ﰡ
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: كهيعص [١٩ ١]، فِي سُورَةِ «هُودٍ» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [١٩ ٢]، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ «كهيعص» ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ «ذِكْرُ» مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَلَفْظَةُ «رَحْمَةٍ» مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ «رَبِّكَ»، وَقَوْلُهُ: عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ «رَحْمَةِ» الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ: «زَكَرِيَّا» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ «عَبْدَهُ» أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ: دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً الْآيَةَ [٦ ٦٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [٧ ٥٥]، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «هُنَالِكَ» أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [١٩ ٤]، أَيْ: ضَعُفَ، وَالْوَهْنُ: الضَّعْفُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ ; لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ.
وَقَوْلُهُ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا، الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي «الرَّأْسِ» قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذِ الْمُرَادُ: وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا: انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا | وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا |
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [١٩ ٨]، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [٣ ٤٠]، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [١٩ ٤]، أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [٢٠ ١١٧]، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.
مَعْنَى قَوْلِهِ: خِفْتُ الْمَوَالِيَ [١٩ ٥]، أَيْ: خِفْتُ أَقَارِبِي وَبَنِي عَمِّي وَعُصْبَتِي: أَنْ يُضَيِّعُوا الدِّينَ بَعْدِي، وَلَا يَقُومُوا لِلَّهِ بِدِينِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، فَارْزُقْنِي وَلَدًا يَقُومُ بَعْدِي بِالدِّينِ حَقَّ الْقِيَامِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «يَرِثُنِي» أَنَّهُ إِرْثُ عِلْمٍ وَنُبُوَّةٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، لَا إِرْثَ مَالٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [١٩ ٥]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ يَعْقُوبَ انْقَرَضُوا مِنْ زَمَانٍ، فَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالدِّينُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ بَلِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ «لَا نُورَثُ» يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنْهُ آنِفًا: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «لَا نُورَثُ» نَفْسُهُ، وَصَدَّقَهُ الْجَمَاعَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ كَوْنِ الْمَوْرُوثِ عَنْ زَكَرِيَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا هُوَ الْمَالُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ صِيغَةِ الْجَمْعِ شُمُولُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَوْلُ عُمَرَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ نَصٍّ مِنَ السُّنَّةِ بِهِ ; لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ «يُرِيدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ» لَا يُنَافِي شُمُولَ الْحُكْمِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إِنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَشْمَلْ غَيْرَهُ، وَكَوْنُهُ يَعْنِي نَفْسَهُ لَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُورَثُ أَيْضًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ صَرِيحًا فِي عُمُومِ عَدَمِ الْإِرْثِ الْمَالِيِّ فِي جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْأُصُولِ
تَصْيِيرُ مُشْكَلٍ مِنَ الْجَلِيِّ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّبِيِّ إِذَا أُرِيدَ فَهْمُهُ وَهْوَ بِمَا مِنَ الدَّلِيلِ مُطْلَقًا يَجْلُو الْعَمَا وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا تَعْلَمُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، يَعْنِي وِرَاثَةَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا الْمَالِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ الْآيَةَ [٢٧ ١٦]، فَتِلْكَ الْوِرَاثَةُ أَيْضًا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، وَالْوِرَاثَةُ قَدْ تُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وِرَاثَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الْآيَةَ [٣٥ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [٤٢ ١٤]، وَقَوْلِهِ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ الْآيَةَ [٧ ١٦٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»، وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ، قَالَ صَاحِبُ) تَمْيِيزُ الطَّيِّبِ مِنَ
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ قَالَ: إِنَّ وِرَاثَتَهُ لِزَكَرِيَّا وِرَاثَةَ مَالٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ زَكَرِيَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ وَرَثَتِهِ» أَيْ: مَا يَضُرُّهُ إِرْثُ وَرَثَتِهِ لِمَالِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَرْجَحُ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ ; لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هُنَا مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي [١٩ ٥]، وَجْهُ خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا يَكُونُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِهِ ; لِيَسُوسَهُمْ بِنُبُوَّتِهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ ; لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً، وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى مَالِهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ، وَأَنْ يَأْنَفَ مِنْ وِرَاثَةِ عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لِيَحُوزَ مِيرَاثَهُ دُونَهُمْ وَهَذَا وَجْهٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ ; بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجْمَعُ مَالًا، وَلَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي [١٩ ٦]،
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» وَلَفْظَ «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ» مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ «إِنَّ» دَخَلَتْ عَلَى «نَحْنُ» فَأَبْدَلَتْ لَفْظَةَ «نَحْنُ» الَّتِي هِيَ الْمُبْتَدَأُ بِلَفْظَةِ «نَا» الصَّالِحَةِ لِلنَّصْبِ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّهَا فِي أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أُكِّدَتْ بِـ «إِنَّ» كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَعْنِي بِهَذَا الْوَلِيِّ الْوَلَدَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقِصَّةِ نَفْسِهَا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [٣ ٣٨]، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْوَلَدُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [٢١ ٨٩]، فَقَوْلُهُ «لَا تَذَرْنِي فَرَدًا»، أَيْ: وَاحِدًا بِلَا وَلَدٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَنْ زَكَرِيَّا: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي، أَيْ: مِنْ بَعْدِي إِذَا مِتُّ أَنْ يُغَيِّرُوا فِي الدِّينِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَوَالِيَ الْأَقَارِبُ وَالْعَصَبَاتُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ [٤ ٣٣]، وَالْمَوْلَى فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ يُوَالِيكَ وَتَوَالِيهِ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ ; لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ يُوَالِي ابْنَ عَمِّهِ بِالْقَرَابَةِ الْعَصَبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ | مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا |
وَاعْلَمْ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ | إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهُوَ ذَلِيلٌ |
مَهْلًا ابْنَ عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا | لَا تَنْبُشُوا بَيْنَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا |
لَبِئْسَ الْفَتَى إِنْ كَنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا | جَبَانًا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ زَكَرِيَّا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [١٩ ٦]، أَيْ: مَرْضِيًّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ خَلْقِكَ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَدِينِهِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ، وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [١٩ ٦]، قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، أَعْنِي يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَجْزُومَانِ لِأَجْلِ جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ «هَبْ لِي» وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الطَّلَبِ، وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، إِنْ تَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، يَرْفَعُ الْفِعْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ «وَلِيًّا» أَيْ: وَلِيًّا وَارِثًا لِي، وَوَارِثًا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِجُمْلَةٍ مُنَكَّرًا فَأُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيَتْهُ خَبَرًا وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ أَوْضَحُ مَعْنَى، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي، وَالْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا، وَقَرَأَ «زَكَرِيَّا» بِلَا هَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا «زَكَرِيَّاءَ» بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَدَّ فِي قَوْلِهِ: «وَزَكَرِيَّاءُ إِذْ نَادَى»، مُنْفَصِلٌ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ، وَمُتَّصِلٌ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَنُودِيَ: يَازَكَرِيَّا الْآيَةَ [١٩ ٧]، وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذَا الَّذِي أَجْمَلَهُ هُنَا، فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي نَادَاهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّ النِّدَاءَ الْمَذْكُورَ وَقَعَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [٣ ٣٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَطْلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرَادَ جِبْرِيلَ، وَمَثَّلَ بِهِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ قَائِلًا: إِنَّهُ أَرَادَ بِعُمُومِ الْمَلَائِكَةِ خُصُوصَ جِبْرِيلَ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ لِلْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِرَارًا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اسْمُهُ يَحْيَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَلَمْ يَكِلْ تَسْمِيَتَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَحْيَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ السَّمِيَّ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ سَمِيُّ فَلَانٍ أَيْ: مُسَمًّى بِاسْمِهِ، فَمَنْ كَانَ اسْمُهُمَا وَاحِدًا فَكِلَاهُمَا سَمِيُّ الْآخَرِ، أَيْ: مُسَمًّى بِاسْمِهِ.
وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ السَّمِيِّ يَعْنِي الْمُسَامِيَّ، أَيِ: الْمُمَاثِلَ فِي السُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا بُشِّرَ بِيَحْيَى قَالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [١٩ ٨]، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَهُ هُنَا ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [٣ ٤٠]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [١٩ ٨]، قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «عِتِيًّا» بِكَسْرِ الْعَيْنِ اتِّبَاعًا لِلْكَسْرَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَمُجَانَسَةً لِلْيَاءِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «عُتِيًّا» بِضَمِّهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، أَنَّهُ بَلَغَ غَايَةَ الْكِبَرِ فِي السِّنِّ، حَتَّى نُحِلَّ عَظْمُهُ وَيَبِسَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ وَقَدْ عَتَوْتُ مِنَ الْكِبَرِ فَصِرْتُ نَحِيلَ الْعِظَامِ يَابِسَهَا، يُقَالُ مِنْهُ لِلْعُودِ الْيَابِسِ: عُودٌ عَاتٍ وِعَاسٍ، وَقَدْ عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا وَعِتِيًّا، وَعَسَا يَعْسُو عِسِيًّا وَعُسُوًّا، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ إِلَى غَايَةٍ فِي كِبَرٍ أَوْ فَسَادٍ أَوْ كُفْرٍ فَهُوَ عَاتٍ وَعَاسٍ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ اسْتِفْهَامِ زَكَرِيَّا فِي قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، مَعَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عِنْدَ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» وَوَاحِدٌ مِنْهَا فِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا.
الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْتِفْهَامَ زَكَرِيَّا اسْتِفْهَامُ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلِ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِالْوَلَدِ مِنْ زَوْجَةِ الْعَجُوزِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِمَا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، أَوْ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ شَابَّةً، أَوْ يَرُدُّهُمَا شَابَّيْنِ؟ فَاسْتَفْهَمَ عَنِ الْحَقِيقَةِ لِيَعْلَمَهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا، وَهُوَ أَظْهَرُهَا.
الثَّانِي: أَنَّ اسْتِفْهَامَهُ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ بُعْدًا هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ: مِنْ أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى، قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: لَيْسَ هَذَا نِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نِدَاءُ الشَّيْطَانِ، فَدَاخَلَ زَكَرِيَّا الشَّكُّ فِي أَنَّ النِّدَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ الشَّكِّ النَّاشِئِ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ قَبْلَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ [١٩ ٨]، وَلِذَا طَلَبَ الْآيَةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً الْآيَةَ [١٩ ١٠]، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى زَكَرِيَّا نِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ بِنِدَاءِ الشَّيْطَانِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «عِتِيًّا» أَصْلُهُ عُتُوًّا، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعِتِيِّ الْكِبَرِ الْمُتَنَاهِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّمَا يُعْذَرُ الْوَلِيدُ وَلَا يُعْ | ذَرُ مَنْ كَانَ فِي الزَّمَانِ عِتِيًّا |
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا.
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [٣ ٤٠]، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «كَذَلِكَ» لِلْعُلَمَاءِ فِي إِعْرَابِهِ أَوْجُهٌ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «كَذَلِكَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِـ «قَالَ» وَعَلَيْهِ فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ «ذَلِكَ» إِلَى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَنَظِيرُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [١٥ ٦٦]، وَغَيْرُ هَذَيْنِ مِنْ أَوْجُهِ إِعْرَابِهِ تَرَكْنَاهُ لِعَدَمِ وُضُوحِهِ عِنْدَنَا، وَقَوْلُهُ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أَيْ: يَسِيرٌ سَهْلٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أَيْ: وَمَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرْزُقَكَ الْوَلَدَ الْمَذْكُورَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُنَا لِزَكَرِيَّا: مِنْ أَنَّهُ خَلَقَهُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا أَشَارَ إِلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [١٩ ٦٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [٧٦ ١].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [٢٤ ٣٩]، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ وُجُودُهُ شَيْءٌ، مُسْتَدِلِّينَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ ٨٢]، قَالُوا: قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ لَيْسَ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ لَا شَيْءَ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَضَاقَتِ الْأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ | إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ «خَلَقْتُكَ» بِتَاءِ الْفَاعِلِ الْمَضْمُومَةِ الَّتِي هِيَ تَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وَقَدْ خَلَقْنَاكَ» بَنُونٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا.
الْمُرَادُ بِالْآيَةِ هُنَا الْعَلَامَةُ، أَيِ: اجْعَلْ لِي عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وُقُوعَ مَا بُشِّرْتُ بِهِ مِنَ الْوَلَدِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: طَلَبَ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لِتَتِمَّ طُمَأْنِينَتُهُ بِوُقُوعِ مَا بُشِّرَ بِهِ، وَنَظِيرُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [٢ ٢٦٠]، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَلَّامَةِ أَنْ يَعْرِفَ ابْتِدَاءَ حَمْلِ امْرَأَتِهِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي أَوَّلِ زَمَنِهِ يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا أَيْ: عَلَامَتُكَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، أَيْ: أَنْ تُمْنَعَ الْكَلَامَ فَلَا تُطِيقُهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهِنَّ فِي حَالِ كَوْنِكَ سَوِيًّا، أَيْ: سَوِيَّ الْخَلْقِ، سَلِيمَ الْجَوَارِحِ، مَا بِكَ خَرَسٌ وَلَا بُكْمٌ وَلَكِنَّكَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي «آلِ عِمْرَانَ»، أَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [٣ ٤١]، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى، ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، أَيْ: ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَتَابِعَاتٍ غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ مَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ كَوْنِ اعْتِقَالِ لِسَانِهِ عَنْ كَلَامِ قَوْمِهِ لَيْسَ لِعِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ حَدَثَ بِهِ، وَلَكِنْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى هُنَا «ثَلَاثَ لَيَالٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا أَيَّامَهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْأَيَّامَ فِي «آلِ عِمْرَانَ»، فِي قَوْلِهِ: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [٣ ٤١]، فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ لَيَالِي بِأَيَّامِهِنَّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، يَعْنِي إِلَّا بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [١٩ ١١]، وَقَوْلُهُ فِي «آلِ
فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا | خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيُّ سِلَامُهَا |
وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى | فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِي |
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا | بَقِيَّةٌ وُحِيٍّ فِي وَنِّ الصَّحَائِفِ |
كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحَيًا | بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلَامِ |
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ زَكَرِيَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَوْ كَتَبَ لَهُمْ: أَنْ سَبِّحُوا اللَّهَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ آخِرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ زَكَرِيَّا قَوْمَهُ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ زَكَرِيَّاءَ بِهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [٣ ٤١]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمِحْرَابَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ هُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا | لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّمًا |
ؤتَنْبِيهٌ
أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَشْرُوعِيَّةَ ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ فِي الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ الْمِحْرَابَ مَوْضِعُ صَلَاةِ زَكَرِيَّا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [٣ ٣٩]، وَالْمِحْرَابُ أَرْفَعُ مِنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ارْتِفَاعَ إِمَامِهِمْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، مُتَمَسِّكًا بِقِصَّةِ الْمِنْبَرِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي الِارْتِفَاعِ الْكَثِيرِ دُونَ الْيَسِيرِ، وَعَلَّلَ أَصْحَابُهُ الْمَنْعَ بِخَوْفِ الْكِبْرِ عَلَى الْإِمَامِ.
قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا، أَوْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، ذَكَرْتُ ذَلِكَ حِينَ مَدَدْتَنِي، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصَلِّي وَالنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ فَاتَّبَعَهُ عَمَّارُ حَتَّى أَنْزَلَهُ حُذَيْفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّارٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَلَا يَقُمْ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِهِمْ» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: لِذَلِكَ اتَّبَعْتُكَ حِينَ أَخَذْتَ عَلَى يَدَيَّ.
قُلْتُ: فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ أَخْبَرُوا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِحَدِيثِ الْمِنْبَرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ: أَنَّ فِيهِ عَمَلًا زَائِدًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ النُّزُولُ وَالصُّعُودُ، فَنُسِخَ كَمَا نُسِخَ الْكَلَامُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: سَنَتَكَلَّمُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَنُبَيِّنُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَدِلَّتَهُمْ وَمَا يَظْهَرُ رَجَّحْنَاهُ بِالدَّلِيلِ.
أَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ فَقَدْ سَاقَهُمَا أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ وَأَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيُّ الْمَعْنَى قَالَ: ثَنَا يَعْلَى، ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو خَالِدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِالْمَدَائِنِ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِيهِ عَنْ عَمَّارٍ رَجُلٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ كَمَا تَرَى، وَأَمَّا الْأَثَرُ الْأَوَّلُ فَقَدْ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا صَرِيحًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) التَّلْخِيصِ (فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَثَرِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْنِ: وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ: أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَالَّذِي جَبَذَهُ حُذَيْفَةُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لَكِنَّ فِيهِ مَجْهُولٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ، اهـ مِنَ التَّلْخِيصِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ عَلَى الدُّكَّانِ وَجَبْذِ أَبِي مَسْعُودٍ لَهُ الْمَذْكُورِ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ وَمُصَنِّفِيهِمْ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُقَالُ جَذَبَ وَجَبَذَ، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ اهـ مِنْهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمِنْبَرِ الَّتِي أَشَارَ لَهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهَا حُجَّةُ مَنْ يُجِيزُ ارْتِفَاعَ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَهِيَ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وُضِعَ، فَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: هَذَا مَذْهَبُنَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ، أَنَّهُ يَكْرَهُ الِارْتِفَاعَ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَعَكْسِهِ، فَعُلُوُّ الْمَأْمُومِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى كَرَاهَتِهِ، وَبَقِيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِهِ، وَعُلُوُّ الْإِمَامِ لَا يُعْجِبُهُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ كَرِهَهُ، وَأَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ، وَعُلُوُّ مَأْمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْجِبُنِي، انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ أَيْضًا، وَقَوْلِهِ «يُعْجِبُنِي» ظَاهِرٌ فِي الْكَرَاهَةِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ.
وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَقْصِدِ الْمُرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ التَّكَبُّرَ عَلَى النَّاسِ، فَإِنْ قَصَدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمْ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعُلُوُّ مَأْمُومٍ وَلَوْ بِسَطْحٍ لَا عَكْسُهُ، وَبِطَلَبٍ بِقَصْدِ إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ بِهِ الْكِبْرَ إِلَّا بِكَشِبْرٍ اهـ، وَقَوْلُهُ «إِلَّا بِكَشِبْرٍ» يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِارْتِفَاعُ بِكَشِبْرٍ، وَنَحْوُ الشِّبْرِ عَظْمُ الذِّرَاعِ عِنْدَهُمْ، وَمَحَلُّ جَوَازِ الِارْتِفَاعِ الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْكِبْرُ، فَقَوْلُهُ «إِلَّا بِكَشِبْرٍ» مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ «لَا عَكْسُهُ» لَا مِنْ مَسْأَلَةِ قَصْدِهِ الْكِبْرَ فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا: قَالَ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِكَلَامِ خَلِيلٍ الْمَذْكُورِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ عَلَى شَيْءٍ أَرْفَعَ مِمَّا يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ خَلْفَهُ، مِثْلَ الدُّكَّانِ يَكُونُ فِي الْمِحْرَابِ وَنَحْوِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ فَعَلَ أَعَادُوا أَبَدًا، لِأَنَّهُمْ يَعْبَثُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُكَّانًا يَسِيرَ الِارْتِفَاعِ مِثْلَ مَا كَانَ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فَتُجْزِئُهُمُ الصَّلَاةُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مِثْلَ الشِّبْرِ وَعَظْمِ الذِّرَاعِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَانْظُرْ إِذَا صَلَّى الْمُقْتَدِي كَذَلِكَ أَعْنِي عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ قَصْدًا
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ أَنَّ ارْتِفَاعَ كُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى الْآخَرِ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يُكْرَهُ عُلُوُّ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الِارْتِفَاعِ غَيْرِ الْيَسِيرِ، وَلَا كَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْيَسِيرِ: وَقَدْرُ الِارْتِفَاعِ الْمُوجِبِ لِلْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ قَدْرُ قَامَةٍ، وَلَا بَأْسَ بِمَا دُونَهَا، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: وَقِيلَ هُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ: مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ ذِرَاعٍ اعْتِبَارًا بِالسُّتْرَةِ، قَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ جَمَاعَةٌ فِي مَكَانِهِ الْمُرْتَفِعِ، وَبَقِيَّةُ الْمَأْمُومِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ انْتَهَى بِمَعْنَاهُ) تَبْيِينُ الْحَقَائِقِ شَرْحُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ (.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ عُلُوِّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، فَيُكْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَبَيْنَ عُلُوِّ الْمَأْمُومِ الْإِمَامَ فَيَجُوزُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَعْلِيمَهُمُ الصَّلَاةَ، أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا: فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مَكَانٍ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ حُجَّةَ مَنْ كَرِهَ عُلُوَّ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ أَوْ مَنَعَهُ هِيَ مَا قَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ جَبْذِ أَبِي مَسْعُودٍ لِحُذَيْفَةَ لَمَّا أَمَّ النَّاسَ، وَقَامَ يُصَلِّي عَلَى دُكَّانٍ، الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ لِلتَّعْلِيمِ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ «فِي التَّلْخِيصِ» : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يُصَلِّي فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْقَعْنَبِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ صَالِحٍ، وَرَوَاهُ سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِهِ، فَقَدْ رَأَيْتَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَدِلَّتَهُمْ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وُجُوبُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ عُلُوَّ الْإِمَامِ مَكْرُوهٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِصَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِجَوَازِهِ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ رَأَوْهُ وَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَرَهُ إِلَّا مَنْ يَلِيهِ، وَجَمْعُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ ارْتِفَاعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ ارْتِفَاعٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مُغْتَفَرٌ، أَمَّا عُلُوُّ الْمَأْمُومِ فَقَدْ تَعَارَضَ فِيهِ الْقِيَاسُ مَعَ فِعْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ارْتِفَاعِ الْمَأْمُومِ قِيَاسًا عَلَى ارْتِفَاعِ الْإِمَامِ وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَطَ تَجَنُّبُ عُلُوِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا [١٩ ١١]، هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا يُفَسِّرُ الْإِيحَاءَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا، فَهَذَا الَّذِي أَشَارَ لَهُمْ بِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ «أَنِ» الْمَصْدَرِيَّةَ تَأْتِي مَعَ الْأَفْعَالِ الطَّلَبِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَوْحَى إِلَيْهِمْ أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ سَبِّحُوا، أَيْ: بِالتَّسْبِيحِ أَوْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابَةُ، وَكَوْنُهَا مُفَسِّرَةً هُوَ الصَّوَابُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
اعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا وَصَفَهُ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [١٩ ١٢]، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا، فَقَوْلُهُ: يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، أَيْ: خُذِ التَّوْرَاةَ بِقُوَّةٍ، أَيْ: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وَذَلِكَ بِتَفَهُّمِ الْمَعْنَى أَوَّلًا حَتَّى يَفْهَمَهُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ يَعْمَلَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جِهَاتِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا: التَّوْرَاةُ، وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى يَحْيَى، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّمَةَ، وَقِيلَ: هُوَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَظْهَرُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ التَّوْرَاةُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ، أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ الْحُكْمَ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْفَهْمَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ: إِدْرَاكَ مَا فِيهِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ صَبِيًّا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا فَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعْطَيْنَاهُ الْفَهْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَسْنَانَ الرِّجَالِ، وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ أَحَدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الصِّبْيَانَ قَالُوا لِيَحْيَى: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ، فَقَالَ:
وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ | إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُعْلَمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ بِفَهْمِ الْكِتَابِ السَّمَاوِيِّ فَهْمًا صَحِيحًا، وَالْعَمَلِ بِهِ حَقًّا، فَإِنَّ هَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَصْلُ مَعْنَى «الْحِكَمِ» الْمَنْعُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَمْنَعُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالنُّقْصَانِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: صَبِيًّا، أَيْ: لَمْ يَبْلُغْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: صَبِيًّا، أَيْ: شَابًّا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الْكُهُولَةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، قِيلَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ ابْنُ سَبْعٍ، وَقِيلَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَحَنَانًا، مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُكْمَ، أَيْ: وَآتَيْنَاهُ حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا، وَالْحَنَانُ: هُوَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، وَإِطْلَاقُ الْحَنَانِ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَنَانَكَ وَحَنَانَيْكَ يَا رَبِّ، بِمَعْنَى رَحْمَتَكَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَبِنْتَ الْحَارِثِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو | لَهُ مُلْكُ الْعِرَاقِ إِلَى عُمَانِ |
وَيَمْنَحُهَا بَنُو شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ | مَعِيزَهُمُ حَنَانَكَ ذَا الْحَنَانِ |
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيْكَ | بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ |
وَأَحْدَثُ عَهْدٍ مِنْ أَمِينَةَ نَظْرَةٌ | عَلَى جَانِبِ الْعَلْيَاءِ إِذْ أَنَا وَاقِفُ |
فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَاهُنَا | أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالْحَيِّ عَارِفُ |
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ الْمَلِيكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ لَدُنَّا، أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا، وَأَصَحُّ التَّفْسِيرَاتِ فِي قَوْلِهِ «وَزَكَاةً» أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: أَوْ أَعْطَيْنَاهُ زَكَاةً، أَيْ: طَهَارَةً مِنْ أَدْرَانِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِالطَّاعَةِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُرْضِيهِ: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ «وَزَكَاةً» الزَّكَاةُ: التَّطْهِيرُ وَالْبَرَكَةُ وَالتَّنْمِيَةُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُبَارَكًا لِلنَّاسِ يَهْدِيهِمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: زَكَّيْنَاهُ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا يُزَكِّي الشُّهُودُ إِنْسَانًا، وَقِيلَ «زَكَاةً» صَدَقَةً عَلَى أَبَوَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَعْطَيْنَاهُ زَكَاةً، أَيْ: طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي بِتَوْفِيقِنَا إِيَّاهُ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ فِي الْآيَةِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي بِهِ الطَّهَارَةُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَ تَقِيًّا، أَيْ: مُمْتَثِلًا لِأَوَامِرِ رَبِّهِ مُجْتَنِبًا كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِذَا لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ، وَلَمْ يُلِمَّ بِهَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَفِي نَحْوِ ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، إِمَّا بِانْقِطَاعٍ، وَإِمَّا بِعَنْعَنَةِ مُدَلِّسٍ: وَإِمَّا بِضَعْفِ وَاوٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى «التَّقْوَى» مِرَارًا وَأَصْلُ مَادَّتِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ [١٩ ١٤]، الْبَرُّ بِالْفَتْحِ هُوَ فَاعِلُ الْبِرِّ بِالْكَسْرِ كَثِيرًا أَيْ: وَجَعَلْنَاهُ كَثِيرَ الْبِرِّ بِوَالِدَيْهِ، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، لَطِيفًا بِهِمَا، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمَا، وَقَوْلُهُ «وَبَرًّا» مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ «تَقِيًّا»، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَطَاعَةِ وَالِدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ، مُتَوَاضِعًا لِوَالِدَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْجَبَّارُ: هُوَ كَثِيرُ الْجَبْرِ، أَيِ: الْقَهْرِ لِلنَّاسِ، وَالظُّلْمِ لَهُمْ، وَكُلُّ مُتَكَبِّرٍ عَلَى النَّاسِ يَظْلِمُهُمْ: فَهُوَ جَبَّارٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى شَدِيدِ الْبَطْشِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [٢٦ ١٣٠]، وَعَلَى مَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْقَتْلُ فِي
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا | وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا |
فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا | وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرُ مَا قَدْ رُسِمَا |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [١٩ ١٥]، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ، أَيْ: أَمَانٌ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا التَّحِيَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَمَانِ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ مُتَحَصَّلٌ لَهُ بِنَفْيِ الْعِصْيَانِ عَنْهُ وَهُوَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ فِي أَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي الْإِنْسَانُ فِيهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمِ الْحَوْلِ.
