به، ولكنه أرسل الرسل وأكد الحجة، وسلب التوفيق، ولله تعالى أن يفعل ما يشاء بحق المالكية. انتهى.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ مبني للفاعل، وقرأ ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وزيد بن علي، والحسن في رواية عباد، والعمري، وداود، والفزاري، وأبو حاتم، ويعقوب: مبنيًا للمفعول.
والمعنى: أي (٤) ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب الاستئصال من قبل إتيان البينة، وهي القرآن.. لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا في الدنيا رسولًا معه الآيات الدالة على صدقه، فنتبع حججك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك، من قبل أن نذل بتعذيبك، ونفتضح به.
(٢) أسئلة المقحمة.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
١٣٥ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لأولئك الكفرة المتمردين ﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل واحد منا ومنكم ﴿مُتَرَبِّصٌ﴾ أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم:
قال في "الكبير" كل (١) منا ومنكم منتظر عاقبة أمره، إما قبل الموت بسبب الجهاد وظهور الدولة والقوة، أو بعد الموت بالثواب والعقاب، وبما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله، وعلى المبطل من أنواع إهانته، وروي: أن المشركين قالوا: نتربص بمحمد حوادث الدهر، فإذا مات.. تخلصنا ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾؛ أي: فانتظروا أنتم عاقبة أمرنا، ونحن نتربص عاقبة أمركم ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ أيها الكفرة عن قريب، إذا جاء أمر الله ونصره ﴿مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ﴾؛ أي: جواب من أصحاب الصراط المستقيم، والأصحاب جمع صاحب: بمعنى الملازم، والصراط: من السبيل ما لا التواء فيه؛ أي: لا إعوجاج فيه، بل يكون على سبيل القصد ﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾؛ أي: وجواب. اهتدى من الضلال؛ أي: أنحن أم أنتم، كما قال بعضهم:
سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ | افَرَسٌ تَحْتَكَ أَمْ حِمَارُ |
واعلم: أن الله سبحانه قطع المعذرة بالإمهال والإرشاد ذلك الحجة البالغة، وقرأ الجمهور (٢): ﴿السَّوِيِّ﴾: على وزن فعيل؛ أي: المستوي وقرأ أبو مجلز، وعمران بن حدير: ﴿السواء﴾؛ أي: الوسط، وقرأ الجحدري، وابن يعمر ﴿السوأى﴾ على وزن فعلى، أنث لتأنيث ﴿الصِّرَاطِ﴾ وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسوء، وقرىء ﴿السوي﴾ بضم السين وفتح الواو وشد الياء: تصغير السوء، قاله الزمخشري، وليس بجيّد، إذ لو كان تصغير سوءٍ.. لثبتت همزته في
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (١): قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين بالله: كلنا منتظر لمن يكون الفلاح له، وإلام أمرنا وأمركم فتربصوا وارتقبوا، فستعلمون من أهل الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، إذا جاء أمر الله وقامت القيامة، أنحن أم أنتم، وستعلمون من المهتدي الذي هو على سنن الطريق المقاصد، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ وقوله: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)﴾ ولا يخفى ما بين بداية السورة وخاتمتها من المناسبة، فإنها بُدئت ببيان أن القرآن قد أنزل لتحمل تعب الإبلاغ، وحيث قد بلغت فلا عليك، وختمت بطلب الإقبال على طاعة الله سبحانه وتعالى قدر الطاقة، وأمر أهله بالصلاة، وترك الذين لا يُنجح فيهم الإنذار، فإنه تذكره لمن يخشى، ويندم المخالف حيث لا ينفع الندم.