ﰡ
أسباب النزول
قوله تعالى (١): ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الواحدي، والطبراني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبيٌّ صغيرٌ: هو صدِّيقٌ. فبلغ ذلك النبيَّ - ﷺ -، فقال: "كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله سبحانه في بطن أمه، إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد". فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالنَّجْمِ﴾ أي: أقسم لكم أيها المشركون بالنجم. ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)﴾ وسقط للغروب. والتعريف فيه (٢) للجنس. والمراد به: جنس النجوم، وبه قال جماعة من المفسرين. وقيل: المراد به: الثريا. وهو اسم غلب فيها. تقول العرب: النجم، وتريد به الثريا، وبه قال مجاهد، وغيره. والثريا (٣) سبعة كواكب، ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه.
وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكبًا. وكان رسول الله - ﷺ - يراها كلها بالقوة التي جعلها الله سبحانه في بصره. وقال في "عين المعاني": وهي سبعة أنجم ظاهرة، والسابع تمتحن به الأبصار، وكانت قريش تجلها، وتقول: أحسن النجم في السماء الثريا. والثريا في الأرض زين السماء، وكانت رحلتاها عند طلوعها وسقوطها. فإذا طلعت بالغداة عدُّوها من الصيف، وإذا طلعت بالعشي عدوها من الشتاء، وقال السدي (٤): النجم هنا: هو الزهرة. لأنَّ قومًا من العرب كانوا يعبدونها. وقيل:
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
وقيل: النجم القرآن، وسمي نجمًا لكونه نزل منجمًا مفرقًا، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق المنجم، وبه قال مجاهد، والفرّاء، وغيرهما، والأول أولى، قال الحسن: المراد بالنجم: النجوم، إذا سقطت يوم القيامة. وقيل: المراد بها: النجوم التي ترجم بها الشياطين. ومعنى هويه: سقوطه من علو إلى سفل. يقال: هوى النجم يهوى هويًّا، إذا سقط من علو إلى سفل. وقيل: غروبه. وقيل: طلوعه. والأوَّل أولى. وبه قال الأصمعيّ، وغيره. ومعنى الهويِّ على قول من فسَّر النجم بالقرآن: أنه نزل من أعلى إلى أسفل. وأما على قول من قال: إنه النبت الذي لا ساق له، أو إنه محمد - ﷺ -، فلا يظهر للهوي معنى صحيح.
وهذا القسم (١) جريًا على عادة العرب فإنها تقسم بكل ما تستعظمه، وتريد إظهار تعظيمه. وقيل: كل موضع أقسم فيه الرب بمخلوق، فالرب فيه مضمر كقوله: ﴿وَالنَّجْمِ﴾، ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾؛ أي: ورب النجم، ورب الذاريات، وأشباه ذلك. والعامل في ﴿إِذَا﴾ هو فعل القسم المقدر؛ أي: أقسم. فإنه بمعنى مطلق الوقت، منسلخ عن معنى الاستقبال، كما في قولك: أتيتك إذا احمر البُسْر. فلا يلزم عمل فعل الحال في المستقبل. يعني: إن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال، و ﴿إذا﴾ لما يستقبل من الزمان، فيكون المعنى: أقسم الآن بالنجم وقت هوى بعد هذا الزمان.
ثم إن الله سبحانه أقسم بالنجم حين هوى؛ أي: وقت هويه؛ لأن شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا. كأنّه قيل: والنجم الذي يهتدي به السابلة في البر، والجارية في البحر إلى سواء السبيل.
٢ - ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ أيها المشركون محمد - ﷺ -. وهو جواب القسم؛ أي: ما عدل، ولا مال في أقواله وأفعاله عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة. وهذا دليل على أن قوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ ليس من ضلال الغي. فإنه - ﷺ - قبل الوحي، وبعده لم يزل يعبد ربه، ويوحده، ويتوقى مستقبحات الأمور. وفيه (٢) بيان فضل
(٢) روح البيان.
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾ وأخطأ في اعتقاده؛ لأنَّ الغي اعتقاد شيء فاسد باطل. فعطفه على ﴿مَا ضَلَّ﴾ من عطف الخاصّ على العام، للاهتمام بشأن الخاص. فإنه فرق بين الغي والضلال، بأن الغي هو الخطأ في الاعتقاد خاصة، والضلال أعم منه. لأنه يتناول الخطأ في الأقوال، والأفعال، والأخلاق، والعقائد التي شرعها الله سبحانه، وبينها لعباده.
والمعنى: ما عدل صاحبكم عن طريق الحق في الأقوال، والأفعال، والاعتقاد، وغيرها. وما اعتقد باطلًا قط؛ أي: هو في غاية الهدى والرشد، وليس مما تتوهمونه من الضلال والغواية في شيء أصلًا. وكانوا يقولون: ضل محمد عن دين آبائه، وخرج عن الطريق، وتقوَّل شيئًا من تلقاء نفسه. فرد الله عليهم بنفسه بتنزيل هذه السورة تعظيمًا له.
والخطاب لقريش (١)، وإيراده - ﷺ - بعنوان صاحبيته لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، وإحاطتهم خبرًا ببراءته - ﷺ - مما نفي عنه بالكلية، واتصافه بغاية الهدى والرشاد. فإنَّ طول صحبتهم له، ومثاهدتهم محاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتمًا، كما في "الإرشاد". ويؤيد ما في "الإرشاد": قول الراغب في "المفردات": لا يقال: الصاحب في العرف إلا لمن كثرت ملازمته، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾. سمي النبي - ﷺ - صاحبهم تنبيهًا على أنكم صحبتموه، وجربتموه، وعرفتم ظاهره وباطنه، ولم تجدوا به خبلًا ولا جنة.
وتقييد القسم بوقت الهوى؛ لأنَّ النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء، ولا يعلم المشرق من المغرب، ولا الشمال من الجنوب. وإنما يهتدي به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكي من تدلي جبريل من الأفق الأعلى، ودنوه منه عليهما السلام. وقال سعدي المفتي: ثم التقييد بوقت الهوى؛ أي: الغروب لكونه أظهر دلالة على وجود الصانع، وعظيم قدرته،
قال ابن الشيخ في "حواشيه": وفيه لطيفة. وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه، وقد كان فيهم من يعبده، فنبه بهويه على عدم صلاحيته للإلهية بأفوله.
وقيل: خص الهوى دون الطلوع؛ لأنَّ لفظة النجم دلت على طلوعه. فإن أصل النجم الكوكب الطالع.
ومعنى الآية: أقسم (١) بمخلوقاتي العظيمة. وهي النجوم التي تسير في مداراتها، ولا تعدوا أفلاكها، والتي تهتدون بها في الفيافي والقفار في حلكم، وترحالكم، في سفركم وحضركم، وفي البحار، ولها لديكم منزلة عظمى في حياتكم المعيشية أنَّ محمّدًا نبي حقًّا، وما حاد عن سبيل الحق، ولا سلك سبيل الباطل. وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم في تعيين المواسم، والفصول ليستعدوا للنجعة، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه، وهم يتيامنون ببعضها، ويتشاءمون ببعض آخر.
إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجرامًا علوية، يجب علينا أن نتعرف أمرها، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها، وبديع صنعه.
والخلاصة: أنَّ الرسول - ﷺ - راشد، مرشد، تابع للحق ليس بضال، ولا هو بسالك للطريق بغير علم، ولا بغاو يعدل عن الحق قصدًا إلى غيره. وبهذا نزه الله رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق، ويعملون بخلافه. فهو في غاية الاستقامة، والاعتدال، والسداد.
٣ - وضمن كلمة ﴿يَنْطِقُ﴾ في قوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)﴾ معنى الصدور (٢)، فعداه بكلمة ﴿عَنِ﴾. فالمعنى: وما يصدر نطقه بالقرآن عن هواه ورأيه أصلًا. فإن المراد: استمرار نفي النطق عن الهوى، لا نفي استمرار النطق عنه، وقد يقال: ﴿عَنِ﴾ هنا بمعنى الباء؛ أي: وما ينطق بالهوى، كما يقال: رميت السهم عن القوس؛ أي: بالقوس. وفي "التنزيل": ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾؛ أي:
(٢) روح البيان ببعض تصرف.
قال ابن الشيخ: قال أوّلًا: ﴿مَا ضَلَّ﴾، ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾ بصيغة الماضي، ثم قال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)﴾ بصيغة المستقبل بيانًا لحاله قبل البعثة وبعدها، أي: ما ضل، وما غوى حين اعتزلكم وما تعبدون قبل أن يبعث رسولًا، وما ينطق عن الهوى الآن، حين يتلو عليكم آيات ربه، انتهى.
٤ - ﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما الذي ينطق به محمد - ﷺ - من القرآن، وغيره ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ من الله سبحانه وتعالى. وقوله: ﴿يُوحَى﴾ إليه بواسطة جبرئيل عليه السلام صفة مؤكدة لوحي، رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار التجددي. يعني: أن فائدة الوصف التنبيه على أنه وحي حقيقة، لا أنه يسمى به مجازًا. والوحي قد يكون اسمًا بمعنى الكتاب الإلهي، وقد يكون مصدرًا. وله معان: الإرسال، والإلهام، والكتابة، والكلام، والإشارة، والإفهام.
وفيه (١) إشارة إلى أن النبي - ﷺ - قد فني عن ذاته، وصفاته، وأفعاله في ذات الله، وصفاته، وأفعاله. بحيث لم يبق منه لا اسم، ولا رسم، ولا أثر، ولا عين. فكان ناطقًا بنطق الحق، لا بنطق البشرية. فلا يتوهم فيه أن يجري عليه الخطرات الشيطانية، والهواجس النفسانية. وقال بعض المفسرين (٢): إن قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ رد لقولهم: إنه مجنون. وقوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾ رد لقولهم: ﴿هُوَ شَاعِرٌ﴾؛ أي: ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط.
وقوله: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾، وقوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)﴾ رد لقولهم: كاهن. وقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ تأكيد لما تقدم؛ أي: فلا هو بقول كاهن، ولا هو بقول شاعر. والهوى كما سيأتي الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع.
٥ - ﴿عَلَّمَهُ﴾ أي: علم صاحبكم محمدًا - ﷺ - القرآن ملك شديد القوى؛ أي: نزل به عليه، وقرأه عليه، وبينه له. هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب. وإن كان بمعنى الإلهام، فتعليمه بتبليغه إلى قلبه. فيكون كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى
(٢) المراغي.
وقوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)﴾ من (١) إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، مثل؛ حسن الوجه، والموصوف محذوف، كما قدرنا آنفًا؛ أي: علمه ملك شديد قواه؛ أي: شديد قوة الجسم والبدن، وهو جبريل عليه السلام. فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. ويكفيك دليلًا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة، فأصبحوا جاثمين. وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام، وصعوده في أسرع من رجعة الطرف.
٦ - ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾؛ أي: صاحب حصافة واستحكام في عقله ورأيه، ومتانة في دينه. وقوله: ﴿فَاسْتَوَى﴾ معطوف على قوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)﴾، كما أشار إليه القرطبي ونصه. ﴿فَاسْتَوَى﴾؛ أي: ارتفع (٢) جبريل، وعلا إلى مكانه في السماء بعد أن علَّم محمدًا - ﷺ -، قاله سعيد بن المسيب، وابن جبير. وقيل: معنى ﴿فَاسْتَوَى﴾؛ أي: قام، وظهر في صورته التي خلق عليها؛ لأنّه كان يأتي النبي - ﷺ - في صورة الآدميين، كما يأتي إلى الأنبياء. فسأله النبي - ﷺ - أن يريه نفسه التي جبله الله عليها، فأراه نفسه مرتين. مرة في الأرض، ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى.
وذلك أن رسول الله - ﷺ - أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها. وكان رسول الله - ﷺ - بجبل حراء. وهو الجبل المسمى بجبل النور في قرب مكة. فقال: إنّ الأرض لا تسعني، ولكن أنظر إلى السماء، فطلع له جبريل من المشرق، فسد الأرض من المغرب، وملأ الأفق، فخر رسول الله - ﷺ -، كما خر موسى في جبل الطور، فنزل جبريل في صورة الآدميين، فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا محمد - ﷺ -. وقيل: إن معنى ﴿فَاسْتَوَى﴾؛ أي: استوى القرآن في صدر محمد - ﷺ - حين نزل عليه.
(٢) القرطبي.
٨ - ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ جبريل عليه السلام؛ أي: ثم بعدما استوى، وظهر على صورته الأصلية، ومد جناحه، وسد الأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها. وهو صورة دحية بن خليفة الكلبي أمير العرب. ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ أي: أراد الدنو والقرب إلى النبي - ﷺ - حال كونه في جبل حراء.
﴿فَتَدَلَّى﴾ أي: استرسل، واستنزل جبريل من الأفق الأعلى مع تعلقه به. والدنو: القرب بالذات أو بالحكم. والتدلي: استرسال مع تعلق. وفي العبارة تقديم وتأخير؛ أي: تدلى ونزل جبريل في الأفق الأعلى، ثم دنا، وقرب إلى النبي - ﷺ -. وهو في غار حراء.
٩ - ﴿فَكَانَ﴾ مقدار مسافة ما بين النبيّ - ﷺ - وبين جبريل عليه السلام ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾؛ أي: مقدار قوسين عربيين في القرب؛ أي: مقدار قرب إحدى قوسين إلى الأخرى. وذكر القوس؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس. وأصل ذلك أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء، والحلف، والعهد خرجا بقوسيهما، فألصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران، يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وفي "معالم التنزيل": معنى قوله: كان بين جبريل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين، إنه كان بينهما مقدار ما بين الوتر والقوس. كأنه غلب القوس على الوتر. وهذا إشارة إلى تأكيد القرب. وقيل: معنى ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾: قدر ذراعين. ويسمي الذراع قوسًا؛ لأنه يقاس به المذروع؛ أي: يقدر. فلم يكن قريبًا قرب التصاق، ولا بعيدًا، بحيث لا يتأتى معه الإفادة والاستفادة. وهو الحد المعهود في مجالسة الأحباء المتأدبين.
﴿أَوْ أَدْنَى﴾؛ أي: بل كان قدر مسافة ما بينهما أقرب من ذلك؛ أي: من قاب قوسين على تقديركم أيها المخاطبون، كما في قوله: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾، فـ ﴿أو﴾ للشك من جهة العباد، كما أن كلمة ﴿لَعَلَّ﴾ كذلك؛ أي: للترجي من العباد في مواضع من القرآن. فإن التشكيك والترجي لا يصحان على الله تعالى؛ أي: لو رآهما راء منكم لقال: هو قدر قوسين في القرب أو أدنى؛ أي لالتبس عليه مقدار القرب.
والمراد؛ أي: من قوله (١): ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ أَدْنَى﴾ تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه، لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس وحمله بعضهم على حقيقته، حيث قال: فكلما دنا جبريل من النبي عليهما السلام انتقص، فلما قرب منه مقدار قوسين رآه على صورته التي كان يراه عليها في سائر الأوقات، حتى لا يشك أنه جبرئيل.
١٠ - ﴿فَأَوْحَى﴾ جبريل، وبلَّغ ﴿إِلَى عَبْدِهِ﴾؛ أي: إلى عبد الله تعالى. وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره، كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾؛ أي: على ظهر الأرض. والمراد بالعبد المشرَّف بالإضافة إلى الله تعالى: هو الرسول محمد - ﷺ -، كما في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾.
﴿مَا أَوْحَى﴾؛ أي: من الأمور العجيبة التي لا تقي بها العبارة، أو المعنى: فأوحى الله سبحانه حينئذٍ بواسطة جبريل ما أوحى إلى عبده محمد - ﷺ -، وقيل: المعنى: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. وفي الإبهام تفخيم للوحي الذي أوحى إليه على كل من الأقوال، وقد أبهم سبحانه ما أوحى جبريل إلى محمد، أو ما أوحاه إلى جبريل، فليس لنا أن نتعرض لتفسيره. وقال سعيد بن جبير: الذي أوحى إليه هو ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ...﴾ إلخ. وقيل: أوحى إليه أن الجنة حرام على
١١ - ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ﴾؛ أي: فؤاد محمد - ﷺ -. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿مَا رَأَى﴾ ما موصولة، وعائدها محذوف؛ أي: لم يكذب فؤاده وقلبه ما رأه ببصره من صورة جبريل؛ أي: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبًا، لأنّه عرفه بقلبه، كما رآه ببصره.
وقال بعضهم: ﴿كَذَبَ﴾ مخفّفًا ومشدّدًا بمعنى واحد. وقال بعضهم: من خفف ﴿كَذَبَ﴾ جعل ﴿مَا﴾ في موضع النصب على نزع الخافض وإسقاطه؛ أي: ما كذب فؤاده فيما رآه ببصره؛ أي؛ لم يقل فيه: كذبًا. وإنما يقول ذلك أن لو قال له: لا أعرفك، ولا أعتقد بك. وقرأ الجمهور (١) ﴿مَا كَذَبَ﴾ مخفّفًا. وقرأ هشام، وأبو جعفر بالتشديد.
ومعنى قوله: ﴿فَاسْتَوَى...﴾ إلخ؛ أي (٢) فاستقام جبريل، وظهر له - ﷺ - على صورته التي خلقه الله عليها، حين أحب رسول الله - ﷺ - أن يراه كذلك. فظهر له في الأفق الأعلى. وهو أفق الشمس الشرقي، فملأه، ثم أخذ يدنو من رسول الله - ﷺ -، ويتدلي؛ أي: يزيد في القرب والنزول، حتى كان منه مقدار قوسين، أو أقرب على تقديركم، وعلى مقدار فهمكم، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شؤون الدين.
ولا غرو فإن ظهور الأرواح في صورة مرئية أصبح الآن معروفًا. وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب، وأصبح في طوقهم أن يظهروا الروح في صور بشرية، وصور نورية، وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسي، وإذا صح ذلك للعلة، فليكن ذلك للقديسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم. ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلي والمتجلى عليه. وظهوره في صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته. وقوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠)﴾ يرجع إلى قوته العلمية.
ولما كان الإنسان كثيرًا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه، ويكذب قلبه ما ظهر له،
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنه لما قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ أكد هذا المعنى، وفصله بقوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥)﴾ ليبين أنه ليس من الشعر، ولا من الكهانة في شيء. ولما قال: ﴿فَاسْتَوَى﴾، وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمي وصفه. إذ قد عرفه بشكله الحقيقيّ من قبل، فلا يشتبه عليه. وقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨)﴾ تتميم لحديت نزوله عليه السلام، وإتيانه بالمنزل. وقوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١)﴾ بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك في أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة.
١٢ - والهمزة في قوله: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢)﴾ للاستفهام التقريري التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. والتقدير: أتكذبون محمدًا - ﷺ - أيها المشركون، فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل عليه السلام وغيره، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا مسجد بيت المقدس؛ أي: فأتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه.
وقرأ الجمهور: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ﴾؛ أي: أتجادلونه على شيء رآه ببصره، وأبصره. وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة. وجاء ﴿يَرَى﴾ بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد. وقرأ علي، وعبد الله، وابن عباس، والجحدري، وبعقوب، وابن سعدان، وحمزة، والكسائي: ﴿أفتَمْرُونَه﴾ بفتح التاء وسكون الميم، مضارع مريت؛ أي: جحدت، يقال: مريته حقه إذا جحدته. وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة ﴿أَفَتُمْرُونَه﴾ بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت؛ أي: أتريبونه، وتشكون فيه. قال أبو حاتم: وهو غلط.
ويدل على أن ضمير ﴿دَنَا﴾ يعود ويرجع إليه - ﷺ - أنه قال في رواية "لما أسري بي إلى السماء قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى، قيل لي: قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم؛ أي: بوقوفهم على أخبارهم، ولا أفضحهم عند الأمم لتأخرهم عنهم". ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ﴾؛ أي: فؤاد محمد - ﷺ - ﴿مَا رَأَى﴾. من ذات ربه، ومن عجائب الأمور الغيبية، ومن الألطاف عليه وعلى أمته. وقال أبو علي الفارسي في هذه الآية قولا يطول شرحه، وقصاراه: يرجع إلى أنه تعالى ستر بعض ما أوحى إلى نبيّه عن الخلق لما علم أن علمهم بذلك يفترهم عن السير في طريق العبودية اتكالًا على محض الربوبية. ولهذا قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث قال معاذ: أأخبر الناس بذلك يا رسول الله، فقال: "لا تخبرهم بذلك لئلا يتكلوا"، انتهى.
لَا يَكْتُمُ السِّرَّ إِلَّا كُلُّ ذِيْ خَطَرٍ | وَالسِّرُّ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَكْتُوْمُ |
وَالسِّرُّ عِنْدِيَ فِيْ بَيْتٍ لَهُ غَلَقٌ | قَدْ ضَاعَ مِفْتَاحُهُ وَالْبَابُ مَخْتُوْمُ |
بَيْنَ الْمُحِبِّيْنَ سِرُّ لَيْسَ يُفْشِيْهِ | قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ لِلْخَلْقِ يَحْكِيْهِ |
سِرُّ يُمَازِجُهُ أُنْسٌ يُقَابِلُهُ | نُوْرٌ تَحَيَّرَ فِيْ بَحْرٍ مِنَ التِّيهِ |
واختلفوا في الذي رآه فقيل: رأى جبريل. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، وعائشة. وقيل: هو الله عز وجل. ثم اختلفوا في معنى رؤية الله، فقيل: جعل بصره في فؤاده، وهو قول ابن عباس.
عن ابن عباس ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١)﴾ ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)﴾. قال: رآه بفؤاده مرتين. وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه حقيقة. وهو قول أنس بن مالك، والحسن، وعكرمة. قالوا: رأى محمد ربه عز وجل. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدًا بالرؤية. وقال كعب: إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين. أخرجه الترمذي بأطول من هذا.
وكانت عائشة تقول: لم ير رسول الله - ﷺ - ربه، وتحمل الآية على رؤية جبريل. وعن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أماه هل رأى محمد ربه، فقالت: لقد قَفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن، فقد كذب؟ من حدثك أن محمدًا رأى ربه، فقد كذب ثم قرأت ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، ومن حدثك أن محمدًا كتم أمرًا فقد كذب، ثم قرأت ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾. ولكنه رأى جبرئيل في صورته مرتين. أخرجاه في "الصحيحين".
عن أبي ذر قال: سألت رسول الله - ﷺ - هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه". قوله عز وجل: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢)﴾ يعني: أفتجادلونه على ما يرى. وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، وقالوا: صف لنا بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق، وغير ذلك مما جادلوه به.
والمعنى: أفتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه.
١٣ - ﴿وَلَقَدْ رَآهُ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل عليهما السلام في
عن أبي هريرة رضي الله عنه: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)﴾ قال: رأى جبريل، وعلى قول ابن عباس يعني: نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - ﷺ - في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات، فيكون لكل عرجة نزلة، فرأى ربه عز وجل في بعضها، وروي عن ابن عباس: أنه رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه: أنه رآه بعينه. انتهى من "الخازن".
وعبارة "الروح": قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)﴾ الضمير البارز في "رآه" جبريل، و ﴿نَزْلَةً﴾ منصوب على الظرفية نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها.
والمعنى: وبالله لقد رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته الحقيقية مرة أخرى من النزول. وذلك أنه كان للنبي - ﷺ - في ليلة المعراج عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات المفروضة، فيكون لكل عرجة نزله، فرأى جبريل في بعض تلك النزلات.
١٤ - ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤)﴾ وهو مقام جبريل. وكان قد بقي هنا عند عروجه - ﷺ - إلى مستوى العرش، وقال: "لو دنوت أنملة لاحترقت". قال النبي - ﷺ -: "رأيته عند سدرة المنتهي عليه ست مئة جناح، يتناثر منه الدر والياقوت". وقيل: رأى محمد ربه مرة أخرى بفؤاده عند سدرة المنتهى. و ﴿عِنْدَ﴾ يجوز أن يكون متعلقًا برأى، وأن يكون حالًا من المفعول المراد به: جبريل؛ لأنَّ جبريل لكونه مخلوقا يجوز أن يراه النبي - ﷺ - في مكان مخصوص. وهو سدرة المنتهى. وهي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة، ينبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله سبحانه في كتابه يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. و ﴿الْمُنْتَهَى﴾ مصدر ميمي بمعنى الانتهاء، كما قال الزمخشري، أو اسم مكان بمعنى موضع الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة. وقيل: ينتهي إليها الملائكة، ولا يتجاوزونها؛ لأنّ جبريل رئيس الملائكة إذا لم يتجاوزها فبالحري أن لا يتجاوزها غيره. فأعلاها لجبريل كالوسيلة لنبينا - ﷺ -. فكما أن خواص الأمة
١٥ - ﴿عِنْدَهَا﴾؛ أي: عند تلك السدرة ﴿جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾؛ أي: جنة تعرف بجنة المأوى. وسميت جنة المأوى؛ لأنه أوى إليها آدم. وقيل: إن أرواح المؤمنين تأوى إليها، وتنزل فيها. وقرأ الجمهور (١) ﴿جَنَّةُ﴾ برفع جنه، على أنها مبتدأ وخبرها الظرف المتقدم. والجملة حال من ﴿سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾. قيل: الأحسن أن يكون الحال هو الظرف، و ﴿جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ مرتفع به بالفاعلية، وإضافة الجنة إلى المأوى مثل إضافة مسجد الجامع؛ أي: الجنة التي يأوي إليها المتقون. وقرأ علي، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وأنس، وزر بن حبيش، ومحمد بن كعب، وقتادة، ومجاهد، وأبو سبرة الجهني ﴿جَنَّهُ المأوى﴾ بهاء الضمير، وجن فعل ماض من حن يجن، والهاء ضمير النبي - ﷺ -، مفعول به، و ﴿الْمَأْوَى﴾ فاعل؛ أي: عندها ستره إيواء الله تعالى، وجميل صنعه. وقيل: المعنى: ضمه المبيت والليل. وقيل: جنه بظلاله، ودخل فيه. وقال الأخفش: أدركه المأوى، كما تقول: جنه الليل؛ أي: ستره، وأدركه. وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة، وقالوا: أَجَنَّ الله من قرأها.
ومعنى الآية: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى...﴾ إلخ؛ أي (٢): ولقد رأى النبي - ﷺ - جبريل في صورته الأصلية التي خلقه الله عليها عند شجرة النبق التي ينتهي إليها علم كل عالم، وما ورائها لا يعلمه إلا الله، قاله ابن عباس. وقد يكون المراد بالمنتهى: الله عزّ وجلّ؛ أي: سدرة الله الذي إليه المنتهى، كما قال سبحانه: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)﴾. وعند هذه السدرة التي يأوي المتقون يوم القيامة، قاله الحسن البصري.
وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها الله سبحانه، ولا نعين مكانها، ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم، إلا إذا ورد عن المعصوم - ﷺ - ما يبين ذلك، ويثبت لدينا بالتواتر؛ لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه. روى أحمد، ومسلم، والترمذي، وغيرهم أنها في السماه السابعة، ثمرها
(٢) المراغي.
وقصارى ما سلف: أنّ النبيّ - ﷺ - رأى جبريل في صورته الحقيقية مرّتين: مرةً، وهو في غار حراء في بدء النبوة، والثانية في ليلة المعراج، ولم يكن ذلك في الأرض، بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش. وهي منتهى الجنّة؛ أي: آخرها، وعلم الملائكة ينتهي إليها.
ومن المعلوم (١): أنَّ الإسراء كان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر أو بثلاث سنين على الخلاف، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين.
قال الماوردي في "معاني القرآن": فإن قيل: لِمَ اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأنَّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعام لذيذ، ورائحة ذكيّة. فشابهت الإيمان الذي يجمع قولًا، وعملًا، ونيّةً. فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره.
١٦ - وقوله: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ﴾ ويغطيها ﴿مَا يَغْشَى﴾؛ أي: ما غطاها زيادة في تعظيم السدرة. و ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق برأى السابق، لا لما بعده من الجملة المنفية. فإن ﴿مَا﴾ النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه: الغواشي وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها البديعة، أو للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد.
والمعنى: وعزّتي وجلالي لقد رأى محمد جبريل عند السدرة وقت ما عشَّاها، وغطَّاها، وسترها، وعلاها ما لا يكتنهه الوصف ولا يفي به البيان كيفًا ولا كمًّا.
١٧ - ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾؛ أي: ما مال بصر رسول الله - ﷺ - أدنى ميل عما رآه في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يمينًا ولا شمالًا ﴿وَمَا طَغَى﴾؛ أي: وما جاوز ما أمر برؤيته مع ما شاهد هناك من الأمور المذهلة مما لا يحصى، بل أثبته على ما أمر به إثباتًا صحيحًا متيقنًا.
والمعنى (١): أي ولقد رأى محمد - ﷺ - جبريل عند السدرة، حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله، ومن الإشراق، والحسن من الملائكة. وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفي بهذا الإبهام، ولا نزيده إيضاحًا بلا دليل قاطع ولا حجة بينة. ولو علم الله سبحانه الخير لنا في البيان لفعل. ﴿مَا زَاغَ﴾، ﴿وَمَا طَغَى﴾؛ أي: ما مال بصر رسول الله - ﷺ - عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته.
والخلاصة: أنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى.
١٨ - وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ رَأَى﴾ محمد - ﷺ - ليلة المعراج ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨)﴾ أي: الآيات التي هي كبراها وعظماها، فأري من عجائب الملك
لَهُ هِمَمٌ لَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا | وَهِمَّتهُ الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ |
وعلينا أن لا نحضر ما رآه في شيء بعينه بعد أن أبهمه القرآن. إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء.
فصل
نبذة من كلام الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله تعالى في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)﴾ وهل رأى نبينا محمد - ﷺ - ربه عز وجل ليلة الإسراء؟. قال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا - ﷺ - ربه ليلة الإسراء، فأنكرته عائشة كما وقع في "صحيح مسلم"، وجاء مثله عن أبي هريرة،
وروي عن ابن عباس: أنه رآه بعينه، ومثله عن أبي ذر، وكعب، والحسن، وكان يحلف على ذلك. وحكي مثله عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأحمد بن حنبل.
وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري، وجماعة من أصحابه: أنه رآه. ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز. ورؤية الله عز وجل في الدنيا جائزة. وسؤال موسى إياها دليل على جوازها. إذ لا يجهل نبي ما يجوز أو يمتنع على ربه.
واختلفوا في أن نبينا - ﷺ - هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟. فحكي عن الأشعري، وقوم من المتكلمين أنه كلمه. وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد، وابن مسعود، وابن عباس. وكذا اختلفوا في قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨)﴾. فالأكثر على أن معنى هذا الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي - ﷺ -، أو مختص بأحدهما من الآخر، أو من سدرة المنتهى. وذكر ابن عباس، والحسن، ومحمد بن كعب، وجعفر بن محمد، وغيرهم أنه دنو من النبي - ﷺ - إلى ربه، أو من الله. فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولًا ليس على وجهه، بل كما قال جعفر بن محمد: الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود. فيكون معنى دنو النبي - ﷺ - وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته عليه، وإطلاعه من غيبه، وأسرار ملكوته على ما لم يطلع عليه سواه. والدنو من الله تعالى له إظهار ذلك، وعظيم بره وفضله لديه. ويكون قوله تعالى: ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ هنا عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من نبينا محمد - ﷺ -، ومن الله تعالى إجابة الرغبة، وإنابة المنزلة. هذا آخر كلام القاضي عياض.
قال الشيخ محيي الدين النواوي: وأما صاحب "التحرير"، فإنه اختار إثبات الرؤية قال: والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة، ولكن لا نتمسك إلا بالأقوى منها. وهو حديث ابن عباس: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد - ﷺ - وعليهم أجمعين". وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس
وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. هذا كلام صاحب "التحرير" في إثبات الرؤية.
قال الشيخ محيي الدين: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - ﷺ - رأى ربه عز وجل بعيني رأسه، ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم. وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله - ﷺ - هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه.
ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله - ﷺ -، ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات. وسنوضح الجواب، فنقول: أما احتجاج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ﴾ فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة. وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره. وأما احتجاجها بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا...﴾ الآية، فالجواب عنه من أوجه:
والوجه الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
والوجه الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي هنا: الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما يسمى وحيًّا. وأما قوله تعالى: ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ فقال الواحدي وغيره: معناه: غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه سبحانه من حيث لا يرونه. وليس المراد أن هناك حجابًا يفصل موضعًا عن موضع. ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم. وقول عائشة في أوّل الحديث: "لقد قف شعري" فمعناه: قام شعري من الفزع، لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال. تقول العرب عند إنكار الشيء: قف شعري، واقشعر جلدي، واشمأزت نفسي. وقوله - ﷺ - في حديث أبي ذرّ: "نور أنى أراه" فهو بتنوين "نور"، وبفتح الهمزة في "أنَّى"، وشديد النون المفتوحة، ومعناه: حجابه نور فكيف أراه. قال المارودي: الضمير في "أراه" عائد على الله تعالى.
