تفسير سورة مريم

حومد

تفسير سورة سورة مريم من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(١) - كَافْ. هَا. يَا. عَيْن. صَادْ. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
﴿رَحْمَةِ﴾
(٢) - هذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللهِ لِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. (وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
(٣) - حِينَ دَعَا رَبَّهُ خفْيَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ (لأَنَّ الدُّعَاءَ الخَفِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الإِخْلاَصِ، وَالْبُعْد عَنِ الرِّياءِ).
﴿بِدُعَآئِكَ﴾
(٤) - فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ، وَخَارَتْ قُوَايَ (وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي)، وَشَابَ رَأْسِي وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلاَّ الإِجَابَةَ لِدُعَائِي، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ خَائِباً فِيمَا سَأَلْتُكَ.
وَهَنَ الْعَظْمُ - ضَعُفَ وَرَقَّ.
شَقِيّاً - خَائِباً فِي وَقْتٍ مَا.
﴿الموالي﴾ ﴿وَرَآئِي﴾
(٥) - وَإِنِّي خِفْتُ إِذَا مِتُّ بِلا خَلَفٍ وَلاَ وَلَدٍ أَنْ تَتَصَرَّفَ عُصْبَتِي بِالنَّاسِ تَصَرُّفاً سَيِّئاً، وَأَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ وَالْهُدَى، وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَداً (وَلِيّاً)، يَكُونُ نَبِيّاً فَيَخْلُفُنِي فِي قَوْمِي، وَيَسُوسُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ.
(وَاسْتَبْعَدَ المُفَسِّرُونَ أَنْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِالآيَةِ أَنَّ زَكَرِيَّا خَافَ أَنْ يَرِثَهُ أَحَدٌ مِنْ مَوَالِيهِ فِي مَالِهِ، لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ لاَ يُورَثُونَ).
خِفْتُ المَوَالِي - أَقَارِبي العَصَبَةُ وَالمَوَالِي عَصَبَةُ الإِنْسَانِ.
وَلِيّاً - ابْناً يَلِي الأَمْرَ بَعْدِي.
﴿آلِ﴾
(٦) - فَيَرِثُ هَذا الوَلَدُ مِنِّي الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَالحِكْمَةَ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ المُلْكَ، وَاجْعَلْهُ يَا رَبِّ مَرْضِيّاً عِنْدَكَ، وَعِنْدَ خَلْقِكَ، تُحِبُّهُ أَنْتَ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الخَلْقِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ.
رَضِيّاً - مَرْضِيّاً عِنْدَكَ قَوْلاً وَفِعْلاً.
﴿يازكريآ﴾ ﴿بِغُلاَمٍ﴾
(٧) - فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ زَكَرِيّا، وَقَالَ لَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ: إِنَّنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَكَ، وَيَكُونُ اسْمُهُ يَحْيَى، يَكُونُ نَبِيّاً وَصَالِحَاً وَمُصَدِّقاً بِالمَسِيحِ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى)، وَلَمْ نَجْعَلْ لاسْمِهِ مُمَاثِلاً مِنْ قَبْلُ.
﴿غُلاَمٌ﴾
(٨) - فَتَعَجَّبَ زَكَرِيَّا حِينَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ يُوْلَدُ لِي وَلَدٌ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، وَأَنَا قَدْ تَقَدَّمَتْ بِيَ السِّنُّ كَثِيراً وَكَبِرْتُ، وَقَحِلَ عَظْمِي، وَلَمْ تَبْقَ فِيَّ قُوَّةٌ؟
أَنَّى يَكُونُ - كَيْفَ يَكُونُ.
العَاقِرُ - العَقِيمُ الَّذِي لاَ يُوْلَدُ لَهُ وَلَدٌ.
عِتِيّاً - أَيْ كَبِرَ وَيَبِسَتْ مَفَاصِلُهُ.
(٩) - فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ قَائِلاً (أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ المَلَكُ الَّذِي أَبْلَغَهُ البُشْرَى بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) إِنَّ جَعْلَكَ وَزَوْجَكَ تُنْجِبَانِ وَلَداً وَأَنْتَ هَرِمٌ، وَامْرَأَتُكَ عَاقِرٌ هُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ عَلَيَّ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ أَنْتَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً، وَالْخَلْقُ أَصْعَبُ مِنْ تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ، كَجَعْلِ العَاقِرِ وَلُوداً.
﴿آيَةً﴾ ﴿آيَتُكَ﴾ ﴿ثَلاَثَ﴾
(١٠) - قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلاَمَةً وَدَلاَلَةً (آيَةً) عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي بِهِ مِنْ حَمْلِ زَوْجَتِي، لِتَسْتَقَرَّ نَفْسِي، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي؟
قَالَ الرَبُّ: العَلاَمَةُ هِيَ أَنْ يَنْحَبِسَ لِسَانُكَ ثَلاَثَ لَيَالٍ وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُعَافَى (سَوِيّاً)، وَلَيْسَ بِكَ عِلَّةٌ، وَلاَ أَنْتَ تَشْكُو مَرَضاً، فَلاَ تَسْتَطِيعَ تَكْلِيمَ النَّاسِ وَمُحَاوَرَتَهُمْ. وَخِلاَلَ هَذِهِ اللَّيَالِي تَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِعِبَادَاتِكَ، وَتَسْبِيحَ رَبِّكَ.
آيَةً - عَلاَمَةً عَلَى تَحَقُّقِ المَسْؤُولِ.
سَوِيَّاً - سَلِيماً لاَ خَرَسَ بِكَ وَلاَ عِلَّةٍ.
(١١) - وَبَعْدَ أَنْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ العَلاَمَةِ، خَرَجَ زَكَرِيَّا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مُصَلاَّهُ، أَوْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ (المِحْرَابِ)، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ الكَلاَمَ، وَقَدِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِ اللهِ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا بِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ لِيُسَبِّحُوا رَبَّهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَلِيُشَارِكُوهُ الشُّكْرَ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ نَبِيّاً يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
المِحْرَابِ - المُصَلَّى أَوْ مَكَانَ العِبَادَةِ.
بُكْرَةً وَعَشِيّاً - طَرَفَيِ النَّهَارِ.
﴿يايحيى﴾ ﴿الكتاب﴾ ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾
(١٢) - وَوُلِدَ لِزَكَرِيّا ابْنَهُ يَحْيَى، وَأَصْبَحَ صَبِيّاً، فَنَادَاهُ الرَّبُّ قَائِلاً: يَا يَحْيَى تَعْلَّمِ التَّوْرَاةَ (خُذِ الكِتَابَ) وَاعْمَلْ بِمَا فِيهَا بِجِدِّ وَاجْتِهَادٍ. وَآتَاهُ اللهُ الفَهْمَ وَالعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالعَزْمَ، وَالإِقْبَالَ عَلَى الخَيْرِ، وَالاجْتِهَادِ فِيهِ وَهُوَ حَدَثٌ صَغِيرُ السِّنِّ.
الحُكْمَ - فَهْم التَّوْرَاةِ وَالعِلْمِ.
﴿وَزَكَاةً﴾
(١٣) - وَجَعَلْنَاهُ ذَا حَنَانٍ وَشَفَقَةٍ عَلَى النَّاسِ، مُحِبّاً لِلطَّهَارَةِ مِنَ الدَّنَسِ وَالآثَامِ وَالذُّنُوبِ (وَزَكَاةً)، وَكَانَ تَقِيّاً طَاهِراً لاَ يَرْتَكِبُ الذُّنُوبَ وَالمُحَرَّمَاتِ.
حَنَاناً - رَحْمَةً وَعَطْفاً عَلَى النَّاسِ.
زَكَاةً - بَرَكَةً أَوْ طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ.
تَقِيّاً - مُطِيعاً وَمُجْتَنِباً لِلْمَعَاصِي.
﴿بِوَالِدَيْهِ﴾
(١٤) - وَجَعَلْنَاهُ كَثِيرَ البِرِّ بِوَالِدَيْهِ، مُطِيعاً لَهُمَا، مُجَانِباً لِعُقُوقِهِمَا قَوْلاً وَفِعْلاً، وَلَمْ يَكُنْ مُتَكَبِّراً مُتَجَبِّراً عَلَى النَّاسِ (جَبَّاراً)، بَلْ كَانَ لَيِّنَ الجَانِبِ، وَلَمْ يَكُنْ عَاصِيّاً لِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ.
بِرّاً بِوَالِدَيْهِ - كَثِيرَ البِرِّ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا.
جَبَّاراً عَصِيّاً - طَاغِيَةً مُخَالِفاً أَمْرَ رَبِّهِ.
﴿وَسَلاَمٌ﴾
(١٥) - وَلَهُ التَّحِيَّةُ مِنَ اللهِ، وَلَهُ الأَمَانُ يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ يَمُوتُ، وَيَوْمُ يَبْعَثُهُ اللهُ فِي الآخِرَةِ حَيّاً مَعَ الخَلاَئِقِ يَوْمَ الحَشْرِ.
﴿الكتاب﴾
(١٦) - وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا فِي إِيْجَادِ وَلَدٍ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَشَاخَ، وَامْرَأَتُهُ عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ، أَتَى عَلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، وَوِلاَدَةِ وَلَدٍ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَفِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ دَلاَلَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عَظَمَةِ الخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ.