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية و (اللام): موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿عَهِدْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَى آدَمَ﴾: متعلق به ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور ومتعلق بـ ﴿عَهِدْنَا﴾ أيضًا، أو حال من ﴿آدَمَ﴾ والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم: مستأنفة مسوقة لتقرير مساوىء النسيان، الذي هو صنو الجهل، وقرينه، ولذلك يجب التحوط عنه، والدعاء دائمًا، لقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ ﴿فَنَسِيَ﴾ (الفاء) عاطفة ﴿نسي﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿آدَمَ﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿عَهِدْنَا﴾ ﴿وَلَمْ نَجِدْ﴾ (الواو): عاطفة ﴿لم نجد﴾: جازم ومجزوم، وفاعله: ضمير يعود على الله، تقديره: نحن ﴿لَهُ﴾: جار
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد قصة ﴿إذ قلنا للملائكة﴾ ﴿قُلْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾: متعلق به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾ ﴿اسْجُدُوا﴾: فعل أمر وفاعل ﴿لِآدَمَ﴾: متعلق به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾. ﴿فَسَجَدُوا﴾ الفاء: عاطفة ﴿سجدوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿قُلْنَا﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿إِبْلِيسَ﴾: منصوب على الاستثناء، ولا تنس اختلاف العلماء في اتصال الاستثناء وانقطاعه ﴿أَبَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾ والجملة: في محل النصب حال من ﴿إِبْلِيسَ﴾ ﴿فَقُلْنَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿قُلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْجُدُوا﴾. ﴿يَا آدَمُ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾. ﴿إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾ أو صفة له ﴿وَلِزَوْجِكَ﴾: معطوف على ﴿لَكَ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾ على كونه جواب النداء ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿يخرجن﴾ فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾ و (الكاف): ضمير للمثنى المخاطب، في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾. ﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾: متعلق بـ ﴿يخرج﴾. ﴿فَتَشْقَى﴾ (الفاء):
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿لا﴾: نافية ﴿تَجُوعَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ وفاعله: ضمير يعود على ﴿آدَمُ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿تجوع﴾. ﴿وَلَا تَعْرَى﴾: معطوف على ﴿تَجُوعَ﴾ وجملة ﴿تَجُوعَ﴾: صلة ﴿أنْ﴾ المصدرية ﴿أنْ﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على كونه اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخرًا، تقديره: إن عدم الجوع والعرى كائن لك، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾. ﴿وَأَنَّكَ﴾ (الواو): عاطفة ﴿أنك﴾: ناصب واسمه ﴿لَا تَظْمَأُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَظْمَأُ﴾ ﴿وَلَا تَضْحَى﴾: معطوف على ﴿لَا تَظْمَأُ﴾ وجملة ﴿لَا تَظْمَأُ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ والتقدير: وأنك عادم الظمأ فيها، وعادم الضحو، وجملة ﴿أن﴾ المشددة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من ﴿أنْ﴾ المصدرية في قوله: ﴿أَلَّا تَجُوعَ﴾: عطف مفرد على مفرد، على كونه اسم ﴿إِنَّ﴾ المكسورة، والتقدير: إن لك عدم الجوع، وعدم العربي، وعدم الظمأ والضحو، وجاز أن تكون ﴿إِن﴾ بالفتح اسمًا، لـ ﴿إِنَّ﴾ بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يجز، حتى لو قلت: إن أن زيدًا قائم لم يجز، فلما فُصل بينهما جاز، فتقول إن عندي أن زيدًا قائم، فعندي: هو الخبر قدم على الاسم، وهو أن وما في حيزها، لكونه ظرفًا، والآية من هذا القبيل، إذ التقدير: وإن لك أنك لا
﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢)﴾.
