تفسير سورة مريم

جهود ابن عبد البر في التفسير

تفسير سورة سورة مريم من كتاب جهود ابن عبد البر في التفسير
لمؤلفه ابن عبد البر . المتوفي سنة 463 هـ

٣٠٩- الدليل على أن الإمساك يسمى صوما قول الله – عز وجل- حاكيا عن مريم، ﴿ إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾ن أي إمساكا عن الكلام، وقال المفسرون : أي صمتا، وتقول العرب : خيل صائمة، إذا كانت واقفة دون أكل ولا رعي. قال الشاعر :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما١
يقول : خيل ممسكة عن الأكل وخيل أكلة.
وقال امرؤ القيس :
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وسجرا٢
ومعناه إذا أمسكت الشمس عن الجري واستوت في كبد السماء. ( ت : ٢/٣٧-٣٨. وانظر س : ١٠/٢٤٣-٢٤٤ )
٣١٠- أما الصيام في الشريعة، فالإمساك عن الأكل والشرب والجماع، من اطلاع الفجر إلى غروب الشمس.
وفرائض الصوم خمس وهي : العلم بدخول الشهر، والنية، والإمساك عن الطعام والشراب، والجماع، واستغراق طرفي النهار المفترض صيامه، وسنن الصيام أن لا يرفث الصائم ولا يغتاب أحدا. ( ت : ٢/٣٧-٣٨ )
١ أورده في اللسان، مادة "صوم": ١٢/٣٥١. ونسبه إلى النابغة، ولا يوجد في الديوان المطبوع..
٢ الديوان: ٦٣. وصورته:
٣١١- البغي : الزانية، والبغاء : الزنا، قال الله – عز وجل- :﴿ وما كانت أمك بغيا ﴾، يعني زانية، وقال تبارك اسمه :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ﴾١، أي على الزنا. ( س : ٢٠/١١٦ )
١ سورة النور: ٣٣..
٣١٢- قال ابن وهب : سمعت سفيان بن عيينة يقول في قول الله- عز وجل- :﴿ وجعلني مباركا أين ما كنت ﴾، قال : معلما للخير، وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف، قال : حدثنا سعيد بن عثمان وسعيد بن نمير قالا : حدثنا يونس، قال : حدثنا سفيان في قوله :﴿ وجعلني مباركا أين ما كنت ﴾، قال : معلما للخير. ( جامع بيان العلم وفضله : ١/١٥٠ )
٣١٣- أثنى الله – عز وجل-على إسماعيل- عليه السلام- فقال :﴿ إنه كان صادق الوعد ﴾، قال كعب : كان لا يعد أحدا إلا أنجزه١. قال : انتظر رجلا وعده سنة كاملة. ( بهجة المجالس : ٢/٤٩٤ )
١ أورده في الدر المنثور: ٥/٥١٦..
٣١٤- أما قوله في حديث مالك :( إلا تحلة القسم )١، فهو لفظ مخرج في التفسير المسند ؛ لأن القسم المذكور فيه معناه عند العلماء قول الله- عز وجل- :﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ﴾، قال الحسن وقتادة :﴿ حتما مقضيا ﴾، واجبا، وكذلك قال السدي، ورواه عن مرة الهمداني عن ابن مسعود.
وقد اختلف العلماء في الورود المذكور في هذه الآية، فقال منهم قائلون : الورود : الدخول. وممن قال ذلك عبد الله بن رواحة، وعبد الله بن عباس على أنه قد اختلف في ذلك عن ابن عباس. ( س : ٨/٣٢٦ )
٣١٥- ذكر ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال : الورود الذي ذكره الله تعالى في القرآن : الدخول، يردها كل بر وفاجر، ثم قال ابن عباس : في القرآن أربعة أوراد : قوله تعالى :﴿ فأوردهم النار ﴾٢، وقوله :﴿ حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾٣ وقوله :﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ﴾٤، وقوله :﴿ وإن منهم٥ إلا واردها ﴾، قال ابن عباس : والله لقد كان من دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما.
وعن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول :( الورود هو الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، فينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا )٦، يقول : في ذلك الموضع يفوز بالسلامة أهل الطاعة ويشقى بالعذاب أولي الكفر والمعصية.
وقال آخرون : الورود : الممر على الصراط، روى الكعبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾، قال : الممر على الصراط، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وكعب الأحبار، وخالد بن معدان، وأبي نضرة، وهو قول السدي، وروى إسرائيل، وشعبة، عن السدي، أنه سأل مرة الهمداني عن قول الله –عز وجل- :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾، قال : فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم، قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- :( ما من أحد إلا وهو يرد النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كخطو الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كسند الرجل، ثم كمشيه )٧. وقفه إسرائيل، وكان شعبة ربما رفعه، وكان كثيرا يرفعه. ( س : ٨/٣٢٧-٣٢٩. وانظر س : ٦/٣٥٢-٣٥٨ )
وقال آخرون : هو خطاب للكفار، ذكر وكيع عن شعبة، عن عبد الرحمان بن السائب، عن رجل، عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾، قال : هو خطاب للكفار. روي ذلك عن الحسن قال : هو خطاب للمشركين.
قال أبو عمر : يريد وإن منكم يا هؤلاء أو نحو ذلك.
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأها :﴿ وإن منهم إلا واردها ﴾، ردا على الآيات التي قبلها من الكفار، قول الله تعالى :﴿ فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحشرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياه وإن منهم إلا واردها ﴾، قال ابن الأنباري وغيره : جائز في القصة أن يرجع من مخاطبة الغائب إلى لفظ المواجه كما قال عز وجل :﴿ وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ﴾٨، فأبدل الله من الكاف الهاء.
قال أبو عمر : يرجع من مخاطبة الغائب إلى المواجه، ومن المواجه على الغائب كما قال عز وجل :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ﴾٩ وهو كثير في القرآن وأشعار العرب.
وقال آخرون : الورود : إشراف على النار بالنظر إليها ثم ينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، واحتج هؤلاء أو بعضهم بقوله عز وجل :﴿ ولما ورد ماء مدين ﴾١٠، أي أشرف عليه ورآه.
وقال الحسن : هو كقولك : وردت البصرة، وليس الورود الدخول. ( س : ٨/٣٢٧-٣٢٩. وانظر س : ٦/٣٥٢-٣٥٨ )
١ الموطأ، كتاب الجنائز، باب الحسبة في المصيبة: ١٤٣. والحديث كاملا هو قوله- صلى الله عليه وسلم: (ولا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار، إلا تحلة القسم)..
٢ سورة هودك ٩٨..
٣ سورة الأنبياء: ٩٧..
٤ سورة مريم: ٨٧..
٥ على قراءة ابن عباس، كما سيحكيه عنه ابن عبد البر بعد قليل..
٦ أخرجه ابن جرير مع اختلاف في بعض ألفاظه. انظر جامع البيان: ١٦/١١٣-١١٤..
٧ أخرجه ابن جرير موقوفا على ابن مسعود. انظر تفسيره: ١٦/١١١..
٨ سورة الإنسان: ٢١-٢٢..
٩ سورة يونس: ٢٢..
١٠ سورة القصص: ٢٢..
٣١٦- قال أبو عمر : قال الله- عز وجل- :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا ﴾، فقال أهل العلم بتأويل القرآن- منهم ابن عباس، ومجاهد، وسعيد ابن جبير- : يحبهم ويحببهم إلى الناس. ( س : ٢٧/١٠٩ )
سورة مريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