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَرْجِعُ الْقَوْلَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ مَعْنَى سَلَامٌ، التَّحِيَّةُ، الْأَمَانُ، وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ الْأَمَانُ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَمَانَ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ مَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ، تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِيَحْيَى وَمَعْنَاهَا الْأَمَانُ وَالسَّلَامَةُ، وَقَوْلَهُ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالسَّلَامِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ وِلَادَتِهِ، وَوَقْتُ مَوْتِهِ، وَوَقْتُ بَعْثِهِ، فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ الْآيَةَ ; لِأَنَّهَا أَوْحَشُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: يَوْمَ يُولَدُ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارِجًا مِمَّا كَانَ فِيهِ وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ عَظِيمٍ، قَالَ: فَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَخَصَّهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِيهَا، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنْ عِيسَى وَيَحْيَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: انْتَزَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّسْلِيمِ فَضْلَ عِيسَى بِأَنْ قَالَ إِدْلَالُهُ
تَنْبِيهٌ
الْفَتْحَةُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [١٩ ١٥]، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي الظُّرُوفِ الثَّلَاثَةِ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لِجَوَازِ الْبِنَاءِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ فَتْحَةُ يَوْمَ وُلِدَ فَتْحَةَ بِنَاءٍ، وَفَتْحَةُ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَتْحَةَ نَصْبٍ ; لِأَنَّ بِنَاءَ مَا قَبْلَ الْفِعْلِ الْمَاضِي أَجْوَدُ مِنْ إِعْرَابِهِ وَإِعْرَابِ مَا قَبْلَ الْمُضَارِعِ وَالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَجْوَدُ مِنْ بِنَائِهِ، كَمَا عَقَدَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَابْنِ أَوْ أَعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا | وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا |
وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا | أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا |
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا | فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ |
الثَّانِي: أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مَبْنِيٌّ بِنَاءً عَارِضًا، كَالْمُضَارِعِ الْمَبْنِيِّ لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ النِّسْوَةِ، كَقَوْلِ الْآخَرِ:
لَأَجْتَذِبَنَّ مِنْهُنَّ قَلْبِي تَحَلُّمًا | عَلَى حِينَ يَسْتَصْبِينَ كُلَّ حَلِيمِ |
الثَّالِثُ: أَنْ يُضَافَ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِعْلُهَا مُعْرَبٌ، كَقَوْلِ أَبِي صَخْرٍ الْهُذَلِيِّ:
إِذَا قُلْتُ هَذَا حِينَ أَسْلُو يَهِيجُنِي | نَسِيمُ الصَّبَا مِنْ حَيْثُ يَطَّلِعُ الْفَجْرُ |
الرَّابِعُ: أَنْ يُضَافَ الظَّرْفُ الْمَذْكُورُ إِلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَمْرَكِ اللَّهَ أَنَّنِي | كَرِيمٌ عَلَى حِينِ الْكِرَامِ قَلِيلُ |
تَذَكَّرَ مَا تَذَكَّرَ مِنْ سُلَيْمَى | عَلَى حِينِ التَّوَاصُلُ غَيْرُ دَانِ |
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ | بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَجْهُ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ أَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا، وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا، وَعَلَيْهِ فَبَعْثُهُ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ حَيًّا، وَتِلْكَ حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ يَحْيَى، وَذَكَرَ بَعْضَ صِفَاتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [٣ ٣٩]، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِعِيسَى، وَإِنَّمَا قِيلَ لِعِيسَى كَلِمَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَةٍ هِيَ قَوْلُهُ «كُنْ» فَكَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْآيَةَ [٤ ١٧١]، وَقَالَ: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [٣ ٤٥]، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَلِمَةٍ: الْكِتَابُ، أَيْ: مُصَدِّقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُفِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى [٧ ١٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [٦ ١١٥]،
وَبَاقِيَ الْأَقْوَالِ تَرَكْنَاهُ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ «وَسَيِّدًا» وَزْنُ السَّيِّدِ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ فَيْعِلٌ وَأَصْلُ مَادَّتِهِ) س ود (سَكَنَتْ يَاءُ الْفَعِيلِ الزَّائِدَةِ قَبْلَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْعَيْنِ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً عَنِ الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
الْبَيْتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ آنِفًا، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّوَادِ وَهُوَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، فَالسَّيِّدُ مَنْ يُطِيعُهُ، وَيَتَّبِعُهُ سَوَادٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْمَادَّةِ وَاوٌ أَنَّكَ تَقُولُ فِيهِ: سَادَ يَسُودُ بِالْوَاوِ، وَتَقُولُ سَوَّدُوهُ إِذَا جَعَلُوهُ سَيِّدًا، وَالتَّضْعِيفُ يَرُدُّ الْعَيْنَ إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيِّ:
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَ سَيِّدِ عَامِرٍ | وَفَارِسَهَا الْمَشْهُورَ فِي كُلِّ مَوْكِبِ |
فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ | أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسَمْوَ بِأُمٍّ وَلَا أَبِ |
وَإِنَّ بِقَوْمٍ سَوَّدُوكَ لِحَاجَةٍ | إِلَى سَيِّدٍ لَوْ يَظْفَرُونَ بِسَيِّدِ |
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي | لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ «مَرْيَمَ» حِينَ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، وَقَوْلُهُ «انْتَبَذَتْ» أَيْ: تَنَحَّتْ عَنْهُمْ وَاعْتَزَلَتْهُمْ مُنْفَرِدَةً عَنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: مَكَانًا شَرْقِيًّا، أَيْ: مِمَّا يَلِي شَرْقِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «إِذِ» «مَرْيَمَ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ ; لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى مَظْرُوفِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ وَاعْتَرَضَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْبَقَاءِ وَأَبُو حَيَّانَ. وَالظَّاهِرُ سُقُوطُ اعْتِرَاضِهِمَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ مَعَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا شَيْئًا عَنْ نَسَبِ «مَرْيَمَ» وَلَا عَنْ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَأَنَّ أُمَّهَا نَذَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مُحَرَّرًا، تَعْنِي لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَظُنُّ أَنَّهَا سَتَلِدُ ذَكَرًا «فَوَلَدَتْ مَرْيَمَ»، قَالَ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا ابْنَةَ عِمْرَانَ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا الْآيَةَ [٦٦ ١٢]، وَذَكَرَ قِصَّةَ وِلَادَتِهَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [٣ ٣٥ - ٣٦]
وَقَوْلُهُ «مَكَانًا» مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [٢٦ ١٩٣] وَقَوْلُهُ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [١٦ ١٠٢]، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ.
] قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا.
تَمَثُّلُهُ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِآدَمِيٍّ، وَهَذَا الْمَدْلُولُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الْآيَةَ [٣ ٤٥]، وَهَذَا الَّذِي بَشَّرَهَا بِهِ هُوَ الَّذِي قَالَ لَهَا هُنَا إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [١٩ ١٩]، وَقَوْلُهُ: بَشَرًا سَوِيًّا، حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ «تَمَثَّلَ لَهَا».
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الرُّوحَ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ قَالَ لَهَا إِنَّهُ رَسُولُ رَبِّهَا لِيَهَبَ لَهَا، أَيْ: لِيُعْطِيَهَا غُلَامًا، أَيْ: وَلَدًا «زَكِيًّا» أَيْ: طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْغُلَامِ الْمَوْهُوبِ لَهَا، وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [٣ ٤٥ - ٤٦]، وَقَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ [٣ ٤٨ - ٤٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَاتِ هَذَا الْغُلَامِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَقَالُونُ عَنْهُ أَيْضًا بِخُلْفٍ عَنْهُ «لِيَهَبَ» بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَ اللَّامِ أَيْ: لِيَهَبَ لَكِ هُوَ، أَيْ رَبُّكِ «غُلَامًا زَكِيًّا» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «لِأَهَبَ» بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: لِأَهَبَ لَكِ أَنَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ رَبِّكِ غُلَامًا زَكِيًّا، وَفِي مَعْنَى إِسْنَادِهِ الْهِبَةَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ لَهَا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، أَيْ: لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُ جِبْرِيلَ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا، حِكَايَةٌ مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ، وَقَدْ قَالَ لِي أَرْسَلْتُكَ لِأَهَبَ غُلَامًا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَفِي الثَّانِي بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهَذَا صَدَّرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا بَشَّرَهَا جِبْرِيلُ بِالْغُلَامِ الزَّكِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ [١٩ ٢٠]، أَيْ: كَيْفَ أَلِدُ غُلَامًا وَالْحَالُ أَنِّي لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، تَعْنِي: لَمْ يُجَامِعْنِي زَوْجٌ بِنِكَاحٍ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، أَيْ: لَمْ أَكُ زَانِيَةً، وَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا مَسِيسُ الرِّجَالِ حَلَالًا وَحَرَامًا فَكَيْفَ تَحْمِلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِفْهَامَهَا اسْتِخْبَارٌ وَاسْتِعْلَامٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَمْلُ الْغُلَامِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّهَا مَعَ عَدَمِ مَسِيسِ الرِّجَالِ لَمْ تَتَّضِحْ لَهَا الْكَيْفِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُهَا تَعَجُّبٌ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْهُ هُنَا ذَكَرَهُ عَنْهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [٣ ٤٥]، قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [٣ ٤٧] وَاقْتِصَارُهَا فِي آيَةِ «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى قَوْلِهَا: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا شَامِلٌ لِلْمَسِيسِ بِنِكَاحٍ وَالْمَسِيسِ بِزِنًى، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» : وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [١٩ ٢٠]، يَظْهَرُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهَا «وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ ; لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَشْمَلُ الْحَلَالَ
وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَةَ «بَشَرٌ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ، فَيَنْتَفِي مَسِيسُ كُلِّ بَشَرٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَالْبَغِيُّ: الْمُجَاهِرَةُ الْمُشْتَهِرَةُ بِالزِّنَى، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَاوٌ وَيَاءٌ سُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِأَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَتْ فِي عِصِيٍّ وَدِلِيٍّ جَمْعُ عَصًا وَدَلْوٍ، كَمَا قَدَّمْنَا هَذَا مِرَارًا، وَالْقَائِلُ بِأَنَّ أَصْلَ «الْبَغِيِّ» فَعُولٌ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَصْلُهُ «فَعِيلًا» لَلَحِقَتْهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ ; لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ فِي «فَعِيلٍ» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِ التَّمَامِ: أَصْلُ الْبَغِيِّ عَلَى وَزْنِ «فَعِيلٍ» وَلَوْ كَانَ «فَعُولًا» لَقِيلَ: بَغُوٌّ، كَمَا قِيلَ: فُلَانٌ نَهُوٌّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ يُجَابُ عَنْ عَدَمِ لُحُوقِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، بِأَنَّ الْبَغِيَّ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بِالْإِنَاثِ، وَالرَّجُلُ يُقَالُ فِيهِ بَاغٍ لَا بَغِيٌّ، كَمَا قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْأَوْصَافُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِنَاثِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَحَائِضٍ، كَمَا عَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يُخَصّ | عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصّ |
قَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَوْفًى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [١٩ ٢١]، أَيْ: وَسَتَلِدِينَ ذَلِكَ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّكِ بَشَرٌ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣ ٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ حِكَمِ خَلْقِهِ عِيسَى مِنِ امْرَأَةٍ بِغَيْرِ زَوْجٍ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلنَّاسِ، أَيْ عَلَامَةً دَالَّةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ كَيْفَ
].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [١٩ ٢١]، فِيهِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ تَعْلِيلٌ مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا ذَلِكَ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً، وَنَحْوُهُ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [٤٥ ٢٢]، وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ [١٢ ٢١] اهـ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَرَحْمَةً مِنَّا، أَيْ: لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَلَمْ يَبْتَغِ الرَّحْمَةَ لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [٢١ ١٠٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [١٩ ٢١]، أَيْ: وَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ الْغُلَامِ مِنْكِ أَمْرًا مَقْضِيًّا، أَيْ: مُقَدَّرًا فِي الْأَزَلِ، مَسْطُورًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَرْيَمَ حَمَلَتْ عِيسَى، فَقَوْلُهُ: فَحَمَلَتْهُ، أَيْ: عِيسَى فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ: تَنَحَّتْ بِهِ وَبَعُدَتْ مُعْتَزِلَةً عَنْ قَوْمِهَا مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ: فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ بَيْتُ لَحْمٍ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ، أَيْ: أَلْجَأَهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، أَيْ: جِذْعِ نَخْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ، وَ: أَجَاءَهُ غَيْرُهُ: إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْمَجِيءِ،
وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْنَا | أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ وَالرَّجَاءُ |
إِذْ شَدَدْنَا شَدَّةً صَادِقَةً فَاجَأْنَاكُمْ | إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ وَالْمَخَاضُ |
وَقَوْلُهُ: قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [١٩ ٢٣]، تَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ، فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ حَمْلِهَا بِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ هَذَا الَّذِي تَنَحَّتْ عَنْهُمْ مِنْ أَجْلِهِ، وَتَمَنَّتْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَهُوَ خَوْفُهَا مِنْ أَنْ يَتَّهِمُوهَا بِالزِّنَى، وَأَنَّهَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْغُلَامِ مِنْ زِنًى - وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ سَلِمَتْ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ حَمْلِهَا أَنَّهُ نَفَحَ فِيهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى فَرْجِهَا فَوَقَعَ الْحَمْلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [٦٦ ١٢]، وَقَالَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا الْآيَةَ [٢١ ٩١]، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّفْخِ نَفْخُ جِبْرِيلَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فَحَمَلَتْ، كَمَا تَدُلُّ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [١٩ ١٨]، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِسْنَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا النَّفْخَ الْمَذْكُورَ لِنَفَسِهِ فِي قَوْلِهِ: فَنَفَخْنَا لِأَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا أَوْقَعَهُ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَ الْحَمْلَ مِنْ ذَلِكَ النَّفْخِ، فَجِبْرِيلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْحَمْلَ مِنْ ذَلِكَ النَّفْخِ وَمِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمْرِهِ تَعَالَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ النَّفْخُ الْمَذْكُورُ وَلَا وُجُودُ الْحَمْلِ مِنْهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا - أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَرْجَهَا الَّذِي نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ هُوَ جَيْبُ دِرْعِهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ، بَلِ النَّفْخُ الْوَاقِعُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ الْمَعْرُوفِ فَوَقَعَ الْحَمْلُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي خَافَتْ مِنْهُ وَهُوَ قَذْفُهُمْ لَهَا بِالْفَاحِشَةِ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [١٩ ٢٧]، يَعْنُونَ الْفَاحِشَةَ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [١٩ ٢٨]،
وَقَوْلُهُ: مَكَانًا قَصِيًّا، الْقَصِيُّ: الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ الْقَصِيِّ | مِنِّيَ ذِي الْقَاذُورَةِ الْمَقْلِيِّ |
أَوْ تَحْلِفِي بِرَبِّكِ الْعَلِيِّ | أَنِّي أَبُو ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّ |
]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ: انْتَبَذَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «هَذَا» إِلَى الْحَمْلِ وَالْمَخَاضِ الَّذِي أَصَابَهَا لِلْوَضْعِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْهَا: وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، النِّسْيُ وَالنَّسْيُ بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ: هُوَ مَا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُطْرَحَ وَيُنْسَى لِحَقَارَتِهِ، كَخِرَقِ الْحَيْضِ، وَكَالْوَتَدِ وَالْعَصَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا ارْتَحَلُوا عَنِ الدَّارِ قَوْلُهُمْ: انْظُرُوا أَنَسَاءَكُمْ. جَمْعُ نَسْيٍ أَيِ الْأَشْيَاءُ الْحَقِيرَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتْرَكَ وَتُنْسَى كَالْعَصَا وَالْوَتَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَوْلُهَا «وَكُنْتُ نَسْيًا» أَيْ شَيْئًا تَافِهًا حَقِيرًا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُتْرَكَ وَيُنْسَى عَادَةً، وَقَوْلُهَا «مَنْسِيًّا» تَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُتْرَكَ وَيُنْسَى قَدْ نُسِيَ وَطُرِحَ بِالْفِعْلِ فَوُجِدَ فِيهِ النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ، وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ النَّسْيِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
أَتَجْعَلُنَا جِسْرًا لِكَلْبِ قُضَاعَةَ | وَلَسْتُ بِنَسْيٍ فِي مُعَدٍّ وَلَا دَخَلْ |
كَأَنَّ لَهَا فِي الْأَرْضِ نَسْيًا تَقُصُّهُ | عَلَى أَمِّهَا وَإِنْ تُحَدِّثْكَ تَبْلَتِ |
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ «يَالَيْتَنِي مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «مُتُّ» بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ «وَكُنْتُ نَسْيًا» بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ.
قِرَاءَةُ «مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ كَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَجْهُهَا ; لِأَنَّ لُغَةَ «مَاتَ يَمُوتُ» لَا يَصِحُّ مِنْهَا «مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ أَنَّهُ مِنْ مَاتَ يَمَاتُ، كَخَافَ يَخَافُ، لَا مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، كَقَالَ يَقُولُ. فَلَفْظُ «مَاتَ» فِيهَا لُغَتَانِ عَرَبِيَّتَانِ فَصِيحَتَانِ، الْأُولَى مِنْهُمَا مَوَتَ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ أَلِفًا عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
مِنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ بِتَحْرِيكٍ أَصِلْ | أَلِفًا ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ |
الثَّانِيَةُ أَنَّهَا «مَوِتَ» بِكَسْرِ الْوَاوِ، أُبْدِلَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِلْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَمُضَارِعُ هَذِهِ «يَمَاتُ» بِالْفَتْحِ ; لِأَنَّ «فَعِلَ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَنْقَاسُ فِي مُضَارِعِهَا بِـ «فَعَلَ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي اللَّامِيَّةِ:
وَافْتَحْ مَوْضِعَ الْكَسْرِ فِي الْمَبْنِيِّ مِنْ فَعَلَا
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَلِمَاتٌ مَعْرُوفَةٌ سَمَاعِيَّةٌ تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَالْمُقَرَّرُ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ أَجْوَفَ - أَعْنِي مُعْتَلَّ الْعَيْنِ - إِذَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ فَعُلَ بِضَمِّهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى تَاءِ الْفَاعِلِ أَوْ نُونِهِ تَسْقُطُ عَيْنُهُ بِالِاعْتِلَالِ وَتُنْقَلُ حَرَكَةُ عَيْنِهِ السَّاقِطَةِ بِالِاعْتِلَالِ إِلَى الْفَاءِ فَتُكْسَرُ فَاؤُهُ إِنْ كَانَ مِنْ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَتُضَمُّ إِنْ كَانَ مِنْ فَعُلَ بِضَمِّهَا، مِثَالُ الْأَوَّلِ «مِتُّ» مِنْ مَاتَ يَمَاتُ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا «مَوِتَ» بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ خَافَ يَخَافُ، وَنَامَ يَنَامُ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِيهَا «مِتُّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَ «نِمْتُ» بِكَسْرِ النُّونِ، «وَخِفْتُ» بِكَسْرِ الْخَاءِ ; لِأَنَّ حَرَكَةَ الْعَيْنِ نُقِلَتْ إِلَى الْفَاءِ وَهِيَ الْكَسْرَةُ، وَمِثَالُهُ فِي الضَّمِّ «طَالَ» فَأَصْلُهَا «طَوُلَ» بِضَمِّ الْوَاوِ فَتَقُولُ فِيهَا «طُلْتُ» بِالضَّمِّ لِنَقْلِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ إِلَى الْفَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثُّلَاثِيُّ مِنْ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ كَمَاتَ يَمُوتُ، وَقَالَ يَقُولُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ تَسْقُطُ بِالِاعْتِلَالِ وَتُحَرَّكُ الْفَاءُ بِحَرَكَةٍ مُنَاسِبَةٍ لِلْعَيْنِ السَّاقِطَةِ فَتُضَمُّ الْفَاءُ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ السَّاقِطَةُ وَاوًا كَمَاتَ يَمُوتُ، وَقَالَ يَقُولُ، فَتَقُولُ مُتُّ وَقُلْتُ، بِالضَّمِّ. وَتُكْسَرُ الْفَاءُ إِنْ
وَانْقُلْ لِفَاءِ الثُّلَاثِيِّ فِي شَكْلِ عَيْنٍ | إِذَا اعْتَلَّتْ وَكَانَ بِـ «نَا» الْإِضْمَارِ مُتَّصِلَا |
أَوْ نَوِّنْهُ وَإِذَا فُتِحَا يَكُونُ مِنْهُ | اعْتَضَّ مُجَانِسَ تِلْكَ الْعَيْنِ مُنْتَقِلَا |
بُنَيَّتِي سَيِّدَةَ الْبَنَاتِ | عِيشِي وَلَا نَأْمَنُ أَنْ تَمَاتِ |
مَنْ مَنَعَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ الْمَبِيتَ | مَاتَ يَمُوتُ وَيَمَاتُ وَيَمِيتُ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [١٩ ٢٤]، بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ «مِنْ» حَرْفُ جَرٍّ، وَخَفْضِ تَاءِ «تَحْتِهَا» لِأَنَّ الظَّرْفَ مَجْرُورٌ بِـ «مِنْ» وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» بِفَتْحِ مِيمِ «مَنْ» عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ هُوَ فَاعِلُ «نَادَى» أَيْ نَادَاهَا الَّذِي تَحْتَهَا، وَفَتْحِ «تَحْتَهَا» فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفَاعِلُ النِّدَاءِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ فَالْفَاعِلُ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ الَّذِي هُوَ «مَنْ».
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي هَذَا الْمُنَادِي الَّذِي نَادَاهَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالضَّمِيرِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عِيسَى، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَمِمَّنْ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي نَادَى مَرْيَمَ هُوَ جِبْرِيلُ» ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَلَكُ يَقُولُ: فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ مِنْ مَكَانٍ تَحْتَهَا ; لِأَنَّهَا عَلَى رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، وَقَدْ نَادَاهَا مِنْ مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ عَنْهَا، وَبَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: كَانَ جِبْرِيلُ تَحْتَهَا يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَمَا تَقْبَلُهُ الْقَابِلَةُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَاءِ «تَحْتَهَا» عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمَعْنَى فَنَادَاهَا الَّذِي هُوَ تَحْتَهَا، أَيْ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهَا، أَوْ تَحْتَهَا يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَمَا تَقْبَلُ الْقَابِلَةُ، مَعَ ضَعْفِ الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ كَمَا قَدَّمْنَا، أَيْ: وَهُوَ جِبْرِيلُ فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ «فَنَادَاهَا» هُوَ، أَيْ: جِبْرِيلُ مِنْ تَحْتِهَا، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ «فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا» أَيْ: الَّذِي تَحْتَهَا وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى، فَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَنَادَاهَا هُوَ، أَيْ: الْمَوْلُودُ الَّذِي وَضَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ تَحْتَهَا عِنْدَ الْوَضْعِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» أَيْ: الَّذِي تَحْتَهَا وَهُوَ الْمَوْلُودُ الْمَذْكُورُ الْكَائِنُ تَحْتَهَا عِنْدَ الْوَضْعِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ عِيسَى: ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَاسْتَظْهَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ جِبْرِيلُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ ابْنُهَا عِيسَى، وَتَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَتَانِ: الْأُولَى أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ هُوَ عِيسَى لَا جِبْرِيلُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَحَمَلَتْهُ، يَعْنِي عِيسَى فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ بِعِيسَى.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: «فَنَادَاهَا» فَالَّذِي يَظْهَرُ وَيَتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ عِيسَى.
وَالْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا أَشَارَتْ إِلَى عِيسَى لِيُكَلِّمُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهَا: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [١٩ ٢٩]، وَإِشَارَتُهَا إِلَيْهِ لِيُكَلِّمُوهُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهَا عَرَفَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ لِنِدَائِهِ لَهَا عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ، وَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ «أَلَّا تَحْزَنِي» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، فَهِيَ بِمَعْنَى أَيْ، وَضَابِطُ «أَنْ» الْمُفَسِّرَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ كَمَا هُنَا، فَالنِّدَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُفَسِّرَةً: أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بَعْدَهَا هُوَ مَعْنَى مَا
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالسَّرِيِّ هُنَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْجَدْوَلُ وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى لَهَا تَحْتَهَا نَهْرًا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلِي أَيْ: مِنَ الرُّطَبِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [١٩ ٢٥]، وَاشْرَبِي [١٩ ٢٦]، أَيْ: مِنَ النَّهْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَإِطْلَاقُ السَّرِيِّ عَلَى الْجَدْوَلِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا | مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا |
سُحُقٌ يُمَتِّعُهَا الصَّفَا وَسَرِيُّهُ | عُمٌّ نَوَاعِمُ بَيْنَهُنَّ كُرُومُ |
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ مَاجِدٌ ذُو نَائِلٍ | مِثْلُ السَّرِيِّ تَمُدُّهُ الْأَنْهَارُ |
سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَ مِنْهُ أَزْوَرَا | إِذَا يَعُبُّ فِي السَّرِيِّ هَرْهَرَا |
لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ | وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا |
وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ | تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا |
تَلْقَى السَّرِيَّ مِنَ الرِّجَالِ بِنَفْسِهِ | وَابْنُ السَّرِيِّ إِذَا سَرَا أَسْرَاهُمَا |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ السَّرِيَّ فِي الْآيَةِ النَّهْرُ
أَحَدُهُمَا: الْقَرِينَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُلِي وَاشْرَبِي، قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ الِامْتِنَانُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [١٩ ٢٤]، وَقَوْلُهُ: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [١٩ ٢٥]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [٢٣ ٢٥] ; لِأَنَّ الْمَعِينَ الْمَاءُ الْجَارِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْجَدْوَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسَّرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ جَاءَ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ جَاءَ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهَا لِتَشْرَبَ مِنْهُ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ هَذَا هُوَ الْحُبُلِيُّ، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثَ الْكَشَّافْ» فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، قَالَ: «السَّرِيُّ: النَّهْرُ»، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْفَعْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا أَبُو سِنَانٍ، رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ مَوْقُوفًا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ كَذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَهُ لِمَرْيَمَ نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِتَشْرَبَ مِنْهُ»، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَاوِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، انْتَهَى.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَعْفٍ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ السَّرِيَّ عِيسَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ السَّرِيَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ النَّهْرُ: ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَبِهِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، لَمْ يُصَرِّحْ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِبَيَانِ الشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ، وَالشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ: «الرُّطَبُ الْجَنِيُّ» الْمَذْكُورُ، وَالَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ هُوَ النَّهْرُ الْمَذْكُورُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ «بِالسَّرِيِّ» كَمَا تَقَدَّمَ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جِذْعَ النَّخْلَةِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَهُزَّ بِهِ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا ; فَلَمَّا هَزَّتْهُ جَعَلَهُ اللَّهُ نَخْلَةً ذَاتَ رُطَبٍ جَنِيٍّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ الْجِذْعُ جِذْعَ نَخْلَةٍ نَابِتَةٍ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُثْمِرَةٍ، فَلَمَّا هَزَّتْهُ أَنْبَتَ اللَّهُ فِيهِ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ رُطَبًا جَنِيًّا، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتِ النَّخْلَةُ مُثْمِرَةً، وَقَدْ أَمَرَهَا اللَّهُ بِهَزِّهَا لِيَتَسَاقَطَ لَهَا الرُّطَبُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ لَهَا ذَلِكَ الرُّطَبَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَجْرَى لَهَا ذَلِكَ النَّهْرَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنِ الرُّطَبُ وَالنَّهْرُ مَوْجُودَيْنِ قَبْلَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْجِذْعَ كَانَ يَابِسًا أَوْ نَخْلَةً غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنَبَتَ فِيهِ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ رُطَبًا جَنِيًّا، وَوَجْهُ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهَا إِنَّمَا تَقَرُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ بَرَاءَتَهَا مِمَّا اتَّهَمُوهَا بِهِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الْخَوَارِقِ مِنْ تَفْجِيرِ النَّهْرِ، وَإِنْبَاتِ الرُّطَبِ، وَكَلَامِ الْمَوْلُودِ - تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُهَا وَتَزُولُ بِهِ عَنْهَا الرِّيبَةُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَ بَقَاءِ التُّهْمَةِ الَّتِي تَمَنَّتْ بِسَبَبِهَا أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، لَمْ يَكُنْ قُرَّةً لِعَيْنِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَخَرْقُ اللَّهِ لَهَا الْعَادَةَ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ، وَإِنْبَاتِ الرُّطَبِ، وَكَلَامِ الْمَوْلُودِ لَا غَرَابَةَ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى خَرْقِهِ لَهَا الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِ: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [٣ ٣٧]، قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَإِجْرَاءُ النَّهْرِ وَإِنْبَاتُ الرُّطَبِ لَيْسَ أَغْرَبَ مِنْ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ».
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْآيَةَ، أَنَّ السَّعْيَ وَالتَّسَبُّبَ فِي تَحْصِيلِ الرِّزْقِ أَمْرٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَهَذَا أَمْرٌ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَسْبَابِ فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فِي الدُّنْيَا أَمْرٌ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِحَالٍ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَتَعَاطَى السَّبَبَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ مَعَ عِلْمِهِ وَيَقِينِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا يَشَاءُ اللَّهُ وُقُوعَهُ، فَهُوَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَخَلُّفَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ عَنْ مُسَبَّبَاتِهَا لَتَخَلَّفَ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [٢١ ٦٩]، فَطَبِيعَةُ الْإِحْرَاقِ فِي النَّارِ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ إِلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَعَ هَذَا أَحْرَقَتِ الْحَطَبَ فَصَارَ رَمَادًا مِنْ حَرِّهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي هِيَ كَائِنَةٌ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ التَّأْثِيرَ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ بِمَشِيئَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ رُبَّمَا جَعَلَ الشَّيْءَ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ مَعَ أَنَّهُ مُنَافٍ لَهُ، كَجَعْلِهِ ضَرْبَ مَيِّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَعْضٍ مِنْ بَقَرَةٍ مَذْبُوحَةٍ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ، وَضَرْبُهُ بِقِطْعَةٍ مَيْتَةٍ مِنْ بَقَرَةٍ مَيْتَةٍ مُنَافٍ لِحَيَاتِهِ؛ إِذْ لَا تُكْسَبُ الْحَيَاةُ مِنْ ضَرْبٍ بِمَيْتٍ، وَذَلِكَ يُوَضِّحُ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُسَبِّبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَقَعُ تَأْثِيرٌ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ تَعَاطِيَ الْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ: وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [١٢ ٦٧]، أَمَرَهُمْ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِتَعَاطِي السَّبَبِ، وَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُصِيبَهُمُ النَّاسُ بِالْعَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا أَبْنَاءُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ أَهْلُ جَمَالٍ وَكَمَالٍ وَبَسْطَةٍ فِي الْأَجْسَامِ، فَدُخُولُهُمْ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مَظِنَّةٌ لِأَنْ تُصِيبَهُمُ الْعَيْنُ فَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ وَالدُّخُولِ مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ تَعَاطِيًا لِلسَّبَبِ فِي السَّلَامَةِ مِنْ إِصَابَةِ الْعَيْنِ ; كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَمَعَ هَذَا التَّسَبُّبِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ | وَهُزِّي إِلَيْكَ الْجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ |
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيَهُ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ | جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ |
إِذْ يَسَفُّونَ بِالدَّقِيقِ وَكَانُوا | قَبْلُ لَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا فَطِيرَا |
وَقَوْلُ الرَّاعِي:
هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ | سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ |
وَقَوْلُ يَعْلَى الْأَحْوَلِ الْيَشْكُرِيِّ أَوْ غَيْرِهِ:
بِوَادٍ يَمَانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرُهُ | وَأَسْفَلُهُ بِالْمَرْخِ وَالشَّبُهَانِ |
وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا مِلْءَ | الْمَرَاجِلِ وَالصَّرِيحَ الْأَجْرَدَا |
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ | نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ |
وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وَأَسْمَحَتْ | هَصَرْتُ بِغُصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ |
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: «تَسَّاقَطْ» تِسْعُ قِرَاءَاتٍ، ثَلَاثٌ مِنْهَا سَبْعِيَّةٌ، وَسِتٌّ شَاذَّةٌ، أَمَّا الثَّلَاثُ السَّبْعِيَّةُ فَقَدْ قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ «تَسَاقَطْ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَأَصْلُهُ: تَتَسَاقَطْ ; فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَوْلُهُ «رُطَبًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحْدَهُ عَنْ عَاصِمٍ «تُسَاقِطْ» بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ، مُضَارِعُ سَاقَطَتْ تُسَاقِطُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَوْلُهُ «رُطَبًا» مَفْعُولٌ بِهِ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ: تُسَاقِطْ هِيَ، أَيِ النَّخْلَةُ، رُطَبًا، وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ السَّبْعَةِ «تَسَّاقَطْ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، أَصْلُهُ: تَتَسَاقَطْ ; فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السِّينِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ «رُطَبًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ كَإِعْرَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ.
وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْقِرَاءَاتِ شَاذٌّ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رُطَبًا جَنِيًّا الْجَنِيُّ: هُوَ مَا طَابَ وَصَلَحَ لِأَنْ يُجْنَى فَيُؤْكَلَ، وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: أَنَّ الْجَنِيَّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَجِفَّ وَلَمْ يَيْبَسْ، وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْ يَدَيْ مُتَنَاوِلِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، قَائِلُ هَذَا الْكَلَامِ لِمَرْيَمَ: هُوَ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِيهِ ; هَلْ هُوَ عِيسَى أَوْ جِبْرِيلُ، وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، أَيْ: قُولِي ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ ; لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُمِّيَتْ قَوْلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَسُمِعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا إِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ:
إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ | رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ |
اعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَجَاءَتْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى يُفْهَمُ
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَخْرَسَ إِذَا أَشَارَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّجُلِ يَمْرَضُ فَيَخْتَلُّ لِسَانُهُ: فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ تَعْرَفُ، وَإِنْ شُكَّ فِيهَا فَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا تُعْقَلُ إِشَارَتُهُ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْكَلَامِ فِي أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ «وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ، قُلْنَا: يُزَهِّدُهَا. وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا، وَرَضَخَ رَأْسَهَا، فَأَتَى بِهِ أَهْلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» مَنْ قَتَلَكِ، فُلَانٌ؟ «لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ لَا، فَقَالَ:» فُلَانٌ؟ «لِقَاتِلِهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
فَهَذِهِ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ النُّطْقِ فِي أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي هَذَا الْبَابِ: ذَكَرَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مُعَلَّقَةٍ وَمَوْصُولَةٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ. هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْجَنَائِزِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَفِيهَا: «وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ.
ثَانِيهَا: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. هُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمُلَازَمَةِ. وَفِيهَا وَأَشَارَ إِلَيَ أَنْ خُذِ النِّصْفَ. ثَالِثُهَا: وَقَالَتْ أَسْمَاءُ هِيَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُسُوفِ، الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِلَفْظِ: فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ: فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَيْ: نَعَمْ، وَفِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِمَعْنَاهُ، وَفِي صَلَاةِ السَّهْوِ بِاخْتِصَارٍ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَوْصُولَةٌ، أَمَّا مَا جَاءَ مِنْهَا مَوْصُولًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فَأَمْرُهُ وَاضِحٌ، وَأَمَّا مَا جَاءَ مِنْهَا مُعَلَّقًا فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ جَاءَ مَوْصُولًا فِي مَحِلٍّ آخَرَ مِنْ
وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ إِشَارَتَهُ إِلَى اللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِهِ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنْ يُسْقِطَ نِصْفَ دِيَتِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ وَيَأْخُذَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مِنْهُ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ جَعَلَتْ فِيهِ عَائِشَةُ إِشَارَتَهَا لِأُخْتِهَا أَنَّ الْكُسُوفَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ هِيَ السَّبَبُ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَنُطْقِهَا بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ الرَّابِعُ: جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ كَنُطْقِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ فِي بَابِ) أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ).
قَالَ أَنَسٌ: لَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَحَ لَنَا، فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَرْخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. اهـ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَقَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ إِشَارَتَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ كَنُطْقِهِ لَهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ الْحِجَابِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَقَامَتِ الْإِشَارَةُ مَقَامَ النُّطْقِ.
وَالْحَدِيثُ الْخَامِسُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ كَالْفُتْيَا بِالنُّطْقِ، وَإِيضَاحُهُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ) فِي بَابِ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ: وَلَا حَرَجَ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ»، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ! فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ. اهـ.
فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ بِيَدِهِ كَنُطْقِهِ، بِأَنَّ
وَالْحَدِيثُ السَّادِسُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةَ الْمُحْرِمِ إِلَى الصَّيْدِ لِيُنَبِّهَ إِلَيْهِ الْمُحِلَّ كَأَمْرِهِ لَهُ بِاصْطِيَادِهِ بِالنُّطْقِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ».
وَالْحَدِيثُ السَّابِعُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرُّكْنِ فِي طَوَافِهِ كَاسْتِلَامِهِ وَتَقْبِيلِهِ بِالْفِعْلِ.
وَالْحَدِيثُ الثَّامِنُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَتَهُ بِأَصَابِعِهِ كَعَقْدِ التِّسْعِينَ لِبَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي فُتِحَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ كَالنُّطْقِ بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ التَّاسِعُ فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ وَضْعَ أُنْمُلَتِهِ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ، مُشِيرًا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ زَمَنِ السَّاعَةِ الَّتِي يُجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ مُشِيرًا بِذَلِكَ لِوَقْتِهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ وَضْعَ الْأُنْمُلَةِ فِي وَسَطِ الْكَفِّ يُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي وَسَطِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَوَضْعَهَا عَلَى الْخِنْصَرِ يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ ; لِأَنَّ الْخِنْصَرَ آخِرُ أَصَابِعِ الْكَفِّ كَالنُّطْقِ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ لِسَاعَةِ الْجُمْعَةِ مِنْ فِعْلِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ فَفِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ إِدْرَاجٌ.
وَالْحَدِيثُ الْعَاشِرُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةَ الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَهُودِيُّ كَنُطْقِهَا بِأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَتَلَهَا، وَأَنَّ مَنْ سُمِّيَ لَهَا غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ جَعَلَ إِشَارَةَ الْجَارِيَةِ كَنُطْقِهَا لَمْ يَقْتُلِ الْيَهُودِيَّ بِإِشَارَةِ الْجَارِيَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ نُطْقِهَا بِمَنْ قَتَلَهَا، وَلَكِنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَتَلَهَا فَثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِاعْتِرَافِهِ وَاقْتَصَّ لَهَا مِنْهُ بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْفِتْنَةُ مِنْ هُنَا» وَأَشَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَجَعَلَ إِشَارَتَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» فَجَعَلَ إِشَارَتَهُ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ كَنُطْقِهِ بِلَفْظِ الْمَشْرِقِ.
وَالْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ جَعَلَ فِيهِ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَالْفَجْرِ الصَّادِقِ بِذَلِكَ.
وَالْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ: قَالَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَّسِعُ»، وَيُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ إِلَى
فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ، وَسُقْنَاهَا هُنَا، وَبَيَّنَّا وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ كَالنُّطْقِ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا، مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ بَابِ) اللِّعَانِ (خَمْسَةَ أَحَادِيثَ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ كَالنُّطْقِ وَلَمْ نَذْكُرْهَا هُنَا لِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةً.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْفَتْحِ (فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ، وَخَالَفَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِشَارَةَ قَائِمَةً مَقَامَ النُّطْقِ، وَإِذَا جَازَتِ الْإِشَارَةُ فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الدِّيَانَةِ فَهِيَ لِمَنْ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ أَجْوَزُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَغَيْرِهِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْأَصْلُ وَالْعَدَدُ نَافِذَةٌ كَاللَّفْظِ. اهـ.
وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وَأَحَادِيثَهَا تَوْطِئَةً لِمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ، مَعَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ لِعَانِ الْأَخْرَسِ، وَطَلَاقِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَاللَّفْظِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [١٩ ٢٦]، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحَ بِنَذْرِهَا الْإِمْسَاكَ عَنْ كَلَامِ كُلِّ إِنْسِيٍّ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [١٩ ٢٩]، أَيْ: أَشَارَتْ لَهُمْ إِلَيْهِ أَنْ كَلِّمُوهُ يُخْبِرْكُمْ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُفْهِمَةٌ، وَقَدْ فَهِمَهَا قَوْمُهَا فَأَجَابُوهَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِفَهْمِهِمْ مَا أَشَارَتْ بِهِ: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [١٩ ٢٩]، وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ الْمُفْهِمَةُ لَوْ كَانَتْ كَالنُّطْقِ لَأَفْسَدَتْ نَذْرَ مَرْيَمَ أَلَّا تُكَلِّمَ إِنْسِيًّا، فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ بِاللَّفْظِ يُخِلُّ بِنَذْرِهَا، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ الْفَرْقُ صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [٣ ٤١]، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ آيَةً عَلَى مَا بُشِّرَ بِهِ وَهِيَ مَنْعُهُ مِنَ الْكَلَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْإِشَارَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
فَإِذَا عَلِمْتَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْإِشَارَةِ، هَلْ هِيَ كَاللَّفْظِ أَوْ لَا؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، هَلْ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ أَوْ لَا، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى جُمَلًا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَمَا يَظْهَرُ رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي آخِرِ بَابِ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ، مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، فَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ فَقَالُوا: تَكْفِي وَلَوْ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ، وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ، ثَالِثُهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ نُطْقِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِنِ اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ، وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ سَبَقَهُ كَلَامٌ، وَنُقِلَ عَنْ مَكْحُولٍ، إِنْ قَالَ: فُلَانٌ حُرٌّ، ثُمَّ أُصْمِتَ فَقِيلَ لَهُ: وَفُلَانٌ؟ فَأَوْمَأَ صَحَّ، وَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ فَلَا تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ نُطْقِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَاخْتُلِفَ هَلْ يَقُومُ مِنْهُ مَقَامَ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ طَلْقَةٌ؟ فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ اللِّعَانِ، مَا نَصُّهُ: فَإِذَا قَذَفَ الْأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَازَ الْإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا رَمْزًا إِشَارَةً، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ طَلَّقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِكَلَامٍ وَإِلَّا بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ يُلَاعِنُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبَيَّنَ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، وَقَالَ حَمَّادٌ: الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْإِشَارَةَ الْمُفْهِمَةَ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى، يَعْنِي فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: الْكَلَامُ عَلَى الصِّيغَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الطَّلَاقُ: وَلَزِمَ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ. يَعْنِي أَنَّ الطَّلَاقَ يَلْزَمُ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مُطْلَقًا مِنَ الْأَخْرَسِ وَالنَّاطِقِ وَقَالَ شَارِحُهُ الْمَوَّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: مَا عُلِمَ مِنَ الْأَخْرَسِ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِكِتَابٍ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قَذْفٍ - لَزِمَهُ حُكْمُ الْمُتَكَلِّمِ، وَرَوَى الْبَاجِيُّ: إِشَارَةُ السَّلِيمِ بِالطَّلَاقِ بِرَأْسِهِ أَوْ بِيَدِهِ كَلَفْظِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [٣ ٤١] انْتَهَى مِنْهُ، وَرِوَايَةُ الْبَاجِيِّ هَذِهِ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ إِشَارَةَ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ كَلَامِ النَّاطِقِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، كَإِعْتَاقِهِ وَطَلَاقِهِ، وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا السَّلِيمُ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ إِشَارَتُهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِشَارَةُ الْأَخْرَسِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ لَا يَلْزَمُ عِنْدَهُ فِيهَا حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ تُفْهِمُ مَا لَا يَقْصِدُ الْمُشِيرُ، وَلِأَنَّ أَيْمَانَ اللِّعَانِ لَهَا صِيَغٌ لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا تَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ الْمَقْذُوفَةُ خَرْسَاءَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ عِنْدَهُ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَوْ نَطَقَتْ لَصَدَّقَتْهُ، وَلِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْإِتْيَانُ بِأَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ الْمَنْصُوصَةِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ الْقَذْفُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَخْرَسِ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْقِيَاسَ مَنَعَ اعْتِبَارَ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ ; لِأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ كَالنُّطْقِ فِي الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا الْعَمَلَ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ وَالْقَذْفِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِبَارُ إِشَارَةِ الْأَخْرَسِ فِي اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ إِشَارَةِ السَّلِيمِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا لِعَانَ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَخْرَسَ، كَمَا قَدَّمْنَا تَوْجِيهَهُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ فُهِمَتْ إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فَهُوَ كَالنَّاطِقِ فِي قَذْفِهِ وَلِعَانِهِ، وَأَمَّا طَلَاقُ الْأَخْرَسِ وَنِكَاحُهُ وَشِبْهُ ذَلِكَ فَالْإِشَارَةُ كَالنُّطْقِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا السَّلِيمُ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ إِشَارَتُهُ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، أَيْ: إِمْسَاكًا عَنِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ | تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا |
وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا | بِأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ |
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ «فِي الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْمُبَاحِ لَيْسَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «وَلَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَتَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِنَّ هَذَا - يَعْنِي الصَّمْتَ - مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ وَلَوْ مَآلًا مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ، كَالْمَشْيِ حَافِيًا، وَالْجُلُوسِ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا إِسْرَائِيلَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَتَكَلَّمَ وَيَسْتَظِلَّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قِصَّةِ أَبِي إِسْرَائِيلَ: هَذِهِ أَوْضَحُ الْحُجَجِ لِلْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً، أَوْ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ، قَالَ مَالِكٌ لَمَّا ذَكَرَهُ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ) فَتْحِ الْبَارِي (وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ، فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ (: لَمْ أَرَهُ هَكَذَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ «لَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» وَفِيهِ حِزَامُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «النِّسَاءِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ، مَعْنَاهُ فَإِنْ تَرَيْ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا، فَلَفَظَةُ «إِمَّا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ «إِنْ» الشَّرْطِيَّةِ وَ «مَا» الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ تَرْأَيَيْنَ عَلَى وَزْنِ تَفْعَلَيْنَ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا وَجَبَ قَلْبُهَا أَلِفًا فَصَارَتْ تَرْآيْنَ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةَ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الرَّاءِ ; لِأَنَّ اللُّغَةَ الْفُصْحَى الَّتِي هِيَ الْأَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ هَمْزَةِ رَأَى فِي الْمُضَارِعِ وَالْأَمْرِ، وَنَقْلُ حَرَكَتِهَا إِلَى الرَّاءِ فَصَارَتْ تَرَايْنَ، فَالْتَقَى السَّاكِنَانِ فَحُذِفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْأَلِفُ، فَصَارَ تَرَيْنَ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ نُونُ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةُ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ مِنْ أَجْلِهَا هِيَ، وَالْجَازِمُ الَّذِي هُوَ «إِنْ» الشَّرْطِيَّةُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يُوجِبُ حَذْفَ نُونِ الرَّفْعِ، فَصَارَ تَرَيْنَ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ هُمَا الْيَاءُ السَّاكِنَةُ وَالنُّونُ الْأُولَى السَّاكِنَةُ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْمُثَقَّلَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مُشَدَّدٍ فَهُوَ حَرْفَانِ، فَحُرِّكَتِ الْيَاءُ بِحَرَكَةٍ تُنَاسِبُهَا وَهِيَ الْكَسْرَةُ فَصَارَتْ تَرَيْنَ، كَمَا أَشَارَ إِلَى هَذَا ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَاحْذِفْهُ مِنْ رَافِعِ هَاتَيْنِ وَفِي | وَاوٍ وَيَا شَكْلٌ مُجَانِسٌ قُفِي |
نَحْوِ اخْشَيْنَ يَا هِنْدُ بِالْكَسْرِ وَيَا | قَوْمِ اخْشَوُنْ وَاضْمُمْ وَقِسْ مُسْوِيَا |
أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَيَاهُ | كِلَانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ |
أَلَمْ تَرْأَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصُرُ | وَمَنْ يَتَمَلَّ الدَّهْرَ يَرْأَ وَيَسْمَعِ |
أَحِنُّ إِذَا رَأَيْتُ جِبَالَ نَجْدٍ | وَلَا أَرْأَى إِلَى نَجْدٍ سَبِيلَا |
فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ | فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَرْدَى بِهَا |
فَإِمَّا تَرَيْنِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِمًا | فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ |
فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا | عَلَى رِقَّةٍ أُحْفِي وَلَا أَتَنَعَّلُ |
إِمَّا تَرَيْ رَأْسِي أَزْرَى بِهِ | مأس زَمَانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مؤس |
زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ | يُسَدِّدْ بُنَيُّوهَا الْأَصَاغِرُ خَلَّتِي |
يَا صَاحِ إِمَّا تَجِدُنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ | فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الْخُلَّانِ مِنْ شِيَمِي |
وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ يَقُولَانِ: إِنَّ حَذْفَ النُّونِ فِي الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا إِنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ كَسِيبَوَيْهَ وَالْفَارِسِيِّ
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، لَمَّا اطْمَأَنَّتْ مَرْيَمُ بِسَبَبِ مَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا أَتَتْ بِهِ) أَيْ بِعِيسَى (قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ غَيْرَ مُحْتَشِمَةٍ وَلَا مُكْتَرِثَةٍ بِمَا يَقُولُونَ، فَقَالُوا لَهَا: يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [١٩ ٢٧]، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: «فَرِيًّا»، أَيْ: عَظِيمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: «فَرِيًّا» أَيْ: مُخْتَلَقًا مُفْتَعَلًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: «فَرِيًّا» أَيْ: عَجِيبًا نَادِرًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، أَيْ: مُنْكَرًا عَظِيمًا ; لِأَنَّ «الْفَرِيَّ» فَعِيلٌ مِنَ الْفِرْيَةِ، يَعْنُونَ بِهِ الزِّنَى ; لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى الْمُخْتَلَقِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَةَ تَدَّعِي إِلْحَاقَهُ بِمَنْ لَيْسَ أَبَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ «فَرِيًّا» الزِّنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [٤ ١٥٦]، لِأَنَّ ذَلِكَ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهَا زَنَتْ، وَجَاءَتْ بِعِيسَى مِنْ ذَلِكَ الزِّنَى) حَاشَاهَا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ (هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، وَالْبَغِيُّ الزَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، يَعْنُونَ كَانَ أَبَوَاكِ عَفِيفَيْنِ لَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ، فَمَا لَكِ أَنْتِ تَرْتَكِبِينَهَا! وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ [٦٠ ١٢]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، أَيْ: وَلَا يَأْتِينَ بِوَلَدِ زِنًى يَقْصِدْنَ إِلْحَاقَهُ بِرَجُلٍ لَيْسَ أَبَاهُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكُلُّ عَمَلٍ أَجَادَهُ عَامِلُهُ فَقَدْ فَرَاهُ لُغَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ وَهُوَ زُرَارَةُ بْنُ صَعْبِ بْنِ دَهْرٍ:
وَقَدْ أَطْعَمْتِنِي دَقْلًا حَوْلِيَّا | مُسَوَّسًا مُدَوَّدًا حَجَرِيَّا |
يَعْنِي: تَعْمَلِينَ بِهِ الْعَمَلَ الْعَظِيمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْصِدُ أَنَّهَا تُؤَكِّلُهُ أَكْلًا لَمًّا عَظِيمًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَا أُخْتَ هَارُونَ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَارُونَ بْنَ
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أُخْتَ هَارُونَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ... ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَأَيْتَ إِخْرَاجَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِلَفْظِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى، بَاطِلٌ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهَا أُخْتُهُ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهَا أُخْتُهُ أَنَّهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَالْمُرَادُ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ تَمِيمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [٤٦ ٢١] ; لِأَنَّ هُودًا إِنَّمَا قِيلَ لَهُ أَخُو عَادٍ لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَهُوَ أَخُو بَنِي عَادٍ، وَهُمُ الْمُرَادُ بِعَادٍ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ
وَكُلُّ أَخٍ يُفَارِقُهُ أَخُوهُ | لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ |
وَكَثِيرًا مَا تُطْلِقُ الْعَرَبُ اسْمَ الْأَخِ عَلَى الصَّدِيقِ وَالصَّاحِبِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الصَّاحِبِ قَوْلُ الْقُلَاخِ بْنِ حَزْنٍ:
أَخَا الْحَرْبِ لَبَّاسًا إِلَيْهَا جِلَالَهَا | وَلَيْسَ بِوَلَّاجِ الْخَوَالِفِ أَعْقَلَا |
وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي، وَقِيلَ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ:
عَشِيَّةَ سُعْدَى لَوْ تَرَاءَتْ لِرَاهِبٍ | بِدَوْمَةٍ تَجْرٌ دُونَهُ وَحَجِيجُ |
قَلَى دِينَهُ وَاهْتَاجَ لِلشَّوْقِ إِنَّهَا | عَلَى النَّأْيِ إِخْوَانُ الْعَزَاءِ هَيُوجُ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ.
