تفسير سورة مريم

المحرر في أسباب نزول القرآن

تفسير سورة سورة مريم من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن.
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة مريم
١١٧ - قال الله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا) فنزلت: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا) إلى آخر الآية، قال: كان هذا الجوابَ لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال الطبري: (ذكر أن هذه الآية نزلت من أجل استبطاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
689
جبرائيل بالوحي، وقد ذكرت بعض الرواية، ونذكر إن شاء اللَّه باقي ما حضرنا ذكره مما لم نذكر قبل... ثم ساق الروايات في ذلك حتى قال:
فتأويل الكلام إذن: فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نتنزل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها، للَّه ما هو حادث من أمور الآخرة التي لم تأت وهي آتية، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة بيده ذلك كله، وهو مالكه ومصرفه لا يملك ذلك غيره، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمراً إلا بأمره إيانا به، ولم يكن ربك ذا نسيان فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض... ) اهـ محل الشاهد.
قال السعدي: (استبطأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عليه السلام - مرة في نزوله إليه فقال له: (لو تأتينا أكثر مما تأتينا) شوقاً إليه، وتوحشاً لفراقه، وليطمئن قلبه بنزوله. فأنزل الله على لسان جبريل (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أي ليس لنا من الأمر شيء، إن أمرنا ابتدرنا أمره ولم نعص له أمراً كما قال اللَّه عنهم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، فنحن عبيد مأمورون.
ثم ذكر كلامًا حتى قال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي لم يكن لينساك ويهملك كما قال تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) بل لم يزل معتنياً بأمورك، مجرياً لك على أحسن عوائده الجميلة وتدابيره الجليلة.
فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد، فلا يحزنك ذلك ولا يهمك، واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك لماله من الحكمة فيه) اهـ بتصرف يسير.
وقال ابن عاشور: (وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، وإجماع المفسرين على القول به. واللَّه أعلم.
* * * * *
690
١١٨ - قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن خباب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيتُه أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: قلت: لن أكفر به حتى تموتَ ثم تبعث قال: وإني لمبعوث من بعد الموت، فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مالٍ وولد، قال: فنزلت: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد اتفق جمهور المفسرين على
691
أن هذا سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرأيت يا محمد الذي كفر بحججنا فلم يصدق بها، وأنكر وعيدنا من أهل الكفر وقال وهو باللَّه كافر وبرسوله لأوتينَّ في الآخرة مالاً وولدًا، وذكر أن هذه الآيات أُنزلت في العاص بن وائل السهمي) اهـ ثم ساق الروايات في ذلك.
وقال ابن عطية: (الذي كفر يعني به العاصي بن وائل السهمي قاله جمهور المفسرين) اهـ.
وقال السعدي: (أفلا تعجب من حال هذا الكافر، الذي جمع بين كفره بآيات الله، ودعواه الكبيرة، أنه سيؤتى في الآخرة مالا وولدًا أي: يكون من أهل الجنة وهذا من أعجب الأمور فلو كان مؤمناً باللَّه وادعى هذه الدعوى لسهل الأمر.
وهذه الآية وإن كانت نازلةً في كافر معين فإنها تشمل كل كافر زعم أنه على الحق وأنه من أهل الجنة.
قال اللَّه توبيخاً له وتكذيبًا (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أي أحاط علمه بالغيب حتى علم ما يكون وأن من جملة ما يكون أنه يؤتى يوم القيامة مالاً وولداً؟.
(أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) أنه نائل ما قاله، أي: لم يكن شيء من ذلك فعلم أنه متقول، قائل ما لا علم له به، وهذا التقسيم والترديد في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة، فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند اللَّه في الآخرة لا يخلو:
إما أن يكون قوله صادراً عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا للَّه وحده فلا أحد يعلم شيئًا من المستقبلات الغيبية إلا من أطلعه الله عليه من رسله.
692
وإما أن يكون متخذاً عهداً عند الله بالإيمان به واتباع رسله الذين عهد اللَّه لأهله وأوزع أنهم أهل الآخرة والناجون الفائزون.
فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك بطلان الدعوى ولهذا قال تعالى: (كلا) أي: ليس الأمر كما زعم، فليس للقائل اطلاع على الغيب لأنه كافر ليس عنده من علم الرسل شيء ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا لكفره وعدم إيمانه) اهـ.
وقال الشنقيطي: (والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث، وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه يؤتى يوم القيامة مالاً وولدًا.
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تؤتى مالاً وولدًا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
الأول: أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني: أن يكون الله أعطاك عهداً بهذا، فإنه إن أعطاك عهدًا لن يخلفه.
والثالث: أن تكون قلت هذا افتراءً على اللَّه من غير عهد ولا اطلاع غيب.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) مبطلاً لهما بأداة الإنكار، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدًا فتعين القسم الثالث) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا هو سبب نزول الآيات الكريمة لصحة سنده وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين عليه. والله أعلم.
* * * * *
693
سورة الحج
695
سورة مريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