وَمَرْيَمُ هِيَ بِنْتُ عِمْرَانَ مِنْ سُلاَلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ مِنْ بَيْتٍ طَيبٍ طَاهِرٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى نَشْأَتَها فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَكَانَتْ إِحْدَى العَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، وَكَانَتْ فِي كَفَالَةِ زَوْجِ خَالَتِهَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى - وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ - أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا وَلَداً مِنْ غَيْرِ أَبٍ، انْتَحَتْ (انْتَبَذَتْ) عَنْ أَمَاكِنِ أَهْلِهَا، وَاتَّخَذَتْ لَهَا مَكَاناً يَقَعْ شَرْقِيَّ أَمَاكِنِهِمْ (مَكَاناً شَرْقِيّاً).
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّصَارَى اتَّخَذُوا المَشْرِقَ قِبْلَةً لَهُمْ لأنَّ المَشْرِقَ كَانَ مَكَانَ مِيلاَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ).
انْتَبَذَتْ - اعْتَزَلَتْ وَانْفَرَدَتْ.
(١٧) - فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا سِتْراً يَسْتُرهَا عَنْ أَعْيُنِهِمْ وَعَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَجَاءَهَا مُتَمَثِّلاً فِي صُورَةِ رَجُلٍ تَامِّ الخَلْقِ.
حِجَاباً - سِتْراً.
رُوحَنَا - جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
بَشَرَاً سَوِيّاً - إِنْسَاناً تَامَّ الخَلْقِ مُسْتَوِيَةُ.
(١٨) - وَلَمَّا تَبَدَّى لَهَا المَلَكُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ دَاخِلَ الحِجَابِ الَّذِي اتَّخَذَتْهُ لِنَفْسِهَا، خَافَتْهُ وَظَنَّتُهُ رَجُلاً يُرِيدُ بِهَا سُوءاً، فَقَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً تَخَافُ اللهَ، وَتَرْعَوي إِذَا ذُكِّرَتْ بِهِ.
﴿غُلاَماً﴾
(١٩) - فَقَالَ لَهَا المَلَكُ مُطَمْئِناً: إِنَّنِي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكِ، بَعَثَنِي لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً طَاهِراً صَالِحاً، وَلَنْ يَنَالَكِ مِنِّي أَذًى.
غُلاَماً زَكِيّاً - مُزَكَّى مُطَهَّراً بِالخِلْقَةِ.
﴿غُلاَمٌ﴾
(٢٠) - فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْلِ المَلَكِ، وَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ دُونَ أَنْ يَمَسَّنِي رَجُلٌ، وَأَنَا لَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَسْتُ بَغِيّاً: فَاجِرَةً؟
بَغِيّاً - فَاجِرَةً تَبْغِي الرِّجَالَ.
﴿آيَةً﴾
(٢١) - فَقَالَ لَهَا المَلَكُ مُجِيباً: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُ سَيُوجِدُ مِنْكِ وَلَداً، وَإِنْ لَمْ يَمْسَسِكِ بَشَرٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُونِي ذَاتَ بَعْلٍ، وَلَمْ تَفْحُشِي، فَإِنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌعَلَى فِعْلِ مَا يَشَاءُ، وَسَتَكُونُ وِلاَدَةُ هَذَا الوَلَدِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ دَلاَلَةً لِلنَّاسِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ بَارِئِهِمْ وَخَالِقِهِمْ، وَسَيَكُونُ هَذا الوَلَدُ رَحْمَةً لِلنَّاسِ مِنَ اللهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِنَّهُ أَمَرٌ مَقْضِيٌّ مِنَ اللهِ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ، وَلاَ رَادَّ لِمَا قَضَى.
(٢٢) - وَحِينَمَا نَفَخَ فِيهَا المَلَكُ مِنْ رُوحِ اللهِ، وَحَمَلَتْ بِابْنِهَا عِيسَى عَلَيهِمَا السَّلاَمُ، ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعاً، وَلَمْ تَدْرِ مَا تَقُولُ لِلنَّاسِ، فَابْتَعَدَتْ عَنِ أَهْلِهَا، وَذَهَبَتْ إِلَى مَكَانٍ قَاصٍ لاَ تَرَاهُمْ فِيهِ وَلاَ يَرَوْنَهَا.
مَكَاناً قَصِيّاً - بَعِيداً عَنْ أَهْلِهَا.
﴿ياليتني﴾
(٢٣) - فَاضْطَرَّهَا أَلَمُ المَخَاضِ، وَأَلْجَأَهَا إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي المَكَانِ الَّذِي لَجَأَتْ إِلَيْهِ، وَانْتَحَتْ فِيهِ عَنْ أَهْلِهَا، وَفَكَّرَتْ فِيمَا سَيَقُولُهُ قَوْمُهَا عَنْهَا، إِذَا عَادَتْ بِالْوَلِيدِ، وَهِيَ تَحْمِلُهُ، فَتَمَنَّتِ المَوْتَ، وَقَالَتْ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا الحَمْلِ، وَلَمْ أَكُنْ شَيْئاً يُذْكَرُ فَيُعْرَفُ، وَلَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ مَنْ أَنًا.
النَّسِيُّ - الشَّيِءُ التَّافِهُ الحَقِيرُ الَّذِي لاَ يُعْتَدُّ بِهِ فَيُنْسَى.
أَجَاءَهَا المَخَاضُ - أَلْجَأَهَا وَجَعُ الطَّلْقِ وَالوِلاَدَةِ.
المَخَاضُ - آلامُ الطَّلْقِ.
﴿فَنَادَاهَا﴾
(٢٤) - فَنُودِيَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ مِنْ تَحْتِهَا (وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَنْ نَادَاهَا: أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ هُوَ الوَلِيدُ)، وَقَالَ لَهَا مَنْ نَادَاهَا: لاَ تَحْزَنِي لِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَ قَدَمَيْكِ جَدْوَلَ مَاءٍ تَشْرَبِينَ مِنْهُ.
سَرِيّاً - جَدْوَلَ مَاءٍ.
﴿تُسَاقِطْ﴾
(٢٥) - وَهُزِّي جِذْعَ هَذِهِ النَّخْلَةِ، الَّتِي فَوْقَكِ، فَتُسْقِط عَلَيْكِ ثَمَراً طَازِجاً طَرِياً حَانَ قِطَافُهُ.
رُطَباً - ثَمَراً طَازِجاً.
جَنِيّاً - حَانَ جَنْيُهُ وَقِطَافُهُ.
(٢٦) - وَهَكَذا أَصْبَحَ لَدَيْكِ مَاءٌ تَشْرَبِينَ مِنْهُ وَطَعَامٌ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَطِيبِي نَفْساً، وَأَبْعِدِي عَنْكِ الهُمُومَ وَالأَحْزَانَ، فَإِذَا رَأَيْتِ أَحَداً مِنَ البَشَرِ فَلاُ تُكَلِّمِيهِ، وَأَشِيرِي إِلَيْهِ أَنَّكِ نَذَرْتِ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً عَنِ الكَلاَمِ، وَأَنَّكِ لاَ تُكَلِّمِينَ أَحَداً مِنَ البَشَرِ هذا اليَوْمَ.
قَرِّي عَيْناً - طِيبِي نَفْساً وَلاَ تَحْزَنِي.
﴿يامريم﴾
(٢٧) - وَحِينَمَا صَدَرَ الأَمْرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى مَرْيَمَ بِأَنْ تَصُومَ ذَلِكَ اليَوْمَ عَنِ الكَلاَمِ، وَأَنْ لاَ تُكَلِّمَ أَحَداً مِنَ البَشَرِ، فَعَلَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَاسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللهِ، فَأَخَذَتْ وَلِيدَها، وَجَاءَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا وَبَيْنَ يَدَيْهَا الوَلِيدُ، أَعْظَمُوا الأَمْرَ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَقَالُوا لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ يَا مَرْيَمُ أَمْراً عَظِيماً مُنْكَراً.
شَيْئاً فَرِيّاً - شَيْئاً عَظِيماً مُنْكَراً.
﴿ياأخت﴾ ﴿هَارُونَ﴾
(٢٨) - ثُمَّ تَابَعُوا خِطَابَهُمْ إِلَيْهَا قَائِلِينَ لَهَا: يَا شِبْهَ هَارُونَ فِي التُّقَى وَالوَرَعِ وَالعِبَادَةِ، أَنْتِ مِنْ بَيْتٍ طَيِّبٍ طَاهِرٍ، مَعْرُوفٍ بِالصَّلاَحِ وَالعِبَادَةِ، فَكَيْفَ صَدَرَ مِنْكِ هَذا؟ إِنَّ أَبَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ شَيءٌ مِنَ السُّوءِ، وَكَانَتْ أُمُّكِ صَالِحَةً مِثْلَ أَبِيكَ وَلَمْ تَكُنْ مُتَهَتِّكَةً بَغِيّاً.
(وَقَدْ أَلِفَ النَّاسُ أَنْ يُنَادِي بَعْضَهُمْ بَعْضاً بِيَا أَخَا تَمِيمٍ، وَيَا أَخَا مُضَرَ، وَيَا أَخَا هَارُونَ.. وَهَارُونُ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ كَانَ مَعْرُوفاً بِالزُّهْدِ وَالتُّقَى فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ مُعَاصِراً لِوِلاَدَةِ السَّيِّدِ المَسِيحِ).
(٢٩) - وَكَانَتْ مَرْيَمُ صَائِمَةً ذَلِكَ اليَوْمَ، فَأَشَارَتْ إِلَى وَلِيدِهَا لِيَسْأَلُوهُ، فَقَالُوا لَهَا مُتَهَكِّمِينَ سَاخِرِينَ، كَيْفَ نُكَلِّمُ طِفْلاً مَا زَالَ فِي المَهْدِ رَضِيعاً؟
﴿آتَانِيَ﴾ ﴿الكتاب﴾