﴿فَأَكَلَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿أكلا﴾: فعل وفاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿وسوس﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أكلا﴾. ﴿فَبَدَتْ﴾ (الفاء): عاطفة ﴿بدت﴾: فعل ماض ﴿لهما﴾ متعلق به ﴿سَوْآتُهُمَا﴾: فاعل ومضاف إليه والجملة: معطوفة على جملة ﴿أكلا﴾. ﴿وَطَفِقَا﴾: فعل ناقص واسمه؛ لأنه من أفعال الشروع، تعمل عمل كان وجملة ﴿يَخْصِفَانِ﴾: في محل النصب خبر ﴿طفقا﴾ وجملة ﴿طفقا﴾: معطوفة على جملة ﴿بدت﴾. ﴿عَلَيْهِمَا﴾ متعلق بـ ﴿يَخْصِفَانِ﴾؛ أي: لأجل ستر سوءتيهما فـ ﴿على﴾ تعليلية ﴿مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لموصوف محذوف هو المفعول به؛ أي: ورقًا كائنًا ﴿مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾. ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا﴾ ﴿فَغَوَى﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿وَعَصَى﴾ ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿اجْتَبَاهُ﴾: فعل ومفعول به ﴿رَبُّهُ﴾ فاعل، والجملة: معطوفة على جملة ﴿غوى﴾. ﴿فَتَابَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الرب ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تاب﴾ والجملة: معطوفة على جملة ﴿اجْتَبَاهُ﴾. ﴿وَهَدَى﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿تَابَ﴾.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، والفاعل: مستتر يعود على الله، والجملة: مستأنفة ﴿اهْبِطَا﴾: فعل أمر وفاعل يعود على آدم وحواء، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿اهْبِطَا﴾. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من فاعل ﴿اهْبِطَا﴾ ﴿بَعْضُكُمْ﴾: مبتدأ ﴿لِبَعْضٍ﴾: حال من ﴿عَدُوٌّ﴾ لأنه كان صفة له، أو متعلق به ﴿عَدُوٌّ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿اهْبِطَا﴾. ﴿فَإِمَّا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿إما﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿ما﴾ زائدة ﴿يَأْتِيَنَّكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد ﴿مِنِّي﴾: متعلق به ﴿هُدًى﴾: فاعل ﴿فَمَن﴾ (الفاء): رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما ﴿اتَّبَعَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مِنْ﴾. ﴿هَدَى﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿فَلَا﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية لاقترانه بـ ﴿لا﴾. ﴿لا﴾: نافية ﴿يَضِلُّ﴾: فعل مضارع، وفاعل، يعود على ﴿مَن﴾. ﴿وَلَا يَشْقَى﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿يَضِلُّ﴾: في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَن﴾: الشرطية: جواب ﴿إن﴾ الشرطية وجملة ﴿إن﴾: الشرطية معطوفة على ﴿اهْبِطَا﴾: على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل رفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما ﴿أَعْرَضَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿عَنْ ذِكْرِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَعْرَضَ﴾. ﴿فَإِنَّ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾: الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية ﴿إن﴾ حرف نصب وتوكيد ﴿لَهُ﴾:
وَنَعَتُوْا بِمَصْدَرٍ كَثِيْرَا | فَالْتَزَمُوْا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيْرَا |
﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: حشرناك حشراً مثل ذلك الحشر، يعني: ﴿أَعْمَى﴾ أو فعلنا بك مثل ذلك، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر ﴿كَذَلِكَ﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أَتَتْكَ﴾: فعل ومفعول ﴿آيَاتُنَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَنَسِيتَهَا﴾ (الفاء): عاطفة ﴿نسيتها﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَتَتْكَ﴾. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ (الواو): عاطفة ﴿كَذَلِكَ﴾:
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ الواو: عاطفة ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمحذوف ﴿نَجْزِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نَجْزِي﴾. ﴿أَسْرَفَ﴾: فعل ماض، وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة الفعلية: صفة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والتقدير: ونجزي من أسرف وجاوز الحد جزاءً مئل جزاء المعرض عن آياتنا في حشره أعمى، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا﴾: على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ﴾ جازم ومجزوم وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُؤْمِنْ﴾: وجملة ﴿يُؤْمِنْ﴾: معطوفة على جملة ﴿أَسْرَفَ﴾ على كونها صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿وَلَعَذَابُ﴾ (الواو): عاطفة و (اللام): حرف ابتداء ﴿عذاب الآخرة﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿أَشَدُّ﴾: خبر ﴿وَأَبْقَى﴾: معطوف عليه، والجملة: معطوفة على جملة ﴿نَجْزِي﴾ أو مستأنفة.
