تفسير سورة الجمعة

التحرير والتنوير

تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير.
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير ﴿ سورة الجمعة ﴾ ولا يعرف لها اسم غير ذلك. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة الحديث. وسيأتي عند تفسير قوله تعالى ﴿ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ﴾.
ووجه تسميتها وقوه لفظ ﴿ الجمعة ﴾ فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام.
وقال ثعلب : إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصي بدار الندوة. ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة.
ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم.
وقد أطلق اسم ﴿ الجمعة ﴾ على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال. وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل، ووقع في كلام عائشة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي الخ.
وفي كلام أنس كنا نقيل بعد الجمعة، ومن كلام ابن عمر كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، أي من المسجد. ومن كلام سهل بن سعد ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة. ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة.
وهي مدنية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر.
وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قصية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك.
وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول السورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف. وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما سيأتي. فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا. وما ذكر في هذه السورة من قوله ﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي.
وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن.
وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة.
وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار.
أغراضها
أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها. وقدم لذلك : التنويه بجلال الله تعالى.
والتنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم. وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم.
وأن رسالته لهم فضل من الله.
وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين.
ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد.
وإبطال زعمهم أنهم أولياء الله.
وتوبيخ قوم انصرفوا عنها لمجيء عير تجارة من الشام.

وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا يَشْغَلُ عَنْهَا فِي وَقْتِ أَدَائِهَا. وَقُدِّمَ لِذَلِكَ: التَّنْوِيهُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
والتنويه بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّهُ رَسُولٌ إِلَى الْعَرَبِ وَمَنْ سَيَلْحَقُ بِهِمْ.
وَأَنَّ رِسَالَتَهُ لَهُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَفِي هَذَا تَوْطِئَةٌ لِذَمِّ الْيَهُودِ لَأَنَّهُمْ حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَشْرِيفِهِمْ بِهَذَا الدِّينِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا حَسَدُوهُمْ عَلَيْهِ وَنَقَمُوهُ أَنْ جُعِلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْيَوْمَ الْفَاضِلَ فِي الْأُسْبُوعِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
وَإِبْطَالُ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ.
وَتَوْبِيخُ قَوْمٍ انْصَرَفُوا عَنْهَا لِمَجِيءِ عِيرِ تِجَارَةٍ من الشَّام.
[١]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ تَسْبِيحِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ تَعَالَى بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ السُّورَةِ التَّحْرِيضُ عَلَى شُهُودِ الْجُمُعَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْأَشْغَالِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْ شُهُودِهَا وَزَجْرُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْصَرَفُوا عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حِرْصًا عَلَى الِابْتِيَاعِ مَنْ عِيرٍ وَرَدَتِ الْمَدِينَةَ فِي وَقْتِ حُضُورِهِمْ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُجَدِّدُونَ تَسْبِيحَ اللَّهِ وَلَا يَفْتُرُونَ عَنْهُ أُوثِرَ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ.
وَمَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَتْ مُفَرَّقَةً فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَسُورَةِ الْحَشْرِ.
سِوَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جَاءَ فِيهَا فِعْلُ التَّسْبِيحِ مُضَارِعًا وَجِيءَ بِهِ فِي سِوَاهَا مَاضِيًا لِمُنَاسَبَةٍ فِيهَا وَهِيَ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالتَّنْدِيدُ عَلَى نَفَرٍ قُطِعُوا عَنْ صَلَاتِهِمْ وَخَرَجُوا لِتِجَارَةٍ أَوْ لَهْوٍ فَمُنَاسِبٌ أَنْ يُحْكَى تَسْبِيحُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَسْبِيحِهِمْ وَتَجَدُّدِهِ تَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يُتِمُّوا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ.
وَمَعَانِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَذْكُورَةُ هُنَا تَقَدَّمَتْ فِي خَوَاتِمِ سُورَةِ الْحَشْرِ.
وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُنَا أَنَّ الْعَظِيمَ لَا ينْصَرف عَن مجْلِس مَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِلَّا عِنْدَ انْفِضَاضِ مَجْلِسِهِ أَوْ إِيذَانِهِ بِانْصِرَافِهِمْ.
والْقُدُّوسِ: الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقْصِ وَهُوَ يَرْغَبُ فِي حَضْرَتِهِ. والْعَزِيزِ: يَعْتَزُّ الْمُلْتَفُّونَ حَوْلَهُ. فَمُفَارَقَتُهُمْ حَضَرَتِهِ تَفْرِيطٌ فِي الْعِزَّةِ. وَكَذَلِكَ الْحَكِيمِ إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ حَضْرَتَهُ فَاتَهُ فِي كُلِّ آنٍ شَيْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ كَمَا فَاتَ الَّذِينَ انْفَضُّوا إِلَى الْعِيرِ مَا خَطَبَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ تَرَكُوهُ قَائِمًا فِي الْخطْبَة.
[٢]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٢]
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِذْ يَتَسَاءَلُ السَّامِعُ عَنْ وَجْهِ تَخْصِيصِ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْحَالُ
مُقْتَضِيًا أَنْ يُبَيَّنَ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنْ تَعَلُّقِ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ تَعَالَى إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا يُطَهِّرُ نُفُوسَهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ. فصفة الْمَلِكِ [الْجُمُعَة: ١] تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ عباده وَيصْلح شؤونهم، وَصفَة الْقُدُّوسِ [الْجُمُعَة: ١] تَعَلَّقَتْ بِأَنْ يُزَكِّيَ نُفُوسَهُمْ، وَصفَة الْعَزِيزِ [الْجُمُعَة: ١] اقْتَضَتْ أَنْ يُلْحِقَ الْأُمِّيِّينَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَرَاتِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ ذِلَّةِ الضَّلَالِ فَيَنَالُوا عِزَّةَ الْعِلْمِ وَشَرَفَهُ، وَصفَة الْحَكِيمِ [الْجُمُعَة: ١] اقْتَضَتْ أَنْ يُعَلِّمَهُمُ الْحِكْمَةَ وَالشَّرِيعَةَ.
وَابْتِدَاءُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَكُونَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً فَتُفِيدُ تَقْوِيَةَ هَذَا الْحُكْمِ وَتَأْكِيدِهِ، أَيْ أَن النبيء ص مَبْعُوثٌ مِنَ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ.
وفِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْأُمِّيِّينَ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ ظَرْفِيَّةِ الْجَمَاعَةِ وَلِأَحَدِ أَفْرَادِهَا.
وَيُفْهَمُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ مَعْنَى الْمُلَازَمَةِ، أَيْ رَسُولًا لَا يُفَارِقُهُمْ فَلَيْسَ مَارًّا بِهِمْ كَمَا يَمُرُّ الْمُرْسَلُ بِمَقَالَةٍ أَوْ بِمَالِكَةٍ يُبَلِّغُهَا إِلَى الْقَوْمِ وَيُغَادِرُهُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ رَسُولَهُ لِلنَّاسِ بَيْنَ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ وَيَنْشُرُ رِسَالَتَهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فَإِنَّ دَلَائِلَ عُمُومِ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ
207
أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٥٨] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ [٢٨] وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.
وَالْمُرَادُ بِ الْأُمِّيِّينَ: الْعَرَبُ لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمِّيَّةِ غَالِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ يَوْمَئِذٍ.
وَوَصَفُ الرَّسُولِ بِ مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا عَنْهُمْ كَمَا بَعَثَ لُوطًا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ وَلَا كَمَا بَعَثَ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى، وَبَعَثَ إِلْيَاسَ إِلَى أَهْلِ صَيْدَا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذين يعْبدُونَ بعل، فَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ رَسُولًا مِنَ الْعَرَبِ.
