ﰡ
وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتُدِئَتْ بحروف مُقطعة تُنطق باسم الحرف لا مُسمَّاه، وهذه الحروف قد تكون حَرفاً واحداً مثل: ن، ص، ق. وقد تكون حرفين مثل: طه، طس. وقد تكون ثلاثة أحرف مثل: الم، طسم. وقد تأتى أربعة أحرف مثل: المر. وقد تأتى بخمسة أحرف مثل: كهيعص، حمعسق.
ونلاحظ في هذه الحروف أنه يَنطِق بالمسمّى المتعلم وغير المتعلم، أما الاسم فلا ينطق به ولا يعرفه إلا المتعلّم الذي عرف حروف الهجاء. فإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أميّاًَ لم يجلس إلى معلم، وهذا بشهادة أعدائه، فمن الذي علمه هذه الحروف؟
إذن: فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف، ونحن نتكلم بمُسمَّيات الحروف لا بأسمائها.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾
ويُطلَق الذكْر على القرآن: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وفي القرآن أفضل الذكر، وأصدق الأخبار والأحداث. كما يُطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣].
ومن الذكْر ذِكْر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة، وذكْر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فاذكروني أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢].
فقوله تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٢] أي: هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به.
والرحمة: هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يُديم له صلاحه لمهمته، إذن: فكلُّ راحم ولو من البشر، وكلُّ مرحوم ولو من البشر، ماذا يصنع؟ يعطى غيره شيئاً من النصائح تُعينه على أداء مهمته على اكمل وجه، فما بالك إنْ كانت الرحمة من الخالق الذي خلق الخلق؟ وما بالك إذا كانت رحمة الله لخير خَلْقه محمد؟
إنها رحمة عامة ورحمة شاملة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم، فلا وَحْيَ ولا رسالة من بعده، ولا إكمال. إذن فهو أشرف الرسل الذين هم أشرف الخَلْق، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته، ومهمة محمد أكرم المهمات.
وكلمة (رَحْمَة) هنا مصدر يؤدي معنى فعله، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول، كما نقول: آلمني ضَرْب الرجل ولدَه، فمعنى: ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ [مريم: ٢] أي: رحم ربُّك عبده زكريا.
لذلك قال تعالى: ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٢] لأنها أعلى أنواع الرحمة، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا، فقد خاطب محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به، بل هي رحمة عامة لجميع العاملين، وهذه منزلة كبيرة عالية.
فالمراد من ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ [مريم: ٢] يعنى هذا الذي يُتلَى عليك الآن يا محمد هو ذِكْر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي أجلُّ الرحمات بعبده زكريا.
لكن، ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخبر عبده زكريا؟
قالوا: لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسبِّبات أسباباً، ثم قال للأسباب: أنت لست فاعلة بذاتك، ولكن بإرادتي وقدرتي، فإذا أردتُك ألاَّ تفعلي أبطلْتُ عملك، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به.
ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم، أو بجَعْل النار بَرْداً وسلاماً على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم؛ لأنه كان من الممكن ألاَّ يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه، أو يُنزِل مطراً
إذن: شاءت إرادة الله أنْ تكيد هؤلاء، وأن تُظهِر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتُمكّنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلاً، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩].
وكذلك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلاً على طلاقة القدرة في مسألة الخَلْق، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسباباً، فمَنْ أخذ بالأسباب يصل إلى المسبِّب، ولكن إياكم أنْ تُفتَنوا في الأسباب؛ لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب، وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبِّبات دون أسباب.
وقد تجلَّتْ طلاقة القدرة في قصة بَدْء الخَلْق، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يُدير خلقه على كُلِّ أوجه الخَلْق، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر.
فالقدرة الإلهية إذن غير مُقيَّدة بالأسباب، وتظلّ طلاقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ الساعة، فنرى الرجل والمرأة زوجين، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبِّب سبحانه، فهو القائل:
{لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ
وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أنْ يرزقَه الولد. قال تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ [مريم: ٢].
أي: رَحِمَهُ اللَّهُ، لكن متى كانت هذه الرحمة؟
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ﴾
والنداء لَوْن من ألوان الأساليب الكلامية، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر، وهو أن تخبر عن شيء بكلام يحتمل الصدق أو الكذب. وإنشاء، وهو أنْ تطلب بكلامك شيئاً، والإنشاء قَوْلٌ لا يحتمل الصدق أو الكذب.
والنداء من الإنشاء؛ لأنك تريد أن تنشىء شيئاً من عندك، فلو قُلْت: يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالاً عليك، فالنداء إذن طلبُ الإقبال عليك، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك.
فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم؟ فإذا كان إقباله عليك موجوداً في كل وقت، فما الغرض من النداء هنا؟ نقول: الغرض من النداء: الدعاء.
ومن أدب الدعاء أنْ ندعوَه سبحانه كما أمرنا: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥].
وهو سبحانه ﴿يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧] أي: وما هو أَخْفى من السر؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سِرّاً، علم أنه سيكون سراً.
لذلك، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء، إنْ سمعه غيره ربما استنقصه، فجعل الدعاء خَفياً بين العبد وربه حتى لا يُفتضحَ أمره عند الناس.
أما الحق سبحانه فهو ستَّار يحب الستر حتى على العاصين، وكذلك ليدعو العبد رَبَّه بما يستحي أنْ يذكره أمام الناس، وليكون طليقاً في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء؛ لأنه ربُّه ووليه الذي يفزع إليه. وإنْ كان الناس سيحزنون ويتضجرون إن سألتهم أدنى شئ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته.
لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه؟
دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها مُعطَّلة عنده؛ لذلك توجه إلى الله بالدعاء: يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خَرْق الناموس والقانون، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته.
سؤال آخر تنبغي الإجابة عليه هنا: لماذا يطلب زكريا الولد في هذه السن المتأخرة، وبعد أن بلغ من الكبر عتياً، وأصبحت امرأته عاقراً؟
لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: ٦].
إذن: فالعِلَّة في طلب الولد دينية مَحْضة، لا يطلبه لمغْنَم دنيوي، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد.
لذلك قوله: (يرثني) هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض؛ لأن الأنبياء لا يورثون، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم.
فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى؛ لذلك قال بعدها: ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: ٦] أي: النبوة التي
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦] ففي أيِّ شئ ورثه؟ أورثه في تركته؟ إذن: فما موقف إخوته الباقين؟ لا بد أنه ورثه في النبوة والملك، فالمسألة بعيدة كل البعد عن الميراث المادي.
ثم يقول الحق سبحانه أن زكريا عليه السلام قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ﴾
فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه: يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك، وتعطي مَنْ كفر، يا مَنْ تعطي مَنْ أطاع، وتعطي مَنْ عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمَّن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك.
ثم يُقدِّم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب: ﴿رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ [مريم: ٤] والوَهَن هو الضعف، وقال: ﴿وَهَنَ العظم﴾ [مريم: ٤] لأن لكل شيء قواماً في الصلابة والقوة، فمثلاً الماء له قوام معروف والدُّهْن له قوام، واللحم له قوام، والعصب والعظم وكل عناصر تكوين الإنسان، والعَظْم هو أقوى هذه الأشياء، والعَظْم في بناء الجسم البشري مثل (الشاسيه) في لغة العصر الحديث، وعلى العظم يبنى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب، فإذا أصاب العظام وهي أقوى العناصر ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب أَوْلى.
لذلك، فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال: مرَّتْ بنا سنون صعبة: فَسنة أذابتْ الشحم أي: بعد الجوع وعدم الطعام وسنة أذهبت اللحم أي: بعد أن أنهت الشحم وسنة محَّت العظم.
فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم الإنسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام والشراب. والعظم في هذه الحالة يُوجِّه غذاءه للمخ خاصة؛ لأنه ما دام في المخ بقية قبول حياة فما حدث للجسم من تلف قابل للإصلاح والعودة إلى طبيعته، إذن: فسلامة الإنسان مرتبطة بسلامة المخ.
لذلك نجد الأطباء في الحالات الحرجة يُركِّزون اهتمامهم على سلامة المخ، ويرتبون عليه حياة الإنسان أو موته، حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية، أما إنْ توقف المخ فهذا يعني الموت.
ولما كان العظم شيئاً باطناً مدفوناً تحت الجلد، فهوحيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] فشبّه انتشار الشيب في رَأْسه باشتعال النار، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار.
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضاً تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار، فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت النار في التضاؤل، حتى تصير جَذْوة لا لَهبَ لها ثم تنطفىء.
واشتعال الرأس بالشيب أيضاً دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لأن الشعر يكتسب لونه من مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في بُصَيْلة الشعرة، وتُمد الشعرة بهذا اللون، وضعْفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجياً، حتى تختفي، وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء، والبياض ليس لوناً، إنما البياض عدم اللون نتيجة ضَعْف الجسم وضَعْف الغُدَد التي تفرز هذا اللون.
لذلك، نجد المترفين الذين يعنون كثيراً بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لأن السوالف عادة بعد أنْ يُهذِّبها الحلاق تأخذ أكبر قدر من المواد الكاوية التي تؤثر على بُصيْلات الشعر وعلى هذه المادة الملونة، والشعرة مثل الأنبوبة يسهل توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلاقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة.
وأنت قد تدعو الله لأمر تحبه، فإذا لم يأْتِ ما تحبه ولم تحب حزنت وكأنك شقيت بدعائك، وقد يكون شقاءَ كذب، لأنك لا تدري الحكمة من المنع وعدم الإجابة، لا تدري أن الله تعالى يتحكم في تصرفاتك.
وربما دعوْت بأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم الله أنه لا خَيْرَ لك فيه، فمنعه عنك وعدَّل لك ما أخطأتَ فيه من تقدير الخير، فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك، وأحسن إليك من حيث ترى أنه حرمك، لأنك طلبتَ الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع الله من حيث يعلم أن الخير ليس في ذلك.
ثم يذكر زكريا عليه السلام عِلَّة أخرى هي علة العِلَل ولُبّ هذه المسألة، فيقول: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الموالي﴾
﴿مِن وَرَآئِي﴾ [مريم: ٥] سبق أن أوضحنا في سورة (الكهف) أن كلمة وراء تأتي بمعنى: خلف، أو أمام، أو بعد، أو غير. وهنا جاءت بمعنى: من بعدي.
ثم يقول: ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ [مريم: ٥] والعاقر هي التي لا تلد بطبيعتها بداية، أو صارت عاقراً بسبب بلوغها سِنَّ اليأس مثلاً. ونحن نعلم أن التكاثر والإنجاب في الجنس البشري ينشأ من رجل وامرأة، وقد سبق أنْ وصفَ زكريا حاله من الضعف والكبر، ثم يخبر عن زوجته بأنها عاقرٌ لا تلد، إذن: فأسباب الإنجاب جميعها مُعطلَّة.
وقوله: ﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً﴾ [مريم: ٥] أي: هي بطبيعتها عاقر، وهذا أمر مصاحب لها ليس طارئاً عليها، فلم يسبق لها الإنجاب قبل ذلك.
ثم يقول: ﴿فَهَبْ لِي﴾ [مريم: ٥] والهِبَة هي العطاء بلا مقابل، فالأسباب هنا مُعطَّلة، والمقدمات تقول: لا يوجد إنجاب؛ لذلك لم يقُلْ مثلاً: أعطني؛ لأن العطاء قد يكون عن مقابل، أما في هذه الحالة فالعطاء بلا مقابل وبلا مقدمات، فكأنه قال: يارب إنْ كنتَ ستعطيني الولد فهو هِبَة منك لا أملك أسبابها؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [إبراهيم: ٣٩].
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦] كأن الظلم يقتضي أن يُعاقبوا، لكن رحمة الله بهم ومغفرته لهم عَلَتْ على استحقاق العقاب.
وقوله: ﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ [مريم: ٥] أي: من عندك أنت لا بالأسباب (وَلِياً) أي: ولداً صالحاً يليني في حَمْل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لِتسْلَم لهم حركة الحياة.
ثم يقول: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ﴾
وتوجيه الكلام إلى زكريا عليه السلام هكذا مباشرة دليلٌ على سرعة الاستجابة لدعائه، فجاءت الإجابة مباشِرة دون مُقدِّمات.
ومثال ذلك: ما حكاه القرآن من قصة سليمان عليه السلام وبلقيس، قال سليمان: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: ٣٨٤٠] فبيْنَ قوله: ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠] وقوله: ﴿رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ﴾ [النمل: ٤٠] كلام يقتضيه سياق القصة، كأن نقول: فأذِن له فذهب وأتى بالعرش، لكن جاء الأسلوب سريعاً
وقوله: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ [مريم: ٧] البشارة: هي الإخبار بما يسرُّك قبل أن يجيء ليستطيل أمدَ الفرح بالشيء السَّار، وقد يُبشرك مُساويك ويكذب في البُشْرى، وقد تأتي الظروف والأحداث مُخالفة لما يظنه، فكيف بك إذا بشّرك الله تعالى؟ ساعة أن تكون البشارة من الله فاعلم أنها حَقٌّ وواقعٌ لا شكَّ فيه.
وقوله: ﴿بِغُلاَمٍ اسمه يحيى﴾ [مريم: ٧] أي: وسماه أيضاً. ونحن نعلم أن للبشر اختيارات في وَضْع الأسماء للمسميات، ولهم الحرية في ذلك، فواحدة تُسمى ولدها (حرنكش) هي حرة، والأخرى تسمى ابنتها الزنجية (قمر) هي أيضاً حرة.
إلا أن الناس حين يُسمُّون يتمنون في المسمّى مواصفات تَسرُّ النفس وتقرُّ العين، فحين نُسمِّي سعيداً تفاؤلاً بأن يكون سعيداً فعلاً، والاسم وُضِع للدلالة على المسمى، لكن، أيملك هذا المتفائل أن يأتي المسمى على وَفْق ما يحب ويتمنى؟ لا، لا يملك ذلك ولا يضمنه؛ لأن هناك قوة أعلى منه تتحكم في هذه المسألة، وقد يأتي المسمَّى على غير مُراده.
أما إذا كان الذي سمّى هو الله تعالى فلابد أن يتحقق الاسم في المسمَّى، وينطبق عليه، ولابُدَّ أنْ يتحقَّق مراده تعالى في مَنْ سَمَّاه، وقد سَمَّى الحق تبارك وتعالى ابن زكريا يحيى فلا بُدَّ أن تنطبق عليه هذه الصفة، ويحيى فعل ضده يموت، إذن: فهو سبحانه القادر على أن يُحييه، لكن يحييه إلى متى؟ وكم عاماً؟ الحياة هنا والعيش يتحقق ولو بمتوسط الأعمار مثلاً، فقد أحياه وتحققت فيه صفة الحياة.
وقوله: ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٧] السميُّ: اختلف العلماء في معناها فقالوا: تأتي بمعنى: نظير أو مثيل أو شبيه وإما سمياً يعني: اسمه كاسمه.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] فقالوا: سمياً هنا تحمل المعنيين: هل تعلم له نظيراً أو شبيهاً؛ لأنه سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤].
ويمكن أن نقول بهذا المعنى أيضاً في قصة يحيى عليه السلام، إلا أنه يقع فيه شيء وهو: أن الله تعالى حينما قال في مسألة يحيى: ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٧] واعتبرناها بمعنى المِثْل أو النظير والشبيه، فهذا يعني أنه لم يسبق يحيى واحد مثله في الصلاح والتقوى، فأين إذن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام؟ وأين إسماعيل وإسحق؟
فهذا المعنى وإن كان السياق يحتمله في غير هذا الموضع إلا أنه لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى جعل من قَبْل يحيى مَنْ هو أفضل من يحيى، أو مثله على الأقل.
أما المعنى الآخر فيكون: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] أي: هل هناك مَنْ تسمى باسمه تعالى؟ وهذا هو المعنى الذي يستقيم في قصة يحيى عليه السلام؛ لأنه أول اسم وضعه الحق سبحانه على ابن زكريا، ولم يكن أحدٌ تسمى به من قبل، أما بعده فقد انتشر هذا الاسم، حتى قال الشاعر:
وسَمَّيتُه يَحْيى ليحيى فلم يكُنْ | لِردِّ قَضَاءِ اللهِ فِيهِ سَبِيلُ |
إذن: كلمة (سَمِياً) في مسألة الألوهية تُؤخَذ على المعنيين، أما في مسألة يحيى فلا تحتمل إلا المعنى الثاني.
وَهبْ أن الحق سبحانه وتعالى استعرض الأسماء السابقة فلم يجد في الماضي من سُمِّى (الله) فأعلنها تحدياً: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] ؟ فلم يحدث بعد هذا التحدي أنْ يُسمَّى أحد بهذا الاسم.
لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله، وهو يعلم تماماً أن الله تعالى عالم بحاله وحال زوجه؟ الواقع أن زكريا عليه السلام لا يستنكر حدوث هذه البشرى، ولا يستدرك على الله، وحاشاه أنْ يقصد ذلك،
وكما حدث في قصة إبراهيم عليه السلام لما قال لربه: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠] وأبو الأنبياء لا يشكّ في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، ولكنه يريد أنْ يعرف هذه الطريقة العجيبة، فالكلام ليس في الحقيقة وجوداً وعدماً، إنما في كيفية وجود الحقيقة، والكلام في الكيفية لا دخْلَ له بالوجود.
فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة لا تُقال إنما تُباشَر عملياً، فأمره بما نعلم من هذه القصة: وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه، ثم يضمهنّ إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها، ثم أمره أنْ يُقطِّعهن أجزاء، ثم يُفرِّق هذه الأجزاء على قمم الجبال، ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أنْ يدْعُوَهُن بنفسه، وأن يصدر الأمر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدبّ فيها الحياة من جديد، وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل، بل جعل مَنْ لا يستطيع ذلك يفعله. ويقدر عليه.
فإنْ كان البشر يُعَدُّون أثر قدرتهم إلى الضعفاء، فمَنْ لا يقدر على حَمْل شيء يأتي بمَنْ يحمله له، ومَنْ يعجز عن عمل شيء يأتي بمَنْ يقوم به، ويظل هو ضعيفاً لا يقدر على شيء، أما الحق سبحانه وتعالى فيُعدِّي قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قوياً قادراً على الفعل.
أو: أن زكريا عليه السلام بقوله: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ [مريم: ٨] يريد أن يُوثِّق هذه البشرى ويُسجِّلها، كما تَعِد ولدك بأنْ تشتري له هدية فيُلِحّ عليك في هذه المسألة ليؤكد وَعْدك له، ويستلذ بأنه وَعْد مُحقَّق لا شكَّ فيه، ثم يذكر زكريا حيثيات تعجُّبه من هذا الأمر فيقول:
﴿وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ [مريم: ٨].
عتياً: من عَتَا يعني طغى وتجبر وأفسد كثيراً، والعُتُو: الكفر، والعَتيّ: هو القوي الذي لا يُغالب؛ لذلك وصف الكِبَر الذي هو رمز للضعف بأنه عَتِيّ؛ لأن ضعف الشيب والشيخوخة ضَعْف لا يقدر أحد على مقاومته، أو دفعه أبداً، مهما احتال عليه بالأدوية والعقاقير (والفيتامينات).
ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلام؛ وتُلِح عليه؛ لأنه دعا الله كثيراً أنْ يرزقه الولد، ففي موضع آخر يقول: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين﴾ [الأنبياء: ٨٩]. فزكريا عليه السلام يريد الولد الذي يَرِثه وهو موروث؛ لأن الله تعالى خير الوارثين.
وهنا مظهر من مظاهر طلاقة القدرة الإلهية التي لا يُعجِزها شيء، فهو سبحانه قادر على إصلاح هذه الزوجة العاقر، فالصنعة الإلهية لا تقف عند حَدٍّ، كما لو تعطَّل عندك أحد الأجهزة مثلاً فذهبتَ به إلى الكهربائي لإصلاحه فوجد التلفَ به كبيراً، فينصحك بترْكه وشراء آخر جديد، فلا حيلةَ في إصلاحه.
لذلك أصلح الله تعالى لزكريا زوجه حتى لا نظنَّ أن يحيى جاء بطريقة أخرى، والزوجة ما تزال على حالها.
ثم يقول الحق: ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ﴾
والحق سبحانه يخاطبنا على كلامنا نحن وعلى منطقنا، فالخَلْق من موجود أهون في نظرنا من الخلق من غير موجود، كما قال الحق سبحانه تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: ١٥].
إذن: فمسألة الإيجاد بالنسبة له تعالى ليس فيها سَهْل وأسْهَل أو صَعْب وأصعب، لأن هذه تُقال لمَنْ يعمل الأعمال علاجاً، ويُزوالها مُزَاولة، وهذا في إعمالنا نحن البشر، أما الحق تبارك وتعالى فإنه لا يعالج الأفعال، بل يقول للشيء كُنْ فيكون: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢].
ثم يُدلّل الحق سبحانه وتعالى بالأَقْوى، فيقول: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: ٩] فلأن يوجد يحيى من شيء أقلّ غرابة من أن أوجد من لاشيء. ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً﴾
فيجيبه ربه: ﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٠] علامتك أَلاَّ تُكَلِّم الناس ثلاث ليال و (أَلاَّ) ليست للنهي عن الكلام، بل هي إخبار عن حالة ستحدث له دون إرادته، فلا يكلم الناس مع سلامة جوارحه ودون عِلَّة تمنعه من الكلام، كخرس أو غيره.
لذلك قال: ﴿ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٠] أي: سليماً مُعاَفىً، سويّ التكوين، لا نقص فيك، ولا قصور في جارحة من جوارحك. وهكذا لا يكون عدم الكلام عَيْباً، بل آية من آيات الله.
وهناك فَرْق بين أمر كونيٍّ وأمر شرعي، الأمر الكونيُّ هو ما يكون وليس لك فيه اختيار في ألاَّ يكون، والأمر الشرعيّ ما لك فيه اختيار من الممكن أن تطعيه فتكون طائعاً، أو تعصيه فتكون عاصياً.
وهذا الذي حدث لزكريا أمر كوني، وآية من الله لا اختيار له فيها، وكأن الحق سبحانه يعطينا الدليل على أنه يوجد مِنْ لا مظنّة أسباب، وقد يبقي الأسباب سليمة صالحة ولا يظهر المسبِّب، فاللسان هنا موجود، وآلات النطق سليمة، ولكنه لا يقدر على الكلام.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَخَرَجَ على قَوْمِهِ﴾
وقد وردتْ هذه اللقطة من قصة زكريا عليه السلام في آية أخرى دَلَّتْ أيضاً على أن البشارة بيحيى كانت وهو في محرابه، حيث قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً﴾ [آل عمران: ٣٩].