أشارت فاتحةُ سورةِ (مَرْيَمَ) إلى عظمةِ هذا الكتاب، ونبَّهتْ بعد ذلك على مِحوَرِ السُّورةِ؛ وهو رحمةُ الله عزَّ وجلَّ بأنبيائه؛ فقد بدأت بذِكْرِ رحمة الله عز وجل بزكريَّا ويحيى عليهما السلام، ثم رحمتِه تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام، ثم رحمتِهِ تعالى بإبراهيمَ عليه السلام، ثم رحمتِه تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام، ثمَّ رحمتِه تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام، وجُلُّ رحمةِ الله بعباده المؤمنين ستكون يومَ القيامة عندما يُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوْا من النَّار، ويذَرُ الظالمين فيها جِثِيًّا.

ترتيبها المصحفي
19
نوعها
مكية
ألفاظها
972
ترتيب نزولها
44
العد المدني الأول
98
العد المدني الأخير
99
العد البصري
98
العد الكوفي
98
العد الشامي
98

 * قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لجِبْريلَ: «ألَا تَزُورُنا أكثَرَ ممَّا تَزُورُنا؟»، قال: فنزَلتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الآيةَ. أخرجه البخاري (٣٢١٨).

* قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا} [مريم: 77]:

عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه، قال: «كنتُ رجُلًا قَيْنًا، وكان لي على العاصِ بنِ وائلٍ دَيْنٌ، فأتَيْتُه أتقاضاه، فقال لي: لا أَقضِيك حتى تكفُرَ بمُحمَّدٍ، قال: قلتُ: لن أكفُرَ به حتى تموتَ، ثم تُبعَثَ، قال: وإنِّي لمبعوثٌ مِن بعدِ الموتِ؟! فسوف أَقضِيك إذا رجَعْتُ إلى مالٍ وولَدٍ، قال: فنزَلتْ: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا ٧٧ أَطَّلَعَ اْلْغَيْبَ أَمِ اْتَّخَذَ عِندَ اْلرَّحْمَٰنِ عَهْدٗا ٧٨ كَلَّاۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ اْلْعَذَابِ مَدّٗا ٧٩ وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدٗا} [مريم: 77-80]». أخرجه البخاري (٤٧٣٥).

* سورة (مَرْيَمَ):

وجهُ تسميةِ سورة (مَرْيَمَ) بهذا الاسم: أنَّها بُسِطتْ فيها قصةُ (مَرْيَمَ)، وابنِها، وأهلِها.

* جاء في فضلِ سورة (مَرْيَمَ): أنها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي»: يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).


اشتملت سورةُ (مَرْيَمَ) على الموضوعات الآتية:

1. رحمته تعالى بزكريا ويحيى عليهما السلام (١-١٥).

2. رحمته تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام (١٦- ٤٠).

3. رحمته تعالى بإبراهيمَ عليه السلام (٤١ -٥٠).

4. رحمته تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام (٥١ -٥٣).

5. رحمته تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام (٥٤-٥٨).

6. طريق النجاة (٥٩-٦٥).

7. جَوْلات مع شُبَه الكافرين وأباطيلهم (٦٦-٩٥).

8. محبته تعالى لأوليائه، مهمة القرآن (٩٦-٩٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /414).

مقصدُ السورةِ الأعظَمُ هو بيانُ اتِّصافه سبحانه بشمول الرحمة؛ بإضافةِ جميع النِّعَم على جميع خَلْقه، المستلزِم للدَّلالة على اتصافِه بجميع صفات الكمال، المستلزِم لشمول القدرة على إبداعِ المستغرَب، المستلزِم لتمام العلم، المُوجِب للقدرة على البعث، والتنزُّه عن الولد؛ لأنه لا يكون إلا لمحتاجٍ، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سَمِيَّ له سبحانه، فضلًا عن مثيلٍ له سبحانه وتعالى.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /256).

فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا.