تفسير سورة الفرقان

نيل المرام تفسير آيات الأحكام

تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام.
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة الفرقان وهي سبع وسبعون آية
هي مكية، في قول الجمهور «١».
قال القرطبي «٢» : قال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآيات.
[الآية الأولى]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨).
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) : أي يتطهر به، كما يقول: وضوء للماء الذي يتوضى به.
قال الأزهري: الطهور في اللغة: الطاهر المطهر.
قال ابن الأنباري: الطهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوصف، وبالضم المصدر، هذا هو المعروف في اللغة.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة.
وروي عن أبي حنيفة أنه قال: الطهور هو الطاهر، واستدل لذلك بقوله تعالى:
وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) [الإنسان: ٢١] يعني طاهرا، ومنه قول الشاعر:
(١) قال في «البحر» (٦/ ٤٨٠) :«هذه السورة مكية في قول الجمهور، وقال ابن عباس: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠).
(٢) انظره في تفسيره (١٣/ ١).
خليلي هل في نظرة بعد توبة [أداوي] «١» بها قلبي عليّ فجور
إلى رجّح الأكفال غيد من الظّبا عذاب الثنايا ريقهنّ طهور
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. ورجح القول الأول ثعلب وهو راجح لما تقدم من حكاية الأزهري لذلك عن أهل اللغة «٢».
وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور فإنه على طريق المبالغة.
وعلى كل حال فقد ورد الشرع بأن الماء في [نفسه] «٣» طاهر ومطهر لغيره «٤».
قال الله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: ١١].
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «خلق الماء طهورا» «٥».
[الآية الثانية]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤).
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ: البيتوتة: هي أن يدركك الليل نمت أم لم تنم.
قال الزجاج: من أدركه الليل فقد بات نام أو لم ينم كما يقال: بات فلان قلقا.
والمعنى يبيتون.
لِرَبِّهِمْ سُجَّداً: على وجوههم.
وَقِياماً (٦٤) : على أقدامهم، ومنه قول امرئ القيس «٦» :
فبتنا قياما عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله
(١) حرّف في المطبوع إلى (أوادي) وهو خطأ والتصويب من فتح القدير (٤/ ٨٠).
(٢) وانظر: تهذيب اللغة (طهر)، نيل الأوطار (١/ ١٤).
(٣) ما بين [] بياض في «المطبوعة» واستدرك من فتح القدير (٤/ ٨٠).
(٤) انظر: الروضة الندية للمصنف (١/ ٤)، ونيل الأوطار للشوكاني (١/ ٧، ١٦)، القرطبي (١٣/ ٥٥).
(٥) الذي وقفنا عليه هو حديث «إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا..» رواه أبو داود (٦٦)، والترمذي (٦٧)، والنسائي (١/ ١٧٤)، وابن أبي شيبة (١/ ١١٦، ١٦٧)، وأحمد في «المسند» (٣/ ٣١) عن أبي سعيد مرفوعا. وحسّنه الترمذي وصححه البغوي وانظر: التلخيص (١/ ١٣).
(٦) نسبه القرطبي لزهير بن أبي سلمى (١٣/ ٧١)، وهو في «ديوانه» (ص ١٣٢).
والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل كله أو أكثره.
[الآية الثالثة]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧).
وَالَّذِينَ [إِذا] «١» أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا: من قتر يقتر، أو أقتر يقتر. ومعنى الجميع التضييق في الإنفاق.
قال النحاس: أحسن ما قيل في معنى الآية: أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام «٢».
وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجوع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.
وقال يزيد بن حبيب: أولئك أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال، ولكن كانوا فريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد «٣».
وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا، كقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: ٢٩].
وَكانَ: أي إنفاقهم.
بَيْنَ ذلِكَ: الإفراط أو التفريط.
قَواماً (٦٧) بكسر القاف: ما يدوم عليه الشيء ويستقر وبالفتح العدل والاستقامة، قاله ثعلب.
وقيل: بالفتح العدل بين الشيئين، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا
(١) ما بين [المعقوفين] سقط من المطبوعة.
(٢) انظر كلام النحاس في «معاني القرآن» له (٥/ ٤٨، ٤٩). [.....]
(٣) انظر: الطبري (١٩/ ٢٦)، وزاد المسير (٦/ ١٠٥)، وابن قتيبة (٣١٥)، والنكت (٣/ ١٦٥)، والبحر المحيط (٦/ ٥١٥)، ومجاز أبي عبيدة (٢/ ٨١)، والقرطبي (١٣/ ٧٦)، الدر المنثور (٥/ ٧٧).
ينقص. وقيل: بالكسر السداد والمبلغ «١».
[الآية الرابعة]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤).
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أي قدوة يقتدى بنا في الخير.
وإنما قال إماما ولم يقل أئمة لأنه أريد به الجنس كقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: ٥]، وقيل: إنه من الكلام المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إماما، وبه قال مجاهد. وقيل: إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد وإن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماما، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز.
وقال الأخفش: الإمام جمع آمّ من أمّ يؤم جمع على فعال كصاحب وصحاب وقائم وقيام وقيل: إنه مصدر كالقيام والصيام. وقيل غير ذلك.
قال النيسابوري: قيل: في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن يطلب ويرغب فيها، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي به يشار إليه ويقتدى بهم «٢».
(١) القوام في اللغة: الوسط والعدل، قال القرطبي: وهذا أدب الشرع ألا يفرط الإنسان حتى يضيّع حقا أو عيالا، وألا يضيّق ويقتر حتى يجيع العيال، ويفرط في الشح. اه- (١٣/ ٧٣)، وانظر:
الطبري (١٩/ ٣٧)، ابن كثير (٦/ ١٣٤)، ومعاني الفراء (٢/ ٢٧٣)، الدر المنثور (٥/ ٧٧).
(٢) انظر: الطبري (١٩/ ٥٣)، الدر المنثور (٥/ ٨١).
سورة الفرقان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفُرْقان) من السُّوَر المكِّية التي تحدَّثتْ عن معجزةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وما أيَّده اللهُ به؛ وهو هذا القرآنُ الكريم، ودلَّلت السورة على أن هذا الكتابَ جاء فُرْقانًا بين الحق والباطل؛ فلم يترُكْ خيرًا إلا دلَّ عليه، ولم يترُكْ شرًّا إلا حذَّر منه، وقد جاءت هذه السورة بشُبهاتِ الكفار والمعانِدين، ورَدَّتْها بما يؤيد صِدْقَ رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أقامت الحُجَّةَ على كلِّ مَن ترك الحقَّ ومال إلى الباطل؛ لأن اللهَ أوضَحَ طريقَ الحق، وأبانه أيَّما بيانٍ؛ فللهِ الحُجَّةُ البالغة!