وقوله تعالى: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ﴾ [مريم: ١١] قلنا: إن الوَحْي له معنى لُغَويّ ومعنى شرعي، الوحي لُغةً: الإخبار بطريق خفيٍّ. وعلى هذا المعنى يأتي الوحي بطرق متعددة، فالله تعالى يُوحِي للرسل والأنبياء، ويُوحي لغير الرسل من المصطفين، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧] أي: أخبرها بطريق خفيٍّ، هو طريق الإلهام.
ويُوحِي للصالحين من أتباع الرسل: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة: ١١١].
ويتعدَّى الإعلام بخفاء إلى الحشرات: ﴿وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨].
بل يتعدَّى الوحي إلى الجماد في قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ١٥].
وقد يُوحي الشياطين بعضهم إلى بعض: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً﴾ [الأنعام: ١١٢].
ويُوحون إلى أوليائهم: ﴿وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: ١٢١] لأن الشيطان لا يأتي الإنسان إلا بطريق خفيٍّ، ووسوسة في خواطره.
أما الوحي الشرعي فهو إعلام من الله وحده إلى نبي يدَّعي النبوة ومعه معجزة، إذن فالوحي: إعلام خفيّ من الله للرسول.
فقوله تعالى: ﴿فأوحى إِلَيْهِمْ﴾ [مريم: ١١] أي: قال لهم بطريق الإشارة؛ لأنه لا يتكلم ﴿أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ١١] بُكرة: أول النهار، وعَشياً: آخره، يعني: طوِّقوا النهار بالتسبيح بداية ونهاية. وكأن زكريا عليه السلام قد بدتْ عليه علامات الفرح
ثم يقول تعالى: ﴿يايحيى خُذِ الكتاب﴾
وقوله: ﴿خُذِ الكتاب﴾ [مريم: ١٢] أي: التوراة، وفيها منهج الله الذي يُنظِّم لهم حركة حياتهم ﴿بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: ١٢] أي: بأخلاص في حِفْظه وحِرْص على العمل به؛ لأن العلم السماوي والمنهج الإلهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به.
وإلا فقد قال تعالى في بني إسرائيل: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة
والقوة: هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولاب الحياة حركةً وسكوناً، وخُذْ مثلاً سفينة الفضاء التي تنطلق إلى الفضاء الخارجي، وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل: من أين لها بالوقود الذي يُحرّكها طوال هذه المدة؟ والحقيقة أنها لا تحتاج: إلى وقود إلا بمقدار ما يُخرِجها من مدار الجاذبية الأرضية، فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ولا تتوقف إلا بقوة توقفها، وكذلك الساكن يظل ساكناً إلى أنْ تأتيَ قوة تحركه.
إذن: القوة إمّا أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسْكِن المتحرك وتصده، ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية من مصدَّات تُوقِف القطارات؛ لأنك إنْ أردتَ أن توقف القطار تمنع عنه الوقود، لكن يظل به قوة دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه، وهذا ما يسمونه قانون العطالة. يعني: إن كان الشيء متحركاً فيحتاج إلى قوة توقفه، وإن كان ساكناً يحتاج إلى قوة تحركه.
ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس، وتلاحظه إذا تحركتْ بك السيارة تجد أن جسمك يندفع للخلف؛ لأنها تحركتْ للأمام وأنت ساكن، فإنْ توقفتْ السيارة تحرَّك جسمك للأمام لأنها توقفت وأنت متحرك. إذن: هذه الأشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة.
فقوله تعالى: ﴿خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: ١٢] لأن الكتاب فيه
ثم يقول تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾ [مريم: ١٢] الحكم: العلم والفهم للتوراة، أو الطاعة والعبادة، ﴿صَبِيّاً﴾ [مريم: ١٢] في سِنٍّ مبكرة؛ لأن المسألة عطاء من الله لا يخضع للأسباب، فجاء يحيى عليه السلام مُبكِّر النضج والذكاء، يفوق أقرانه، ويسبق زمانه، وقد أُثِر عنه وهو صغير أنْ دعاه أقرانه للعب فقال لهم: «ما للعب خُلِقْنا».
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا﴾
وقوله: ﴿وَزَكَاةً﴾ [مريم: ١٣] أي: طهارة من الذنوب وصفاءَ نفْسٍ وبركة، وهذه كلها نتيجة التربية الإلهية بمنهج الله الذي يرسم له حركته في الحياة: افعل كذا ولا تفعل كذا.
﴿وَكَانَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ١٣] أي: استجاب لهذا الحنان، وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقياً، أي: مُنفذاً لأوامر الله مُجتنباً لنواهيه، وبذلك وقَى نفسه من صفات الجلال من الله تعالى.
وقلنا: إن التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعاً يحميك ويبعدك عن إيذائه، فنقول: اتقِ الله واتقِ النار، كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه؟
نقول: اتق الله أي: اجعل بينك وبين صفات جلاله وجبروته وقايةً تحميك من جبروته وجباريته وقهره، فلسْت مطيقاً لأدنى شيء من العذاب، والنار من جنود الله ومظهر من مظاهر قهره، فاتقاء النار جزء من اتقاء الله، والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلال هي الطاعة بامتثال الأوامر والنواهي.
ثم يقول تعالى: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن﴾
وصفة الجبروت وصفة العصيان لا يُتصوَّران من الولد على والديه، إلا حين يرى من أبيه شروداً عنه وانصرافاً عن رعايته، وحين يرى من أمه انشغالاً عن تربيته، فهي تاركة له غير مُراعية لحقه.
لذلك نرى صوراً من هذا الجبروت ومن هذا العصيان، ونسمع مَنْ يقسو على أمه وعلى أبيه؛ لأنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية، فتقعطتْ بينهما أواصر الأبوة. ويبدو أن زكريا حكى لولده ما حدث، وقصَّ عليه قِصّته، فتفهَّم الولد دور والديه ونفى عنهما أيّ تقصير، فكان بهما باراً رحيماً، ولهما طائعاً متواضعاً.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾
وخَصَّه بالسلام يوم يموت؛ لأنه سيموت شهيداً، والشهادة غير الموت، الشهادة تعطيه حياة موصولةً بالحياة الأبدية الخالدة. وكذلك خَصَّه بالسلام يوم القيامة يوم يُبعث حيّاً.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب﴾
وكأن هذا أول بداية قانون: من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى لا يخضع للأسباب، بل هو سبحانه يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب.
وشاءتْ إرادة الله أن تنطِقَ مريم بهذه المقولة: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧] لأنها ستُنبِّه زكريا إلى شيء،
وكذلك نبَّهتْ هذه الآية زكريا عليه السلام إلى فَضْل الله وسِعَة رحمته، وهذا أمر لا يغيب عن نبي الله، ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إلا أنها بعيدة عن بُؤْرة الشعور وبعيدة عن الاهتمام، فإذا ما ذُكِّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ [آل عمران: ٣٨].
فما دام أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، فلماذا لا أدعو الله بولد صالح يحمل أمر الدعوة من بعدي، وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السِّنِّ أو العُقْم أو خلافه.
إذن: فمريم هي التي أوحَتْ لزكريا بهذا الدعاء، واستجاب الله لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك مقدمة وتمهيداً لمريم، فلا تنزعج من حَمْلها، وتردّ هذه المسألة إلىأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، وليكون ذلك إيناساً لنفسها واطمئناناً، وإلاَّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها الشكوك، وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به، أو كانت نائمة مثلاً.
لكن الحق تبارك وتعالى يقطع عنها كل هذه الشكوك، ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها في طعام لم يَأْتِ به أحد إليها، وفي حَمْل زوجة زكريا وهي عاقر لا تلِد.
قوله تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ﴾ [مريم: ١٦] الكتاب هو القرآن الكريم، أي: اذكُر يا محمد في كتاب الله الذي
ومريم هي ابنة عمران، وقد قال القرآن في خطابها: ﴿ياأخت هَارُونَ﴾ [مريم: ٢٨] ولذلك حدث لَبْسٌ عند كثير من الناس، فظنوها أخت نبي الله موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى عليهما السلام.
والحقيقة أن هذه المسألة جاءتْ مصادفة اتفقتْ فيها الأسماء؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى اليمن قال لهم أهلها: إنكم تقولون: إن مريم هي أخت موسى وهارون، مع أن بين مريم وعمران أبي موسى أحد عشر جيلاً!!
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أما ذكرتُمْ لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكِر الأسماء خاصة الأنبياء فيُسمّون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون».
حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلاف
وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصَّها وشخَّصها باسمها واسم أبيها، وسبق أنْ أوضحنا أن التشخيص في قصة مريم جاء لأنها فذَّة ومُفردة بين نساء العالم بشيء لا يحدث ولن يحدث إلا لها، فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء.
أما إنْ كان الأمر عاماً يصح أنْ يتكرّر فتأتي القصة دون تشخيص، كما في حديث القرآن عن زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر، وهما زوجتان لنبيين كريمين، وعن زوجة فرعون كمثال للإيمان الذي قام في بيت الكفر وفي عُقْر داره، فالمراد هنا ليس الأشخاص، بل المراد بيان حرية العقيدة، وأن المرأة لها في الإسلام حريةٌ عقدية مستقلة ذاتية، وأنها غيرُ تابعة في عقيدتها لأحد، سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر.
وقوله تعالى: ﴿إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً﴾ [مريم: ١٦].
﴿انتبذت مِنْ أَهْلِهَا﴾ [مريم: ١٦] أي: ابتعدتْ عنهم، من نبذ الشيء عنه أي أبعده، فكأن أُنْسها لا بالأهل، ولكن أُنْسها كان برب الأهل، والقرآن يقول: ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ [مريم: ١٦] ولم يقُلْ: من الناس، فقد تركتْ مريم أقرب الناس إليها وأحبّهم عندها وذهبت، إلى هذا المكان.
﴿مَكَاناً شَرْقِياً﴾ [مريم: ١٦] لكن شرقيّ أيّ شيء؟ فكل مكان
لكن، لماذا اختارتْ الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات؟ قالوا: لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس، لأنها سِمَة النور المادىْ الذي يسير الناس على هُدَاه فلا يتعثرون، وللإنسان في سَيْره نوران: نور مادىّ من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح، وهو النور الذي يظهر له الأشياء من حوله، فلا تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ولا بأضعف منه فتحطمه.
وكذلك له نور من منهج الله يهديه في مسائل القيم، حتى لا يتخبّط تائهاً بين دُروبها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾ [النور: ٣٥] ثم يقول بعدها: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ [النور: ٣٥].
أي: نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس.
والحجاب قد يكون حجاباً مُفْرداً فهو ساتر فقط، وقد يكون حجاباً مستوراً بحجاب غيره، فهو حجاب مُركّب، كما يصنع أهل الترف الآن الستائر من طبقتين، إحداهما تستر الأخرى، فيكون الحجاب نفسه مَسْتوراً، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥].
وقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا﴾ [مريم: ١٧].
كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلاقات مُتعدّدة، أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية، فإذا نفخَ الله الروح في المادة دبَّتْ فيها الحياة والحِسّ والحركة، ودارت كل أجهزة الجسم، وهذا المعنى في قوله تعالى:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩].
لكن، هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من الله هي الحياة المقصودة من خَلْق الله للخَلْق؟ قالوا: إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها؛ لأن الإنسان قد يمرُّ بها ويموت بعد ساعة، أو بعد يوم، أو بعد سنة، أو عدة سنوات.
إذن: هي حياة قصيرة حقيرة هيِّنة، هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام، أما الإنسان الذي كرّمه الله وخلق الكون من أجله فلا بُدَّ أن
﴿لَهِيَ الحيوان﴾ أي: الحياة الحقيقية، أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر عتياً، فنهايتك إلى الموت، فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي لا يُهدِّدها موت فهي في الآخرة.
فإذا كان الخالق تبارك وتعالى جعل لك روحاً في الدنيا تتحرك بها وتناسب مُدّة بقائك فيها، ألاَ يجعل لك في الآخرة رُوحاً تناسبها، تناسب بقاءها وسَرْمديتها، والقرآن حينما يتحدث عن هذه الروح يقول للناس: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤] فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء؟ نعم، هم أحياء الحياة الدنيا، لكنه يدعوهم إلى حياة أخرى دائمة باقية، أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إلا هذه الحياة القصيرة الفانية التي لا بقاءَ لها.
وكما سمَّى الله السِّرَّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة «روحاً»، كذلك سمَّى القيم التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة «روحاً»، كما قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢] أي: القرآن الكريم.
كما سَمَّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحاً: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] وهو جبريل عليه السلام.
لأنهما سيلتقيان، ولا يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء خُفْية، وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ الملَكُ بملكتيه مع البشر ببشريته، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر، ولابُدَّ في لقائهما أنْ يتصوَّر الملَك في صورة بشر، أو يُرقَّى البشر إلى صفات الملائكة، كما رُقي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صفات الملائكة في حادثة الإسراء والمعراج، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب.
لذلك، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكاً رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى: ﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٥].
وقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] إذن: لا يمكن أن يلتقي الملَكُ بالبشر إلا بهذا التقارب.
جاء جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به، ولا تفزع إنْ رأتْه على صورته الملائكية ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً﴾ [مريم: ١٧] أي: من جنسها ﴿سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٧].
أي: سويّ الخِلْقة والتكوين، وسيماً، قد انسجمتْ أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر، فلا يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه، كما نرى في بعض الناس.
وقولها: ﴿أَعُوذُ﴾ [مريم: ١٨] أي: ألجأ وأعتصم بالله منك؛ لأنني أخاف أنْ تفتك بي، أو تعتدي عليَّ وأنا ضعيفة لا حَوْلَ لي ولا قوة إلا بالله، فأستعيذ به منك. والمؤمن هو الذي يحترم الاستعاذة بالله ويُقدِّرها، فإنْ استعذتَ بالله أعاذك، وإن استجرتَ بالله أجارك.
«ولما خطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امرأة، كانت على شيء من الحسن أثار غَيْرة نسائه، فخشينَ أنْ تغلبهن على قلب رسول الله، فدبَّرْنَ لها أمراً يبعدها من أمامهن، فقُلْنَ لها وكانت غِرَّة ساذجة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب إذا اقترب منه إنسان أن يقول له: أعوذ بالله منك، فما كان من المرأة إلا أنْ قالت هكذا لرسول الله عندما دخلت عليه، فقال لها:» لقد استعذت بمعيذ، الحقي بأهلك «.
فقول مريم: ﴿إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ١٨] لأن المؤمن التقيّ هو الذي يخاف الله، ويحترم الاستعاذة به، وكأنها
وقوله: ﴿لأَهَبَ لَكِ﴾ [مريم: ١٩] يفهم منه أن ما سيحدث لمريم هبة من الله غير خاضعة للأسباب التكوينية، فالهبة في هذه الحالة هبة حقيقية مَحْضَة، فقد قلنا في قصة زكريا ويحيى أن الله تعالى وهب يحيى لزكريا حال كونه كبير السِّن وامرأته عاقر، لكن على أية حال فالجهازان موجودان: الذكورة والأنوثة، لكن في حالة مريم فهي أنثى بلا ذكر، فهنا الهِبَة المحضة، والمعجزة الحقيقية.
وقوله: ﴿غُلاَماً زَكِيّاً﴾ [مريم: ١٩] أي مُنقَّى مُطهّر صافي الخِلْقة.
ثم يقول الحق سبحانه عن مريم: ﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي﴾
وقوله: ﴿يَمْسَسْنِي﴾ [مريم: ٢٠] المسّ هنا كناية وتعبير مُهذَّب عن النكاح، وقد نفتْ السيدة مريم كل صور اللقاء بين الذكر والأنثى حين قالت: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٠] فالتقاء الذكر بالأنثى له وسائل: الوسيلة الأولى: هي الزواج الشرعي الذي شرعه الله لعباده للتكاثر وحِفْظ النسل، وهو إيجاب وقبول، وعقد وشهادة، وهذا هو المسّ الحلال.
الوسيلة الثانية: أنْ يتم هذه اللقاء بصورة محرمة بموافقة الأنثى أو غَصْباً عنها. وقد نفتْ مريم عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: ٢٠] لا في الحلال، ولا في الحرام، وأنا بذاتي ﴿لَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٠] إذن: فمن أين لي بالغلام؟
وكلمة: مسَّ جاءتْ في القرآن للدلالة على الجماع، كما في قوله تعالى: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٦] فالمراد بالمسّ هنا الجماع، لذلك فقد فسر الإمام أبو حنيفة قوله تعالى: ﴿لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ [النساء: ٤٣] بأنه الجماع؛ لأن القرآن أطلق المسَّ، وأراد به النكاح، والمسُّ فعل من طرف واحد، أما الملامسة فهي مُفَاعلة بين اثنين، فهي من باب أَوْلَى تعني: جامعتم.
وقولها: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٠] البغِيُّ: هي المرأة التي تبغي الرجال. والبِغَاء: هو الزنا، والبَغِيّ: التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم، وربما تُكرههم على هذه الجريمة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ﴾
وهنا نجد بعض المتورِّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى: (كَذَلِكَ) بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم (كذلكِ)، والسياق والمعنى واحد، وأيُّهما أبلغ من الأخرى، وإنْ كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة؟
وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فَهْمهم لكلام الله، فكلمة (كذلك) عبارة عن ذا اسم إشارة، وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر، وتُكسر في خطاب المؤنث.
وهنا أيضاً قال: (ربك) أي: الذي يتولى تربيتك ورعايتك، والذي يُربيه ربُّه يربيه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربِّي.
فالحق سبحانه يخاطبنا على قَدْر عقولنا، فقوله: ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ [مريم: ٢١] أي: بمنطقكم أنتم إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء، فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيِّن.
ثم يقول تعالى: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ [مريم: ٢١].
هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط؟ لا، بل هناك هدف آخر ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ﴾ [مريم: ٢١] أي: أمراً عجيباً، يخرج عن مألوف العادة والأسباب، كما نقول: هذا آية في الحُسْن، آية في الذكاء، فالآية لا تُقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول.
والآية هنا أن الخالق تبارك وتعالى كما خلق آدم عليه السلام من غير أب أو أم، وخلق حواء من غير أم، خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيماً.
لكن، أكانتْ الآية في خَلْق عيسى عليه السلام أَمْ في أمه؟ كان من الممكن أنْ يوجد عيسى من أب وأم، فالآية إذن في أمه، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى:
﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] فعيسى ومريم آية واحدة، وليسا آيتين؛ لأنهما لا ينفصلان.
ثم يقول تعالى: ﴿وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ [مريم: ٢١] ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة، أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكُّوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها، ولو كان هذا الشكُّ مجرد خاطر، فإنه لا يجوز ولا يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه، وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء، ومن بعض شيء، ومن لا شيء.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾ [مريم: ٢١] أي: مسألة منتهية لا تقبل المناقشة، فإياك أن تناقش في كيفيتها؛ لأن الكلام عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألاَّ يتم مراده لأيِّ سبب من الأسباب كأن تقول: سأفعل غداً كذا وكذا، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك، إذن: فأنت لا تملك كُلَّ عناصر الفعل.
ولما تكلمنا عن تقسيمات الأفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلام، والمضارع الذي يحدث في الحال، أو في الاستقبال قلنا: إن هذه الأفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية والاستقبالية.
فإذا قال تعالى: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الفتح: ١٤] فهل كان الحق سبحانه غفوراً رحيماً في الماضي، وليس كذلك في الحاضر والمستقبل؟ لا، لأن الحق سبحانه كان ولا يزال غفوراً رحيماً، فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه.
لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي، فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلاً، فهو سبحانه خالق قبل أن يخلق الخَلْق وبصفة الخَلْق خَلَقَ، كما ضربنا مثلاً لذلك: نقول فلان شاعر، فهل هو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم قال القصيدة لأنه شاعر، وبالشعر صنع القصيدة؟ إذن: فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولولا وجود الصفة فيه ما قال.
فالصفة إذن أزلية في الحق سبحانه، فإذا قلت: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الفتح: ١٤] فقد ثبتتْ له هذه الصفة أزلاً، ولأنه سبحانه لا يتغير، ولا يعارضه أحد فقد بقيتْ له، هذا معنى: كان ولا يزال.
وهذه المسألة واضحة في استهلال سورة النحل: ﴿أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١] لذلك وقف بعض المستشرقين أمام هذه
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ﴾
وقوله: ﴿فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة﴾ [مريم: ٢٣] أوضح لنا عِلَّة مجيئها إلى جِذْع النخلة؛ لأن المرأة حينما يأتي وقت ولادتها تحتاج إلى ما تستند إليه، وتتشبث به ليخفف عنها ألم الوضع، أو رفيقة لها تفزع إليها وتقاسمها هذه المعاناة، فألجأها المخاض إذن إلى جذع (النخلة)، وجاءت النخلة مُعرَّفة لأنها نخلة معلومة معروفة.
وجذع النخلة: ساقها الذي يبدأ من الجذر إلى بداية الجريد، فهل ستتشبث مريم عند وضعها بكل هذه الساق؟ بالطبع ستأخذ الجزء القريب منها فقط، وأُطلق الجذع على سبيل المبالغة، كما في قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت﴾ [البقرة: ١٩].
ومعلوم أن الإنسان يسدّ أذنه بأطراف الأصابع لا بأصابعه كلها، فعبَّر عن المعنى بالأصابع مبالغةً في كَتْم الصوت المزعج والصواعق التي تنزل بهم.
إذن: فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر لا تستطيع إخفاءه، ولا تقدر على ستره، فقد قبلتْ قبل ذلك أنْ يُبشِّرها الملَك بغلام زكيٍّ، وقبلتْ أنْ تحمل به، فكيف بها الآن وقد تحوّل الأمر من الكلام إلى الواقع الفعلي، وها هو الوليد في أحشائها، وقد حان موعد ولادته؟
لابُدَّ أن ينتابها نزوع انفعالي فالأمر قد خرج عن نطاق السَّتْر
مجرد تعجُّب وانفعال هادىء، أما وقد أصبح الأمر ولادة حقيقية فلا بُدَّ من فعل نزوعي شديد يُعبِّر عما هي فيه من حَيْرة، لذلك تمنتْ الموتْ، مع أن الله تعالى نهانا عن تمني الموت، كما ورد في الحديث الشريف الذي يرشدنا إذا ضاقتْ بنا الحياة ألاَّ نتمنى الموت، بل نقول: «اللهم أحْيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفَّني ما كانت الوفاة خيراً لي».