مَعْنَى إِشَارَتِهَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمْ يُكَلِّمُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهَا بِإِشَارَتِهَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [١٩ ٢٩]، فَالْفِعْلُ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ «كَانَ» بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحَالِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى:
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، التَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَمَّا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [١٦ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [٣٩ ٦٨ - ٧١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [٣٩ ٧٣].
فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ، وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَاضِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آتَانِيَ الْكِتَابَ... إِلَخْ، بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نُبِّئَ وَأُوتِيَ الْكِتَابَ فِي حَالِ صِبَاهُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا، أَيْ: كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْخَيْرَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَفَّاعًا حَيْثُ كُنْتُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافِي (: أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ) فِي الْحِلْيَةِ (فِي تَرْجَمَةِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا وَأَتَمَّ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ، وَعَنْهُ شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. اهـ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قَالَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ
تَنْبِيهٌ
احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا أَشَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ! أَخْبَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ فِيهِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «قَوْلُ الْحَقِّ» [١٩ ٣٤] بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «ذَلِكَ» رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَوْلُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا، وَقَوْلُهُ «ذَلِكَ» مُبْتَدَأٌ، «وَعِيسَى» خَبَرُهُ، وَ «ابْنُ مَرْيَمَ» نَعْتٌ لِـ «عِيسَى» وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ: خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
وَقَوْلُهُ: قَوْلَ الْحَقِّ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالثَّانِي كَابْنِي أَنْتَ حَقًّا صِرْفَا
وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ فَـ «قَوْلُ الْحَقِّ» خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ - أَيْ: هُوَ - أَيْ: نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ «الْحَقِّ» فِي قَوْلِهِ هُنَا «قَوْلَ الْحَقِّ» فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا ; لِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ «الْحَقَّ» كَقَوْلِهِ: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [٢٤ ٢٥]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْآيَةَ [٢٢ ٦٢]، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى قَوْلَ الْحَقِّ [١٩ ٣٤] عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ «عِيسَى» أَوْ خَبَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَـ «قَوْلَ الْحَقِّ»، هُوَ «عِيسَى» كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ كَلِمَةً فِي قَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ [٤ ١٧١]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ الْآيَةَ [٣ ٤٥]، وَإِنَّمَا سُمِّيَ «عِيسَى» كَلِمَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَتِهِ الَّتِي هِيَ «كُنْ» فَكَانَ، كَمَا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ [٣ ٥٩]، وَالْقَوْلُ وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أَيْ: يَشُكُّونَ، فَالِامْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَهَذَا الشَّكُّ الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [٣ ٥٩ - ٦٠]، وَهَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ الَّذِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَاجَّهُ فِي شَأْنِ عِيسَى إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَا قَصَّ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرِ عِيسَى هُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الْآيَةَ [٣ ٦١ - ٦٢]، وَلَمَّا نَزَلَتْ وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ خَافُوا الْهَلَاكَ وَأَدَّوُا [الْجِزْيَةَ] كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، وَقَدْ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَكُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَقَوْلُهُ: مَا كَانَ لِلَّهِ بِمَعْنَى: مَا يَصِحُّ وَلَا يَتَأَتَّى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [١٩ ٩٢] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ الْبَالِغُ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا الْمُحَالَ فِي قَوْلِهِمْ «عِيسَى ابْنُ اللَّهِ» وَمَا نَزَّهَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ هُنَا مِنَ الْوَلَدِ الْمَزْعُومِ كَذِبًا - كَعِيسَى - نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ الْآيَةَ [٤ ١٧١]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [١٩ ٨٨ - ٩١] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا قَضَى أَمْرًا [١٩ ٣٥] أَيْ: أَرَادَ قَضَاءَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [١٦ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ ٨٢]، وَحَذْفُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ الْآيَةَ [٥ ٦] أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [١٦ ٩٨]، أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ زِيدَتْ فِيهِ لَفْظَةُ «مِنْ» قَبْلَ الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي «الْأَحْزَابِ» الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ فِرَقُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي شَأْنِ عِيسَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ زِنًى، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ اللَّهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بِالْوَيْلِ لَهُمْ مِنْ شُهُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ مَنْ كَفَرَ بِالتَّفْرِيطِ فِي عِيسَى كَالَّذِي قَالَ إِنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَمَنْ كَفَرَ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ كَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ اللَّهُ أَوِ ابْنُهُ، وَقَوْلُهُ «وَيْلٌ» كَلِمَةُ عَذَابٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَشْهَدَ فِي الْآيَةِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ شُهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمِ - أَيْ حُضُورِهِ - لِمَا سَيُلَاقُونَهُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَشْهَدَ فِي الْآيَةِ اسْمُ مَكَانٍ، أَيْ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي يَشْهَدُونَ فِيهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْعَذَابَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «الزُّخْرُفِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [٤٣ ٦٣ - ٦٤]، وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ لَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ إِلَى الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لِذَلِكَ - أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [١٤ ٤٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [١١ ١٠٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [٢٩ ٥٣].
وَبِالْجُمْلَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ إِلَى وَقْتِ عَذَابِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُهْمِلُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [١٩ ٣٧]، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي) الْبَحْرِ (: وَمَعْنَى قَوْلِهِ «مِنْ بَيْنِهِمْ» أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمْ بَلْ كَانُوا هُمُ الْمُخْتَلِفِينَ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَوْلُهُ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صِيغَتَا تَعَجُّبٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَتْهُمْ بِهَا الرُّسُلُ سَمْعًا وَإِبْصَارًا عَجِيبَيْنِ، وَأَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي ضَلَالٍ وَغَفْلَةٍ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سَمْعِهِمْ وَإِبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [٣٢ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [٥٠ ٢٢]، وَكَقَوْلِهِ فِي غَفْلَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَدَمِ إِبْصَارِهِمْ وَسَمْعِهِمْ: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [٢١ ١]، وَقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [٣٠ ٧]، وَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [٢ ١٨]، وَقَوْلِهِ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الْآيَةَ [١١ ٢٤]، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ: الْكُفَّارُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ صِيغَةَ التَّعَجُّبِ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَزْنِ «أَفْعِلْ بِهِ» فَهِيَ فِعْلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ جَاءَ عَلَى صُورَةِ الْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ لِإِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمُسْتَبْدِلٍ مِنْ بَعْدِ غَضْيَا صُرَيْمَةً | فَأَحْرِ بِهِ لِطُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيَا |
وَأَبْدِلْنَهَا بَعْدَ فَتْحٍ أَلِفًا | وَقْفَا كَمَا تَقُولُ فِي قِفَنْ قِفَا |
يَا مَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا | مِنْ هَؤُلَيَّاءِ بَيْنَ الضَّالِ وَالسَّمُرِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، الْحَسْرَةُ: أَشَدُّ النَّدَمِ وَالتَّلَفِ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فَاتَ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارَكُهُ، وَالْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِتَهْدِيدٍ، أَيْ: أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَهُ: يَوْمُ الْحَسْرَةِ؛ لِشِدَّةِ نَدَمِ الْكُفَّارِ فِيهِ عَلَى التَّفْرِيطِ، وَقَدْ يَنْدَمُ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ الْآيَةَ [٤٠ ١٨]، وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [٣٤ ٤٦].
وَأَشَارَ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الْحَسْرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الْآيَةَ [٣٩ ٥٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا الْآيَةَ [٦ ٣١]، وَقَوْلِهِ: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [٢ ١٦٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أَيْ: فِي غَفْلَةِ الدُّنْيَا مُعْرِضُونَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَجُمْلَةُ " وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ " حَالِيَّةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا " أَنْذِرْهُمْ " أَيْ: أَنْذِرْهُمْ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِي الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَوْلُهُ قَبْلَ هَذَا " فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَا " إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ:) بَابُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ
وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَبْحَ الْمَوْتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ: ذُبِحَ الْمَوْتُ، وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ أُخَرَ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَاهَا لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ السَّاكِنِينَ بِالْأَرْضِ، وَيَبْقَى هُوَ جَلَّ وَعَلَا لِأَنَّهُ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [٥٥ ٢٦ - ٢٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [١٥ ٢٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ «مُحَمَّدًا» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الْمُنَزَّلُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ «إِبْرَاهِيمَ» عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَتْلُو عَلَى النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ نَبَأَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَدَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ هُنَا مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ الْآيَةَ [١٩ ٤٢]، أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [٢٦ ٦٩ - ٧٠].
فَقَوْلُهُ هُنَا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، وَزَادَ فِي «الشُّعَرَاءِ» أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ لِأَبِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ قَالَهُ أَيْضًا لِسَائِرِ قَوْمِهِ، وَكَرَّرَ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ، الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ «إِذْ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ «إِبْرَاهِيمَ» فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ الْآيَةَ [١٩ ١٦]، وَقَدْ قَدَّمَنَا هُنَاكَ إِنْكَارَ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [١٩ ٤١]، مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَذْكُورِ، وَالصِّدِّيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الصِّدْقِ، لِشِدَّةِ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ، كَمَا شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [٥٣ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [٢ ١٢٤].
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: رِضَاهُ بِأَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ، وَشُرُوعُهُ بِالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ طَاعَةً لِرَبِّهِ، مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ فِلْذَةٌ مِنَ الْكَبِدِ.
لَكِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا | أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ |
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ رَبِّهِ: صَبْرُهُ عَلَى الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [٢١ ٦٨]، وَقَالَ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [٢٩ ٢٤].
وَذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي قِصَّتِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَمَوْهُ إِلَى النَّارِ لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا إِلَى اللَّهِ فَنَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ فَقَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي.
وَمِنْ صِدْقِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ رَبَّهُ: صَبْرُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ فِرَارًا بِدِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [٢٩ ٢٦]، وَقَدْ هَاجَرَ مِنْ سَوَادِ الْعِرَاقِ إِلَى دِمَشْقَ: وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَبَيَانِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ كَسَرَهَا وَجَعَلَهَا جُذَاذًا وَتَرَكَ الْكَبِيرَ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَلَمَّا سَأَلُوهُ هَلْ هُوَ الَّذِي كَسَرَهَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ كَبِيرُ الْأَصْنَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُؤَالِ الْأَصْنَامِ إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٢١ ٥٧ - ٦٧]، وَقَالَ تَعَالَى: فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [٣٧ ٩٢]، فَقَوْلُهُ: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، أَيْ: مَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ يَضْرِبُهَا ضَرْبًا بِيَمِينِهِ حَتَّى جَعَلَهَا جُذَاذًا، أَيْ: قِطَعًا مُتَكَسِّرَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: جَذَّهُ: إِذَا قَطَعَهُ وَكَسَرَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا، أَيْ: كَثِيرُ الصِّدْقِ، يُعْرَفُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ، التَّاءُ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْأَصْلُ: يَا أَبِي كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَفِي النِّدَا «أَبَتِ أُمَّتِ» عَرِّضْ | وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَاءِ التَّا عِوَضْ |
وَمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ | أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ |
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُعَذَّبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ، لِقَوْلِهِ هُنَا: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [١٩ ٤٥]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [٤ ٧٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْآيَةَ [٣ ١٧٥]، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [٧ ٣٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ فَيَتَّبِعُهُ فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَلَا وَلِيَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [١٦ ٦٣]، وَمَنْ كَانَ لَا وَلِيَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ يَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [١٩ ٤٣]،
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
بَيِّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لِمَّا نَصَحَ أَبَاهُ النَّصِيحَةَ الْمَذْكُورَةَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ، وَإِيضَاحِ الْحَقِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَةِ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَوِلَايَةِ الشَّيْطَانِ - خَاطَبَهُ هَذَا الْخِطَابَ الْعَنِيفَ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ «يَا بُنَيَّ» فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لَهُ «يَا أَبَتِ» وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَاغِبٌ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَيْ: مُعْرِضٌ عَنْهَا لَا يُرِيدُهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا ال لَّهَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَهَدَّدَهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا يَقُولُهُ لَهُ لَيَرْجُمَنَّهُ) قِيَلَ بِالْحِجَارَةِ وَقِيلَ بِاللِّسَانِ شَتْمًا (وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِهَجْرِهِ مَلِيًّا أَيْ: زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَابَلَ أَيْضًا جَوَابَهُ الْعَنِيفَ بِغَايَةِ الرِّفْقِ وَاللِّينِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [١٩ ٤٧]، وَخِطَابُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ الْجَاهِلِ بِقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ قَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ خِطَابُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْجُهَّالِ إِذَا خَاطَبُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [٢٥ ٦٣]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [٢٨ ٥٥]، وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أَقْنَعَ أَبَاهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، قَابَلَهُ أَبُوهُ بِالْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ عَادَةُ الْكُفَّارِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِأَصْنَامِهِمْ، كُلَّمَا أُفْحِمُوا بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لَجَئُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ عَنْ أَصْنَامِهِمْ:
وَقَوْلُهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، يَعْنِي: لَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى وَلَا مَكْرُوهٌ، بَلْ سَتَسْلَمُ مِنِّي فَلَا أُوذِيكَ، وَقَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وَعْدٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِاسْتِغْفَارِهِ لَهُ، وَقَدْ وَفَّى بِذَلِكَ الْوَعْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [١٩ ٤٧]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [١٤ ٤١].
وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [٩ ١١٤]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [٩ ١١٤]، وَالْمَوْعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ هُنَا: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [١٩ ٤٧]، وَلَمَّا اقْتَدَى الْمُؤْمِنُونَ بِإِبْرَاهِيمَ فَاسْتَغْفَرُوا لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [٩ ١١٣]، ثُمَّ قَالَ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ الْآيَةَ [٩ ١١٤]، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحِنَةِ» أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُشْرِكِينَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْأُسْوَةِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَالْأُسْوَةُ الِاقْتِدَاءُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [٦٠ ٤]، أَيْ: فَلَا أُسْوَةَ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا نَدِمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالَ فِيهِمْ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [٩ ١١٣]، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ مَنْعَ ذَلِكَ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [٩ ١١٥].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ «رَاغِبٌ» خَبَرًا
فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ | وَبَكَتْ عَلَيْهِ الْمُرَمَّلَاتُ مَلِيًّا |
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ | أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ |
نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا | عَلَى كُلِّ حَالِ الْمَرْءِ يَخْتَلِفَانِ |
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، أَيْ: لَطِيفًا بِي، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيَّ، وَجُمْلَةُ: وَاهْجُرْنِي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا | فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ |
وَقَوْلُ الْآخَرِ أَيْضًا:
تُنَاغِي غَزَالًا عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ | وَكَحِّلْ مَآقِيَكَ الْحِسَانَ بِإِثْمِدِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ «مُخْلَصًا» قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ: قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَهُ وَاصْطَفَاهُ: وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي الْآيَةَ [٧ ١٤٤]، وَمِمَّا يُمَاثِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [٣٨ ٤٦]، فَالَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ هُمُ الْمُخْلَصُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ «مُخْلِصًا» بِكَسْرِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [٩٨ ٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي الْآيَةَ [٣٩ ١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَادَيْنَا مُوسَى مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ، وَيَعْنِي بِالْأَيْمَنِ يَمِينَ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: قَامَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَعَنْ شِمَالِهَا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَضَى الْأَجَلَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ، وَسَارَ بِأَهْلِهِ رَاجِعًا مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ آنَسَ مِنْ جَانِبٍ الطُّورِ نَارًا، فَذَهَبَ إِلَى تِلْكَ النَّارِ لِيَجِدَ عِنْدَهَا مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلِيَأْتِيَ بِجَذْوَةٍ مِنْهَا لِيُوقِدَ بِهَا النَّارَ لِأَهْلِهِ لِيَصْطَلُوا بِهَا، فَنَادَاهُ اللَّهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَشَفَّعَهُ فِي أَخِيهِ هَارُونَ فَأَرْسَلَهُ مَعَهُ، وَأَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعْجِزَةَ الْعَصَا وَالْيَدِ لِيَسْتَأْنِسَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ ; لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْعَصَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى صَارَتْ ثُعْبَانًا وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَمَا انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا لَمَّا طَالَبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِآيَةٍ، لَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ لَائِقٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا مُرِّنَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِيَكُونَ مُسْتَأْنِسًا غَيْرَ خَائِفٍ مِنْهَا حِينَ تَصِيرُ ثُعْبَانًا مُبِينًا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ٨ - ١٣]،
وَقَوْلُهُ: بِقَبَسٍ، أَيْ: شِهَابٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي " النَّمْلِ ": أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [٢٠ ٧]، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَذْوَةِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [٢٨ ٢٩]، وَقَوْلُهُ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [٢٠ ١٠]، أَيْ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَيَدُلُّنِي عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وَالزَّمَنُ زَمَنُ بَرْدٍ، وَقَوْلُهُ: آنَسْتُ نَارًا [٢٠ ١٠]، أَيْ: أَبْصَرْتُهَا، وَقَوْلُهُ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [٢٠ ١٢]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي أَيُّوبَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا يَصِحُّ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ لِلْعُلَمَاءِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ - أَيْ نَزْعِهِمَا مِنْ قَدَمَيْهِ - لِيُعَلِّمَهُ التَّوَاضُعَ لِرَبِّهِ حِينَ نَادَاهُ، فَإِنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، يَسْتَوْجِبُ مِنَ الْعَبْدِ كَمَالَ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أُمِرَ بِخَلْعِهِمَا احْتِرَامًا لِلْبُقْعَةِ، يَدُلُّ لَهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ أَمْرَهُ بِخَلْعِهِمَا بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [٢٠ ١٢]، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي) مِسْكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ (: أَنَّ " إِنَّ " مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ " طُوًى ": أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَادِي، فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْوَادِي أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، أَيْ: اصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَتِي، كَقَوْلِهِ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [٧ ١٤٤]، وَمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى النَّارِ، أَنَّ الْمُصْطَلِينَ بِالنَّارِ يَسْتَعْلُونَ الْمَكَانَ الْقَرِيبَ مِنْهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
تُشَبُّ لِمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلَّقُ
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧ ٦ - ٩]، فَقَوْلُهُ فِي " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ [٢٧ ٨]،
فَالنِّدَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي " مَرْيَمَ "، وَطه، وَالنَّمْلِ " وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي رَأَى فِيهَا النَّارَ عَنْ يَمِينِ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ الطُّورُ، وَفِي يَمِينِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي هُوَ طُوًى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ طُوًى اسْمٌ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ يَمِينُ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ وَمِثْلَهُ الْوَادِيَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ [٢٨ ٣٠]، أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [٢٨ ٤٤]، فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ. انْتَهَى مِنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الْآيَةَ [١٩ ٥٢]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا الْآيَةَ [٢٨ ٤٦].
وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ نِدَاءُ اللَّهِ لَهُ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَسْمَعَهُ نَبِيَّهُ مُوسَى، وَلَا يُعْقَلُ أَنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَلَا كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَخْلُوقٍ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ الْمَلَاحِدَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ غَيْرُ اللَّهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧ ٩]، وَلَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [٢٠ ١٤]، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ قَالَهُ مَخْلُوقٌ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [٧٩ ٢٤]، عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ فِي مَعْرِضِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ.
فَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [٢٠ ١٤]، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧ ٩]، صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ صَرَاحَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِدِينِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ الْآيَةَ،: قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ عَلَى مَا شَاءَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَشَاطِئُ الْوَادِي جَانِبُهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى " الْأَيْمَنِ " فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ، وَقَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [١٩ ٥٢]، مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ النَّارَ الَّتِي رَآهَا مُوسَى " نُورٌ " وَهُوَ يَظُنُّهَا نَارًا، وَفِي قِصَّتِهِ أَنَّهُ رَأَى النَّارَ تَشْتَعِلُ فِيهَا وَهِيَ لَا تَزْدَادُ إِلَّا خُضْرَةً وَحُسْنًا، قِيلَ هِيَ شَجَرَةُ عَوْسَجٍ، وَقِيلَ شَجَرَةُ عَلِيقٍ، وَقِيلَ شَجَرَةُ عُنَّابٍ، وَقِيلَ سَمُرَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا [٢٧ ٨]، اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِـ مَنْ فِي النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ قَالُوا: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ: تَقَدَّسَ اللَّهُ وَتَعَالَى، وَقَالُوا: كَانَ نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الشَّجَرَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - أَوِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ فِي النَّارِ الَّتِي فِي الشَّجَرَةِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا نَارٌ أَوْ نُورٌ، سُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ بِـ مَنْ فِي النَّارِ سُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ صَرْفَ كِتَابِ اللَّهِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ ذُكِرَ أُوِّلَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ: بُورِكَ مَنْ قُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي النَّارِ. انْتَهَى، أَنَّهُ أَصَابَ فِي تَنْزِيهِهِ لِلَّهِ عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَلَمْ يُصِبْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، أَيْ: بُورِكَتِ النَّارُ لِأَنَّهَا نُورٌ، وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَيْ: بُورِكَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَتَّقِدُ فِيهَا النَّارُ، وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَإِطْلَاقُ لَفْظَةِ " مَنْ " عَلَى الشَّجَرَةِ وَعَلَى مَا فِي النَّارِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَمَا تَرَى.