(٣٠) - فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ تَعَالَى، فَنَزَّهَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ العُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ. ثُمَّ بَرَأَ أُمَّهُ مِمَّا اتَّهَمَهَا بِهِ قَوْمَهَا. فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللهَ جَعَلَهُ نَبِيّاً وَآتَاهُ كِتَاباً.
﴿وَأَوْصَانِي﴾ ﴿بالصلاة﴾ ﴿والزكاة﴾
(٣١) - وَجَعَلَنِي مُعَلِّماً لِلْخَيْرِ، نَافِعاً لِلنَّاسِ (مُبَارَكاً)، حَيْثُمَا حَلَلْتُ، وَأَيْنَمَا كُنْتُ، وَأَوْصَانِي رَبِّي بِالمُوَاظَبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً.
﴿بِوَالِدَتِي﴾
(٣٢) - وَأَمَرَنِي رَبِّي بِبِرِّ وَالِدَتِي، وَبِإِطَاعَتِهَا وَالإِحْسَانَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَجْعَلْنِي رَبِّي جَبَّاراً مُسْتَكْبِراً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي عَدِيمَ البِرِّ بِوَالِدَتِي فَأَشْقَى بِذَلِكَ.
بِرّاً بِوَالِدَتِي - بَارّاً بِهَا مُحْسِناً مُكْرِماً.
﴿والسلام﴾
(٣٣) - ثُمَّ عَادَ لِيُثْبِتَ عُبُودِيَّتَهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِيُؤَكِّدَ أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، يُوْلَدُ وَيَحْيَا وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ البَشَرِ، وَلَكِنَّهُ سَتَكُونُ لَهَ السَّلاَمَةُ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ التِي هِيَ أَشَقُّ مَا تَكُونُ عَلَى العِبَادِ (السَّلاَمُ عَلَيَّ).
(٣٤) - ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ خَبَرِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، هُوَ القَوْلُ الحَقُّ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ المُبْطِلُونَ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَتَقَوَّلُوا عَلَى أُمِّهِ، وَشَكُّوا فِي وِلاَدَتِهِ، وَالَّذِينَ غَالُوا فِيهِ فَادَّعُوا أَنَّهُ اللهُ أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ.
قَوْلَ الحَقِّ - كَلِمَةَ اللهِ لِخَلْقِهِ كُنْ.
يَمْتَرُونَ - يَشُكُّونَ أَوْ يُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ.
﴿سُبْحَانَهُ﴾
(٣٥) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَكُونَ عَبْداً نَبِيّاً، نَزَّهَ نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ عَمَّا يَقُولُهُ الجَّاهِلُونَ الظَّالِمُونَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللهِ، وَكَمَالِ أُلُوهِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَ الوَلَدَ، لأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَخَلَقَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ (كُنْ) فَيَكُونُ بِلاَ حَمْلٍ وَلاَ وِلاَدَةٍ، وَلأَنَّ الوَلَدَ إِنَّمَا يَرْغَبُ فِيهِ البَشَرُ لِيَكُونَ حَافِظاً لأَبِيهِ يَعُولُهُ وَهُوَ حَيٌّ، وَلِيَكُونَ ذِكْراً لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَحْتَاجُ إِلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ شَيْءٍ فِي الوُجُودِ مُلْكٌ لَهُ، وَهُوَ حَيٌّ أَبَداً لاَ يَمُوتُ.
إِذَا قَضَى أَمْراً - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَهُ.
﴿صِرَاطٌ﴾
(٣٦) - وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ عِيسَى لِقَوْمِهِ حِينَما كَلَّمَهُمْ وَهُوَ فِي المَهْدِ: إِنَّ اللهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، وَالطَّرِيقُ القَوِيمُ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ، وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى.
(٣٧) - فَاخْتَلَفَتِ الأَقْوَالُ فِي عِيسَى:
- فَقَالَ اليَهُودُ إِنَّهُ وُلِدَ مِنْ أَبٍ مَعْرُوفٍ، وَقَالُوا عَنْ كَلاَمِهِ فِي المَهْدِ إِنَّهُ سِحْرٌ.
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى:
- فَقَالَ اليَعَاقِبَةُ - إِنَّ اللهَ هَبَطَ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ صَعَدَ إِلَى السَّمَاءِ.
- وَقَالَ النَّسْطُورِيُّونَ - هُوَ ابْنُ اللهِ أَظْهَرَهُ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ.
- وَقَالَ الآرْيُوسِيُّونَ - إِنَّهُ عَبْدٌ كَسَائِرِ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ، وَهَذا القَوْلُ هُوَ القَوْلُ الحَقُّ الَّذِي أَرْشَدَ اللهُ إِلَيْهِ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ هَدَّدَ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللهِ الكَذِبَ، وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَداً، بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَالوَيْلُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ مَشَهَدِ ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ.
﴿الظالمون﴾ ﴿ضَلاَلٍ﴾
(٣٨) - لَئِنْ كَانَ هؤُلاَءِ الكَافِرُونَ الَّذِينَ جَعَلَوا للهِ أَنْدَاداً، وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَداً، عُمْياً فِي الدُّنْيا عَنْ إِبْصَارِ الحَقِّ، وَعَنْ إِدْرَاكِ حُجَجِ اللهِ التِي أَوْدَعَها فِي الكَوْنِ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ هَؤُلاَءِ اليَوْمَ صُمّاً فِي الدُّنْيَا عَنْ سَمَاعِ آيَاتِ اللهِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رُسُلُهُمْ... فَمَا أَسْمَعَهُمْ يَوْمَ القِيَامَِةِ، يَوْمَ يَقْدُمُونَ عَلَى رَبِّهِمْ، وَمَا أَصْبَرَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، حِينَ لاَ يُجْدِي السَّمَاعُ، وَلا الإِبْصَارُ، وَلاَ يَنْفَعَانِ شَيْئاً. وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَعَضُّونَ الأَنَامِلَ مِنَ الأَسَفِ وَالنَّدَمِ وَالحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ مَا عَمِلُوا، وَلَكِنْ لاَ يُجَابُ لَهُمْ طَلَبٌ.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ - مَا أَشَدَّ سَمْعُهُمْ وََمَا أَحَدَّ بَصَرَهُمْ!.
(٣٩) - وَأَنْذِرِ النَّاسَ جَمِيعاً، وَحَذِّرْهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ، وَهُوَ يَوْمٌ يَتَحَسَّرُ الظَّالِمُونَ فِيهِ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، حِينَ يُفْرَغُ مِنَ الحِسَابِ، وَيَذْهَبُ أَهْلُ الجَنَّةِ إَلَى الجَنَّةِ، وَيَذْهَبُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ فَرِيقٍ: إِنَّهُ الخُلُودُ حَيْثُ هُمْ، فَلاَ مَوْتَ وَلاَ زَوَالَ. وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَعَنْ حَسَرَاتِهِ، وَأَهْوَالِهِ، وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلاَ يُصَدِّقُونَ بِالقِيَامَةِ وَالبَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالمُجَازَاةِ عَلَى الأَعْمَالِ.
﴿يَوْمَ الحسرة﴾ - يَوْمَ الحِسَابِ وَالجَزَاءِ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَ.
(٤٠) - لاَ يُحْزِنُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ فِيمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الحَقِّ، فَإِنَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ، وَمَصِيرُ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَالخَلاَئِقُ كُلُّهَا تَهْلِكُ، وَيَبْقَى اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَارِثاً لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ الخَلاَئِقُ كُلُّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَلاَ يَظْلِمُ اللهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.
﴿الكتاب﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾
(٤١) - وَاتْلُ عَلَى قَوْمِكَ، الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ، خَبَرَ أَبْيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ، وَقَدْ كَانَ نَبِيّاً مُرْسَلاً مُصَدِّقاً بِكَلِمَاتِ رَبِّهِ.
﴿ياأبت﴾
(٤٢) - حِينَمَا قَالَ لأَبِيهِ وَهُوَ يَنْهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى: يَا أَبَتِ لِمَاذَا تَعْبُدُ حِجَارَةً أَصْنَاماً، لاَ تَسْمَعُ وَلاَ تُبْصِرُ، وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ.
﴿ياأبت﴾ ﴿صِرَاطاً﴾