والمعنى: أنّ النور يمنعني من الرؤية، كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار، ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه. وفي رواية: رأيت نورًا، معناه: رأيت النور فحسب، ولم أر غيره. وفي رواية: "ذاته نور أنى أراه"، ومعناه: هو خالق النور المانع من رؤيته. فيكون من صفات الأفعال. ومن المستحيل أن تكون ذات الله نورًا، إذ النور من جملة الأجسام، والله يتعالى عن ذلك. هذا مذهب جميع أئمة المسلمين، والله أعلم. انتهى من "الخازن".
١٩ - ولما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص، قال للمشركين موبخًا لهم ومقرعًا: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري (١)، داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمته، وإحكام قدرته، ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وما تحت الثرى، وما بينهما أنكرتم وحدانية الله تعالى فرأيتم؛ أي: ظننتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وذلتها شركاء لله
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠)﴾؛ أي: أخبروني عن حال آلهتكم هذه التي اتخذتموها معبودات، وتمكنتم على عبوديتها هل وجدتم فيها صفة من صفات الإلهية من الإيجاد، والإعدام، والنفع، والضر، وأمثالها؟ لا والله. بل اتخذتموها آلهة لغاية ظلوميتكم على أنفسكم، ونهاية جهوليتكم بالإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وقيل: المعنى: أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى في الدنيا تنفعكم في الآخرة، أي: أخبروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها قدرة توصف بها؟ وهل أوحت إليكم شيئًا كما أوحى الله إلى محمد، أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع. ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب، وعظم اعتقادهم فيها. قال الواحديّ وغيره: وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى. فقالوا من الله: اللات، ومن العزيز: العزّى. وهي تأنيث الأعز بمعنى العزيزة، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره، وكان اللات بالطائف. وقيل: بنخلة، كانت قريش تعبده. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان اللات رجلًا يلت السويق للحجاج. قيل: فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه.
وقيل: كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها، ثم يتخذ حيسًا، فيطعم الحجاج. وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقيل: كان رجلًا من ثقيف يقال له: صرمة بن غنم، وكان يسلأ السمن، فيضعه على صخرة، فتأتيه العرب، فتَلُتُّ به أسوقهم. فلما مات الرجل حولتها ثقيف إلى منازلها، فمرت الطائف على موضع اللات.
وأما العزى: فهو تأنيث الأعز، كانت لغطفان. وهي سمرة، كانوا يعبدونها، فبعث رسول الله - ﷺ - خالد بن الوليد، فقطعها، فجعل يضربها بالفأس، وهو يقول:
يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ | إِنِّيْ رَأيْتُ الله قَدْ أَهَانَكِ |
وقيل: إنه قدم مكة، فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فرجع إلى بطن نخلة، فقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم، ولهم إله يعبدونه وليس لكم. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرًا من الصفا، وحجرًا من المروة، ونقلهما إلى نخلة، فوضع الذي أخذ من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، وقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار، وأسندها إلى شجرة، وقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين، ويعبدون الحجارة الثلاث، حتى افتتح رسول الله - ﷺ - مكة، وأمر برفع الحجارة، وأمر خالد بن الوليد بالعزى، فقطعها. وقيل: هي بيت بالطائف، كان تعبده ثقيف.
٢٠ - وأما مناة فصخرة لهذيل وخزاعة، يعبدها أهل مكة. سمّيت مناة لأنّ دماء المناسك تمنى عندها؛ أي: تراق، ومنه: مني. وقالت عائشة رضي الله عنها: في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت حذ وقديد. وقيل: هي بيت بالمشلل، كانت بنو كعب تعبده. وفي "إنسان العيون": مناة صنم، كان للأوس والخزرج، أرسل رسول الله - ﷺ - سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه في عشرين فارسًا إلى مناة ليهدم محلها، فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد إلى ذلك الصنم، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء. ثائرة الرأس، تدعو بالويل، فضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك، فضربها سعد، فقتلها، وهدم محلها، انتهى.
فالمناة في أخريات المراتب. قال أبو البقاء: فالوصف بالأخرى للتأكيد. وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية. فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله: ﴿مأرب أخرى﴾. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير. والتقدير: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿اللَّاتَ﴾ خفيفة التاء. وابن عباس، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو صالح، وطلحة، وأبو الجوزاء، ويعقوب، وابن كثير في رواية بشدها. وقرأ الجمهور ﴿مناة﴾ مقصورًا، فقيل: وزنها فعلة، واشتقاقها من مني يمني؛ أي: صب. لأن دماء النسائك تصب عندها يتقربون بذلك إليها. وقرأ ابن كثير ﴿ومناءة﴾ بالمد والهمزة، ووزنها مفعلة، والألف منقلبة من واو، والهمزة أصل؛ لأنها مشتقة من النوء. وهو المطر؛ لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها. والقصر أشهر، وهي قراءة الجمهور.
والمعنى (٢): أي فبعد أن سمعتم ما سمعتم من آثار كمال الله عزّ وجلّ، وعظمته في ملكه، وملكوته، وجلاله، وجبروته، وأن الملائكة على رفعة مقامهم، وعلو قدرهم ينتهون إلى السدرة، ويقفون عندها تجعلون هذه الأصنام على حقارة شأنها شركاء لله مع ما علمتم من عظمته. وفي هذا تقريع شديد، وتوبيخ عظيم، وتأنيب لا إلى غاية. وإن العاقل لا ينبغي أن يخطر بباله مثل هذا، ويمتهن رأيه إلى هذا الحد.
٢١ - وبعد أن أنبهم على سخف عقولهم، وسفاهة أحلامهم بعبادتهم الأصنام التي
(٢) المراغي.
٢٢ - وقوله: ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية. ﴿إِذًا﴾؛ أي: إذ جعلتم البنات له والبنين لكم ﴿قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾؛ أي: جائرة معوجة، حيث جعلتم له تعالى ما تستنكفون منه، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ضِيزَى﴾ بكسر الضاد من غير همز. والظاهر: أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء، كسرت لتصح الياء. ويجوز أن يكون صدرًا على وزن فعلى كذكرى، ووصف به. وقرأ ابن كثير ﴿ضئزى﴾ بالهمزة، فوجه على أنه مصدر، كذكرى. وقرأ زيد بن عليّ ﴿ضَيْزَى﴾ وبفتح الضاد وسكون الياء، ويوجه على أنه مصدر كدعوى، وصف به، أو وصف كسكرى. ويقال: ضوزى بالواو وبالهمز.
والمعنى (٣): أي أتجعلون له ولدًا وتجعلون هذا الولد أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكران على علم منكم أنَّ البنات ناقصات، والبنين كاملون، والله كامل العظمة. فكيف تنسبون إليه الناقص. وأنتم على نقصكم تنسبون إلى أنفسكم الكامل. تلك القسمة إذا كانت على تلك الحالة قسمة جائرة، غير مستوية، ناقصة غير تامة. لأنكم جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضون لها.
٢٣ - ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذب والإفتراء في عبادة الأصنام، وتسميتها
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾ صفة لأسماء (١)، وضمير "ها" لها، للأصنام. والمعنى: جعلتموها أسماء، لا جعلتم لها أسماء. فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى. فإذا قيست إلى الاسم فمعناها: جعله اسمًا للمسمى، وإذا قيست إلى المسمى فمعناها: جعله مسمى للاسم. وإنما اختير هنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة، ليس لها مسميات قطعًا كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ لا أنَّ هناك مسميات، لكنها لا تستحق التسمية، أي: ما هي إلا أسماء خالية من المسميات وضعتموها. ﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ بمقتضى أهوائكم الباطلة، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها. لأنها لا تبصر، ولا تسمع، ولا تعقل، ولا تفهم، ولا تضر، ولا تنفع. فليست إلا مجرد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم قلد الآخر فيها الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا﴾ أي: بصحة تسميتها ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: برهان تتعلقون به، ولا حجة. في جميع القرآن ﴿أَنْزَلَ﴾ بالألف، إلا في الأعراف، فإنه نزل بالتشديد.
والمعنى (٢): أن هذه الأسماء التي تسمونها آلهة هي أسماء فقط، وليس لها مسميات هي آلهة البتة كما تزعمون، وتعتقدون أنها تستحق أن يعكف على عبادتها، وتقديم القرابين إليها. وليس لكم من حجة ولا برهان تؤيدون به ما تقولون. وإنما قلد فيها الآخر الأول، وتبع في ذلك الابناء الآباء. ولا يخفي ما في ذلك من التحقير، كما تقول: ما هو إلا اسم إذا لم يكن مشتملًا على صفة معتبرة لها شأن، وقدر.
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور: (٢) ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ بياء الغيبة. وقرأ عيسى بن عمر، وأيوب، وابن السميقع بالفوقية على الخطاب. ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وابن وثّاب، والأعمش.
وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ ذكره هنا (٣)، وفيما بعد، وليس بتكرار. لأنَّ الأول متصل بعبادتهم الأصنام اللات، والعزى، ومناة، والثاني بعبادتهم الملائكة، والظن فيها مذموم بقوله: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾؛ أي: لا يقوم مقام العلم. فإن قلت: كيف لا يقوم مقامه مع أنه يقوم مقامه في كثير من المسائل، كالقياس؟.
قلت: المراد هنا: الظن الحاصل من اتباع الهوى، دون الظن الحاصل من الاستدلال والنظر بقرينة قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ انتهى.
والمعنى (٤): أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظوظ نفوسهم في رياستهم، وتعظيم آبائهم الأقدمين.
والخلاصة: إنكم تعبدون هذه الأصنام توهمًا منكم أنّ ما عليه أباؤكم حق، واتباعًا لشهوات أنفسكم.
ثم بين أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، لأنّه قد جاءهم ما ينبههم إلى سوء رأيهم
(٢) البحر المحيط.
(٣) فتح الرحمن.
(٤) المراغي.
والمعنى: كيف يتبعون ذلك، والحال أنه قد جاءهم ما فيه هدى لهم من عند الله تعالى على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم وجعله من أنفسهم؛ أي (٢): هم يتبعون ما كان عليه أسلافهم، وينقادون إلى آرائهم، وقد أرسل الله إليهم الرسول بالحق المنيهر، والحجة الواضحة، وقد كان ينبغي أن يكون لهم في ذلك مزدجر، لكنهم أعرضوا عنه، وتولوا كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة.
٢٤ - وبعد أن بين أن جعلهم الأصنام شركاء لله لا يستند إلى دليل، بل لا يستند إلا إلى التشهي والهوى وإتباع الظن ذكر أنها مع هذا لا تجديهم نفعًا. فهي لا تشفع لهم عند الله، ولا يظفرون منها بجدوى، فقال: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤)﴾ و ﴿أَمْ﴾ فيه منقطة تقدر ببل الإضرابية، وهمزة الإنكار والنفي، والتمنّي. تقدير شيء في النفس وتصويره فيها كما سيأتي. فأضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم، وعن اتباعهم هوى الأنفس، وما تميل إليه. وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم، وتشفع لهم.
والمعنى: بل أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام؛ أي: (٣) ليس له كل ما يتمناه، وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة، ونظائرها التي لا تكاد تدخل تحت الوجود.
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ | تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ |
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أي بل ألهم ما يتمنونه من شفاعة الآلهة يوم القيامة؟ كلا إنَّ هذا لن يكون، ولن يجديكم ذلك فتيلًا ولا قطميرًا، فإنَّ كل ما في الدنيا والآخرة فهو ملك له تعالى، ولا دخل لهذه الأصنام في شيء منه. وهذا تيئيس لهم من أن ينالوا خيرًا من عبادتها، والتقرب إليها، ولا تكون وسيلة لهم عند ربهم.
٢٦ - ثم حرمهم فائدة عبادتها من وجه آخر، فقال: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦)﴾ وهذا (٢) إقناط لهم مما علقوا به أطماعهم من شفاعة الملائكة لهم، موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية. و"كم" خبرية مفيدة للتكثير، محلها الرفع على الابتداء، والخبر هي الجملة المنفية. وجمع الضمير في ﴿شَفَاعَتُهُمْ﴾ مع إفراد الملك باعتبار المعنى، أي: وكثير (٣) من الملائكة لا تغني شفاعهم عند الله شيئًا من الإغناء في وقت من الأوقات، أي: لا تنفع شيئًا من النفع. وهو القليل منه أو شيئًا؛ أي: أحدًا. وليس المعنى: أنهم يشفعون فلا تنفع شفاعتهم، بل معناه: أنهم لا يشفعون. لأنه لا يؤذن لهم كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ﴾ سبحانه لهم في الشفاعة ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ويريد أن يشفعوا له ﴿وَيَرْضَى﴾ عنه، ويراه أهلًا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان. وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله بمعزل ومن الشفاعة بألف منزل. فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام.
والمعنى (٤): أي وكثير من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئًا إلا إذا أذن بها
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
وخلاصة ذلك: أنّهُ لا مطمع في شفاعة هذه الأصنام، ولا تجديهم نفعًا في هذا اليوم. وقرأ الجمهور (١): ﴿شَفَاعَتُهُمْ﴾ بإفراد الشفاعة، وجمع الضمير. وقرأ زيد بن عليّ ﴿شفاعته﴾ بإفراد الشفاعة، والضمير. وابن مقسم ﴿شفاعاتهم﴾ بجمعها، وهو اختيار صاحب الكامل؛ أي: القاسم الهذلي. وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور، لأنّها مصدر، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئًا.
٢٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: لا يصدقون بمجيء يوم القيامة مع ما فيه من الحساب والعقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي ﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ﴾ المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق؛ أي: كل منهم يسمون كل واحد منهم ﴿تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ منصوب (٢) على أنه صفة مصدر محذوف؛ أي: تسمية مثل تسمية الأنثى. فإنَّ قولهم: الملائكة بنات الله قول منهم: بأن كلا منهم بنته تعالى. وهي التسمية بالأنثى. فاللام في الملائكة للتعريف الاستغراقيّ، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشفاعة، والفظاعة. واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسًا.
قال ابن الشيخ: فإن قيل: كيف يصح أن يقال: إنّهم لا يؤمنون بالآخرة؟ مع أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوب الميت على قبره، ويعتقدون أنه يحشر عليه.
أجيب: بأنهم ما كانوا يجزمون به، بل كانوا يقولون لا نحشر. فإن كان.. فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله عنهم: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾، وأيضًا ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل، فهم لا يؤمنون بها على وجهه.
(٢) روح البيان.
وإنما جعلها مقالة من لا يؤمن للإشارة إلى أنها بلغت من الفظاعة حدًّا لا يمكن معه أن تصدر من موقن بالجزاء والحساب، فقد اشتملت على جريمتين. أولاهما: نسبة الولد إلى الله. ثانيتهما: أن الولد أنثى تفضيلًا لأنفسهم على بارئهم وموجدهم من العدم.
٢٨ - وقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ حال من فاعل ﴿يسمّون﴾؛ أي: يسمُّونهم أنثى، والحال أنه لا علم لهم بما يقولون أصلًا؛ أي: ليس لهم بذلك برهان، ولا أتى لهم به وحي، حتى يقولوا ما قالوا. وقرىء ﴿وما لهم بها﴾؛ أي: بالملائكة أو التسمية.
ثم أكد نفي علمهم الحق بذلك، فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾؛ أي: ما يتبعون في ذلك ﴿إِلَّا الظَّنَّ﴾ الفاسد، وليس هذا تكرارًا مع ما سبق؛ لأنَّ الأول متصل بعبادتهم اللات والعزى ومناة، وهذا بعبادتهم الملائكة كما سبق بيانه.
﴿وَإِنَّ الظَّنَّ﴾ أي (٢): جنس الظن، كما يلوح به الإظهار في مقام الإضمار. ﴿لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ من الإغناء. فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء لا يدرك إدراكًا معتبرًا إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في شأن المعارف الحقية، وإنما يعتد به في العمليات، وما يؤدي إليها كمسائل علم أصول الفقه. وفيه ذم للظن، ودلالة على عدم إيمان المقلد. وقيل: الحق بمعنى العلم؛ أي: لا يقوم الظن مقام العلم. وقيل: الحق بمعنى العذاب؛ أي: إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب.
والمعنى (٣): أي إنَّ معرفة الشيء معرفة حقيقية يجب أن تكون عن يقين، لا عن ظن وتوهم، وأنتم لا تتبعون فيما تقولون في هذه التسمية إلا الظن والتوهم، وليس هذا من سبيل العلم في شيء. وقد جاء في الصحيح: أن رسول الله - ﷺ - قال:
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أن مثل هذا الاعتقاد إما أن يكون عن دليل عقلي، والعقل لا يركن إليه في مثل هذا، وإما عن وحي، ولم يصل إليهم شيء منه يخبرهم بما يقولون.