وقلنا: إن تمني الموت المنهيّ عنه ما كان فيه اعتراض على قَدَر الله، وتمرد على إرادته سبحانه، كأنْ تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنى الموت، أما أن تتمنى الموت لعلمك أنك ستصبر إلى خير مما تركت فهذا أمر آخر.
وقد ورد في القرآن مسألة تمني الموت هذه في الكلام عن بني إسرائيل الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، وأن الدار الآخرة لنا خالصة عند الله، فبماذا رَدّ عليهم القرآن الكريم؟
وقال عنهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦].
وما داما لن يتمنوا الموت، وما داموا أحرصَ الناس على الحياة، فلا بُدَّ أن حياتهم هذه التي يعيشونها أفضل لديهم من الحياة الأخرى.
فالمؤمن إذن لا يجوز أن يتمنى الموت هَرباً من بلاء أصابه أو اعتراض على قَدَرِ الله، ويجوز له ذلك إنْ علم أنه صائر إلى أفضل ممّا هو فيه.
وقولها: ﴿نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ [مريم: ٢٣] النسيّ: هو الشيء التافه الذي لا يُؤْبَه به، وهذا عادةً ما يُنْسَي لعدم أهميته، كالرجل الذي نسى عند صاحبه علبة كبريت بها عودان اثنان، وفي الطريق تذكرها فعاد إلى صاحبه يطلب ما نسيه، وهكذا تمنتْ مريم أن تكون نسياً منسياً حتى لا يذكرها أحد.
ولم تكتفِ بهذا، بل قالت: ﴿نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ [مريم: ٢٣] لأن النسيّ: الشيء التافه الذي يُنسَي في ذاته، لكن رغم تفاهته فربما يجد مَنْ يتذكره ويعرفه، فأكدت النسيّ بقولها (منسياً) أي: لا يذكره أحد، ولا يفكر فيه أحد.
ثم يقول الحق سبحانه:
لذلك تعهّدها ربها تبارك وتعالى فوفّر لها ما يُقيتها من الطعام والشراب، فقال: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ [مريم: ٢٤] والسريّ: هو النهر الذي يجري بالماء العَذْب الزُّلال، وثم يعطيها الطعام المناسب لحالتها، فيقول تعالى: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ﴾
لذلك، من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يُملِّك الطعام كثيراً، ويُملك الماء قليلاً، ولا يُملِّك الهواء لأحد أبداً، لأنك لو غضبتَ على أحد فمنعتَ عنه الهواء لمات قبل أنْ ترضى عنه، إذن: فعناصر استبقاء الحياة مرتبة حَسْب أهميتها في حياة الإنسان، وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في متناول يدها وأغناها عن أنْ يخدمها أحد.
فالهواء موجود وهي في الخلاء، ثم الماء فأجري تحتها نهراً عذباً زلالاً، ثم الطعام فقال: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾ [مريم: ٢٥] وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يُظهِر لمريم آية أخرى من آياته، فأمرها أنْ تهزَّ جذع النخلة اليابس الذي لا يستطيع هَزَّه الرجل القويّ، فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولادة ومشاقها؟
كما أن الحق سبحانه قادر على أنْ يُنزِل لها طعامها دون جَهْد منها ودون هَزِّها، إنما أراد سبحانه أن يجمع لها بين شيئين: طلب الأسباب والاعتماد على المسبب، والأخذ بالأسباب في هَزِّ النخلة، رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولادة، وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في وحدتها لنعلم أن الإنسان في سعيه مُطَالب بالأخذ بالأسباب مهما كان ضعيفاً.
لذلك أبقى لمريم اتخاذ الأسباب مع ضَعْفها وعدم قدرتها، ثم
إنها مجرد إشارة إليه تدلُّ على امتثال الأمر، والله تعالى يتولى إنزال الطعام لها، وقد صَوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله:
أَلَمْ تَرَ أنَّ الله قَالَ لمرْيَم | وَهُزِّي إليك الجذْعَ يَسَّاقَط الرُّطبْ |
وَإنْ شَاءَ أعطَاهَا ومِنْ غير هَزَّة | ولكن كُلّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْ |
وقوله: ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ﴾ [مريم: ٢٥] فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله، وإلا فالبلحة لم تخرج عن طَوْع أمها، إذن: فقد ألقتْها طواعيةً واستجابة حين تَمَّ نضجها.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَكُلِي واشربي وَقَرِّي﴾
وقوله: ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ [مريم: ٢٦] بعد أن وفَّر لها الحق سبحانه الطعام والشراب الذي هو قِوَام المادة، وبه يتم استبقاء الحياة، لكن بعد الطعام والشراب يبقى لديها حُزْن عميق وألم وحَيْرة مِمَّا هي فيه؛ لذلك يعطيها ربها تبارك وتعالى بعد القوت الذي هو قوام المادة يعطيها السكينة والطمأنينة ويُخفِّف عنها ألم النفس وحَيْرة الفؤاد.
﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ [مريم: ٢٦] قرّي: أي: اسكني. وهذا التعبير عند العرب كناية عن السرور، ومنه قوله تعالى على لسان امرأة فرعون: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ﴾ [القصص: ٩].
والعرب تعبر بِقُرَّة العين وسكونها عن السرور؛ لأن سكون العين على مَرأَىً واحد لا تتحول عنه دليلٌ على أن العين صادفت مرأى جميلاً تسعد به وتُسَرُّ فلا يُغني عنه مَرأْىً آخر، فتظل ساكنة عليه لا تتحرك عنه.
وقد يستعمل هذه التعبير في المقابل أي: في الشر والدعاء على إنسان وتمني الشر له، كالمرأة التي دخلتْ على أحد الخلفاء فنهرَها فقالت له: أتمَّ الله عليك نعمته وأقرَّ عينك. فظنَّ الحضور أنها تدعو له، لكنه فَطِن لمرادها، فقال لجلسائه: ما فهمتم ما تقول، إنها
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه | ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمْ |
وقولها: أقرَّ الله عينك، أي: أسْكَنَها بالعمى.
فقوله تعالى لمريم: ﴿وَقَرِّي عَيْناً﴾ [مريم: ٢٦] أي: كوني سعيدة باصطفاء الله لك مسرورة بما أعطاك، فما تهتمين به وتحزنين هو عَيْن النعمة التي ليستْ لأحد غيرك من نساء العالمين.
ثم يقول تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ [مريم: ٢٦].
وهنا يتولَّى الحق سبحانه وتعالى الدفاع عن مريم وتبرير موقفها الذي لا تجد له هي مبرراً في أعراف الناس، فَمنْ يلتمس عُذْراً لامرأة تحمل وتلد دون أن يكون لها زوج؟ ومهما قالت فلن تُصدَّق ولن تسْلَم من ألسنة القوم وتجريحهم.
إذن: فجواب ما يكره السكوت، فأمرها سبحانه أنْ تلزم الصمت ولا تجادل أحداً في أمرها: ﴿فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً﴾ [مريم: ٢٦] والصوم هنا أي: عن الكلام، كما حدث مثل هذا في قصة زكريا؛ لأن المعجزات قريبة من بعضها، فقد أعطى الله
وهذه المسألة اعترض عليها بعض الذين يحبون أنْ ينتقموا على القرآن، فقالوا: كيف يأمرها بالصوم عن الكلام، وفي نفس الوقت يأمرها أن تقول: نذرت للرحمن صوماً؟
يجوز أنها قالت هذه العبارة أولاً لأول بشر رأته ليتم بذلك إعلان صومها، ثم انقطعت عن الكلام، ويجوز أن يكون المراد بالكلام هنا الإشارة، والدلالة بالإشارات أقوى الدلالات وأعمّها، فإن اختلفت اللغات بين البشر لأن كل جماعة تواضعوا على لغة خاصة بهم، فإن لغة الإشارة تظل لغة عامة يتفق عليها الجميع، فمثلاً حين تُومىء برأسك هكذا تعني نعم في كل اللغات، وحين تُشير بأصبعك هكذا تعني لا، إذن: فالدلالة لغة عالمية وعامّة.
وقد تعرَّضَ القرآن الكريم في موضع آخر لهذه المسألة في قوله تعالى: ﴿حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ [الكهف: ٩٣].
أي: لا يقربون من الفهم، فَهُمْ يفهمون من باب أَوْلى، ومع ذلك كان بينهم كلام وإشارة ولغة، وفَهِم كل منهم عن الآخر: ﴿قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ [الكهف: ٩٤].
ولما تكلّمنا في قوله تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي﴾ [مريم: ٢٤] استبعدنا أنْ يكون هذا النداء من جبريل، وقلنا: إنه نداء الوليد؛ لذلك اطمأنتْ مريم وعَلِمتْ أنها أمام معجزة عُظْمى، ووثقتْ تمام الثقة أنها حين تُشير إليه سيتكلم هو ويردُّ عنها الحَرج مع قومها؛ لأن الكلام ممَّنْ يقدر على الكلام لا يأتي بحجة تُقنِع الناس عن خلاف العادة، أما حين يتكلم وهو في المهد، فهذا يعني أنه معجزة خارقة للعادة، فإذا كان الوليد معجزةً فالمعجزة في أُمِّه من باب أَوْلَى.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾
فأجاب الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ ببساطة: بالوجه الذي قابلتْ به مريم قومها وهي تحمل وليدها. أي: بوجه الواثق من البراءة، المطمئن إلى تأييد الله، وأنه سبحانه لن يُسْلِمها أبداً؛ لذلك لما نزلتْ براءة عائشة في كتاب الله قالوا لها: اشكري النبي، فقالت: بل أشكر الله الذي برأني من فوق سبع سموات.
فلما رآها القوم على هذه الحال قالوا فيها قولاً غليظاً: ﴿يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً﴾ [مريم: ٢٧] فرياً: الفَرْيُ للجلد: تقطيعه، والأمر الفري: الذي يقطع معتاداً عند الناس فليس له مثيل، أو من الفِرْية وهو تعمد الكذب.
ثم قالوا لها: ﴿ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ﴾
وقوله: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ﴾ [مريم: ٢٨] الرجل السوء هو الذي إنْ صحبْتَه أصابك منه سوء، ونالك بالأذى ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٨] قلنا: إن البَغيَّ: هي المرأة التي تبغي الرجال وتدعوهم إليها، فالمراد: من أين لك هذه الصفة، وأنت من أسرة خَيِّرة صالحة؟
وفي هذا دليل على أن نَضْج الأُسَرِ يؤثر في الأبناء، فحين نُكوِّن الأسرة المؤمنة والبيت الملتزم بشرع الله، وحين نحتضن الأبناء ونحوطهم بالعناية والرعاية، فسوف نستقبل جيلاً مؤمناً واعياً نافعاً لنفسه ولمجتمعه.
إذن: فقولهم: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٨] اتهام صريح لمريم، وتأكيد على أنها وقعتْ في محظور وكأنهم مصرون على رَمْيها بالفاحشة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ﴾
فلما أشارتْ إليه تقول لقومها: اسألوه، تعجَّبُوا: {قَالُواْ كَيْفَ
والمهد: هو المكان الممهد المعَدّ لنوم الطفل، لأن الوليد لا يقدر أن يبعد الأذى عن نفسه، فالكبير مثلاً يستطيع أنْ يُمهد لنفسه مكان نومه، وأن يُخرِج منه ما يُؤرِّق نومه وراحته، وعنده وَعْي، فإذا آلمه شيء في نومه يستطيع أنْ يتحلَّل من الحالة التي هو عليها، وينظر ماذا يؤلمه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله﴾
لذلك كانت أو كلمة نطق بها ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله﴾ [مريم: ٣٠] فالمعجزة التي جاءتْ بي لا تمنع كَوْني عبداً لله؛ لذلك لو سألتَ الذين يعتقدون في عيسى عليه السلام أنه إله أو شريك للإله: إنكم تقولون أنه تكلّم في المهد، فماذا قال؟ فلا يعترفون بقوله أبداً؛ لأن قوله ونُطْقه: ﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾ [مريم: ٣٠] ينفي معتقدهم من أساسه.
ليس هذا وفقط، بل: ﴿آتَانِيَ الكتاب﴾ [مريم: ٣٠] لكن كيف
﴿وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: ٣٠] فسلوكي سلوك قويم، ولا يمكن أن يكون فيَّ مطعَنٌ بعد ذلك، وإنْ كان هناك مطعن فهو بعيد عني، ولا ذنبَ لي فيه.
ثم يقول: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ﴾
ثم يقول: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي﴾
ذلك لأنه هو نفسه الدليل، وهو نفسه الشاهد على براءة أمه، والدليل لا يُشكِّك في المدلول، فكأنه يقول للقوم: إياكم أنْ تظنوا أني سأتجرأ على أمي، أو يخطر ببالي خاطر سوء نحوها.
ثم يقول: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ [مريم: ٣٢] فنفى عن نفسه صفة الجبروت والقسوة والتعاظم؛ لأن الرسول لابُدَّ أنْ يكون ليِّنَ الجانب رفيقاً بقومه؛ لأنه أتى ليُخرِج الناس مِمَّا ألِفُوه من الفساد إلى ما يثقل عليهم من الطاعة.
والإنسان بطبعه حين يألَف الفساد يكره مَنْ يُخرِجه عن فساده، فمن الطبيعي أن يتعرّض النبي لاستفزاز القوم وعنَادهم ومكابرتهم، فلو لم يكُنْ ليِّن الجانب، رقيق الكلمة، يستميل الأذن لتسمع والقلوب لتعي ما صلح لهذه المهمة.
لذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى نبيه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩].
ومعنى ﴿شَقِيّاً﴾ [مريم: ٣٢] أي: عاصياً، وما أبعدَ مَنْ هذه صفاته عن معصية الله التي يشقى بسببها الإنسان.
ثم يقول تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال: ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ﴾
قوله: ﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ﴾ [مريم: ٣٣] لأن يوم مولده مَرَّ بسلام، رغم ما فيه من عجائب، فلم يتعرَّض له أحد بسوء، وهو الوليد الذي جاء من دون أب، وكان من الممكن أنْ يتعرّض له ولأمه بعض المتحمسين الغيورين بالإيذاء، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ومَرَّ الميلاد بسلام عليه وعلى أمه.
﴿وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ [مريم: ٣٣] لأنهم أخذوه ليصلبوه، فنجّاه الله من أيديهم، وألقى شبهه على شخص آخر، ورفعه الله تعالى إلى السماء.
﴿وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣] فليس هناك من الرسل مَنْ سيسأل هذه الأسئلة، ويناقش هذه المناقشة التي نُوقِشها عيسى في الدنيا:
﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ [المائدة: ١١٦١١٧].
وليس هذا قَدْحاً في مكانة عيسى عليه السلام؛ لأن ربَّه تبارك وتعالى يعلم أنه ما قال لقومه إلا ما أُمِرَ به، ولكن أراد سبحانه توبيخ القوم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، فوجْه السلام في يوم ﴿أُبْعَثُ حَيّاً﴾ [مريم: ٣٣] أنه نُوقِش في الدنيا وبُرّئتْ ساحته.
أو: يكون المراد بقول الحق كلمة (كُنْ) التي بها يتمّ الخَلْق.
ثم يقول تعالى: ﴿الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ﴾ [مريم: ٣٤] من المراء: وهو الاختلاف والجدال بالباطل، فالحق سبحانه يعلم أنهم سيشكُّون فيه، ويتجادلون بالباطل، وأنهم سيقولون فيه الأقاويل، وكأن الله تعالى يقول لهم: اتركوا هذه الأقاويل والأباطيل في شأن عيسى وخُذُوا بما أخبرتُكم به من خبره، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ﴾
قالوا: لأن مسألة الشريك لله تعالى تُنفَى بأولية العقل، فإنْ كان
لذلك نفى مسألة الولد؛ لأنها ذات أهمية خاصة بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام؛ لأن الولد من الممكن أنْ يُستبعَد فيه الدليل، لماذا؟ لأن دليله اتخاذُ الولد أو حُبُّ الولد، والإنسان يحب الولد ويسعى إليه، لماذا؟
قالوا: لأن الإنسان ابْنُ دنياه، وهو يعلم أنه ميت ميت، فيحبّ أن يكون له امتداد في الدنيا وذِكْر من بعده، فالإنسان يتمسّح في الدنيا حتى بعد موته، وهو لا يدري أن ذِكْر الإنسان لا يأتي بعده، بل ذِكْره يسبقه إلى الآخرة بالعمل الصالح.
إذن: فحبُّ الولد هنا لاستدامة استبقاء الحياة، وهذا مُحَال في حَقِّ الله تبارك وتعالى؛ لأنه الباقي الذي لا يزول.
وقد يتخذ الولد ليكون عِزْوة لأبيه وسَنداً ومُعِيناً، وهذا دليل الضَّعْف، والحق سبحانه هو القويّ الذي لا يحتاج إلى معونة أحد. إذن: فاتخاذ الولد أمر منفيّ عنه تبارك وتعالى، فهو أمر لا يليق بمقام الألوهية، ويجب أنْ تُنزِّه الله تعالى أن يكون له ولد؛ لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ [مريم: ٣٥].
وسبحان تدل على التنزيه المطلق لله تعالى تنزيهاً له في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فهو سبحانه ليس كمثله شيء، وإنْ
وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم، ووجوده تعالى لم يُسبَق بعدم ولا يلحقه العدم، فعليك إذن أن تقول في مثل هذه المسائل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير﴾ [الشورى: ١١].
والمتتبع لمادة (سَبَّح) في القرآن الكريم يجد أنها جاءت بكل الصِّيَغ:
الماضي: ﴿سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ [الحديد: ١].
والمضارع: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١].
والأمر في: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ [الأعلى: ١].
فما دام الكون كله سبَّح لله، ولم ينقطع عن تسبيحه، بل ما زال مُسبِّحاً، فلما خلق الخلق أمرهم بالتسبيح؛ لأنهم جزء من منظومة الكون المسبّح، وعليهم أنْ ينتظموا معه، ولا يكونوا نشازاً في كون الله.
أما المصدر (سبحان) فقد جاء ليدل على التنزيه المطلق لله تعالى، حتى قبل أن يخلق الخَلْق، التنزيه ثابت له تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُنزِّهه كما في قوله تعالى:
﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١].
لأن المسألة عجيبة وفوق إدراك العقل، فقد جاء بالمصدر (سبحان) الدالّ على التنزيه المطلَق لله، كأنه تعالى يُحذّر الذين
ثم يقول تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [مريم: ٣٥] ذلك لأن الآية في خَلْق عيسى عليه السلام مخالفة للنواميس كلها، وخارقة للعادة التي أَلِفها الناس، فإياك أنْ تتعجب من فِعْل الله تعالى في يحيى، حيث جاء به مع عطب الآلات، أو تتعجب من خَلْق عيسى حيث جاء به مع نقص الآلات.
وإياك أنْ تتعَجَّب من كلام عيسى وهو في المهد صَبِياً، فهي أمور نعم خارقة للعادة وللنواميس، فخُذْها في إطار (سبحانه) وتنزيهاً له؛ لأنه تعالى إذا أراد شيئاً لا يعالجه بعمل ومُزاولة، وإنما يعالجه (بكُنْ) فيكون.
ولا تظن أن خَلْق الأشياء متوقف على هذا الأمر (كُنْ)، فإن كان الفعل مُكوّناً من (كاف) و (نون) فقبل أن تنطق النون يكون الشيء موجوداً، لكن (كُنْ) هو أقصر ما يمكن تصوِّره لنا، والحق سبحانه يخاطبنا بما يُقرِّب هذه المسألة إلى عقولنا، وإلا فإرادته سبحانه ليستْ في حاجة إلى قول (كُنْ) فما يريده الله يكون بمجرد إرادته.
كما أنك لو أمعنتَ النظر في قوله تعالى: ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [مريم: ٣٥] تجد (يقُولُ لَهُ) أي: للشيء، فكأن الشيء موجود بالفعل، موجود أزلاً، فالأمر بكُنْ ليس لإيجاده من العدم، بل لمجرد إظهاره في عالم الواقع.
فالمعنى: ما دام أن الله تعالى ربي وربكم، والمتولّي لتربيتنا جميعاً، فلا بُدَّ أن يُربّى لكم مَنْ يصلحكم؛ لأنه تعالى لا يخاطبكم مباشرة، بل سيبعثني إليكم أبلغكم رسالته، وأدعوكم إلى عبادته وحده لا شريك له، وما دام الله ربي وربكم فمن الواجب أنْ تُطيعوه ﴿فاعبدوه﴾ [مريم: ٣٦] والعبادة أنْ يطيعَ العابدُ معبوده في أوامره وفي نواهيه. كما قال تعالى: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله﴾ [البينة: ٥].
ثم يقول تعالى: ﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [مريم: ٣٦] أي: الذي لا التواءَ فيه ولا اعوجاجَ، وهو الطريق الذي يُوصِّلك لمقصودك من أقرب طريق، وبأقلّ مجهود، ومعلوم أن الخط المستقيم هو أقرب طريق بين نقطتين.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾
والأحزاب: جمع حِزْب، وهم طائفة من الناس اجتمعوا حول مبدأ من المبادىء، ورأْي مَن الآراء يدافعون عنه ويعتقدونه، ويسيرون في حياتهم على وفقه، ويُخضِعون حركة حياتهم لخدمته.
ومعنى: ﴿مِن بَيْنِهِمْ﴾ [مريم: ٣٧] يعني من داخل المؤمنين به ومن أتباع عيسى أنفسهم، فالذين قالوا عنه هذه الأباطيل ليسو من أعدائه، بل من المؤمنين به.
وهكذا اختلف القوم في أمر عيسى، وكان لكل منهم رَأْي، وجميعها مُنَافِية للصواب بعيدة عن الحقيقة؛ لذلك توعّدهم الخالق سبحانه بقوله: ﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: ٣٧].
فقد قلتم في عيسى ما قُلْتم في الدنيا، وخُضْتم فيه بما أحببتُمْ من القول؛ لأن الله تعالى جعل إرادتكم نافذة على جوارحكم، وأعطاكم حرية الفعل والاختيار، فوجَّهتم جوارحكم واخترتم ما يُغضب الله، فكأن عقوبة الدنيا لا تناسب ما فعلوه، ولابُدَّ لهم من عقوبة آجلة في الآخرة تناسب ما حدث منهم في حَقِّ نبيهم وفي حَقِّ ربهم تبارك وتعالى.