وَهَذِهِ مِنَّةٌ مُوَجَّهَةٌ لِلْعَرَبِ لِيَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى لُطْفِهِ بِهِمْ، فَإِنَّ كَوْنَ رَسُولِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى نِعْمَةِ الْإِرْشَادِ وَالْهَدْيِ، وَهَذَا اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩] فَتَذْكِيرُهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ اسْتِنْزَالٌ لِطَائِرِ نُفُوسِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
وَفِيهِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ مِنْهُمْ وَكِتَابَهُ بِلُغَتِهِمْ هُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَلَقِّي الْإِرْشَادِ مِنْهُ إِذْ ينْطَلق بلسانهم ويحملهم عَلَى مَا يُصْلِحُ أَخْلَاقَهُمْ لِيَكُونُوا حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ إِلَى غَيْرِهِمْ.
والْأُمِّيِّينَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ، أَيْ فِي النَّاسِ
الْأُمِّيِّينَ. وَصِيغَة جمع الذُّكُور فِي كَلَامِ الشَّارِعِ تَشْمَلُ النِّسَاءَ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيْ فِي الْأُمِّيِّينَ وَالْأُمِّيَّاتِ فَإِنَّ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ قَائِمَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَّا فِي أَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ.
وَالْأُمِّيُّونَ: الَّذين لَا يقرؤون الْكِتَابَةَ وَلَا يَكْتُبُونَ، وَهُوَ جَمْعُ أُمِّيٍّ نِسْبَةً إِلَى الْأُمَّةِ، يَعْنُونَ بِهَا أُمَّةَ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا نَادرا، فَغلبَتْ هَذَا التَّشْبِيهُ فِي الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى صَارَتْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٨].
وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِهِ هُنَا تَوَرُّكًا عَلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الْغَضَّ مِنَ الْعَرَبِ وَمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْلًا مِنْهُمْ فَيَقُولُونَ: هُوَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ وَلَيْسَ رَسُولًا إِلَيْنَا. وَقَدْ
قَالَ ابْن صياد للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ». أَشْهَدُ أَنَّكَ
208
رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ
. وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مُتَدَيِّنًا بِالْيَهُودِيَّةِ لِأَنَّ أَهْلَهُ كَانُوا حُلَفَاءَ لِلْيَهُودِ.
وَكَانَ الْيَهُودُ يَنْتَقِصُونَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: ٧٥] فَتَحَدَّى اللَّهُ الْيَهُودَ بِأَنَّهُ بَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْأُمِّيِّينَ وَبِأَنَّ الرَّسُولَ أُمِّيٌّ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ وَأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَيْسَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ وَلَا بِغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ لِمُوسَى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص:
٥، ٦].
وَوَصَفُ الرَّسُولِ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ شَامِلٌ لِمُمَاثَلَتِهِ لَهُمْ فِي الْأُمِّيَّةِ وَفِي الْقَوْمِيَّةِ. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْبَدِيعِ.
وَفِي وَصْفِ الرَّسُولِ الْأُمِّيِّ بَأَنَّهُ يَتْلُو عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ وَحْيَهُ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكُتَّابَ، أَيْ يُلَقِّنُهُمْ إِيَّاهُ كَمَا كَانَتِ الرُّسُلُ تُلَقِّنُ الْأُمَمَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابَةِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي عَلَّمَتْهَا الرُّسُلُ السَّابِقُونَ أُمَمَهُمْ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَحَدٍّ بِمُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ فِي هَذَا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا قَدْ أَتَى أَمَّتَهُ بِجَمِيعِ الْفَوَائِدِ الَّتِي أَتَى بِهَا الرُّسُلُ غَيْرُ الْأُمِّيِّينَ أُمَمَهُمْ وَلَمْ يَنْقُصْ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَتَمَحَّضَتِ الْأُمِّيَّةُ لِلْكَوْنِ مُعْجِزَةً حَصَلَ مِنْ صَاحِبِهَا أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ مِنَ الرُّسُلِ الْكَاتِبِينَ مِثْلِ مُوسَى.
وَفِي وَصْفِ الْأُمِّيِّ بِالتِّلَاوَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ ضَرْبٌ مِنْ مُحَسِّنِ
الطِّبَاقِ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنَّ هَذِهِ مُضَادَّةٌ لِلْأُمِّيَّةِ.
وَابْتُدِئَ بِالتِّلَاوَةِ لِأَنَّ أَوَّلَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ بِإِبْلَاغِ الْوَحْيِ، وَثُنِّيَ بِالتَّزْكِيَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الدَّعْوَةِ بِالتَّطْهِيرِ مِنَ الرِّجْسِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَمَا يَعْلِقُ بِهِ من مساوئ الْأَعْمَالِ وَالطِّبَاعِ.
وَعَقَّبَ بِذِكْرِ تَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ لِأَنَّ الْكِتَابَ بَعْدَ إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ مَقَاصِدُهُ وَمَعَانِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[الْقِيَامَة: ١٨، ١٩]، وَقَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: ٤٤]، وَتَعْلِيمُ الْحِكْمَةِ هُوَ غَايَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ وَفَهِمَ خَفَايَاهُ نَالَ الْحِكْمَةَ قَالَ تَعَالَى:
209
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣١] وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٤].
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ لَيْسَتْ نِعْمَةُ إِرْسَالِ هَذَا الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ قَاصِرَةً عَلَى رَفْعِ النَّقَائِصِ عَنْهُمْ وَعَلَى تَحْلِيَتِهِمْ بِكَمَالِ عِلْمِ آيَاتِ اللَّهِ وَزَكَاةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بَلْ هِيَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ إِذْ كَانَتْ مُنْقِذَةً لَهُمْ مِنْ ضَلَالٍ مُبِينٍ كَانُوا فِيهِ وَهُوَ ضَلَالُ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا كَانَ ضَلَالًا مُبِينًا لِأَنَّهُ أَفْحَشُ ضَلَالٍ وَقَدْ قَامَتْ عَلَى شَنَاعَتِهِ الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ، أَيْ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ إِلَى أَفْضَلِ الْهُدَى، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ نَفَرُوا إِسْلَامَهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ مُهْمَلَةٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي اسْمِهَا وَخَبَرِهَا. وَقَدْ سَدَّ مَسَدَّهَا فِعْلُ (كَانَ) كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ، أَيِ الَّتِي تُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ وإِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَا هِيَ إِلَّا اللَّامُ الَّتِي أَصْلُهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِخَبَرِ (إِنَّ) إِذِ الْأَصْلُ: وَإِنَّهُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، لَكِنَّ ذِكْرَ اللَّامِ مَعَ الْمُخَفَّفَةِ وَاجِبٌ غَالِبًا لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِالنَّافِيةِ، إِلَّا إِذَا أَمن اللّبْس.
[٣]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٣]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَآخَرِينَ عَطْفًا على الْأُمِّيِّينَ [الْجُمُعَة: ٢] لِأَنَّ آخَرِينَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ لِمَا يُقَابِلُهُ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى غَيْرِ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ غَيْرِ الْعَرَب وَالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ غَيْرِ الْعَرَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ لَا يُعْطَفَ وَآخَرِينَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ
بَعَثَ مجرور القي وَلَا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ كَذَلِكَ.
فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ من قَوْله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ [الْجُمُعَة: ٢] وَالتَّقْدِيرُ: وَيَتْلُو عَلَى آخَرِينَ وَإِذَا كَانَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ تِلَاوَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُ إِلَّا تِلَاوَةَ تَبْلِيغٍ لِمَا أَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ.