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨)﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم ﴿يَهْدِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به ﴿كَمْ﴾ خبرية بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾. ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿قَبْلَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾ ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾: جار ومجرور صفة لتمييز ﴿كَمْ﴾ المحذوف تقديره: كم أهلكنا قبلهم قرنًا كائنًا من القرون، وجملة ﴿يَمْشُونَ﴾ في محل النصب حال من
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾ الواو: استئنافية ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود ﴿كَلِمَةٌ﴾: مبتدأ وجملة ﴿سَبَقَتْ﴾: صفة لـ ﴿كَلِمَةٌ﴾ ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿سَبَقَتْ﴾ وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ﴾ سابقة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ موجودة ﴿لَكَانَ﴾ (اللام) رابطة لجواب ﴿لَوْلَا﴾ كان: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على الإهلاك ﴿لِزَامًا﴾ خبر ﴿كان﴾ والتقدير: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بتأخير العذاب عنهم ﴿لَكَانَ﴾ الإهلاك العاجل لازما لهم ﴿وَأَجَلٌ﴾: معطوف على ﴿كَلِمَةٌ﴾. ﴿مُسَمًّى﴾: صفة له، والتقدير: ولولا أجل مسمى لإهلاكهم لكان الإهلاك العاجل لازمًا لهم. ويجوز كما قال الزمخشري، وأبو البقاء: أن يكون ﴿أجل﴾ معطوفًا على الضمير المستتر في ﴿كان﴾ وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد بالضمير المنفصل، فيكون من قبيل قول ابن مالك: أو فاصلٍ ما؛ أي: لكان الإهلاك العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعادٍ وثمودٍ.
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠)﴾.
﴿فَاصْبِرْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،
أحدهما: أنه عطف على محل ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾.
والثاني: أنه عطف على ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾. انتهى.
﴿لَعَلَّكَ﴾ ﴿لعل﴾: حرف نصب وترج و (الكاف): اسمها وجملة ﴿تَرْضَى﴾: خبرها، ومتعلق ﴿تَرْضَى﴾: محذوف مفهوم من السياق؛ أي: بما تعطاه من الثواب، وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿سبح﴾؛ أي: صلِّ حال كونك راجيًا في أن الله تعالى يرضيك بما يعطيه من الثواب.
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)﴾.
الأول: أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ ﴿مَتَّعْنَا﴾ إذا أعربنا ﴿أَزْوَاجًا﴾ على أنه مفعول أول لأنه ضمَّن ﴿مَتَّعْنَا﴾ معنى: أعطينا فـ ﴿أَزْوَاجًا﴾ مفعول أول، و ﴿زَهْرَةَ﴾: مفعول ثان.
الثاني: أن يكون بدلًا من ﴿أَزْوَاجًا﴾ وذلك إما على حذف مضاف؛ أي ذوي زهرة، وإما على المبالغة، كأنهم نفس الزهرة.
الثالث: أن يكون منصوبًا لفعل مضمر، دل عليه ﴿مَتَّعْنَا﴾ تقديره: جعلنا لهم ﴿زَهْرَةَ﴾.
الرابع: نصبه على الذم؛ أي: أذم ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
الخامس: أن يكون بدلًا من موضع الموصول.
السادس: أن ينتصب بدلًا من محل ﴿بِهِ﴾.
السابع: أن ينتصب حالًا من ﴿مَا﴾ الموصولة.
الثامن: أنه حال من الهاء في ﴿بِهِ﴾ وهو ضمير الموصول، وهذا كالذي قبله في المعنى.
التاسع: أنه تمييز لـ ﴿ما﴾ أو للهاء في ﴿بِهِ﴾ قاله الفراء. اهـ "سمين" ﴿زَهْرَةَ﴾: مضاف ﴿الْحَيَاةِ﴾: مضاف إليه ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿حياة﴾. ﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾: اللام: للتعليل ﴿نفتن﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله:
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢)﴾.
﴿وَأْمُرْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة ﴿أمر أهلك﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به ﴿بِالصَّلَاةِ﴾ متعلق به، والجملة: مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾. ﴿وَاصْطَبِرْ﴾: فعل أمر، وفاعل: مستتر معطوف على ما قبله ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق به ﴿لَا﴾ نافية ﴿نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة: مستأنفة ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ ﴿نَرْزُقُكَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ (الواو): استئنافية ﴿العاقبة﴾: مبتدأ ﴿لِلتَّقْوَى﴾: خبر المبتدأ، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: لأهل التقوى، والجملة: مستأنفة.
﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة ﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلا ﴿يَأْتِينَا﴾: فعل ومفعول به وفاعله: ضمير يعود على محمد ﴿بِآيَةٍ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: صفة لـ ﴿آية﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿أَوَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف و (الواو): عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿تَأْتِهِمْ﴾: فعل ومفعول ومجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿بَيِّنَةُ مَا﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿فِي الصُّحُفِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿الْأُولَى﴾ صفة لـ ﴿الصُّحُفِ﴾ والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: ألم يأتهم سائر الآيات ولم يأتهم بيان ﴿مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ والجملة الفعلية: معطوفة على تلك المحذوفة، والجمله المحذوفة: مستأنفة.