٢٩ - ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم، فقال: ﴿فَأَعْرِضْ﴾ يا محمد ﴿عَنْ مَنْ تَوَلَّى﴾؛ أي: عن دعوة من تولى وأعرض ﴿عَنْ ذِكْرِنَا﴾ وكتابنا المفيد للعلم اليقينيِّ، ولم يؤمن به. وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكر لأمور الآخرة. ولا تتهالك على إسلامه، أو عن ذكرنا كما ينبغي. فإنَّ ذلك مستتبع لذكر الآخرة، وما فيها من الأمور المرغوب فيها، والمهروب عنها؛ أي: أعرض عمن أعرض عن ذكرنا. والمراد بالذكر هنا (١): القرآن أو ذكر الآخرة أو ذكر الله على العموم. وقيل: المراد بالذكر هنا: الإيمان. والمراد: أترك مجادلتهم، نقد بلغت إليهم ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ. وهذا منسوخ بآية السيف. وقيل: النهي (٢) عن الدعوة لا يستلزم نسخ الآية بآية القتال، بل الإعراض عن الجواب والمناظرة شرط لجواز المقاتلة، فكيف يكون منسوخًا بها.
فالمعنى: أعرض عنهم، ولا تشتغل بإقامة الدليل والبرهان. فإنهم لا ينتفعون به، وقاتلهم، واقطع دابرهم.
﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: لم يرد سواها، ولا طلب غيرها، بل قصر نظره عليها راضيًا بها، منكبًا مقبلًا على جمع حطامها، وجلب منافعها. فالمراد النهي عن دعوته، والاعتناء بشأنه. فإن من أعرض عما ذكر، وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته، وقصارى سعيه لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عنادًا، وإصرارًا على الباطل.
ومعنى الآية (٣): أي فأعرض عن مثل هؤلاء الذين أعرضوا عن كتابنا، ولم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة: لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا، وانهمك في أمور الدنيا، وجعلها منتهى همته، وأقصى أمنيته، وقصارى سعيه فلا سبيل إلى إيمان مثله، فلا تبخع نفسك على مثله أسفًا وحزنًا، كما قال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)﴾.
٣٠ - ثم أكد ما مضى من أن همتهم مقصورة على الحياة الدنيا بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ التولي، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا ﴿مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾؛ أي: غاية علمهم، ونهايته، لا يكادون يجاوزونه إلى غيره، حتى يجديهم الدعوة والإرشاد كقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾. فـ ﴿مبلغ﴾ اسم مكان، وجمع الضمير في ﴿مَبْلَغُهُمْ﴾ باعتار معنى ﴿مِنَ﴾ كما أنّ إفراده فيما سبق باعتبار لفظها.
قال الفرّاء: أي ذلك قدر عقولهم، ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: الإشارة بذلك إلى جعلهم للملائكة بنات الله، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى. والأول أولى. والمراد بالعلم هنا: مطلق الإدراك الذين يندرج تحته الظن الفاسد. والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم، واتباعهم مجرد الظن. وقيل: معترضة بين المعلل والعلة. وهي قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ﴾ وحاد ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ وأعرض عن الحق الذي هو التوحيد والطاعة. والمراد ﴿بِمَنْ ضَلَّ﴾: هو من أصر عليه، ولم يرجع إلى الهدى أصلًا.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ فقبل الحق، وأقبل عليه، وعمل به. فإن هذا تعليل للأمر بالأعراض. فهو سبحانه مجازٍ كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشرًا. وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ -، وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة، وسبقت له الشقاوة؛ فإن الله سبحانه قد علم حال هذا الفريق الضالّ، كما علم حال الفريق الراشد.
روى أحمد عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال سول الله - ﷺ -: "الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له". وفي الدعاء المأثور: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا". ثم ذكر السبب في الأمر بالإعراض عنهم فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ...﴾ إلخ؛ أي: إن ربك يا محمد هو العليم بمن واصل ليله بنهاره، وصباحه بمسائه مفكرًا في آياته في الكون، وفيما جاء على ألسنة رسله، حتى اهتدى إلى الحقال في ينجيه في آخرته، ويبلغه رضوان ربه، ويبلغه سعادة الدنيا بالسير على السنن الذي وضعها في خليقته، فاحتذى حذوها، وسار على أثرها. وبمن حاد عن طريق النجاة، وجعل إلهه هواه، وركب رأسه فلم يلو على شيء معا جاء به الداعي الناصح الأمين. وإنه لمجاز كلًّا بما كسب، واكتسب. وسيجزيه على الجليل، والحقير، والصغير، والكبير، بحسب ما أحاط به واسع علمه، وبمقدار فضله على من أخبت إليه. كما قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾. ونكاله بمن دسى نفسه، واجترح السيئات مصداقًا لقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠)﴾.
والخلاصة: أن هؤلاء قوم لا تجدي فيهم الذكرى، ولا تؤثر فيهم العظة فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.
٣١ - ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته، وعظيم ملكه، فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه ملكًا، وخلقًا، وعبيدًا، لا لغيره أصلًا لا استقلالًا، ولا اشتراكًا ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: جميع ما في السموات من العالم العلوي، وجيمع ما في الأرض من العالم السفلي. فهو المالك لذلك، والمتصرِّف فيه، لا يشاركه فيه أحد. واللام (٢) في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا﴾ وأشركوا، متعلقة بعا دل عليه الكلام. كأنه قيل: هو
(٢) الشوكاني.
﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ أي: بعقاب ما عملوا من الشرك والضلال الذي عبَّر عنه بالإساءة بيانًا لحاله. شبه نتيجة علمه بكل واحد من الفريقين. وهي مجازاته على حسب حاله بعلته الغائية. فأدخل لام العلة عليها، وصح بذلك تعلقها بقوله: ﴿أعلم﴾.
﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾؛ أي: وحدوا، واهتدوا ﴿بِالْحُسْنَى﴾؛ أي: بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. والباء لتعدية الجزاء أو بسبب أعمالهم الحسنى، فالباء للسببية والمقابلة. وإنما قدر على مجاراة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة، فلذلك قال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾. والحسنى تأنيث الأحسن. وقرأ زيد بن عليّ ﴿لنجزي﴾ بالنون فيهما. وقرأ الجمهور بالياء فيهما.
ومعنى الآية (٢): أي إنّ ما في السموات وما في الأرض تحت قبضته وسلطانه، وله التصرف فيه خلقًا، وملكًا، وتدبيرًا. فهو العليم به، لا تخفى عليه خافية من أمره. فلا تظنوا أنه يهمل أمركم، كلًّا فإنه مجار كل نفس بما كسبت من خير أو شر. وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا...﴾ إلخ؛ أي: فهو يجازي بحسب علمه المحيط بكل شيء. المحسن بالإحسان" ويدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار، ويمتعه بنعيم لا يخطر على قلب بشر. والمسيء بصنيع ما أساؤوا، وبما دسى به نفسه من ضروب الشرك والمعاصي، وبما ران على قلبه من كبائر الذنوب والآثام. وقد أصله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوةً.
٣٢ - ثم وصف هؤلاء المحسنين، فقال: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾؛ ويبتعدون
(٢) المراغي.
قال سعدي المفتي: لا حسن في جعل الذين يجتنبون مقصودًا بالنسبة، وجعل الذين أحسنوا في حكم المسكوت عنه على القول: بأنه بدل منه، ولو كان النظم على العكس.. لكان لها وجه، انتهى.
يقول الفقير: الاجتناب من باب التخلية بالمعجمة. وهي أقدم من التحلية بالحاء المهملة، فلذا جعلت مقصودًا بالنسبة.
وكبائر الإثم: ما بكبر عقابه من الذنوب. وهو ما ترتب عليه الوعيد بخصوصه كالشرك والزنا مطلقًا خصوصًا بحليلة جاره، وقتل النفس مطلقًا لا سيما الأولاد. وهي الموؤدة. وقيل: ما ذم فاعله ذمًّا شديدًا. وقيل: الكبيرة: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو حدّ في الدنيا أو أقدم صاحبه عليه من غير استشعار خوف أو ندم أو ترتب عليه مفاسد كبيرة. ولو كان في نظر الناس صغيرًا. من أمسك إنسانًا ليقتله ظالم، أو دل العدو على عورات البلاد، فقد فعل أمرًا عظيمًا. فيكون أكل مال اليتيم إذا قيس على هذين قليلًا مع أنه من الكبائر. ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل. وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها.
(٢) روح البيان.
والإثم: قيل: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقيل: هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب. وقيل: هو فعل ما لا يحل. وقيل: الإثم جنس يشتمل كبائر وصغائر؛ وجمعه آثام.
وقوله: ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ معطوف على ﴿كَبَائِرَ﴾. جمع فاحشة. وهي ما فحش من كبائر الذنوب: كالزنا، ونحوه. نهو من قبيل التخصيص بعد التعميم. وقال مقاتل: كبائر الإثم: كل ذنب ختم بالنار. والفواحش: كل ذنب فيه الحد. وقيل: الكبائر: الشرك. والفواحش: الزنا.
والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ منقطع؛ أي: إلا ما قل وصغر من الذنوب لأن المراد باللمم: الصغائر. وهي لا تدخل في الكبائر. وذلك كالنظرة، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة، وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناسًا بهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسةٍ المسجد إذا كان يغلب تنجيسهم له، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، اهـ خطيب.
والمعنى: إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب. فإنه مغفور ممن يجتنب الكبائر. يعني: إن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنب الكبائر. قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ وقال: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾. وقيل: هي النظر بلا تعمد، فإن أعاد النظر فليس بلمم، وهو مذنب. والغمزة والقبلة كما روي أن نبهان التمّار أتته امرأة لتشتري التمر، فقال لها: أدخلي الحانوت، فعانقها وقبلها، فقالت المرأة: خنت أخاك، ولم تصب حاجتك، فندم، وذهب إلى رسول الله - ﷺ -، فنزلت
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا | وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا |
واختار هذا القول الزجاج والنحاس. فالاستثناء على هذا متصل. والراجح الأول. واللمم: مأخوذ من قولهم: ألممت بكذا؛ أي: نزلت به وقاربته من غير مواقعة. قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب.
وجملة قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ وكثيرها، تعليل لما تضمنه الاستثناء؛ أي: إنّ ذلك، وإن خرج عن حكم المؤاخذة، فليس يخلو عن كونه ذنبًا يفتقر إلى مغفرة الله، ويحتاج إلى رحمته، بل لسعة المغفرة الربانية. وقيل معناه: إنّه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه فيغفر ما يشاء من الذنوب بعد التوبة الصادقة، والندم على ما فرط من مرتكبها، إذا أخبت لربه، وتجافى عن ذنبه. ومثله قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)﴾.
ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِكُمْ﴾؛ أي: بأحوالكم يعلمها ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ﴾؛ أي: خلقكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ إنشاء إجماليًا. وقيل: المراد: آدم. فإنه خلقه من طين ﴿و﴾ هو سبحانه أعلم بأحوالكم ﴿إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ﴾، أي: وقت كونكم أجنة ﴿في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ على أطوار مختلفة مترتبة، لا يخفى عليه حال من
والفاء في قوله: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لترتيب (١) النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم، ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب، بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره عنكم، أي: إذا كان الأمر كذلك.. فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعصية بالكلية، أو بما يستلزمها من زكاء العمل، ونماه الخير، ولا تمدحوها بحسن الأعمال، ولا تبرئوها عن الآثام. فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع. بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته.
وقال الحسن رحمه الله تعالى: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، إلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم، ولا تطهروها من الآثام، ولا تمدوحها بحسن الأعمال. لأن كل واحد من التخلية والتحلية إنما يعتد به إذا كان خالصًا لله تعالى، وإذا كان هو أعلم بأحوالكم منكم فأيُّ حاجة إلى التزكية.
وأما من زكاه الغير، ومدحه فقد ورد فيه "احثوا في وجه المداحين - أي: الذين يمدحون بما ليس في الممدوح - التراب" على حقيقته، أو مجاز عن ردهم عن المدح، لئلا يغتر الممدوح فيتجبر. وقيل: المراد به: أن لا يعطوهم شيئًا لمدحهم. أو معناه: الأمر بدفع المال إليهم لينقطع لسانهم، ولا يشتغلوا بالهجو، وفيه إشارة إلى أن المال حقير في الواقع كالتراب.
قال أبو الليث في "تفسيره": المدح على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يمدحه في وجهه، فهو الذي نهى عنه.
والثاني: أن يمدحه في غير حضرته، ويعلم أنه يبلغه فهذا أيضًا منهي عنه.
والثالث: مدح يمدحه في حال غيبته، وهو لا يبالي بلغه أم لم يبلغه، ومدح يمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا، انتهى. وأمَّا المدح بعد الموت فلا بأس إذا لم يجاوز الحد، كالروافض في مدح أهل البيت.
وجملة قوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ المعاصي جميعًا، مستأنفة مقرّرة للنهي
ومعنى الآية (١): هو سبحانه وتعالى بصير بأحوالكم، علبم بأقوالكم وأفعالكم، حين ابتدأ خلقكم من التراب، وحين صوركم في الأرحام على أطوار مختلفة وصور شتى. ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: فإذا علمتم ذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعاصي، أو بزكاة العمل وزيادة الخير، بل اشكروا على فضله ومغفرته. فهو العليم بمن اتقى المعاصي، ومن ولغ فيها، ودن نفسه باجتراحها.
الإعراب
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١)﴾.
﴿وَالنَّجْمِ﴾ ﴿الواو﴾ حرف جر وقسم، ﴿النجم﴾ مقسم به، مجرور بواو القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالنجم. وجملة القسم مستأنفة. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرّد عن معنى الشرط، متعلق بفعل القسم المحذوف، ﴿هَوَى﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿النجم﴾. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والتقدير: أقسم بالنجم وقت هويه. وقيل: الظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿النجم﴾؛ أي: أقسم بالنجم حال كونه مستقرًّا في زمان هويّه. وقيل: غير ذلك. وفي كلٍ منها إشكال ذكرت مع الأجوبة عنها في المطولات. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ فعل، وفاعل. والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا غَوَى﴾ معطوف على ﴿مَا ضَلَّ﴾. ﴿وَمَا﴾
﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (١٧) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨)﴾.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١)
﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف؛ والتقدير: أعقب ما سمعتم آثار قدرة الله تعالى أنكرتم وحدانيته، فرأيتم، وظننتم هذه الأصنام شركاء لله سبحانه. ﴿رأيْتم﴾ فعل، وفاعل، ﴿اللَّاتَ﴾ مفعول أول، ﴿وَالْعُزَّى﴾ ﴿وَمَنَاةً﴾ معطوفان عليه، ﴿الثَّالِثَةً﴾ صفة مؤكدة لمناة، ﴿الْأُخْرَى﴾ صفة ذمّ للثالثة، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: شركاء لله وجملة ﴿رأيتم﴾ معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿أَلَكُمُ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري ﴿لكم﴾ خبر مقدم، ﴿الذَّكَرُ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة جملة طلبية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿الْأُنْثَى﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ، ﴿إِذًا﴾ حرف جواب وجزاء بمعنى إذ الظرفية، مهمل حرف لا محل لها من الإعراب؛ أي: إذ جعلتم له البنات ولكم البنين. ﴿قِسْمَةٌ﴾ خبر، ﴿ضِيزَى﴾ صفة لـ ﴿قِسْمَةٌ﴾. والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥)﴾.
﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿هِيَ﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿أَسْمَاءٌ﴾، خبر هي والجملة مستأنفة ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول ثان والمفعول الأول محذوف تقديره: سميتم بها أصنامًا وجملة ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾: في محل الرفع، صفة لـ ﴿أَسْمَاءٌ﴾ ﴿أَنْتُمْ﴾ تأكيد لتاء الفاعل في ﴿سميتم﴾ ليصح عطف ﴿وَآبَاؤُكُمْ﴾ عليها على حد قوله:
ألا كل شيءٌ ما خلا الله باطل | وكل نعيم لا محالة زائل |
وَإِنْ عَلَى ضَمِيْرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ | عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ الْمُنْفصِلْ |
﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧)﴾.
﴿وَكَمْ﴾ الواو: استئنافية ﴿كم﴾ خبرية، في محل الرفع، مبتدأ، ﴿مِنْ﴾ زائدة في تمييزكم، ﴿مَلَكٍ﴾ تمييز لكم، ﴿في السَّمَاوَاتِ﴾ صفة لـ ﴿مَلَكٍ﴾، ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ﴿شَيْئًا﴾ مفعول ﴿تُغْنِي﴾ أو مفعول مطلق، أي: شيئًا من الإغناء. والجملة في محل الرفع، خبر لكم الخبرية. والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ متعلق بـ ﴿تُغْنِي﴾، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿يَأْذَنَ الله﴾ فعل، وفاعل، منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية. والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: إلا من بعد إذن الله سبحانه. ﴿لِمَنْ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يَأْذَنَ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة لمن الموصولة، ﴿وَيَرْضَى﴾ معطوف على ﴿يَشَاءُ﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ صلة الموصول، ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿لَيُسَمُّونَ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿يسمون الملائكة﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة. ﴿تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ مفعول مطلق.
﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٣٠)﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: حالية، ﴿ما﴾ نافية، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿بِهِ﴾ متعلق بعلم،
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٣٢)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ خبر مقدم، و ﴿مَا﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة مستأنفة. ﴿في السَّمَاوَاتِ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿مَا في السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿لِيَجْزِيَ﴾ اللام حرف جر وتعليل، ﴿يجزي﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالنَّجْمِ﴾ النجم معروف، وجمعه نجوم، وأنجم، وأنجام، ونجم. وهو الكوكب. وعند الإطلاق الثريّا، وهي المراد به هنا.
وقيل: أراد الثريّا، وأقسم بها إذا سقطت، وغابت مع الفجر.
والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة. قال ابن دريد: والثريّا سبعة أنجم، ستة ظاهرة، وواحد خفي، يمتحن الناس به أبصارهم. وقيل: أراد به: القرآن إذ أنزله نجومًا متفرقة على رسول الله - ﷺ - في ثلاث وعشرين سنة. وسمي الكوكب نجمًا لطلوعه. وكل طالع نجم، يقال: نجم السنن، والبنت والقرن إذا طلع، اهـ خطيب. وبابه قعد كما في "المصباح".
﴿إِذَا هَوَى﴾؛ أي: سقط. يقال: هوى يهوي من الثاني هَويًّا بوزن قبول إذا كرب. فإنَّ الهويَّ سقوط من علو إلى أسفل، وهُويًّا بوزن دخول إذا علا، وصعد ويقال: هوى يهوى إذا صبا. وقال الراغب: الهَويُّ سقوط من علو، ثم قال: والهوي ذهاب في انحدار، والهُوي ذهاب في ارتفاع. وقيل: هوى في اللغة: خرق الهواء، ومقصده السفل، أو مصيره إليه، وإن لم يقصده، اهـ سمين. وأصله: هوي بوزن فعل، قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿وَمَا غَوَى﴾ الغيُّ هو: الجهل المركب. قال الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد؛ وذلك أنَّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد أصلًا لا صالحًا ولا فاسدًا، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد. وهذا الثاني يقال له: غي. فعطفه على ﴿مَا ضَلَّ﴾ من عطف الخاص على العام؛ للاهتمام بشأن الاعتقاد بمعنى أنه فرق بين الغي والضلال، وليسا بمعنى واحد. فإن الغواية في الخطأ في الاعتقاد خاصة، والضلال أعم منها، يتناول الخطأ في الاعتقاد، والأقوال، والأفعال، كما مر. وأصله: غوي بوزن فعل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا.
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)﴾ يقال: نطق ينطق نطقًا ومنطقًا ونطوقًا إذا تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني، كما في "القاموس". فلا يستعمل في الله تعالى لأن التكلم بالصوت والحروف من خواص المخلوق. والهوى مصدر هويه، من باب علم إذا أحبه، واشتهاه، ثم غلب على الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع. منه قيل: صاحب الهوى للمبتدع. لأنّه مائل إلى ما يهواه في أمر
﴿يُوحَى﴾ أصله: يوحي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. ﴿بِالْأُفُقِ﴾ والأفق: ناحية السماء، وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتي منه الشمس، وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. وبقال: أفق مثل: عسْر وعسُر. ﴿الْأَعْلَى﴾ أصله بعد فلب الواو الواقعة رابعة ياء الأعلي، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾؛ أي: حصافة؛ أي: استحكام في عقله ورأيه، ومتانة في دينه. قال الراغب: أمررت الحبل إذا، فتلته والمرير والمُمَر: المفتول. ومنه: فلان ذو مرة، كأنه محكم الفتل.
وفي "القاموس": المرّة بالكسر: قوة الخلق، وشدته. والجمع مِرر، وأمرار. والعقل، والأصالة، والإحكام، وطاقة الحبل كالمريرة. وذو مرة جبرئيل عليه السلام. والمريرة: الحبل الشديد الفتل.
﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ﴾ والأفق: هي الدائرة التي تفصل بين ما يرى من الفلك، وما لا يرى. والأفق الأعلى: مطلع الشمس، كما أن الأفق الأدنى مغربها كما سبق.
﴿ثُمَّ دَنَا﴾ من دنا يدنو دنوا، إذا قرب. والدنو: القرب بالذات أو بالحكم، وبستعمل في الزمان، والمكان، والمنزلة، كما في "المفردات". وفيه إعلال بالقلب، أصله: دنو بوزن فعل، من الدنو، قلبت ﴿الواو﴾ ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿فَتَدَلَّى﴾ أصله: تدلي بوزن تفعل، قلبت ياءه ألفا لتحركها بعد فتح.
﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ والقاب والقيب، والقاد والقيد: المقدار. قال الزجاج: إنَّ العرب قد خوطبوا على لغتهم، ومقدار فهمهم، قيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدد.
فالمعنى: فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك.
وقال ابن السكيت: قاس الشيء يقوسه قوسًا لغة في قاسه يقيسه، إذا قدره. وقد جاء تقديرهم بالقوس، والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة، والشبر، والفتر، والإصبع.
وفي "القرطبي": والقاب: ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان. وقال
﴿فَكَانَ﴾ أصله: كون بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿قَابَ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: قوب بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿أَوْ أَدْنَى﴾ أصله: أدني بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. وهو أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف؛ أي: أو أدنى من قاب قوسين، و ﴿أَوْ﴾ بمعنى بل. أي: بل أدنى.
﴿أَفَتُمَارُونَهُ﴾ على ما يراه معاينةً؛ أي: أفتجادلونه من المماراة. والمراء والمماراة: المجادلة بالباطل، فكان حقه أن يتعدى بقي، يقال: جادلته في كذا، لكنه ضمن معنى الغلبة، فتعدى تعديتها؛ لأنَّ المماري يقصد بفعله غلبة الخصم. واشتقاته من مري الناقة كأن كلًّا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. يقال: مريت الناقة مريًا مسحت ضرعها لتدر، ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري أو غيره.
﴿نَزْلَةً أُخْرَى﴾ النزلة بوزن فعلة، اسم للحرة من الفعل الذي هو النزول. ﴿سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ شجرة نبق. والمنتهى: مصدر ميمي بمعنى الانتهاء، كما قال الزمخشري. أو اسم مكان بمعنى موضع الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة.
وقد اختلف في سبب تسميتها بذلك على ثمانية أقوال، تفصيلها في المطولات. والمنتهى: أصله منتهي بوزن مفتعل قلبت ياءه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥)﴾؛ أي: الجنة التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة. فالإضافة فيها كإضافة مسجد الجامع. يقال: أويت منزلي وإليه أويًا وأويًّا عدت إليه، وأويته نزلته بنفسي. والمأوى: المكان. فالمأوى: أصله مأوي بوزن مفعل قلبت ياؤه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةً﴾؛ أي: يغطي. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه: الغواشي. وأصله: يغشي بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾؛ أي: ما مال. وأصل الزيغ: الميل عن الاستقامة. وفيه إعلال بالقلب، أصله: زيغ بوزن فعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح، أي: ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، ومكن منها، وما مال يمينًا ولا شمالًا. ﴿وَمَا طَغَى﴾؛ أي: وما جاوز ما أمر به. وأصله: طغي بوزن فعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ﴾ قال الراغب: أصل اللات: اللاه، فحذفوا منه الهاء، وأدخلوا التاء فيه، فأنَّثوهُ تنبيهًا على قصوره عن الله، وجعلوه مختصًا بما يتقرب به إلى الله في زعمهم. وقال غيره: أصله: لوية، فأسكنت الياء، وحذفت لالتقاء الساكنين، فبقيت لوة، فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت لاة. فهي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون إليها أعناقهم، ويطوفون بها، وكانت على صورة آدمي. وعلى هذا فالتاء زائدة فيه. لأنه من لوى يلوى. وقيل: التاء فيه أصلية لام الكلمة كالباء في الباب؛ لأنه من لات يليت، فألفها عن ياء. فإن مادة لَ يَ تَ موجودة، فإن وجدت مادة من لَ وَتَ جاز أن تكون منقلبة من واو. وهل هي والعزى علمان بالوضع أو صفتان غالبتان فيه خلاف. ويرتب على ذلك جواز حذف الألف واللام
﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢)﴾؛ أي: جائرة ظالمة. من ضازه يضيزه إذا ضامه وجار عليه. وعلى هذا فتحتمل وجهين:
أحدهما: تكون صفة على فعلى بضم الفاء، وإنما كسرت الفاء؛ لتصح الياء، كبيض. فإن قيل: وأيُّ ضرورة تدعو إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء، ولم لا قيل فعلى بالكسر؟. فالجواب: أن سيبويه حكى: أنه لم يرد في الصفات فعلى بكسر الفاء، وإنما ورد بضمها، نحو: حبلى، وأنثى، وربا، وما أشبهه. إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك. حكى ثعلب: ميتة حيكي، ورجل كيسي. وحكى غيره: امرأة عزهي، وامرأة سعلي. وهذا لا ينقض على سيبويه؛ لأن سيبويه يقول في حيكي وكيسي كقوله في ضيزى لتصح الياء. وأمَّا عزهي وسعلي فالمشهور فيهما عزهاة وسعلاة.
﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤)﴾ أصله: تمني بوزن تفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. والتمني: تقدير شيء في النفس، وتصويره فيها. وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل. لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك. فأكثر التمني تصوير ما لا حقيقة له.
﴿لَيُسَمُّونَ﴾ أصله: ليسميون، استثقلت الضمة علي الياء فحذفت، ثم حذفت لما التقت ساكنة بواو الجماعة، وضمت الميم لمناسبة الواو. ﴿تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ مصدر قياسي لسمي؛ لأنه قياس فعل المستعل اللام، فحذفت ياء التفعيل منه، وعوض عنها إياه في آخره، نظيره زكى تزكية، وورى تورية.
﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ قال الفراء: اللمم: أن يفعل الإنسان الشيء في الحين، ولا يكون عادة له. ومنه: إلمام الخيال.
﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ والأجنة: جمع جنين، مثل: أسرة وسرير. وأصله: أجننة بوزن أفعلة، نقلت حركة النون الأولى إلى الجيم فسكنت؛ وأدغمت في النون الثانية، فوزنه أفعلة. والجنين: الولد ما دام في البطن. وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مدفون مستتر. والجنين: الدفين في الشيء المستتر فيه من جنه إذا ستره. وإذا خرج من بطن أمه لا يسمى إلا ولدًا أو سقطًا. وفي الأشباه: هو جنين ما دام في بطن أمه، فإذا انفصل ذكرًا فصبي، ويسمى رجلًا، كما في آية المراث إلى البلوغ. فغلام إلى تسعة عشر، فشاب إلى أربعة وثلاثين، فكهل إلى إحدى وخمسين؛ فشيخ
﴿فَلَا تُزَكُّوا﴾ أصله: تزكيون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكان، فحذفت الياء وضمت الكاف لمناسبة الواو، وحذفت نون الرفع.
﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أصله: اوتقي بوزن افتعل، فقلبت ﴿الواو﴾ تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، وقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)﴾ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)﴾ فالأول ﴿هَوَى﴾ بمعنى خر وسقط، والثاني بمعنى هوى النفس.
ومنها: إيراده - ﷺ - بعنوان صاحبيته لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، وإحاطتهم خبرًا ببراءته - ﷺ - مما نفي عنه بالكلية، وباتصافه بغاية الهدى والرشاد. فإن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم محاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتمًا، كما في "الإرشاد".
ومنها: عطف الخاص الذي هو الغواية: وهو الخطأ في الاعتقاد فقط على الضلال الذي هو العام. لأنه خطأ في الاعتقاد، والأقوال، والأفعال، والأخلاق في قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة الماضي أولًا في قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢)﴾ وبصيغة المستقبل ثانيًا في قوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣)﴾ بيانًا لحاله قبل البعثة وبعدها؛ أي: ما ضلَّ وما غوى حين اعتزلكم، وما تعبدون قبل أن يبعث رسولًا، وما ينطق عن الهوى الآن، حين يتلو عليكم آيات ربه، قاله ابن الشيخ. وقال صاحب الروح: والظاهر: أن صيغة الماضي باعتبار قولهم: قد ضل وغوى إشارة إلى تحقق ذلك في زعمهم. وأمَّا صيغة المضارع، فباعتبار تجدد النطق في كل حال، والله أعلم بكل حال.
ومنها: التأكيد لرفع احتمال المجاز في قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)﴾ فإنَّ
ومنها: إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها في قوله: ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ وحذف الموصوف؛ أي: ملك شديد قواه.
ومنها: فن القلب في قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨)﴾ وهو من المقلوب الذي تقدم فيه ما يوضحه التأخر، وتأخر ما يوضحه التقديم؛ أي: تدلى فدنا. لأنه تدلى للدنوّ، ودنا بالتدلي.
ومنها: الإبهام للتعظيم والتهويل في قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠)﴾ ومثله: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦)﴾، وكذلك قوله: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤)﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي مع الإزراء بعقولهم في قوله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢)﴾. والاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢)﴾.
ومنها: الإضمار قبل الذكر في قوله: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ﴾ لغاية ظهوره، كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾؛ أي: على ظهر الأرض. والمراد بالعبد المشرف بالإضافة إلى الله: هو الرسول - ﷺ -، كما في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾.
ومنها: تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس من قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا﴾ إلى قوله: ﴿أَوْ أَدْنَى﴾. وفيه أيضًا: الجناس المغاير بين: ﴿دَنَا﴾ ﴿أَدْنَى﴾.
ومنها: الجناس المماثل بين ﴿يَرَى﴾، و ﴿رَأَى﴾ في قوله: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ﴾.
ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في قوله: ﴿جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾؛ أي: الجنّة التي يأوي إليها المتقون، فهو مثل: مسجد الجامع كما مرّ.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾.
ومنها: الالتفات من الخطاب في قوله: ﴿إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ للإيذان بأن تعداد قبحائهم اقتضى الإعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ لإفادة إرادة الجنس.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ بتكرير قوله: ﴿أَعْلَمُ﴾ لزيادة التقرير، والإيذان بكمال تباين المعلومين.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. وفيه الإطناب أيضًا بتكرار لفظ ﴿يجزي﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة الاستقبال في صلة الموصول الذي وقع بدلًا أعني: قوله: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ دون صلة الموصول الذي وقع مبدلًا منه أعني: قوله: ﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ اهتمامًا بشأن الخاص.
ومنها: الإتيان بلام التعريف في الملائكة في قوله: ﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ﴾ لإفادة الاستغراق.
ومنها: تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعارًا بأنّها في الشناعة، والفظاعة، واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ فإن قيل: الجنين إذا كان اسمًا له ما دام في البطن، فما فائدة قوله تعالى: ﴿في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾؟ قلنا: فائدته
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله (١) سبحانه وتعالى لمّا بيّن علمه، وقدرته، وأن الجزاء واقع على الإساءة والإحسان، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم. وهذا لا يعرف إلا بالوحي من الله تعالى.. ذكر هنا أن من العجب العجاب بعد هذا أن يسمع سامع، ويرجو عاقل أن غيره يقوم مقامه في تحمل وزره، ويعطيه جعلًا. لكنه ما أعطاه إلا قليلًا، حتى وقف عن العطاء.. ومن ثم وبخه على ذلك بأن علم هذا لا يكون إلا بوحي. فهل علم منه صحة ما اعتقده؟ كلا فجميع الشرائع المعروفة لكم كشريعة موسى، وإبراهيم على غير هذا. وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمن أين وصل له أن ذلك مجز له؟.
قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر قبل ما جاء في صحف موسى وإبراهيم من أن الإحياء، والإماتة بيد الله سبحانه، وأنه هو الذي يصرف أمور العالم خلقًا، وتدبيرًا،
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى...﴾ الآيات، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة: أنّ النبي - ﷺ - خرج في غزوة، فجاء رجل يريد أن يحمل، فلم يجد ما يخرج عليه، فلقي صديقًا له، فقال: أعطني شيئًا فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي، فقال له: نعم. فأنزل الله: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣)﴾ الآيات.