210
وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ وَآخَرِينَ مَفْعُولًا مَعَهُ. وَالْوَاوُ لِلْمَعِيَّةِ وَيَتَنَازَعُهُ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَة وَهِي «يَتْلُوا وَيُزَكِّي، وَيُعَلِّمُ». وَالتَّقْدِيرُ: يَتْلُو عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَّابَ وَالْحِكْمَةَ مَعَ آخَرِينَ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْجُمُعَة: ٢] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَوْ بَيْنَ الضَّمَائِرِ وَالْمَفْعُولِ مَعَهُ وآخَرِينَ: جَمْعُ آخَرَ وَهُوَ الْمُغَايِرُ فِي وَصْفٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَإِذْ قَدْ جَعَلَ آخَرِينَ هُنَا مُقَابِلًا لِلْأُمِّيِّينَ كَانَ مُرَادًا بِهِ آخَرُونَ غَيْرُ الْأُمِّيِّينَ، أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ الْمَعْنِيِّينَ بِالْأُمِّيِّينَ.
فَلَوْ حَمَلْنَا الْمُغَايِرَةَ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، أَيْ مُغَايِرِينَ لِلَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ الرَّسُولُ، وَجَعَلْنَا قَوْلَهُ: مِنْهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَقُلْنَا: أُرِيدَ وَآخَرِينَ مِنَ الْعَرَبِ غَيْرِ الَّذِينَ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، أَيْ عَرَبًا آخَرِينَ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةِ، وَهُمْ بَقِيَّةُ قبائل الْعَرَب ناكده مَا
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ يَزِيدُ آخِرُهُمْ عَلَى الْأَوَّلِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فَتَلَاهَا فَلَمَّا بَلَغَ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ؟
وَهَذَا وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرِينَ.
وَالَّذِي يَلُوحُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لِيُفِيدَ أَنَّ آخَرِينَ صَادِقٌ عَلَى أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَمَةُ فَارِسَ، وَأَمَّا شُمُولُهُ لِقَبَائِلِ الْعَرَبِ فَهُوَ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ مِمَّا شَمِلَهُمْ لَفْظُ الْأُمِّيِّينَ.
ثُمَّ بِنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ. فلنا أَنْ نَجْعَلَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعَانِيهَا فَنَجْعَلُ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِ (مِنْ) عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ كانُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْجُمُعَة: ٢]، فَالْمَعْنَى: وَآخَرِينَ مِنَ الضَّالِّينَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَيُزَكِّيهِمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَلَنَا أَنْ نَجْعَلَ (مِنَ) اتِّصَالِيَّةً كَالَّتِي
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ١٥٩].
وَالْمَعْنَى: وَآخَرِينَ يَتَّصِلُونَ بِهِمْ وَيَصِيرُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمْ
211
مَوْضِعَ الْحَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لِأَنَّ اللُّحُوقَ هُوَ مَعْنَى الِاتِّصَالِ.
وَمَوْضِعُ جُمْلَةِ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ يَصِيرُونَ مِثْلَهُمْ، وَيَنْشَأُ مِنْهُ أَيْضًا رَمَزٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَعَرَّبُونَ لِفَهْمِ الدِّينِ وَالنُّطْقِ بِالْقُرْآنِ فَكَمْ مِنْ مَعَانٍ جَلِيلَةٍ حَوَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ سَكَتَ عَنْهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ.
وَهَذِهِ بِشَارَةٌ غَيْبِيَّةٌ بِأَنَّ دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَتَبْلُغُ أُمَمًا لَيْسُوا مِنَ الْعَرَبِ وَهُمْ فَارِسُ، وَالْأَرْمَنُ، وَالْأَكْرَادُ، وَالْبَرْبَرُ، وَالسُّودَانُ، وَالرُّومُ، وَالتُّرْكُ، وَالتَّتَارُ، وَالْمَغُولُ، وَالصِّينُ، وَالْهُنُودُ، وَغَيْرُهُمْ وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ صِنْفِ الْإِخْبَارِ بِالْمُغِيبَاتِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى عُمُومِ رِسَالَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَالنَّفْيُ بِ (لَمَّا) يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِهَا مُسْتَمِرُّ الِانْتِفَاءِ إِلَى زَمَنِ التَّكَلُّمِ فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُتَرَقَّبُ الثُّبُوتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤]، أَيْ وَسَيَدْخُلُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ»، وَالْمَعْنَى: أَنَّ آخَرِينَ هُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْتَحِقُوا بِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَرَبِ وَسَيَدْخُلُونَ فِي أَزْمَانٍ أُخْرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالثُّرِيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ من هَؤُلَاءِ»
إِيمَاء إِلَى مِثَالٍ مِمَّا يَشْمَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِي جَوَابِ سُؤَالِ السَّائِلِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْمُرَادِ بِ آخَرِينَ فِي قَوْمِ سَلْمَانَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: هُمُ التَّابِعُونَ. وَعَنْ مُجَاهِدِ: هُمُ النَّاسُ كُلُّهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ الْإِلَهِيِّ لِانْتِشَارِ هَذَا الدِّينِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. فَإِنَّ الْعَزِيزُ لَا يَغْلِبُ قُدْرَتَهُ شَيْءٌ. والْحَكِيمُ تَأْتِي أَفْعَالُهُ عَنْ قدر مُحكم.
[٤]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٤]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(٤)
الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ إرْسَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ وَالتَّزْكِيَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ إِفَاضَةِ هَذِهِ الْكَمَالَاتِ عَلَى الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةُ عَلَمٍ وَلَا كِتَابٍ، وَمِنْ لِحَاقِ أُمَمِ آخَرِينَ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَزَالَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْكِتَابِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَذَا أجدع لأنفهم إِذْ حَالُوا أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ أُمِّيٌّ بِشَرِيعَةٍ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَلْتَحِقَ بِأُمِّيَّةِ أُمَمٍ عَظِيمَةٍ كَانُوا أَمْكَنَ فِي الْمَعَارِفِ وَالسُّلْطَانِ.
وَقَالَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمرَان: ١٣] يَخْتَصُّ بِهِ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ [الْجُمُعَة: ٥] الْآيَات.
[٥]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٥]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)
بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى آتَى فَضْلَهُ قَوْمًا أُمِّيِّينَ أَعْقَبَهُ بِأَنَّهُ قَدْ آتَى فَضْلَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اقْتَنَعُوا مِنَ الْعِلْمِ بِأَنْ يَحْمِلُوا التَّوْرَاةَ دُونَ فَهْمٍ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ ادِّخَارَ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ وَانْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ كَافٍ فِي التَّبَجُّحِ بِهَا وَتَحْقِيرِ مَنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةَ بِأَيْدِيهِمْ، فَالْمُرَادُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ مَثَلًا بِحَالِ حِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا لَا حَظَّ لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْحَمْلُ دُونَ عِلْمٍ وَلَا فَهْمٍ.
ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الْيَهُودِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ أَدْخَلُوا فِيهِ مَا صَيَّرَهُ مَخْلُوطًا بِأَخْطَاءٍ وَضَلَالَاتٍ وَمُتَّبَعًا فِيهِ هَوَى نُفُوسِهِمْ وَمَا لَا يَعْدُو نَفْعَهُمُ الدُّنْيَوِيَّ وَلَمْ يَتَخَلَّقُوا بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالدُّعَاءِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَقَدْ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْعَهْدِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيءِ الَّذِي يَأْتِي لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ رِبْقَةِ الضَّلَالِ فَهَذَا وَجْهُ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِذَلِكَ كَانَتْ هِيَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ
213
بَعْضِهِمْ: افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ.
وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ. فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِشَبَهِهِمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
وَمَعْنَى حُمِّلُوا: عُهِدَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَكُلِّفُوا بِمَا فِيهَا فَلَمْ يَفُوا بِمَا كُلِّفُوا، يُقَالُ: حَمَّلْتُ فُلَانًا أَمْرَ كَذَا فَاحْتَمَلَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا سُورَةُ الْأَحْزَابِ [٧٢].
وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِعَارَةٌ، بِتَشْبِيهِ إِيكَالِ الْأَمْرِ بِحَمْلِ الْحِمْلِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا تَمْثِيلًا لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَهُوَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وَفَائِهِمْ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُ مِنْ تَحَمُّلِهِمْ إِيَّاهُ.