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ
﴿وَلَوْ أَنَّا﴾ الواو: استئنافية ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿بِعَذَابٍ﴾ متعلق بـ ﴿أهلكنا﴾ ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿عذاب﴾ أو متعلق بـ ﴿أهلكنا﴾ والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مرفوع بفعل محذوف هو فعل شرط لـ ﴿لو﴾ تقديره: ولو ثبت إهلاكنا إياهم بعذاب من قبله ﴿لَقَالُوا﴾ (اللام): رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل ﴿رَبَّنَا لَوْلَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، والجملة الفعلية: جواب ﴿لو﴾: لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا ﴿أَرْسَلْتَ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْتَ﴾ ﴿رَسُولًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَنَتَّبِعَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية ﴿نتبع﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿الفاء﴾ السببية الواقعة في جواب التحضيض، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: نحن يعود على الكفرة ﴿آيَاتِكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نتبع﴾ والجملة الفعلية: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: هلا إرسالك إلينا رسولًا فاتباعنا آياتك ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر ﴿نَذِلَّ﴾: فعل مضارع، وفاعل: مستتر منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية ﴿وَنَخْزَى﴾ معطوف عليه، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بضافة الظرف إليه، تقديره: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ ذلنا وخزينا.
﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله: ضمير يعود على محمد، والجملة: مستأنفة ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد العموم ﴿مُتَرَبِّصٌ﴾: خبر والجملة في
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا﴾ والعهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، كما مر، والوصية: يقال عهد إليه الملك بكذا، وتقدم إليه بكذا: إذا أمره وأوصاه.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل وجود هؤلاء المخالفين.
﴿عَزْمًا﴾ والعزم على الشيء: تصميم الرأي، والثبات عليه.
﴿وَلَا تَضْحَى﴾ يقال: ضحى كسعى، وضحي كرضي: إذا أصابته الشمس بحرها اللافح، وفي "القاموس": وضحا يضحو، كغزا يغزو، ضحوًا: إذا برز للشمس، وكسعى ورضي، ضحوًا وضحيًا: أصابته الشمس. انتهى.
﴿شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾؛ أي: الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان.. خلد ولم يمت.
وفي "القاموس" وسوس الشيطان له، وإليه وسواسًا ووسوسةً: إذا حدَّثه بشر أو بما لا نفع فيه ولا خير، ووسوس الرجل: أصيب في عقله، وتكلم بغير نظام، وأصابته الوساوس: فهو موسوس، وتكلم بكلام خفي، والوسواس: صوت الحلي كما مر، ووُسْوِس الرجل كلامًا خفيًا، ووسوس به، بالبناء للمجهول: اختلط كلامه ودهش، والوسواس الاسم من وسوس، والوسواس الشيطان، والوسواس مرض يحدث من غلبة السوداء، ويختلط معه الذهن، ويقال، لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه: وسواس وجمعه: وساوس.
﴿يَخْصِفَانِ﴾ في "القاموس": خصف النعل يخصفها: خرزها، والورق على بدنه: ألزقها وأطبقها عليه ورقةً ورقةً، ويقال: خصف ورق الشجرة بعضه ببعض، حتى يصير عريضًا صالحًا للاستتار.
﴿وَعَصَى آدَمُ﴾ يقال: عصى عصياناً: إذا خرج عن الطاعة، وأصله: أن يمتنع بعصاه.
﴿فَغَوَى﴾؛ أي: ضل عن الرشد، حيث اغتر بقول عدوه.
و ﴿اجْتَبَاهُ﴾؛ أي: اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة، والتوفيق لها، من جبى إلى كذا فاجتبيته، مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل الكلمة: الجمع. اهـ "بيضاوي".
فالمجتبى: كأنه في الأصل مَنْ جُمِعَتْ فيه المحاسن، حتى اختاره غيره. انتهى "شهاب". ﴿اهْبِطَا مِنْهَا﴾ يقال: هبط هبوطًا إلى نزل، قال الراغب:
﴿عَنْ ذِكْرِي﴾؛ أي: عن الهداية بكتبي السماوية.