﴿فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [مريم: ٣٧] ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة، يوم تُبْلَى السرائر، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
وسماه المشهد العظيم؛ لأنه يوم مشهود يشهده الجميع؛ لأن العذاب في الدنيا مثلاً لا يشهده إلا الحاضرون المعاصرون، ولا يشهده
وربما كان بعض العذاب أهونَ من رؤية الغير للإنسان وهو يُعذِّب، فربما تحمَّل هو العذاب في نفسه أما كونه يُعذَّب على مرأىً من الناس جمعياً، ويرونه في هذه المهانة وهذه الذلة وقد كان في الدنيا عظيماً أو جباراً أو عاتياً أو ظالماً، لا شكَّ أن رؤيتهم له في هذه الحالة تكون أنكَى له وأبلغ.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنهم في آية أخرى: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ [الأنعام: ٢٧] هذا منهم مجرد كلام: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ [الأنعام: ٢٨] أي: ظهر لهم ما كانوا يخفون ولم يقُلْ يخفَى عنهم، كأنهم كانوا يعلمون عنه شيئاً ولكنهم أخفوْه.
وقال عنهم: ﴿وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ١٢].
فلماذا أبصروا وسمعوا الآن؟ لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وَعْي، فينكرون ويُبصرون آيات الله في الكون ولا يؤمنون، أما في الآخرة فقد انكشفتْ لهم الحقائق التي طالما أنكَروها، ولم يَعُدْ هناك مجال للمكابرة أو الإنكار؛ لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾
وقوله: ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: ٣٨] أي: أسمع بهم وأبصر بهم في هذا اليوم يوم القيامة، والإنسان بحكم خَلْق الله تعالى له، واستخلافه في الأرض جعل له السيطرة على جوارحه فهو يأمرها فتطيعه، فجوارح الإنسان وطاقاته مُسخّرة لإرادته، فلسانك تستطيع أنْ تنطقَ ب لا إله إلا الله. كما تستطيع أن تقول: لا إله أو تقول: الله ثالث ثلاثة. واللسان مِطْواع لك لا يعصاك في هذه أو تلك، وما أعطاك الله هذه الحرية وكفَل لَك الاختيار إلا لأنه سيحاسبك عليها يوم القيامة: أأردتَ الخير الذي وجَّهك إليه أم أردتَ الشر الذي نهاك عنه؟
أما يوم القيامة فتنحلّ هذه الأرادة، ويبطل سلطانها على الجوارح في يوم يُنادِي فيه الحق تبارك وتعالى: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦] يومها ستشهد الجوارح على صاحبها، وكما قال الحق سبحانه تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤].
ويقول تعالى: ﴿وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: ٢١].
لم لا؟ وقد تحررتْ الجوارح من قَيْد الإرادة، وجاء الوقت لتشتكي
وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك بمجموعة من الجنود يسيرون تحت إمْرة قائدهم المباشر، ويأتمرون بأمره، ويطيعونه طاعة عمياء، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى انطلقتْ ألسنتُهم بالشكوى من تعسُّف قائدهم وغَطْرسته.
ثم يقول تعالى: ﴿لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [مريم: ٣٨] فيا ليتهم فهموا هذه المسألة، لكنهم ظلموا، وما ظلموا إلا أنفسهم، فالله تبارك وتعالى لا يضره كفر الكافرين، ولا ينقص من مُلْكه تعالى وسلطانه، لكن كيف يظلم الإنسان نفسه؟
يظلم الإنسان نفسه؛ لأنه صاحب عَقْل واعٍ يستقبل الأشياء ويميزها، وصاحب نفس شهوانية تصادم بشهواتها العاجلة هذا العقل الواعي، وتصادم المنهج الربّاني الذي يأمرها بالخير وينهاها عن الشر، هذه النفس بشهواتها تدعو الإنسان إلى مرادها وتوُقِعه في المتعة الوقتية واللذة الفانية التي تستوجب العذاب وتُفوِّت عليه الخير الباقي والنعيم الدائم.
لذلك يقول تعالى: ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة﴾
لذلك سيقول الكفار يوم القيامة: ﴿ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾ [الأنعام: ٣١].
والمعنى: يا حسرتنا تعالَىْ فهذا أوانك، واحضري فقد فاتتْ الفرصة إلى غير رجعة. إذن: فيوم الحسرة هو يوم القيامة، حيث لن يعود أحدٌ ليتدارك ما فاته من الخير في الدنيا، وليتَ العقول تعي هذه الحقيقة، وتعمل لها وهي ما تزال في سَعَة الدنيا.
ومعنى: ﴿إِذْ قُضِيَ الأمر﴾ [مريم: ٣٩] أي: وقع وحدث، ولا يمكن تلافيه، ولم يَعُدْ هناك مجال لتدارُكِ ما فات؛ لأن الذي قضى هذا الأمر وحكم به هو الله تبارك وتعالى الذي لا يملك أحدٌ ردَّ أمرِه أو تأخيره عن موعده أو مناقشته فيه، فسبحانه، الأمر أمره، والقضاء قضاؤه، ولا إله إلا هو.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أن الله حينما يُدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ، ويُدخِل أهلَ النارِ النار يأتي بالموت على هيئة كبش، فيقول للمؤمنين: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم هو الموت جاءنا وعرفناه، ويقول للكفار: أتعرفون هذا؟ يقولون: عرفناه، فيميت
وهكذا قضى اللهُ الأمرَ ليقطع الأمل على الكفار الذين قد يظنُّون أن الموت سيأتي ليُخرجهم مما هُمْ فيه من العذاب ويريحهم، فقطع الله عليهم هذا الأمل وآيسهم منه، حيث جاء بالموت مُشخّصاً وذبحه أمامهم، فلا موتَ بعد الآن فقد مات الموت.
لذلك يخبر عنهم الحق تبارك وتعالى: ﴿وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧].
ثم يقول تعالى: ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: ٣٩].
الغفلة: أن يصرف الإنسان ذِهْنه عن الفكر في شيء واضح الدليل على صحته؛ لأن الحق تبارك وتعالى ما كان لِيُعذّب خَلْقه إلا وقد أظهر لهم الأدلة التي يستقبلها العقل الطبيعي فيؤمن بها.
فالذي لا يؤمن إذن: إما غافل عن هذه الأدلة أو متغافل عنها أو جاحد لها، كما قال سبحانه: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: ١٤].
ومن الغفلة غفلتهم عن الموت، وقد قالوا: من مات قامت قيامته.
ومن حكمة الله أنْ أبهم الموت، أبهمه وقتاً، وأبهمه سبباً،
فالطفل يموت وهو في بطن أمه، ويموت بعد يوم، أو أيام من ولادته، ويموت بعد مائة عام، ويموت بسبب وبدون سبب، وقد نتعجَّب من موت أحدنا فجأة دون سبب ظاهر، فلم تصدمه سيارة، ولم يقع عليه جدار أو حجر، ولم يداهمه مرض، فما السبب؟ السبب هو الموت، إنه سيموت، أي أنه مات لأنه يموت، كما يقال: والموت من دون أسباب هو السبب.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض﴾
لذلك، فالذين اغترُّوا بنعم الله في الدنيا فظنوا أن لهم مثْلها في الآخرة، فقال أحدهم: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ [الكهف: ٣٦] نقول له: لا، صحيح ستُردّ إلى ربك، لكن لن يكون لك عنده شيء؛ لأن الذي ملّكك في الدنيا ملّكك من باطن مِلكيته تعالى، فإذا ما جاءت الآخرة كان هو الوارث الوحيد.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ﴾
﴿واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ﴾ [مريم: ٤١].
فهو أبو الأنبياء وقمتهم؛ لأن الله تعالى مدحه بقوله:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠].
فليس هناك فرد يحتوي على خصال الكمال ومواهب الفضل كلها، لكن المجموع يحتويها فهذا شجاع قوي البنية، وهذا ذكي، وهذا حادّ البصر، وهذا نابغ في الطب، وهذا في الزراعة، مواهب متفرقة بين البشر، لا يجمعها واحد منه، فلا طاقته ولا حياته ولا مجهوده يستطيع أن يكون موهوباً في كل شيء، فالكمال كله مُوزّع في الخَلْق، إلا إبراهيم، فقد كان عليه السلام يساوي في مواهبه أمةً بأكملها.
وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ [مريم: ٤١] صِدّيق: من مادة صدق، ومعناها: تكلّم بواقع؛ لأن الكذب أنْ يتكلّم بغير واقع. وهذا يُسمَّى: صادق في ذاته، أما قولنا: صِدِّيق أي: مبالغة في الصدق،
بالله، أي أم يمكن أن تُصدِّق هذا الكلام، وتنصاع لهذا الأمر؟ وكيف تُنجِّي ولدها من شر أو موت مظنون بموت مُحقَّق؟
إذن: فهذا كلام لا يُصدَّق، وفوق نطاق العقل عند عامة الناس، أما في موكب الرسالات فالأمر مختلف، فساعة أنْ سمعتْ أم موسى هذا النداء لم يساورها خاطر مخالف لأمر الله، ولم يراودها شَكٌّ فيه؛ لأن وارد الله عند هؤلاء القوم لا يُعارض بوارد الشيطان أبداً، وهذه قضية مُسلَّمة عند الرسل.
إذن: الصِّدِّيق هو الذي بلغ الغاية في تصديق الحق، فيورثه الله شفافية وإشراقاً بحيث يهتدي إلى الحق ويُميّزه عن الباطل من أول نظرة في الأمر ودون بحث وتدقيق في المسألة؛ لأن الله تعالى يهبُكَ النور الذي يُبدّد عندك غيامات الشك، ويهبك الميزان الدقيق الذي تزنُ به الأشياء، كما قال سبحانه: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: ٢٩].
ومن هنا سُمِّي أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه صِدِّيقاً، ليس لأنه صادق في ذاته، بل لأنه يُصدِّق كل ما جاءه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج الذي كذَّب به كثيرون، ماذا قال؟ قال: «إنْ كان قال فقد صدق».
والسيدة مريم قال عنها الحق تبارك وتعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة: ٧٥] فسماها صديقة؛ لأنها صدَّقتْ ساعة أنْ قال لها الملَك: ﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾ [مريم: ١٩].
فوثقتْ بهذه البشارة، وأخذتْها على أنها حقيقة واقعة، فلما جاء الوليد أشارت إليه وهي على ثقة كاملة ويقين تام أنه سينطق ويتكلم.
إذن: فالصِّديق ليس هو الذي يَصدُق، بل الذي يُصدِّق. وهكذا كان خليل الله إبراهيم (صديقاً) وكان أيضاً (نبياً) لأن الإنسان قد يكون صديقاً يعطيه الله شفافية خاصة، وليس من الضروري أن يكون نبياً، كما كانت مريم صِدِّيقة وأبو بكر صِدِّيقاً، فهذه إذن صفة ذاتية إشراقية من الله، أما النبوة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى، وهُدى يأتي من السماء يحمل النبي مسئوليته؟.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت﴾
إذن: فأصول النبي إلى آدم «طاهر متزوج طاهرة»، فلو قلنا: إن آزر الذي قال الله في حقه: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤] هو أبو إبراهيم، لكَانَ في ذلك تعارض مع الحديث النبوي، فكيف يكون من آباء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل هذا الكافر؟
ولو تأملنا إطلاقات الأُبوّة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الإشكال، فالقرآن تكلم عن الأبوة الصُّلْبية المباشرة، وتكلم عن الأُبوة غير المباشرة في الجد وفي العم، فسمَّى الجد أباً، والعم أباً؛ لأنه يشترك مع أبي في جدي، فله واسطة استحق بها أن يُسمَّى أباً. وفي القرآن نصَّان: أحدهما: يُطلِق على الجد أباً، والآخر يُطلِق على العم أباً.
فالأول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلام:
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦].
فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم؛ لأنهم رأوه من المحسنين،
فلما قالوا له ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٣٦] علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته، وكيف سلوكه بينهم، فأراد أنْ يزيدهم مما عنده من إشراقات، فأمْره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة حسنة بينهم، بل عنده أشياء أخرى، فقال: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا﴾ [يوسف: ٣٧].
ثم ترك الإجابة عن سؤالهم، وأخذ في الحديث فيما يخصّه كنبيّ وداعية إلى الله، فأخبرهم أن ما عنده من مواهب هو عطاء من الله، وليس هو بأذكى منهم، فقال: ﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [يوسف: ٣٧٣٨].
ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلان ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء، فهاهم يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له رَبٌّ واحد:
﴿ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار﴾ [يوسف: ٣٩].
وهكذا كان يوسف النبي الداعية حريصاً على نَشْر دعوته وهداية مَنْ حوله، حتى وهو في سجنه ما نسِيَ مهمته، وما قصَّر في دعوته، فلما فرغ من موعظته واستطاع بلباقة أنْ يُسمعِهم ما يريد، وإلاّ لو أجابهم عن سؤالهم من بداية الأمر لانصرفوا عن هذه الموعظة، وما أعاروها اهتماماً.
والآن يعود إلى سؤالهم وتفسير رؤياهم: {أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي
شَاهِدُنا في هذه القصة هو قوله تعالى: ﴿واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ [يوسف: ٣٨] ويوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، فسمَّى الأجداد آباءً.
وقد يُسمَّى العَمُّ أباً، كما جاء في قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣] فعَدَّ إسماعيلَ في آباء يعقوب، وهو عَمَّه.
إذن: لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال (لأبيه) في كل الآيات لا نصرف المعنى إلى الأُبوة الصُّلْبية الحقيقية، أما أنْ يقول ولو مرة واحدة ﴿لأَبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] فهذا يعني أن المراد عمه؛ لأنه لا يُؤتي بالعَلَم بعد الأبوة إلا إذا أردنا العم، كما نقول نحن الآن حين نريد الأبوة الحقيقية: جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية، وفي الأبوة غير الحقيقية نقول: جاء أبوك فلان.
وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى: ﴿لأَبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] مرة واحدة، ليثبت لنا أن آزر ليس هو الأب الصُّلْبي لإبراهيم، وإنما هو عَمَّه، وبذلك يسْلَم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طهارة نسبه ونقاء سِلْسلته إلى آدم عليه السلام.
وقوله: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدَبُ الدعوة، حيث قدَّم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يُشعِر أباه بالنقص، أو يُظهِر له أنه أعلم منه.
﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] نلحظ أنه لم يقُلْ من البداية: لِمَ تعبد الشيطان، بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة، وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته، وأبان عناصره، وكشف عن حقيقته: لا يسمع ولا يبصر، ولا يُغني عنك شيئاً، فهذه الصفات لا تكون في المعبود، وهي العِلَّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان، وخصوصاً في بيئة إبراهيم عليه السلام وكانت مليئة بالأوثان والأصنام.
لأن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في أَمْره ونَهْيه، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر، بماذا أمرتْهم هذه المعبودات؟ وعن أيِّ شيء نهتْهُم؟ وماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمنْ عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقَّ العبادة؟ لا يوجد شيء من هذا كله، إذن: فعبادتهم باطلة.
وقوله: ﴿إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم: ٤٣] أي: لا تظن يا أبي أنِّي متعالم عليك، أو أَنِّي أفضل، أو أذكى منك، فهذا الكلام ليس من عندي، بل من أعلى مني ومنك، فلا غضاضةَ في سماعه والانصياع له، وهو رسالة كُلِّفْتُ بإبلاغك إياها، وهذا الذي جاءني من العلم لم يأتِكَ أنت، وهذا اعتذار رقيق من خليل الله، فالمسألة ليستْ ذاتية بين ولد وعمه، أو ولد وأبيه، إنها مسألة عامة تعدَّتْ حدود الأُبُوة والعمومة.
ولذلك لما تحدَّثْنا في سورة الكهف عن قصة موسى والخضر عليهما السلام، قلنا: إن العبد الصالح التمس لموسى عُذْراً؛ لأنه تصرَّف بناءً على علم عنده، ليس عند موسى مثله، فقال له: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ [الكهف: ٦٨] وكذلك قال إبراهيم لأبيه حتى لا تأخذه العِزّة، ويأنف من الاستماع لولده.
ثم يقول: ﴿ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾
قالوا: لأن الشيطان هو الذي يُسوِّل عبادة الصنم أو الشجر أو الشمس أو القمر، فالأمر مردود إليه وهو سببه، إلا أن إبراهيم عليه السلام حَلَّل المسألة المباشرة؛ لأن أباه يعبد صنماً لا يسمع ولا يُبصر، ولا يُغني عنه شيئاً، وهذا بشهادتهم أنفسهم، كما جاء في قوله تبارك وتعالى: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء: ٧٢٧٣].
فهذا استفهام، ولا يستفهم مُستفهِم مجادل ممَّن يجادله عن شيء، إلا وقد عَلِم أن الجواب لا بُدَّ أن يكون في صالحه؛ لأنه ائتمنه على الجواب. إذن: فعبادة ما دون الله مردُّها إلى إغواء الشيطان.
ثم يقول: ﴿ياأبت إني أَخَافُ﴾
ثم يقول: ﴿فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾ [مريم: ٤٥] أي: قريباً منه، وتابعاً له يصيبك من العذاب مَا يصيبه، وتُعذّب كما يُعذّب.
وهكذا انتهتْ هذه المحاورة التي احتوتْ أربعة نداءات حانية، وجاءت نموذجاً فريداً للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فراعتْ مشاعر الأب الذي يدعوه ولده ويُقدِّم له النُّصْح، ورتبت الأمور ترتيباً طبيعياً، وسَلْسَلَتْها تسلْسُلاً لطيفاً لا يثير حفيظة السامع ولا يصدمه.
وقد راعى الحق تبارك وتعالى جوانب النفس البشرية فأمر أنْ تكونَ الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا تجمع على المدعو قسوة الدعوة، وقسوة أنْ يترك ما أَلِف، ويخرج منه إلى ما لم يألف.
وما أشبه الداعية في هذا الموقف بالذي يحتال ليخلص الثوب الحرير من الأشواك، أما إنْ نهرته وقسوْتَ عليه فسوف يُعرض عنك وينصرف عن دعوتك، ويظلّ على ما هو عليه من الفساد؛ لذلك قال تعالى: ﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥].
ويقولون: النصح ثقيل فلا تُرسِلْه جبلاً، ولا تجعله جدلاً، وقالوا: الحقائق مُرّة فاستعيروا لها خِفّة البيان.
وبعد أنْ أنهى إبراهيم مقالته يرد الأب قائلاً: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي﴾
ونلاحظ أن الفعل رَغِب لم يأْتِ مقترناً بعده بفي إلا مرة واحدة،
والرغبة في الشيء تعني حُبه وعِشْقه، والرغبة في الطريق الموصّل إليه، إلا أنك لم تسلك هذا الطريق بالفعل، ولم تأخذ بالأسباب التي تُوصّلك إلى ما ترغب فيه، وهذا المعنى واضح في قصة أصحاب الجنة في سورة (ن) حيث يقول تعالى:
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم﴾ [القلم: ١٧٢٠].
فقد اتفقوا على قَطْف ثمار بستانهم في الصباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، فدمّرها الله وأهلكها وهم نائمون، وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم:
﴿لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ﴾ [القلم: ٢٤].
وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حَرَمُوا المسكين ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [القلم: ٢٦٢٧] ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ، وعادوا إلى صوابهم فقالو: ﴿عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾ [القلم: ٣٢].
أي: راغبون في الطريق الموصّل إليه تعالى، فقبل أنْ تقول: أنا راغب في الله. قل: أنا راغب إلى الله، فالمسألة ليست حُباً فقط بل
وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ [التوبة: ٥٨] أي: يعيبك في توزيعها ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: ٥٨] فهم إذن لا يحبون الله، وإنما يحبون العطاء والعَرَض الزائل، بدليل أنهم لما مُنِعُوا سخطوا وصرفوا نظرهم عن دين الله كمَنْ قال الله فيهم:
﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ﴾ [الحج: ١١].
لذلك يُعدِّل لهم الحق سبحانه سلوكهم، ويرشدهم إلى المنهج القويم: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾ [التوبة: ٥٩] أي: آخذين الوسيلة الموصِّلة إليه، فالذي يرغب في حب الله عليه أنْ يرغبَ في الطريق الموصّل إليه.
ثم يقول أبو إبراهيم: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم: ٤٦] أي: تترك هذه المسألة التي تدعو إليها. والرجْم: هو الرمي بالحجارة، ويبدو أن عملية الرجم كانت طريقة للتعذيب الشديد، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ﴾ [الكهف: ٢٠].
﴿واهجرني مَلِيّاً﴾ [مريم: ٤٦] أي: ابتعد عني وفارقني ﴿مَلِيّاً﴾ [مريم: ٤٦] المليّ: البُرْهة الطويلة من الزمن. ومنها الملاوة: الفترة الطويلة من الزمن، والملوَان: الليل والنهار.
لكن السلام منِّي أنا لا يكفي، فلا بُدَّ أنْ يكونَ لك سلاماً أيضاً من الله تعالى؛ لأنك وقعت في أمر خطير لا يُغفر ويستوجب العذاب، وأخشى ألاّ يكونَ لك سلام من الله.
لذلك قال بعدها: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي﴾ [مريم: ٤٧] كأنه يعتذر عن قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكَ﴾ [مريم: ٤٧] فأنا ما قُلْتُ لك: سلام عليك إلا وأنا أنوي أن أستغفرَ لك ربي، حتى يتمّ لك السلام إنْ رجعتَ عن عقيدتك في عبادة الأصنام، وهو بذلك يريد أنْ يُحنِّنه ويستميل قلبه.
ثم أخبر عن الاستغفار في المستقبل فلم يقُلْ استغفرتُ، بل ﴿سَأَسْتَغْفِرُ﴾ [مريم: ٤٧] يريد أنْ يُبرىء استغفاره لعمه من المجاملة والنفاق والخداع، وربما لو استغفرتُ لك الآن لظنِنتُ أنِّي
ثم يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ [مريم: ٤٧] يريد أنْ يُطمئِن عمه إلى أن له منزلة عند الله، فإذا استغفر له ربه فإنه تعالى سيقبل منه.
وحَفياً: من الفعل حَفِيَ يَحْفيَ كرَضِي يرضى، ويأتي بعده حرف جر يُحدِّد معناها. تقول: حفيٌّ به: أي بالغٍ في إكرامه إكراماً يستوعب متطلبات سعادته، وقابله بالحفاوة: أي بالإكرام الذي يتناسب مع ما يُحقِّق له السعادة.
وهذا أمر نسبيّ يختلف باختلاف الناس، فمنهم مَنْ تكون الحفاوة به مجرد أنْ تستقبلَه ولو على حصيرة، وتُقدِّم له ولو كوباً من الشاي، ومن الناس مَنْ يحتاج إلى الزينات والفُرُش الفاخرة والموائد الفخمة ليشعر بالحفاوة به.
ونقول: حَفِيٌّ عنه: أي بالغ في البحث عنه ليعرف أخباره، وبلغ من ذلك مبلغاً شَقَّ عليه وأضناه، وبالعامية يقولون: وصلتُ له بعدما حفيتُ، ومن ذلك قوله تعالى عن الساعة: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] أي: كأنك معنيٌّ بالساعة، مُغْرم بالبحث عنها، دائم الكلام في شأنها.