وَجُمْلَةُ يَحْمِلُ أَسْفاراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْحِمَارِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْحِمَارِ هُنَا تَعْرِيفُ جِنْسٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ لَفْظًا نَكِرَةٌ مَعْنًى، فَصَحَّ فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُ الْحَالِيَّةِ وَالْوَصْفِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْنِيعَ حَالِهِمْ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ الْمُتَعَارَفِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِذَمِّ حَالِهِمْ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ.
وبِئْسَ فِعْلُ ذَمٍّ، أَيْ سَاءَ حَالُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى جَهْلِهِمْ بِمَعَانِي التَّوْرَاةِ تَكْذِيبًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْقُرْآنُ.
ومَثَلُ الْقَوْمِ، فَاعل بِئْسَ. وأغنى هَذَا الْفَاعِلُ عَنْ ذِكْرِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ حَالُ الْقَوْمِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْلُكْ فِي هَذَا التَّرْكِيب طَرِيق الْإِبْهَام عَلَى شَرْطِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَهُ مَا بَيَّنَهُ بِالْمَثَلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. فَصَارَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمَثَلِ ثَقِيلًا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتِ.
وَهَذَا مِنْ تَفَنُّنَاتِ الْقُرْآنِ. والَّذِينَ كَذَّبُوا صِفَةُ الْقَوْمِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّ سُوءَ حَالِهِمْ لَا يُرْجَى لَهُمْ مِنْهُ انْفِكَاكٌ لِأَنَّ اللَّهُ حَرَمَهُمُ اللُّطْفَ وَالْعِنَايَةَ بِإِنْقَاذِهِمْ لِظُلْمِهِمْ بِالِاعْتِدَاءِ
214
على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ دُونَ نَظَرٍ، وَعَلَى آيَاتِ اللَّهِ بِالْجَحْدِ دُونَ تَدَبُّرٍ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَ الْيَهُودِ فِي ثَلَاثٍ»، أَيْ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: افْتَخَرُوا بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فَكَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْجُمُعَة: ٦]. وَبِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْعَرَبُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، فَشَبَّهَهُمْ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَبِالسَّبْتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرَعَ اللَّهُ لَهُم الْجُمُعَة.
[٦]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٦]
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦)
أَعْقَبَ تَمْثِيلَ حَالِ جَهْلِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ بِذِكْرِ زَعْمٍ مِنْ آثَارِ جَهْلِهِمْ بِهَا إِبْطَالًا لِمَفْخَرَةٍ مَزْعُومَةٍ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَبَقِيَّةُ النَّاسِ لَيْسُوا مِثْلَهُمْ. وَذَلِكَ أَصْلٌ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً على أَن شؤونهم أفضل من شؤون غَيْرِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمُ السَّبْتَ أَفْضَلَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّيِّينَ مِثْلُهُ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْجُمُعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ اغْتَاظُوا، وَفِي «الْكَشَّافِ» «افْتَخَرَ الْيَهُودُ بِالسَّبْتِ وَأَنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ فَشَرْعَ اللَّهُ لَهُمُ الْجُمُعَةَ».
وَافْتُتِحَ بِفِعْلِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ.
والَّذِينَ هادُوا: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَهُودًا، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْيَهُودِ يَهُودًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٢]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هادُوا بِمَعْنَى تَابُوا لِقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٥٦]. وَأَشْهَرُ وَصْفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ هُودٌ جَمْعُ هَائِدٍ مِثْلُ قُعُودٍ جَمْعُ قَاعِدٍ. وَأَصِلُ هُودٍ هُوُودٌ وَقَدْ تُنُوسِيَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنُودُوا بِهِ هُنَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ ثَنَاءٍ عَلَيْهِمْ أَوْ هُوَ تَهَكُّمٌ.
وَجِيءَ بِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ هُنَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ إِذْ قَدِ اشْتَهَرُوا بِهَذَا الزَّعْمِ وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ
215
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ زَعْمَهُمْ هَذَا لَمَّا كَانَ بَاطِلًا بِالدَّلَائِلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُفْرَضُ وُقُوعُهُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُسْتَبْعَدُ وَكَأَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَهَذَا إِلْجَاءٌ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَهُمْ ثُبُوتُ شَكِّهِمْ فِيمَا زَعَمُوهُ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ: كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَوَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنَّ الْمَوْتَ رُجُوعُ الْإِنْسَانِ بِرُوحِهِ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ تَظْهَرُ فِيهَا آثَار رضى اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَوْ غَضَبِهِ لِيَجْزِيَهُ عَلَى حَسَبِ فِعْلِهِ.
وَالنَّتِيجَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تُحَصِّلُ أَنَّهُمْ مِثْلُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآثَارِهِمَا، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَفْضَلَ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [الْمَائِدَة: ١٨].
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يَعْرِضُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَمَا
رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ ذَلِكَ»
الْحَدِيثَ. وَمَا
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ» إِلَى قَوْلِهِ: «قَالَ مُوسَى فَالْآنَ»
. ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْفَوْزَ مَضْمُونٌ لَهُمْ كَمَا تَوَهَّمَ الْيَهُودُ.
فَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَهُمْ عَامَّةٌ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْأَوْقَامُ وَالْغُرُورُ بَعْدَ انْقِرَاضِ عُلَمَائِهِمْ، فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ قَوْمٍ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فَوَصَفٌ لِأَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ وَأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ فَلَا
216
تَعَارُضَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، فَلَوْ حَصَلَ لِأَحَدٍ يَقِينٌ بِالتَّعْجِيلِ إِلَى النَّعِيمِ لَتَمَنَّى الْمَوْتَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ كَحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْمَلُ حَالُ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ فِي قَوْلِهِ:
جَرْيًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ وَحَالُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبِ يَوْمَ مُوتَةَ وَقَدِ اقْتَحَمَ صَفَّ الْمُشْرِكِينَ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ:
لكنني أسأَل الرحمان مَغْفِرَةً وَضَرْبَةَ ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
الْمُتَقَدِّمَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَضْمُونَةُ الْجَزَاءِ الْأَحْسَنِ وَالْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ.
وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: «مِنْ أَحَبِّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ
اللَّهُ لِقَاءَهُ»

إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ. وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلَكِ الْمَوْت: «فَالْآن».
[٧]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٧]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْقَوْلَيْنِ قُصِدَ بِهِ تَحَدِّيهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءً لِلَّهِ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مَعْذِرَةً لَهُمْ مِنْ عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ زِيَادَةُ الْكَشْفِ عَنْ بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: ١٨] وَإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ بِتَحَقُقِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعُقُودِ [١٨].
وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يَتَمَنَّوْنَهُ الْمَنْفِيِ فَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ هُوَ سَبَبُ انْتِفَاءِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ أَلْقَى فِي نُفُوسِهِمُ الْخَوْفَ مِمَّا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ سَبَبُ صَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِتَقَدُمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَ (مَا) مَوْصُولَة وعائدة الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ وَحَذْفُهُ أَغْلَبِيٌّ فِي أَمْثَالِهِ.
وَالْأَيْدِي مَجَازٌ فِي اكْتِسَابِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْيَدَ يَلْزَمُهَا الِاكْتِسَاب غَالِبا. ومصدق «مَا قدمت أَيْدِيهُمْ» سَيِّئَاتُهُمْ وَمَعَاصِيهُمْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا ذَكَرْتُهُ هُنَا أَتَمُّ مِمَّا هُنَالِكَ فَأَجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
وَالتَّقْدِيمُ: أَصْلُهُ جَعَلُ الشَّيْءِ مُقَدَّمًا، أَيْ سَابِقًا غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ يَقْعُوهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَا سَلَفَ مِنَ الْعَمَلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ الْمَرْءُ إِلَى مَكَانٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَبِأَحْوَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الظَّالِمِينَ فَشَمَلَ لَفْظُ الظَّالِمِينَ الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ظُلْمِهِمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
وَقَدْ وَصَفَ الْيَهُودَ بِالظَّالِمِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٤٠] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِحْجَامَهُمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خَوْفِ الْعِقَابِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَكُنِّيَ بِعِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ عَنْ عَدَمِ انْفِلَاتِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا فَفِي هَذَا وَعِيد لَهُم.