وقال مجاهد، وابن زيد (٢): إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد سمع قراءة رسول الله - ﷺ -، وجلس إليه، ووعظه، فلان قلبه للإسلام، فطمع فيه رسول الله - ﷺ -، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أأتترك ملة آبائك ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطبني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما هم به من الإِسلام، وضل ضلالًا بعيدًا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشحَّ.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال (٣): إنّ رجلًا أسلم، فلقيه بعض من يعيره،
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١)﴾ سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا يقرون على رسول الله - ﷺ - وهو يصلي شامخين، فنزلت: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٣٣ - ولما بين سبحانه جهالة المشركين على العموم خصَّ بعضهم بالذم، فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ يا محمد، أو أيها المخاطب؛ أي: هل أخبرت، وعلمت يا محمد ﴿الَّذِي تَوَلَّى﴾؛ أي: شأن وحال الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق. فالفاء استئنافية، والهمزة للاستفهام التقريري.
٣٤ - ﴿وَأَعْطَى﴾، لمن يتحمل عنه الأوزار شيئًا ﴿قَلِيلًا﴾ من ماله أو إعطاه قليلًا. ﴿وَأَكْدَى﴾؛ أي: قطع عطاءه عنه، وأمسك بخلًا.
٣٥ - والاستفهام في قوله: ﴿أَعِنْدَهُ﴾؛ أي: هل عند ذلك المتولي ﴿عِلْمُ الْغَيْبِ﴾؛ أي: علم ما غاب عنه من أمر العذاب للإنكار.
والفاء في قوله (١): ﴿فَهُوَ يَرَى﴾ سببية. والرؤية قلبية؛ أي: هل عنده علم بالأمور الغيبية التي من جملتها تحمل صاحبه عنه يوم القيامة. فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه. قال ابن الشيخ: أرأيت بمعنى أخبرت، و ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ﴾ مفعوله الثاني؛ أي: هل أخبرت، وعلم يا محمد هذا المعطي المكدي هل عنده علم ما غاب عنه من أحوال الآخرة؟ فهو يعلم أن صاحبه يتحمل أوزاره على أن قوله: ﴿يَرَى﴾، بمعنى يعلم، حذف مفعولاه لدلالة المقام عليهما. وقيل: الهمزة في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفكرت يا محمد في حال بعض المعاندين فرأيت الذي تولى وأعطى قليلًا وأكدى هل عنده علم الغيب فهو يرى أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره؛
والمعنى (١): أي أعلمت شأن هذا الكافر، وهل بلغك شأنه العجيب؟ فقد أشرف على الإيمان، واتباع هدى الرسول، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بأن لا يقبل نصح الناصح، ويرجع إلى دين آبائه، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلًا من المال، فقبل ذلك منه، لكنه ما أعطاه إلا قليلًا، حتى امتنع من إعطائه شيئًا بعد ذلك. أفعنده علم بأمور الغيب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة.
وقصارى ذلك (٢): أخبرني بأمر هذا الكافر، وحاله العجيبة. إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره، إذا أدى له أجرًا معلومًا أأنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق؟.
٣٦ - ثم أكد هذا الإنكار، فذكر أن الشرائع التي يعرفونها على غير هذا، فقال: ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام؛ أي: بل أهو جاهل ﴿لَمْ يُنَبَّأْ﴾؛ أي: لم يخبر ﴿بِمَا في صُحُفِ مُوسَى﴾، أي: أسفار التوراة. جمع صحيفة. وهي التي يكتب فيها،
٣٧ - ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ معطوف على موسى؛ أي: وبما في صحف إبراهيم ﴿الَّذِي وَفَّى﴾ صفة لإبراهيم، أي: الذي وفر، وأكمل، وأتم ما ابتلي به من الكلمات، كما مر في سورة البقرة. قال المفسرون؛ أي: بلغ قومه ما أمر به، وأداه إليهم. وقيل: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه؛ لأنّ التشديد يأتي للتكثير والمبالغة.
وتخصيصه بذلك (٣) لاحتماله ما لم يحتمل غيره كالصبر على نار نمرود، حتى إنه أتاه جبريل حين ألقي في النار، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. وعلى ذبح الولد، وعلى الهجرة، وعلى ترك أهله وولده بواد غير ذي زرع. ونعم ما قيل هنا: ﴿وَفَّى﴾ ببذل نفسه للنيران، وقلبه للرحمن، وولده للقربان، وماله للضيفان. وروي: أنه كان يمشي كل يوم فرسخًا يرتاد ضيفًا، فإن وجده أكرمه، وإلا نوى الصوم.
وروي: "ألا أخبركم لم سمى الله خليله ﴿الَّذِي وَفَّى﴾؟ كان يقول إذا أصبح،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وإنما ذكر ما جاء في شريعتي هذين البيين فحسب؛ لأن المشركين كانوا يدعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما في التوراة وصحفها قريبة العهد منهم.
فإن قلت: لم قدم موسى هنا على إبراهيم، وعكس في سورة الأعلى؟.
قلت: إنما قدم موسى هنا لما أنَّ صحفه التي هي التوراة أشهر عندهم وأكثر، وأيضًا هو من باب الترقي من الأقرب إلى الأبعد لكون الأقرب أعرف، وأيضًا أن موسى صاحب كتاب حقيقة بخلاف إبراهيم. وقدم إبراهيم على موسى في سورة الأعلى لغرض الفاصلة.
وقرأ الجمهور ﴿وَفَّى﴾ بتشديد الفاء. وقرأ أبو أمامة الباملي، وسعيد بن جبير، وأبو مالك الغفاري، وابن السميقع، وزبد بن علي بتخفيفها. ولم يذكر متعلق ﴿وَفَّى﴾ إفادة للعموم، ذكره في "البحر".
٣٨ - ثم بين سبحانه ما في صحفهما، فقال: ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾؛ أي: والذي في صحفهما أنه لا تزر، ولا تحمل نفس ﴿وَازِرَةٌ﴾؛ أي: حاملة وزرًا وحملًا ﴿وِزْرَ أُخْرَى﴾، أي: حمل نفس أخرى. ومعناه: لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى. وأصله (١): أن لا تزر؛ على أن ﴿أن﴾ هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المنفية خبرها. ومحل الجملة الجر، على أنها بدل عن ﴿مَا﴾ في قوله:
وفي هذا (١): إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أنه يحمل عنه الإثم. وقال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه، وابنه، وأخيه، وامرأته، وعبده حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك، وبلغهم عن الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى.
ولا يعارض (٢) هذه الآية قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾. إذ ليس المعنى: أنَّ عليه إثم مباشرة سائر القاتلين، بل المعنى: أنَّ عليه فوق إثم مباشرته للقتل المحظور إثم دلالته، وسببيته لقتل هؤلاء، وهما ليستا إلا من أوزاره، فهو لا يحمل إلا وزر نفسه.
وكذا لا يعارضها أيضًا قوله - ﷺ -: "مَن سنَّ سنةً سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره.
٣٩ - وقوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾ معطوف على قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾ إلخ. و ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة كأختها السابقة، ﴿لِلْإِنْسَانِ﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾، و ﴿إِلَّا مَا سَعَى﴾ اسمها و ﴿ما﴾ مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة.
والمعنى: وأنه - أي: الشأن - ليس للإنسان في الآخرة إلا سعيه في الدنيا من العمل، والنية، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله. فهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره من حيث جلب النفع إثر بيان عدم انتفاعه، من حيث دفع
(٢) روح البيان.
وقال الربيع بن أنس (٢): ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾ يعني: الكافر. وأما المؤمن فله ما سعى، وما سعى له غيره. وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول. وفي "فتح الرحمن": واختلف الأئمة فيما يفعل من القرب: كالصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، والصدقة، ويهدى ثوابه للميت المسلم. فقال أبو حنيفة وأحمد: يصل ذلك إليه، ويحصل له نفعه بكرم الله ورحمته. وقال مالك، والشافعي: يجوز ذلك في الصدقة، والعبادة المالية، وفي الحجّ. وأما غير ذلك كالصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، وغيره فلا يجوز، ويكون ثوابه لفاعله. وعند المعتزلة: ليس للإنسان جعل ثواب عمله مطلقًا لغيره، ولا يصل إليه، ولا ينفعه لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِثإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)﴾، ولأن الثواب هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلًا عن غيره.
ومعنى الآية (٣): أي كما لا يحمل على الإنسان وزر غيره لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب لنفسه. ومن هذا استنبط مالك، والشافعي، ومن تبعهما: أن القراءة لا يصح إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنّه ليس من عملهم ولا كسبهم، وهكذا جميع العبادات البدنية كالصلاة، والصوم، والتلاوة. ومن ثم لم يندب إليها رسول الله - ﷺ - أمته، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إليها بنصٍّ، ولا إيماءٍ، ولم ينقل من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. أما الصدقة فإنها تقبل.
وما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة من قوله - ﷺ -: "إذا مات ابن آدم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ومذهب أحمد بن حنبل، وجماعة من العلماء: أن ثواب القراءة يصل إلى الموتى إن لم تكن القراءة بأجر، أما إذا كانت به، كما يفعله الناس اليوم من إعطاء الأجر للحفاظ للقراءة على المقابر، وغيرها فلا يصل إلى الميت ثوابها. إذ لا ثواب لها حتى يصل إليهم لحرمة أخذ الأجر على قراءة القرآن، وإن لم يحرم على تعليمه.
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس (١): من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعصله، فقد خرق الإجماع. وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره. وهو انتفاع بعمل الغير.
والثاني: أن النبي - ﷺ - يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها، ولأهل الكبائر في الإخراج من النار. وهذا الانتفاع بسعي الغير.
والثالث: أن كل نبي وصالح له شفاعة. وذلك انتفاع بعمل الغير.
والرابع: أن الملائكة يدعون، ويستغفرون لمن في الأرض. وذلك منفعة بعمل الغير.
والخامس: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط بمحض رحمته. وهذا انتفاع بغير عملهم.
والسادس: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم. وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.
وكذا الميت بالصدقة عنه، وبالعتق بنص السنة والإجماع. وهو من عمل غيره. وأن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة. وكذا تبرأ
فأجابوا عنه بوجوه:
منها: أنه في حق الكافر. والمعنى عليه: ليس له من الخير إلا ما عمل هو، فيثاب عليه في الدنيا، بأن يوسع عليه في رزقه، ويعافى في بدنه، حتى لا يبقى له في الآخرة حسنة يثاب عليها.
ومنها: أنه بالنسبة إلى العدل، لا الفضل.
ومنها: أن الإنسان إنما ينتفع بعمل غيره؛ إذا نوى الغير أن يعمل له، حيث صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعًا، فكان سعي الغير بذلك كأنه سعيه. وأيضًا أن سعي الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط، فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمنًا صالحًا كان سعي الغير تابعًا لسعيه، فكأنه سعي بنفسه. فإن علقة الإيمان وصلة وقرابة، كما قال - ﷺ -: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
والحاصل: أنه لما كان مناط منفعة كل ما ذكر من الفوائد عمله الذي هو الإيمان، والعمل الصالح، ولم يكن شيء منه نفع ما بدونهما جعل النافع نفس عمله، وإن كان بانضمام غيره إليه.
٤١ - ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ﴾ أي: ثم يجزى الإنسان سعيه؛ أي: جزاء عمله. فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان، والمنصوب إلى سعيه. ﴿الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾؛ أي: الجزاء الأوفر الكامل الأتم، إن خيرًا فخبر، وإن شرًا فشر. وهو مفعول مطلق مبين للنوع. وفي قوله: ﴿الْأَوْفَى﴾ وعيد للكافر، ووعد للمؤمن.
٤٢ - ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)﴾؛ أي: ومما في صحفهما أن انتهاء الخلق في رجوعهم إلى الله تعالى بعد الموت إلى ربك، لا إلى غيره لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، فيجازيهم بأعمالهم. وفي الحقيقة انتهاء الخلق إليه تعالى في البداية والنهاية ﴿إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾. إذ لا إله إلا هو؛ أي: وأن مرجع الأمور يوم المعاد إلى ربك. فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويثيبهم أو يعاقبهم بالجنة أو النار، وفي هذا تهديد بليغ للمسيء، وحث شديد للمحسن، وتسلية لقلبه - ﷺ -. كأنّه يقول له: لا تحزن أيها الرسول، فإن المنتهى إلى الله سبحانه. وقرأ الجمهور (١) ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ﴾، وما بعدها من ﴿وأنّه﴾، و ﴿أنّ﴾ بفتح الهمزة عطفًا على ما قبلها، وقرأ أبو السمال بالكسر فيهن.
٤٣ - ﴿وَ﴾ مما في صحفهما ﴿أَنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾، أي: خلق قوتي الضحك والبكاء في الإنسان منهما ينبعث الضحك والبكاء. والإنسان لا يعلم ما تلك القوة. والضحك (٢): انبساط الوجه، وتكشر الأسنان من سرور النفس. والبكاء بالمد: سيلان الدمع عن حزن. وقيل: هما كنايتان عن السرور، والحزن. كأنه قل: أفرح، وأحزن. لأنَّ الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء، أو عما يسر ويحزن. وهو الأعمال الصالحة، والأعمال السيئة. أو
(٢) روح البيان.
السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرِقُ | وَإِنَّمَا ضِحْكُهَا زُوْرٌ وَمُخْتَلَقُ |
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لَا دُمُوْعَ لَهَا | وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ |
٤٤ - ﴿وَ﴾ مما في صحفهما ﴿أَنَّهُ﴾ سبحانه ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾؛ أي: قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره لا خلقًا، ولا كسبًا. فإن أثر القاتل هو نقض البنية، وتفريق الاتصال، وإنما يحصل الموت عنده بفعل الله سبحانه على العادة. فللعبد نقض البنية كسبًا دون الإماتة. وقيل: خلق نفس الموت والحياة كما في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾. وقيل: أمات الآباء، وأحيا الأبناء. وقيل: أمات في الدنيا، وأحيا للبعث. وقيل: المراد بما: النوم واليقظة. وقال عطاء: أمات بعدله، وأحيا بفضله، وقيل: أمات الكافر، وأحيا المؤمن كما في قوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾.
٤٥ - ﴿وَ﴾ مما في صحفهما ﴿أَنَّهُ﴾ سبحانه ﴿خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ﴾ أي: الصنفين ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ بدل من الزوجين. وفي بعض التفاسير من كل الحيوان. وفيه (٢) أن كل حيوان لا يخلق من النطفة، بل بعضه من الريح كالطير؛ فإن البيضة المخلوقة منها الدجاجة مخلوقة من ريح الديك. ولا يدخل في ذلك آدم وحواء. فإنهما لم يخلقا من النطفة.
٤٦ - ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ متعلق بخلق. هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل كما في
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي وأنه خلق الذكر والأنثى من الإنسان وغيره من الحيوان من المنيّ الذي يدفق، ويصب في الأرحام.
٤٧ - ﴿وَ﴾ مما في صحفهما ﴿أَنَّ عَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾، أي: الخلقة الأخرى. وهو الإحياء بعد الموت وفاء بوعده، لا لأنّه يجب على الله كما يوهمه ظاهر كلمة على. وفيه تصريح بأن الحكمة الإلهية اقتضت النشأة الثانية الصورية للجزاء، والمكافأة، وإيصال المؤمنين بالتدرج إلى كمالهم اللائق بهم. ولو أراد تعجيل أجورهم في هذه الدار.. لضاقت الدنيا بأجر واحد منهم، فما ظنك بالباقي. ومن طلب تعجيل نتائج أعماله وأحواله في هذه الدار.. فقد أساء الأدب، وعامل الموطن بما لا يقتضيه حقيقته؛ أي: وإن عليه الإحياء بعد الإماتة ليجازي كلًّا من المحسن، والمسيء على ما عمل. وقرأ الجمهور (١) ﴿النَّشْأَةَ﴾ بالقصر بوزن الضربة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالمد بوزن الكفالة. وهما على
القراءتين مصدران.
٤٨ - ﴿وَ﴾ مما في صحفهما ﴿أَنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿أَغْنَى﴾ من شاء من عباده بالأموال ﴿وَأَقْنَى﴾؛ أي: أفقر من شاء منها. ومثله قوله تعالى: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾، وقوله: ﴿يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾؛ أي: وأنه تعالى يغني من يشاء من عباده، ويفقر من يشاء بحسب ما يرى من استعداد كل منهما ومقدرته على كسب المال بحسب السنن المعروفة في هذه الحياة.
وأفرد القنية بالذكر بعد قوله: ﴿أَغْنَى﴾؛ لأنها أشرف الأموال، وأفضلها. والأوفق لما قدمه من الآي المشتملة على مراعاة صنعة الطباق أن يحمل ﴿أقنى﴾ على معنى أفقر، على أن تكون الهمزة في ﴿أقنى﴾ للإزالة، كما قاله سعديٌّ المفتي.