(٤٣) - يَا أَبَتِ إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَصْغَرُ مِنْكَ سِنّاً، إِلاَّ أَنَّنِي قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى شَيءٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، لَمْ تَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَمْ تَعْلَمْهُ، فَاتَّبِعْنِي فِيمَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ أَوْصِلْكَ إِلَى طَرِيقِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، الَّذِي يُوصِلُكَ إِلَى الجَنَّةِ، وَإِلَى النَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ.
صِرَاطاً سَوِيّاً - طَرِيقاً مُسْتَقِيماً مُنَجِّياً مِنَ الضَّلاَلِ.
﴿ياأبت﴾ ﴿الشيطان﴾
(٤٤) - يَا أَبَتِ لاَ تُطِعِ الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الأَصْنَامَ، فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى عِبَادَتِهَا، وَقَدْ عَصَى الشَّيْطَانُ اللهَ رَبَّهُ، وَقَدْ خَلَقَهُ وَخَلَقَ لَكَ شّيءٍ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ إِطَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِ فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فَلاَ تَتْبَعْهُ يَا أَبَتِ لأَنَّهُ يُوصِلُ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى الهَلاَكِ وَإِلَى نَارِ جَهَنَّمَ.
عَصِيّاً - كَثِيرَ العِصْيَانِ.
﴿ياأبت﴾ ﴿لِلشَّيْطَانِ﴾
(٤٥) - وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي شِرْكِكَ وَفِي تَعَنُّتِكَ، وَاسْتِكْبَارِكَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ، فَتَكُونَ قَرِيناً وَتَابِعاً لِلشَّيْطَانِ فِي النَّارِ.
وَلِيّاً - قَرِيناً تَلِيهِ وَيَلِيكَ فِي النَّارِ.
﴿آلِهَتِي﴾ ﴿ياإبراهيم﴾ ﴿لَئِن﴾
(٤٦) - فَأَجَابَهُ أَبُوهُ قَائِلاً: أَتَرْفُضُ عِبَادَةَ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُطَالَبَتِي بِالاقْلاَعِ عَنْ عِبَادَتِهَا، وَعِبَادَةِ إِلهِكَ وَحْدَهُ، لَأْرُجَمَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ، فَاحْذَرْنِي، وَابْتَعِدْ عَنِّي وَفَارِقْنِي دَهْراً طَويلاً، حَتَّى تَهْدَأَ ثَائِرَتِي.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ (مَلِيّاً) أَيْ اهْجُرْنِي وَأَنْتَ سَوِّيٌّ سَالِمٌ، قَبْلَ أَنْ تَنَالَكَ عُقُوبَتِي).
وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً - فَارِقْنِي وَقْتاً طَوِيلاً.
﴿سَلاَمٌ﴾
(٤٧) - فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ: أَمَّا أَنَا فَلَنْ يَصِلَكَ مِنِّي أَذًى أَوْ مَكْرُوهُ احْتِرَاماً مِنِّي لِمَقَامِ الأُبُوَّةِ، وَسَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لَكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَهْدِيَكَ، وَيَغْفِرَ لَكَ ذُنُوبَكَ، فَقَدْ كَانَ رَبِّي دَائِمَ الإِكْرَامِ لِي، وَالاهْتِمَامِ بِحَالِي، وَالإِجَابَةِ لِدَعْوَتِي.
حَفِيّاً - بِرّاً لَطِيفاً أَوْ رَحِيماً مُكَرِّماً.
﴿وَأَدْعُو﴾
(٤٨) - وَسَأَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ التِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَسَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ رَاجِيّاً أَنْ يُكْرِمَنِي رَبِّي بِسَبَبِ هَذِهِ العِبَادَةِ، وَهَذَا الدُّعَاءِ، وَأَلاَّ يَجْعَلَنِي شَقِيّاً، كَمَا شَقِيتُمْ أَنْتُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الأَصْنَامِ.
شَقِيّاً - خَائِباً ضَائِعَ السَّعْيِ.
﴿إِسْحَاقَ﴾
(٤٩) - فَلَمَّا اعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَهَاجَرَ مِنْ أَرْضِهِمْ أَبْدَلَهُ اللهُ خَيْراً مِنْهُمْ، وَجَعَلَ لَهُ نَسْلاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَوَهَبَ لَهُ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَوَهَبَ لإِسْحَاقَ ابْنَهُ يَعْقُوبَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكُلاًّ مِنْهُمْ قَدْ جَعَلَهُ اللهُ نَبِيّاً مُبَارَكاً، وَجَعَلَ لَهُمْ نَسْلاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ.
(٥٠) - وَوَهَبَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَنَسْلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَآتَاهُمُ النَّسْلَ الطَّاهِرَ، وَالذُّرِّيَّةَ المُبَارَكَةَ وَإِجَابَةَ الدُّعَاءِ، وَالبَرَكَةِ فِي المَالِ وَالأَوْلاَدِ، وَجَعَلَ لَهُمْ ثَنَاءً جَمِيلاً وَذِكْراً طَيِّباً عَلَى مَدَى الدَّهْرِ، وَجَعَلَهُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَتِهِمْ، مَسْمُوعِي الكَلِمَةِ فِي قَوْمِهِمْ، يُؤْخَذُ قَوْلُهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالتَّبْجِيلِ وَالاحْتِرَامِ.
لِسَانَ صِدْقٍ - ثَنَاءً جَمِيلاً فِي أَهْلِ كُلِّ دِينٍ.
﴿الكتاب﴾
(٥١) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ ثَنَّى بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ (بِكَسْرِ اللامِ)، وَقَرَأَهَا آخَرُونَ بِفَتْحِ الّلامِ (أَيْ مُصْطَفَى) فَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى - ﴿إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس﴾ فَكَانَ رَسُولاً مِنْ أُوْلِي العَزْمِ، وَكَانَ نَبِيّاً دَاعِياً إِلَى الخَيْرِ، وَمُبَشِراً وَنَذِيراً لِلْخَلْقِ.
مُخْلِصاً - بِكَسْرِ الَّلامِ - يَعْنِي صَادِقاً فِي عِبَادَتِهِ.
مُخْلَصاً - بِفَتْحِ الَّلامِ - يَعْنِي أَخْلَصَهُ اللهُ وَاصْطَفَاهُ.
﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾ ﴿وَقَرَّبْنَاهُ﴾
(٥٢) - وَحِينَمَا كَانَ مُوسَى سَائِراً بِأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَصَلَ إِلَى وَادِي الطُّورِ، فَلَمَحَ نَاراً عَنْ بُعْدٍ، وَهُوَ فِي الَّليْلِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا لَعَلِّي آتِيكُمْ بِقَبَسٍ مِنَ النَّارِ، أَوْ أَسْأَلُ مَنْ هُنَاكَ عِنْدَ النَّارِ لِيَهْدُونِي إِلَى الطَّرِيقِ، فَوَجَدَ النَّارَ عَنْ يَمِينِهِ، فَنَادَاهُ اللهُ تَعَالَى وَقَرَّبَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَنْبَأَهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَهُ لِيَكُونَ رَسُولَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.
قَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً - مُنَاجِياً لَنَا.
﴿هَارُونَ﴾
(٥٣) - حِينَمَا كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَلإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً﴾. وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: ﴿اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي﴾ فَاسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَائِهِ، وَشَفَاعَتِهِ فِي أَخِيْهِ هَارُونَ فَجَعَلَهُ نَبِيّاً.
﴿الكتاب﴾ ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾
(٥٤) - وَاتْلُ يَا مُحَمَّدُ عَلَى قَوْمِكَ صِفَاتِ أَبِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ عَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَتَخَلَّقُونَ بِأَخْلاَقِهِ. وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَصِفُهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ، مِا الْتَزَمَ بِعِبَادَةٍ قَطُّ إِلاَّ قَامَ بِهَا. ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ رَسُولاً، وَكَانَ نَبِيّاً، بَيْنَمَا وَصَفَ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيّاً.
﴿بالصلاة﴾ ﴿والزكاة﴾
(٥٥) - وَأَثْنَى اللهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَابِراً عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، آمِراً أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَكَانَ مَرَضِيّاً عِنْدَ رَبِّهِ.
﴿الكتاب﴾
(٥٦) - ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَانَ صَدِيقاً نَبِيّاً. (وَيُقَالُ إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ قَبْلَ نُوْحٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ).
﴿وَرَفَعْنَاهُ﴾
(٥٧) - وَقَالَ تَعَالَى إِنَّهُ رَفَعَهُ فِي الجَنَّة مَكَاناً عَلِيّاً. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطاً، فَكَانَ لاَ يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلاَّ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ اللهِ عَمَلاً.