[٨]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٨]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
تَصْرِيحٌ بِمَا اقْتَضَاهُ التَّذْيِيلُ مِنَ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْجَزَاءِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ بَعُدَ زَمَانُ وُقُوعِهَا لِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عِلْمِ اللَّهِ نِسْيَانًا، إِذْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْجُمُعَة: ٦]، وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١١٤].
وَوَصَفَ الْمَوْتَ بِ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَلَعَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ خَطَأٌ كَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا
وَأَطْلَقَ الْفِرَارَ عَلَى شِدَّةِ الْحَذَرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَاقْتَرَانُ خَبَرِ (إِنَّ) بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لِأَنَّ اسْمَ (إِنَّ) نُعِتَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ وَالْمَوْصُولُ كَثِيرًا مَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَعُومِلَ اسْمُ (إِنَّ) الْمَنْعُوتُ بِالْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ نَعْتِهِ.
وَإِعَادَةُ (إِنَّ) الْأُولَى لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِ جَرِيرِ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ ملك بِهِ تزجى الْخَوَاتِيمُ
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٠]. وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ أَيْضًا.
وَالْإِنْبَاءُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِسَابِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعْرِيض بالوعيد.
[٩، ١٠]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مُقَدِّمَاتٌ وَتَوْطِئَاتٌ لَهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ «الْكَشَّافُ» مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَخَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالسَّبْتِ فَشَرَعَ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكُنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً. اللَّام فِي قَوْلِهِ: لِلصَّلاةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ نَادَى مُنَادٍ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ النِّدَاءَ هُنَا هُوَ أَذَانُ الصَّلَاةِ.
وَالْجُمُعَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَضَمِّ الْمِيمِ فِي لُغَةِ جُمْهُورِ الْعَرَبِ وَهُوَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَبَنُو عَقِيلِ بِسُكُونِ الْمِيمِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الصَّلَاةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ الْخَاصَّةُ بِيَوْمِ
219
الْجُمُعَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَتْ شَرْعًا بِالتَّوَاتُرِ ثُمَّ تَقَرَّرَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَصَارَ دَلِيلُ وُجُوبِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
وَكَانَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَشْرُوعَةً مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْهِجْرَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَنْ يقدم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالُوا: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ مِثْلُ ذَلِكَ فَتَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ حَتَّى نَجْعَلَ يَوْمًا لَنَا نَذْكُرَ اللَّهَ وَنُصَلِّيَ فِيهِ. وَقَالُوا:
إِنَّ لِلْيَهُودِ السَّبْتَ وَلِلنَّصَارَى الْأَحَدَ فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ. فَاجْتَمَعُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ وَذَكَّرَهُمْ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّهُمْ بَلَغَهُمْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهُ يَوْمُ الْمُسْلِمِينَ.
فَمَشْرُوعِيَّةُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالتَّجْمِيعُ فِيهِ إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَغْبَةَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ إِجَابَتِهِ رَغْبَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤].
وَأَمَّا أَوَّلُ جُمُعَةٍ جمّعها النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ لِلْهِجْرَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَأَقَامَ بِقُبَاءَ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَدْرَكَهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ فِي بَطْنِ وَادٍ لِبَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَسْجِدٌ، فَجَمَّعَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَخَطَبَ فِيهِ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ طَوِيلَةٌ ذَكَرَ نَصَّهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ».
وَقَوْلُهُمْ: «فَأَدْرَكَهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ»، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً يَوْمَئِذٍ وَأَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَازِمًا أَنْ يُصَلِّيَهَا بِالْمَدِينَةِ فَضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ فَأَدَّاهَا فِي مَسْجِدِ بَنِي
سَالِمٍ، ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ الْقَابِلَةَ فِي مَسْجِدِهِ بَالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ جُمُعَةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِالْمَدِينَةِ الثَّانِيَةَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ فِي
220
مَسْجِدِ جُؤَاثَاءَ (١) مِنْ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَهِيَ مَدِينَةُ الْخَطِّ قَرْيَةٌ لِعَبْدِ الْقَيْسِ. وَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَهْلُ جُؤَاثَاءَ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَتَقَرَّرَ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: مَعْنَى الْعَرُوبَةِ الرَّاحَةُ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ اه. قُلْتُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَهُوَ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ وَقَدْ كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ عِيدَ الْأُسْبُوعِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَقَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الرَّاحَةُ فِيهِ عَنِ الشُّغْلِ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَبْتَدِئُونَ عَدَدَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ وَهُوَ الْمُوَالِي لِلسَّبْتِ وَتَبِعَهُمُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ وَلِذَلِكَ سَمَّى الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ يَوْمَ الْأَحَدِ أَوَّلَ.
فَأَيَّامُ الْأُسْبُوعِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْقَدِيمِ هِيَ: أَوَّلُ، أَهْوَنُ جُبَارٌ، (كَغُرَابٍ وَكِتَابٍ)، دُبَارٌ (كَذَلِكَ)، مُؤْيِسٌ (مَهْمُوزًا)، عَرُوبَةُ، شِيَارٌ (بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مُخَفَّفَةٌ).
ثُمَّ أَحْدَثُوا أَسْمَاءً لِهَذِهِ الْأَيَّامِ هِيَ: الْأَحَدُ، الِاثْنَيْنُ، الثُّلَاثَاءُ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ الْأُولَى وَبِضَمِّهَا-، الْإِرْبِعَاءُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ-، الْخَمِيسُ، عَرُوبَةُ أَوِ الْجُمُعَةُ- فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ- السَّبْتُ.- وَأَصْلُ السَّبْتِ: الْقَطْعُ، سُمِّيَ سَبْتًا عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِيهِ الْعَمَلَ، وَشَاعَ ذَلِكَ الِاسْمُ عِنْدَ الْعَرَبِ-.
وَسَمَّوُا الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ بَعْدَهُ بِأَسْمَاءٍ مُشْتَقَّةٍ عَنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرُ أَسْمَاءٍ لِلْأَيَّامِ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْهَا «ذُكِرَتْ أَيَّامُ بَدْءِ الْخَلْقِ بِأَعْدَادِهَا أَوَّلُ
وَثَانٍ»
إِلَخْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَ الْيَوْمِ
_________
(١) جؤاثاء بِضَم الْجِيم وهمزة مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف وَفِي آخِره ألف ممدودة وَقد تقصر. مَدِينَة بِلَاد الْخط من الْبَحْرين (الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الرماح الخطيّة لِأَنَّهَا تجلب إِلَيْهِ من بِلَاد الْهِنْد والخطّ السَّاحِل) وَهَذَا الْخط يسمّى سيف عمان لِأَنَّهُ يَمْتَد إِلَى عمان. وَمن مدنه قطر والقطيف (بِفَتْح الْقَاف وَكسر الطّاء) وَالْفَقِير مُصَغرًا (وَهَذِه الْبِلَاد تعرف فِي زَمَاننَا سنة ١٣٨٥ بَعْضهَا بِبِلَاد الكويت، وَبَعضهَا بجزائر الْبَحْرين، وَبَعضهَا بِبِلَاد عمان، وَبَعضهَا من الْبِلَاد السعودية مثل القطيف وهجرا.
221
السَّادِسِ. وَسَمَّتْهُ التَّوْرَاةُ سَبْتًا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قِيلَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى يَوْمَ عَرُوبَةَ الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ جَدُّ أَبِي قُصَيٍّ. وَكَانَ قُرَيْشٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ إِلَى كَعْبٍ قَالَ: وَفِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ. لَمْ يُسَمَّ يَوْمُ عَرُوبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مُذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ.
جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدَ الْأُسْبُوعِ فَشَرَعَ لَهُمُ اجْتِمَاعَ أَهْلِ الْبَلَدِ فِي الْمَسْجِدِ وَسَمَاعَ الْخُطْبَةِ لِيُعَلَّمُوا مَا يُهِمُّهُمْ فِي إِقَامَة شؤون دِينِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ.
قَالَ القفّال: مَا جَعَلَ اللَّهُ النَّاسَ أَشْرَفَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لَمْ يُخْفِ عِظَمَ الْمِنَّةِ وَجَلَالَةَ قَدْرِ مَوْهِبَتِهِ لَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ لِيَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ مَعْرُوفَةٍ يَوْمٌ مِنَ الْأُسْبُوعِ مُعَظَّمٌ، فَلِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى الْأَحَدُ وَلِلْمُسْلِمِينَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ»
، أَيْ آخِرُ الدُّنْيَا السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ بِ «السَّابِقُونَ» ). بَيْدَ أَنَّهُمْ (أَيِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ثُمَّ كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ.
وَلَمَّا جُعِلَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ شُكْرٍ وَتَعْظِيمِ نِعْمَةٍ احْتِيجَ فِيهِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ شُهْرَتُهُ فَجُمِّعَتِ الْجَمَاعَاتُ لِذَلِكَ، وَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى الْخُطْبَةِ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَحَثًّا عَلَى اسْتِدَامَتِهَا. وَلَمَّا كَانَ مَدَارُ التَّعْظِيمِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ جُعِلَتِ الصَّلَاةُ لِهَذَا الْيَوْمِ وَسَطَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ الِاجْتِمَاعُ وَلَمْ تَجُزْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ لِيَكُونَ أَدْعَى الِاجْتِمَاعِ اه.
كَلَامُ الْقَفَّالِ.
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»
، إِشَارَةٌ إِلَى مَا عَمِلَهُ النَّصَارَى بَعْدَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ مِنْ تَعْوِيضِ يَوْمِ السَّبْتِ بِيَوْمِ الْأَحَدِ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ يَوْمَ الْأَحَدِ فِيهِ قَامَ عِيسَى مِنْ قَبْرِهِ. فَعَوَّضُوا الْأَحَدَ عَنْ يَوْمِ السَّبْتِ بِأَمْرٍ مِنْ قُسْطَنْطِينَ سُلْطَانِ الرُّومِ فِي سَنَةِ ٣٢١ الْمَسِيحِيِّ. وَصَارَ دِينًا لَهُمْ بِأَمْرِ أَحْبَارِهِمْ.
وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلَاةُ ظُهْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَتْ صَلَاةً زَائِدَةً عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَأُسْقِطَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَانِ لِأَجْلِ الْخُطْبَتَيْنِ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا قُصِرَتِ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ (١).
_________
(١) رَوَاهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْجَصَّاص فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» لَهُ جُزْء ٣ ص ٥٤٨.
222
وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ إِذْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ خُطْبَتَانِ مَعَ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ كُلُّ
خُطْبَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ وَهَذَا سَبَبُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمَا قَائِمَتَانِ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْجُلُوسُ خَفِيفًا. غَيْرَ أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ لَمْ تُعْطَيَا أَحْكَامَ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا يَضُرُّ فَوَاتُ إِحْدَاهُمَا أَوْ فَوَاتُهُمَا مَعًا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَسْبُوقِ تَعْوِيضُهُمَا وَلَا سُجُودٌ لِنَقْصِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، رُوِيَ عَنْ عَطاء وَمُجاهد وطاووس: أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى أَرْبَعًا صَلَاةَ الظُّهْرِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَضَافَ إِلَيْهَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَهُوَ أَرَادَ إِنْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ وَرَكْعَةٌ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (١).
وَجُعِلَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ جَهْرًا مَعَ أَنَّ شَأْنَ صَلَوَاتِ النَّهَارِ إِسْرَارُ الْقِرَاءَةِ لِفَائِدَةِ إِسْمَاعِ النَّاسِ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا أُسْمِعُوا الْخُطْبَةَ فَكَانَتْ صَلَاةَ إِرْشَادٍ لِأَهْلِ الْبَلَدِ فِي يَوْمٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ.
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ صَلَّاهَا لَا يُصَلِّي مَعَهَا ظُهْرًا فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ. وَرَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فِي دِمَشْقَ قَامَ إِمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ ظُهْرًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ.
وَإِنَّمَا اخْتلف الْأَئِمَّة فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَزُفَرُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ الْمَعْرُوفَةُ فَرْضُ وَقْتِ الزَّوَالِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَدَلًا عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَيْ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ لِعُذْرٍ وَنَحْوِهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ (الْمَرْجُوعِ عَنْهُ) وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ بِالْأَصْلِ هُوَ الظُّهْرُ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ بَدَلٌ عَنِ الظُّهْرِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْفَرْضُ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَالتَّعْيِينُ لِلْمُكَلَّفِ فَأَشْبَهَ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ (لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ لَا يَأْثَمُ فِيهِ فَاعِلُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَتَارِكُ الْجُمُعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ آثِمٌ).
_________
(١) ذكره الْجَصَّاص فِي «أَحْكَام الْقُرْآن» ص ٥٤٨ ج ٣.
223
قَالُوا: تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي حُرٍّ مُقِيمٍ صَلَّى الظُّهْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ: لَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَبْطُلْ فَرْضُهُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ مُطْلَقًا وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ لَا يَبْطُلُ ظُهْرُهُ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ أَمْ لَا، خَرَجَ إِلَيْهَا أَمْ لَا (يَعْنِي فَإِنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرًا آخَرَ).
وَالنِّدَاءُ لِلصَّلَاةِ: الْأَذَانُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ أَذَانُ الظُّهْرِ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ زَادَ أَذَانًا عَلَى الزَّوْرَاءِ (الزَّوْرَاءُ مَوْضِعٌ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ). وَرُبَّمَا وُصِفَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْأَذَانِ الثَّانِي.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ ثَانِيًا أَنَّهُ أَذَانٌ مُكَرَّرٌ لِلْأَذَانِ الْأَصْلِيِّ فَهُوَ ثَانٍ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَلَا يُرِيد أَن يُؤَذَّنُ بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَذَانِ الَّذِي يُؤَذَّنُ بِهِ وَقْتَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَيْ يُؤَذَّنُ بِهِ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ صَوْمَعَةٌ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَصْفُهُ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ وَإِنَّمَا يُعْنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ ثَالِثٌ بِضَمِيمِهِ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ. وَلَا يُرَادُ أَنَّ النَّاسَ يُؤَذِّنُونَ أَذَانَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا زَادَهُ عُثْمَانُ لِيَسْمَعَ النِّدَاءَ مَنْ فِي أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَحْقِيقِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ هَذَا الْأَذَانَ الثَّانِي يُؤَذَّنُ بِهِ عَقِبَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُضُورُ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِ الرِّوَايَاتِ وَالرُّوَاةِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَذَّنُ بِأَذَانِ الزَّوْرَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ يَخْرُجُ الْإِمَامُ فَيُؤَذَّنُ بِالْأَذَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» :«لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ زَادَ النِّدَاءَ عَلَى الزَّوْرَاءِ لِيَشْعُرَ النَّاسُ بِالْوَقْتِ فَيَأْخُذُوا بِالْإِقْبَالِ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَخْرُجُ عُثْمَانُ فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أُذِّنَ الثَّانِي الَّذِي كَانَ أَوَّلًا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْطُبُ. ثُمَّ يُؤَذَّنُ الثَّالِثُ يَعْنِي بِهِ الْإِقَامَةَ» اه.