٤٩ - ﴿وَ﴾ منه ﴿أَنَّهُ﴾ تعالى ﴿رَبُّ الشِّعْرَى﴾؛ أي: رب معبودهم الشعرى. فاعبدوا الرب دون المربوب. والشعرى: كوكب نير خلف الجوزاء. يقال له: العبور بالمهملة بوزن الصبور. قال مجاهد، وابن زيد: هو مرزم الجوزاء. وهي المرادة هنا. وهي أشد ضياء من الغميصاء - بالغين المعجمة المضمومة - وفتح الميم والصاد المهملة". وهي إحدى الشعريين. يعني: أن الشعرى شعريان. أحدهما: الشعرى اليمانية، وتسمى أيضًا الشعرى العبور. وثانيتهما: الشعرى الشامية، وهي التي بالذراع. وتسمى أيضًا الشعرى الغميصاء، فصلت المجرة بينهما. تزعم العرب أن الشعريين أختا سهيل، وأن الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر سهيل نحو اليمين،
والمعنى (١): أي وأنه تعالى رب هذا الكوكب الوهاج الذي يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر. فاعبدوه، ولا تعبدوا الشعرى. وإنما خصها بالذكر من بين الأجرام السماوية، وفيها ما هو أكبر منها جرمًا، وأكثر ضوءًا لأنها عبدت من دون الله في الجاهلية. فقد عبدتها حمير، وخزاعة؛ كما مر آنفًا. ومن العرب من كانوا يعظمونها، ويعتقدون أن لها تأثيرًا في العالم، ويتكلمون على المغيبات حين طلوعها. وهي شعريان. إحداهما: شامية. وهي التي في الذراع. وثانيتهما: يمانية، وهي خلف الجوزاء. وهي المرادة في هذه الآية، وهي التي كانت تعبد من دون الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا إشارة إلى فساد قول من قال من الناس: إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده. فمن كسب استغنى، ومن كسل افتقر. وبعضهم قال: إنّ ذلك بالبخت، وذلك بالنجوم. فردهم تعالى بقوله: هو تعالى محرك النجوم، ورب معبودهم الشعرى العبور.
٥٠ - ﴿وَ﴾ منه ﴿أَنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى﴾ هي (٢) قوم هود عليه السلام، أهلكوا بريح صرصر. وعاد الأخرى إرم بن سام بن نوح؛ كما قال: {أَلَمْ
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَادًا الْأُولَى﴾ بتنوين عادًا وكسره لالتقاءه ساكنًا مع سكون لام الأولى، وتحقيق الهمزة بعد اللام. وقرأ قوم كذلك، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام، وحذفوا الهمزة. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن محيصن وأبو عمرو بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة.
٥١ - ﴿وَثَمُودَ﴾ معطوف على: ﴿عَادًا﴾. لأنَّ ما بعده لا يعمل فيه لمنع ما النافية عن العمل. وهم قوم صالح عليه السلام، أهلكهم الله سبحانه بالصيحة. ﴿فَمَا أَبْقَى﴾ الله سبحانه وتعالى أحدًا من الفريقين.
والمعنى: أي وأنه أهلك ثمود كما أهلك عادًا؛ فما أبقى منهم عينًا تطرف. ويجوز أن يكون المعنى: فما أبقى عليهما. فالإبقاء على هذا المعنى: الترحم عليهم. وإنما لم يترحم عليهم لكونهم من أهل الغضب، ورحمة الله لأهل اللطف دون القهر؛ أي: فما أبقى عليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقرأ الجمهور (٢) ﴿وثمودًا﴾ مصروفًا. وقرأه غير مصروف: الحسن، وعاصم، وعصمة.
٥٢ - ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ معطوف على ﴿عَادًا﴾ أيضًا؛ أي: وأنّه سبحانه أهلك قوم نوح عليه السلام ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل إهلاك عاد، وثمود. ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن قوم نوح ﴿كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ﴾ لنببهم ﴿وَأَطْغَى﴾؛ أي: أعتى لربهم من الفريقين، حيث كانوا
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود، وكانوا أظلم وأطغى من الفريقين، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب. وإنما كانوا أظلم لأنهم بدؤوا بالظلم. وفي الحديث: "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها". لأنهم أول من كذب الرسل.
وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه؛ ويمشي به إلى نوح، ويحذره منه، ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا الرجل، وأنا مثلك يومئذٍ، ويقول: فإياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، لا يتأثر من دعوة نوح له. وكانوا أطغى؛ أي: أكثر طغيانًا وتمردًا على الله، وأكثر تجاوزًا للحد؛ لأنهم سمعوا المواعظ، وطال عليهم الأمد، ولم يرتدعوا، حتى دعا عليهم نبيهم بقوله: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.
٥٣ - وقوله: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ﴾ منصوب عطفًا على ﴿عَادًا﴾؛ أي: وأنّه أهلك المؤتفكة، أي: قرى قوم لوط عليه السلام. سميت مؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي: انقلبت بهم. وقيل: هو منصوب بقوله: ﴿أَهْوَى﴾؛ أي: أسقطها الله إلى الأرض مقلوبة بعد أن رفعها على جناح جبريل إلى السماء. وقال الزجّاج: ألقاها في الهاوية.
٥٤ - ﴿فَغَشَّاهَا﴾، أي: فغشى الله سبحانه المؤتفكة، وغطاها، وألبسها ﴿مَا غَشَّى﴾؛ أي؛ ما غشاها؛ أي: ما ألبسها من فنون العذاب، والحجارة الذي وقعت عليها. وفي هذه العبارة من التهويل والتفظيع ما لا غاية وراءه.
وقوله (١): ﴿مَا غَشَّى﴾ مفعول ثان إن قلنا: إن التضعيف للتعدية، أي: ألبس الله سبحانه المؤتفكة ما ألبسها إياه من العذاب كالحجارة المنضودة المسوّمة، فمفعولا الفعل الأول مذكوران، والثاني محذوفان. وإن قلنا: إنه للمبالغة والتكثير هو فاعل كقوله: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾.
خلاصة ما هنا: وجملة ما ذكره سبحانه مما تضمنته صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام أربعة عشر:
١ - أن لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره.
٢ - أن لا يثاب امرؤ إلا بعمله.
٣ - أن العامل يرى عمله في ميزانه خيرًا كان أو شرًّا.
٤ - أنه يجازى عليه الجزاء الأوفى، فتضاعف له حسناته إلى سبع مئة ضعف ويجازى بمثل سيئاته.
٥ - أن الخلائق كلهم راجعون يوم المعاد إلى ربهم، ومجازون بأعمالهم.
٦ - أنه تعالى خلق الضحك والبكاء والفرح والحزن.
٧ - أنه سبحانه خلق الذكر والأنثى من نطفة تصب في الأرحام.
٨ - أنه تعالى خلق الموت والحياة.
٩ - أنه هو الذي أعطى الغنى والفقر، وكلاهما بيده، وتحت قبضته.
١٠ - أنه هو رب الشعرى، وكانت خزاعة تعبدها.
١١ - أنه أهلك عادًا الأولى، وقد كانوا أول الأمم هلاكًا بعد قوم نوح.
١٢ - أنه أهلك ثمود فما أبقاهم، بل أخذهم بذنوبهم.
١٣ - أنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، وقد كانوا أظلم وأطغى من الفريقين.
١٤ - أنه أهلك المؤتفكة. وهي قرى قوم لوط، وقد انقلبت بأهلها، وغطّاها بحجارة من سجيل.
٥٥ - ﴿فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكَ﴾؛ أي: فبأيّ نعماء ربك، وخالقك التي أنعم بها عليك أيها المخاطب ﴿تَتَمَارَى﴾؛ أي: تتجاحد، وتمتري، وتكذب. ونحو الآية قوله: {يَا أَيُّهَا
والمراد بالنعم (١): ما عدَّده من قبل، وجعلت كلها نعمًا، وبعضها نقم لما في النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين من الأنبياء والمؤمنين.
والخلاصة: أنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته، ففي أيها تتشكك على وضوحها للناظرين، ووجوه دلالتها للمعتبرين. وهذا خطاب للإنسان المكذب؛ أي: فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك، وتمتري. وقيل: الخطاب لرسول الله - ﷺ - تعريضًا لغيره على حدّ قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾. أو لكل واحد، وإسنار فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه.
وعبارة "الروح": وجعل الأمور المعدودة الطاء مع أن بعضها نقم لما أنها أيضًا نعم، من حيث إنها نصرة للأنبياء والمؤمنين، وانتقام لهم. وفيها عظات، وعبر للمعتبرين. قال في "بحر العلوم": وهلاك أعداء الله تعالى؛ والنجاة من صحبتهم وشرهم، والعصمة من مكرهم من أعظم آلاته تعالى الواصلة إلى المؤمنين. قال المتنبي:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى | عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ |
وقرأ الجمهور: (٢) ﴿تَتَمَارَى﴾ بتائين من غير إدغام. وقرأ يعقوب، وابن محيصن ﴿تمارى﴾ بتاء واحدة مشددة. والفاء في قوله: ﴿فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥)﴾ للإفصاح؛ لأنّها وقعت في جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات، وكنت شاكًّا فيها على سبيل الفرض.. فأقول لك: بأيّ نعمة من نعم ربك تتشكك بأنها ليست من عند الله تعالى، أو في كونها نعمة. فكما نصرت
(٢) البحر المحيط.
٥٦ - والإشارة في قوله: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦)﴾ إما للرسول. والنذير بمعنى المنذر؛ أي: هذا الرسول (١) محمد - ﷺ - منذر لكم من عذاب الله، ومبشر لمن آمن منكم؛ أي: نذير كائن من جنس النذر المتقدمين. ووصفهم بالأولى على تأويلهم بالجماعة لمراعاة الفواصل. وقد علمتم أحوال قومهم المنذرين فلكم أيها المشركون ما لهم، كذا قال ابن جريج، ومحمد بن كعب، وغيرهما.
والمعنى: أي إن محمدًا - ﷺ - منذر من حاد عن طريق الهدى، وسلك طريق الضلال والهوى بسيء العواقب في العاجل والاجل. وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلم ربهم لهداية خلقه، فكذبوهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وحل بهم البوار والنكال كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم ونعمه الذي تترى عليهم. ونحو الآية: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾، وقوله - ﷺ -: "أنا النذير العريان"، أي: الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئًا، وبادر إلى إنذار قومه، وجاءهم مسرعًا. وإما إشارة إلى القرآن، والنذير بمعنى الإنذار؛ أي: هذا القرآن الذي تشاهدونه إنذار كائن من قبيل الإنذارات المتقدمة التي سمعتم عاقبتها، كذا قال قتادة، أو إلى ما سبق في السورة؛ أي: هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك الغفاري، وقال أبو صالح: إنّ الإشارة بقوله: ﴿هَذَا﴾ إلى ما في صحف موسى وإبراهيم. والأول أولى. لأنه لما افتتح به أول السورة اختتم به - ﷺ -.
٥٧ - ولما ذكر إهلاك من تقدم ذكره، وذكر قوله: ﴿هَذَا نَذِيرٌ﴾: ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع، فقال: ﴿زِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾؛ أي؛ قربت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾، وهي القيامة، ودنت. وسماها ازفة لقرب قيامها كما في قوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ أخبرهم بذلك ليستعدوا لها.
فإن قلت: الإخبار بقرب الآزفة المعهودة لا فائدة فيه أيضًا.
قلتُ: فيه فائدة، وهو التأكيد، وتقرير الإنذار.
والمعنى: (٢) أي اقتربت الساعة، ونصب الميزان، وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئًا ولا هم ينصرون. ونحو الآية: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢)﴾. وفي الحديث: "مثلي ومثل الساعة كهاتين" وفرَّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام.
٥٨ - ﴿لَيْسَ لَهَا﴾؛ أي: للساعة ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَاشِفَةٌ﴾؛ أي: نفس (٣) قادرة على كشفها؛ أي: إزالتها، وردها عند وقوعها في وقتها المقدر لها إلا الله سبحانه، لكنه لا يكشفها؛ من كشف التفسير إذا أزاله بالكلية. فالكاشفة: اسم فاعل، والتاء للتأنيث، والموصوف مقدر. أو المعنى: ليس لها الآن نفس كاشفة؛ أي: قادرة بتأخيرها إلا الله سبحانه. فإنه المؤخر لها. يعني: لو وقعت الآن لم يردها إلى وقتها أحد إلا لله. فالكشف بمعنى الإزالة لا بالكلية، بل بالتأخير إلى وقتها. أو المعنى: ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله؛ أي: عالمة به من كشف الشيء إذا عرف حقيقته، أو مبينة له متى تقوم. وفي القرآن: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾. أو المعنى: ليس لها من غير الله كشف على أن كاشفة مصدر كالعافية والخائنة. وأما جعل التاء للمبالغة كتاء علامة فالمقام يأباه لإبهامه ثبوت أصل الكشف لغيره تعالى. والمعنى الأول أولى.
والمعنى (٤): أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو فاستعدوا
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
وقد أشار في هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة:
١ - وحدانية الله بقوله: ﴿فَبِأَيِّ الَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥)﴾.
٢ - إثيات نبوّة محمد - ﷺ - بقوله: ﴿هَذَا نَذِيرٌ﴾.
٣ - إثبات الحشر والبعث بقوله: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾.
٥٩ - ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن، واستهزاءهم به، وإعراضهم عنه، فقال: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)﴾ والمراد بالحديث: القرآن؛ أي: كيف تعجبون منه أيها المشركون تكذيبًا
٦٠ - ﴿وَتَضْحَكُونَ﴾ منه استهزاء مع كونه غير محل للتكذيب. ﴿وَلَا تَبْكُونَ﴾ خوفًا وانزجارًا لما فيه من الوعيد الشديد.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتكذبون نبوة محمد - ﷺ -، فتعجبون من هذا القرآن الذي أنزل عليه، وتضحكون من تلاوته عليكم، ولا تبكون خوفًا من الوعيد الذي اشتمل عليه، وحزنًا على ما فرطتم في شأنه، وخوفًا من أن يحيق بكم مثل ما حاق بالأمم المذكورة هنا.
وقرأ الحسن (١): ﴿تُعجِبون﴾ ﴿تُضحِكون﴾ بغير واو، وبضم التاء، وكسر الجيم والحاء.
٦١ - وجملة قوله: ﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١)﴾ حال من فاعل ﴿لا تبكون﴾؛ أي: ولا تبكون والحال أنكم سامدون؛ أي: لاهون (٢) عما في القرآن، أو مستكبرون من استماعه من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود بمعنى الغناء على لغة حمير. وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء واللهو ليشغلوا الناس عن الاستماع. أو خاشعون جامدون من السمود بمعنى الجمود والخشوع. ومضمون هذه الجملة الحالية على الوجه الأخير قيد للنفي. والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معًا، وعلى الأوجه الأول قيد للنفي.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن، وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم. وكيف تسخرون منه، وتستهزئون به، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)﴾. وكيف تلهون عن استماع عبره، وتغفلون عن مواعظه، وتتلقونها تلقي اللاهي الساهي المعرض عما يسمع غير المكترث بما يلقى إليه.
أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة قال: لما نزلت: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)﴾ الآية، بكى أصحاب الصفة، حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - ﷺ - حنينهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال - ﷺ -: "لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى، ولا يدخل الجنّة مصر على معصيته، ولو لم تذنبوا.. لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم". وروي: أنه - ﷺ - لم ير ضاحكًا بعد نزول هذه الآية. وفي قوله: ﴿وَلَا تَبْكُونَ﴾ حث على البكاء عند سماع القرآن.
٦٢ - ثم بين ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم، فقال: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ﴾؛ أي: صلّوا مخلصين لله. ﴿وَاعْبُدُوا﴾؛ أي: أفردوه بالعبادة، ولا تعبدوا اللات، والعزى، ومناة، والشعرى، وغيرها من الأصنام.
والفاء في قوله: (٤) ﴿فَاسْجُدُوا﴾ لترتيب الأمر، أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار، والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والإذعان مع كمال الخضوع والخشوع؛ أي: وإذا كان الأمر من الكفّار كذلك، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: اسجدوا لله الذي أنزله، واعبدوه، ولا تعبدوا غيره من ملَكٍ أو بشر، فضلًا عن جماد لا يضرّ ولا ينفع كالأصنام، والكواكب. قال في "عين المعاني": فاسجدوا؛ أي: في الصلاة. والأصحّ: أنه على الانفراد. وهي
والمعنى: أي فاخضعوا، وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به. فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديًا وبشيرًا لكم لعلكم ترحمون. ودعوا ما أنتم عليه من عبادة الأوثان، والأصنام التي لا تغني عنكم شيئًا، لا تدفع عنكم ضرًّا، ولا تجديكم نفعًا، كما قال آمرًا رسوله أن يقول لهم: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾.