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ الَّتِي هِيَ نُورٌ مَلَائِكَةً وَحَوْلَهَا مَلَائِكَةٌ وَمُوسَى، وَأَنَّ مَعْنَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، أَيْ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ فِي ذَلِكَ النُّورِ، وَمَنْ حَوْلَهَا، أَيْ: وَبُورِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَهَا، وَبُورِكَ مُوسَى لِأَنَّهُ حَوْلَهَا مَعَهُمْ، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا: السُّدِّيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ) فِي الْكَشَّافِ (: وَمَعْنَى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، بُورِكَ مَنْ فِي مَكَانِ النَّارِ وَمَنْ حَوْلَ مَكَانِهَا، وَمَكَانُهَا الْبُقْعَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهَا، وَهِيَ الْبُقْعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ [٢٨ ٣٠]، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ " أَنْ تَبَارَكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا "، وَعَنْهُ " بُورِكَتِ النَّارُ ".
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُوسَى، وَتَكْرِمَةٌ لَهُ كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا إِلَيْهِ قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَوْلُهُ: مَنْ فِي النَّارِ نَائِبُ فَاعِلِ " بُورِكَ " وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَارَكَكَ اللَّهُ، وَبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ، فَهِيَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَبُورِكْتَ مَوْلُودًا وَبُورِكْتَ نَاشِئًا | وَبُورِكْتَ عِنْدَ الشَّيْبِ إِذْ أَنْتَ أَشْيَبُ |
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْ | رٍو وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ |
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا | بُو رِكَ نَضْرُ الرَّيْحَانِ وَالزَّيْتُونُ |
فَبُورِكَ فِي بَنِيكَ وَفِي بَنِيهِمْ | إِذَا ذُكِرُوا وَنَحْنُ لَكَ الْفِدَاءُ |
وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ " طه " هَذِهِ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [٢٠ ٢٢]، أَيْ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، وَفِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ احْتِرَاسًا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [٢٧ ٩ - ١٢]، وَقَوْلِهِ فِي " الْقَصَصِ ": وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [٢٨ ٣١ - ٣٢]، وَالْبُرْهَانَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ، هُمَا الْيَدُ وَالْعَصَا، فَلَمَّا تَمَرَّنَ مُوسَى عَلَى الْبُرْهَانَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ طَالَبُوهُ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَجَاءَهُمْ بِالْبُرْهَانَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَمْ يَخَفْ مِنَ الثُّعْبَانِ الَّذِي صَارَتِ الْعَصَا إِيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [٢٦ ٣٠ - ٣٣]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي " النَّمْلِ، وَالْقَصَصِ ": وَلَمْ يُعَقِّبْ، أَيْ: لَمْ يَرْجِعْ مِنْ فِرَارِهِ مِنْهَا، يُقَالُ: عَقَّبَ الْفَارِسُ إِذَا كَرَّ بَعْدَ الْفِرَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فَمَا عَقَّبُوا إِذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ | وَلَا نَزَلُوا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ مَنْزِلَا |
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ، يَعْنُونَ صَرِيفَ الْقَلَمِ بِكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ: أُدْخِلَ فِي السَّمَاءِ فَكُلِّمَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، قَالَ نَجِيًّا بِصِدْقِهِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي طه: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [٢٠ ٣١]، أَيْ: قَوِّنِي بِهِ، وَالْأَزْرُ: الْقُوَّةُ، وَآزَرَهُ، أَيْ: قَوَّاهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْقَصَصِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [٢٨ ٣٥]، أَيْ: سَنُقَوِّيكَ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَضُدَ هُوَ قِوَامُ الْيَدِ، وَبِشِدَّتِهَا تَشْتَدُّ الْيَدُ، قَالَ طَرْفَةُ:
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ وَقَوْلُهُ: رِدْءًا، أَيْ: مُعِينًا ; لِأَنَّ الرِّدْءَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُعَانُ بِهِ، وَيُقَالُ رَدَأْتُهُ، أَيْ: أَعَنْتُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا، مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ وَهَبَ لِمُوسَى نُبُوَّةَ هَارُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَأَلَهُ ذَلِكَ فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «طه» عَنْهُ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى [٢٠ ٢٩ - ٣٦]، وَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [٢٨ ٣٣ - ٣٥]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» :
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) جَدَّهُ إِسْمَاعِيلَ (، وَأَثْنَى عَلَيْهِ - أَعْنِي إِسْمَاعِيلَ - بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مِنَ الْقُرْآنِ شِدَّةَ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ: أَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ بِصَبْرِهِ لَهُ عَلَى ذَبْحِهِ ثُمَّ وَفَّى بِهَذَا الْوَعْدِ، وَمَنْ وَفَّى بِوَعْدِهِ فِي تَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عَظِيمِ صِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَهَذَا وَعْدُهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى وَفَاءَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ الْآيَةَ [٣٧ ١٠٣]، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ»، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهِ أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ قَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [٩ ٧٧]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ ٢ - ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [١٩ ٥٥]، قَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى جَدِّهِ إِسْمَاعِيلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا الْآيَةَ [٢٠ ١٣٢]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ امْتَثَلَ
مَسْأَلَةٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَدْخَلَهُ بِالْوَعْدِ فِي وَرْطَةٍ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: تَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أَصْدُقُ بِهِ الزَّوْجَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجْ وَالْتَزِمْ لَهَا الصَّدَاقَ وَأَنَا أَدْفَعُهُ عَنْكَ، فَتَزَوَّجَ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ بِوَعْدِهِ فِي وَرْطَةِ الْتِزَامِ الصَّدَاقِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يَلْزَمُهُ، بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ دَلَّتْ بِظَوَاهِرِ عُمُومِهَا عَلَى ذَلِكَ وَبِأَحَادِيثَ، فَالْآيَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [١٧ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الْآيَةَ [٥ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا الْآيَةَ [١٦ ٩١]، وَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ الْآيَةَ [١٩ ٥٤]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْأَحَادِيثُ كَحَدِيثِ «الْعِدَةُ دَيْنٌ» فَجَعْلُهَا دَيْنًا دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهَا، قَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: «الْعِدَةُ دَيْنٌ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْقُضَاعِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظٍ: قَالَ: لَا يَعِدْ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزْ لَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» الْعِدَةُ دَيْنٌ «وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ فَلْيُنْجِزْ لَهُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ» عَطِيَّةً «وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مَوْقُوفًا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الْعِدَةُ دَيْنٌ، وَيْلٌ لِمَنْ وَعَدَ ثُمَّ أَخْلَفَ، وَيْلٌ لَهُ.» ثَلَاثًا، وَرَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ فَقَطْ، وَالدَّيْلَمِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ: «الْوَاعِدُ بِالْعِدَةِ مِثْلُ الدَّيْنِ أَوْ أَشَدُّ» أَيْ: وَعْدُ الْوَاعِدِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ «عِدَةُ الْمُؤْمِنِ دَيْنٌ، وَعِدَةُ الْمُؤْمِنِ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ»، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ قُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ اللَّيْثِيِّ مَرْفُوعًا: «الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ».
وَلِلْخَرَائِطِيِّ فِي الْمَكَارِمِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: عِدْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعِدَةَ عَطِيَّةٌ»، وَهُوَ فِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ، وَكَذَا فِي الصَّمْتِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ: «مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ» قَالَ: فِي الْمَقَاصِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ: وَقَدْ أَفْرَدْتُهُ مَعَ
وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: وَفِيهِ دَارِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَا يُعْرَفُ. اهـ. وَلَكِنْ قَدْ مَرَّ لَكَ أَنَّ طُرُقَهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا رِوَايَتَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ الْكِنَانِيِّ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، دَالَّةٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَعْدَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ رَجُلًا بِمَالٍ إِذَا أَفْلَسَ الْوَاعِدُ لَا يُضْرَبُ لِلْمَوْعُودِ بِالْوَعْدِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ دُيُونِهِمُ اللَّازِمَةِ بِغَيْرِ الْوَعْدِ، حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ، وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِي وَرْطَةٍ بِالْوَعْدِ فَيَلْزَمُ، وَبَيْنَ عَدَمِ إِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ، أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَهُ فِي وَرْطَةٍ بِالْوَعْدِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْوَعْدِ وَتَرَكَهُ فِي الْوَرْطَةِ الَّتِي أَدْخَلَهُ فِيهَا، فَقَدْ أَضَرَّ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَضُرَّ بِأَخِيهِ، لِلْحَدِيثِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَالَ مَالِكٌ: إِذَا سَأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَهَبَ لَهُ الْهِبَةَ، فَيَقُولُ لَهُ نَعَمْ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَلَّا يَفْعَلَ، فَمَا أَرَى يَلْزَمُهُ، قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ فَقَالَ نَعَمْ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ فَمَا أَحَرَاهُ أَنْ يَلْزَمَهُ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْعِدَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا شَيْءٌ ; لِأَنَّهَا مَنَافِعُ لَمْ يَقْبِضْهَا فِي الْعَارِيَةِ لِأَنَّهَا طَارِئَةٌ، وَفِي غَيْرِ الْعَارِيَةِ هِيَ أَشْخَاصٌ وَأَعْيَانٌ مَوْهُوبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلِصَاحِبِهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [١٩ ٥٤]، وَقَضَى ابْنُ أَشْوَعَ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَكَلَامُ الْبُخَارِيِّ الَّذِي ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْضَهُ، هُوَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ «الشَّهَادَاتِ» : بَابُ مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَقَضَى ابْنُ أَشْوَعَ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سُمْرَةَ وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قَالَ وَعَدَنِي فَوَفَّى لِي، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ»، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَقَلْتُ وَعَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَنِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَوْلُهُ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ «وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ» يَعْنِي الْأَمْرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِ بِآيَةِ: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِصِدْقِ الْوَعْدِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ إِخْلَافَهُ مَذْمُومٌ فَاعِلُهُ، فَلَا يَجُوزُ، وَابْنُ الْأَشْوَعِ الْمَذْكُورُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَشَوْعَ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، كَانَ قَاضِيَ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِ إِمَارَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ عَلَى الْعِرَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيَانُ رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ رَآهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ ابْنِ أَشْوَعَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ»، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ فِي الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ، وَصِهْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَثْنَى عَلَيْهِ بِوَفَائِهِ لَهُ بِالْوَعْدِ هُوَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، وَقَدْ وَعَدَهُ بِرَدِّ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ إِلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الصِّهْرَ الْمَذْكُورَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى الْوَفَاءِ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ.
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ
الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آيَةِ الْمُنَافِقِ، وَمَحِلُّ الدَّلِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَكَوْنُ إِخْلَافِ الْوَعْدِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّسِمَ بِسِمَاتِ الْمُنَافِقِينَ.
الثَّالِثُ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ... الْحَدِيثَ، فَجَعَلَ الْعِدَةَ كَالدَّيْنِ، وَأَنْجَزَ لِجَابِرٍ مَا وَعَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَالِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ.
الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَيِّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ قَضَى أَطْيَبَهُمَا وَأَكْثَرَهُمَا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ فَعَلَ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الِاقْتِدَاءُ بِالرُّسُلِ، وَأَنْ يَفْعَلُوا إِذَا قَالُوا، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُنَاقَشَاتٌ مِنَ الْمُخَالِفِينَ.
وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ ٣] ; لِأَنَّ الْمَقْتَ الْكَبِيرَ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنْجَازُ الْوَعْدِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لَا يُضَارَبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. اهـ.
وَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مَشْهُورٌ لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ قَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجَلُّ مَنْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْعَزِيزِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ فِي الْفَتْحِ، وَقَالَ أَيْضًا: وَخَرَّجَ بَعْضُهُمُ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْهِبَةِ، هَلْ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ.
فَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعْدِ لَا يَجُوزُ، لِكَوْنِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَظَاهِرُ عُمُومِهِ يَشْمَلُ إِخْلَافَ الْوَعْدِ، وَلَكِنَّ الْوَاعِدَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ إِنْجَازِ الْوَعْدِ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَلَا يُلْزَمُ بِهِ جَبْرًا، بَلْ يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ; لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِمَعْرُوفٍ مَحْضٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ، إِلَى أَنْ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦ ٨٣ - ٩٠]، اهـ،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ رَبِّهِمْ بَكَوْا وَسَجَدُوا، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لَا خُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [١٧ ١٠٧ - ١٠٩]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [٥ ٨٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [٨ ٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [٣٩ ٢٣]، فَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ رَبِّهِمْ تُتْلَى تَأَثَّرُوا تَأَثُّرًا عَظِيمًا، يَحْصُلُ مِنْهُ لِبَعْضِهِمُ الْبُكَاءُ وَالسُّجُودُ، وَلِبَعْضِهِمْ قُشَعْرِيرَةُ الْجِلْدِ وَلِينُ الْقُلُوبِ وَالْجُلُودِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَبُكِيًّا، جَمْعُ بَاكٍ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَسَجَدَ وَقَالَ: هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ عَزَائِمَ السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «مِنْ بَعْدِهِمْ» رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ الْآيَةَ [١٩ ٥٨]، أَيْ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ خَلْفٌ، أَيْ: أَوْلَادُ سُوءٍ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الْبَدَلُ، وَلَدًا كَانَ أَوْ غَرِيبًا، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَلَفُ بِالْفَتْحِ: الصَّالِحُ، وَبِالسُّكُونِ: الطَّالِحُ، قَالَ لَبِيدٌ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ | وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ |
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا | لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ |
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ | أَغْلَقَ عَنَّا بَابَهُ ثُمَّ حَلَفْ |
لَا يُدْخِلُ الْبَوَّابُ إِلَّا مَنْ عَرَفْ | عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ |
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْخَلْفَ السَّيِّئَ الَّذِي خَلَفَ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْكِرَامِ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ: أَنَّهُمْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِإِضَاعَتِهِمُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِضَاعَتُهَا الْإِخْلَالُ بِشُرُوطِهَا، وَمِمَّنِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا جَحْدُ وُجُوبِهَا، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ وَمَا قَبْلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: إِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ الْجَمَاعَاتِ، وَقِيلَ: إِضَاعَتُهَا: تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالُ بِالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَدْخُلُ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَعَدَمَ إِقَامَتِهَا فِي الْجَمَاعَةِ، وَالْإِخْلَالَ بِشُرُوطِهَا، وَجَحْدَ وُجُوبِهَا، وَتَعْطِيلَ الْمَسَاجِدِ مِنْهَا كُلُّ ذَلِكَ إِضَاعَةٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعُ الْإِضَاعَةِ تَتَفَاوَتُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْخَلْفِ الْمَذْكُورِينَ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُرْوَى عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتُونَ عِنْدَ ذَهَابِ الصَّالِحِينَ مِنْهَا، يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَزِقَّةِ زِنًى، وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ، وَفِيهِمْ
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَكَوْنُهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ [١٩ ٥٩]، صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَمَا تَرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ خَلَفُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَصَالِحِيهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَأَضَاعُوا الصَّلَاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ خَلْفٍ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ يَدْخُلُونَ فِي الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَامٌّ فِي اتِّبَاعِ كُلِّ مُشْتَهًى يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ بَنَى الْمُشَيَّدَ، وَرَكِبَ الْمَنْظُورَ، وَلَبِسَ الْمَشْهُورَ فَهُوَ مِمَّنِ اتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْغَيَّ عَلَى كُلِّ شَرٍّ، وَالرَّشَادَ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، قَالَ الْمُرَقَّشُ الْأَصْغَرُ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ | وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا |
فَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ فِيهَا مَنْ أَضَاعَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ بِالْغَيِّ الَّذِي هُوَ الشَّرُّ الْعَظِيمُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي ذَمِّ الَّذِينَ يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ وَلَا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا وَتَهْدِيدِهِمْ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [١٠٧ ٤ - ٧]، وَقَوْلِهِ فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [٤ ١٤٢]، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [٩ ٥٤]، وَأَشَارَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ إِلَى ذَمِّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَتَهْدِيدِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [٤٧ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [١٥ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [٧٧ ٤٦ - ٤٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْخَلَفَ الطَّيِّبِينَ لَا يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ، وَلَا يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢٣ ١ - ١٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ:
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ الْجَاحِدَ لِوُجُوبِهَا، كَافِرٌ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا مَا لَمْ يَتُبْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ كَالْوُضُوءِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ كَتَرْكِهَا، وَجَحْدَ وَجُوبِهِ كَجَحْدِ وَجُوبِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ صَلَاةٍ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوُجُوبِهَا، هَلْ هُوَ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ، وَهَلْ يُقْتَلُ كُفْرًا أَوْ حَدًّا أَوْ لَا يُقْتَلُ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كُفْرًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا: الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمَنْصُورٌ الْفَقِيهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ الْآيَةَ [٩ ١١]، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ إِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ أُخُوَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الْآيَةَ [٤٩ ١٠]، وَمِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقَيْنِ، لَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ»، وَلَفْظُ الْمَتْنِ فِي الْأُخْرَى: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ ; لِأَنَّ عَطْفَ الشِّرْكِ عَلَى الْكُفْرِ فِيهِ تَأْكِيدٌ قَوِيٌّ لِكَوْنِهِ كَافِرًا، وَمِنْهَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِيَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى قِتَالِ الْأُمَرَاءِ إِذَا لَمْ يُصَلُّوا، وَهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ»، فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ بِوَاحٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْعَهْدُ الَّذِي
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ «لَمْ يُتَكَلَّمْ عَلَيْهِ» سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا، حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا جَمِيعًا، يَعْنِي أَثَرَ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ التَّابِعِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَلَالَتِهِ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ هَذَا الِاتِّفَاقَ عَلَى جَلَالَةِ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّ فِيهِ نَصْبًا، وَقَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. اهـ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَاكِمِ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَرِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ، وَأَثَرُ ابْنِ شَقِيقٍ الْمَذْكُورَانِ فِيهِمَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا كُفْرٌ، وَلَوْ أَقَرَّ تَارِكُهَا بِوُجُوبِهَا، وَبِذَلِكَ يَعْتَضِدُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا - كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ - لَا كُفْرًا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بَلْ يُفَسَّقُ وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. اهـ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُمَا عَدَمُ كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ، وَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا، أَمَّا أَدِلَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ:
فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [٩ ٥]، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ اشْتَرَطَ فِي تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إِقَامَتَهُمُ الصَّلَاةَ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوهَا لَمْ يُخَلَّ سَبِيلُهُمْ وَهُوَ كَذَلِكَ.
) وِمِنْهَا (مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» اهـ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَلَا أَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ كَمَا تَرَى.
وَمِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَهَبِيَّةٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ» ؟ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا صَلَّوْا» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ «مَا صَلَّوْا» مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: لَا تُقَاتِلُوهُمْ مُدَّةَ كَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا، وَهُوَ كَذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، فَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ هَذَا وَنَحْوُ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ، وَبِضَمِيمَةِ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ إِلَى ذَلِكَ يَظْهَرُ الدَّلِيلُ عَلَى الْكُفْرِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا.» الْحَدِيثَ، وَأَشَارَ فِي حَدِيثٍ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ قُوتِلُوا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَهَا مِنَ الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ: قَالَ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ.» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ كَمَا تَرَى.
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي» ؟ قَالَ: بَلَى وَلَا صَلَاةَ لَهُ، قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي
هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ مَنْ قَالَ بِقَتْلِهِ يَقُولُونَ إِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُنْخَسُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ يُضْرَبُ بِخَشَبَةٍ، وَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، وَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَتَابُ ; لِأَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا وَالْحُدُودُ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الضَّرُورِيِّ إِلَّا قَدْرُ رَكْعَةٍ وَلَمْ يُصَلِّ قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ، وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ الْمَتْرُوكَةِ مَعَ الْأُولَى، وَالْأُخْرَى: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤ ١١٦]، وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخَدَّجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، فَقَالَ الْمُخَدَّجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ». انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ، وَالْمَتْنُ كَلَفْظِ الْمُوَطَّأِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنُ كَاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ (: وَفِيهِ يَعْنِي حَدِيثَ عُبَادَةَ الْمَذْكُورَ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَتَحَتَّمُ عَذَابُهُ، بَلْ هُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بِنَحْوِهِ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْعَلَامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَمِنْ حَدِيثٍ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ) فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ (بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتَ الْمَذْكُورَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ، لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُخَدَّجِيَّ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِهِ مَجْهُولٌ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ الْمُقِرَّ بِوُجُوبِهَا غَيْرُ كَافِرٍ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتِ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ» اهـ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ: طَرِيقَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ بِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ مُتَّصِلَةٌ بِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَكُلُّهَا لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ بِمَا يُوجِبُ ضَعْفَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ إِسْنَادُهَا جَيِّدٌ وَرِجَالُهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ، وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَالَ: هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَفِي الْبَابِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ أَنَّ نُقْصَانَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَإِتْمَامَهَا مِنَ النَّوَافِلِ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ تَرْكَ بَعْضِهَا عَمْدًا، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ الْمَجْدُ) فِي الْمُنْتَقَى (بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى عَدَمِ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ الْمُقِرِّ بِوُجُوبِهَا، مَا نَصُّهُ: وَيُعَضِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ عُمُومَاتٌ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ: «يَا مُعَاذُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا تَكَاسُلًا وَتَهَاوُنًا مَعَ إِقْرَارِهِ بِوُجُوبِهَا لَا يُقْتَلُ وَلَا يُكَفَّرُ، بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا لِأَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ قَتْلِهِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» وَغَيْرِهَا: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ»، قَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا تَرْكَ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَتْلِ، قَالُوا: وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ عَلَى قَتْلِهِ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفَاهِيمِهَا أَعْنِي مَفَاهِيمَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِمَنْطُوقِهِ وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْمَفْهُومَ الْمَعْرُوفَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَرِفُ بِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَتْلِهِ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ، وَمِنْهَا قِيَاسُهُمْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى تَرْكِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَثَلًا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُقْتَلْ تَارِكُهَا، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ يُقْتَلُ، فَقَدْ أَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَعَنْ قِيَاسِهِ عَلَى تَارِكِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ بِأَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَتْلِهِ، وَعَنِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ بِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ يُخَصَّصُ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، فَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ
وَرَدَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ أَدِلَّةَ مُخَالِفِيهِمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ يُصَرِّحُ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكُفْرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الْخُرُوجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْمَجْدُ) فِي الْمُنْتَقَى (: وَقَدْ حَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنًى قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ: «وَأَبِي» فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَأَمْثَالُهُ فِي السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الرِّيَاءِ شِرْكًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ أَطْلَقَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْكُفْرِ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا اسْتَفْسَرُوهُ عَنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَدِلَّةً عِنْدِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَجْرَى الْأَقْوَالَ عَلَى مُقْتَضَى الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَعُلُومِ الْحَدِيثِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ كُفْرٌ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ لِوُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِذَا حُمِلَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ كَفَّرَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَبُرَيْدَةَ، وَرِوَايَةِ ابْنِ شَقِيقٍ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ شَارَكَ الْكَافِرَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيِّنٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَوْ نَامَ عَنْهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ:
) مِنْهَا (مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ».
) وِمِنْهَا (مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤].
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:» مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤].
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْمَهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا».
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرَ، قَالَ: ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسْنَا فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَضَاءَ النَّائِمِ وَالنَّاسِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ عَلَى الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. اهـ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ قَضَاءً بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدَّمَهَا عَلَى الْمَغْرِبِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ قَرِينَةِ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِالتَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ.
وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعَ أَصْحَابُهُ نِعَالَهُمْ تَأَسِّيًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ بِبَاطِنِهَا أَذًى، وَسَأَلَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ؟ وَأَجَابُوا بِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ خَلَعَ نَعْلَهُ - وَهُوَ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ قَرَائِنِ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ - أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى لُزُومِ التَّأَسِّي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ الْمُجَرَّدَةِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِرْسَالِ فَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَصْلَهُ.
وَالْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ شَاهِدَةٌ لَهُ، وَإِلَى كَوْنِ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةِ مِنَ الْقَرَائِنِ تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ:
وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدَ الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْمَغْرِبِ الْحَاضِرَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي اسْتِدْلَالِ الْبُخَارِيِّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأُولَى مِنَ الْفَوَائِتِ فَالْأُولَى بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَلَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمَنْ يَقُولُ بِتَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ، إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُجَرَّدَةَ لِلْوُجُوبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وَقَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذَا. انْتَهَى مِنْهُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُجَرَّدَةَ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ عُمُومُ حَدِيثِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً فِي وَقْتِ حَاضِرَةٍ ضَيِّقٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ أَوْ لَا؟ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُلِّ أَصْحَابِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَاضِرَةِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي تَقْدِيمِ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، قَالَ عِيَاضٌ: وَمَحِلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَكْثُرِ الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ، فَأَمَّا إِذَا كَثُرَتْ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَاضِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ صَلَاةُ يَوْمٍ، وَقِيلَ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
أَمَّا تَرْتِيبُ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِهِ مَعَ الذِّكْرِ لَا مَعَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا بَلْ يُنْدَبُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، قَلَّتِ الْفَوَائِتُ أَمْ كَثُرَتْ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَزُفَرُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ نَسِيَ الْفَوَائِتَ صَحَّتِ الصَّلَوَاتُ الَّتِي صَلَّى بَعْدَهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَوْ
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي وُجُوبُ تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا الْأُولَى فَالْأُولَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْقِتَالِ مَا نَزَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [٣٣ ٢٥]، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَذَّنَ لِلْمَغْرِبِ فَصَلَّاهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا. اهـ.
فَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، فَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ هُوَ أَبُو حَفْصٍ الْفَلَّاسُ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَيَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ وَجَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ جَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَسَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ثِقَةٌ، فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْفَوَائِتَ فِي الْقَضَاءِ: الْأُولَى فَالْأُولَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَفْعَالَهُ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيَرْثِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمُرِيِّ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ جَلِيلٌ. اهـ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا هَنَّادٌ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ
أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ الْمَكِّيَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا فِي غَزْوَةٍ فَحَبَسَنَا الْمُشْرِكُونَ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَأَقَامَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَصَلَّيْنَا، وَأَقَامَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ طَافَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ عِصَابَةٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُكُمْ» اهـ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي) نَيْلِ الْأَوْطَارِ (: إِنَّ إِسْنَادَهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْنَادَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ ; لِأَنَّ رَاوِيَهِ عَنْهُ ابْنُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ مُرْسَلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْسَلَ يَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ يَحْتَجُّ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَضِدْ بِغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يُعَارِضُهُمَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ كَوْنِهِمْ شَغَلُوهُمْ عَنِ الْعَصْرِ وَحْدَهَا ; لِأَنَّ مَا فِيهِمَا زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ) وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ (وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَأَصْحَابَهُمْ وَجَمَاهِيرَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا قَضَاهَا وَحْدَهَا وَلَا تَلْزَمُهُ زِيَادَةُ صَلَاةٍ أُخْرَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ:) بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا وَلَا يُعِيدُ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلَّا تِلْكَ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ»، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤]، قَالَ مُوسَى: قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [٢٠ ١٤]، وَقَالَ هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ،
وَقَالَ فِي) فَتْحِ الْبَارِي (فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَتَرْجَمَتِهِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنَيِّرِ: صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِإِثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْوَاجِبُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَا أَكْثَرُ، فَمَنْ قَضَى الْفَائِتَةَ كَمَّلَ الْعَدَدَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْخِطَابِ، لِقَوْلِ الشَّارِعِ «فَلْيُصَلِّهَا» وَلَمْ يَذْكُرْ زِيَادَةً، وَقَالَ أَيْضًا: «لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ لَا يَجِبَ غَيْرُ إِعَادَتِهَا، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى صَلَاةً أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي الَّتِي ذَكَرَ، ثُمَّ يُصَلِّي الَّتِي كَانَ صَلَّاهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ. انْتَهَى مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ مَا نَصُّهُ: ثُمَّ قَالَ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» اهـ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَإِذَا كَانَ الْغَدُ... إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ: الْأُولَى عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَالثَّانِيَةَ: عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فَقَضَاهَا لَا يَتَغَيَّرُ وَقْتُهَا وَيَتَحَوَّلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ صَلَّى صَلَاةَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ وَلَا يَتَحَوَّلُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْحَالِ، وَمَرَّةً فِي الْغَدِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَكِنْ جَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ النُّوَّمِ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَذْكُورَةِ مَا نَصُّهُ: «فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ صَلَاةَ الْغَدِ مِنْ غَدٍ صَالِحًا فَلْيَقْضِ مَعَهَا مِثْلَهَا» اهـ، وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَقْضِي الْفَائِتَةَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ لَفْظَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَجْوِبَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمَ أَحَدًا قَالَ بِظَاهِرِهِ وُجُوبًا، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ الْوَقْتِ فِي الْقَضَاءِ. انْتَهَى، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَيْضًا، بَلْ عَدُّوا الْحَدِيثَ غَلَطًا مِنْ رَاوِيهِ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا تَكَاسُلًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِوُجُوبِهَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي كُفْرِهِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُرْتَدِّ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْكَافِرَ تَارَةً يَكُونُ كَافِرًا أَصْلِيًّا لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ إِسْلَامٌ، وَتَارَةً يَكُونُ كَافِرًا بِالرِّدَّةِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا.
أَمَّا الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [٨ ٣٨]، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ شَيْءٍ فَائِتٍ فِي كُفْرِهِ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ مَعْرُوفٌ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ، وَلَا فِي زَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَتَجْعَلُهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلَتْهَا رِدَّتُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الْآيَةَ [٣٩ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٥ ٥]، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ وَزَمَنِ إِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تُبْطِلْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [٢ ٢١٧]، فَجَعَلَ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ شَرْطًا فِي حُبُوطِ الْعَمَلِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ، لِوُجُوبِ
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، هَلْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ بِالْقَضَاءِ أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَا بُدَّ لِلْقَضَاءِ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وِفَاقًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ هِيَ قَوْلُهُمْ: الْأَمْرُ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ لَزِمَ فِعْلُ بَعْضِهَا الَّذِي لَمْ يَتَعَذَّرْ، فَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَمْرٌ بِمُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: فِعْلُ الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهَا مُقْتَرِنَةً بِالْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الِاقْتِرَانُ بِالْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ غَيْرَ مُتَعَذِّرٍ وَهُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ، فَيَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فِعْلُ الْجُزْءِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَّرَ بِهِ ابْنُ قَدَامَةَ فِي) رَوْضَةِ النَّاظِرِ (وَعَزَاهُ هُوَ وَالْغَزَالِيُّ فِي) الْمُسْتَصْفَى (إِلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِقَضَائِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَاعِدَةٍ، وَهِيَ) أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ دُونَهَا فَائِدَةٌ (، قَالُوا: فَتَخْصِيصُهُ الصَّلَوَاتِ بِأَوْقَاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالصَّوْمَ بِرَمَضَانَ مَثَلُهُ كَتَخْصِيصِ الْحَجِّ بِعَرَفَاتٍ، وَالزَّكَاةِ بِالْمَسَاكِينِ وَالصَّلَاةِ بِالْقِبْلَةِ، وَالْقَتْلِ بِالْكَافِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اخْتَلَفُوا فِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَتِهَا، قَالُوا: نَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْقَضَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ الْمَتْرُوكَةَ عَمْدًا جَاءَتْ عَلَى قَضَائِهَا أَدِلَّةٌ، مِنْهَا: قِيَاسُ الْعَامِدِ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ الْمَنْصُوصِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا، قَالُوا: فَإِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَامِدِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُجَامِعَ فِي نَهَارِ
وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى التَّارِكِ عَمْدًا عُمُومُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»، فَقَوْلُهُ: «دَيْنُ اللَّهِ» اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ دَيْنٍ، كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الْآيَةَ [١٤ ٣٤]، فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَتْرُوكَةَ عَمْدًا دَيْنُ اللَّهِ فِي ذِمَّةِ تَارِكِهَا، فَدَلَّ عُمُومُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُقْضَى، وَلَا مُعَارِضَ لِهَذَا الْعُمُومِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَ عَلَى التَّارِكِ لِلصَّلَاةِ عَمْدًا قَضَاءٌ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يَأْتِ أَمْرٌ جَدِيدٌ بِقَضَاءِ التَّارِكِ عَمْدًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ابْنُ حَزْمٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءْ بَلْ هُوَ بِالْأَمْرِ الْجَدِيدِ جَاءْ لِأَنَّهُ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنِ يَجِي لِمَا عَلَيْهِ مِنْ نَفْعٍ بُنِي وَخَالَفَ الرَّازِيُّ إِذِ الْمُرَكَّبْ لِكُلِّ جُزْءٍ حُكْمُهُ يَنْسَحِبْ
تَنْبِيهٌ
سَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَنَظَرَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِالْمُرَكَّبِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ، وَإِلَيْهِ نَظَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.
وَالثَّانِي: الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَخْتَصُّ بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَإِلَيْهِ نَظَرَ الْجُمْهُورُ، وَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا أَشَارَ لَهُ الشَّيْخُ مَيَّارَةُ فِي التَّكْمِيلِ، بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ فِي الْفَرْعِ تَقْرِيرَانِ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ فَالْقَوْلَانِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ جَنَّاتِ عَدْنٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَعْدَهُ مَأْتِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ وَيَنَالُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُخْلِفُ
وَقَوْلِهِ: مَأْتِيًّا، اسْمُ مَفْعُولِ «أَتَاهُ» : إِذَا جَاءَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَأْتِيًّا، صِيغَةُ مَفْعُولٍ أُرِيدَ بِهَا الْفَاعِلُ، أَيْ: كَانَ وَعْدُهُ آتِيًا، إِذْ لَا دَاعِيَ لِهَذَا مَعَ وُضُوحِ ظَاهِرِ الْآيَةِ.
تَنْبِيهٌ
مَثَّلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدَلِ، وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، قَالُوا: جَنَّاتِ عَدْنٍ [١٩ ٦١]، بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [١٩ ٦٠]، بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ.
قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ قَوْلُهُ:
وَكُلُّ مَا الصِّفَةُ فِيهِ تُجْهَلْ | فَلِلْوُجُوبِ فِي الْأَصَحِّ يُجْعَلْ |
رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا | بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ كَوْنُ الْبَدَلِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِلْجِنْسِ، وَإِذَا كَانَ لِلْجِنْسِ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْجَنَّاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ، بَدَلًا مِنَ الْجَنَّةَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَدْخَلَهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا [١٩ ٦٢]، أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْمَذْكُورَةِ لَغْوًا، أَيْ: كَلَامًا تَافِهًا سَاقِطًا كَمَا يُسْمَعُ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّغْوُ: هُوَ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ فُحْشُ الْكَلَامِ وَبَاطِلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ، وَقِيلَ الْعَجَّاجِ:
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ | عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ |
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا سَلَامًا، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا، لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ الْآيَةَ [١٤ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ الْآيَةَ [١٣ ٢٣ - ٢٤]، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ فِي «الْوَاقِعَةِ» : لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [٥٦ ٢٥ - ٢٦]، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ الْآيَةَ [٤ ١٥٧] : وَقَوْلِهِ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [٩٢ ١٩ - ٢٠]، وَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [٤٤ ٥٦]، وَكَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ الْآيَةَ [٤ ٢٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُنْقَطِعَةٌ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا | عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ |
إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا | وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ |
وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَبِنْتِ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ | لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانَ وَعَامِلَهْ |
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ | إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ |
وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ:
أُجَاهِدُ إِذْ كَانَ الْجِهَادُ غَنِيمَةً | وَلَلَّهُ بِالْعَبْدِ الْمُجَاهِدِ أَعْلَمْ |
عَشِيَّةً لَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا | وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرِقِيَّ الْمُصَمِّمْ |
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ يَحْصُلُ بِأَمْرَيْنِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَإِنِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَقِيضَ الْإِثْبَاتِ النَّفْيُ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [٤٤ ٥٦]، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [٤ ٢٩]، وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْآيَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَنَقِيضُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا، هُوَ: يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ، وَهَذَا النَّقِيضُ الَّذِي هُوَ ذَوْقُ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بَلْ حُكِمَ بِالذَّوْقِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقِيضُ
فَتَحَصَّلَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاسْتِثْنَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْحُكْمِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا ثَوْبًا، الثَّانِي: بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ النَّقِيضِ، نَحْوُ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا زَيْدًا لَمْ يُسَافِرْ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي
اعْلَمْ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ، فَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِآخَرَ فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا، فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَكُونُ قَوْلُهُ «إِلَّا ثَوْبًا» لَغْوًا وَتَلْزَمُهُ الْأَلْفُ كَامِلَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لَا يُلْغَى قَوْلُهُ «إِلَّا ثَوْبًا» وَتَسْقُطُ قِيمَةُ الثَّوْبِ مِنَ الْأَلْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ قِيمَتَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، أَيْ: حَذْفَ مُضَافٍ، يَعْنِي: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، فَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ عَلَى الْإِضْمَارِ قَالَ «إِلَّا ثَوْبًا» مَجَازٌ، أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ الْقِيمَةَ، كَإِطْلَاقِ الدَّمِ عَلَى الدِّيَةِ، وَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْإِضْمَارُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ «إِلَّا ثَوْبًا»، أَيْ: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، وَاعْتَمَدَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ تَقْدِيمَ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَعْدَ تَخْصِيصٍ مَجَازٌ يَلِي | الْإِضْمَارُ فَالنَّقْلُ عَلَى الْمُعَوَّلِ |
الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى مُسْتَصْحَبًا فِي الْأَفْرَادِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قَرِينَةٍ، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا: أَنْتَ أَبِي، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ، أَيْ: أَنْتَ عَتِيقٌ ; لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ يَلْزَمُهَا الْعِتْقُ، وَيَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَنْتَ مِثْلُ أَبِي فِي الشَّفَقَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْتَقُ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُعْتَقُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا فِي: «لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا»، وَهُمَا الْإِضْمَارُ وَالنَّقْلُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّصِلًا ; لِأَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْقِيمَةَ مُضْمَرَةٌ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهَا مُعَبَّرٌ عَنْهَا بِلَفْظِ الثَّوْبِ.
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ
اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ; لِأَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوهُ لَمْ يَمْنَعُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ ; لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى «لَكِنْ» فَهُوَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَقُولُ: إِنَّ الثَّوْبَ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ لَغْوٌ، وَيُعَدُّ نَدَمًا مِنَ الْمُقِرِّ بِالْأَلْفِ، وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، قِيلَ إِنَّهَا نِسْبَةُ تَوَاطُؤٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَإِلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَّصِلِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ، بِقَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ بِالنَّقِيضِ لِلْحُكْمِ حَصَلْ | لِمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ قَبْلُ مُتَّصِلْ |
وَغَيْرُهُ مُنْقَطِعٌ وَرَجَّحَا | جَوَازَهُ وَهُوَ مَجَازٌ أَوْضَحَا |
فَلْتُنْمِ ثَوَابًا بَعْدَ أَلْفِ دِرْهَمِ | لِلْحَذْفِ وَالْمَجَازِ أَوْ لِلنَّدَمِ |
وَقِيلَ بِالْحَذْفِ لَدَى الْإِقْرَارِ | وَالْعَقْدُ مَعْنَى الْوَاوِ فِيهِ جَارِ |
بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَاطِي قَالَ | بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا |
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
فَمًا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي | جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ |
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ ذِكْرِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ ضِيَاءٌ دَائِمٌ وَلَا لَيْلَ فِيهَا، وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ قَدْرُ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَنِ، كَقَوْلِهِ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [٣٤ ١٢]، أَيْ: قَدْرُ شَهْرٍ، وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي زَمَنِهَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً فَذَلِكَ النَّاعِمُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُرَغِّبَةً لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الدَّوَامِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، وَالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا، يُرِيدُ الدَّيْمُومَةَ وَلَا يَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْبُكْرَةُ هِيَ الْوَقْتَ الَّذِي قَبْلَ اشْتِغَالِهِمْ بِلَذَّاتِهِمْ، وَالْعَشِيُّ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ لَذَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُهَا فَتَرَاتُ انْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ: هُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي) نَوَادِرِ الْأُصُولِ (مِنْ حَدِيثِ أَبَانٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ، قَالَا: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَيْلٍ؟ قَالَ: «وَمَا يُهَيِّجُكَ عَلَى هَذَا» ؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَقُلْتُ: اللَّيْلُ بَيْنَ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ، إِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ، يَرِدُ الْغُدُوُّ عَلَى الرَّوَاحِ وَالرَّوَاحُ عَلَى الْغُدُوِّ، تَأْتِيهِمْ طُرَفُ الْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ». انْتَهَى
قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ [١٩ ٦٣]، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ جَنَّتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢٣ ١ - ١١]، وَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْآيَاتِ [٣ ١٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا الْآيَةَ [٣٩ ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ: الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا فِي أَكْمَلِ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي) الْكَشَّافِ (: نُورِثُ أَيْ: نُبْقِي عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا نُبْقِي عَلَى الْوَارِثِ مَالَ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّ الْأَتْقِيَاءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَثَمَرَتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَإِذَا أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كَمَا يُورِثُ الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِكُلِّ نَفْسٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ; أَرَاهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِي النَّارِ لَوْ كَفَرُوا وَعَصَوُا اللَّهَ لِيَزْدَادَ سُرُورُهُمْ وَغِبْطَتُهُمْ ; وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ الْآيَةَ [٧ ٤٣]، وَكَذَلِكَ يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ آمَنُوا وَاتَّقَوُا اللَّهَ لِتَزْدَادَ نَدَامَتُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ:
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ يَدُلُّ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَوَابٍ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرِثُونَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمُ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، كَمَا قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا أُورِثُوا مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِ النَّارِ وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَرَى، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ، هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ أَشْكْرَ، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةً» اهـ، وَعَلَّمَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ. اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَجَدَ عِظَامًا بَالِيَةً فَفَتَّتَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَدْ أَسْنَدَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ صَادِرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْمُوعِ، مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ بَعْضُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [٢ ١٩١]، مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ، أَيْ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَمِنْ أَظْهَرِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ يَقُولُ مُنْكِرًا الْبَعْثَ: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، يَعْنِي: أَيَقُولُ الْإِنْسَانُ مَقَالَتَهُ هَذِهِ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّا أَوْجَدْنَاهُ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ عَدَمًا فَأَوْجَدْنَاهُ، وَإِيجَادُنَا لَهُ الْمَرَّةَ الْأُولَى دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى إِيجَادِهِ بِالْبَعْثِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَهَذَا الْبُرْهَانُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [٣٦ ٧٨ - ٧٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [٥٠ ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [٥٦ ٦٢]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [٣٠ ٢٧]، وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [١٧ ٥١]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٢٢ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ١٠٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ; وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ إِذَا، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَزَاءُ الشَّرْطِ ; وَتَقْدِيرُهُ: أَأُخْرَجُ حَيًّا إِذَا مَا مِتُّ؟ أَيْ: حِينَ يَتَمَكَّنُ فِيَّ الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ أُخْرَجُ حَيًّا، يَعْنِي لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا تَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ أُخْرَجُ، الْمَذْكُورِ فِي
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَدَلِيلُهُ وُجُودُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ نَبَا | بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ |
فَلَمَّا رَأَتْهُ أُمُّنَا هَانَ وَجْدُهَا | وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ |
تَنْبِيهٌ
فَإِنْ قُلْتَ: لَامُ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّامَ هُنَا جُرِّدَتْ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ، وَأُخْلِصَتْ لِمَعْنَى التَّوْكِيدِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ جَامَعَتْ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا بَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بِأَنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَمْنَعُ أَنَّ اللَّامَ الْمَذْكُورَةَ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [١٩ ٦٧]، أَقْسَمَ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ - أَيِ: الْكَافِرِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ - وَغَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَيَحْشُرُ مَعَهُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُضِلُّونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُحْضِرُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَمَّا حَشْرُهُ لَهُمْ وَلِشَيَاطِينِهِمْ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [٣٧ ٢٢ - ٢٣]،
وَأَمَّا إِحْضَارُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، فَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٨]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، جَمْعُ جَاثٍ، وَالْجَاثِي: اسْمُ فَاعِلِ: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وَجَثَى يَجْثِي جِثِيًّا: إِذَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَوْ قَامَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَالْعَادَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي مَوْقِفِ ضَنْكٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، جَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
فَمَنْ لِلْحُمَاةِ وَمَنْ لِلْكُمَاةِ إِذَا مَا الْكُمَاةُ جَثَوْا لِلرُّكَبْ إِذَا قِيلَ مَاتَ أَبُو مَالِكٍ فَتَى الْمُكْرَمَاتِ قَرِيعُ الْعَرَبْ وَكَوْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: جِثِيًّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً الْآيَةَ [٤٥ ٢٨]، أَنَّهُ جِثِيُّهُمْ عَلَى رُكَبِهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
هُمْ تَرَكُوا سَرَاتَهُمْ جِثِيًّا | وَهُمْ دُونَ السَّرَاةِ مُقَرَّنِينَا |
تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا | صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَنَنْزِعَنَّ [١٩ ٦٩]، أَيْ: لَنَسْتَخْرِجَنَّ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا، أَيْ: لَنَسْتَخْرِجَنَّ وَلَنُمَيِّزَنَّ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ أَعَصَاهُمْ فَأَعْصَاهُمْ، وَأَعْتَاهُمْ فَأَعْتَاهُمْ، فَيُبْدَأُ بِتَعْذِيبِهِ وَإِدْخَالِهِ النَّارَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَالْإِضْلَالِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرُّؤَسَاءَ الْقَادَةَ فِي الْكُفْرِ يُعَذَّبُونَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى هَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [١٦ ٨٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٢٩ ١٣]، وَقَوْلِهِ: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [١٦ ٢٥]، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ فِي أُمَمِ النَّارِ أُولَى وَأُخْرَى، فَالْأُولَى: الَّتِي يُبْدَأُ بِعَذَابِهَا وَبِدُخُولِهَا النَّارَ، وَالْأُخْرَى الَّتِي تَدْخُلُ بَعْدَهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [٧ ٣٨ - ٣٩].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [١٩ ٧٠]، يَعْنِي: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْلَى النَّارَ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الرُّؤَسَاءَ وَالْمَرْءُوسِينَ كُلَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ، وَالصِّلِيُّ: مَصْدَرُ صَلِيَ النَّارَ - كَرَضِيَ - يَصْلَاهَا صِلِيًّا) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (إِذَا قَاسَى أَلَمَهَا، وَبَاشَرَ حَرَّهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ رَفْعِ «أَيُّ» مَعَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ لَنَنْزِعَنَّ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ إِلَى أَنَّ لَفْظَةَ «أَيُّ» مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ إِذَا كَانَتْ مُضَافَةً وَصَدْرُ صِلَتِهَا ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ كَمَا هُنَا، وَعَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
أَيٌّ كَمَا وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ | وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ |
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ سِيبَوَيْهَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُ غَسَّانَ بْنِ وَعْلَةَ:
إِذَا مَا لَقِيتَ بَنِي مَالِكٍ | فَسَلِّمْ عَلَى أَيُّهُمْ أَفْضَلُ |
وَلَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الْفَتَاةِ بِمَنْزِلٍ | فَأَبِيتُ لَا حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ |
وَأَمَّا يُونُسُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْضًا ; لَكِنَّهُ حَكَمَ بِتَعْلِيقِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَاحْتَجَّ لِسِيبَوَيْهَ عَلَى الْخَلِيلِ وَيُونُسَ وَمَنْ تَبِعَهُمَا بِبَيْتِ غَسَّانَ بْنِ وَعْلَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ بِضَمِّ «أَيُّهُمْ»، مَعَ أَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ، لَا يُضْمَرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا قَوْلٌ وَلَا تَعَلُّقٌ عَلَى الْأَصْوَبِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَمِمَّا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ النَّحْوِيِّينَ غَلَّطُوا سِيبَوَيْهَ فِي قَوْلِهِ هَذَا فِي «أَيُّ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عِتِيًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَصِلِيًّا بِكَسْرِ الصَّادِ لِلْإِتْبَاعِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ الدُّخُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُ أَذَاهَا عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الدُّخُولِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِوُرُودِ النَّارِ الْمَذْكُورِ: الْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ ; لِأَنَّهُ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ الْوُرُودِ هُوَ حُرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَلَبَتُهُ فِيهِ دَلِيلٌ اسْتِقْرَائِيٌّ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ بِوُرُودِ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ وُرُودَ النَّارِ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الدُّخُولُ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ «الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ هُوَ الدُّخُولُ» ؛ لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخْرَى عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [١١ ٩٨]، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ دُخُولٍ، وَكَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [٢١ ٩٩]، فَهُوَ وُرُودُ دُخُولٍ أَيْضًا، وَكَقَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [١٩ ٨٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [٢١ ٦٨]، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ فِي «أَنَّ الْوُرُودَ الدُّخُولُ».
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ: الْإِشْرَافُ وَالْمُقَارَبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ الْآيَةَ [٢٨ ٢٣]، قَالَ: فَهَذَا وُرُودُ مُقَارَبَةٍ وَإِشْرَافٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ الْآيَةَ [١٢ ١١]، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ | وَضَعْنَ عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ |
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ وُرُودَ النَّارِ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: حَرُّ الْحُمَّى فِي دَارِ
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ الدُّخُولُ أَدِلَّةٌ، الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُرُودِ النَّارِ مَعْنَاهُ دُخُولُهَا غَيْرَ مَحِلِّ النِّزَاعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَحِلَّ النِّزَاعِ كَذَلِكَ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ جَمِيعَ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ سَيَرِدُونَ النَّارَ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [١٩ ٧٠ - ٧١]، بَيَّنَ مَصِيرَهُمْ وَمَآلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا [١٩ ٧٢]، أَيْ: نَتْرُكُ الظَّالِمِينَ فِيهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُرُودَهُمْ لَهَا دُخُولُهُمْ فِيهَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَدْخُلُوهَا لَمْ يَقُلْ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا بَلْ يَقُولُ: وَنُدْخِلُ الظَّالِمِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِيمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ هَلَكَةٌ، وَلِذَا عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا قَوْلَهُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ وَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا» اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي) الْكَافِي الشَّافْ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافْ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ فِي بَابِ النَّارِ، وَالْحَكِيمُ فِي النَّوَادِرِ، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَسَأَلْنَا جَابِرًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَتَمَّ مِنَ اللَّفْظِ
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمَذْكُورَ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى: سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ إِمَامٌ حَافِظٌ مَشْهُورٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّانِيَةَ: أَبُو صَالِحٍ أَوْ أَبُو سَلَمَةَ غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَتَكِيُّ الْجَهْضَمِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الثَّالِثَةَ: كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو سَهْلٍ الْبُرْسَانِيُّ بَصْرِيٌّ نَزَلَ بَلْخَ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَطَبَقَتَهُ الرَّابِعَةَ: أَبُو سُمَيَّةَ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. وَبِتَوْثِيقِ أَبِي سُمَيَّةَ الْمَذْكُورِ تَتَّضِحُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ رِجَالِ هَذَا الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمَذْكُورَ يَعْتَضِدُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَبِالْآيَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَآثَارٍ جَاءَتْ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ وُرُودُ دُخُولٍ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُرُودَ فِي الْآيَةِ الدُّخُولُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [٢١ ١٠١]، بِأَنَّهُمْ مُبْعَدُونَ عَنْ عَذَابِهَا وَأَلَمِهَا، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وَرُودَهُمْ إِيَّاهَا مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِمْ بِأَلَمٍ وَلَا حَرٍّ مِنْهَا، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَأَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»، بِالْقَوْلِ بِمُوجِبِهِ، قَالُوا: الْحَدِيثُ حَقٌّ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَحِلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ فِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ فِي حَرَارَةٍ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا إِلَى أَنْ قَالَ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [١٩ ٦٨ - ٧٠]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا كَمَا تَرَى.
وَالْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: جِثِيًّا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ:
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُنَجِّي، قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ بِإِسْكَانِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ وُرُودَ النَّارِ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُرُورُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ النَّاسَ تَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَقَتَادَةَ رُوِيَ عَنْهُمَا نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «أَنَّهُمْ يَرِدُونَهَا جَمِيعًا وَيَصْدُرُونَ عَنْهَا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ»، وَعَنْهُ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْوُرُودِ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، يَعْنِي أَنَّ وُرُودَهُمُ النَّارَ الْمَذْكُورَ كَانَ حَتْمًا عَلَى رَبِّكَ مَقْضِيًّا، أَيْ: أَمْرًا وَاجِبًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ، وَالْحَتْمُ: الْوَاجِبُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ:
عِبَادُكَ يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ | بِكَفَّيْكَ الْمَنَايَا وَالْحُتُومُ |
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ قَسَمًا، بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ»، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) ح (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، وَبِمَعْنَى حَدِيثِهِ إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ «فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» اهـ.
قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْقَسَمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا،
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا قَسَمٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الْقَسَمِ، وَلَا قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْقَسَمِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَطْفُهَا عَلَى الْقَسَمِ، وَالْحُكْمُ بِتَقْدِيرِ قَسَمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ دُونَ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ فِيهِ، زِيَادَةٌ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْهُ أَنَّ فِي الْآيَةَ قَسَمًا ; لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ التَّعْبِيرَ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ عَنِ الْقِلَّةِ الشَّدِيدَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَسَمٌ أَصْلًا، يَقُولُونَ: مَا فَعَلْتُ كَذَا إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، يَعْنُونَ إِلَّا فِعْلًا قَلِيلًا جِدًّا قَدْرَ مَا يُحَلِّلُ بِهِ الْحَالِفُ قَسَمَهُ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فِي وَصْفِ نَاقَتِهِ:
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاصِقَةٌ | ذَوَابِلٌ مَسُّهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ |
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: خَيْرٌ مَقَامًا [١٩ ٧٣]، قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَوْلُهُ: وَرِئْيًا، قَرَأَهُ قَالُونُ وَابْنُ ذَكْوَانَ «وَرِيًّا» بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُخَفَّفَةٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا إِذَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي حَالِ كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ، أَيْ مُرَتَّلَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَاضِحَاتِ الْمَعَانِي بَيِّنَاتِ الْمَقَاصِدِ، إِمَّا مُحْكَمَاتٌ جَاءَتْ وَاضِحَةً، أَوْ مُتَشَابِهَاتٌ قَدْ تَبِعَهَا الْبَيَانُ بِالْمُحْكَمَاتِ، أَوْ تَبْيِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، أَوْ ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ تُحُدِّيَ بِهَا فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، أَوْ حُجَجًا وَبَرَاهِينَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بَيِّنَاتٍ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ ; لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا [٣٥ ٣١]، أَيْ: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُتَّصِفَةً بِمَا ذَكَرْنَا عَارَضُوهَا وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِهَا، وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ لَا مَعَ مَنْ يَتْلُوهَا بِشُبْهَةٍ سَاقِطَةٍ لَا يَحْتَجُّ بِهَا إِلَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَمَضْمُونُ شُبْهَتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُمْ: نَحْنُ أَوْفَرُ مِنْكُمْ حَظًّا فِي الدُّنْيَا، فَنَحْنُ أَحْسَنُ مِنْكُمْ مَنَازِلَ، وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ مَتَاعًا، وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ مَنْظَرًا، فَلَوْلَا أَنَّنَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْكُمْ لَمَا آثَرَنَا عَلَيْكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَعْطَانَا مِنْ نَعِيمِهَا وَزِينَتِهَا مَا لَمْ يُعْطِكُمْ.
فَقَوْلُهُ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا [١٩ ٧٣]، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ أَيُّنَا خَيْرٌ مَقَامًا، وَالْمُقَامُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ الْمَنَازِلُ وَالْأَمْكِنَةُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَقَامُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - مَكَانُ الْقِيَامِ وَهُوَ مَوْضِعُ قِيَامِهِمْ وَهُوَ مَسَاكِنُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أَيْ: مَجْلِسًا وَمُجْتَمَعًا، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، لِيَحْمِلُوا بِهِ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي تَقَشُّفٍ وَرَثَاثَةِ هَيْئَةٍ عَلَى أَنْ يَقُولُوا أَنْتُمْ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مِنَّا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ
وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [١٩ ٧٤]، وَالْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرَةً، أَيْ أُمَمًا كَانَتْ قَبْلَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ نَصِيبًا فِي الدُّنْيَا مِنْهُمْ، فَمَا مَنَعَهُمْ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا مِنْ إِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَمَّا عَصَوْا وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَلَوْ كَانَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ فِي الدُّنْيَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا اللَّهِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَهُ لَمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، الَّذِينَ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا مِنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَمَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِـ «أَهْلَكْنَا» أَيْ: أَهْلَكْنَا كَثِيرًا، وَمِنْ مُبَيِّنَةٌ
تَقَادَمَ الْعَهْدُ مِنْ أُمِّ الْوَلِيدِ بِنَا | دَهْرًا وَصَارَ أَثَاثُ الْبَيْتِ خُرْثِيًّا |
أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا | بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ |
وَالْآيَاتُ الَّتِي أَبْطَلَ اللَّهُ بِهَا دَعْوَاهُمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [٣ ١٧٨]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [٣٤ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [٦٨ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [٦ ٤٤]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ الْكُفَّارِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا،
يَوْمَانِ يَوْمُ مُقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ | وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ |
وَمَا قَامَ مِنَّا قَائِمٌ فِي نَدِيِّنَا | فَيَنْطِقَ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَعْرَفُ |
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْقَوْمِ قَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [٩٦ ١٧ - ١٨]، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْقَوْمِ الْجَالِسِينَ فِيهِ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ | أَذِلَّةٌ سَوَاسِيَةٌ أَحْرَارُهَا وَعَبِيدُهَا |
وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ صِلْهُ أَبَدَا تَقْدِيرًا أَوْ لَفْظًا بِمَنْ إِنْ جُرِّدَا فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؟ الْآيَةُ [١٩ ٧٣]، فَالْجَوَابٌ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا.
فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَدُعَاءِ الْمُبَاهَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِيضَاحُ مَعْنَاهُ: قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ مَقَامًا وَأَحْسَنُ مِنْكُمْ نَدِيًّا: مَنْ كَانَ مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي الضَّلَالَةِ - أَيِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ - فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أَيْ: فَأَمْهَلَهُ الرَّحْمَنُ إِمْهَالًا فِيمَا هُوَ فِيهِ حَتَّى يَسْتَدْرِجَهُ بِالْإِمْهَالِ وَيَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَرْجِعَ عَنْهُ، بَلْ يَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ اللَّهُ، وَهُوَ: إِمَّا عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [٩ ١٤]، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ إِنْ مَاتُوا وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَصِيغَةُ الطَّلَبِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ عَلَى بَابِهَا، وَعَلَيْهِ فَهِيَ لَامُ الدُّعَاءِ بِالْإِمْهَالِ فِي الضَّلَالِ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، حَتَّى يَرَى مَا يُوعِدُهُ مِنَ الشَّرِّ وَهُوَ عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [٣ ٦١] ; لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ دُعَاءً بِالشَّرِّ عَلَى الضَّالِّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٢ ٩٤]، فِي «الْبَقَرَةِ وَالْجُمُعَةِ» عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَنِّي الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ، يُرَادُ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ فِي الضَّالِّينَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّهُ يُمْهِلُ الضَّالَّ وَيُمْلِي لَهُ فَيَسْتَدْرِجُهُ
وَتَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا الْآيَةَ [٣ ١٧٨]، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً الْآيَةَ [٦ ٤٤]، كَمَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: فِي حَرْفِ أُبَيٍّ: «قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ اللَّهُ ضَلَالَةً» اهـ. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ جِنْسِ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ جِنْسِ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: مَا النُّكْتَةُ فِي إِطْلَاقِ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أَجَابَ فِي كَشَّافِهِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا، أَيْ: مَدَّ لَهُ الرَّحْمَنُ، يَعْنِي أَمْهَلَهُ وَأَمْلَى لَهُ فِي الْعُمْرِ، فَأُخْرِجَ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ إِيذَانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَا مَحَالَةَ، كَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُمْتَثَلِ لِتَنْقَطِعَ مَعَاذِيرُ الضَّالِّ، وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [٣٥ ٣٧]. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ، أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا يَلِيهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَى مَا يُوعَدُ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ يَظُنُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ حَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الَّتِي تُحْكَى بَعْدَهَا الْجُمَلُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَجِيءِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ بَعْدَهَا.
وَقَوْلُهُ: مَا يُوعَدُونَ لَفْظَةُ مَا، مَفْعُولٌ بِهِ لِـ مَا، وَقَوْلُهُ: إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ، بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي هُوَ «مَا» وَلَفْظَةُ مَنْ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَوْصُولَةٌ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِـ «يَعْلَمُونَ» وَعَلَيْهِ فَعَلِمَ هُنَا عِرْفَانِيَّةٌ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْفِعْلُ الْقَلْبِيُّ الَّذِي هُوَ يَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي.
وَقَوْلُهُ: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا، فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ; لِأَنَّ مَقَامَهُمْ هُوَ مَكَانُهُمْ وَمَسْكَنُهُمْ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ الْجَامِعُ لِوُجُوهِ قَوْمِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، وَالْجُنْدُ هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ، فَالْمُقَابَلَةُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إِطْلَاقِ شَرٌّ مَكَانًا، وَالْمُرَادُ اتِّصَافُ الشَّخْصِ بِالشَّرِّ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَقَامًا، وَنَدِيًّا، وَأَثَاثًا، وَمَكَانًا، وَجُنْدًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْفَاعِلُ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا مُفَضِّلًا كَـ «أَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا»
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا.
قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [١٩ ٧٦]، دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ زَادَهُ اللَّهُ ضَلَالَةً، وَمَنِ اهْتَدَى زَادَهُ اللَّهُ هُدًى، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي الضَّلَالِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥]، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [٦٣ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٦ ١١٠]، كَمَا قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ فِي الْهُدَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [٤٧ ١٧]، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [٤٨ ٤]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا الْآيَةَ [٢٩ ٦٩]، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [١٧ ٨٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى الْآيَةَ [٤١ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [٩ ١٢٤ - ١٢٥]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [١٩ ٧٦]، تَقَدَّمَ
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا، صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا، يَعْنِي: خَيْرٌ جَزَاءً مِنْ جَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَخَيْرٌ مَرَدًّا، يَعْنِي مَرْجِعًا مِنْ مَرْجِعِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَالْخَيْرِيَّةُ مَنْفِيَّةٌ بَتَاتًا عَنْ جَزَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَعَنْ مَرَدِّهِمْ، فَلَمْ يُشَارِكُوا فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ حَاوَلَ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَأَنَّهُ قِيلَ ثَوَابُهُمُ النَّارُ، وَالْجَنَّةُ خَيْرٌ مِنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتَّلَ عَامِرٌ | يَوْمَ النِّسَارِ، فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ |
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ | تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ |
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
شَجعاءَ جِرَّتُها الذَميلُ تَلوكُهُ | أُصُلًا إِذا راحَ المَطِيُّ غِراثَا |
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَيَظْهَرُ لِي فِي الْآيَةِ جَوَابٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُجَازًى بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا بَرَّ وَالِدَيْهِ وَنَفَّسَ عَنِ الْمَكْرُوبِ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَوَصَلَ الرَّحِمَ مَثَلًا يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثَ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَثَوَابُهُ هَذَا الرَّاجِعُ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا | قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا |
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ فَرْدَا | لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدَا |
فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ | وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ |
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا.
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَدَّ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ
وَضَابِطُ هَذَا الدَّلِيلِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقْسِيمِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، وَبِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ.
وَالثَّانِي: هُوَ اخْتِيَارُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَحْصُورَةِ، وَإِبْطَالُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْهَا وَإِبْقَاءُ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنْهَا كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ «بِالسَّبْرِ»، وَعِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ «بِالتَّرْدِيدِ»، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ، بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ، وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ، وَالسَّبْرُ الصَّحِيحُ يُبْطِلُ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَيُصَحِّحُ الثَّالِثَ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ إِلْقَامُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الْحَجَرَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا.
أَمَّا وَجْهُ حَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: قَوْلُكَ أَنَّكَ تُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخْلُو مُسْتَنَدُكَ فِيهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ اطَّلَعْتَ عَلَى الْغَيْبِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ إِيتَاءَكَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أُعْطَاكَ عَهْدًا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَاكَ عَهْدًا لَنْ يُخْلِفَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ قُلْتَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا اطِّلَاعِ غَيْبٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ فِي قَوْلِهِ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٧٨]، مُبْطِلًا لَهُمَا بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْعَاصَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ بِحَرْفِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَلَّا، أَيْ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، بَلْ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَاصِلًا لَمْ يَسْتَوْجِبِ الرَّدْعَ عَنْ مَقَالَتِهِ كَمَا تَرَى، وَهَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ دَعْوَى ابْنِ وَائِلٍ هَذِهِ هُوَ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ بِعَيْنِهِ دَعْوَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَصَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِالْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كَذِبًا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ تَكَرَّرَ وُرُودُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآنَ مِثَالَيْنِ لِذَلِكَ أَحَدُهُمَا فِي «الْبَقَرَةِ» وَالثَّانِي فِي «مَرْيَمَ» كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ فِي كَلَامِهِ عَلَى جَدَلِ الْقُرْآنِ مِثَالًا وَاحِدًا لِلسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَمَضْمُونُ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِاخْتِصَارٍ، هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الْآيَتَيْنِ [٦ ١٤٣]، فَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلَّذِينِ حَرَّمُوا بَعْضَ الْإِنَاثِ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ دُونَ بَعْضِهَا، وَحَرَّمُوا بَعْضَ الذُّكُورِ كَالْحَامِي دُونَ بَعْضِهَا: لَا يَخْلُو تَحْرِيمُكُمْ لِبَعْضِ مَا ذُكِرَ دُونَ بَعْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ مَعْقُولَةٍ أَوْ تَعَبُّدِيًّا، وَعَلَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنَ الْإِنَاثِ الْأُنُوثَةَ، وَمِنَ الذُّكُورِ الذُّكُورَةَ، أَوْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِمَا مَعًا التَّخَلُّقَ فِي الرَّحِمِ، وَاشْتِمَالَهَا عَلَيْهِمَا، هَذِهِ هِيَ الْأَقْسَامُ الَّتِي يُمْكِنُ ادِّعَاءُ إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهَا، ثُمَّ بَعْدَ حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ نَرْجِعُ إِلَى سَبْرِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: اخْتِبَارُهَا لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ مِنَ الْبَاطِلِ فَنَجِدُهَا كُلَّهَا بَاطِلَةً بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْعِلَّةِ الذُّكُورَةَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ ذَكَرٍ وَأَنْتُمْ تُحِلُّونَ بَعْضَ الذُّكُورِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ التَّعْلِيلِ بِالذُّكُورَةِ لِقَادِحِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ، وَكَوْنُ الْعِلَّةِ الْأُنُوثَةَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ أُنْثَى كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنُ الْعِلَّةِ اشْتِمَالَ الرَّحِمِ عَلَيْهِمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِبْطَالَ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٥٢ ٣٥]، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ، الْأُولَى: أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْ: بِدُونِ خَالِقٍ أَصْلًا، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونُوا خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَاطِلَانِ، وَبُطْلَانُهُمَا ضَرُورِيٌّ كَمَا تَرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِوُضُوحِهِ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ هُوَ جَلَّ وَعَلَا خَالِقُهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الدَّلِيلَ فِي غَرَضٍ لَيْسَ هُوَ غَرَضَ الْآخَرِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ أَعَمُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَوْصَافِ مَحِلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَتَصْحِيحُ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً كُلُّهَا فَيَتَحَقَّقُ بُطْلَانُ الْحُكْمِ الْمُسْتَنِدِ إِلَيْهَا، كَآيَةِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ [٦ ١٤٤] الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا بَاطِلًا وَبَعْضُهَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ عِلَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَضَابِطُ هَذَا الْمَسْلَكِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَمْرَانِ، الْأَوَّلُ: هُوَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ الَّتِي سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ مَا لَيْسَ صَالِحًا لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ الَّتِي سَنَذْكُرُ أَيْضًا بَعْضَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَمْرًا ثَالِثًا وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ لَا تَعَبُّدِيٌّ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُونَ هَذَا الْأَخِيرَ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يَتَرَكَّبُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ، وَالثَّانِي: إِبْطَالُ مَا لَيْسَ صَالِحًا لِلْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ مَعًا قَطْعِيَّيْنِ فَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَا ظَنِّيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَهُوَ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وَمِثَالُ مَا كَانَ الْحَصْرُ وَالْإِبْطَالُ فِيهِ قَطْعِيَّيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٥٢ ٣٥] ; لِأَنَّ حَصْرَ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِمَّا أَنْ يُخْلَقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَوْ يَخْلُقُوا أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَخْلُقْهُمْ خَالِقٌ غَيْرُ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ، وَإِبْطَالُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ: فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الثَّالِثَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ حُذِفَ فِي الْآيَةِ لِظُهُورِهِ، فَدَلَالَةُ هَذَا السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ قَطْعِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْمِثَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْقَطْعِيِّ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ دُونَ الْأُصُولِيِّينَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّمْثِيلُ لِلْقَطْعِيِّ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ وَلَوْ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، وَالْقَطْعِيُّ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ لِاخْتِلَافِ ظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ نَظَرِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الرِّبَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ كَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهِ، وَالنَّوْرَةِ وَنَحْوِهَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي إِبْطَالِ مَا لَيْسَ بِصَالِحٍ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هَذَا وَصْفٌ يَصِحُّ إِبْطَالُهُ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: هُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ فَيَلْزَمُ إِبْطَالُهُ كَقَوْلِهِمْ مَثَلًا فِي حَصْرِ أَوْصَافِ الْبُرِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مَثَلًا الْمُحَرَّمُ فِيهِ الرِّبَا إِذَا أُرِيدَ قِيَاسُ الذُّرَةِ عَلَيْهِ مَثَلًا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْكَيْلُ أَوِ الطَّعْمُ أَوْ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ أَوْ هُمَا وَغَلَبَةُ الْعَيْشِ بِهِ أَوِ الْمَالِيَّةُ وَالْمِلْكِيَّةُ. فَيَقُولُ الْمَالِكِيُّ: غَيْرُ الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ بَاطِلٌ، وَيَدَّعِي أَنَّ دَلِيلَ بُطْلَانِهِ عَدَمُ الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ النَّقْضُ، وَيَقُولُ
وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ الطَّعْمِ بَاطِلٌ، وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطَّعْمُ، وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ. كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ أَيْضًا فِي الْبَقَرَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْعِلَّةِ فِيهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِمُرَكَّبِ الْأَصْلِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُنْ لِعِلَّتَيْنِ اخْتَلَفَا | تَرَكَّبَ الْأَصْلُ لَدَى مَنْ سَلَفَا |
مُرَكَّبُ الْوَصْفِ إِذَا الْخَصْمُ مَنَعْ وُجُودُ ذَا الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَّبَعْ وَالْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بِنَوْعَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا تَنْهَضُ الْحُجَّةُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ، وَإِلَى كَوْنِ رَدِّهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَصْمِ الْمُخَالِفِ هُوَ الْمُخْتَارُ، أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَرَدُّهُ انْتَفَى وَقِيلَ يُقْبَلْ | وَفِي التَّقَدُّمِ خِلَافٌ يُنْقَلْ وَالضَّمِيرُ |
وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ قِسْمٌ رَابِعْ | أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ فِيهِ جَامِعْ |
وَيَبْطُلُ الَّذِي لَهَا لَا يَصْلُحْ | فَمَا بَقِي تَعْيِينُهُ مُتَّضِحْ |
مُعْتَرِضُ الْحَصْرِ فِي دَفْعِهِ يَرِدْ | بَحَثْتُ ثُمَّ بَعْدَ بَحْثِي لَمْ أَجِدْ |
أَوِ انْفِقَادُ مَا سِوَاهَا الْأَصْلُ | وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ لِظَنٍّ حَظْلُ |
وَهُوَ قَطْعِيٌّ إِذَا مَا نُمِّيَا | لِلْقِطْعِ وَالظَّنِّيِّ سِوَاهُ وُعِّيَا |
حُجِّيَّةُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ | فِي حَقِّ نَاظِرٍ وَفِي الْمُنَاظِرِ |
إِنْ يُبْدِ وَصْفًا زَائِدًا مُعْتَرِضْ | وَفَّى بِهِ دُونَ الْبَيَانِ الْغَرَضْ |
وَقَطْعُ ذِي السَّبْرِ إِذَا مُنْحَتِمْ | وَالْأَمْرُ فِي إِبْطَالِهِ مُنْبَهِمْ |
وَإِذَا حَصَلَ حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فَإِبْطَالُ غَيْرِ الصَّالِحِ مِنْهَا لَهُ طُرُقٌ مَعْرُوفَةٌ:
مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الْوَصْفَ طَرْدِيٌّ مَحْضٌ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِي ثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَابِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ الذَّكَرَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ كَالْأُنْثَى، وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا - أَيْ: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَصْلًا - بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ، إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ دُونَ بَعْضِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
وَالشَّأْنُ لَا يَعْتَرِضُ الْمِثَالَ | إِذْ قَدْ كَفَى الْغَرَضَ وَالِاحْتِمَالَ |
الْأَوَّلُ: أَنْ تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ، وَظُهُورُهَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ وَمَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِخَالَةِ.
الثَّانِي: أَلَّا تَظْهَرَ الْمُنَاسَبَةُ وَلَا عَدَمُهَا، وَهَذَا يَكْفِي فِي الدَّوَرَانِ وَالْإِيمَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ مُلْغًى وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْإِلْغَاءُ بِاسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقَى بِالْحُكْمِ دُونَهُ فِي صُورَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، حَكَاهُ الْفِهْرَيُّ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْكَيْلَ وَالِاقْتِيَاتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْصَافٌ مُلْغَاةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مِلْءِ كَفٍّ مِنَ الْبُرِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ وَلَا يُقَاتُ لِقِلَّتِهِ، فَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهِ الطَّعْمُ لِاسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الطَّعْمِ بِالْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ، لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ.
وَمِنْ طُرُقِ الْإِبْطَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَصْرِ كَوْنُ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْقَاهُ الْمُسْتَدِلُّ مُتَعَدِّيًا مِنْ مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْوَصْفُ الَّذِي يُرِيدُ الْمُعْتَرِضُ إِبْقَاءَهُ قَاصِرٌ عَلَى مَحِلِّ الْحُكْمِ، قَالَ صَاحِبُ) الضِّيَاءِ اللَّامِعِ (: وَذَلِكَ يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمِثَالُهُ: اخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي عِلَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خُصُوصُ الْجِمَاعِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، فَكَوْنُ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْجِمَاعَ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّعَدِّي عَنْ مَحِلِّ الْحُكْمَ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ كَفَّارَةٌ إِلَّا فِي الْجِمَاعِ خَاصَّةً، وَكَوْنُهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ رَمَضَانَ يَقْضِي التَّعَدِّي فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجَامِعِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ فِي الْجَمِيعِ مِنْ جِمَاعٍ وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا عَلَى الْآخَرِ لِقُصُورِهِ عَلَى حَمْلِ الْحُكْمِ وَقَصْدُنَا التَّمْثِيلُ لَا مُنَاقَشَةُ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجِمَاعُ، بِمُرَجِّحَاتٍ أُخَرَ لِعِلَّتِهِ، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى طُرُقِ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ:
أَبْطِلْ لِمَا طَرْدًا يُرَى | وَيُبْطَلُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَهُ الْمُنْخَزِلُ |
كَذَلِكَ بِالْإِلْغَا وَإِنْ قَدْ نَاسَبَا | وَيَتَعَدَّى وَصْفُهُ الَّذِي اجْتَبَى |
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ، فَالتَّقْسِيمُ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي بَيْنَهَا تَنَافٍ
لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، أَوِ الْوُجُودِ فَقَطْ، أَوِ الْعَدَمِ فَقَطْ، وَلَا رَابِعَ أَلْبَتَّةَ.