﴿أولئك﴾ ﴿النبيين﴾ ﴿ءَادَمَ﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿وَإِسْرَائِيلَ﴾ ﴿آيَاتُ﴾
(٥٨) - وَهَؤُلاَءِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ ﷺ قَصَصَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُرِيَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ، وَمَنْ هَدَاهُمْ وَقَرَّبَهُمْ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا كَلاَمَ اللهِ المُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلاَئِلَهُ وَبَرَاهينَهُ، سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعاً وَخُشُوعاً وَحَمْداً وَشُكْراً عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّعَمِ العَظِيمَةِ وَهُمْ يَبْكُونَ.
اجْتَبَيْنَا - اصْطَفَيْنَا وَاخْتَرْنَا لِلنُّبُوَّةِ.
بُكِيّاً - بَاكِينَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ.
﴿الصلاة﴾ ﴿الشهوات﴾
(٥٩) - ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ الأَنْبِيَاءُ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ المُؤَدِّينَ فَرَائِضَهُ، خَلْفُ سُوءٍ، تَرَكُوا الصَّلاَةَ وَإِقَامَتِهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَواتِ الدُّنْيا، فَهَؤُلاَءِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ خَسَارةً وَشَرّاً يَوْمَ القِيَامَةِ.
(وَلِذَلِكَ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلاَةِ).
خَلْفٌ - عَقِبُ سُوءٍ.
يَلْقَوْنَ غَيّاً - يَلْقَوْنَ جَزَاءَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ.
﴿وَآمَنَ﴾ ﴿صَالِحاً﴾ ﴿فأولئك﴾
(٦٠) - إِلاَّ مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ، وَخِتَامَهُ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ "). (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه).
﴿جَنَّاتِ﴾
(٦١) - وَالجَنَّاتُ التِي يُدْخِلُهَا اللهُ تَعَالَى التَّائِبِينَ، هِيَ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، التِي وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِهَا، وَهِيَ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ، وَلَمْ يَرَوْهُ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً، فَإِنَّ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ سَيَحْصُلُ، وَسَيَصِلُ إِلَى العِبَادِ (أَوْ سَيَأْتِيهِ العِبَادُ - وَالعَرَبُ تَقُولُ كُلُّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، أَيْ إِنَّ مَأْتِيّاً وَآتِيَاً بِمَعْنَى وَاحِدٍ).
مَأْتِيّاً - آتِياً أَوْ مُنْجَزاً.
﴿سَلاَماً﴾
(٦٢) - وَفِي هَذِهِ الجَنَّاتِ لاَ يَسْمَعُ نُزَلاَؤُهَا كَلاَماً لَغْواً تَافِهاً لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ المَلاَئِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِالسَّلاَمِ، مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالرِّضَا، وَيَأْتِيهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ (بُكْرَةً وَعَشِيّاً) كَمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا.
لَغْواً - كَلاَماً قَبِيحاً أَوْ كَلاَماً فُضُولاً لا خَيْرَ فِيهِ.
(٦٣) - وَالجَنَّةُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ أَوْصَافَهَا العَظِيمَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ، هِيَ الَّتِي يُورِثُهَا عِبَادَهُ المُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَيَكْظِمُونَ الغَيْظَ، وَيَعْفُونَ عَنِ النَّاسِ.
(٦٤) - رَوَى ابْنُ عَبَّاسَ فَقَالَ: قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ. فَالمَلاَئِكَةُ الكِرَامُ لاَ تَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّهِم الَّذِي لَهُ أَمْرُ الدُّنْيَا (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا)، وَلَهُ أَمْرُ الآخِرَةِ (وَمَا خَلْفَنَا)، وَمَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلاَ يَنْسَى اللهُ شَيْئاً، وَلاَ تَطْرَأُ عَلَيْهِ غَفْلَةٌ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ إِنْ كَانَ قَدْ أَخَّرَ الوَحْيَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْرِفُهَا هُوَ.
﴿السماوات﴾ ﴿لِعِبَادَتِهِ﴾
(٦٥) - وَرَبُّكَ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَمُدَبِّرَهُ، وَهُوَ الحَاكِمُ المُتَصَرِّفُ فِي هَذا الوُجُودِ، وَلاَ مُعَقِبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ المُسْتَحِقُ وَحْدَهُ لِلْعِبَادَةِ، لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلاَ شَبِيهٌ وَلاَ مُمَاثِلٌ، فَاعْبُدْهُ يَا مُحَمَّدُ، وَثَابِرْ عَلَى عِبَادَتِهِ صَابِراً مُطْمَئِنّاً، وَلَيْسَ لِرَبِّكَ مُمَاثِلٌ يُسَمَّى بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ.
سَمِيّاً - مُمَاثِلاً فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ.
﴿الإنسان﴾ ﴿أَإِذَا﴾
(٦٦) - وَيَقُولُ الكَافِرُ مُتَعَجِّباً مِنْ وُقُوعِ البَعْثِ: كَيْفَ أُبْعَثُ حَيّاً بَعَدَ المَوْتِ وَالفَنَاءِ، وَتَنَاثُرِ ذَرَّاتِ الأَجْسَادِ.
﴿الإنسان﴾ ﴿خَلَقْنَاهُ﴾
(٦٧) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى، عَلَى هَؤُلاَءِ المُتَشَكِّكِينَ فِي أَمْرِ البَعْثِ، فَيَلْفِتُ نَظَرَهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ، وَخَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ لاَ شَيءٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَبْلَهُ إِنْسَانٌ. وَيَسْتَدِلُّ اللهُ تَعَالَى بِإِشَارَتِهِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَدَأَ الخَلْقَ، عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌعَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، لأَنَّ الإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الابْتِدَاءِ، ﴿وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾
﴿والشياطين﴾
(٦٨) - يُقْسِمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِذَاتِهِ الكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَحْشُرَهُمْ جَمِيعاً، وَشَيَاطِيْنَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، ثُمَّ يُحْضِرُهُمْ جَمِيعاً حَوْلَ جَهَنَّمَ قُعُوداً عَلَى رُكَبِهِمْ، تَعْبِيراً عَنِ الإِهَانَةِ وَالتَّحْقِيرِ لَهُمْ.
جِثِيّاً - جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الهُوْلِ.
(٦٩) - وَيُتَابِعُ تَعَالَى قَسَمَهُ بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ سَيَنْزِعُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ أَهْلِ دِينٍ (شِيْعَةٍ) قَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ جَمَاعَتِهِمْ تَكَبُّراً، وَعُتُوّاً عَلَى الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَغَمَرَهُمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَكْثَرَهُمْ تَجَاوُزاً لِلْحُدُودِ الَّتِي شَرَّعَهَا اللهُ، ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِمْ إَلَى أَشَدِّ العَذَابِ.
عِتِيّاً - عِصْيَاناً. جَرَاءَةً وَفُجُوراً.
(٧٠) - وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقٌّ مِنْ عِبَادِهِ بِأَنْ يَصْلَى بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَيَخْلُدَ فِيهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ مُضَاعَفَةَ العَذَابِ فَيُدْخِلُهُمْ أَوْلاً فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِيَصْلَوْهَا ثُمَّ يُدْخِلُ الآخَرِينَ إِلَيْهَا بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي العُتُوِّ وَالتَّكَبُّرِ.
(٧١) - وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ يَدْنُوا مِنْ نَارِ جََهَنَّمَ، وَيَصِيرُ حَوْلَها (أَوْ يَدْخُلُهَا فِعْلاً)، وَقَدْ قَضَى اللهُ رَبُّكَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ أَمْراً مَحْتُوماً، مَفْرُوغاً مِنْهُ.
وَفِي الحَدِيثِ: " يَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأَعْمَالِهِمْ "
(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتَّرْمَذِي).
(وَقَالَ جَابِرٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: " لاَ يَبْقَى بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ إِلاَّ دَخَلَها - أَيْ النَّارَ - فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنُ بَرْداً وَسَلاَماً، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجاً مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّى اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا، وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ").
﴿الظالمين﴾
(٧٢) - وَبَعْدَ أَنْ يَرِدَ النَّاسُ جَمِيعاً النَّارَ، يَدْخُلُونَهَا أَوْ يَكُونُونَ حَوْلَها - يُنَجِّي اللهُ تَعَالَى بِمِنِّهِ وَفَضْلِهِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْهَا، وَيَتْرُكُ الظَّالِمِينَ جَاثِينَ فِيهَا عَلَى رُكَبِهِمْ.
﴿آيَاتُنَا﴾ ﴿بينات﴾ ﴿آمنوا﴾
(٧٣) - وَحِيْنَ تُتْلَى آيَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ، وَهِيَ ظَاهِرَةُ الدَّلاَلَةِ وَاضِحَةُ البُرْهَانِ، يَصُدُّونَ عَنْهَا، وَيُعْرِضُونَ، وَيَقُولُونَ مُفْتَخِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ بِالبَاطِلِ: إِنَّهُمْ أَحْسَنُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْزِلاً، وَأَرْفَعُ دَوْراً (خَيْرٌ مَقَاماً)، وَإِنَّ نَادِيهُمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ رُوَّاداً وَطَارِقاً (أَحْسَنُ نَدِيّاً)، مِنْ دَارِالأَرْقَمِ، الَّتِي كَانَ المُسْلِمُونَ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا مُسْتَخْفِينَ. وَفِي ظَنِّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أَنَّ الأَمْرَ مَا دَامَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيا، فَإِنَّهُم سَيَكُونُونَ أَحْسَنُ حَالاً مِنْهُمْ فِي الآخِرَةِ، إِذْ كَيْفَ يَكُونُونَ هُمْ عَلَى بَاطِلٍ وَضِلاَلٍ، وَفُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ المُسْتَخْفِينَ فِي دَارِ الأَرْقَمِ المُتَوَاضِعَةِ عَلَى حَقٍّ.
خَيْرٌ مَقَاماً - مَنْزِلاً وَسَكَناً.
أَحْسَنُ نَدِيّاً - مَجْلِساً وَمُجْتَمَعاً (نَادِياً).
﴿أَثَاثاً﴾ ﴿وَرِءْياً﴾
(٧٤) - وَكَمْ مِنْ أُمَّةٍ مِنَ المُكَذِّبِينَ قَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ، وَكَانُوا أَحْسَنَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ أَمْوَالاً وَأَمْتِعَةً وَهَيْئَاتٍ وَمَنَاظِرَ... فَعَلَى هَؤُلاَءِ أَنْ يَتَّعِظُوا بِمَا حَلَّ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الكَفَرَةِ المُكَذِّبِينَ، فَمَا كَانُوا أَحْسَنَ حَالاً، وَلاَ أَكْثَرَ قُوَّةً وَمَالاً.
الرِّئْيُ - المَنْظَرُ وَالهَيْئَةُ.
الأَثَاثُ - المَتَاعُ وّالثِّيَابُ.
قَرْنٍ - أُمَّةٍ.
﴿الضلالة﴾
(٧٥) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ المُتَفَاخِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ أَحْسَنُ مَتَاعاً وَمَنْظَراً وَنَادِياً، فَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ، وَالمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقًٍّ، وَأَنَّكُمٍ عَلَى بَاطِلٍ: إِنَّ مَا افْتَخَرْتُمْ بِهِ مِنْ زُخْرِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا لاَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الحَالِ فِي الآخِرَةِ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنَّ مَنْ كَانُوا مُنْهَمِكِينَ فِي الضَّلاَلَةِ، مُسْتَرْسِلِينَ فِي ارْتِكَابِ المَعَاصِي، فَإِنَّهُ يَبْسُطُ لَهُمْ نَعِيمُ الدُّنْيَا، وَيُطَيِّبُ عَيْشَهُمْ فِيهَا، وَلاَ يَزَالُ يُمْهِلُهُمْ اسْتِدْارَجاً لَهُمْ إِلَى أَنْ يُشَاهِدُوا مَا وَعَدُوا بِهِ رَأْيَ العَيْنِ: إِمَّا عَذَاباً فِي الدُّنْيا، كَمَا حَصَلَ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِمَّا قَيَامُ السَّاعَةِ، وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهَا. وَإِذْ ذًَاكَ يَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرُّ الفَرِيقَيْنِ مَكَاناً، وَمَنْ هُوَ الأَضْعَفُ نَاصِراً وَجُنْداً. إِنَّهُمْ بِلاَ شَكٍّ سَيَجِدُونَ الأَمْرَ عَلَى عَكْسِ مَا كَانُو يُقَدِّرُونَ.
فَلْيَمْدُدْ لَهُ - يُمْهِلُهُ اسْتِدْراجاً.
أَضْعَفُ جُنْداً - أَقَلُّ أَعْوَاناً وَأَنْصَاراً.
﴿والباقيات﴾ ﴿الصالحات﴾
(٧٦) - أَمَّا المُهْتَدُونَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَزِيدُهُمْ هُدًى، عَلَى هُدَاهُمْ، بِمَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآيَاتِ، وَالطَّاعَاتِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا الصُّدُورُ وَتَسْتَنِيرُ بِهَا القُلُوب، وَتُوصِلُ إِلَى القُرْبِ مِنَ اللهِ، وَنَيْلِ رِضْوَانِهِ.. وَهَذِهِ كُلُّها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ جَزَاءً وَعَاقِبَةً مِمَّا مُتِّعَ بِهِ أُوْلَئِكَ الكَافِرُونَ مِنَ النَّعَمِ الفَانِيَةِ، الَّتِي يَفْخَرُ بِهَا هَؤُلاَءِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَجَاهٍ.... إِلَخ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - وَتَسْبِيحُ اللهِ وَذِكْرُهُ - " سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ "). (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ).
َخَيْرٌ مَّرَدّاً - خَيْرٌ مَرْجِعاً وَعَاقِبَةً.
﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ ﴿بِآيَاتِنَا﴾
(٧٧) - كَانَ لِخَبَابِ بْنِ الأَرْتِ دَيْنٌ عِنْدَ العَاصِ بِنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ فَأَتَاهُ يَطْلُبُ مِنْهُ دَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُ العَاصِ: وَاللهِ لاَ أَدْفَعُ إِلَيْكَ دَيْنَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقَالَ لَهُ خَبَابُ: لاَ وَاللهَ لاَ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. فَقَالَ لَهُ العَاصِ: فَإِنَّي إِنْ مِتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِيَ مَالُ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ. وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: انظُرْ إِلَى هَذَا الكَافِرِ، وَاعْجَبْ مِنْ مَقَالَتِهِ، وَجُرْأَتِهِ عَلَى اللهِ، إِذْ قَالَ سَأُعْطَي فِي الآخِرَةِ مَالاً وَوَلَداً.
أَفَرَأَيْتَ - أَخْبِرْنِي.
(٧٨) - وَهَذا الكَافِرِ الَّذِي يَقُولُ أَنَّهُ سَيُؤْتَى فِي الآخِرَةِ المَالَ وَالوَلَدَ، هَلِ اطَّلَعَ عَلَى الغَيْبِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، أَمْ أَنَّ لَهُ عَهْداً عِنْدَ اللهِ عَلَى أَنَّهُ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفُ عَهْدَهُ أَبَداً؟
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ - أَعَلِمَ الغَيْبَ.
(٧٩) - كَلاَّ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ (وَكَلاَّ حَرْفُ رَدْعٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا)، وَسَيَكْتُبُ اللهُ مَا قَالَهُ هَذا المُشْرِكُ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ، كَمَا أَثْبَتَ فِيهَا شِرْكَهُ وَكُفْرَهُ بِاللهِ، وَسَيَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ فِي الآخِرَةِ مَدّاً، وَيَزِيدُهُ مِنْهُ لِتَقَوُّلِهِ الكَذِبَ وَالْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا، زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِ اللهِ.
نَمُدُّ لَهُ - نُطَوِّلُ لَهُ أَوْ نَزِيدُهُ.
(٨٠) - وَيَقُولُ هَذا المُشْرِكُ: إِنَّهُ سَيُؤْتَى فِي الآخِرَةِ مَالاً وَوَلَداً، زِيَادَةً عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ فِي الدُّنْيَا. وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُ سَيَمُوتُ وَسَيَتْرُكُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ فِي الدُّنْيَا. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي رَبَّهُ فَرْداً وَحِيداً لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ وَلَدَ، وَلاَ نَاصِرَ. وَبِمَا أَنَّ جَمِيعَ الخَلاَئِقِ سَتَهْلِكُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا تَبْقَى وَكَأَنَّهَا المِيرَاثُ الآيِلُ إِلَى اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ وَارِثُهُمْ جَمِيعاً، وَمِمَّا يَرِثُهُ تَعَالَى مَالُ هَذَالكَافِرِ.