أشارت فاتحةُ سورةِ (مَرْيَمَ) إلى عظمةِ هذا الكتاب، ونبَّهتْ بعد ذلك على مِحوَرِ السُّورةِ؛ وهو رحمةُ الله عزَّ وجلَّ بأنبيائه؛ فقد بدأت بذِكْرِ رحمة الله عز وجل بزكريَّا ويحيى عليهما السلام، ثم رحمتِه تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام، ثم رحمتِهِ تعالى بإبراهيمَ عليه السلام، ثم رحمتِه تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام، ثمَّ رحمتِه تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام، وجُلُّ رحمةِ الله بعباده المؤمنين ستكون يومَ القيامة عندما يُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوْا من النَّار، ويذَرُ الظالمين فيها جِثِيًّا.

ترتيبها المصحفي
19
نوعها
مكية
ألفاظها
972
ترتيب نزولها
44
العد المدني الأول
98
العد المدني الأخير
99
العد البصري
98
العد الكوفي
98
العد الشامي
98

 * قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لجِبْريلَ: «ألَا تَزُورُنا أكثَرَ ممَّا تَزُورُنا؟»، قال: فنزَلتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الآيةَ. أخرجه البخاري (٣٢١٨).

* قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا} [مريم: 77]:

عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه، قال: «كنتُ رجُلًا قَيْنًا، وكان لي على العاصِ بنِ وائلٍ دَيْنٌ، فأتَيْتُه أتقاضاه، فقال لي: لا أَقضِيك حتى تكفُرَ بمُحمَّدٍ، قال: قلتُ: لن أكفُرَ به حتى تموتَ، ثم تُبعَثَ، قال: وإنِّي لمبعوثٌ مِن بعدِ الموتِ؟! فسوف أَقضِيك إذا رجَعْتُ إلى مالٍ وولَدٍ، قال: فنزَلتْ: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا ٧٧ أَطَّلَعَ اْلْغَيْبَ أَمِ اْتَّخَذَ عِندَ اْلرَّحْمَٰنِ عَهْدٗا ٧٨ كَلَّاۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ اْلْعَذَابِ مَدّٗا ٧٩ وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدٗا} [مريم: 77-80]». أخرجه البخاري (٤٧٣٥).

* سورة (مَرْيَمَ):

وجهُ تسميةِ سورة (مَرْيَمَ) بهذا الاسم: أنَّها بُسِطتْ فيها قصةُ (مَرْيَمَ)، وابنِها، وأهلِها.

* جاء في فضلِ سورة (مَرْيَمَ): أنها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي»: يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).


اشتملت سورةُ (مَرْيَمَ) على الموضوعات الآتية:

1. رحمته تعالى بزكريا ويحيى عليهما السلام (١-١٥).

2. رحمته تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام (١٦- ٤٠).

3. رحمته تعالى بإبراهيمَ عليه السلام (٤١ -٥٠).

4. رحمته تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام (٥١ -٥٣).

5. رحمته تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام (٥٤-٥٨).

6. طريق النجاة (٥٩-٦٥).

7. جَوْلات مع شُبَه الكافرين وأباطيلهم (٦٦-٩٥).

8. محبته تعالى لأوليائه، مهمة القرآن (٩٦-٩٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /414).

مقصدُ السورةِ الأعظَمُ هو بيانُ اتِّصافه سبحانه بشمول الرحمة؛ بإضافةِ جميع النِّعَم على جميع خَلْقه، المستلزِم للدَّلالة على اتصافِه بجميع صفات الكمال، المستلزِم لشمول القدرة على إبداعِ المستغرَب، المستلزِم لتمام العلم، المُوجِب للقدرة على البعث، والتنزُّه عن الولد؛ لأنه لا يكون إلا لمحتاجٍ، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سَمِيَّ له سبحانه، فضلًا عن مثيلٍ له سبحانه وتعالى.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /256).