تفسير سورة الفرقان

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ [ الفرقان : ١ ]. " تبارك " هذه كلمة لا تُستعمل إلا لله بلفظ الماضي، وذُكرت في هذه السورة في ثلاثة( ١ ) مواضع، تعظيما لله تعالى.
وخُصّت مواضُعها بذكرها، لعظم ما بعدها.
الأول : ذكر الفرقان وهو القرآن، المشتمل على معاني جميع كتب الله.
والثاني : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطبة الله له فيه، وروي( ٢ ) :«لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات ».
والثالث : ذكر البروج، والشمس، والقمر، والليل والنهار، ولولاها لما وُجد في الأرض حيوان، ولا نبات.
١ - المواضع الثلاثة في هذه السورة وهي: الأول عند ذكر الفرقان ﴿تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده﴾. والثاني عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ﴿تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك﴾ والثالث عند ذكر البروج ﴿تبارك الذي جعل في السماء بروجا﴾ ومثل هذه الآيات، قوله تعالى﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ ﴿تبارك الله رب العالمين﴾ ﴿تبارك الذي بيده الملك﴾..
٢ - أي في الأثر، وقد ذكره في "كشف الخفاء" بلفظ «لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك» قال الصَّغاني: موضوع، وكذلك قال الشوكاني. قال العجلوني بعد ذكره الأثر: وأقول: لكن معناه صحيح وإن لم يكن حديثا..
قوله تعالى :﴿ وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا ﴾ [ الفرقان : ٢ ].
إن قلتَ : الخلق هو التقدير، ومنه قوله تعالى :﴿ وإذ خلق من الطين ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] فكيف جمع بينهما ؟
قلتُ : الخلق من الله هو الإيجاد، فصحّ الجمع بينه وبين التقدير، ولو سُلِّم أنه التقدير، فساغ الجمع بينهما لاختلافهما لفظا، كما في قوله تعالى :﴿ أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ].
قوله تعالى :﴿ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يُخلقون... ﴾ [ الفرقان : ٣ ].
قاله هنا بالضمير " من دونه " وقاله في مريم( ١ )، ويس( ٢ ) بلفظ " الله " موافقة لما قبله في المواضيع الثلاثة.
قوله تعالى :﴿ ولا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا... ﴾ [ الفرقان : ٣ ]. قدّم الضرّ على النفع لمناسبة ما بعده، من تقديم الموت على الحياة.
١ - في مريم: ﴿واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا﴾ آية (٨١)..
٢ - في يس: ﴿واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون﴾ آية (٧٤)..
قوله تعالى :﴿ أم جنّة الخلد التي وُعد المتّقون كانت لهم جزاء ومصيرا ﴾ [ الفرقان : ١٥ ].
إن قلتَ : كيف قال في وصف الجنة ذلك، مع أنها لم تكن حينئذ جزاء ومصيرا ؟
قلتُ : إنما قال ذلك، لأن ما وعد الله به، فهو في تحقّقه كأنه قد كان، أو أنه كان في اللوح المحفوظ، أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم.
قوله تعالى :﴿ أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ﴾ [ الفرقان : ٤٣ ].
إن قلتَ : لم أخّر ﴿ هواه ﴾ مع أنه المفعول الأول ؟
قلتُ : للعناية بتقديم الأول( ١ )، كقوله : علمتُ فاضلا زيدا.
١ - قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجرا، فإذا رأى حجرا أحسن منه، رماه وأخذ الثاني فعبده..
قوله تعالى :﴿ لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ﴾ [ الفرقان : ٤٩ ]. ذكّر الصفة مع أن الموصوف مؤنّث، نظرا إلى معنى البلدة وهو المكان، لا إلى لفظها، والسرّ فيه تخفيف اللفظ.
وقدّم في الآية إحياء الأرض، وسقي الأنعام، على سقي الأناسي( ١ )، لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدّم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم، ولأن سقي الأرض بماء المطر، سابق في الوجود على سقي الأناسي.
١ - معنى الأناسي: الناس، جمع إنسي مثل كراسي وكرسي، قال الفراء: الإنسي والأناسي اسم للبشر، وأصله إنسان..
قوله تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم.... ﴾ [ الفرقان : ٥٥ ] الآية، قدّم النفع على الضّرّ، موافقة لقوله قبل :﴿ هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ﴾ [ الفرقان : ٥٣ ].
قوله تعالى :﴿ قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا ﴾ [ الفرقان : ٥٧ ]، أي ما أسألكم على إبلاغ ما أنزل عليّ من أجر ﴿ إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه ﴾ أي إلى ثوابه ﴿ سبيلا ﴾ أي فأنا أدلّه على ذلك، فهو استثناء منقطع.
وأما الاستثناء في قوله تعالى :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] فمنسوخ بقوله تعالى :﴿ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن إجري إلا على الله ﴾ [ سبأ : ٤٧ ] على ما روى ابن عباس رضي الله عنهما.
أو هو استثناء منقطع، كما عليه المحقّقون، تقديره : لكني أذكّركم المودة في القربى.
قوله تعالى :﴿ والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّياتنا قرة أعين واجعلنا للمتّقين إماما ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ]، لم يقل " أئمة " رعاية للفواصل، أو تقديره : واجعل كلّ واحد منا إماما.
قوله تعالى :﴿ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويُلقّوْن فيها تحية وسلاما ﴾ [ الفرقان : ٧٥ ]، جمع بين التحية والسلام، مع أنهما بمعنى، لقوله تعالى :﴿ تحيّتهم يوم يلقونه سلام ﴾ [ الأحزاب : ٤٤ ] ولخبر " تحية أهل الجنة في الجنة السلام " لأن المراد هنا بالتحية : سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، وبالسّلام سلام الله عليهم، لقوله تعالى :﴿ سلام قولا من رب رحيم ﴾ [ يس : ٥٨ ].
أو المراد بالتحية إكرام الله لهم بالهدايا والتّحف، وبالسلام سلامه عليهم بالقول، ولو سُلِّم أنهما بمعنى، فساغ الجمع بينهما، لاختلافهما لفظا كما مرّ نظيره.
سورة الفرقان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفُرْقان) من السُّوَر المكِّية التي تحدَّثتْ عن معجزةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وما أيَّده اللهُ به؛ وهو هذا القرآنُ الكريم، ودلَّلت السورة على أن هذا الكتابَ جاء فُرْقانًا بين الحق والباطل؛ فلم يترُكْ خيرًا إلا دلَّ عليه، ولم يترُكْ شرًّا إلا حذَّر منه، وقد جاءت هذه السورة بشُبهاتِ الكفار والمعانِدين، ورَدَّتْها بما يؤيد صِدْقَ رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أقامت الحُجَّةَ على كلِّ مَن ترك الحقَّ ومال إلى الباطل؛ لأن اللهَ أوضَحَ طريقَ الحق، وأبانه أيَّما بيانٍ؛ فللهِ الحُجَّةُ البالغة!