﴿ضَنْكًا﴾ والضَّنْك: الضيق الشديد في كل شيء، يقال للذكر والأنثى: ضَنُكَ ككرم ضنكًا وضناكةً وضنوكة: إذا ضاق. اهـ "قاموس" وفي "السمين": قوله ﴿ضَنْكًا﴾: صفة لمعيشة، وأصله المصدر، ولذلك لم يؤنث كما مر، ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد، وقرىء: ﴿ضنكى﴾ بألف كسكرى، وفي هذه الألف احتمالان:
أحدهما: أنها بدل من التنوين، وإنما أُجري الوصل مجرى الوقف.
والثاني: أن تكون ألف التأنيث، بُنِي المصدر على فعلى نحو دعوى، والضَّنْك: الضيق والشدة، يقال منه: ضَنُك عيشه، يَضْنُك ضناكةً وضنكًا، وامرأة ضَنَّاك كثيرة لحم البدن، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به. اهـ "سمين".
﴿أَعْمَى﴾؛ أي: عن النظر في الحجج والبراهين الإلهية.
﴿أَسْرَفَ﴾؛ أي: انهمك في الشهوات، واسترسل فيها.
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾؛ أي: لم يهتد لهم، فهو لازم فمعناه يتبين.
﴿الْقُرُونِ﴾: جمع قرن، وهو: القوم المقترنون في زمن واحد كما مر.
﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ قال الراغب: المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة، والسكون: ثبوت الشيء بعد تحرك، ويستعمل في الاستيطان، نحو سكن فلان مكان كذا؛ أي: استوطنه، واسم المكان: مسكن، والجمع: مساكن.
﴿لِأُولِي النُّهَى﴾؛ أي: لأصحاب العقول الراجحة، جمع نهية، وهو: العقل.
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ قال الراغب: الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر: لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة.. يسمى صبرًا لا غير، ويضاده الجزع، وإن كان في محاربةٍ.. سمي: شجاعةً، ويضاده الجبن، لان كان في نائبةٍ.. سمي: رحب الصدر، ويضاده الضمير، وإن كان في إمساك الكلام.. سمي كتمانًا، ويضاده البذل، وقد سمي الله تعالى كل ذلك، ونبه عليه بقوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ وقال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ وسمى الصوم: صبرًا لكونه كالنوع منه.
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾؛ أي: اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه.
﴿آنَاءِ اللَّيْلِ﴾؛ أي: في ساعات الليل. و ﴿مِنْ﴾ بمعنى في، والآناء جمع إنىً بكسر الهمزة وبالقصر، كمعًى بكسر الميم جمعه: أمعاء، وهو محذوف اللام، فوزنه فِعَى بكسر الفاء.
﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ المراد بالجمع: ما فوق الواحد؛ لأن المراد بالأطراف الزمن، الذي هو آخر النصف الأول، وأول النصف الثاني فهما طرفان؛ أي: آخر الأول، وأول الثاني طرفان للنهار؛ أي: طرفان لنصفيه، كل واحد منهما طرف لنصف، وإن كانا متصلين. اهـ شيخنا.
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ أصل المد: الجر، ومنه المدة للوقت الممتد، وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، والمد في المكروه، ونحو ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ﴾ وقوله: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ والعين: الجارحة بخلاف البصر.
﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾؛ أي: لذَّذْنَا به؛ أي: فالإمتاع والتمتع معناه: الإيقاع في اللذة. اهـ شيخنا. وفي "الكبير": ألذذنا به، والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويُسمع من الأصوات المطربة، ويشم من الريح الطيبة، وغير ذلك من الملابس والمناكح.