إذن: المعنى: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ [مريم: ٤٧] أي: أن ربي يبالغ في إكرامي إكراماً يُحقِّق سعادتي، ومن سعادتي أن الله يغفر لك الذنب الكبير الذي تُصِرّ عليه، وكأنه عليه السلام يُضخِّم أمرينْ: يُضخِّم الذنب الذي وقع فيه عمه، وهو الكفر بالله، ويُعظِّم الرب الذي سيستغفر لعمه عنده ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾ [مريم: ٤٧].
وظَلَّ إبراهيم عليه السلام يستغفر لعمه كما وعده، إلى أنْ تبيَّن له أنه عدو لله فانصرف عند ذلك، وتبرأ منه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤].
ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه قال لقومه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾
لذلك، فالحق تبارك وتعالى يُعلِّم المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنْ أرادوا البحث في أمره صِدْقاً أو كذباً والعياذ بالله، أنْ يبحثوه مَثْنى أو فُرَادى، ولا يبحثوه بَحْثاً جماهيرياً غوغائياً؛ لأن العمل الغوغائي بعيد عن الموضوعية يستتر فيه الواحد في الجماعة، وقد يحدث ما لا تُحمد عُقباه ولا يعرفه أحد.
أسْمَعُ الشَّعْب دُيُونُ... كيْفَ يُوحُونَ إليْه
مَلأَ الجوَّ هِتافاً... بحياتيْ قاتِليْه
أثَّر البُهتانُ فيه... وَانْطلَي الزُّورُ عليْه
يَالَهُ مِنْ بَبَّغَاءٍ... عقلُه في أُذُنيْه
إذن: فالجمهرة لا تُبدي رأياً، ولا تصل إلى صواب.
يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
فبَحْث مثل هذا الأمر يحتاج إلى فرديْن يتبادلان النظر والفِكْر والدليل ويتقصيَّان المسألة، فإنْ تغلّب أحدهما على الآخر كان الأمر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب، أو يبحثه فرد واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول الله، وما هو عليه من أدب وخُلق، وكيف يكون مع هذا مجنوناً؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون؟ والذين قالوا عنه: ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر التابعين له؟
إذن: لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه، واستعرض الآراء المختلفة لاهتدى وحده إلى الصواب، فالاعتزال أمر مطلوب إنْ وجد الإنسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق لا نُؤصِّل الجدل والعناد في نفس الخَصْم.
أي: كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه البُقْعة إلى غيرها من أرض الله الواسعة، وكأن الحق تبارك وتعالى يُلفت نظرنا إلى أن الأرض كلها أرض الله، فأرض الله الواسعة ليست هي مصر أو سوريا أو ألمانيا، بل الأرض كلها بلا حواجز هي أرض الله، فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب إلى غيره لا يمنعه مانع، وهل يوجد هذا الآن؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾ [الرحمن: ١٠].
أي: الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام وهذا من المبادىء التي جعلها الخالق سبحانه للإنسانية، فلما استحدثَ الإنسانُ الحواجز والحدود، وأقام الأسوار والأسلاك ومنع الأنام من الحركة في أرض الله نشأ في الكون فساد كبير، فإنْ ضاق بك موضع لا تجد بديلاً عنه في غيره، وإنْ عِشْتَ في بيئة غير مستقيمة التكوين كتب عليك أنْ تشقى بها طوال حياتك.
ومسألة الاعتزال هذه، أو الهجرة من أرض الباطل، أو من بيئة لا ينتصر فيها الحق وردتْ في نصوص عِدَّة بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام منها قوله تعالى:
﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨٧١].
فترك إبراهيم الأرض التي استعصتْ على منهج الله إلى أرض أخرى، وهاجر بدعوته إلى بيئة صالحة لها من أرض الشام.
نعود إلى اعتزال إبراهيم عليه السلام للقوم، لا لطلب الرزق وسَعة العيش، بل الاعتزال من أجل الله وفي سبيل مبدأ إيماني يدعو إليه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [مريم: ٤٨] وأول ما نلحظ أن في هذه النص عدولاً، حيث كان الكلام عن العبادة: ﴿ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢]، ﴿ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان﴾ [مريم: ٤٤].
والقياس يقتضي أن يقول: وأعتزلكم وما تعبدون.. وأدعو ربي. أي: أعبده، إلا أنه عدل عن العبادة هنا وقال: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ﴾ [مريم: ٤٨] فلماذا؟
قالوا: لأن الإنسان لا ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إلا حين يستغني، فإنْ ألجأتْهُ الأحداث واضطرته الظروف لا يجد ملجأ
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [مريم: ٤٨].
إذن: استخدم الدعاء بدل العبادة؛ لأنني أعبد الله في الرخاء، فإنْ حدثتْ لي شِدَّةٌ لا أجد إلا هو أدعوه.
وقوله: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً﴾ [مريم: ٤٨] أي: عسى ألاَّ أكون شقياً بسبب دعائي لربي؛ لأنه تبارك وتعالى لا يُشقي مَنْ عبده ودعاه، فإنْ أردتَ المقابل فَقُلْ: الشقيُّ مَنْ لا يعبد الله ولا يدعوه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ﴾
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٢].
كأن الحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام.
ثم يتمنُّ الله على الجميع بأن يجعلَهم أنبياء ﴿وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾ [مريم: ٤٩] فليس الامتنان بأنْ وهب له إسحاق ومن بعده يعقوب، بل بأنْ جعلهم أنبياء، وهذه جاءت بشرى لإبراهيم، وكان حظّه أنْ يرعى دعوة الله حياً، ويطمع أنْ تكونَ في ذريته من بعده، وكانت هذه هي فكرة زكريا عليه السلام فكلهم يحرصون على الذرية لا للعزوة والتكاثر وميراث عَرَضِ الدنيا، بل لحمل منهج الله وامتداد الدعوة فيهم والقيام بواجبها.
انظر إلى قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] أي: حَمَّله تشريعات فقام بها على أتمِّ وجه وأدّاها على وجهها الصحيح، فلما علم الله منه
﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
فالظالمون لا يصلحون لهذه المهمة. فوعي إبراهيم عليه السلام هذا الدرس، وأخذ هذا المبدأ، وأراد أنْ يحتاط به في سؤاله لربه بعد ذلك، فلما دعا ربه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات﴾ [البقرة: ١٢٦] فاحتاط لأنْ يكونَ في بلده ظالمون، فقال: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر﴾ [البقرة: ١٢٦].
لكن جاء قياس إبراهيم هنا في غير محله، فعدَّل الله له المسألة؛ لأنه يتكلم في أمر خاص بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمنَ والكافر، والطائعَ والعاصي، فقد ضمن الله الرزق للجميع فلا داعي للاحتياط في عطاء الربوبية؛ لذلك أجابه ربه: ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير﴾ [البقرة: ١٢٦].
إذن: فهناك فارق بين العطاءين: عطاء الربوبية وعطاء الألوهية، والإمامية في منهج الله، فعطاء الربوبية رِزْق يُسَاق للجميع وخاضع للأسباب، فمَنْ أخذ بأسبابه نال منه مَا يريد، أما عطاء الألوهية فتكليف وطاعة وعبادة.
يقول تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠].
إذن: فعطاؤه تعالى في النبوات رحمةٌ أشاعها الله في ذرية إبراهيم.
وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً﴾ [مريم: ٥٠] أي: كلمة صدق وحق ثابت مطابق للواقع، ولسان الصِّدْق يعني مَدْحاً في موضعه، وثناءً بحق لا مجاملةَ فيه، والثناء يكون باللسان، وها نحن نذكر هذا الرْكب من الأنبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بالثناء الحسَن والسيرة الطيبة، ونأخذهم قدوة، وهذا كله من لسان الصدق، ويبدو أنها دعوةُ إبراهيم حين قال:
﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ [الشعراء: ٨٣٨٤].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿واذكر فِي الكتاب موسى﴾
فما من أمة حيَّرتْ الأنبياء، وآذتْهم كبني إسرائيل؛ لذلك كَثُرَ أنبياؤهم، والأنبياء أطباء القِيَم وأُسَاة أمراضها، فكثرتهم دليل تقشِّي المرض، وأنه أصبح مرضاً عُضَالاً يحتاج في علاجه لا لطبيب واحد، بل لفريق من الأطباء.
والبعض يظن أن قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ، كما نقول نحن ونقصُّ: كان يا ما كان حدث كذا وكذا، ولو كانت قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ لجاءتْ مرة واحدة. لكنها ليست كذلك؛ لأن الحكمة من قَصَّها على رسول الله كما قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: ١٢٠].
إذن: فالهدف من هذا القَصَص تثبيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في دعوته لقومه؛ لأنه سيتعرض لمواقف وشدائد كثيرة يحتاج فيها إلى تثبيت ومواساة وتسلية، فكلما جَدَّ بينه وبين قومه أمر قال له ربه: اذكر موسى حين فعل كذا وكذا، وأنت خاتم الرسل، وأنت التاج بينهم، فلا بُدَّ لك أنْ تتحمَّل وتصبر.
أما لو نزلت مثل هذه القصة مرة واحدة لكان التثبيت بها مرة واحدة، وما أكثر الأحداث التي تحتاج إلى تثبيت في حياة الدعوة.
ومما رأوا فيه تكراراً، وليس كذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلام طفلاً: ﴿عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ [طه: ٣٩] ونتساءل: متى تستعر العداوة بين عدوين؟ إنْ كانت العداوة من طرف واحد فإن الطرف الآخر يقابلها بموضوعية ودون لَدَدٍ في الخصومة إلى أنْ تهدأ العداوة بينهما، فهو عدو دون عداوة، فحينما يراه صاحب العداوة على هذا الخُلق يصرف ما في نفسه من عداوة له، كما قال تعالى:
﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤].
أمّا إنْ كانت العداوة بين عدوَّيْن حقيقيين: هذا عدو وهذا عدو، هنا تستعر العداوة، وتزكو نارها، ويحتدم بينهما صراع، ولا بُدَّ أنْ يصرَع أحدهما الآخر.
والحق تبارك وتعالى حينما تكلّم عن موسى وفرعون، جعل العداوة مرة من موسى في قوله تعالى:
﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨].
ومرة أخرى يُثبت العداوة من فرعون في قوله تعالى:
﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ [طه: ٣٩].
فالعداوة هنا من فرعون: إذن: فالعداوة من الطرفين، لذلك فالمعركة بينهما كانت حامية.
كذلك من المواضع التي ظنوا بها تكراراً قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ [القصص: ٧].
وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ [طه: ٣٨٣٩].
والمستشرقون أحدثوا ضجة حول هذه الآيات: لأنهم لا يفهمون أسلوب القرآن، وليست لديهم الملَكَة العربية للتلقِّي عن الله، فهناك فَرْق بين السياقين، فالكلام الأول: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾ [القصص: ٧] هذه أحداث لم تقع بعد، إنها ستحدث في المستقبل، والكلام مجرد إعداد أم موسى للأحداث قبل أنْ تقعَ.
أمّا المعنى الثاني فهو مباشر للأحداث وقت وقوعها؛ لذلك جاء في عبارات مختصرة كأنها برقيات حاسمة لتناسب واقع الأحداث:
﴿أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم﴾ [طه: ٣٩].
إذن: ليس في المسألة تكرار كما يدَّعي المغرضون؛ فكل منهما تتحدث عن حال معين ومرحلة من مراحل القصة.
ثم يقول تعالى: ﴿واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً﴾ [مريم: ٥١] من خَلّصَ شيئا من أشياء، أي: استخرج شيئاً من أشياء كانت مختلطة به، كما نستخلص مثلاً العطور من الزهور، فقد أخذت الجيد وتركت الرديء، وبالنسبة للإنسان نقول: فلان مُخلص لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة، وكل مَلَكَة من ملَكَاته، أو جهاز من أجهزته له مهمة يؤديها، إلا أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته، أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض الشوائب، فيحتاج الإنسان لأنْ يُخلِّص نفسه من هذه الشوائب.
فمثلاً، الحق تبارك وتعالى جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد، وهو بقاء النوع؛ لذلك تجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا بالعقل والاختيار إذا أدى كُلُّ من الذكر والأنثى هذه المهمة لا يمكن أنْ تُمكِّن الأنثى الذكر منها، وكذلك الذكر لا يأتي الأنثى إذا علم من رائحتها أنها حامل.
إذن: وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها، وهي حفظ النوع، لكن الإنسان لم يقف بهذه الغريزة عند حدودها، بل جعلها مُتعةً شخصية يأتي حِفْظ النوع تابعاً لها.
أما في الإنسان فالأمر مختلف تماماً، فيأكل الإنسان حتى الشِّبَع، ثم حتى التُّخْمة، ولا مانع بعد ذلك من الحلو والمشروبات وخلافه؛ لذلك وضع لنا الخالق سبحانه وتعالى المنهج الذي يُنظّم لنا هذه الغريزة، فقال تعالى: ﴿وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ [الأعراف: ٣١].
وفي الحديث الشريف: «بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه، فإن كان ولا بُدَّ فاعلاً، فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنفَسِه».
ومن الغرائز أيضاً غريزة حب الاستطلاع، فالإنسان يحب أن يعرف ما عند الآخر ليحدث بين الناس الترقي اللازم لحركة الحياة، ومعرفة أسرار الله في الكون، وهذا هو الحد المقبول أما أن يتحول حب الاستطلاع إلى التجسس وتتبّع عورات الآخرين، فهذا لا يُقبل ويُعَدُّ من شوائب النفوس، يحتاج إلى أنْ نُخلِّص أنفسنا منه.
إذن: لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألاَّ نخرج عنها، والمُخْلَص هو الذي يقف بغرائزه عند حَدِّها لا يتعدَّاها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها. وهذه الصفة إمّا أنْ يكرم الله بها العبد فيُخلِّصه من
لذلك، يقولون: من الناس مَنْ يصِل بطاعة الله إلى كرامة الله، ومن الناس مَنْ يصل بكرامة الله إلى طاعة الله. وقد جعل الله تعالى الأنبياء مخْلَصين من بدايتهم، ليكونوا جاهزين لهداية الناس، ولا يُضيِّعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها.
ألم يستمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثاً وعشرين سنة يُعلِّم الناس كيف يُخِلصون أنفسهم؟ فكيف إنْ كان النبي نفسه في حاجة لأنْ يُخلص نفسه؟
ولمكانة هؤلاء المخْلَصين ومنزلتهم تأدَّب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٢٨٣].
لأن هؤلاء لا يقدر إبليس على غوايتهم.
ثم يقول تعالى: ﴿وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ [مريم: ٥١] لأن من عباد الله مَنْ يكون مخْلَصاً دون أن يكون نبياً أو رسولاً كالعبد الصالح مثلاً؛ لذلك أخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه جمع له كل هذه الصفات.
والرسول: مَنْ أُوحي إليه بشرع يعمل به ويُؤْمَر بتبليغه لقومه، أما النبي، فهو مَنْ أُوحِي إليه بشرع يعمل به لكن لم يُؤْمَر بتبليغه. إذن: فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً؛ لأن النبي يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه.
إذن: فقوله: ﴿مِن جَانِبِ الطور الأيمن﴾ [مريم: ٥٢] أي: أيمن موسى، وهو مُقبل على الجبل، وهذه لقطة مختصرة من القصة جاءت مُفصَّلة في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً﴾ [القصص: ٢٩].
وقوله: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ [مريم: ٥٢] أي: قرَّبْناه لِنُنَاجيه بكلام. والنجيّ: هو المنَاجِي الذي يُسِرُّ القول إلى صاحبه، كما جاء في الحديث الشريف: «إذا كنتم ثلاثة فلا ينتاجَ اثنان دون الآخر، فإن ذلك يُحزِنه».
وقد قرَّب الله تعالى موسى ليناجيه؛ لأن هذه خصوصية لموسى عليه السلام، فكلام الله لموسى خاصٌّ به وحده لا يسمعه أحد غيره، فإنْ قلتَ: فكيف يكلّمه الله بكلام، ويسمى مناجاة؟ قالوا: لأنه
وبعض المفسرين يرى أن (الأيمن) ليس من اليمين، ولكن من اليُمْن والبركة. و ﴿وَقَرَّبْنَاهُ﴾ [مريم: ٥٢] أي: من حضرة الحق تبارك وتعالى. لكن هل حضرة الحق قُرْب منه، أم موسى هو الذي قَرُب من حضرة الحق سبحانه؟ كيف نقول إن الله قرب منه وهو سبحانه أقرب إليه من حبل الوريد، فالتقريب إذن لموسى عليه السلام.
وهكذا جمع الحق تبارك وتعالى لموسى عدةٍ خصال، حيث جعله مخلَصاً ورسولاً ونبياً، وخَصَّه بالكلام والمناجاة، ثم يزيده هِبةً أخرى في قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ﴾
والرِّدْء: هو المعين. وهكذا أعطانا الحق تبارك وتعالى لقطة سريعة من موكب النبوة في قصة موسى، ولمحة مُوجَزة هنا أتى تفصيلها في موضع آخر.
أما إسماعيل عليه السلام فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت، أمر يتعلق بنفسه، حين قال لأبيه: ﴿ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ [الصافات: ١٠٢].
وليت الأمر جاء مباشرة، إنما رآه غيره، وربما كانت المسألة أيسَر لو أن الولد هو الذي رأى أباه يذبحه، لكنها رُؤْيا رآها الأب، والرؤيا لا يثبت بها حكم إلا عند الأنبياء. فكان إسماعيل دقيقاً في إجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا الأمر: ﴿إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى﴾ [الصافات: ١٠٢].
فخاف إبراهيم عليه السلام أن يُقبل على ذَبْح ولده دون أن يخبره حتى لا تأتي عليه فترة يمتلىء غيظاً من أبيه إذا كان لا يعرف السبب، فأحبَّ إبراهيم أن يكون استسلامُ ولده للذبح قُرْبَى منه لله، له أجْرُها وثوابها.
قال إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم: ﴿ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢].
فلما رأى الحق تبارك وتعالى استسلام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لقضاء الله رفع عنه قضاءه وناداه: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٤١٠٧] فكانت نتيجة الصبر على هذا الابتلاء أنْ فدى الله الذبيح، وخلَّصه من الذبح، ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ [الأنعام: ٨٤].
وهذه لقطة قرآنية تُعلِّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء الله، ورَضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا الاستسلام، والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم لا يرضون به، والحق تبارك وتعالى لا يجبره أحد، فالقضاء نافذ نافذ، رضيتَ به أم لم تَرْضَ.
وحين تسلم لله وترضى بقضائه يرفعه عنك، أو يُبيّن لك وجه الخير فيه. إذن: عليك أن تحترم القدر وترضى به؛ لأنه من ربك الخالق الحكيم، ولا يُرفع قضاء الله عن الخلق حتى يرضوا به.
وكثيراً ما نرى اعتراض الناس على قضاء الله خاصة عند موت الطفل الصغير، فنراهم يُكثِرون عليه البكاء والعويل، يقول أحدهم: إنه لم يتمتع بشبابه.
ونعجب من مثل هذه الجهالات: أيّ شباب؟ وأيَّة متعة هذه؟ وقد فارق في صِغَره دنيا باطلة زائلة، ومتعة موقوتة إلى دار باقية
إنه في نعيم لو عرفتَه لتمنيتَ أن تكون مكانه، ويكفي أن هؤلاء الأطفال لا يُسألون ولا يُحاسبون، وليس لهم مسكن خاص في الجنة؛ لأنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون؛ لذلك يسمونهم (دعاميص الجنة).
وآخر يعترض لأن زميله في العمل رُقِّي حتى صار رئيساً له، فإذا به يحقد عليه ويحقره، وتشتعل نفسه عليه غضباً، وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله: أأخذ زميله شيئاً من مُلْك الله دون قضائه وقدره، إذن: فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر الله فيه، فما أخذَ شيئاً غصباً عن الله.
لذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «اسمعوا وأطيعوا، ولو وُلِّى عليكم عبد حبشيّ، كأنّ رأسَه زبيبة».
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة﴾
لكن، لماذا اختص أهله بالذات؟ اختص أهله لأنهم البيئة المباشرة التي إنْ صَلُحتْ للرجل صَلُحَ له بيته، وصَلُحَتْ له ذريته، إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر الله والصلاة خمس مرات في اليوم والليلة فإنه بذلك يسدُّ الطريق على الشيطان، فليس له مجال في بيت يصلي أهله الخمس صلوات.
لذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «رحم الله امرأ استيقظ من الليل، فصلَّى ركعتين ثم أيقظ أهله فإن امتنعتْ نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّتْ ركعتين، ثم أيقظتْ زوجها، فإنِ امتنع نضحتْ في وجهه الماء».
إذن: فكل رجل وكل امراة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولاً لأهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة الرسول؛ لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الأنبياء والرسل، فليس بعد تشريعه تشريع، وليس بعد كتابه كتاب؛ لأن أمته ستحمل رسالته من بعده، وكل مؤمن منهم يعلم من الإسلام حُكْماً فهو خليفة لرسول الله في تبليغه.
كما قال تعالى: ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣] فالرسول يشهد أنه بلَّغكم، وعليكم أنْ
ودائماً ما يقرن الحق تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة، والصلاة تأخذ بعض الوقت، والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت، فإنْ كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت، فالصلاة تأخذ الوقت نفسه. إذن: ففي الصلاة زكاة أبلغ من الزكاة.
وإنْ كان في الزكاة نماء المال وبركته وإنْ كانت في ظاهرها نقصاً ففي الصلاة نماء الوقت وبركته، فإياك أنْ تقول: أنا مشغول، ولا أجد وقتاً للصلاة؛ لأن الدقائق التي ستصلي فيها فَرْض ربك هي التي ستُشِيع البركة في وقتك كله.
كما أنك حين تقف بين يَدَيْ ربك في الصلاة تأخذ شحنة إيمانية نوارنية تُعينك على أداء مهمتك في الحياة، وتعرض نفسك على ربِّك وخالقك وصانعك، ولن تُعدم خيراً ينالك من هذا اللقاء.
ولك أنْ تتصوّر صنعةً تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم، هل يصيبها عُطْل أو عَطَب؟! وإنْ كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلأنه حِسِّيٌّ مشهود، أما الخالق سبحانه فهو غَيْب يصلحك من حيث لا تدري.
وإنْ كان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة فهو حريص عليها من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ [مريم: ٥٥] أي: رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ليس لخصال الخير التي وصفه بها، بل من بدايته، فقد رضي عنه فاختاره رسولاً ونبياً.
وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً﴾ [مريم: ٥٦].