ترتيبها المصحفي
25
نوعها
مكية
ألفاظها
897
ترتيب نزولها
42
العد المدني الأول
77
العد المدني الأخير
77
العد البصري
77
العد الكوفي
77
العد الشامي
77

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «سألتُ أو سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الذَّنْبِ عند اللهِ أكبَرُ؟ قال: «أن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم أن تقتُلَ ولَدَك خشيةَ أن يَطعَمَ معك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: أن تُزَانِيَ بحَلِيلةِ جارِك»، قال: ونزَلتْ هذه الآيةُ تصديقًا لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]». أخرجه البخاري (٤٧٦١).

وفيها سببٌ آخَرُ:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّرْكِ كانوا قد قتَلوا وأكثَروا، وزَنَوْا وأكثَروا، فأتَوْا مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّ الذي تقولُ وتدعو إليه لَحسَنٌ، لو تُخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كفَّارةً؛ فنزَلَ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]، ونزَلتْ: {قُلْ ‌يَٰعِبَادِيَ ‌اْلَّذِينَ ‌أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ} [الزمر: 53]». أخرجه البخاري (٤٨١٠).

* قوله تعالى: {إِلَّا ‌مَن ‌تَابَ ‌وَءَامَنَ ‌وَعَمِلَ ‌عَمَلٗا ‌صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ اْللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ اْللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قال ابنُ أَبْزَى: سَلِ ابنَ عباسٍ عن قولِه تعالى: {وَمَن ‌يَقْتُلْ مُؤْمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا} [النساء: 93]، وقولِه: {وَلَا ‌يَقْتُلُونَ ‌اْلنَّفْسَ ‌اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ} [الفرقان: 68] حتى بلَغَ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ} [الفرقان: 70]،  فسألْتُه، فقال: لمَّا نزَلتْ، قال أهلُ مكَّةَ: فقد عدَلْنا باللهِ، وقد قتَلْنا النَّفْسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ، وأتَيْنا الفواحشَ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا} إلى قولِه: {غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]». أخرجه البخاري (٤٧٦٥).

* سورة (الفُرْقان):

سُمِّيت سورةُ (الفُرْقان) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (الفُرْقان) في افتتاحها، وهو اسمٌ من أسماء القرآن الكريم.

تضمَّنتْ سورةُ (الفُرْقان) عِدَّة موضوعات؛ جاءت على النحو الآتي:

1. صفات الإلهِ الحقِّ، وعَجْزُ الآلهة المزيَّفة (١-٣).

2. شُبهاتهم حول القرآن، وردُّها (٤-٦).

3. شُبهاتهم حول الرسول، وردُّها (٧-١٠).

4. الدوافع الحقيقية وراء تكذيبهم (١١-١٩).

5. سُنَّة الله في اختيار المرسَلين، وعادة المكذِّبين (٢٠-٢٩).

6. شكوى الرسول من قومه، وتَسْليتُه (٣٠-٤٠).

7. الاستهزاء والسُّخْريَّة سلاح العاجز (٤١-٤٤).

8. الحقائق الكونية في القرآن من دلائل النُّبوة (٤٥-٥٥).

9. مهمة الرسول ونهجُه في دعوة المعانِدين (٥٦-٦٢).

10. ثمرات الرسالة الربانية (٦٣-٧٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /270).

مقصدُ السُّورة الأعظم: إظهارُ شَرَفِ الداعي صلى الله عليه وسلم؛ بإنذارِ المكلَّفين عامةً بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التامِّ، المدلول عليه بهذا القرآنِ المبين، المستلزم لأنه لا موجودَ على الحقيقة سِوى مَن أنزله؛ فهو الحقُّ، وما سِواه باطلٌ.

وتسميتُها بـ(الفُرْقان) واضحُ الدَّلالة على ذلك؛ فإن الكتابَ ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبِسات، وتمييزِ الحقِّ من الباطل؛ ليَهلِكَ مَن هلَك عن بيِّنة، ويَحيَى مَن حَيَّ عن بيِّنة؛ فلا يكون لأحدٍ على الله حُجَّةٌ، وللهِ الحُجَّة البالغة!

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /317).