ترتيبها المصحفي
25
نوعها
مكية
ألفاظها
897
ترتيب نزولها
42
العد المدني الأول
77
العد المدني الأخير
77
العد البصري
77
العد الكوفي
77
العد الشامي
77

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «سألتُ أو سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الذَّنْبِ عند اللهِ أكبَرُ؟ قال: «أن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم أن تقتُلَ ولَدَك خشيةَ أن يَطعَمَ معك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: أن تُزَانِيَ بحَلِيلةِ جارِك»، قال: ونزَلتْ هذه الآيةُ تصديقًا لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]». أخرجه البخاري (٤٧٦١).

وفيها سببٌ آخَرُ:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّرْكِ كانوا قد قتَلوا وأكثَروا، وزَنَوْا وأكثَروا، فأتَوْا مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّ الذي تقولُ وتدعو إليه لَحسَنٌ، لو تُخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كفَّارةً؛ فنزَلَ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]، ونزَلتْ: {قُلْ ‌يَٰعِبَادِيَ ‌اْلَّذِينَ ‌أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ} [الزمر: 53]». أخرجه البخاري (٤٨١٠).

* قوله تعالى: {إِلَّا ‌مَن ‌تَابَ ‌وَءَامَنَ ‌وَعَمِلَ ‌عَمَلٗا ‌صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ اْللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ اْللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قال ابنُ أَبْزَى: سَلِ ابنَ عباسٍ عن قولِه تعالى: {وَمَن ‌يَقْتُلْ مُؤْمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا} [النساء: 93]، وقولِه: {وَلَا ‌يَقْتُلُونَ ‌اْلنَّفْسَ ‌اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ} [الفرقان: 68] حتى بلَغَ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ} [الفرقان: 70]،  فسألْتُه، فقال: لمَّا نزَلتْ، قال أهلُ مكَّةَ: فقد عدَلْنا باللهِ، وقد قتَلْنا النَّفْسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ، وأتَيْنا الفواحشَ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا} إلى قولِه: {غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]». أخرجه البخاري (٤٧٦٥).

* سورة (الفُرْقان):

سُمِّيت سورةُ (الفُرْقان) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (الفُرْقان) في افتتاحها، وهو اسمٌ من أسماء القرآن الكريم.

تضمَّنتْ سورةُ (الفُرْقان) عِدَّة موضوعات؛ جاءت على النحو الآتي:

1. صفات الإلهِ الحقِّ، وعَجْزُ الآلهة المزيَّفة (١-٣).

2. شُبهاتهم حول القرآن، وردُّها (٤-٦).

3. شُبهاتهم حول الرسول، وردُّها (٧-١٠).

4. الدوافع الحقيقية وراء تكذيبهم (١١-١٩).

5. سُنَّة الله في اختيار المرسَلين، وعادة المكذِّبين (٢٠-٢٩).

6. شكوى الرسول من قومه، وتَسْليتُه (٣٠-٤٠).

7. الاستهزاء والسُّخْريَّة سلاح العاجز (٤١-٤٤).

8. الحقائق الكونية في القرآن من دلائل النُّبوة (٤٥-٥٥).

9. مهمة الرسول ونهجُه في دعوة المعانِدين (٥٦-٦٢).

10. ثمرات الرسالة الربانية (٦٣-٧٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /270).

مقصدُ السُّورة الأعظم: إظهارُ شَرَفِ الداعي صلى الله عليه وسلم؛ بإنذارِ المكلَّفين عامةً بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التامِّ، المدلول عليه بهذا القرآنِ المبين، المستلزم لأنه لا موجودَ على الحقيقة سِوى مَن أنزله؛ فهو الحقُّ، وما سِواه باطلٌ.

وتسميتُها بـ(الفُرْقان) واضحُ الدَّلالة على ذلك؛ فإن الكتابَ ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبِسات، وتمييزِ الحقِّ من الباطل؛ ليَهلِكَ مَن هلَك عن بيِّنة، ويَحيَى مَن حَيَّ عن بيِّنة؛ فلا يكون لأحدٍ على الله حُجَّةٌ، وللهِ الحُجَّة البالغة!

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /317).