فَإِنْ كَانَ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَعًا، فَهِيَ عِنْدَهُمُ الشَّرْطِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْحَقِيقِيَّةِ، وَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمِيعِ وَالْخُلُوِّ مَعًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنَ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ مِنَ الشَّيْءِ وَمُسَاوِي نَقِيضَيْهِ، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا وَلَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ الْآخَرِ، وَعَدَمُ اجْتِمَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَعَدَمُ ارْتِفَاعِهِمَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَضُرُوبُهَا الْأَرْبَعَةُ مُنْتِجَةٌ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ، فَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ زَوْجٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ فَرْدٍ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ فَرْدٌ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ زَوْجٍ، وَلَوْ قُلْتَ: وَلَكِنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ أَنْتَجَ فَهُوَ فَرْدٌ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ فَرْدٍ أَنْتَجَ فَهُوَ زَوْجٌ، وَضَابِطُ قِيَاسِهَا أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ النَّقِيضِ أَوْ مُسَاوِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّقِيضِ، أَوْ مُسَاوِيهِ كَعَكْسِهِ.
وَإِنْ كَانَ التَّنَافُرُ وَالْعِنَادُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْوُجُودِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمُجَوِّزَةُ لِلْخُلُوِّ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهَا حَصْرُ الْأَوْصَافِ، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَخَصُّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا: أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْوُجُودِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ ارْتِفَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْعِنَادِ وَالْمُنَافَرَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَمِ، وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورَةُ يَنْتُجُ مِنْ قِيَاسِهَا ضَرْبَانِ، وَيَعْقُمُ مِنْهُ ضَرْبَانِ، وَمِثَالُهَا قَوْلُكَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ، وَإِمَّا أَسْوَدُ، فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا فَلَا يُنْتِجُ شَيْئًا، فَلَوْ قُلْتَ: الْجِسْمُ إِمَّا أَبْيَضُ وَإِمَّا أَسْوَدُ لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ: فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَإِنْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ صَادِقٌ بِالْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، فَلَا يُنْتِجُ كَوْنَهُ أَبْيَضَ لِصِدْقِ غَيْرِ الْأَسْوَدِ بِالْأَبْيَضِ وَغَيْرِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنِ انْتِفَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَكَوْنِ جِسْمٍ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ مَانِعَةَ الْجَمِيعِ تُجَوِّزُ الْخُلُوَّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا مَعْدُومَيْنِ مَعًا، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهَا الْخُلُوُّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا لِوَاحِدٍ مِنْ سَبَبَيْنِ.
السَّبَبُ الثَّانِي: ارْتِفَاعُ الْمَحِلِّ، كَقَوْلِكَ: الْجِسْمُ إِمَّا مُتَحَرِّكٌ، وَإِمَّا سَاكِنٌ، فَإِنَّهُ إِنِ انْعَدَمَ بَعْضُ الْأَجْسَامِ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً وَرَجَعَ إِلَى الْعَدَمِ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَعْدُومِ: هُوَ سَاكِنٌ وَلَا مُتَحَرِّكٌ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [١٩ ٩]، وَقَوْلُهُ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [١٩ ٦٧].
وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ وَالْمُنَافَرَةُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْعَدَمِ فَقَطْ فَهِيَ مَانِعَةُ الْخُلُوِّ الْمُجَوِّزَةُ لِلْجَمْعِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا تَصَوُّرًا وَإِنْتَاجًا، وَلَا تَتَرَكَّبُ إِلَّا مِنْ قَضِيَّةٍ وَأَعَمَّ مِنْ نَقِيضِهَا، وَضَابِطُهَا أَنَّ طَرَفَيْهَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ فِي الْعَدَمِ، وَلَا مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا لِعَدَمِ الْمُنَافَرَةِ وَالْعِنَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُودِ، وَمِثَالُهَا: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ، وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، فَإِنَّ هَذَا الْمِثَالَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الطَّرَفَانِ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِ جِسْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، كَالْأَحْمَرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ وَغَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ وُجُودُ جِسْمٍ خَالٍ مِنْ طَرَفَيْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي مَثَّلْنَا بِهَا، فَيَكُونُ خَالِيًا مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ أَبْيَضَ وَغَيْرَ أَسْوَدَ ; لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَبْيَضَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ ; لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَبْيَضُ اسْتَحَالَ ارْتِفَاعُ الطَّرَفِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ ; لِأَنَّ الْأَبْيَضَ مَوْصُوفٌ ضَرُورَةً بِأَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَهَكَذَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ غَيْرَ أَسْوَدَ أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ، وَإِذَا أَثْبَتَّ أَنَّهُ أَسْوَدُ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، وَهُوَ عَيْنُ الْآخَرِ مِنْ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيَاسُ هَذِهِ يَنْتُجُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْعَقِيمَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَعْقُمُ مِنْهُ الضَّرْبَانِ الْمُنْتِجَانِ فِي قِيَاسِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي قِيَاسِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ يُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ، وَأَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمَا لَا يُنْتِجُ شَيْئًا.
فَقَوْلُنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: الْجِسْمُ إِمَّا غَيْرُ أَبْيَضَ وَإِمَّا غَيْرُ أَسْوَدَ، لَوْ قُلْتَ فِيهِ: لَكِنَّهُ أَبْيَضُ، أَنْتَجَ، فَهُوَ غَيْرُ أَسْوَدَ، وَلَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ أَسْوَدُ أَنْتَجَ فَهُوَ غَيْرُ أَبْيَضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ أَبْيَضَ، فَلَا يُنْتِجُ نَفْيَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَا وُجُودَهُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْأَبْيَضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَسْوَدَ بَلْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: لَكِنَّهُ غَيْرُ
هَذِهِ خُلَاصَةٌ مُوجَزَةٌ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي نَظَرِ الْمَنْطِقِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا الدَّلِيلِ آثَارًا تَارِيخِيَّةً، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَهَا.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الْعَظِيمَ جَاءَ فِي التَّارِيخِ أَنَّهُ أَوَّلُ سَبَبٍ لِضَعْفِ الْمِحْنَةِ الْعُظْمَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ مِحْنَةَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ نَشَأَتْ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ، وَاسْتَفْحَلَتْ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ، وَهِيَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ التَّارِيخِ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَقَدَمٍ.
وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَتْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَفَاضِلِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَاضْطِرَارِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ بِالْقَوْلِ خَوْفًا.
وَمَعْلُومٌ مَا وَقَعَ فِيهَا لِسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِهِ «الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ» - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرًا - مِنَ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ أَيَّامَ الْمُعْتَصِمِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضِعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَكَبْحِ جِمَاحِهَا هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْجَمَةِ «أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ» : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ شُعَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ خَلَفٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَاثِقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا أَحْضَرَنَا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، فَأُتِيَ بِشَيْخٍ مَخْضُوبٍ مُقَيَّدٍ فَقَالَ أَبِي: ائْذَنُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ) يَعْنِي ابْنَ أَبِي دُؤَادَ (قَالَ: فَأُدْخِلَ الشَّيْخُ وَالْوَاثِقُ فِي مُصَلَّاهُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [٤ ٨٦]، وَاللَّهِ مَا حَيَّيْتَنِي بِهَا وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْهُ، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تَنْصِفْنِي - يَعْنِي وَلِيَ السُّؤَالُ - فَقَالَ لَهُ: سَلْ: فَقَالَ
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَلِمَا انْتَهَى مِنْ سِيَاقِهَا قَالَ: ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْرَفُ. اهـ.
وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْوَاثِقَ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ: قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْمُهْتَدِي: أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ وَقَدْ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ لَمْ تَزَلْ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ صَحِيحَةَ الِاحْتِجَاجِ، فِيهَا إِلْقَامُ الْخَصْمِ الْحَجَرَ.
وَحَاصِلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي أَلْقَمَ بِهَا هَذَا الشَّيْخُ - الَّذِي كَانَ مُكَبَّلًا بِالْقُيُودِ يُرَادُ قَتْلُهُ - أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ حَجَرًا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. فَكَانَ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ يَقُولُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهَا لَا تَخْلُو بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَالِمِينَ بِهَا أَوْ غَيْرَ
أَمَّا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرَكُوا النَّاسَ وَلَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، فَدَعْوَةُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ إِلَيْهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَةِ لَهَا، وَكَانَ يَسَعُهُ مَا وَسِعَهُمْ.
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ غَيْرَ عَالِمِينَ بِهَا، فَلَا يُمْكِنُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهَا، فَظَهَرَ ضَلَالُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ الْوَاثِقِ، وَتَرَكَ الْوَاثِقُ لِذَلِكَ امْتِحَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ أَوَّلَ مَصْدَرٍ تَارِيخِيٍّ لِضَعْفِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَزَالَهَا اللَّهُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى يَدِ الْمُتَوَكِّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الدَّلِيلِ التَّارِيخِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَشَى بِهِ وَاشٍ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَدْخَلَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ فِي مَحِلٍّ قَرِيبٍ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ نَادَى ابْنَ هَمَّامٍ السَّلُولِيَّ وَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ ! فَقَالَ السَّلُولِيُّ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ وَاللَّهِ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ، وَقَالَ: هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ قُلْتَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ ابْنُ هَمَّامٍ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِلْوَاشِي:
وَأَنْتَ امْرُؤٌ إِمَّا ائْتَمَنْتُكَ خَالِيًا | فَخُنْتَ وَإِمَّا قُلْتَ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ |
فَأَنْتَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا | بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ |
وَحَاصِلُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الَّذَيْنِ طَرَدَ بِهِمَا ابْنُ زِيَادٍ الْوَاشِيَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّلُولِيِّ بِسُوءٍ بِسَبَبِهِمَا، هُوَ هَذَا الدَّلِيلُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُكَ هَذَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ أَكُونَ ائْتَمَنْتُكَ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَيْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قُلْتَهُ عَلَيَّ كَذِبًا، ثُمَّ رَجَعَ بِالسَّبْرِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاشِيَ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ائْتَمَنَهُ عَلَى سِرٍّ فَأَفْشَاهُ فَهُوَ خَائِنٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذِبًا وَافْتِرَاءً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ التَّارِيخِيَّ الْعَظِيمَ يُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَوْقِفَ الْمُسْلِمِينَ
فَالْحَضَارَةُ الْغَرْبِيَّةُ غَنِيَّةٌ بِأَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُولَى، مُفْلِسَةٌ إِفْلَاسًا كُلِّيًّا مِنَ النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُغْيَانَ الْمَادَّةِ عَلَى الرُّوحِ يُهَدِّدُ الْعَالَمَ أَجْمَعَ بِخَطَرٍ دَاهِمٍ، وَهَلَاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ الْآنَ، وَحَلُّ مُشْكِلَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا بِالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ الْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعُ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; لِأَنَّ مَنْ أَطْغَتْهُ الْمَادَّةُ حَتَّى تَمَرَّدَ عَلَى خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا.
وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْقِفُ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا، حَصْرًا عَقْلِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ:
الْأَوَّلُ: تَرْكُ الْحَضَارَةِ الْمَذْكُورَةِ نَافِعِهَا وَضَارِّهَا.
الثَّانِي: أَخْذُهَا كُلِّهَا ضَارِّهَا وَنَافِعِهَا.
الثَّالِثُ: أَخْذُ ضَارِّهَا وَتَرْكُ نَافِعِهَا.
الرَّابِعُ: أَخْذُ نَافِعِهَا وَتَرْكُ ضَارِّهَا.
فَنَرْجِعُ بِالسَّبْرِ الصَّحِيحِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَنَجِدُ ثَلَاثَةً مِنْهَا بَاطِلَةً بِلَا شَكٍّ، وَوَاحِدًا صَحِيحًا بِلَا شَكٍّ.
أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْبَاطِلَةُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا تَرْكُهَا كُلِّهَا، وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ الِاشْتِغَالِ بِالتَّقَدُّمِ الْمَادِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى الضَّعْفِ الدَّائِمِ، وَالتَّوَاكُلِ وَالتَّكَاسُلِ، وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ السَّمَاوِيَّ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الْآيَةَ [١٨ ٦٠].
وَهَكَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فَقَدِ انْتَفَعَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خُطَّةٌ عَسْكَرِيَّةٌ كَانَتْ لِلْفُرْسِ، أَخْبَرَهُ بِهَا سَلْمَانُ فَأَخَذَ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَهَا لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ هَمَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْنَعَ وَطْءَ النِّسَاءِ الْمَرَاضِعِ خَوْفًا عَلَى أَوْلَادِهِنَّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِيلَةَ - وَهِيَ وَطْءُ الْمُرْضِعِ - تُضْعِفُ وَلَدَهَا وَتَضُرُّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى | حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ |
فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ | فَتَنْبُو فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ |
وَقَدِ انْتَفَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ ابْنِ الْأُرَيْقِطِ الدُّؤَلِيِّ لَهُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَلَى الطَّرِيقِ، مَعَ أَنَّهُ كَافِرٌ.
فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْقِفَ الطَّبِيعِيَّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ هُوَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ مَا أَنْتَجَتْهُ مِنَ النَّوَاحِي الْمَادِّيَّةِ، وَيَحْذَرُوا مِمَّا جَنَتْهُ مِنَ التَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِ الْكَوْنِ جَلَّ وَعَلَا فَتَصْلُحَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَالْمُؤْسِفُ أَنَّ أَغْلَبَهُمْ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا الِانْحِطَاطَ الْخُلُقِيَّ، وَالِانْسِلَاخَ مِنَ الدِّينِ، وَالتَّبَاعُدَ مِنْ طَاعَةِ خَالِقِ الْكَوْنِ، وَلَا يَحْصُلُونَ عَلَى نَتِيجَةٍ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ الْمَادِّيِّ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَمَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالْإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا نَافِعًا فِي كَوْنِ الدِّينِ لَا يُنَافِي التَّقَدُّمَ الْمَادِّيَّ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩]، فَأَغْنَى ذَلِكَ
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٧٨]، أَنَّ الْمَعْنَى: أَمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ عَهْدًا أَنَّهُ سَيَفْعَلُ لَهُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [٢ ٨٠]، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقِيلَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَيَكْتُبُ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا مَعَ كُفْرِهِ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ يَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [١٩ ٧٩] أَيْ: نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا أَيْ: نُطَوِّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَا يَسْتَأْهِلُهُ، وَنُعَذِّبُهُ بِالنَّوْعِ الَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ الْمُسْتَهْزِئُونَ، أَوْ نَزِيدُهُ مِنَ الْعَذَابِ وَنُضَاعِفُ لَهُ مِنَ الْمَدَدِ، يُقَالُ: مَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، بِمَعْنًى، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «وَنُمِدُّ لَهُ»، بِالضَّمِّ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ غَضَبِ اللَّهِ، نَعُوذُ بِهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِمَا يَسْتَوْجِبُ غَضَبَهُ. اهـ.
وَأَصْلُ الْمَدَدِ لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَكَابِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [١٦ ٨٨]، وَقَوْلُهُ فِي الْأَتْبَاعِ وَالْمَتْبُوعِينَ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [٧ ٣٨].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [١٩ ٨٠]، أَيْ: مَا يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، أَيْ: نَسْلُبُهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا مَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ، وَقِيلَ: نَحْرِمُهُ مَا تَمَنَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَجْعَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَدُلُّ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [١٩ ٤٠]، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [١٥ ٢٣]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي
وَقَوْلُهُ: وَيَأْتِينَا فَرْدًا، أَيْ: مُنْفَرِدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا خَدَمَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٦ ٩٤]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [١٩ ٩٥] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَبَّرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ مَعَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْكَافِرُ يُكْتَبُ بِلَا تَأْخِيرٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [٥٠ ١٨].
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ تَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا نَصُّهُ:.
قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: سَنُظْهِرُ لَهُ وَنُعْلِمُهُ أَنَا كَتَبْنَا قَوْلَهُ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ زَائِدِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْفَقْعَسِيِّ:
إِذْ مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ | وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهَا بُدًّا |
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي: سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالِانْتِصَارِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ وَاسْتَأْخَرَ، فَجَرَّدَهَا هُنَا لِمَعْنَى الْوَعِيدِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّا زِدْنَا اسْمَ قَائِلِ الْبَيْتِ وَتَكْمِلَتَهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ، ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [١٠ ٢١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [٤٣ ٨٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [٤٣ ١٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [٣ ١٨١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [٨٢ ٩ - ١١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [١٨ ٤٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ ١٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [١٩ ٧٢]، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودَاتٍ مِنْ أَصْنَامٍ وَغَيْرِهَا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَيْ: أَنْصَارًا وَشُفَعَاءَ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى مُرَادَهُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [٣٩ ٣]، فَتَقْرِيبُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فِي زَعْمِهِمْ هُوَ عِزُّهُمُ الَّذِي أَمَّلُوهُ بِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ الْآيَةَ [١٠ ١٨]، فَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللَّهِ عِزٌّ لَهُمْ بِهِمْ يَزْعُمُونَهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [١٠ ١٨].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَلَّا، زَجْرٌ وَرَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِزًّا لَكُمْ، بَلْ تَكُونُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَيْكُمْ ضِدًّا، أَيْ: أَعْوَانًا عَلَيْكُمْ فِي خُصُومَتِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْكُمْ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ تَدُورُ حَوْلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ضِدًّا أَيْ: أَعْوَانًا، وَقَوْلِ الضَّحَّاكِ: ضِدًّا، أَيْ: أَعْدَاءً، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: ضِدًّا، أَيْ: قُرَنَاءُ فِي النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ: ضِدًّا يَجِيئُهُمْ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا أَمَّلُوهُ فَيَئُولُ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، ضِدِّ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْعِزِّ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [٤٦ ٥ - ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [٣٥ ١٣ - ١٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ لِأَحَدِهِمَا قَرِينَةً تُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ الْعَابِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ شُرَكَاءَهُمْ وَيُنْكِرُونَهَا وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣]، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا الْآيَةَ [٤٠ ٧٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْقَرِينَةُ الْمُرَجِّحَةُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ، رَاجِعٌ لِلْمَعْبُودَاتِ، وَعَلَيْهِ فَرُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي يَكْفُرُونَ لِلْمَعْبُودَاتِ أَظْهَرُ ; لِانْسِجَامِ الضَّمَائِرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَمِيرُ يَكْفُرُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَضَمِيرُ يَكُونُونَ لِلْمَعْبُودِينَ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ كَلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ، أَيْ: حَقًّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ - مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَرْجَحُ، وَقَائِلُهُ أَكْثَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لِشُذُوذِهَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَفْرَدَ فِيهِ الْعِزَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرْ فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرْ وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النَّعْتِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: ضِدًّا مُفْرَدًا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا.
قَوْلُهُ: أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [١٩ ٨٣]، أَيْ: سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَيَّضْنَاهُمْ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ، أَيْ: خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ، يُقَالُ: أَرْسَلْتُ الْبَعِيرَ، أَيْ: خَلَّيْتُهُ.
وَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ بِمَعْنًى، وَمَعْنَاهَا التَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الْإِزْعَاجِ، فَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُهَيِّجُهُمْ وَتُزْعِجُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً "، وَكَقَوْلِ مُجَاهِدٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَكَقَوْلِ قَتَادَةَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أَيْ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَيَّضَهُمْ لَهُمْ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْحَقِّ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ الْآيَةَ [٤١ ٢٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [٤٣ ٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ الْآيَةَ [٦ ١٢٨] وَقَوْلِهِ: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [٧ ٢٠٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا.
قَوْلُهُ: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ [١٩ ٨٤]، أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلْ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَدَّدَ لَهُ أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْدُودًا، فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَجَلُ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أَيْ: نَعُدُّ الْأَعْوَامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَيَّامَ الَّتِي دُونَ وَقْتِ هَلَاكِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا: إِذَا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنْهُ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ هَلَاكَ الْكُفَّارِ حُدِّدَ لَهُ أَجْلٌ مَعْدُودٌ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَأَشَارَ إِلَى ابْنِ السَّمَّاكِ أَنْ يَعِظَهُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَنْفَاسُ بِالْعَدَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدْ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدْ.
وَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَدَّ الْمَذْكُورَ عَدُّ الْأَعْوَامِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِنَ الْأَجَلِ الْمُحَدَّدِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ عَدُّ أَنْفَاسِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ فِي مَوْعِظَتِهِ لِلْمَأْمُونِ الَّتِي ذَكَرْنَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا بَكَى، وَقَالَ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: دُخُولُ قَبْرِكَ».
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أَيْ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ لِنُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ يُحْشَرُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ وَفْدًا، وَالْوَفْدُ عَلَى التَّحْقِيقِ: جَمْعُ وَافِدٍ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَقَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِنْ صِيَغِ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ لِلْفَاعِلِ وَصْفًا، وَبَيَّنَّا شَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ، وَالْوَافِدُ: مَنْ يَأْتِي إِلَى الْمَلِكِ مَثَلًا إِلَى أَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَفْدًا [١٩ ٨٥]، أَيْ: رُكْبَانًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُمْ رُكْبَانٌ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ:
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ خَالِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ، وَحَسَّنَ وَجْهَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: رُكْبَانًا «، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَى النَّجَائِبِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشُرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ! ! وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ بِهِ، وَزَادَ «عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ.» وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا مَرْفُوعًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقْبَلُونَ - أَوْ: يُؤْتَوْنَ - بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ وَعَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، شِراكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَيَنْتَهُونَ - أَوْ: فَيَأْتُونَ - بَابَ الْجَنَّةِ فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتٍ
وَرُكُوبُهُمُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَحْشَرِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَمَّا مِنَ الْقَبْرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مُشَاةً، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [١٩ ٨٦]، السَّوْقُ مَعْرُوفٌ، وَالْمُجْرِمُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلْمُجْرِمِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ الْإِجْرَامِ، وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ النَّكَالَ وَالْعَذَابَ، وَلَمْ يَأْتِ الْإِجْرَامُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مِنْ «أَجْرَمَ» الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَيَجُوزُ إِتْيَانُهُ فِي اللُّغَةِ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ فَتَقُولُ: جَرَمَ يَجْرِمُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْفَاعِلُ مِنْهُ جَارِمٌ، وَالْمَفْعُولُ مَجْرُومٌ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَّاقَةِ النَّهْمِيِّ:
وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وِرْدًا، أَيْ: عِطَاشًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ: الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَطَشِ أُطْلِقَ هُنَا اسْمُ الْوِرْدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْعِطَاشِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَطَشِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوِرْدِ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَاءِ قَوْلُ الرَّاجِزِ يُخَاطِبُ نَاقَتَهُ:
رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا | كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَا |
وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» :
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٨٧].
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ أَوْ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَإِنَّا نَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْرِمِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَيْ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ شَافِعٌ يُخَلِّصُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْعَذَابِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [٧٤ ٤٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [٢٦ ١٠٠ - ١٠١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ الْآيَةَ [٤٠ ١٨] وَقَوْلِهِ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [٢١ ٢٨] مَعَ قَوْلِهِ: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [٣٩ ٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْأَحْرَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَشْفَعُونَ فِي غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ لِكُفْرِهِمْ فَشَفَاعَتُهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مَمْنُوعَةٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَعَلَى كَوْنِ الْوَاوِ فِي لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْمُجْرِمِينَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَ «مَنِ» فِي مَحِلِّ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَإِذْنِهِ لَهُمْ فَيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ بِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِهِ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [٢ ٢٥٥] وَقَالَ: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [٢١ ٢٨] وَقَالَ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [٥٣ ٢٦].
وَفِي إِعْرَابِ جُمْلَةِ لَا يَمْلِكُونَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، أَيْ: نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ: نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإِخْبَارِ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْآيَةَ [١٩ ٥٩].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَتُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ،
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُذْكَرَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ عَامٌّ ثُمَّ يُصَرَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وُدًّا، أَيْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُخُولِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي الْآيَةَ [٢٠ ٣٩]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ،
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَسَّرَ هَذَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ، لِيُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرَ بِهِ الْخُصُومَ الْأَلِدَّاءَ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ تَيْسِيرِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْقَمَرِ» مُكَرِّرًا لِذَلِكَ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [٥٤ ٣٢]، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الدُّخَانِ» : فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [٤٤ ٥٨]، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ كَوْنِهِ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [٢٦ ١٩٢ - ١٩٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [١٢ ١ - ٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [٤٣ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [١٦ ١٠٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الْآيَةَ، قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَغَيْرِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: لُدًّا أَنَّهُ جَمْعُ الْأَلَدِّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [٢ ٢٠٤]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبِيتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جَدَلٍ لُدَّا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [الْآيَةَ ٩٨].
«وَكَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَهِيَ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ ; لِأَنَّهَا مَفْعُولُ أَهْلَكْنَا، وَمِنْ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِـ «كَمْ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَوْلُهُ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَيْ: هَلْ تَرَى أَحَدًا مِنْهُمْ، أَوْ تَشْعُرُ بِهِ، أَوْ تَجِدُهُ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا، أَيْ: صَوْتًا، وَأَصْلُ الرِّكْزِ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَمِنْهُ رَكَّزَ
فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا | عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا |
وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوَجُّسِ لِلسُّرَى | لِرِكْزٍ خَفِيٍّ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ |
إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ | بِنَبْأةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ طه