تحدثنا عن معنى الصِّدِّيق في الكلام عن إبراهيم عليه السلام، والصِّدِّيق هو الذي يبالغ في تصديق ما جاءه من الحق، فيجعل الله له بذلك فُرْقاناً وإشراقاً يُميّز به الحق فلا يتصادم معه شيطان؛ لأن الشيطان قد ينفذ إلى عقلي وعقلك.
أما الوارد من الحق سبحانه وتعالى فلا يستطيع الشيطان أن يعارضه أو يدخل فيه، لذلك فالصِّدِّيق وإن لم يكُنْ نبياً فهو مُلْحقِ بالأنبياء والشهداء، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ [النساء: ٦٩].
وكذلك كان إدريس عليه السلام (نبياً) ولم يقُلْ: رسولاً نبياً، لأن بينه وبين آدم عليه السلام جيلين، فكانت الرسالة لآدم ما زالت قائمة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم﴾
وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم.
الأول: فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة، بداية من يعقوب، ثم يوسف، ثم موسى وهارون، ثم داود وسليمان، ثم زكريا ويحيى، ثم ذو الكفل، ثم أيوب، ثم النون.
والفرع الآخر: فرع إسماعيل عليه السلام الذي جاء منه جماع جواهر النبوة، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لماذا قال ﴿آيَاتُ الرحمن﴾ [مريم: ٥٨] ولم يقُلْ: آيات الله؟ قالوا: لأن آيات الله تحمل منهجاً وتكليفاً، وهذا يشقُّ على الناس، فكأنه يقول لنا: إياكم أنْ تفهموا أن الله يُكلّفكم بالمشقة، وإنما يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون، ثم يسعدكم به في الآخرة؛ لذلك اختار هنا صفة الرحمانية.
وقوله: ﴿خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ [مريم: ٥٨] لم يقُل: سجدوا، بل سقطوا بوجوههم سريعاً إلى الأرض. وهذا انفعال قَسْري طبيعي، لا دَخْلَ للعقل فيه ولا للتفكير، فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ بهدوء ونظام، أما الذي يخرُّ فلا يفكر في ذلك، وهذا أشبه بقوله تعالى: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٢٦] أي: سقط عليهم فجأة.
وهذا الانفعال يُسمُّونه «انفعال نزوعي» ناتج عن الوجدان، والوجدان ناتج عن الإدراك، وهذه مظاهر الشعور الثلاثة: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع. والإنسان له حواس يُدرِك بها: العين والأذن والأنف واللسان.. الخ.
فهذه وسائل إدراك المحسّات، فإذا أدركتَ شيئاً بحواسِّك تجد له تأثيراً في نفسك، إما حُباً وإماً بُغْضاً، إما إعجاباً وإما انصرافاً، وهذا الأثر في نفسك هو الوجدان، ثم يصدر عن هذا الوجدان حركة هي «النزوع».
فمثلاً، لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا «إدراك»، فإنْ أُعجبْتَ
كذلك الحال فيمن تسمّع لكلام الله وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلاوة ومواجيد في نفسه، وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي، فلا يجد إلا أنْ يخر ساجداً لله تعالى.
والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعاً ظاهرياً بل وأيضاً داخلياً، ففاضت أعينهم بالدمع ﴿سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ [مريم: ٥٨].
وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع أُخَر، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً﴾ [الإسراء: ١٠٧].
ومعنى: للأذقان: مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود؛ لأن السجود يكون أولاً على الجبهة ثم الأنف لكن على الأذقان، فهذا سجود على حَقٍّ، وليس كنقْر الديكَة كما يقولون.
إذن: فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة من الرسل، وها هم الآن يسمعون القرآن؛ لذلك يقولون: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً﴾ [الإسراء: ١٠٨].
ومن النزوع الانفعالي أيضاً قوله تعالى عن أهل الكتاب: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ [المائدة: ٨٣].
فلماذا يُؤثِّر الانفعال بالقرآن في كُلِّ هذه الحواس والأعضاء من جسم الإنسان؟ قالوا: لأن الذي خلق التكوين الإنساني هو الذي يتكلم، والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي، فإنه سبحانه لا يخاطب عقلك فقط، بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك؛ لذلك تخِرُّ الأعضاء ساجدة، وتدمع العيون، وتقشعر الجلود، وتلين القلوب، كيف لا والمتكلم هو الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾
وهناك فَرْق بين خَلْف وخَلَف: الأولى: بسكون اللام ويُراد بها الأشرار من عَقِب الإنسان وأولاده، والأخرى: بفتح اللام ويُراد بها الأخيار. لذل، فالشاعر حينما أراد أنْ يتحسَّر على أهل الخير الذي مَضَوْا قال:
ذَهَبَ الذِينَ يُعاشُ فِي أكنَافِهمْ | وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجْرَبِ |
صحيح أن الإسلام بُني على عِدّة أركان، لكن بعض هذه الأركان قد يسقط عن المسلم، ولا يُطْلب منه كالزكاة والحج والصيام، فيبقى ركنان أساسيان لا يسقطان عن المسلم بحال من الأحوال، هما: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة.
وسُئِلْنَا مرة من بعض إخواننا في الجزائر: لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج: الحاج فلان، ولا نقول للمصلى: المصلى فلان، أو المزكَّى فلان، أو الصائم فلان؟
فقلت للسائل: لأن الحج تتم نعمة الله على العبد، وحين نقول: الحاج فلان. فهذا إشعار وإعلام أن الله أتمَّ له النعمة، واستوفى كل أركان الإسلام، فمعنى أنه أدَّى فريضة الحج أنه مستطيع مالاً وصحة، وما دام عنده مال فهو يُزكِّي، وما دام عنده صحة فهو يصوم، وهو بالطبع يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدي الصلاة، وهكذا تمَّتْ له بالحج جميع أركان الإسلام.
ثم يقول تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩] هذه العبارة أخذها المتمحّكون الذين يريدون أنْ يدخلوا على القرآن بنقد، فقالوا: الغَيُّ هو الشر والضلال والعقائد الفاسدة، وهذه حدثتْ منهم بالفعل
لكن المراد بالغيّ هنا أي: جزاء الغي وعاقبته. كما لو قُلْت: أمْطرتْ السماء نباتاً، فالسماء لم تُمطر النبات، وإنما الماء الذي يُخرِج النبات، كذلك غيّهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جَرَّ عليهم العذاب في الآخرة.
إذن: المعنى: فسوفَ يلقْونَ عذاباً وهلاكاً في الآخرة.
ومع ذلك، فالحق تبارك وتعالى لرحمته بخَلْقه شرع لهم التوبة، وفتح لهم بابها، ويفرح بهم إنْ تابوا؛ لذلك فالذين اتصفُوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات لا ييأسون من رحمة الله، مادام بابُ التوبة مفتوحاً.
وفَتْح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم الله بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات والانحرافات، وإلاَّ لو أغقلنا الباب في وجوههم لَشقِيَ بهم المجتمع، حيث سيتمادَوْن في باطلهم وغَيِّهم، فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله.
والتوبة تكون من العبد، وتكون من الرب تبارك وتعالى، فتشريع التوبة وقبولها من الله وإحداث التوبة من العبد؛ لذلك قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا﴾ [التوبة: ١١٨] أي: شرعها لهم ليتوبوا فيقبل توبتهم، فهي من الله أولاً وأخيراً؛ لذلك يأتي هذا الاستثناء.
لكن المراد أنْ تعزم صادقاً عند التوبة عدم العَوْد، فإنْ وقعت فيه مرة أخرى تكون عن غير قَصْد ودون إصرار. وإلاّ لو دبرتَ لهذه المسألة فقُلْت: أذنب ثم أتوب، فمن يُدرِيك أن الله تعالى سيمهلك إلى أن تتوبَ؟ إذن: فبادر بها قبل فَوات أوانها.
هذه إذن شروط التوبة إنْ كانت في أمر بين العبد وربه، فإنْ كانت تتعلق بالعباد فلا بُدَّ أنْ يتوفّر لها شرط آخر وهو رَدُّ المظالم إلى أهلها إنْ كانت ترد، أو التبرع بها في وجوه الخير على أنْ ينويَ ثوابها لأصحابها، إنْ كانت مظالم لا تُردُّ.
ثم يقول تعالى بعدها: ﴿وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ [مريم: ٦٠] معنى: وآمن بعد أنْ تاب، تعني أن ما أحدثه من معصية خدش إيمانه، فيحتاج إلى تجديده. وهذا واضح في الحديث الشريف:
«لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
فساعةَ مباشرة هذه المعاصي تنتنفي عن الإنسان صفة الإيمان؛
لذلك قال: (وَآمَنَ) أي: جدَّد إيمانه، وأعاده بعد توبته، ثم ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ [مريم: ٦٠] ليصلح به ما أفسده بفعل المعاصي.
والنتيجة: ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٦٠] وفي موضع آخر، كان جزاء مَنْ تاب وآمن وعمل صالحاً: ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠].
فلماذا كُلُّ هذا الكرم من الله تعالى لأهل المعاصي الذين تابوا؟ قالوا: لأن الذي أَلِفَ الشهوة واعتاد المعصية، وأدرك لذَّته فيها يحتاج إلى مجهود كبير في مجاهدة نفسه وكَبْحها، على خلاف مَنْ لم يتعوّد عليها، لذلك احتاج العاصون إلى حافز يدفعهم ليعودوا إلى ساحة ربهم.
لذلك قال سبحانه: ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة﴾ [مريم: ٦٠] دون أنْ يُعيَّروا بما فعلوه؛ لأنهم صَدَقُوا التوبة إلى الله ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٦٠] وبقدر ما تكون التوبة صادقة، والندم عليها عظيماً، وبقدر ما تلوم نفسَك، وتسكب الدمْع على معصيتك بقدر ما يكون لك من الأجر والثواب، وبقدر ما تُبدَّل سيئاتك حسناتٍ. وكُلُّ هذا بفضل الله وبرحمته.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن﴾
وجنات عَدْن ليست هي مساكن أهل الجنة، بل هي بساتين عمومية يتمتع بها الجميع، بدليل أن الله تعالى عطف عليها في آية أخرى (وَمَسَاكِنَ طَيِّبةً) في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [التوبة: ٧٢].
وقوله: ﴿التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب﴾ [مريم: ٦١] والوعْد: إخبار بخير قبل أوانه؛ ليشجع الموعود على العمل لينالَ هذا الخير، وضِدّه الوعيد: إخبار بشَرٍّ قبل أوانه ليحذره المتوعد، ويتفادى الوقوع في أسبابه.
واختبار هنا اسم الرحمن ليُطمئِنَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي أن ربهم رحمن رحيم، إنْ تابوا إليه قبلهم، وإنْ وعدهم وَعْداً وَفَى. وقد وعدنا الله تعالى في قرآن فآمنّا بوعده غيْباً ﴿وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب﴾ [مريم: ٦١].
وحجة الإيمان بالغيب فيما لم يوجد بعد المشهد الذي نراه الآن، فالكون الذي نشاهده قد خُلِق على هيئة مُهندسةٍ هندسةً لا يوجد أبدعُ منها، فالذي خلق لنا هذا الكون العجيب المتناسق إذا أخبرنا عن نعيم آخر دائم في الآخرة، فلا بُدَّ أن نُصدِّق، ونأخذ من المشاهدَ لنا دليلاً على ما غاب عَنَّا؛ لذلك نؤمن بالآخرة إيماناً غيبياً ثقةً مِنَّا في قدرته تعالى التي رأينا طَرَفاً منها في الدنيا.
وبعض العلماء يرى أن (مَأتِياً) بمعنى آتياً، فجاء باسم المفعول، وأراد اسم الفاعل، لكن المعنى هنا واضح لا يحتاج إلى هذا التأويل؛ لأن وعد الله تعالى مُحقَّق، والموعود به ثابت في مكانه، والماهر هو الذي يسعى إليه ويسلك طريقه بالعمل الصالح حتى يصل إليه.
ثم يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة في الجنة: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾
والكلام هنا عن الآخرة ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً﴾ [مريم: ٦٢] فإن كانوا قد سمعوا لَغْواً كثيراً في الدنيا فلا مجالَ للغو في الآخرة. ثم يستثني من عدم السماع ﴿إِلاَّ سَلاَماً﴾ [مريم: ٦٢] والسلام ليس من اللغو، وهو تحية أهل الجنة وتحية الملائكة: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ [يونس: ١٠].
فإنْ قُلْتَ: فكيف يستثنى السلام من اللَّغْو؟ نقول: من أساليب اللغة: تأكيد المدح بما يشبه الذم، كأن نقول: لا عيبَ في فلان إلا أنه شجاع، وكنت تنتظر أنْ نستثني من العيب عَيْباً، لكن المعنى هنا: إنْ عددتَ الشجاعة عيباً، ففي هذا الشخص عَيْب، فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عَيْباً، إلا إذا ارتكبنا مُحَالاً وعددنا الشجاعة عيباً. وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم.
ومن ذلك قول الشاعر:
ولاَ عَيْبَ فِيهِم غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِ |
ومن رحمة الله تعالى بعباده من أهل الجنة أنْ نزعَ ما في
أما في الآخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر، منظار النفس الصافية التي لا تعرف الغلَّ، قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧].
فإنْ رأيت مَنْ هو أعلى منك درجةً فسوف تقول: إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم، فقد كان يجاهد نفسه وهواه في الدنيا. ويكفي في وَصْف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى: ﴿فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين﴾ [الزخرف: ٧١].
وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فيها ما لا عَيْن رأت، ولا إذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر».
إذن: ففي الجنة أشياء لا تقع تحت إدراكنا؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبِّر عن هذا النعيم؛ لأنك تضع في اللغة اللفظ الذي أدركتَ معناه، وفي الجنة أشياء لا تدركها ولا عِلْمَ لك بها؛ لذلك حينما يريد الحق تبارك وتعالى أن يصِفَ لنا نعيم الجنة بصفة بما نعرف من نعيم الدينا: نخل وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان.
ويقول: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ
مع الفارق بين هذه الأشياء في الدنيا والآخرة. ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل، وبين خمر الآخرة التي نفى الله عنها السوء، فقال: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٧].
وقوله: ﴿بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢] فكيف يأتيهم رزقهم بُكْرة وعشياً، وليس في الجنة وقت لا بُكْرة ولا عَشِياً، لا لَيْل ولا نهار؟ نقول: إن الحق تبارك وتعالى يخاطبنا على قَدْر عقولنا، وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا، وإلاّ فنعيم الجنة دائم لا يرتبط بوقت، كما قال سبحانه: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾ [الرعد: ٣٥].
وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١١].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ﴾
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره، ومَنْ سيكفر باختياره، علم مَنْ سيطيع ومَنْ
إذن: حينما يدخل أهلُ النارِ النارَ، أين تذهب أماكنهم التي أُعِدَّتْ لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل الجنة، فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلاء.
ثم يقول رب العزة سبحانه: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾
ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلاَّ بتقارب هذيْن الجنسين وعملية تغيير لا بُدَّ أنْ تطرأ على أحدهما، إما أَنْ ينزل الملَكُ على صورة بشرية، وإما أن يرتفع
وقد وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا التغيير فقال: «... فغطَّني حتى بلغ مني الجهْد... » وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتفصَّد جبينه عرقاً لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية، ثم حينما يُسرِّي عنه تذهب هذه الأعراض.
وقد أخبر بعض الصحابة، وكان يجلس بجوار رسول الله، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضع رُكْبته على رُكْبته، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي: شعرتُ برُكْبة رسول الله وكأنها جبل.
وإذا أتاه الوحي وهودابة كانت الدابة تئط أي: تنخ من ثِقَل الوحي، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ [المزمل: ٥].
إذن: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعب بعد هذا اللقاء ويشقُّ عليه، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها يقول: «زَمِّلوني زَمِّلوني» أو «دَثِّروني دَثِّروني» كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولاً.
وقلنا: لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا: إن رَبَّ محمد قد قلاه يعني: أبغضه وتركه.
وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه: ساحر وكذاب؟ ففي البغض يتذكرون أنه له رباً منع عنه الوحي، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا: من أين جاء بهذا الكلام؟
لذلك، فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلاً: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ١٤] إذن: كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله.
فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلاء درساً من خلال درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر، هذا الأمر الكونيّ هو الزمن، وهو ينقسم إلى ليل ونهار، ولكل منهما مهمته التي خلقه الله من أجلها، كما قال سبحانه:
﴿والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى﴾ [الليل: ١٢].
فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار، أو مهمة النهار إلى الليل.
ثم يرد عليهم قائلاً: ﴿والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ [الضحى: ١٤].
وكذلك الأمر إنْ فترَ الوحي عن رسول الله، فلا تظنوا أنه انقطع إلىغير رَجْعة، بل هي فترة ليرتاح فيها رسول الله، كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار، ومن هنا كانت الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾ [الضحى: ٣].
ونلحظ في هذا التعبير دِقّة الإعجاز في أداء القرآن، حيث قال: ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ [ضحى: ٣] بكاف الخطاب؛ لأن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره، أما في القِلَى فلم يقُلْ: قَلاَك. لأن القِلَى لا يكون إلا لمَنْ تكره.
ومعنى: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ الضحى: ٤] الآخرة أي: الفترة الأخيرة من نزول الوحي خَيْر لك من الفترة الأولى؛ لأنها ستكون أوسع، وستأتيك بلا تَعَب ولا مشقة، وفعلاً نزلت جمهرة القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهكذا كان الأمر في الآية التي نحن بصددها: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤] فيقال: إنها نزلت حينما قال الكفار: إن ربَّ محمد قد قلاه، أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة الأسئلة
ثم يقول الحق سبحانه تعالى: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك﴾ [مريم: ٦٤].
قوله تعالى: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ [مريم: ٦٤] أي: الذي أمامنا ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ [مريم: ٦٤] أي: في الخلف ﴿وَمَا بَيْنَ ذلك﴾ [مريم: ٦٤] أي: ما بين الأمام والخلف، فماذا بين الأمام والخلف؟ ليس بين الأمام والخلف إلا أنت. فسبحانه وتعالى المالك، الذي له الملك والمملوك، وله المكان والمكين، وله الزمان والزمين.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ [مريم: ٦٤] هل يرسل الحق تبارك وتعالى رسولاً، ثم ينساه هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزَّه عن الغفلة وعن النيسان.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض﴾
فلا تظن أن الكون قائم على قانون يُديره، بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون، والحق تبارك وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم. فما دام الأمر كذلك، وأنه تعالى يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا، وما بين ذلك، وأنه تعالى قيُّوم لا ينسى ولا يغفل وبه يقوم الكون. فهو إذن يستحق العبادة والطاعة فيما أمر، وقد أعطاك قبل أن يُكلّفك عطاء لا تستطيع أنت أن تفعله لنفسك، ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أنْ يُكلِّفك بشيء من العبادات.
لذلك هنا يقول تعالى: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ﴾ [مريم: ٦٥] وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية، وأنه رَبٌّ واحد فقال: ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [مريم: ٦٥].
وقال: ﴿رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢].
وقال: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ [الشعراء: ٢٦].
لأن القدماء، ومنهم مثلاً قدماء المصريين كانوا يجعلون رباً للسماء، ورباً للأرض، ورباً للجو، ورباً للأموات، ورباً للزرع.. إلخ وما دام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على الربوبية. والعبادة: طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى، وكيف لا نطيع الله ونحن خَلْقه وصَنْعته، ونأكل رزقه، ونتقلب في نعمه؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه: (مَنْ يأكل لقمتي يسمع كلمتي).
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
والحق تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض﴾ [المؤمنون: ٧١].
إذن: التشريعات جُعلَتْ لصالحنا نحن: ﴿فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ﴾ [مريم: ٦٥] لأن العبادة فيها مشقة، فلا بُدَّ لها من صبر؛ لأنها تأمرك بأشياء يشقُّ عليك أنْ تفعلها، وينهاك عَنْ أشياء يشقُّ عليك أن تتركها لأنك ألِفْتها.
والصبر يكون منا جميعاً، يصبر كُلٌّ مِنَّا على الآخر؛ لأننا أبناء أغيار، فإن صبرتَ على الأذى صبر الناس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول تعالى:
﴿وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ٣].
والحق سبحانه وتعالى يُعلِّمنا: إن أذنب أحد في حَقْك، أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن أغفر لك ذنبك، واعفوَ عن سيئتك.
ولا تظن أن صبرك على أذى الآخرين أو غفرانك لهم تطوُّع من عندك؛ لأنه لن يضيع عليك عند الله، وستُردُّ لك في سيئة تُغفَر لك. حتى مَنْ فُضِح مثلاً أو ادُعي عليه ظُلْماً لا يضيعها الله، بل يدّخرها له في فضيحة سترها عليه، فمَنْ فُضِح بما لم يفعل، سُتر عليه ما فعل.
وقوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] ؟ سبق أن تكلمنا في معنى (السَّميّ) وقد اختلف العلماء في معناها، قالوا: السَّميُّ: الذي يُساميك، أي: أنت تسمو وهو يسمو عليك، أو السَّميّ: النظير والمثيل.
والحق سبحانه وتعالى ليس له سميٌّ يُساميه في صفات الكمال، وليس له نظير أو مثيل أو شبيه، بدليل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
وللسميِّ معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى، حيث قال تعالى: ﴿لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٧] أي: لم يسبق أنْ تسمَّى أحد بهذا الاسم. وكذلك الحق تبارك وتعالى لم يتسمَّ أحدٌ باسمه، لا قبل هذه الآية، ولا بعد أنْ أطلقها رسول الله تحدّياً بين الكفار والملاحدة الذين يتجرؤون على الله. فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أنْ يُسمى ولده الله؟
الحقيقة أن هؤلاء وإنْ كانوا كفاراً وملاحدة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله، ويعترفون بوجوده، ويخافون من عاقبة هذه التسمية، ولا يأمنون أنْ يصيبهم السوء بسببها.
إذن: لم تحدث، ولم يجرؤ أحد عليها؛ لأن الله تعالى قالها وأعلنها تحدياً، وإذا قال الله تعالى، ملَكَ اختيار الخَلْق، وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ﴾
والمعنى هنا: ﴿وَيَقُولُ الإنسان﴾ [مريم: ٦٦] أي: الكافر الذي لا يؤمن بالآخرة، ويستبعد الحياة بعد الموت: ﴿أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً﴾ [مريم: ٦٦] والاستفهام هنا للإنكار، لكن هذه مسألة الردُّ عليها سَهْل مَيْسور، فيقول تعالى: ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان﴾
ففي عُرْفنا نحن أن تنشيء من موجود أسهل من أنْ تنشيء من عدم، وإنْ كان فعل العبد يقوم على المعالجة ومزاولة الأسباب، ففِعْل الخالق سبحانه إنما يكون بقوله للشيء «كُنْ فيكون».
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: ٢٨].
ولما سُئِل الإمام علي كرَّم الله وجهه: كيف يُحاسِب اللهُ الناسَ جميعاً في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد.
فلو تذكَّر خَلْقه الأول ما ضرب لنا هذا المثل. ثم يأتي الجواب منطقياً: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩].
وهنا أيضاً يكون الدليل: ﴿أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ [مريم: ٦٧].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين﴾
﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً﴾ [مريم: ٦٨] يقال: جثا يجثو فهو جَاثٍ. أي: ينزل على ركبتيه، وهي دلالة على الذِّلَّة والانكسار والمهانة التي لا يَقْوى معها على القيام.
وقوله: ﴿مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ [مريم: ٦٩] أي: جماعة متشايعون على رأي باطل، ويقتنعون به، ويسايرون أصحابه: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾ [مريم: ٦٩] العتي: وهو الذي بلغ القمة في الجبروت والطغيان، بحيث لا يقف أحد في وجهه، كما قلنا كذلك في صفة الكِبَر ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً﴾ [مريم: ٨] لأنه إذا جاء الكبر لا حيلةَ فيه، ولا يقدر عليه أحد.
ومعلوم أن رسالات السماء لما نزلتْ على أهل الأرض كان هناك أناس يُضارون من هذه الرسالات في أنفسهم، وفي أموالهم، وفي مكانتهم وسيادتهم، فرسالات الله جاءتْ لتؤكد حَقّاً، وتثبت وحدانية الله، وسواسية الخَلْق بالنسبة لمنهج الله.
وهناك طغاة وجَبَّارون وسادة لهم عبيد، وفي الدنيا القوى والضعيف، والغني والفقير، والسليم والمريض، فجاءت رسالات السماء لِتُحدِث استطراقاً للعبودية.
فَمن الذي يُضَار ويَغْضَب ويعادي رسالات السماء؟ إنهم هؤلاء الطغاة الجبارون، أصحاب السلطة والمال والنفوذ، ولا بُدَّ أن لهؤلاء أتباعاً يتبعونهم ويشايعونهم على باطلهم.
فربما ظَنُّوا أن هؤلاء الطغاة الجبابرة سيتدخلون ويدافعون عنهم، فقد كانوا في الدنيا خدمهم، وكانوا تابعين لهم ومناصرين، فإذا ما أخذناهم أولاً وبدأنا بهم، فقد قطعنا أمل التابعين في النجاة.
وقد ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ [النمل: ٨٣] أي: من كبارهم وطُغَاتهم، ليرى التابعون مصارع المتبوعين، ويشهد الضعفاء مصارع الأقوياء، فينقطع أملهم في النجاة.
وفي حديث القرآن عن فرعون، وقد بلغ قمة الطغيان والجبروت حيث ادَّعى الألوهية، فقال عنه: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود﴾ [هود: ٩٨] فهو قائدهم ومقدمتهم إلى جهنم، كما كان قائدهم إلى الضلال في الدنيا، فهو المعلم وهم المقلّدون.
فعليه إذن وزْران: ضلاله في نفسه، ووزْر إضلاله لقومه، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [البقرة: ٧٩].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين﴾
والمعنى: أننا نعرف مَنْ هو أَوْلى بدخول النار أولاً، وكأن لهم في ذلك أولويات معروفة؛ لأنهم سيتجادلون في الآخرة ويتناقشون ويتلاومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رَهيب يفضح ما اقترفوه.
فالتابع والمتبوع، والعابد والمعبود، كُلٌّ يُلقي باللائمة على الآخر، اسمعهم وهم يقولون: ﴿رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب: ٦٧٦٨].
وفي آية أخرى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ [البقرة: ١٦٦].
وصدق الله العظيم حين قال: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾
فما معنى الورود هنا؟ الورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي: أخْذ الماء دون أنْ تشرب منه، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ
إذن: معنى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم: ٧١] أي: أنكم جميعاً مُتقون ومجرمون، سترِدُون النار وتروْنها؛ لأن الصراط الذي يمرُّ عليه الجميع مضروب على مَتْن جهنم.
وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس، فنَاجٍ مُسلَّم، ومخدوش به، ثم ناج ومحتبس به، ومنكوس ومكدوس فيها».
فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله ويعلم نعمته ورحمته به.
ومن العلماء مَنْ يرى أن ورد أي: أتى وشرب منه ويستدلون بقوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾ [هود: ٩٨] أي: أدخلهم. لكن هذا يخالف النسق العربي الذي نزل القرآن به، حيث يقول الشاعر:
وَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه | وَضَعْنَا عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ |
كَمَا أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمامَةً | فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتجلَّتِ |
وضربنا لذلك مثلاً بالأسير الذي بلغ به العطش مَبْلغاً، فطلب الماء، فجاءه الحارس بالماء حتى كان على فِيهِ، واستشرف الريِّ منعه وحرمه لتكون حسرته أشد، وألمهُ أعظم، ولو لم يأتِه بالماء لكان أهونَ عليه.
ومثال ذلك: فلاح مجتهد في زراعته يعتني بها ويُعفِّر نفسه من تراب أرضه كل يوم، وآخر ينعَم بالثياب النظيفة والجلوس على المقهى والتسكع هنا وهناك، وينظر إلى صاحبه الذي أجهده العمل، ويرى نفسه أفضل منه، فإذا ما جاء وقت الحصاد وجد الأولُ ثمرة تعبه ونتيجة مجهوده، وجلس الآخر حزيناً محروماً. فلا بُدَّ أن تأخذ في الاعتبار عند المقارنة الوسائل مع الغايات.
لذلك وُفِّق الشاعر حين قال:
ألاَ مَنْ يُرِينِي غَايتِي قَبْل مذْهَبِي | ومِنْ أينْ والغَايَاتُ بَعْد المذَاهِبِ؟ |
وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ [العنكبوت: ٢٤].
وهكذا اتفقوا على الإحراق، ونجَّى الله نبيه وخيَّب سَعْيهم، ثم كانت الغاية في الآخرة: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٥].
فكان عليهم ألاَّ ينظروا إلى الوسيلة منفصلةً عن غايتها.
وهنا يردُّ الحق تبارك وتعالى على هؤلاء المغترِّين بنعمة الله:
وهلاك هؤلاء وأمثالهم سَهْل لا يكلف الحق سبحانه إلا أنْ تهُبَّ عليهم عواصف الرمال، فتطمس حضارتهم، وتجعهلم أثراً بعد عَيْن.
فدعاهم إلى النظر في التاريخ، والتأمّل في عاقبة أمثالهم من الكفرة والمكذبين، وما عساه أنْ يُغني عنهم من المقام والندىّ الذي يتباهون به، وهل وسائل الدنيا هذه تدفع عنهم الغاية التي تنتظرهم في الآخرة؟
وكأن الحق تبارك وتعالى لا يردّ عليهم بكلام نظري يقول: إن عاقبتكم كذا وكذا من العذاب، بل يعطيهم مثالاً من الواقع.
ويخاطب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ [غافر: ٧٧] أي: من القهر والهزيمة والانكسار ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [غافر: ٧٧] فمَنْ أفلت من عذاب الدنيا، فلن يفلت من عذاب الآخرة.
والقرآن حين يدعوهم إلى النظر في عاقبة من قبلهم ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾ [مريم: ٧٤] فإنما يحثُّهم على أخْذ العِبْرة والعِظَة ممَّنْ سبقوهم، ويستدل بواقع شيء حاضر على صِدْق غيْبٍ آتٍ، فالحضارات التي سبقتهم والتي لم يوجد مثلها في البلاد، وكان من
هذا من ناحية الواقع، أما الغيب فيعرض له القرآن في مشهد آخر، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطفيين: ٢٩٣٣].
هذا المشهد في الدنيا، فما بالهم في الآخرة؟ :﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾ [المطففين: ٣٤٣٥].
ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى المؤمنين فيقول: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٦].
يعني: بعد ما رأيتموه من عذابهم، هل قدرنا أنْ نُجازيهم عَمَّا فعلوه بكم من استهزاء في الدنيا؟ وعلى كُلٍّ فإن استهزاءهم بكم في الدنيا موقوت الأجل، أما ضِحْككم الآن عليهم فأمر أبديّ لا نهايةَ له. فأيُّ الفريقين خَيْر إذن؟
فإياكم أنْ تغرّكم ظواهر الأشياء، أو تخدعكم بَرقات النعيم وانظروا إلى الغايات والنهايات؛ لذلك يقول سبحانه:
﴿المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [الكهف: ٤٦].
لأنهم ارتاحوا إليه، ورَضُوا به، وطلبوا منه المزيد.
﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن﴾ [مريم: ٧٥] أي: في الدنيا وزينتها، كما قال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠].
وفي موضع آخر يقول: إياك أنْ تعجبك أموالهم وأولادهم؛ لأنها فتنة لهم، يُعذِّبهم بها في الدنيا بالسَّعْي في جمع الأموال وتربية الأولاد، ثم الحسرة على فقدهما، ثم يُعذِّبهم بسببها في الآخرة: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٥٥].
العذاب: عذاب الدنيا. أي: بنصر المؤمنين على الكافرين وإهانتهم وإذلالهم ﴿وَإِمَّا الساعة﴾ [مريم: ٧٥] أي: ما ينتظرهم من عذابها، وعند ذلك: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ [مريم: ٧٥] لكنه عِلْم لا يُجدي، فقد فات أوانه، فالموقف في الآخرة حيث لا استئناف للإيمان، فالنكاية هنا أعظم والحسرة أشدّ.
لكن، ما من مناسبة ذكر الجند هنا والكلام عن الآخرة؟ وماذا يُغني الجند في مثل هذا اليوم؟ قالوا: هذا تهكُّم بهم كما في قوله تعالى: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ [الصافات: ٢٢٢٣]، فهل أَخْذهم إلى النار هداية؟
ثم يلتفت إليهم: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ [الصافات: ٢٥٣٠].
أي: لم نُجبركم على شيء، مجرد أنْ أشَرْنَا لكم أطعتمونا.
لذلك، سيقولون في موضع آخر: ﴿رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين﴾ [فصلت: ٢٩].
وقوله تعالى: ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ [مريم: ٧٦] الباقيات الصالحات: هي الأعمال الصالحة التي كانت منك خالصةً لوجه الله: ﴿خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ [مريم: ٧٦] هذه هي الغاية التي ننتظرها ونسعى إليها، فساعةَ أنْ تقارن السُّبل الشاقة فاقْرِنها بالغاية المسعدة، فيهون عليك عناء العبادة ومشقّة التكليف.
وقوله: ﴿وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ [مريم: ٧٦] أي: مرجعاً تُرَدُّ إليه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ﴾
وقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ [مريم: ٧٧] يعني: ألم تَرَ هذا، كأنه يستدلّ بالذي رآه على هذه القضية ﴿الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً﴾ [مريم: ٧٧] ويروي أنه قال: إنْ كان هناك بَعْثٌ فسوف أكون في الآخرة كما كنت في الدنيا، صاحبَ مال وولد.
كما قال صاحب الجنة لأخيه: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً﴾ [الكهف: ٣٦].
والإنسان لا يعتزّ إلا بما هو ذاتيّ فيه، وليس له في ذاتيته شيء، وكذلك لا يعتز بنعمة لا يقدر على صيانتها، ولا يصون النعمة إلا المنعِم الوهاب سبحانه إذن: فَلِمَ الاغترار بها؟
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠].
ويقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الملك: ٢٨].
ثم يردُّ الحق تبارك وتعالى على هذه المقولة الكاذبة: ﴿أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ﴾
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: ٣٥٣٩].
والمراد: مَنْ يضمن لهم هذا الذي يدَّعونه؟
وقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أدخل على مؤمن سروراً فقد أخذ العهد من الله»، «ومَنْ صلى الصلوات بفرائضها وفي وقتها فقد أخذ العهد من الله».
فمَنْ هؤلاء الذين لهم عَهْد من الله تعالى ألاَّ يدخلهم النار؟
والعَهْد: الشيء الموثّق بين اثنين، والعهد إنْ كان بين الناس فهو عَهْد غير موثوق به، فقد ينفذ أو لا ينفذ؛ لأن الإنسانَ أبنُ أغيار، ويمكن أنْ تحُول الظروف بينه وبين ما وعد به، أما إنْ كان
فحين تعاهد ربك على الإيمان فإنك لا تضمن ما يطرأ عليك من الأغيار، أما حين يعاهدك ربك على الجزاء، فثِقْ أنه نافذ لا يُخلَف.
لذلك، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أراد أن ينصحَ الإمام علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «أدعو الله أن يجعل لك عهداً في قلوب المؤمنين».
أي: حُباً ومودة في قلوبهم، وما دام أن الله أعطاه هذا العهد، فهو نافذ مُحقَّق.
واختار هنا اسم الرحمن لما فيه من صفة الرحمانية التي تناسب المعونة على الوفاء.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾
وقد ورد هذا الحرف (كَلاَّ) في قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا
فالحق تبارك وتعالى ينفي الكلام السابق؛ لأن النعمة وسَعَة الرزق ليست دليلَ إكرام، كما أن الفقر وضِيق الرزق ليس دليلَ إهانةٍ، فكلاهما ابتلاء واختبار كما أوضحتْ الآيات، فإتيان النعمة في حَدِّ ذاته ليس هو النعمة إنما النعمة هي النجاح في الابتلاء في الحالتين.
فقد يعطيك الله المال فلا تصرفه فيما أحلَّ الله، فيكون لك فتنة وتخفق في الاختبار، إذن: لم يكرمك بالمال، بل جعله لك وسيلة إغواء وإغراء، فبيدك يتحوَّل المال إلى نعمة أو نقمة، ويكون إكراماً أو إهانة.
وقوله تعالى:
﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ [مريم: ٧٩].
لقد جاءت كلمة (سَنَكْتُبُ) حتى لا يؤاخذه سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنه فعله، ولكن بما كتب عليه وليقرأه بنفسه، وليكون حجة عليه، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً.
يقول تعالى: ﴿اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإسراء: ١٤] وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في
وقوله سبحانه: ﴿وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً﴾ [مريم: ٧٩] أي: يزيده في العذاب، لأن المد هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيده في العذاب.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾
وقوله: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾ [القصص: ٥٨].
فكأن قوله تعالى: ﴿وَنَرِثُهُ﴾ [مريم: ٨٠] تقابل قوله: ﴿لأُوتَيَنَّ مَالاً﴾ [مريم: ٧٧] وقوله تعالى: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْداً﴾ [مريم: ٨٠] تقابل ﴿وَوَلَداً﴾ [مريم: ٧٧]، فسيأتينا من القيامة فَرْداً، ليس معه من أولاده أحد يدفع عنه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله﴾
هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله آلهة من شمس، أو قمر، أو حجر، أو شجر، بماذا تعبَّدتكم هذه الآلهة؟ بماذا أمرتكم؟ وعن أي شيء نهتْكُم؟ وبماذا أنعمتْ عليك؟ وأين كانت وأنت جنين في بطن أمك؟
إن أباك الذي رباك وأنت صغير وتكفَّل بكل حاجياتك، وأمك التي حملتْك في بطنها وسهرتْ على راحتك، هما أوْلَى الناس بطاعتك، ولا ينبغي أنْ تُقدِّم على أمرهما أمراً. أما أنْ يستحوذَ عليك آخرون، ويكون لهم طاعتك وولاؤك دون أبويْك فهذا لا يجوز وأنت في رَيْعان شبابك وأَوْج قوتك.
لذلك، من أصول التربية أنْ يُربّي الآباء أبناءهم على السمع والطاعة لهم، ونُحذِّرهم من طاعة الآخرين خاصة غير المؤتمنين على التربية، من العامة في الشارع، أو أصدقاء السُّوء الذين يجرُّون الأبناء على مَا لا تُحمد عُقباه.
والآن نُحذّر أبناءنا من السَّيْر مع شخص مجهول، أو قبول طعام، أو شراب منه. وما نراه في عصرنا الحاضر يُغني عن الإطالة في هذه المسالة. هذه إذن مناعة يجب أنْ تُعطَى للأبناء، كالمناعة ضد الأمراض تماماً.
وهكذا الحالُ فيمَنْ اتخذوا من دون الله آلهة وارتاحوا إلى إله لا تكليفَ له ولا مشقةَ في عبادته، إله يتركهم يعبدونه كما يحلو
ولما كان الإنسان متديناً بطبعه فقد اختار هؤلاء ديناً على وَفْق أهوائهم وشهواتهم، واتخذوا آلهة لا أمرَ لها ولا تكليفَ. ومن ذلك ما نراه من كثير من المثقفين الذين يأخذون دين الله على هواهم، ويطيعون أعداء الله في قضايا بعيدة كل البُعْد عن دين الله، وهم أصحاب ثقافة وعقول ناضجة، ومع ذلك يُقنعون أنفسهم أنهم على دين وأنهم على الحق.
ثم يقول تعالى: ﴿لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً﴾ [مريم: ٨١] العز: هو الغَلَبة والامتناع من الغير، بحيث لا ينال أحد منه شيئاً، يقولون: فلان عزيز أي: لا يُغلب.
ولنا أن نسأل: ما العزة في عبادة هذه الآلهة؟ وما الذي سيعود عليكم من عبادتها؟ لذلك يردُّ عليهم الحق تبارك وتعالى: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾
هذه الآلهة نفسها ستكفر بعبادتهم، وتنكر أن تكون هي آلهة من دون الله، وأكثر من ذلك ﴿وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ [مريم: ٨٢] أي: في حين اتخاذها الكفار آلهة من دون الله وطلبوا العزة في عبادتها تنقلب عليهم، وتكون ضِدّاً لهم وخَصْماً.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا﴾ [البقرة: ١٦٦].
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ﴾ [الأحقاف: ٥].
إذن: ما ظنَّه الكفار عِزّاً ومَنَعة صار عليهم ضِدّاً وعداوة، كالفتاة التي قالتْ لأبيها: يا أبتِ ما حملك على أنْ تقبلني مخطوبة لابن فلان؟ أي: ماذا أعجبك فيه؟ قال: يا بُنيّتي إنهم أهل عِزٍّ وأهل جاهٍ وشرف وأهل قوة ومنعة، فقالت: يا أبتِ لقد قدَّرْتَ أن يكون بيني وبين ابنهم وُدٌّ، ولم تٌقدِّر أن يكون بيني وبينه كراهية، فإن حدثتْ الكراهية سيكون ما قلته ضدك، وستشْقى أنت بهذا العزّ وبهذا الجاه.
ومن الناس من اتخذ من المال إلهاً، على حَدِّ قَوْل الشاعر:
وَللمالِ قَوْمٌ إنْ بَدا المالُ قَائِلاً | أنَا المالُ قالَ القومُ إيَّاكَ نعبُدُ |
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: ٦].
حتى الجوارح التي تمتعتْ بمعصيتك في الدنيا ستشهد عليك: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤].
ذلك لأنك غفلتَ عمَّنْ كان يجب ألاَّ تغفل عنه، وذكرت مَنْ كان يجب ألاَّ تذكره، فالإله الحق الذي غفلْتَ عنه يطلبك الآن ويحاسبك، والإله الباطل الذي اتخذته يتخلى عنك ويُسلمِك للهلاك.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا﴾
والأَزّ أو النَّزْغ يكون بالوسوسة والتسويل ليهيجه على المعصية والشر، كما يأتي هذا المعنى أيضاً بلفظ الطائف، كما في قوله
وهذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين﴾ [مريم: ٨٣] تثير سؤالاً: إذا كان الحق تبارك وتعالى يكره ما تفعله الشياطين بالإنسان المؤمن أو الكافر، فلماذا أرسلهم الله عليه؟
أرسل الله الشياطين على الإنسان لمهمة يؤدونها، هذه المهمة هي الابتلاء والاختبار، كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢].
إذن: فهم يُؤدُّون مهمتهم التي خُلِقوا من أجلها، فيقفوا للمؤمن ليصرفوه عن الإيمان فيُمحص الله المؤمنين بذلك، ويُظهر صلابة مَنْ يثبت أمام كيد الشيطان.
وقلنا: إن للشيطان تاريخاً مع الإنسان، بداية من آدم عليه السلام حين أَبَى أن يطيع أمر الله له بالسجود لآدم، فطرده الله تعالى وأبعده من رحمته، فأراد الشيطان أنْ ينتقمَ من ذرية آدم بسبب ما ناله من آدم، فقال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢].
وقال: ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦].
وهكذا أعلن عن منهجه وطريقته، فهو يتربص لأصحاب الاستقامة، أما أصحاب الطريق الأعوج فليسوا في حاجة إلى إضلاله وغوايته.
لذلك نراه يتهدد المؤمنين: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧].
والمتأمل في مسألة الشيطان يجد أن هذه المعركة وهذا الصراع ليس بين الشيطان وربه تبارك وتعالى، بل بين الشيطان والإنسان؛ لأنه حين قال لربه تعالى: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢] التزم الأدب مع الله.
فالغواية ليست مهارة مني، ولكن إغويهم بعزتك عن خَلْقك، وترْكِكَ لهم الخيارَ ليؤمن مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، هذه هي النافذة التي أنفذ منها إليهم، بدليل أنه لا سلطانَ لي على أهلك وأوليائك الذين تستخلصهم وتصطفيهم: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [ص: ٨٣].
وهنا أيضاً يثار سؤال: إذا كان الشيطان لا يقعد إلا على الصراط المستقيم لِيُضلَّ أهله، فلماذا يتعرَّض للكافر؟
نقول: لأن الكافر بطبعه وفطرته يميل إلى الإيمان وإلى الصراط المستقيم، وها هو الكون يآياته أمامه يتأمله، فربما قاده التأمل في كَوْن الله إلى الإيمان بالله؛ لذلك يقعد له الشيطان على هذا المسلْك مسلْك الفكر والتأمل لِيحُول بينه وبين الإيمان بالخالق عَزَّ وَجَلَّ.
فالشيطان ينزغك، إما ليحرك فيك شهوة، أو ليُنسِيك طاعة، كما قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان﴾ [الكهف: ٦٣].
وكثير من الإخوان يسألون: لماذا في الصلاة بالذات تُلِحُّ علينا مشاكل الحياة ومشاغل الدنيا؟
نقول: هذه ظاهرة صحية في الإيمان، لأن الشيطان لولا علمه بأهمية الصلاة، وأنها ستُقبل منك ويُغفر لك بها الذنوب ما أفسدها عليك، لكن مشكلتنا الحقيقية أننا إذا أعطانا الشيطان طرفَ الخيط نتبعه ونغفل عن قَوْل ربنا تبارك وتعالى:
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾ [فصلت: ٣٦].