224
وَقَالَ فِي «الْأَحْكَامِ» :«وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ (أَيْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) ثَالِثًا لِأَنَّهُ إِضَافَةٌ إِلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ، (أَيْ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَشْرُوعَةً وَسَمَّى الْإِقَامَةَ أَذَانًا مُشَاكَلَةً أَوْ لِأَنَّهَا إِيذَانٌ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ) كَمَا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ»

يَعْنِي بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ فَجَعَلُوا
الْأَذَانَاتِ ثَلَاثَةً فَكَانَ وَهْمًا. ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ اه. فَتَوَهَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْأَذَانَ لِصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لِهَذَا تَرَاهُمْ يُؤَذِّنُونَ فِي جَوَامِعِ تُونِسَ ثَلَاثَةَ أَذَانَاتٍ وَهُوَ بِدْعَةٌ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : فَأَمَّا بِالْمَغْرِبِ (أَيْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ) فَيُؤَذِّنُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ لجهل الْمُفْتِينَ قَالَ فِي «الرِّسَالَةِ» :«وَهَذَا الْأَذَانُ الثَّانِي أَحْدَثَهُ بَنُو أُمَيَّةَ» فَوَصَفَهُ بِالثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ أَنَّ الَّذِي زَادَهُ عُثْمَانُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَلَمْ يَرْوِهِ مُسْلِمٌ وَلَا مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ».
وَالسَّبَبُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا كَانَ بِالْكُوفَةِ لم يؤذّن للْجُمُعَة إِلَّا أَذَانًا وَاحِدًا كَمَا كَانَ فِي زمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُلْغِيَ الْأَذَانُ الَّذِي جَعَلَهُ عُثْمَانُ بِالْمَدِينَةِ. فَلَعَلَّ الَّذِي أَرْجَعَ الْأَذَانَ الثَّانِيَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمَجْمُوعَةِ» :
إِنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْدَثَ أَذَانًا ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي نِيطَ بِهِ الْأَمْرُ بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ النِّدَاءُ الْأَوَّلُ، وَمَا كَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي إِلَّا تَبْلِيغًا لِلْأَذَانِ لِمَنْ كَانَ بَعِيدًا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ لِلْجُمُعَةِ.
وَالسَّعْيُ: أَصْلُهُ الِاشْتِدَادُ فِي الْمَشْيِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَشْيِ بِحِرْصٍ وَتَوَقِّي التَّأَخُّرِ مَجَازًا.
وذِكْرِ اللَّهِ فُسِّرَ بِالصَّلَاةِ وَفُسِّرَ بِالْخُطْبَةِ، بِهَذَا فَسَّرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ «وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ».
قُلْتُ: وَإِيثَارُ ذِكْرِ اللَّهِ هُنَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِلَى الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
225
لِتَتَأَتَّى إِرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَشَرْطِيَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُطْبَةِ لَيْسَتْ مُسَاوِيَةً لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا فِي أَصْلِ حُرْمَةِ التَّخَلُّفِ عَنْ حُضُورِ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا خَرَجَ ابْتَدَأَ بِالْخُطْبَةِ فَكَانَتِ الْخُطْبَةُ مِنَ الذِّكْرِ وَفِي ذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلَفْظِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا نُهُوا عَنِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَشْغَلُهُمْ وَلِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ لِتَرْكِ فَرِيقٍ
مِنْهُمُ الْجُمُعَةَ إِقْبَالًا عَلَى عِيرِ تِجَارَةٍ وَرَدَتْ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١].
وَمِثْلُ الْبَيْعِ كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَبَعْدَ كَوْنِ الْبَيْعِ وَمَا قيس عَلَيْهِ مَنْهِيّا عَنهُ فَقَدِ اخْتلف فِي فسخ الْعُقُودِ الَّتِي انْعَقَدَتْ وَقْتَ الْجُمُعَةِ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ إِلَّا لِدَلِيلٍ.
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : إِنَّ الْبَيْعَ الْوَاقِعَ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ يُفْسَخُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسَخُ. وَجَعَلَهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.
وَأَمَّا النِّكَاحُ الْمَعْقُودُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَة: فَفِي «العتيبة» عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يُفْسَخُ.
وَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرَ الْقِيَاسَ مُوجِبًا لِفَسْخِ الْمَقِيسِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَيمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا تُفْسَخُ الشَّرِكَةُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْوَاقِعَةُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِنَدْرَةِ وُقُوعِ أَمْثَالِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَخِطَابُ الْآيَةِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَشَذَّ قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَخِطَابُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ آمَنُوا عَامٌّ خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِ إِذَا حَلَّ بِقَرْيَةٍ الْجُمُعَةَ وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السَّعْيَ إِلَيْهَا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَبْعِيضِيَّةٌ فَإِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَمَانٌ تَقَعُ فِيهِ أَعْمَالٌ مِنْهَا الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ فِيهِ، فَنَزَلَ مَا يَقَعُ فِي الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ.
226
وَيَجُوزُ كَوْنُ مِنْ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: ٤٠]، أَيْ فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرٍ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا، وَأُمِرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ، أَيْ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْبُيُوعَاتِ. فَلَفْظُ خَيْرٌ اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ: أَخْيَرُ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْمُفَضَّلُ: الصَّلَاةُ، أَيْ ثَوَابُهَا. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ: مَنَافِعُ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي.
وَإِنَّمَا أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لَهُمْ سَعَةً مِنَ النَّهَارِ يَجْعَلُونَهَا لِلْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنِ ابْتِغَاءِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ فَلَا يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ. وَالْأَمْرُ فِي فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِلْإِبَاحَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ فَضْلِ اللَّهِ: اكْتِسَابُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً فَهُوَ احْتِرَاسٌ مِنَ الِانْصِبَابِ فِي أَشْغَالِ الدُّنْيَا انْصِبَابًا يُنْسِي ذِكْرَ اللَّهِ، أَوْ يَشْغَلُ عَنِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْفَلَاحَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مَرْضَاةِ الله تَعَالَى.
[١١]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ١١]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: ٩] الْآيَةَ. عُطِفَ التَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَسُلِكَتْ فِي الْمَعْطُوفَةِ طَرِيقَةُ الِالْتِفَاتِ لخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَانًا بِأَنِّهُمْ أَحْرِيَاءُ أَنْ يُصْرَفَ لِلْخِطَابِ عَنْهُمْ فَحُرِمُوا مِنْ عِزِّ الْحُضُورِ. وَأُخْبِرَ عَنْهُمْ بِحَالِ الْغَائِبِينَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ.
وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا رَأَيْتُمْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا فَلَا تَنْفَضُّوا إِلَيْهَا. وَمِنْ
227
مُقْتَضَيَاتِ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ هُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّوْبِيخُ غَيْرَ شَامِلٍ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ بَقُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خُطْبَتِهِ وَلَمْ يَخْرُجُوا لِلتِّجَارَةِ وَلَا لِلَّهْوِ.
وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ طَعَامًا فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَنَا فِيهِمْ». وَفِي رِوَايَةٍ: وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً اه. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُ بَقِيَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقاص، وَعبد الرحمان بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَالٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا».
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ بِتِجَارَةٍ فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهُ بِالدُّفُوفِ فَخَرَجَ النَّاسُ».
وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءٌ شَدِيدٌ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بِتِجَارَةٍ مِنْ زَيْتِ الشَّامِ».