فصل في أسماء الأصوات
وعدناك ببحث أسماء الأصوات، ونرى أن نتوسع فيها قليلًا؛ لأن كتب النحو قلما تهتم لها، فهي تجري مجرى أسماء الأفعال؛ لأنها متواخية معها، وهي مبنية، وتنقسم إلى قسمين:
الأول: منهما: ما خوطب به ما لا يعقل، مما يشبه اسم الفعل في الاكتفاء به، ولكن اسم الفعل مركب، واسم الصوت مفرد، لعدم تحمله الضمير، كقولهم في دعاء الإبل لتشرب: جىء جىء بكسر الجيم فيهما، مكررين مهموزين، وفي "المحكم": أنهما أمر للإبل بورود الماء، يقال: جأجأت الإبل: إذا دعوتها لتشرب الماء، فقلت: جىء جىء، نقله الجوهري عن الأموي، وكقولهم في دعاء الضأن: حاحا، وفي دعاء المعز: عاعا غير مهموزين، والفعل منهما: حاحيت وعاعيت، قال سيبويه: وأبدلوا الألف من الياء لشبهها بها؛ لأن قولك: حاحيت، إنما هو صوت بنيت منه فعلًا، وليست فاعلت، وكقولهم في زجر البغل:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ | نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِيْنَ طَلِيْقُ |
والثاني: منهما: ما حكي به صوت مسموع، والمحكي صوته قسمان: حيوان، وغيره.
والأول: كغاق بالغين المعجمة، والقاف لصوت الغراب.
نبذة في تعداد أسماء الأصوات
الصرير: صوت القلم والسرير والباب والطست والنعل، والنشيش: صوت غليان القدر بالشراب، الرنين: صوت الثكلى والقوس، القصيف: صوت الرعد والبحر وهدير الفحل، النقيق: صوت الدجاج والضفدع، القعقعة: صوت السلاح والجلد اليابس والقرطاس، الغرغرة: صوت غليان القدر وتردد النفس في صدر المحتضر، العجيج: صوت الرعد والنساء والشاء، الزفير: صوت النار والحمار، والمكروب إذا امتلأ صدره غمًا، فزفر به، الخشخشة، والشحشحة: صوت حركة القرطاس والثوب الجديد والدرع، الجلجلة: صوت السبع وحركة الجلاجل، الحفيف: صوت حركة الأغصان وجناح الطائر وحركة الحية، الصليل، والصلصلة: صوت الحديد واللجام والسيف والدراهم والمسامير، الطنين: صوت البعوض والذباب والطنبور، والأطيط: صوت الناقة والمحمل والرحل - إذا أثقله ما عليه - الصرصرة: صوت البازي والبط، الدوي: صوت النحل والأذن والمطر والرعد، الأنقاض: صوت الدجاجة والفروخ، التغريد: صوت المغني والحادي والطائر، وكل صائت طرب الصوت فهو كرد، الزمزمة، والزهزمة: صوت الرعد ولهب النار وحكاية صوت المجوسي إذا تكلم الكلام وهو مطبق فمه. انتهى من "إعراب القرآن".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾.
ومنها: إضافة السبب إلى المسبب في قوله: ﴿عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾.
ومنها: الاستخدام في قوله: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا﴾؛ أي: من ثمرتها، وهو ذكر
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿أَعْمَى﴾ و ﴿بَصِيرًا﴾.
ومنها: التشبيه المجمل المرسل في قوله: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿وَكَذَلِكَ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبخي في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك﴾ من إطلاق الجزء، وإرادة الكل؛ لأنه بمعنى صل.
ومنا: الطباق في قوله: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ وبين الليل والنهار في قوله: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مثل لنعم الدنيا بالزهر، وهو: النور؛ لأن الزهر له منظر حسن، ثم يذبل ويضمحل، وكذلك نعيم الدنيا.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾.
ومنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا﴾، وفي قوله: ﴿كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾.
ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - أن القرآن أُنزل على نبيه - ﷺ - تذكرةً لمن يخشى، أنزله من خلق الأرض والسموات العلى.
٢ - قصص موسى - عليه السلام - وتكليمه ربه في الطور، وحديث العصا واليد البيضاء من غير سوء، وطلبه من ربه أن يجعل له أخاه هارون وزيرًا، وإجابة سؤاله في ذلك، وامتنانه عليه بما حدث له حين وضع في التابوت، وألقي في اليم، وقص أخته ورجوعه إلى أمه، ثم طلب ربه منه أن يُبلغ فرعون دعوته، وينصح له في قبول دينه، وإقامة شعائره، وإجابة فرعون له بأنه ساحر كذاب، وأنه سيجمع له السحرة، فتوعدهم فرعون بالعذاب، فلم يأبهوا له، واستمر فرعون في غيّه حتى أوحى الله إلى موسى أن يخرج من مصر، فأتبعه هو وجنوده فأُغرقوا.