﴿آلِهَةً﴾
(٨١) - وَاتَّخَذَ المُشْرِكُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ لِتَكُونَ لَهُمْ عِزّاً يَعْتَزُّونَ بِهَا، وَيَسْتَنْصِرُونَها، وَيَجْعَلُونَهَا شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
عِزّاً - أَنْصَاراً وَشُفَعَاءَ يَتَعَزَّزُونَ بِهِمْ.
(٨٢) - وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا ظَنَّوُا بِأَنَّ الآلِهَةَ التِي عَبَدُوهَا سَتَنْصُرُهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَسَتُكُونُ لَهُمْ عِزّاً، فَهَذِهِ الآلِهَةُ سَتَكْفُرُ بِعِبَادَةِ هؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ لَهَا - أَوْ سَيَكْفُرُ المُشْرِكُونَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الأَصْنَامِ، وَسَيَكُونُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّاً يَوْمَ القِيَامَةِ.
﴿الشياطين﴾ ﴿الكافرين﴾
(٨٣) - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ وَالمُشْرِكِينَ، لِيَغْوُوهُمْ، وَيُغْرُوهُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي، وَيَهِيجُوهُمْ لِلْوُقُوعِ فِيهَا؟
تَؤُزُّهُمْ - تُغْرِيهِمْ بِالمَعَاصِي إِغْرَاءً.
(٨٤) - وَلاَ تَسْتَعْجِلْ يَا مُحَمَّدُ إِهْلاَكَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ، وَاسْتِئْصَالِهِمْ بِعَذَابِ اللهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلاَّ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٍ، وَاللهُ تَعَالَى يُحْصِي عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَأَنْفَاسَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ فِي الحَيَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى المَوْتِ ثُمَّ إِلَى عَذَابِ اللهِ.
(٨٥) - وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَحْشُرُ اللهُ تَعَالَى المُتَّقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ رَبِّهِمْ، إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، كَمَا يُكْرَمُ الوُفُودُ القَادِمُونَ عَلَى أَبْوَابِ المُلُوكِ.
الوَفْدُ - القَادِمُونَ رَاكِبِينَ.
(٨٦) - أَمَّا المُجْرِمُونَ الكَافِرُونَ بِاللهِ، المُكَذِّبُونَ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ بِالعُنْفِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَهُمْ عِطَاشٌ لِيَرِدُوهَا.
وِرْداً - عِطَاشاً أَوْ كَالْدَّوَابِّ التِي تَرِدُ المَاءَ.
﴿الشفاعة﴾
(٨٧) - لاَ يَمْلِكُ العِبَادُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عَهْداً عِنْدَ اللهِ، بِأَنْ أَعَدَّ لَهَا عُدَّتَهَا، فَكَانَ فِي الدُّنْيَا مُصْلِحاً وَهَادِياً، فَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ شَافِعاً وَمُشفَّعاً. وَالشَفَاعَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ لَلأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: العَهْدُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنْ يَبْرَأَ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وَلاَ يَرْجُو إِلاَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
(٨٨) - لَمَّا قَرَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّوْرَةِ عُبُودِيَّةِ عِيسَى للهِ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِدُونِ أَبٍ، شَرَعَ فِي اسْتِنْكَارِ أَقْوَالِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ للهِ وَلَداً، فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَوْ مِنَ النَّاسِ.
(٨٩) - ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: لَقَدْ جِئْتُمْ، بِقَوْلِكُمْ هَذا، شَيْئاً مُنْكَراً عَظِيماً يَدُلُّ عَلَى الجُرْأَةِ المُتَنَاهِيَةِ.
شَيْئاً إِدّاً - مُنْكَراً فَظِيعاً.
﴿السماوات﴾
(٩٠) - وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الفَاجِرَ، الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلاَءِ، سَمِعَتْهُ السَّمَاوَاتُ لاَنْشَقَّتْ وَتَفَطَّرَتْ مِنْهُ، وَلَوْ أَنَّ الأَرْضَ سَمِعَتْهُ لَتَشَقَّقَتْ، وَلَوْ أَنَّ الْجِبَالَ سَمِعَتْهُ لانْهَدَّتْ، وَتَهَدَّمَتْ، إِعْظَاماً لِلرَّبِّ وَإِجْلاَلاً، فَكُلُّ شَيْءٍ فِي الوُجُودِ يَعْرِفُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ - يَتَشَقَّقْنَ وَيَتَفَتَّتْنَ مِنْ شَنَاعَتِهِ.
تَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً - تَسْقُطُ مَهْدُودَةً عَلَيْهِمْ.
(٩١) - وَتَكَادُ الجِبَالُ تَنْهَدُّ، وَالأَرْضُ تَنْشَقُّ، وَالسَّمَاءُ تَنْفَطِرُ بِسَبَبِ مَا نَسَبَهُ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ اتِّخَاذِ الوَلَدِ.
(٩٢) - وَلاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ فِي العَقْلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لأَنَّ إِثْبَاتَ الوَلَدِ لَهُ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَحَاجَتَهُ. تَنَزَّهَ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى.
﴿السماوات﴾ ﴿آتِي﴾
(٩٣) - لأَنَّ جَمِيعَ الخَلاَئِقِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ هُمْ عَبِيدٌ للهِ وَلأَنَّهُ لاَ كِفَاءَ لَهُ، وَلاَ مِثَالَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ.
﴿أَحْصَاهُمْ﴾
(٩٤) - وَلَقْدَ أَحْصَى اللهُ تَعَالَى عَدَدَ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، مُنْذُ بِدْءِ الخَلِيقَةِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَعَرَفَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ، وَصِغَارَهُمْ وَكِبَارَهُمْ، وَأَحْصَى أَعْمَالَهُمْ وَأَنْفَاسَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، وَهُمْ جَمِيعاً تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ.
﴿آتِيهِ﴾ ﴿القيامة﴾
(٩٥) - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الخَلاَئِقِ سَيَأْتِي اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَحْدَهُ، لاَ نَاصِرَ وَلاَ مُجِيرَ لَهُ، فَيَحْكُمُ اللهُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ العَادِلُ الَّذِي لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾
(٩٦) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُلْقِي مَحَبَّةَ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ.
وَفِي الحَدِيثِ: " إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّيِ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَناً، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ المَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الأَرْضِ " (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
وُدّاً - مَحَبَّةً وَوُدّاً فِي القُلُوبِ.
﴿يَسَّرْنَاهُ﴾
(٩٧) - وَإِنَّمَا أَنْزَلْنَا القُرْآنَ بِلِسَانِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْلِسَانُ العَرَبِيُّ، لِتَسْتَطِيعَ قِرَاءَتَهُ عَلَى النَّاسِ، وَإِبْلاَغَهُ إِلَيْهِمْ، فَتُبَشِّرَ بِهِ المُسْتَجِيبِينَ لِرَبِّهِمْ، وَالمُصَدِّقِينَ رُسُلَهُ، وَلِتُنْذِرَ بِهِ الفُجَّارَ الشَّدِيدِي الخُصُومَةِ وَالجَدَلِ.
لُّدّاً - شَدِيدِي الخُصُومَةِ.
(٩٨) - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أُمَمٍ وَأَجْيَالٍ (قَرْنٍ) كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ. وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَبَادُوا وَانْقَرَضُوا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ بَاقَةٌ. فَهَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَداً، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ صَوْتاً؟
هَلْ تُحِسُّ - هَلْ تَرَى أَوْ تَعْلَمُ.
الرِكْز لُغَةً - الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
سورة مريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