وهذا محل السجود عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قرأ والنجم، فسجد فيها وسجد من كان معه غير أنّ شيخًا من قريش أخذ كفًّا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرًا. زاد البخاري في رواية له قال: أول سورة نزلت فيها السجدة النجم، وذكره، وقال في آخره: وهو أميّة بن خلف.
وروى البخاري عن ابن عباس: أن رسول الله - ﷺ - سجد بالنجم؛ وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن والإنس. ولم يرها مالك لما روى الشيخان عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله - ﷺ - النجم فلم يسجد فيها. نفي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب. وهو قول الشافعي، وأحمد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. وذهب قوم إلى وجوبها على القارىء، والمستمع. وهو قول سفيان، وأصحاب الرأي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الإعراب
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١)﴾.
﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤)﴾.
﴿وَأَنَّ﴾ عاطف، وناصب، ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ خبره مقدم، ﴿الْمُنْتَهَى﴾ اسمه مؤخر. والجملة معطونة على جملة قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾. ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿أَضْحَكَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على الله. والجملة في محل الرفع خبر هو، وجملة هو في حل الرفع خبر ﴿أنّ﴾؛ وجملة أنّ معطوفة على قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾. ﴿وَأَبْكَى﴾ معطوف على ﴿أَضْحَكَ﴾، ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿أَمَاتَ﴾ خبره، ﴿وَأَحْيَا﴾ معطوف على ﴿أَمَاتَ﴾. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿أنَّ﴾، وجملة ﴿أنَّ﴾ معطوفة على ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾. ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ﴾ فعل وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ معطوفة على ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾. ﴿الذَّكَرَ﴾ بدل من الزوجين، ﴿وَالْأُنْثَى﴾ معطوف عليه، ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾، ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بخلق، ﴿تُمْنَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿نُطْفَةٍ﴾. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾؛ أي: خلق من نطفة وقت إمنائها في الرحم. ﴿وَأَنَّ﴾ عاطف وناصب، ﴿عَلَيْهِ﴾ خبر مقدم لـ ﴿أنَّ﴾، ﴿النَّشْأَةً﴾ اسمها مؤخر، ﴿الْأُخْرَى﴾ صفة لـ ﴿نشأة﴾. وجملة ﴿أنَّ﴾ معطونة على ما تقدم. ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿أَغْنَى﴾ خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾، وجملة أن معطوفة على ما تقدم. وجملة ﴿وَأَقْنَى﴾ معطوفة على ﴿أَغْنَى﴾. ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿رَبُّ الشِّعْرَى﴾ خبره. والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ معطوفة على ما تقدم. ﴿وَأَنَّهُ﴾ ناصب
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)﴾.
﴿فَبِأَيِّ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات، وكنت شاكًّا فيها على سبيل الفرض.. فأقول لك في أيّ نعمة من نعم ربّك تشكك بأنها ليست من عند الله تعالى، أو في كونها نعمة من عند الله تعالى. وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿بأي آلاء ربك﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعق بـ ﴿تَتَمَارَى﴾، و ﴿تَتَمَارَى﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر. والجملة في محل النصب؛ مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿هَذَا نَذِيرٌ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ النُّذُرِ﴾ نعت لـ ﴿نَذِيرٌ﴾، ﴿الْأُولَى﴾ صفة لـ ﴿النُّذُرِ﴾، ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿لَهَا﴾ خبرها مقدم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ حال من ﴿كَاشِفَةٌ﴾، و ﴿كَاشِفَةٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل النصب، حال من ﴿الْآزِفَةُ﴾. ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَوَلَّى﴾؛ أي: أعرض عن اتباع الحق، والثبات عليه. ﴿وَأَكْدَى﴾؛ أي: قطع العطاء، وأمسك بخلًا، من أكدى الحافر؛ أي: حافر البئر إذا بلغ الكدية؛ أي: الصلابة كالصخرة، فلا يمكنه أن يحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئًا فلم يصل إليه، فلم يتممه، ولم يبلغ آخره. وفي "القاموس": أكدى بخل، أو قل خيره، أو قل عطاءه. وأصل ﴿تَوَلَّى﴾ تولي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وكذلك أصل ﴿أَعْطَى﴾ أعطى قلبت الياء التي أصلها واو ألفًا لتحركها بعد فتح، وإنما قلبت الواو ياء لوقوعها رابعة. وكذلك أصل ﴿أَكْدَى﴾ أكدي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦)﴾ جمع صحيفة. قال الراغب: الصحيفة: المبسوطة من كل شيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي كان يكتب فيها. وجمعها صحائف، وصحف. والمصحف: ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة. وقال القهستاني: المصحف مثلث الميم ما جمع فيه قرآن، والصحف.
﴿وَفَّى﴾ يقال: أوفاه حقه، ووفاه بمعنى؛ أي: أعطاه تامًّا وافيًا. ويجوز أن يكون التشديد فيه للتكثير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله.
﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١)﴾ أصله: يجزي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿الْأَوْفَى﴾ اسم تفضيل، وزنه أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
والمعنى: يجزى سعيه. يقال: جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، وجزاه عمله.
﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)﴾ المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء؛ أي: إليه الانتهاء، والرجوع في المعاد. وأصله: المنتهي بوزن مفتعَل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣)﴾ والضحك: انبساط الوجه، وتكشر الأسنان من سرور النفس. ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك. والبكاء بالمد: سيلان الدمع عن حزن وعويل. ويقال: البكاء بالمد إذا كان الصوت أغلب كالرغاء، وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت. وبالقصر يقال: إذا كان الحزن أغلب. وأصل ﴿أَبْكَى﴾ أبكي بوزن أفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَمَاتَ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكن والقلب، أصله: أموت بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. ﴿وَأَحْيَا﴾ أصله: أحيي بوزن افعل، قلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ والنطفة: الماء الصافي. ويعبر بها عن ماء الرجل، كما في "المفردات". ﴿إِذَا تُمْنَى﴾؛ أي: تصب في الرحم. وفي "القاموس": مني وأمني ومنَّي بمعنًى، يقال: أمنى الرجل ومنى: إذا صب المني، أو معنى ﴿تُمْنَى﴾ يقدر منها الولد من مناه الله يَمْنِيه قدره. إذ ليس كل مني يصير ولدًا. وأصل ﴿تُمْنَى﴾ تمني بوزن تفعل، فأعل كنظائره السابقة. ﴿أَغْنَى وَأَقْنَى﴾؛ أي: أغنى من شاء، وأفقر من شاء.
﴿الشِّعْرَى﴾ هي الشعرى العبور. وهي النجم الوضاء الذي يقال له: مرزم الجوزاء. وقد عبدته طائفة من العرب. وعادًا الأولى: هم قوم هود، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعاد الأخرى: هم من ولد عاد الأولى، وهم قوم صالح.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ﴾ وهي قرى قوم لوط. سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي: انقلبت بهم. ومنه: الإفك. لأنه قلب الحق. ﴿أَهْوَى﴾؛ أي: أسقطها على الأرض مقلوبة.
﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥)﴾ الآلاء: النعم. واحدها إلى بوزن معى. وفيه إعلال بالإبدال. أصله: ألاى، أبدلت الياء همزة لظرفها بعد ألف زائدة. والمدة فيه بدل من همزة، إذ أصله: أألاى، أبدلت الهمزة الثانية الساكنة حرف مد من حسن حركة الأولى. وقوله: ﴿تَتَمَارَى﴾ فيه إعلال بالقلب. أصله: تتماري بوزن تتفاعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والتماري، والمماراة، والامتراء: المحاجة فيما فيه مرية، أي: شك وتردد.
﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧﴾ يقال: أزف الترحل كفرح أزفًا وأزوفًا إذا دنا. والأزف محركًا: الضيق. وفي "المصباح": أزف الرحيل أزوفًا من باب تعب، وأزفًا أيضًا دنا وقرب، وأزفت الآزفة دنت الدانية؛ أي: قربت القيامة. ﴿كَاشِفَةٌ﴾ من كشف الضر إذا أزاله.
﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)﴾ قال الراغب: العجب، والتعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قال بعض الحكماء: العجب: ما لا يعرف سببه. ﴿وَلَا تَبْكُونَ﴾ أصله: تبكيون، أستثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت فحذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، ثم ضمت الكاف لمنسبة الواو.
﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١)﴾ السمود: اللهو. وقيل: الإعراض، وقيل: الاستكبار. وقال أبو عبيدة: السمود: الغناء بلغة حمير، يقولون: يا جارية اسمدي لنا؛ أي: غني لنا. وقال الراغب: والسامد: اللاهي الرافع رأسه من قولهم: بعير سامد في مسيره، وقيل: سمد رأسه وجسده؛ أي: استأصل شعره. وفي "المختار":
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأنه استعار التولي والإدبار والإعراض لعدم الدخول في الإيمان. فاشتق من التولي بمعنى عدم الإيمان تولى بمعني أعرض عن الإيمان على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. ويمكن أن يكون هذا ضابطًا لذكر التولي في القرآن، فحيث ورد في القرآن مطلقًا غير مقيد يكون معناه عدم الإيمان.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤)﴾ حيث شبه من يعطي قليلًا ثم يمسك عن العطاء بمن يكدي أي: يمسك عن الحفر بعد أن حيل دونه بصلابة كالصخرة على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الطباق بين: ﴿أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ وبين: ﴿أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ وبين: ﴿أعطى وأكدى﴾ وبين: ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾. وهو في السورة جميعها متعدد، ولهذا يدخل في باب المقابلة. وقد زاد هذا الطباق حسنًا أنه أتى في معرض التسجيع الفصيح لمجيء المناسبة التامة في فواصل الآي.
ومنها: التضعيف في قوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)﴾ لإفادة الكبير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله.
ومنها: الجناس المغاير، وجناص الاشتقاق في قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨)﴾.
وجناس الاشتقاق بين: ﴿سَعَى﴾، و ﴿سَعْيَهُ﴾ في قوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠)﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣)﴾ لأنّهما كنايتان عن الفرح والسرور، كأنّه قيل: وأنه هو أفرح وأحزن، لأنَّ الفرح يجلب الضحك،
ومنها: تقديم الذكر على الأنثى في قوله: ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ رعاية للفاصلة، ولشرفه الرتبي.
ومنها: فن التنكيت في قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتةٍ في المذكور ترجح مجيئه على غيره. وقد خص الله سبحانه هنا الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم. وهو رب كل شيء وخالفه لما تقدم في مبحث التفسير من أن العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى، ودعا الناس إلى عبادتها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤)﴾ إفادة للتهويل الشديد، والتفظيع البليغ.
ومنها: إسناد فعل التماري إلى الواحد مع إفادته الماركة نظرًا لتعدده بحسب تعدد متعلقه.
ومنها: الخطاب للرسول - ﷺ - بقوله: ﴿تَتَمَارَى﴾ على طريق الإلهاب والتعريض للغير.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦)﴾؛ لأنّه شبه إنذار القرآن أو الرسول بإنذار الكتب الماضية، أو الرسل المتقدمة.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾.
ومنها: وصف القيامة بالآزفة للتأكيد، وتقرير الإنذار.
ومنها: فن التمثيل في قوله: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨)﴾ فقد أخرج الكلام مخرج المثل السائر يتمثل به في الوقائع.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - إنزال الوحي على رسوله.
٢ - أن الذي علمه إياه هو جبرئيل شديد القوى.
٣ - قرب رسوله من ربه.
٤ - أن النبي - ﷺ - رأى جبرئيل على صورته الملكية مرتين.
٥ - تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.
٦ - توبيخهم على جعل الملائكة إناثًا، وتسميتهم إياهم بنات الله.
٧ - مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.
٨ - أوصاف المحسنين.
٩ - إحاطة علمه تعالى بما في السموات والأرض.
١٠ - النهي عن تزكية المرء نفسه.
١١ - الوصايا التي جاءت في صحف إبراهيم وموسى.
١٢ - النعي على المشركين في إنكارهم الوحدانية، والرسالة، والبعث، والنشور.
١٣ - التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه، وغفلتهم عن مواعظه.
١٤ - أمر المؤمنين بالخضوع لله، والإخلاص له في العمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة القمر مكية كلّها عند الجمهور، نزلت بعد الطارق. وقال مقاتل: هي مكيّة إلا ثلاث آيات من قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤)﴾ إلى قوله: ﴿وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦)﴾ فمدنية.
وآيها خمس وخمسون، وكلماتها ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة، وحروفها ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها من وجوه (١):
١ - حسن التناسق بين النجم والقمر.
٢ - مشاكلة آخر السورة السابقة لأوَّل هذه. فقد قال هناك: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾، وقال هنا: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾.
٣ - أنَّ هذه قد فصلت ما جاء في سابقتها. ففيها إيضاح أحوال الأمم التي كذبت رسلها، وتفصيل هلاكهم الذي أشار إليه في السابقة بقوله: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢)﴾، فما أشبهها مع سابقتها بالأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان.
وقال أبو حيان: مناسبة أوّل السورة لآخر ما قبلها ظاهرة، قال أوّلًا: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧)﴾، وقال هنا: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾.
تسميتها: سمّيت سورة القمر لذكر انشقاق القمر فيها، وتسمي أيضًا: سورة اقتربت. وكلها محكم، ليس فيها منسوخ إلا قوله: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦)﴾.
وأخرج ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه: "من قرأ اقتربت الناس في كل ليلتين بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر".
وأخرج ابن الضريس نحوه عن ليث بن معن عن شيخ من همدان رفعه. وقد تقدم أنّ النبي - ﷺ - كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)﴾.المناسبة
قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ...﴾ الآيات، يخبر (١) سبحانه في هذه الآيات باقتراب الساعة، وفراغ الدنيا، وانقضائها، وأنَّ الأجرام العلوية يختل نظامها على
وروى أحمد عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بأصبعيه السبّابة والوسطى". ثمّ ذكر أنّ الكافرين كلّما رأوا علامة من علامات نبوتك أعرضوا، وكذّبوا بها، وقالوا: إن هذا إلا سحر منك يتلو بعضه بعضًا. ثم أخبر أنّ أمرهم سينتهي بعد حين، ويستقر أمرك، وسينصرك الله عليهم نصرًا مؤززًا. ثم أعقب هذا بأن عبر الماضيين، وإهلاك الله لهم بعد تكذيبهم أنبياءهم كانت جد كافية لهم لو أن لهم عقولًا يفكرون بها فيما هم قادمون عليه، ولكن أنى تغني الآيات والنذر عن قوم قد أضلهم الله على علم، وختم على قلوبهم، وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة. ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم، وسيخرجون عن قبورهم أذلاء ناكسي الرؤوس مسرعين إلى إجابة الداعي، يقول الكافرون منهم: هذا يوم شديد حسابه، عسر عقابه.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا، لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئًا.. أردف هذا بذكر قصص من قبلهم من الأمم: كقوم نوح، وعاد، وثمود ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع في الأمم، بل كثير منهم فعلوا فعلهم، بل كانوا أشد منهم عتوًا واستكبارًا، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لاقيت، فلا تأس على ما فرط منهم، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون، كما جاء في قوله سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.
وفي هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم، وينجي نبيه والمؤمنين، كما نجى من قبله من الرسل، وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم.
وَمنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ | تَعدَّدَتِ الأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ |
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣)...﴾ الآيات، لما فرغ الله سبحانه من ذكر قصة عاد.. قص علينا قصص ثمود مع نبيها صالح إذ قالوا: أنحن العدد الجم والكثرة الساحقة، نتبع واحدًا منا لا امتياز له عنا، إنا إذا فعلنا ذلك لفي ضلال وبعد عن محجة الصواب، وإنه لكاذب فيما يدعيه من الوحي عن ربه، وما هو إلا بشر، وليس بملك. فقال لهم ربهم: ستعلمون بعد حين قريب من الكذاب البطر. وقد جعلنا ناقة فتنة واختبارًا لهم، فأمرناه أن يخبرهم بأن ماء البئر يقسم بينها وبينهم، فلها يوم ولهم يوم آخر. فما ارتضوا هذا، وقام فاسقهم قدار، وعقر الناقة، فخرت صريعة، فجازاهم الله تعالى، فأرسل عليهم العذاب فصاروا كالهشيم الذي يتفتت حين بناء حظيرة الماشبة.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣)...﴾ الآيات، لما فرغ الله سبحانه من قصة ثمود.. ذكر هنا تكذيب قوم لوط لنبيهم، ومخالفتهم إيّاه، واجتراحهم من السيئات ما لم يسبقهم به أحد من العالمين بإتيانهم الذكران دون النساء، ثم أردف ذكر عذابهم بإرسال حجارة من سجيل عليهم إلا من آمن منهم، فقد نجاهم بسحر، وما أهلكهم إلا بعد أن أنذرهم عذابه على لسان رسوله، فكذبوه.