٣ - حديث السامري، وإضلاله بني إسرائيل، باتخاذه عجلًا جسدًا له خوار، حين كان موسى بالطور، وحين رجع ورأى ذلك هاله الأمر، وغضب من أخيه هارون، وأخذ يجره من رأسه، ثم إغلاظه القول للسامري، ودعوته عليه بأنه يعيش طريدًا في الحياة، وسيعذبه الله في الآخرة أشد العذاب، ثم نسف إلهه وإلقاؤه في اليم.
٤ - بيان أن من أعرض عن القرآن.. فإنه سيلقى الجزاء والوبال يوم القيامة.
٥ - ذكر أوصاف المجرمين حينئذٍ، وأنهم يختلفون في مدة لبثهم في الدنيا.
٦ - سؤال المشركين عن حال الجبال يوم القيامة، وأن الأصوات حينئذٍ تخشع للرحمن، فلا تسمع إلا همسًا، وأن الوجوه تخضع لربها القائم بأمرها.
٧ - وصف القرآن الكريم بأنه عربي مبين، أنزل تذكرة للناس، وأن الله سيعصم رسوله من نسيانه، فلا ينبغي أن يعجل بتلاوته قبل أن يتم تبليغ جبريل له.
٩ - بيان أن من أعرض عن ذكر ربه.. عاش في الدنيا عيشةً ضنكًا، وعمي في الآخرة عن الحجة التي تنقذه من العذاب؛ لأنه قد كان في الدنيا أعمى عنها، تاركًا لها فتركه ربه من إنعامه.
١٠ - بيان أن في المثلات التى سلفت للأمم قبلهم، ممن يقرون على ديارهم مصبحين، وبالليل، كعادٍ وثمود، ما ينبغي أن يكون رادعًا لهم، وزاجرًا لو تدبروا وعقلوا.
١١ - إن كلمة الله قد سبقت بأنه سيؤخر عذاب المشركين إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة.
١٢ - طلبه من رسوله تنزيهه، والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار، رجاء أن يعطيه ما يرضيه.
١٣ - أمر رسوله أن يأمر أهله بالصلاة، ويصطبر هو عليها، وهي لا تكون شاغلًا لهم عن الرزق.
١٤ - طلب المشركين من الرسول أن ياتيهم بآية من نوع ما أوتي الرسل الأولون.
١٥ - إن إنزال القرآن على رسوله، ليزيح العلة، ويمنع المعذرة، يوم القيامة، فلا يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولًا، وأتينا بكتاب نتبعه.
١٦ - وعيد المشركين بأنهم يتربصون، وسيعلمون يوم القيامة لمن يكون له حسن العاقبة.
* * *
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السابع عشر، أوائل الليلة السابعة عشرة ليلة السبت المبارك، من شهر الجمادي الأولى، من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشرة، سنة ١٧/ ٥/ ١٤١٢ من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.
بحول أن سبحانه وتيسيره، ونسأله الإعانة على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد، خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيرًا، دائمًا إلى يوم الدين. آمين.
بورك تفسير الروح والريحان | كما بورك جنا الزيتون والرمان |
بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِيْ | وَمَنْ طَلَبَ الْعُلاَ سَهِرَ اللَّيَالِيْ |
تَرُوْمُ الْعِزَّ ثُمَّ تَنَامُ لَيْلاً | يغُوْصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ الَّلألِيْ |
عُلُوُّ الْكَعْبِ بِالْهِمَمِ الْعَوَالِيْ | وَعِزُّ الْمَرْءِ فِيْ سَهَرِ اللَّيَالِيْ |
وَمَنْ رَامَ الْعُلاَ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ | أَضَاعَ الْعُمْرَ فِيْ طَلَبِ الْمُحَالِ |
تَرَكْتُ النَّوْمَ رَبِّيْ فِيْ اللَّيَالِيْ | لأَجْلِ رِضَاكَ يَا مَوْلَى الْمَوَالِيْ |
فَوَفِّقْنِيْ إِلَى تَحْصِيْلِ عِلْمٍ | وَبَلِّغْنِيْ إِلَى أَقْصَى الْمَعَالِيْ |