أشارت فاتحةُ سورةِ (مَرْيَمَ) إلى عظمةِ هذا الكتاب، ونبَّهتْ بعد ذلك على مِحوَرِ السُّورةِ؛ وهو رحمةُ الله عزَّ وجلَّ بأنبيائه؛ فقد بدأت بذِكْرِ رحمة الله عز وجل بزكريَّا ويحيى عليهما السلام، ثم رحمتِه تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام، ثم رحمتِهِ تعالى بإبراهيمَ عليه السلام، ثم رحمتِه تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام، ثمَّ رحمتِه تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام، وجُلُّ رحمةِ الله بعباده المؤمنين ستكون يومَ القيامة عندما يُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوْا من النَّار، ويذَرُ الظالمين فيها جِثِيًّا.

ترتيبها المصحفي
19
نوعها
مكية
ألفاظها
972
ترتيب نزولها
44
العد المدني الأول
98
العد المدني الأخير
99
العد البصري
98
العد الكوفي
98
العد الشامي
98

 * قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لجِبْريلَ: «ألَا تَزُورُنا أكثَرَ ممَّا تَزُورُنا؟»، قال: فنزَلتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الآيةَ. أخرجه البخاري (٣٢١٨).

* قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا} [مريم: 77]:

عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه، قال: «كنتُ رجُلًا قَيْنًا، وكان لي على العاصِ بنِ وائلٍ دَيْنٌ، فأتَيْتُه أتقاضاه، فقال لي: لا أَقضِيك حتى تكفُرَ بمُحمَّدٍ، قال: قلتُ: لن أكفُرَ به حتى تموتَ، ثم تُبعَثَ، قال: وإنِّي لمبعوثٌ مِن بعدِ الموتِ؟! فسوف أَقضِيك إذا رجَعْتُ إلى مالٍ وولَدٍ، قال: فنزَلتْ: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا ٧٧ أَطَّلَعَ اْلْغَيْبَ أَمِ اْتَّخَذَ عِندَ اْلرَّحْمَٰنِ عَهْدٗا ٧٨ كَلَّاۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ اْلْعَذَابِ مَدّٗا ٧٩ وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدٗا} [مريم: 77-80]». أخرجه البخاري (٤٧٣٥).

* سورة (مَرْيَمَ):

وجهُ تسميةِ سورة (مَرْيَمَ) بهذا الاسم: أنَّها بُسِطتْ فيها قصةُ (مَرْيَمَ)، وابنِها، وأهلِها.

* جاء في فضلِ سورة (مَرْيَمَ): أنها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي»: يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).


اشتملت سورةُ (مَرْيَمَ) على الموضوعات الآتية:

1. رحمته تعالى بزكريا ويحيى عليهما السلام (١-١٥).

2. رحمته تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام (١٦- ٤٠).

3. رحمته تعالى بإبراهيمَ عليه السلام (٤١ -٥٠).

4. رحمته تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام (٥١ -٥٣).

5. رحمته تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام (٥٤-٥٨).

6. طريق النجاة (٥٩-٦٥).

7. جَوْلات مع شُبَه الكافرين وأباطيلهم (٦٦-٩٥).

8. محبته تعالى لأوليائه، مهمة القرآن (٩٦-٩٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /414).

مقصدُ السورةِ الأعظَمُ هو بيانُ اتِّصافه سبحانه بشمول الرحمة؛ بإضافةِ جميع النِّعَم على جميع خَلْقه، المستلزِم للدَّلالة على اتصافِه بجميع صفات الكمال، المستلزِم لشمول القدرة على إبداعِ المستغرَب، المستلزِم لتمام العلم، المُوجِب للقدرة على البعث، والتنزُّه عن الولد؛ لأنه لا يكون إلا لمحتاجٍ، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سَمِيَّ له سبحانه، فضلًا عن مثيلٍ له سبحانه وتعالى.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /256).