فما عليك ساعةَ أنْ تشعر أنك ستخرج عن خطِّ العبادة والإقامة بين يدي الله إلاَّ أنْ تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى وإنْ كنت تقرأ القرآن، لك أنْ تقطعَ القراءة وتستعيذ بالله منه، وساعةَ أن يعلم منك الانتباه لكيده وألاعيبه مرة بعد أخرى سينصرف عنك وييأس من الإيقاع بك.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً باللص؛ لأنه لا يحوم حول البيت الخرب، إنما يحوم حول البيت العامر، فإذا ما اقترب منه تنبّه صاحب البيت وزجره، فإذا به يلوذ بالفرار، وربما قال اللص في نفسه: لعل صاحب البيت صاح مصادفة فيعاود مرة أخرى، لكن صاحب الدار يقظٌ منتبه، وعندها يفرُّ ولا يعود مرة أخرى.
ويجب أن نعلم أن من حيل الشيطان ومكائده أنه إذا عَزَّ عليه إغواؤك في باب، أتاك من باب آخر؛ لأنه يعلم جيداً أن للناس مفاتيح، ولكل منا نقطة ضعف يُؤتَى من ناحيتها، فمن الناس مَنْ
لذلك من السهل عليك أنْ تُميِّز بين المعصية إنْ كانت من النفس أم من الشيطان: النفس تقف بك أمام شهوة واحدة تريدها بعينها ولا تقبل سواها، فإنْ حاولتَ زحزحتها إلى شهوة أخرى أبتْ إلا ما تريد، أما الشيطان فإنْ عزَّتْ عليك معصية دعاك إلى غيرها، المهم أن يُوقِع بك.
فالحق تبارك وتعالى يُحذرنا الشيطان؛ لأنه يحارب في الإنسان فطرته الإيمانية التي تُلح عليه بأن للكون خالقاً قادراً، والدليل على الوجود الإلهي دليل فطري لا يحتاج إلى فلسفة، كما قال العربي قديماً: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
وكذلك، فكل صاحب صنعة عالم بصنعته وخبير بدقائقها ومواطن العطب فيها، فما بالك بالخالق سبحانه: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤].
إذن: فالأدلة الإيمانية أدلة فطرية يشترك فيها الفيلسوف وراعي الشاة، بل ربما جاءت الفلسفة فعقَّدتْ الأدلة.
ولنا وقفة مع قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين﴾ [مريم: ٨٣] ومعلوم أن عمل الشيطان عمل مستتر، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧].
نقول: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [مريم: ٨٣] بمعنى ألم تعلم؟ فعدَل عن العلم إلى الرؤيا، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل﴾ [الفيل: ١] والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَرَ هذه الحادثة، فكيف يخاطبه ربه عنها بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ [الفيل: ١] ؟
ذلك، ليدلك على أن إخبار الله لك أصحُّ من إخبار عينك لك؛ لأن رؤية العين بما تخدعك، أمّا إعلام الله فهو صادق لا يخدعك أبداً. فعلمك من إخبار الله لك أَوْلَى وأوثق من علمك بحواسِّك.
والشياطين: جمعه شيطان، وهو العاصي من الجنّ، والجن خَلْق مقابل للإنسان قال الله عنهم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً﴾ [الجن: ١١] فَمنْ هم دون الصالحين، هم الشياطين.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾
ومعنى: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ [مريم: ٨٤] أنها مسألة ستنتهي؛
لأن نِعَم الله لا تُحصَى ولا تُعَدُّ ولا تنتهي؛ لذلك سُبِقَتْ بإن التي تفيد الشكِّ، فهي مسألة لا يجرؤ أحد عليها؛ لأن: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ﴾ [النحل: ٩٦].
وها نحن نرى علم الإحصاء وما وصل إليه من تقدّم حتى أصبح له جامعات وعلماء متخصصون أدخلوا الإحصاء في كل شيء، لكن لم يفكر أحد منهم أنْ يُحصِي نِعَم الله في كَوْنه، لماذا؟ لأن الإقبال على العَدِّ معناه ظن أنك تستطيع أنْ تنتهي، وهم يعلمون تماماً أنهم مهما عَدُّوا ومهما أَحْصَوا فلن يصِلُّوا إلى نهاية.
إذن: ﴿نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً﴾ [مريم: ٨٤] نُحصي سيئاتهم ونَعدُّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم، وكلما طالت الأعمار كثرتْ الذنوب، وكل ما ينتهي بالعدد ينتهي بالمُدد.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين﴾
وفي المقابل يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ﴾
وقوله تعالى: ﴿وِرْداً﴾ [مريم: ٨٦] الوِرْد: هو الذَّهَاب للماء لطلب الريِّ، أما النار فمحلُّ اللظى والشُّواظ واللهب والحميم. فلماذا سُمِّي إتيان النار بحرِّها ورِدْاً؟
وهذا تهكُّم بهم، كما جاء في آيات أخرى: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه﴾ [الكهف: ٢٩].
وأنت ساعةَ تسمع (يغاثوا) تنتظر الخير وتأمل الرحمة، لكن هؤلاء يُغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه.
إذن: فقوله تعالى: ﴿وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ [مريم: ٨٦] تهكُّم، كما تقول للولد المهمل الذي أخفق في الامتحان: مبروك عليك السقوط.
ثم يقول تعالى: ﴿لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ﴾
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء يوم القيامة: ﴿لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة﴾ [مريم: ٨٧] لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخذ الإذن بها ﴿إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ [مريم: ٨٧].
والعهد الذي تأخذه على الله بالشفاعة أنْ تُقدِّم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت، ثم تزيد عليها ما يؤهلُك لأن تشفع للآخرين، والخير لا يضيع عند الله، فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا يهمل مثقال ذرة.
﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ﴾ [المطفيين: ٢٩٣٢].
فكيف ستقابل أهل الطاعات، وتطمع في شفاعتهم بعدما كان منك؟ فإنْ لم تكُنْ طائعاً فلا أقلَّ من أنْ تحب الطائعين وتتمسح بهم، فهذه في حَدِّ ذاتها حسنةٌ لك ترجو نفعها يوم القيامة.
وما أشبه الشفاعة في الآخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا، فحين يستعصي عليك قضاءُ مصلحة يقولون لك: اذهب إلى فلان وسوف يقضيها لك. وفعلاً يذهب معك فلان هذا، ويقضي لك حاجتك، فلماذا قُضِيتْ على يديه هو؟ لا بُد أن له عند صاحب الحاجة هذه أياديَ لا يستطيع معها أنْ يرد له طلباً.
إذن: لا بُدَّ لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة، وإذا تأملت لوجدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول مَنْ قدّم رصيداً إيمانياً وسع تكليفه وتكليف أمته، ألم يخبر عنه ربه بقوله: ﴿يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦١] لذلك وجبت له الشفاعة، وأُذِن له فيها.
فالعهد إذن في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً﴾ [مريم: ٨٧] أن تدخل مع ربك في مقام الإحسان، ولا يدخل هذا المقام إلا مَنْ أدَّى ما عليه من تكليف، وإلا فكيف تكون مُحسِناً وأنت مٌقصِّر في مقام الإيمان؟
وأقرأ إنْ شئت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [الذاريات: ١٥١٦] ما العلة؟ ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٦١٩].
فالمحسن مَنْ يُؤدِّي من الطاعات فوق ما فرض الله عليه، ومن جنس ما فرض، فالله تعالى لم يُكلِّفنا بقيام الليل والاستغفار بالأسحار، ولم يفرض علينا صدقة للسائل والمحروم، ولا بُدَّ أنْ نُفرِّق هنا بين (حق) و (حق معلوم) هنا قال (حق) فقط؛ لأن الكلام عن الصدقة أما الحق المعلوم ففي الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الرحمن﴾
الشمس هي الشمس، والنجوم هي النجوم، والهواء هو الهواء، إذن: موضوعية اتخاذ الولد هذه عبث؛ لأنه لم يَزِدْ شيء في المْلك على يد هذا الولد، ولم تكن عند الله تعالى صفة مُعطلة اكتملتْ بمجىء الولد؛ لأن الصفات الكمالية لله تعالى موجودة قبل أنْ يخلق أيَّ شيء.
فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن يَخْلق، ورازق قبل أنْ يَرزُق، ومُحْيٍ قبل أنْ يحيى، ومميت قبل أن يميت. فالبصفات أوجد هذه الأشياء، فصفات الكمال فيه سبحانه موجودة قبل متعلقاتها.
وضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى بالشاعر الذي قال قصيدة. وقلنا: إنه قال القصيدة لأنه شاعر بدايةً، ولولا أنه شاعر ما قالها.
لذلك يرد الحق سبحانه على هذا الافتراء بقوله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾ [الكهف: ٥].
وهنا يرد عليهم بقوله: ﴿لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً﴾
قالوا: لأن اتخاذ الولد له مقاصد، فالولد يُتخذ ليكون لك عِزْوة وقوة؛ أو ليكون امتداداً لكل بعد موتك، والحق سبحانه وتعالى هو العزيز، الذي لا يحتاج إلى أحد، وهو الباقي الدائم الذي لا يحتاج إلى امتداد.
إذن: فاتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا عِلةَ له، كما أن اتخاذ الولد لله تعالى ينفي سواسية العبودية له سبحانه.
ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ﴾
وفي الحديث القدسي: «قالت السماء يا رب ائذن لي أنْ أسقط كِسَفاً على ابن آدم، فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يارب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخِرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وقالت البحار: يا ربّ ائذن لي أن أُغرق ابن
فما العِلَّة في أن السماء تقرب أن تنفطر، والأرض تقرب أن تنشق، والجبال تقرب أن تخِرَّ؟
ثم يعقب الحق سبحانه فيقول: ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ﴾.
كذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [مريم: ٩٢] فإنْ أراد سبحانه وتعالى أن يكون له ولد لَكانَ ذلك، كما جاء في قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ [الزخرف: ٨١].
وما حاجته تعالى للولد، وقد قال في الآية بعدها: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض﴾
إذن: فأنت مُختار في شيء وعَبْد في أشياء، كما أن منطقة الاختيار هذه لك في الدنيا، وليست لك في الآخرة. وسبق أنْ فرَّقنا بين العباد والعبيد، فالجميع: المؤمن والكافر عبيد لله تعالى، أما العباد فهم الذين تنازلوا عن اختيارهم ومرادهم لمراد ربهم، فجاءت كُلُّ تصرفاتهم وفقاً لما يريده الله.
وهؤلاء الذين قال الله فيهم: ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ [الفرقان: ٦٣].
ومعنى: ﴿إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً﴾ [مريم: ٩٣] أي: في الآخرة، حيث تُلْغَى منطقة الاختيار، ولا يستطيع أحد الخروج عن مراد الله تعالى، ويسلب الملك من الجميع، فيقول تعالى: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦].
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ﴾
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة﴾
فكل مشغول بحاله، ذاهل عن أقرب الناس إليه: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ [الحج: ٢].
وتأمَّل قوله: ﴿آتِيهِ﴾ [مريم: ٩٥] فالعبد هو الذي يأتي بنفسه مُخْتاراً لا يُؤْتَى به، فكأن الجميع منضبط على وقت معلوم، إذا جاء يُهْرَع الجميع طواعيةً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول رب العزة سبحانه: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ﴾
وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة، فهذه أسباب المودة في الدنيا بين الخَلْق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، أمّا هنا: ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾ [مريم: ٩٦].
أي: بدون سبب من أسباب المودة هذه، مودة بدون قرابة، وبدون مصالح مشتركة أو صداقة، وهذه المودة بين الذين آمنوا، كأنْ ترى شخصاً لأول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه، وتقول له: إني أحبك لله.
هذه محبة جعلها الله بين المؤمنين، فضلاً منه سبحانه وتكرُّماً، لا بسبب من أسباب المودة المعروفة.
لذلك قال هرم بن حَيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل عليه بقلبه وأسكنه فيه، وأبعد عن قلبه الأغيار، وسلَّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات العقائد وينبوع الصالحات وقدَّمه لربه إلا فتح له قلوب المؤمنين جميعاً.
«ما أقبل عليَّ عبد بقلبه إلا أقلبتُ عليه بقلوب المؤمنين جميعاً» أي: بالمودة والرحمة دون أسباب.
وفي الحديث القدسي: «إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: إنني أحببتُ فلاناً فأحبُّوه، وينادي حبريل في الأرض: إن الله أحبَّ فلاناً فأحبوه. ويوضع له القبول في الأرض».
فيحبه كل مَنْ رآه عطية من الله وفضلاً، دون سبب من أسباب المودة، وإنْ كنتَ قد تبرعتَ لله تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها، فإنه تعالى وهب لك ما يملك من قلوب الناس جميعاً، فهي في يده تعالى يُوجِّهها كيف يشاء.
وقد علَّمنا ربنا تبارك وتعالى في قوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ [النساء: ٨٦] أن نرد الجميل بأحسن منه، فإنْ لم نقدر على الأحسن فلا أقلَّ من الرد بالمثل، فإنْ كان هذا عطاء العبد، فما بالك بعطاء الرب؟
ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف: «من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
وإعانةُ العبد لأخيه محدودة بقدراته وإمكاناته، أمّا معونة الله لعبده فغير محدودة؛ لأنها تناسب قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى.
وهكذا عوَّدنا ربنا تبارك وتعالى حين نُضحِّي بالقليل أنْ يعطينا الكثير وبلا حدود، فضلاً من الله وكرماً. ألم تَرَ أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف؟ أليست هذه تجارة مع الله رابحة، كما قال سبحانه: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: ١٠].
وقال عنها: ﴿تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ [فاطر: ٢٩].
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتُؤلّف بيننا، ثم يمنحنا سبحانه الثمن.
إذن: العملية الإيمانية لا تظن أنها إيثار، بل الإيمان أثره، وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما عند الله من مضاعفة الأجر، فالإيمان إذن أنانية عالية.
والحق سبحانه وتعالى يريد منا أنْ نعودَ على غيرنا بفضل ما نملك، كما جاء في الحديث: «مَنْ كان عنده فضل مال فليعُدْ به على مَنْ لا مالَ له... ».
واعلم أن الله سيُعوِّضك خيراً مما أعطيْتَ. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى: هَبْ أن عندك ولدين، أعطيتَ لكل منهما مصروفة،
ويقول الحق سبحانه: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾
ويسَّرنا القرآن: أي: طوعناه لك حِفْظاً وأداءً وإلقاء معانٍ، فأنت تُوظِّفه في المهمة التي نزل من أجلها.
وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة، كقوله تعالى في سورة القمر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧].
والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه، فترى الآية تأتي في سورة بنص، وتأتي في نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر، فالمسألة إذن ليست (أكلاشيه) ثابت، وليست عملية ميكانيكية صماء، إنه كلام رب.
خُذْ مثلاً قوله تعالى:
﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: ٥٤٥٥].
مرة يقول: ﴿إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ﴾ [الإنسان: ٢٩] ومرة يقول: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ [عبس: ١١].
ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة (الرحمن) حيث يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦] ثم يأتي الحديث عنهما: فيهما كذا، فيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى قاصرات الطرف فيقول: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف﴾ [الرحمن: ٥٦].
وكذلك في: ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٢] فيهما كذا وفيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى الحور العين فيقول: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرحمن: ٧٠].
ولك أنْ تتساءل: الحديث هنا عن الجنتين، فلماذا عدل السياق عن (فيهما) إلى (فيهن) في هذه النعمة بالذات؟
قالوا: لأن نعيم الجنة مشترك، يصح أنْ يشترك فيه الجميع إلا في نعمة الحور العين، فلها خصوصيتها، فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجال، ففي هذه المسألة يكون لكل منها جنته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد.
لذلك «لما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجنة رأى فيها قصراً فابتعد عنه، فلما سُئِل عن ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنه لعمر، وأنا أعرف غَيْرة عمر «.
ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسَّره لَمَا حفظه أحد فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ينزل عليه الآيات، وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة، ويظل يقرؤها كما هي، ولولا أن الله قال له: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ما تيسّر له ذلك.
ونحن في حفْظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً، فالصبي في سنِّ السابعة يستطيع حفْظ القرآن وتجويده، فإنْ غفل عنه بعد ذلك تَفلَّتَ منه، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه.
إذن: مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على وُدًّ وأُلْفة بكتاب الله ظلَّ معك، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك، كما جاء في الحديث الشريف:
«تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لَهُو أشدُّ تفصّياً من الإبل في عُقَلها».
ذلك؛ لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق، إنما حروف القرآن ملائكة تُصفّ، فتكون كلمة، وتكون آية، فإنْ وددتَ الحرف، وودتَ الكلمة والآية، ودَّتْك الملائكة، وتراصتْ عند قراءتك.
وتلحظ هنا أن القرآن لم يأْتِ باللفظ الصريح، إنما جاء بضمير الغيبة في ﴿يَسَّرْنَاهُ﴾ [مريم: ٩٧] لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] فضمير الغيبة هنا لا يعود إلا على الله تعالى.
وقوله: ﴿بِلِسَانِكَ﴾ [مريم: ٩٧] أي: بلغتك، فجعلناه قرآنا عربياً في أمة عربية؛ ليفهموا عنك البلاغ عن الله في البشارة والنذارة، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم.
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: ٤٤].
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾ [مريم: ٩٧].
والإنذار: التحذير من شَرِّ سيقع في المستقبل، واللَّدَد: عُنْف الخصومة، وشراسة العداوة، نقول: فلان عنده لَدَد أي: يبالغ في الخصومة، ولا يخضع للحجة والإقناع، ومهما حاولتَ معه يُصِرُّ على خصومته.
ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ﴾
وسبق أن أوضحنا أن الذين نجوْا من القتل من الكفار في بعض الغزوات، وحزن المسلمون لنجاتهم، كان منهم فيما بَعْد سيف الله المسلول خالد بن الوليد.
يقول تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ﴾ [مريم: ٩٨].
كم: خبرية تفيد الكثرة، من قرن: من أمة ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ [مريم: ٩٨] لأننا أخذناهم فلم نُبق منهم أثراً يحس.
ووسائل الحِسَّ أو الإدراك كما هو معروف: العين للرؤية، والأذن للسمع، والأنف للشمّ، واللسان للتذوق، واليد للمس، فبأيّ آداة من أدوات الحسّ لا تجد لهم أثراً.
وقوله: ﴿أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ [مريم: ٩٨] الركْز: الصوت الخفيّ، الذي لا تكاد تسمعه. وهذه سُنَّة الله في المكذبين من الأمم السابقة كما قال سبحانه: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: ٣٧].
أين عاد وثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلَق مثلها في البلاد؟
لذلك حين تسمع هذا السؤال: ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ [مريم: ٩٨] لا يسَعْك إلاَّ أنْ تُجيب: لا أحسُّ منهم من أحد، ولا أسمع لهم ركزاً.
سورة مريم
أشارت فاتحةُ سورةِ (مَرْيَمَ) إلى عظمةِ هذا الكتاب، ونبَّهتْ بعد ذلك على مِحوَرِ السُّورةِ؛ وهو رحمةُ الله عزَّ وجلَّ بأنبيائه؛ فقد بدأت بذِكْرِ رحمة الله عز وجل بزكريَّا ويحيى عليهما السلام، ثم رحمتِه تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام، ثم رحمتِهِ تعالى بإبراهيمَ عليه السلام، ثم رحمتِه تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام، ثمَّ رحمتِه تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام، وجُلُّ رحمةِ الله بعباده المؤمنين ستكون يومَ القيامة عندما يُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوْا من النَّار، ويذَرُ الظالمين فيها جِثِيًّا.
ترتيبها المصحفي
19نوعها
مكيةألفاظها
972ترتيب نزولها
44العد المدني الأول
98العد المدني الأخير
99العد البصري
98العد الكوفي
98العد الشامي
98* قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لجِبْريلَ: «ألَا تَزُورُنا أكثَرَ ممَّا تَزُورُنا؟»، قال: فنزَلتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الآيةَ. أخرجه البخاري (٣٢١٨).
* قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا} [مريم: 77]:
عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه، قال: «كنتُ رجُلًا قَيْنًا، وكان لي على العاصِ بنِ وائلٍ دَيْنٌ، فأتَيْتُه أتقاضاه، فقال لي: لا أَقضِيك حتى تكفُرَ بمُحمَّدٍ، قال: قلتُ: لن أكفُرَ به حتى تموتَ، ثم تُبعَثَ، قال: وإنِّي لمبعوثٌ مِن بعدِ الموتِ؟! فسوف أَقضِيك إذا رجَعْتُ إلى مالٍ وولَدٍ، قال: فنزَلتْ: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا ٧٧ أَطَّلَعَ اْلْغَيْبَ أَمِ اْتَّخَذَ عِندَ اْلرَّحْمَٰنِ عَهْدٗا ٧٨ كَلَّاۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ اْلْعَذَابِ مَدّٗا ٧٩ وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدٗا} [مريم: 77-80]». أخرجه البخاري (٤٧٣٥).
* سورة (مَرْيَمَ):
وجهُ تسميةِ سورة (مَرْيَمَ) بهذا الاسم: أنَّها بُسِطتْ فيها قصةُ (مَرْيَمَ)، وابنِها، وأهلِها.
* جاء في فضلِ سورة (مَرْيَمَ): أنها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).
قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي»: يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).
اشتملت سورةُ (مَرْيَمَ) على الموضوعات الآتية:
1. رحمته تعالى بزكريا ويحيى عليهما السلام (١-١٥).
2. رحمته تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام (١٦- ٤٠).
3. رحمته تعالى بإبراهيمَ عليه السلام (٤١ -٥٠).
4. رحمته تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام (٥١ -٥٣).
5. رحمته تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام (٥٤-٥٨).
6. طريق النجاة (٥٩-٦٥).
7. جَوْلات مع شُبَه الكافرين وأباطيلهم (٦٦-٩٥).
8. محبته تعالى لأوليائه، مهمة القرآن (٩٦-٩٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /414).
مقصدُ السورةِ الأعظَمُ هو بيانُ اتِّصافه سبحانه بشمول الرحمة؛ بإضافةِ جميع النِّعَم على جميع خَلْقه، المستلزِم للدَّلالة على اتصافِه بجميع صفات الكمال، المستلزِم لشمول القدرة على إبداعِ المستغرَب، المستلزِم لتمام العلم، المُوجِب للقدرة على البعث، والتنزُّه عن الولد؛ لأنه لا يكون إلا لمحتاجٍ، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سَمِيَّ له سبحانه، فضلًا عن مثيلٍ له سبحانه وتعالى.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /256).