وَفِي رِوَايَةٍ «وَطَعَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ خَشْيَةَ أَنْ يُسْبَقُوا إِلَى ذَلِكَ»
. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «كَانَتِ الْجَوَارِي إِذَا نُكِحْنَ يُمَرَّرْنَ بِالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا»، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً، فَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّ خُرُوجَهُمْ كَانَ تَارَةً لِأَجْلِ مَجِيءِ الْعِيرِ وَتَارَةً لِحُضُورِ اللَّهْوِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْعِيرَ نَزَلَتْ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أَحْجَارُ الزَّيْتِ فَتَوَهَّمَ الرَّاوِي فَقَالَ: بِتِجَارَةِ الزَّيْتِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْها عَائِدٌ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهْوِ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ الَّذِي نَزَلَتِ الْآيَةُ عِنْدَهُ هُوَ مَجِيءُ عِيرِ دِحْيَةَ مِنَ الشَّامِ. وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ ضَمِيرِ اللَّهْوِ كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، أَوْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
228
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَلَعَلَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي أَفَادَتْهُ أَوْ فِي قَوْلِهِ: أَوْ لَهْواً تَقْسِيمٌ لِأَحْوَالِ الْمُنْفَضِّينَ إِذْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَوِي الْعَائِلَاتِ خَرَجُوا لِيَمْتَارُوا لِأَهْلِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ مِنَ الشَّبَابِ لَا هِمَّةَ لَهُمْ فِي الْمِيرَةِ وَلَكِنْ أَحَبُّوا حُضُورَ اللَّهْوِ.
وإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمَاضِي مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الِانْفِضَاضَ مَضَى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَزَلَ هَذَا التَّوْبِيخُ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالتَّحْرِيضِ.
وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النِّسَاء: ٨٣] وَقَوْلُهُ:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا [التَّوْبَة: ٩٢] الْآيَةَ.
وَالِانْفِضَاضُ: مُطَاوِعُ فَضَّهُ إِذَا فَرَّقَهُ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْمُطَاوَعَةِ، أَيْ بِمَعْنًى مُطْلَقٍ كَمَا تَفَرَّقَ. قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧].
وَقَوْلُهُ: أَوْ لَهْواً فِيهِ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ مِنْهُمْ مَنِ انْفَضَّ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْفَضَّ لِأَجْلِ اللَّهْوِ، وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْها تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ (تِجَارَةٍ) لِأَنَّ التِّجَارَةَ
كَانَتِ الدَّاعِيَ الْأَقْوَى لِانْفِضَاضِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَتَرَكُوكَ قائِماً تَفْظِيعٌ لِفِعْلِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِي سَمَاعِ وعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَرَكُوكَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ. وَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ تَرَكُوكَ فِي حَالِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فَأَضَاعُوا عِلْمًا عَظِيمًا بِانْفِضَاضِهِمْ إِلَى التِّجَارَةِ وَاللَّهْوِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ.
وَأَمَرَ الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعِظَهُمْ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُضُورِ الْجُمُعَةِ خَيْرٌ مِنْ فَائِدَةِ التِّجَارَةِ وَلَذَّةِ اللَّهْوِ. وَكَذَلِكَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ لِلَّذِينَ يُؤْثِرُونَ طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مِنْ وَسَائِلِ الِارْتِزَاقِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ جَزَاءً فِي الدُّنْيَا قَبْلَ جَزَاءِ الْآخِرَةِ، فَرُبَّ رِزْقٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْحَرِيصُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَرُبَّ رِزْقٍ قَلِيلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَعُودُ عَلَيْهِ بِصَلَاحٍ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
229
وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ نَوْعِ قَوْمِهِ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً [نوح: ١٠- ١٢].
وَذُيِّلَ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لِأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَرْضَى عَنْهُ سَلِيمًا مِنَ الْأَكْدَارِ وَالْآثَامِ، وَلِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَخَيْرَ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ غَيْرُ اللَّهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَرَجَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ.
230

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٣- سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ» اعْتِبَارًا بِذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ فِيهَا.
وَوَقَعَ هَذَا الِاسْمُ
فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ: «فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ»
. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا،
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ فَيُحَرِّضُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ فَيُقْرِعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ»
. وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَبَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ الْمُنَافِقُونَ» عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمَغْرِبِيَّةِ وَالْمَشْرِقِيَّةِ.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاتَّفَقَ الْعَادُّونَ عَلَى عَدِّ آيِهَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَجِّ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَوَقَعَ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ «أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ». وَوَقَعَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ: أَنَّ
231
ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ» (وَغَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَغَزْوَةُ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ).
وَرَجَّحَ أَهْلُ الْمَغَازِي وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» وَابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. لِأَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»، يُنَاسِبُ الْوَقْتَ الَّذِي لَمْ يَضْعُفْ فِيهِ شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ أَمْرُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ضَعْفٍ
وَكَانَتْ غَزْوَةَ تَبُوكَ فِي آخر سني النبوءة وَقَدْ ضَعُفَ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ.
وَسَبَبُ نُزُولِهَا «مَا
رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ (١) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا جُهَنِيًّا حَلِيفًا لِلْأَنْصَارِ فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، قَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»
(أَيِ اتْرُكُوا دَعْوَة الْجَاهِلِيَّة:
يَا آل كَذَا) فَسَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: أَقَدْ فَعَلُوهَا أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلُّ». وَقَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: فَسَمِعَتُ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُ بِهِ عَمِّي فَذكره للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مَثْلُهُ فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ لِي: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ»
. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ أَعْرَابِيٌّ وَأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ ضَرَبَ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى رَأْسِهِ بِخَشَبَةٍ فَشَجَّهُ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ» يَعْنِي الْأَعْرَابَ، وَذَكَرَ أَهْلَ السَّيَرِ أَنَّ الْمُهَاجِرِيَّ مِنْ غِفَارٍ اسْمُهُ جَهْجَاهٌ أَجِيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ جُهَنِيٌّ اسْمُهُ سِنَانٌ حَلِيفٌ لِابْنِ
_________
(١) كسع ضربه على دبره، وَكَانَ ذَلِك لخصومة فِي حَوْض مَاء شربت مِنْهُ نَاقَة الْأنْصَارِيّ.
232
سورة الجمعة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الجمعة) من السُّوَر المدنية، وهي من (المسبِّحات)، نزلت بعد سورة (الصَّفِّ)، وقد بدأت ببيانِ مقاصدِ البعثة النبوية، وأشارت إلى أهميةِ الاجتماع على هذا الدِّين، ولزومِ جماعة المسلمين، وتركِ ملذَّات الدنيا وشهواتها؛ لذا جاءت بوجوب (الجُمُعة)؛ لِما في ذلك من دلالاتٍ عظيمة؛ منها: الاجتماع، والوَحْدة، والأُلْفة بين المسلمين.

ترتيبها المصحفي
62
نوعها
مدنية
ألفاظها
177
ترتيب نزولها
110
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا اْنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ} [الجمعة: 11]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «بَيْنما نحنُ نُصلِّي مع النبيِّ ﷺ، إذ أقبَلتْ عِيرٌ تَحمِلُ طعامًا، فالتفَتوا إليها، حتى ما بَقِيَ مع النبيِّ ﷺ إلا اثنا عشَرَ رجُلًا؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا اْنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ} [الجمعة: 11]». أخرجه البخاري (٩٣٦).

* سورة (الجمعة):

سُمِّيت سورةُ (الجمعة) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظِ {اْلْجُمُعَةِ} فيها؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ اْلْجُمُعَةِ فَاْسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ اْللَّهِ وَذَرُواْ اْلْبَيْعَۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٞ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأُ سورة (الجمعة) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (٨٧٧).

1. مقاصدُ البعثة النبوية (١-٤).

2. ذكرُ حالِ اليهود مع التوراة، والردُّ عليهم (٥-٨).

3. حضور صلاة الجمعة (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /149).

مقصودها تأكيدُ أهميةِ الاجتماع على هذا الدِّين، والتمسُّكِ بجماعة المسلمين، ولزومها، ويَتمثَّل ذلك في الالتزام بصلاة الجمعة، وعدمِ الالتفات إلى الدنيا وشهواتها، واسمُها واضحُ الدلالة على هذا المقصد.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /84)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /206).